حازم
04-18-2005, 02:28 PM
بقلم : د.عبد الحي يوسف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله واستجابة لداعي الهوى في نفوسهم التي جبلت على الإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وفي القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كقولهم: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، وقولهم: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وقولهم: (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر)، وقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وجماع ذلك قول الله في القرآن: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ وقوله - سبحانه -: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وأنهم يرومون الخير للناس: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
وهاهنا نعرض لبعض هاتيك الشبهات التي يروِّج لها الداعون إلى علمانية العاصمة القومية:
[1] قولهم: إن في العاصمة ناساً يدينون بغير الإسلام وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم:
والجواب: أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم، ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم؟ فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من أن تطبق دينها؟ وهل عهد في تاريخ الإسلام كله إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام؟
يقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون ـ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ـ أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسراً فعاملوا ـ كما رأينا ـ أهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم نظمهم وقوانينهم ومعتقداتهم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حمايةٍ من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة))، بل إن الثابت ـ واقعاً وتاريخاً ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنة وكوسوفا عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه.
ثم ماذا يضير النصارى أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الاستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب كحركة التمرد ـ على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، لكن العجب العاجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
[2] قولهم: إن تطبيق الأحكام الشرعية يحرم العاصمة من مجيء السائحين، وترك الأحكام الشرعية يجعلها عاصمة جاذبة:
والجواب: أن العقلاء وأهل المروءة متفقون على أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، وقد قال العرب الأوّلون: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". ثم من الذي يقول: إن العاصمة لا تكون جاذبة إلا إذا أبيح فيها الحرام؟ لو أنصفوا لقالوا: إن الواجب علينا أن نرعى الأخلاق، ونحفظ حدود الله من أن تضيّع فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام؛ حتى يأتي إلينا السائحون الملتزمون وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولو أنصفوا لقالوا: إن الواجب أن تتضافر الجهود لترقية الخدمات وتأمين الماء والكهرباء، وتعبيد الطرق وتوسعة المطارات وتجميل المسارات وإنارة الشوارع حتى تكون الخرطوم عاصمة جاذبة، بدلاً من الدعوة إلى العلمانية المنكرة التي تبيح ما حرم الله فنكون ممن لم يحفظ ديناً ولم يصلح دنيا، (وشر الناس من خسر الدنيا والآخرة)، ونذكّر أنفسنا وهؤلاء بقول الله - عز وجل -: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يحملنكم طلب الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله))، ومن التاريخ القريب يعلم المنصفون أن الخرطوم كانت يوماً ما ـ بوجهها الشائه وخدماتها المتردية ـ عاصمة الموبقات المهلكات فهل جذب ذلك السائحين إليها؟ أو فتح أبواب الرزق عليها؟ اللهم لا هذا ولا ذاك. لكن..
يقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ثم ألا يعتبر هؤلاء بحال أمم سارت في ذات الدرب فلم تحصد إلا المرّ والعلقم، فلا أزماتها الاقتصادية حلّت، ولا وحدتها الوطنية حققت، ولا مشاكلها الأمنية زالت، بل زادت، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
[3] قولهم: إن الاستمساك بهذا الأمر ـــ أي تطبيق الشريعة في العاصمة ـــ يفوّت فرصة تحقيق السلام الذي بات وشيكاً بزعمهم:
والجواب: أن أهل الإسلام مجمعون على أن حفظ الدين مقدّم على حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول؛ وعليه فلو كان السلام في مقابل التنازل عن أحكام الله - عز وجل - فنقول: لا حيّاه الله ولا سقاه ولا مرحباً به ولا أهلاً، وحسبنا أن نذكّر أنفسنا؛ لتكف عن طاعة المبطلين، بتلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب والشرق لتكون كلمة الله هي العليا، فهل كان ذلك ليأتي آتٍ بعد زمان قريب ليقول: لا بأس بالتنازل عن الشريعة في العاصمة من أجل تحقيق السلام، ولو أن امرءاً رضي لنفسه أن يتنازل عن دينه لينال سلاماً متوهماً؛ فلن يبالي بعد ذلك بالتنازل عن عرضه، ومن تتبع تاريخ المتمردين وزعيمهم في نقض العهود ازداد يقيناً بقول الله في القرآن: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، وبقوله - سبحانه -: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)، ومن أعطى الدنية في دينه فرضي بتغييب الشريعة في العاصمة اليوم فسيرضى بتغييبها في غيرها غداً.
