أبو مريم
09-12-2008, 06:40 PM
هناك أكثر من استعمال لمصطلح العقل تختلف باختلاف اللغات والأعراف والتوجهات العقائدية والخلفيات العلمية، فمثلا كانت كلمة ((العقل)) تستعمل قريبا من استعمال كلمة Mind فى الإنجليزية اليوم لتغطى عملية الوعى والفهم المختلفة؛ فيدخل فيها الإنسان والحيوان أيضا - وقد استعملها بهذا المعنى انكساجوراس وتبعه أنبادوقليس(1 ) قبل أن تأخذ عمقا فلسفيا.
وهى تستعمل بهذا المعنى حتى الآن وربما أدخل بعضهم فيها اليوم الآلة كما فى قولهم "العقول الألكترونية"(2 ) يضاف لذلك فى اللغات الأوربية معانى أخرى كالعلة خاصة الغائية(3 ) وفى الثقافة العربية تستعمل بمعنى العقل الأول على خلفية بعض الآثار الضعيفة(4 )التى فسرت فى ضوء التأثر بالفلسفة اليونانية .. وهكذا .
والعقل فى أصل اللغة : المنع، يقول ابن فارس فى مقاييس اللغة :
(( العين والقاف واللام أصل واحد منقاس مطرد، يدل عظمه على حبسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة. من ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل))(5 ) .
قال ابن السمعاني: وكان بعض الأئمة يسميه أم العلم. وكثر الاختلاف فيه حتى قيل: إن فيه ألف قول. وقال بعضهم:
سل الناس إن كانوا لديك أفاضلا *** عن العقل وانظر هل جواب يحصل(6 )
وقد اختصرها ابن سينا إلى أحد عشر معنى ونقلها عنه الغزالى فى معيار العلم ، وهى تقسم بحسب مستعملها إلى ثلاثة أقسام فبعضها خاص بالعوام وهى ثلاثة استعمالات :
الأول يراد به صحة الفطرة الأولى في الناس، فيقال لمن صحت فطرته الأولى: إنه عاقل، فيكون حده إنه قوة بها يجود التمييز بين الأمور القبيحة والحسنة.
الثاني يراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية، فيكون حده إنه معاني مجتمعة في الذهن تكون مقدمات يستنبط بها المصالح والأغراض.
الثالث معنى آخر يرجع إلى وقار الإنسان وهيئته، ويكون حده إنه هيئة محمودة للإنسان في حركاته وسكناته وهيآته وكلامه واختياره.( 7)
أما الفلاسفة فيطلقون لفظ العقل على ثمانية معان :
منها المعنى الذى يقصده المتكلمون ، وهو الذي ذكره أرسطو في كتاب البرهان ، و هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة وهذا المعنى هو الذي حد المتكلمون العقل به إذ قال القاضي أبو بكر الباقلانى في حد العقل: إنه علم ضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحالة المستحيلات كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحال كون الشخص الواحد في مكانين.(8 )
والثانى العقل النظرى وهو قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هي كلية، وكأن هذا هو المراد بصحة الفطرة الأصلية عند الجماهير كما سبق وقد عرفه أرسطو فى كتاب النفس بقوله : أعنى بالعقل ما تتفكر به النفس وتعقل المعانى(9 ) وهذا العقل له عدة أحوال يطلق على كل منها عقلا: هو العقل اليهيولانى والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد .
فالعقل الهيولانى وهو حالة للقوة النظرية لا يكون لها شيء من المعلومات حاصلة، وذلك للصبي الصغير، ولكن فيه مجرد الاستعداد فحده أنه قوة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد، وبها يفارق الصبي الفرس وسائر الحيوانات لا بعلم حاضر ولا بقوة قريبة من العلم.
وأما العقل بالملكة وهو ما ينتهى إليه الصبى عند التمييز وحد ه أنه استكمال العقل الهيولانى حتى يصير بالقوة القريبة من الفعل.
وأما العقل بالفعل فإنه استكمال للنفس بصور ما أي صور معقولة حتى متى شاء عقلها أو أحضرها بالفعل.
وأما العقل المستفاد فهو أن تكون تلك المعلومات حاضرة في ذهنه وهو يطالعها ويلابس التأمل فيها، وهو العلم الموجود بالفعل الحاضر؛ وحد العقل المستفاد أنه ماهية مجردة عن المادة مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج(10 )
وهناك العقل العملى وهو قوة للنفس محركة ليس من جنس العلوم، وإنما سميت عقلية لأنها مؤتمرة للعقل مطيعة لإشاراته بالطبع،وهى ليست العقل النظرى لأن العقل النظرى لا يكفى وحده للإلزام الخلقى فكم من عاقل يعرف أنه مستضر باتباع شهواته، ولكنه يعجز عن المخالفة للشهوة لا لقصور في عقله النظرى بل لفتور هذه القوة التي سميت العقل العملي، وإنما تقوى هذه القوة بالرياضة والمجاهدة والمواظبة على مخالفة الشهوات.(11 )
وأما العقل الفعال فهو نمط آخر، والمراد بالعقل الفعال كل ماهية مجردة عن المادة أصلا، فحد العقل الفعال من جهة ما هو عقل فإنه جوهرى صورى ذاته ماهية مجردة في ذاتها، لا بتجريد غيرها لها عن المادة وعن علائق المادة، بل هي ماهية كلية موجودة، وأما من جهة ما هو فعال فإنه جوهر بالصفة المذكورة من شأنه أن يخرج العقل الهيولانى من القوة إلى الفعل بإشرافه عليه.(12 )
ويلاحظ على هذا التقسيم ما يلى :
أن العقل بالمعنى الذى يقصده جمهور المتكلمين أو الأصوليين هو نفسه المعنى الذى ذكره أرسطو فى كتاب البرهان ويعنى العلوم الضرورية .
أن بعض تلك العقول ليست سوى حالات مختلفة للعقل النظرى وهى الهيولانى والمستفاد والعقل بالملكة والعقل بالفعل .
أن العقل الفعال خارج عن هذا الإطار وقد خلطه بعض المتكلمين وفلاسفة الإسلام بالعقائد .
أن العقل العملى هو قوة إلزام أكثر منها قوة عقلية بالمعنى الذى حدده الفلاسفة .
فالحاصل أن العقل يطلق على أربعة أنواع:
العقل النظرى
العقل بمعنى العلوم الضرورية
العقل العملى الذى هو قوة إلزام
العقل بمعنى الخبرة المكتسبة من التجارب وهو بمعنى الحكمة وحسن التصرف فى الأمور الحياتية .
يقول ابن تيمية : إن المختار أن لفظ العقل يقع الاستعمال فيه على أربعة معان إما بالاشتراك أو على أقل الاشتراك ثم بعضها يطلق على ما تتم به الأربعة بالتواطؤ أو على بعضها مجازا ؛ الأول ضرورى وهو الذين عنى به الجمهور من أصحابنا وغيرهم أنه بعض العلوم الضرورية .( 13)
فالذى يطلقه الجمهور على سبيل المجاز هو الذى يستفاد بالتجربة كقولنا: ((شخص عاقل)) بمعنى الحكيم الذى حلب الدهر أشطره .
وأما ما يطلق عليه عقل بالاشتراك فهو العقل العملى( 14) لأنه ليس من جملة العلوم بل هو قوة يتمكن بها الشخص من الانتهاء عن القبائح ، وإنما سميت عقلا لكونها مؤتمرة بالعقل والفرق بينها وبين العقل النظرى أن المرء لا يمكنه بمجرد إدراك قبح القبائح أن يمتنع عنها إلا فى وجود تلك القوة التى سميت عقلا .
بقى العقل النظرى، والعقل الذى هو بمعنى العلوم الضرورية ، هل هما بمعنى واحد أم أنهما مختلفان ويطلق لفظ العقل عليهما بالاشتراك أو بأقل الاشتراك؟
الواقع أن الأمر يحتاج لنظر فالذى يتضح من كلام أرسطو ومن كلام جمهور المتكلمين أن العقل يطلق بالتواطؤ على العقل النظرى والعقل بمعنى العلوم الضرورية؛ فأرسطو فى كتاب دعوة للفلسفة أطلق لفظ العقل على أنه الملكة التى بها يكتمل وجود الإنسان فقال: ((إذا سلمنا بأن النفس تنشأ متأخرة عن الجسم، وأن آخر ما ينشأ من ملكات النفس هو ملكة العقل؛ إذ إننا نلاحظ أن هذه الملكة بطبيعتها آخر ما يتكون عند الإنسان ، ولهذا كانت هى الخير الوحيد الذى تطمح الشيخوخة إلى امتلاكه.. إذا سلمنا بذلك كله تبين لنا أن ملكة العقل بحسب طبيعتها هى هدفنا وأن استخدامها هو الغاية الأخيرة التى من أجلها نشأنا ..))(15 ) وهذا يشير بوضوح إلى أن المقصود بإطلاق العقل عنده إنما هو العقل النظرى منذ البداية على اعتبار أن كتاب دعوة للفلسفة هو من الكتب المتقدمة لأرسطو .
وقد ورد فى الترجمة العربية للمنطق عبارة (( .. وأعنى بالعقل مبدأ العلم ))( 17) وقد ذكر ابن سينا والغزالى أن أرسطو يطلق العقل على العلوم الضرورية،ويفسر ذلك أرسطو بقوله ((إن قوة الحس وقوة العقل هما بالقوة نفس موضوعيهما أحدهما المعقول بالقوة والآخر المحسوس بالقوة فبالضرورة كانت هذه القوى هى نفس موضوعاتها أو على الأقل نفس صورها ))( 18).
وهذا يعنى أن كليهما بمعنى واحد وليس يطلق اللفظ عليهما بمعنى الاشتراك بل بالتواطؤ، وهو ما يتفق مع ما ذهب إليه جمهور المتكلمين، والدليل أنه لو كان المقصود هنا أن العقل يطلق على جملة العلوم الضرورية بالاشتراك لما كان هناك خلاف بينهم لأن الأمر فى تلك الحالة كان لا يعدو خلافا لفظيا أو خلافا حول الاصطلاح، لكن لما كان الخلاف حقيقيا وهو أن بعضهم يقول عن العقل الذى يوصف بكونه الملكة أو الغريزة هو نفسه تلك العلوم ولا فرق بينهما، والآخر يرى أن العقل الذى يوصف بكونه الملكة أو الغريزة يختلف عن العقل بمعنى العلوم الضرورية؛ حصل الخلاف الذى استوجب استدلال كل من الفريقين على صحة ما ذهب إليه .
فالحاصل إذن أن هناك مذهبين للأصوليين : فبعضهم يطلق لفظ العقل بمعنى العلوم الضرورية على العقل الذى هو الغريزة والملكة ويرى أنهما شىء واحد وأن العقل يطلق عليهما بالتواطؤ .
والبعض الآخر يرى أن العقل الذى هو الغريزة والملكة ليس هو بمعنى العقل الذى هو جملة العلوم الضرورية وأن لفظ العقل يطلق عليهما بالاشتراك .
فقد ذهب جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وأصحاب أحمد على الرغم من اختلافهم فى العبارة إلى أن العقل هو جملة العلوم الضرورية فالباقلانى وأبو يعلى(19 ) يقولان إن العقل عبارة عن العلوم الضرورية و يقول الأشعرى (( إن العقل هو العلم))( 20) ويقول ابن فورك فى كتاب الحدود العقل: هو البداءة من العلوم التي لا يشرك في علمها العاقلون البهائم، والمتيقظون النوم.