[4] قولهم: إن علمانية العاصمة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني:
والجواب: هو أن العلمانية ما كانت في يومٍ من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت سنين عدداً في لبنان؟ أم حالت دون اضطهاد الأكراد في تركيا؟ والتاريخ شاهد بأن حرب الجنوب قامت قبل أن تطبق الشريعة سواء في ذلك التمرد الأول أو الثاني، بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون إلا بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك، (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (لا إكراه في الدين)، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
[5] قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس:
والجواب: أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله - عز وجل - في القرآن: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال: (وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)، وأخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضى المسلمين ولا مشورتهم، بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها، وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً بل إن أعرق البلاد المسلمة علمانية ـ وهي تركيا ـ صار همُّ ساستها اللهاث خلف أوروبا، والتوسل من أجل أن يمنحوا عضوية في الاتحاد الأوروبي، وفشلوا في ذلك رغم قول قائلهم من قديم: "لا بد أن نأخذ بحضارة الأوروبيين حتى النجاسات التي في أمعائهم والأوبئة التي في أكبادهم".
[6] قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع، فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات:
نقول: بل الدين لله، والوطن لله، والحكم لله، والخلق عباد الله، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليها ـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
[7] قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي:
نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً ماركسياً، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)، ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية، ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات؛ لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
[8] قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية:
ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدَّوْر فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله، ثم يجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون.
إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)، إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله - عز وجل - وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك.
إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير، وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله - تعالى - للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله - تعالى -: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله - عز وجل -: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله واستجابة لداعي الهوى في نفوسهم التي جبلت على الإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وفي القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كقولهم: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، وقولهم: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وقولهم: (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر)، وقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وجماع ذلك قول الله في القرآن: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ وقوله - سبحانه -: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وأنهم يرومون الخير للناس: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
وهاهنا نعرض لبعض هاتيك الشبهات التي يروِّج لها الداعون إلى علمانية العاصمة القومية:
[1] قولهم: إن في العاصمة ناساً يدينون بغير الإسلام وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم:
والجواب: أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم، ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم؟ فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من أن تطبق دينها؟ وهل عهد في تاريخ الإسلام كله إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام؟
يقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون ـ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ـ أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسراً فعاملوا ـ كما رأينا ـ أهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم نظمهم وقوانينهم ومعتقداتهم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حمايةٍ من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة))، بل إن الثابت ـ واقعاً وتاريخاً ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنة وكوسوفا عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه.
ثم ماذا يضير النصارى أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الاستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب كحركة التمرد ـ على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، لكن العجب العاجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
[2] قولهم: إن تطبيق الأحكام الشرعية يحرم العاصمة من مجيء السائحين، وترك الأحكام الشرعية يجعلها عاصمة جاذبة:
والجواب: أن العقلاء وأهل المروءة متفقون على أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، وقد قال العرب الأوّلون: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". ثم من الذي يقول: إن العاصمة لا تكون جاذبة إلا إذا أبيح فيها الحرام؟ لو أنصفوا لقالوا: إن الواجب علينا أن نرعى الأخلاق، ونحفظ حدود الله من أن تضيّع فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام؛ حتى يأتي إلينا السائحون الملتزمون وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولو أنصفوا لقالوا: إن الواجب أن تتضافر الجهود لترقية الخدمات وتأمين الماء والكهرباء، وتعبيد الطرق وتوسعة المطارات وتجميل المسارات وإنارة الشوارع حتى تكون الخرطوم عاصمة جاذبة، بدلاً من الدعوة إلى العلمانية المنكرة التي تبيح ما حرم الله فنكون ممن لم يحفظ ديناً ولم يصلح دنيا، (وشر الناس من خسر الدنيا والآخرة)، ونذكّر أنفسنا وهؤلاء بقول الله - عز وجل -: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يحملنكم طلب الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله))، ومن التاريخ القريب يعلم المنصفون أن الخرطوم كانت يوماً ما ـ بوجهها الشائه وخدماتها المتردية ـ عاصمة الموبقات المهلكات فهل جذب ذلك السائحين إليها؟ أو فتح أبواب الرزق عليها؟ اللهم لا هذا ولا ذاك. لكن..
يقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ثم ألا يعتبر هؤلاء بحال أمم سارت في ذات الدرب فلم تحصد إلا المرّ والعلقم، فلا أزماتها الاقتصادية حلّت، ولا وحدتها الوطنية حققت، ولا مشاكلها الأمنية زالت، بل زادت، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
[3] قولهم: إن الاستمساك بهذا الأمر ـــ أي تطبيق الشريعة في العاصمة ـــ يفوّت فرصة تحقيق السلام الذي بات وشيكاً بزعمهم:
والجواب: أن أهل الإسلام مجمعون على أن حفظ الدين مقدّم على حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول؛ وعليه فلو كان السلام في مقابل التنازل عن أحكام الله - عز وجل - فنقول: لا حيّاه الله ولا سقاه ولا مرحباً به ولا أهلاً، وحسبنا أن نذكّر أنفسنا؛ لتكف عن طاعة المبطلين، بتلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب والشرق لتكون كلمة الله هي العليا، فهل كان ذلك ليأتي آتٍ بعد زمان قريب ليقول: لا بأس بالتنازل عن الشريعة في العاصمة من أجل تحقيق السلام، ولو أن امرءاً رضي لنفسه أن يتنازل عن دينه لينال سلاماً متوهماً؛ فلن يبالي بعد ذلك بالتنازل عن عرضه، ومن تتبع تاريخ المتمردين وزعيمهم في نقض العهود ازداد يقيناً بقول الله في القرآن: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، وبقوله - سبحانه -: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)، ومن أعطى الدنية في دينه فرضي بتغييب الشريعة في العاصمة اليوم فسيرضى بتغييبها في غيرها غداً.
[4] قولهم: إن علمانية العاصمة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني:
والجواب: هو أن العلمانية ما كانت في يومٍ من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت سنين عدداً في لبنان؟ أم حالت دون اضطهاد الأكراد في تركيا؟ والتاريخ شاهد بأن حرب الجنوب قامت قبل أن تطبق الشريعة سواء في ذلك التمرد الأول أو الثاني، بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون إلا بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك، (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (لا إكراه في الدين)، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
[5] قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس:
والجواب: أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله - عز وجل - في القرآن: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال: (وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)، وأخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضى المسلمين ولا مشورتهم، بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها، وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً بل إن أعرق البلاد المسلمة علمانية ـ وهي تركيا ـ صار همُّ ساستها اللهاث خلف أوروبا، والتوسل من أجل أن يمنحوا عضوية في الاتحاد الأوروبي، وفشلوا في ذلك رغم قول قائلهم من قديم: "لا بد أن نأخذ بحضارة الأوروبيين حتى النجاسات التي في أمعائهم والأوبئة التي في أكبادهم".
[6] قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع، فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات:
نقول: بل الدين لله، والوطن لله، والحكم لله، والخلق عباد الله، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليها ـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
[7] قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي:
نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً ماركسياً، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)، ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية، ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات؛ لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
[8] قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية:
ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدَّوْر فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله، ثم يجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون.
إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)، إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله - عز وجل - وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك.
إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير، وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله - تعالى - للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله - تعالى -: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله - عز وجل -: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.