وقد استدل الباقلانى على ذلك بأنه لا يتصف بالعقل خال عن العلوم كلها ، ولا شك أن ذلك الاستدلال واه جدا، وقد أبطله الجوينى بقوله : إن الإنسان يذهل عن الفكر فى الجواز والاستحالة وهو عاقل.
والواقع أننا لو سلمنا بقول الباقلانى للزم التسليم بأن كل شرط هو المشروط بعينه ومعلوم أنه لا يمتنع أن يكون العقل مشروطا بعلوم وإن لم يكن منها(21 )
لكن الجوينى فى كتابه التلخيص فى أصول الفقه ينقل عن القاضى الباقلانى دليلا آخر ويقره عليه، ومفاده أن العقل إما جوهر أو عرض ، لكنه ليس بجوهر لأن الجواهر متجانسة ولو صح أن العقل جوهرا لصح أن يعقل نفسه ويحيى ويتصف بجميع صفات الجواهر القائمة بأنفسها ، فاتضح بطلان كونه جوهرا ، وثبت أنه من قبيل الأعراض ، ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم لأنه لو كان كذلك لصح وجود سائر العلوم مع عدمه حتى يكون العالم بدقائق الفنون غير عاقل فخرج من ذلك العلوم الكسبية ، ويستحيل أن يكون هو كل العلوم الضرورية كالعلم باللذة والألم لأنها مما يتصف به المجانين والبهائم، ولا العلم بالمدركات وإلا لوجب للفاقد لها لفقده آلة الإدراك أن يسمى غير عاقل.. فثبت أنه العلم ببعض العلوم الضرورية .
قال الجوينى: ((ولو أردت عبارة أوجز مما قدمه القاضي رضى الله عنه لقلت: العقل علوم ضرورية باستحالة مستحيلات وجواز جائزات، ثم تفصله على ما قدمناه، ولا تقدر ذلك من قبيل الحدود الفاصلة المميزة نحو حد العلم وغيره مما يحد فإن هذا صرف إلى بعض العلوم ولا تستتب فيه العبارة إلا بزيادة كشف وتحصيل)).(22 )
ويبدو أن كتاب التلخيص من الكتب المتقدمة لإمام الحرمين وقد كان فيها حريصا على موافقة الباقلانى وتعظيمه وعدم التصريح بمخالفته وإلا فإن ما نقله لا ينهض دليلا حتى مع التسليم بفكرة تقسيم الموجودات إلى جواهر وأعراض قائمة بها وأنها قسمة حاصرة، فإنه لا مانع من أن يكون العقل عرضا تدرك به النفس العلوم ولا يكون من جملتها .
لكن لماذا صرحوا بأن العقل هو جملة العلوم الضرورية ؟
الواقع أن هناك فرقا بين المدرِك والمدرَك وأداة الإدراك؛ فالمدرك هو العاقل والمدرَك هو العلوم الضرورية والعقل هو أداة الإدراك، ولما كانت هذه الأداة لا تعمل إلا بوجود مبادئ هى فى حد ذاتها مدركات وصفت تلك المدركات المبادئ بأنها ذاتها هى العقل وأطلق عليها اسم العقل .
قال الشافعى فى الرسالة: ((فدلهم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام على صواب الاجتهاد مما فرض عليهم منه بالعقول التي ركب فيهم المميزة بين الأشياء وأضدادها ))(23 ) فالعقل عنده بمعنى الغريزة التى يدرك بها الإنسان العلوم وليست من جنس العلوم كما ذهب المتكلمون.
وقد نقل ابن تيمية عن أحمد أنه قال العقل غريزة ..قال: ((والبربهارى كلامه يقتضى أن العقل هو القوة المدركة كما دل عليه كلام الإمام أحمد وليس هو نفس الإدراك، وهذه المسألة من جنس مسألة الإيمان والوجوب ..))(24 ).
وقال إمام الحرمين : ((وقال الحارث المحاسبى العقل غريزة يتأتى بها درك العلوم وليس منها)) ، ثم قال: (( والقدر الذى يحتمله كتابنا أن العقل صفة إذا ثبتت يتأتى بها التوصل إلى العلوم النظرىة والى مقدمتها من الضروريات التى هي مستند النظريات))(25 ).
وهذا يعنى أن العقل عندهم ليس هو العلم بالضروريات أو من جملة العلوم الضرورية وإنما هو صفة معها تتحصل تلك العلوم للمتصف بها على اختلاف فى العبارة يعود إلى اللفظ ، فهو ما يدرك به الإنسان القضايا الضرورية ، ومنها -إن قلنا إن العقل يمكنه إدراك حسن الأفعال وقبحها على وجه من الإجمال - ما يعرف به الفرق بين القبيح والحسن من الأفعال دون أن يكون ذلك هو مصدر الإلزام الذى يسمى بالعقل العملى.
ولا شك أن ذلك ينبنى عليه التمييز بين الإنسان والحيوان؛ فبالعقل يفكر ويستنتج ويبنى النتائج على المقدمات ويستدل على صحة القضايا بإسنادها للضروريات، وبالعقل يعرف أن هذا الفعل قبيح وهذا شرط فى الامتناع عنه على وجه يحمد عليه ويعرف أن هذا الفعل حسن وهو شرط فى فعل الشىء على وجه يحمد عليه..
ولذلك كان العقل الذى به يدرك الإنسان الضروريات هو العقل الصارف عن القبيح الداعى إلى الحسن، هو نفسه ما يفرق بين الإنسان والحيوان.
ثم الخلاف بعد ذلك حول طبيعة ذلك العقل وكيف يدرك مما لا صلة له بالمشار إليه:
ولكن هناك سؤال قد يتبادر للذهن وهو : كيف تدرك الضروريات بالعقل والعقل لا يدرك إلا بها؟
من الممكن الخروج من هذا الإشكال بالقول إن العقل يدركها بذاته ولا يدرك غيرها إلا استنادا إليها .
وقد ترتب على الخلاف بين الأصوليين حول كون العقل هو جملة العلوم الضرورية أو هو غريزة مسائل منها الخلاف حول تفاوت العقل من شخص لآخر ؟
فالذين قالوا إن العقل هو جملة العلوم الضرورية قالوا بأن العقل لا تفاوت فيه من شخص لآخر،ولا يجوز أن يكون عقل هو أرجح من عقل،وممن صرح بذلك: أبو الخطاب، وابن عقيل( 26)، وهذا مذهب المعتزلة فيما حكاه القاضي أبو يعلى ، والأشعرية كالباقلانى، وقالت الأشعرية : وأما قولهم عقل فلان أرجح من عقل فلان فإنما هو من التجارب وقد تسمى التجارب عقلا(27 )
-----------
(1 ) انظر الدكتور مصطفى النشار : نظرية المعرفة عند أرسطو ، دار المعارف القاهرة ، ط1، 1985ص83
( 2) انظر دكتور عبد المنعم الحنفى : المعجم الفلسفى ، الدار الشرقية القاهرة ، 1990، ص 208 .
(3 ) انظر الدكتور مصطفى النشار : نظرية المعرفة عند أرسطو ص 83
(4 )عن أبي أمامة، - رضي الله عنه قال - : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم:"لما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، قال: وعزتي ما خلقت خلقا أعجب إلي منك، بك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب ))أخرجه الطبرانى (8/283 ، رقم 8086) وفيه عمر بن أبى صالح قال الذهبى : لا يعرف، والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة(4/154،رقم 4633) و أخرجه ابن عدى (2/390 ، ترجمة 512 حفص بن عمر) وأعل الحديث به : وقال بعد أن أخرج له هذا الحديث وغيره من مروياته : ولحفص بن عمر أحاديث غير ما ذكرته ولم أجد له أنكر مما ذكرته ، وقال : قال أحمد : ضعيف ، وقال عبد الله بن محمد عن ابن عيينة : كان يرى القدر وليس أهلا أن يروى عنه، و قال أبو عبد الله الزرعى فى نقد المنقول (تحقيق حسن السمعانى ، درا القادرى بيروت، ط1 1411-1990 ، ص 60 ) : أحاديث العقل كلها كذب ، وذكر هذا لحديث فى أول كلامه.
(5 )أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: مقاييس اللغة ، تحقيق عبد السلام هارون ، دار الفكر ، 1399هـ - 1979م. مادة (ع ق ل ) 4/69
(6 ) الزركشى البحر المحيط 1/70
( 7) انظر الغزالى:معيار العلم فى المنطق ، شرحه أحمد شمس الدين ، دار الكتب العلمية، بيروت،ط1، 1410-1990، ص 175-276 ، وقارن ابن سينا : تسع رسائل فى الحكمة والطبيعة ،دار العرب للبستانى القاهرة ، ط2، 1989. ص 79-80.
( 8) انظر السابق ص 277، وقارن ابن سينا : تسع رسائل فى الحكمة والطبيعة ص 80
(9 ) أرسطو : كتاب النفس ترجمة أحمد فؤاد الأهوانى،راجعه على اليونانية جورج شحاتة قنواتى،عيسى البابى الحلبى ، ط1 ،1949، ص 108
(10 ) انظر أبى حامد الغزالى :معيار العلم فى المنطق ص 278، وقارن ابن سينا : تسع رسائل فى الحكمة والطبيعة ص 80
(11 ) السابق ص 277
( 12) انظر السابق ص 279 ، معارج القدس ص18 ، الجرجانى : التعريفات ص 49-50 ، وقارن ابن سينا : تسع رسائل فى الحكمة والطبيعة ص 80-81.
( 13) آل تيمية : المسودة ص 499
( 14) يقول ابن سينا ((وأما النفس الناطقة الإنسانية فتنقسم قواها أيضاً إلى قوة عاملة وقوة عالمة وكل واحدة من القوتين تسمى عقلاً باشتراك الاسم فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة )) ابن سينا : النجاة ص 136
( 15) أرسطو :دعوة للفلسفة ( بروتريبتيقوس) قدمه للعربية مع تعليقات وشروح الدكتور عبد الغفار مكاوى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1987 ) ص 37-37
( 16) أرسطو : كتاب النفس ص 108
(17 ) أرسطو : منطق أرسطو ، التحليلات الثانية 2/423
( 18) هو القاضي الإمام محمد بن الحسين بن أحمد بن الفراء أبو يعلى ومن مؤلفاته المعتمد – إبطال التأويل – أحكام القرآن – الأحكام السلطانية والعدة في أصول الفقه وغيرها كثير ولد سنة 380هـ - وتوفي 458هـ ، انظر طبقات الفقهاء الحنابلة تأليف القاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى البغدادي الحنبلي تحقيق الدكتور علي محمد عمر الجزء الثاني مكتبة الثقافة الدينية الطبعة الأولى القاهرة 1419هـ- 1998م . ص 259وما بعدها
(19 ) الزركشى : البحر المحيط 1/165
( 20) انظر السابق
( 21) انظر الجوينى أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف:كتاب التلخيص في أصول الفقه ، تحقيق عبد الله النبالى وبشير أحمد العمري ، دار البشائر الإسلامية بيروت1417هـ- 1996م، 1/ 110-113
(22 ) الشافعى : الرسالة 23-24
( 23) آل تيمية : المسودة ص 498
( 24) الجوينى : البرهان 1/95-96
(25 ) هو علي بن عقيل بن محمد بن عقيل عالم العراق وشيخ الحنابلة، وله كتاب الفنون، والواضح في أصول الفقه ولد سنة 431 توفي سنة 513هـ ، انظر الزركلى: الأعلام 4/313
(26 ) آل تيمية : المسودة 1/500
وهى تستعمل بهذا المعنى حتى الآن وربما أدخل بعضهم فيها اليوم الآلة كما فى قولهم "العقول الألكترونية"(2 ) يضاف لذلك فى اللغات الأوربية معانى أخرى كالعلة خاصة الغائية(3 ) وفى الثقافة العربية تستعمل بمعنى العقل الأول على خلفية بعض الآثار الضعيفة(4 )التى فسرت فى ضوء التأثر بالفلسفة اليونانية .. وهكذا .
والعقل فى أصل اللغة : المنع، يقول ابن فارس فى مقاييس اللغة :
(( العين والقاف واللام أصل واحد منقاس مطرد، يدل عظمه على حبسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة. من ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل))(5 ) .
قال ابن السمعاني: وكان بعض الأئمة يسميه أم العلم. وكثر الاختلاف فيه حتى قيل: إن فيه ألف قول. وقال بعضهم:
سل الناس إن كانوا لديك أفاضلا *** عن العقل وانظر هل جواب يحصل(6 )
وقد اختصرها ابن سينا إلى أحد عشر معنى ونقلها عنه الغزالى فى معيار العلم ، وهى تقسم بحسب مستعملها إلى ثلاثة أقسام فبعضها خاص بالعوام وهى ثلاثة استعمالات :
الأول يراد به صحة الفطرة الأولى في الناس، فيقال لمن صحت فطرته الأولى: إنه عاقل، فيكون حده إنه قوة بها يجود التمييز بين الأمور القبيحة والحسنة.
الثاني يراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية، فيكون حده إنه معاني مجتمعة في الذهن تكون مقدمات يستنبط بها المصالح والأغراض.
الثالث معنى آخر يرجع إلى وقار الإنسان وهيئته، ويكون حده إنه هيئة محمودة للإنسان في حركاته وسكناته وهيآته وكلامه واختياره.( 7)
أما الفلاسفة فيطلقون لفظ العقل على ثمانية معان :
منها المعنى الذى يقصده المتكلمون ، وهو الذي ذكره أرسطو في كتاب البرهان ، و هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة وهذا المعنى هو الذي حد المتكلمون العقل به إذ قال القاضي أبو بكر الباقلانى في حد العقل: إنه علم ضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحالة المستحيلات كالعلم باستحالة كون الشيء الواحد قديما وحديثا، واستحال كون الشخص الواحد في مكانين.(8 )
والثانى العقل النظرى وهو قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هي كلية، وكأن هذا هو المراد بصحة الفطرة الأصلية عند الجماهير كما سبق وقد عرفه أرسطو فى كتاب النفس بقوله : أعنى بالعقل ما تتفكر به النفس وتعقل المعانى(9 ) وهذا العقل له عدة أحوال يطلق على كل منها عقلا: هو العقل اليهيولانى والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد .
فالعقل الهيولانى وهو حالة للقوة النظرية لا يكون لها شيء من المعلومات حاصلة، وذلك للصبي الصغير، ولكن فيه مجرد الاستعداد فحده أنه قوة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد، وبها يفارق الصبي الفرس وسائر الحيوانات لا بعلم حاضر ولا بقوة قريبة من العلم.
وأما العقل بالملكة وهو ما ينتهى إليه الصبى عند التمييز وحد ه أنه استكمال العقل الهيولانى حتى يصير بالقوة القريبة من الفعل.
وأما العقل بالفعل فإنه استكمال للنفس بصور ما أي صور معقولة حتى متى شاء عقلها أو أحضرها بالفعل.
وأما العقل المستفاد فهو أن تكون تلك المعلومات حاضرة في ذهنه وهو يطالعها ويلابس التأمل فيها، وهو العلم الموجود بالفعل الحاضر؛ وحد العقل المستفاد أنه ماهية مجردة عن المادة مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج(10 )
وهناك العقل العملى وهو قوة للنفس محركة ليس من جنس العلوم، وإنما سميت عقلية لأنها مؤتمرة للعقل مطيعة لإشاراته بالطبع،وهى ليست العقل النظرى لأن العقل النظرى لا يكفى وحده للإلزام الخلقى فكم من عاقل يعرف أنه مستضر باتباع شهواته، ولكنه يعجز عن المخالفة للشهوة لا لقصور في عقله النظرى بل لفتور هذه القوة التي سميت العقل العملي، وإنما تقوى هذه القوة بالرياضة والمجاهدة والمواظبة على مخالفة الشهوات.(11 )
وأما العقل الفعال فهو نمط آخر، والمراد بالعقل الفعال كل ماهية مجردة عن المادة أصلا، فحد العقل الفعال من جهة ما هو عقل فإنه جوهرى صورى ذاته ماهية مجردة في ذاتها، لا بتجريد غيرها لها عن المادة وعن علائق المادة، بل هي ماهية كلية موجودة، وأما من جهة ما هو فعال فإنه جوهر بالصفة المذكورة من شأنه أن يخرج العقل الهيولانى من القوة إلى الفعل بإشرافه عليه.(12 )
ويلاحظ على هذا التقسيم ما يلى :
أن العقل بالمعنى الذى يقصده جمهور المتكلمين أو الأصوليين هو نفسه المعنى الذى ذكره أرسطو فى كتاب البرهان ويعنى العلوم الضرورية .
أن بعض تلك العقول ليست سوى حالات مختلفة للعقل النظرى وهى الهيولانى والمستفاد والعقل بالملكة والعقل بالفعل .
أن العقل الفعال خارج عن هذا الإطار وقد خلطه بعض المتكلمين وفلاسفة الإسلام بالعقائد .
أن العقل العملى هو قوة إلزام أكثر منها قوة عقلية بالمعنى الذى حدده الفلاسفة .
فالحاصل أن العقل يطلق على أربعة أنواع:
العقل النظرى
العقل بمعنى العلوم الضرورية
العقل العملى الذى هو قوة إلزام
العقل بمعنى الخبرة المكتسبة من التجارب وهو بمعنى الحكمة وحسن التصرف فى الأمور الحياتية .
يقول ابن تيمية : إن المختار أن لفظ العقل يقع الاستعمال فيه على أربعة معان إما بالاشتراك أو على أقل الاشتراك ثم بعضها يطلق على ما تتم به الأربعة بالتواطؤ أو على بعضها مجازا ؛ الأول ضرورى وهو الذين عنى به الجمهور من أصحابنا وغيرهم أنه بعض العلوم الضرورية .( 13)
فالذى يطلقه الجمهور على سبيل المجاز هو الذى يستفاد بالتجربة كقولنا: ((شخص عاقل)) بمعنى الحكيم الذى حلب الدهر أشطره .
وأما ما يطلق عليه عقل بالاشتراك فهو العقل العملى( 14) لأنه ليس من جملة العلوم بل هو قوة يتمكن بها الشخص من الانتهاء عن القبائح ، وإنما سميت عقلا لكونها مؤتمرة بالعقل والفرق بينها وبين العقل النظرى أن المرء لا يمكنه بمجرد إدراك قبح القبائح أن يمتنع عنها إلا فى وجود تلك القوة التى سميت عقلا .
بقى العقل النظرى، والعقل الذى هو بمعنى العلوم الضرورية ، هل هما بمعنى واحد أم أنهما مختلفان ويطلق لفظ العقل عليهما بالاشتراك أو بأقل الاشتراك؟
الواقع أن الأمر يحتاج لنظر فالذى يتضح من كلام أرسطو ومن كلام جمهور المتكلمين أن العقل يطلق بالتواطؤ على العقل النظرى والعقل بمعنى العلوم الضرورية؛ فأرسطو فى كتاب دعوة للفلسفة أطلق لفظ العقل على أنه الملكة التى بها يكتمل وجود الإنسان فقال: ((إذا سلمنا بأن النفس تنشأ متأخرة عن الجسم، وأن آخر ما ينشأ من ملكات النفس هو ملكة العقل؛ إذ إننا نلاحظ أن هذه الملكة بطبيعتها آخر ما يتكون عند الإنسان ، ولهذا كانت هى الخير الوحيد الذى تطمح الشيخوخة إلى امتلاكه.. إذا سلمنا بذلك كله تبين لنا أن ملكة العقل بحسب طبيعتها هى هدفنا وأن استخدامها هو الغاية الأخيرة التى من أجلها نشأنا ..))(15 ) وهذا يشير بوضوح إلى أن المقصود بإطلاق العقل عنده إنما هو العقل النظرى منذ البداية على اعتبار أن كتاب دعوة للفلسفة هو من الكتب المتقدمة لأرسطو .
وقد ورد فى الترجمة العربية للمنطق عبارة (( .. وأعنى بالعقل مبدأ العلم ))( 17) وقد ذكر ابن سينا والغزالى أن أرسطو يطلق العقل على العلوم الضرورية،ويفسر ذلك أرسطو بقوله ((إن قوة الحس وقوة العقل هما بالقوة نفس موضوعيهما أحدهما المعقول بالقوة والآخر المحسوس بالقوة فبالضرورة كانت هذه القوى هى نفس موضوعاتها أو على الأقل نفس صورها ))( 18).
وهذا يعنى أن كليهما بمعنى واحد وليس يطلق اللفظ عليهما بمعنى الاشتراك بل بالتواطؤ، وهو ما يتفق مع ما ذهب إليه جمهور المتكلمين، والدليل أنه لو كان المقصود هنا أن العقل يطلق على جملة العلوم الضرورية بالاشتراك لما كان هناك خلاف بينهم لأن الأمر فى تلك الحالة كان لا يعدو خلافا لفظيا أو خلافا حول الاصطلاح، لكن لما كان الخلاف حقيقيا وهو أن بعضهم يقول عن العقل الذى يوصف بكونه الملكة أو الغريزة هو نفسه تلك العلوم ولا فرق بينهما، والآخر يرى أن العقل الذى يوصف بكونه الملكة أو الغريزة يختلف عن العقل بمعنى العلوم الضرورية؛ حصل الخلاف الذى استوجب استدلال كل من الفريقين على صحة ما ذهب إليه .
فالحاصل إذن أن هناك مذهبين للأصوليين : فبعضهم يطلق لفظ العقل بمعنى العلوم الضرورية على العقل الذى هو الغريزة والملكة ويرى أنهما شىء واحد وأن العقل يطلق عليهما بالتواطؤ .
والبعض الآخر يرى أن العقل الذى هو الغريزة والملكة ليس هو بمعنى العقل الذى هو جملة العلوم الضرورية وأن لفظ العقل يطلق عليهما بالاشتراك .
فقد ذهب جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وأصحاب أحمد على الرغم من اختلافهم فى العبارة إلى أن العقل هو جملة العلوم الضرورية فالباقلانى وأبو يعلى(19 ) يقولان إن العقل عبارة عن العلوم الضرورية و يقول الأشعرى (( إن العقل هو العلم))( 20) ويقول ابن فورك فى كتاب الحدود العقل: هو البداءة من العلوم التي لا يشرك في علمها العاقلون البهائم، والمتيقظون النوم.
وقد استدل الباقلانى على ذلك بأنه لا يتصف بالعقل خال عن العلوم كلها ، ولا شك أن ذلك الاستدلال واه جدا، وقد أبطله الجوينى بقوله : إن الإنسان يذهل عن الفكر فى الجواز والاستحالة وهو عاقل.
والواقع أننا لو سلمنا بقول الباقلانى للزم التسليم بأن كل شرط هو المشروط بعينه ومعلوم أنه لا يمتنع أن يكون العقل مشروطا بعلوم وإن لم يكن منها(21 )
لكن الجوينى فى كتابه التلخيص فى أصول الفقه ينقل عن القاضى الباقلانى دليلا آخر ويقره عليه، ومفاده أن العقل إما جوهر أو عرض ، لكنه ليس بجوهر لأن الجواهر متجانسة ولو صح أن العقل جوهرا لصح أن يعقل نفسه ويحيى ويتصف بجميع صفات الجواهر القائمة بأنفسها ، فاتضح بطلان كونه جوهرا ، وثبت أنه من قبيل الأعراض ، ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم لأنه لو كان كذلك لصح وجود سائر العلوم مع عدمه حتى يكون العالم بدقائق الفنون غير عاقل فخرج من ذلك العلوم الكسبية ، ويستحيل أن يكون هو كل العلوم الضرورية كالعلم باللذة والألم لأنها مما يتصف به المجانين والبهائم، ولا العلم بالمدركات وإلا لوجب للفاقد لها لفقده آلة الإدراك أن يسمى غير عاقل.. فثبت أنه العلم ببعض العلوم الضرورية .
قال الجوينى: ((ولو أردت عبارة أوجز مما قدمه القاضي رضى الله عنه لقلت: العقل علوم ضرورية باستحالة مستحيلات وجواز جائزات، ثم تفصله على ما قدمناه، ولا تقدر ذلك من قبيل الحدود الفاصلة المميزة نحو حد العلم وغيره مما يحد فإن هذا صرف إلى بعض العلوم ولا تستتب فيه العبارة إلا بزيادة كشف وتحصيل)).(22 )
ويبدو أن كتاب التلخيص من الكتب المتقدمة لإمام الحرمين وقد كان فيها حريصا على موافقة الباقلانى وتعظيمه وعدم التصريح بمخالفته وإلا فإن ما نقله لا ينهض دليلا حتى مع التسليم بفكرة تقسيم الموجودات إلى جواهر وأعراض قائمة بها وأنها قسمة حاصرة، فإنه لا مانع من أن يكون العقل عرضا تدرك به النفس العلوم ولا يكون من جملتها .
لكن لماذا صرحوا بأن العقل هو جملة العلوم الضرورية ؟
الواقع أن هناك فرقا بين المدرِك والمدرَك وأداة الإدراك؛ فالمدرك هو العاقل والمدرَك هو العلوم الضرورية والعقل هو أداة الإدراك، ولما كانت هذه الأداة لا تعمل إلا بوجود مبادئ هى فى حد ذاتها مدركات وصفت تلك المدركات المبادئ بأنها ذاتها هى العقل وأطلق عليها اسم العقل .
قال الشافعى فى الرسالة: ((فدلهم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام على صواب الاجتهاد مما فرض عليهم منه بالعقول التي ركب فيهم المميزة بين الأشياء وأضدادها ))(23 ) فالعقل عنده بمعنى الغريزة التى يدرك بها الإنسان العلوم وليست من جنس العلوم كما ذهب المتكلمون.
وقد نقل ابن تيمية عن أحمد أنه قال العقل غريزة ..قال: ((والبربهارى كلامه يقتضى أن العقل هو القوة المدركة كما دل عليه كلام الإمام أحمد وليس هو نفس الإدراك، وهذه المسألة من جنس مسألة الإيمان والوجوب ..))(24 ).
وقال إمام الحرمين : ((وقال الحارث المحاسبى العقل غريزة يتأتى بها درك العلوم وليس منها)) ، ثم قال: (( والقدر الذى يحتمله كتابنا أن العقل صفة إذا ثبتت يتأتى بها التوصل إلى العلوم النظرىة والى مقدمتها من الضروريات التى هي مستند النظريات))(25 ).
وهذا يعنى أن العقل عندهم ليس هو العلم بالضروريات أو من جملة العلوم الضرورية وإنما هو صفة معها تتحصل تلك العلوم للمتصف بها على اختلاف فى العبارة يعود إلى اللفظ ، فهو ما يدرك به الإنسان القضايا الضرورية ، ومنها -إن قلنا إن العقل يمكنه إدراك حسن الأفعال وقبحها على وجه من الإجمال - ما يعرف به الفرق بين القبيح والحسن من الأفعال دون أن يكون ذلك هو مصدر الإلزام الذى يسمى بالعقل العملى.
ولا شك أن ذلك ينبنى عليه التمييز بين الإنسان والحيوان؛ فبالعقل يفكر ويستنتج ويبنى النتائج على المقدمات ويستدل على صحة القضايا بإسنادها للضروريات، وبالعقل يعرف أن هذا الفعل قبيح وهذا شرط فى الامتناع عنه على وجه يحمد عليه ويعرف أن هذا الفعل حسن وهو شرط فى فعل الشىء على وجه يحمد عليه..
ولذلك كان العقل الذى به يدرك الإنسان الضروريات هو العقل الصارف عن القبيح الداعى إلى الحسن، هو نفسه ما يفرق بين الإنسان والحيوان.
ثم الخلاف بعد ذلك حول طبيعة ذلك العقل وكيف يدرك مما لا صلة له بالمشار إليه:
ولكن هناك سؤال قد يتبادر للذهن وهو : كيف تدرك الضروريات بالعقل والعقل لا يدرك إلا بها؟
من الممكن الخروج من هذا الإشكال بالقول إن العقل يدركها بذاته ولا يدرك غيرها إلا استنادا إليها .
وقد ترتب على الخلاف بين الأصوليين حول كون العقل هو جملة العلوم الضرورية أو هو غريزة مسائل منها الخلاف حول تفاوت العقل من شخص لآخر ؟
فالذين قالوا إن العقل هو جملة العلوم الضرورية قالوا بأن العقل لا تفاوت فيه من شخص لآخر،ولا يجوز أن يكون عقل هو أرجح من عقل،وممن صرح بذلك: أبو الخطاب، وابن عقيل( 26)، وهذا مذهب المعتزلة فيما حكاه القاضي أبو يعلى ، والأشعرية كالباقلانى، وقالت الأشعرية : وأما قولهم عقل فلان أرجح من عقل فلان فإنما هو من التجارب وقد تسمى التجارب عقلا(27 )
-----------
(1 ) انظر الدكتور مصطفى النشار : نظرية المعرفة عند أرسطو ، دار المعارف القاهرة ، ط1، 1985ص83
( 2) انظر دكتور عبد المنعم الحنفى : المعجم الفلسفى ، الدار الشرقية القاهرة ، 1990، ص 208 .
(3 ) انظر الدكتور مصطفى النشار : نظرية المعرفة عند أرسطو ص 83
(4 )عن أبي أمامة، - رضي الله عنه قال - : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم:"لما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، قال: وعزتي ما خلقت خلقا أعجب إلي منك، بك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب ))أخرجه الطبرانى (8/283 ، رقم 8086) وفيه عمر بن أبى صالح قال الذهبى : لا يعرف، والبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة(4/154،رقم 4633) و أخرجه ابن عدى (2/390 ، ترجمة 512 حفص بن عمر) وأعل الحديث به : وقال بعد أن أخرج له هذا الحديث وغيره من مروياته : ولحفص بن عمر أحاديث غير ما ذكرته ولم أجد له أنكر مما ذكرته ، وقال : قال أحمد : ضعيف ، وقال عبد الله بن محمد عن ابن عيينة : كان يرى القدر وليس أهلا أن يروى عنه، و قال أبو عبد الله الزرعى فى نقد المنقول (تحقيق حسن السمعانى ، درا القادرى بيروت، ط1 1411-1990 ، ص 60 ) : أحاديث العقل كلها كذب ، وذكر هذا لحديث فى أول كلامه.
(5 )أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا: مقاييس اللغة ، تحقيق عبد السلام هارون ، دار الفكر ، 1399هـ - 1979م. مادة (ع ق ل ) 4/69
(6 ) الزركشى البحر المحيط 1/70
( 7) انظر الغزالى:معيار العلم فى المنطق ، شرحه أحمد شمس الدين ، دار الكتب العلمية، بيروت،ط1، 1410-1990، ص 175-276 ، وقارن ابن سينا : تسع رسائل فى الحكمة والطبيعة ،دار العرب للبستانى القاهرة ، ط2، 1989. ص 79-80.
( 8) انظر السابق ص 277، وقارن ابن سينا : تسع رسائل فى الحكمة والطبيعة ص 80
(9 ) أرسطو : كتاب النفس ترجمة أحمد فؤاد الأهوانى،راجعه على اليونانية جورج شحاتة قنواتى،عيسى البابى الحلبى ، ط1 ،1949، ص 108
(10 ) انظر أبى حامد الغزالى :معيار العلم فى المنطق ص 278، وقارن ابن سينا : تسع رسائل فى الحكمة والطبيعة ص 80
(11 ) السابق ص 277
( 12) انظر السابق ص 279 ، معارج القدس ص18 ، الجرجانى : التعريفات ص 49-50 ، وقارن ابن سينا : تسع رسائل فى الحكمة والطبيعة ص 80-81.
( 13) آل تيمية : المسودة ص 499
( 14) يقول ابن سينا ((وأما النفس الناطقة الإنسانية فتنقسم قواها أيضاً إلى قوة عاملة وقوة عالمة وكل واحدة من القوتين تسمى عقلاً باشتراك الاسم فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة )) ابن سينا : النجاة ص 136
( 15) أرسطو :دعوة للفلسفة ( بروتريبتيقوس) قدمه للعربية مع تعليقات وشروح الدكتور عبد الغفار مكاوى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1987 ) ص 37-37
( 16) أرسطو : كتاب النفس ص 108
(17 ) أرسطو : منطق أرسطو ، التحليلات الثانية 2/423
( 18) هو القاضي الإمام محمد بن الحسين بن أحمد بن الفراء أبو يعلى ومن مؤلفاته المعتمد – إبطال التأويل – أحكام القرآن – الأحكام السلطانية والعدة في أصول الفقه وغيرها كثير ولد سنة 380هـ - وتوفي 458هـ ، انظر طبقات الفقهاء الحنابلة تأليف القاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى البغدادي الحنبلي تحقيق الدكتور علي محمد عمر الجزء الثاني مكتبة الثقافة الدينية الطبعة الأولى القاهرة 1419هـ- 1998م . ص 259وما بعدها
(19 ) الزركشى : البحر المحيط 1/165
( 20) انظر السابق
( 21) انظر الجوينى أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف:كتاب التلخيص في أصول الفقه ، تحقيق عبد الله النبالى وبشير أحمد العمري ، دار البشائر الإسلامية بيروت1417هـ- 1996م، 1/ 110-113
(22 ) الشافعى : الرسالة 23-24
( 23) آل تيمية : المسودة ص 498
( 24) الجوينى : البرهان 1/95-96
(25 ) هو علي بن عقيل بن محمد بن عقيل عالم العراق وشيخ الحنابلة، وله كتاب الفنون، والواضح في أصول الفقه ولد سنة 431 توفي سنة 513هـ ، انظر الزركلى: الأعلام 4/313
(26 ) آل تيمية : المسودة 1/500