المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكون المادي : هذا البيت المُعَـدْ



سليم يوسف على
09-16-2008, 06:08 AM
الكون المادي : هذا البيت المُعَـدْ
سليم يوسف هابيل
إن العلم الغربي منذ بدايته الحقيقية في عصر النهضة الأوروبية على يد جاليليو وبيكون قد أخذ يبتعد شيئاً فشيئاً عن الإيمان بخالق لهذا الكون ومدبر لأموره.
وانتهى الأمر بهذا العلم إلى جعل حقيقة الكون المادي كامنة فيه وإلى نفي أي صلة له بعالم غيبي آخر ، وذلك رغم تعمق هذا العلم بجميع فروعه – من فلك وفيزياء وأحياء وكيمياء ... الخ-في دراسة تفاصيل هذا العالم المادي والكشف عن وجوه النظام الدقيق الذي يحكمه ابتداءً من الذرة وحتى المجرات العملاقة .
وأصبح العالٍم المقتدر المتمكن في أحد فروع العلم المادي لا يتحرج في القول بأن هذا الكون قد خلق بالمصادفة ، واستمر في الوجود بالتطور والانتخاب الطبيعي ، وصار ما يثير حرجه بل وخجله هو ذكر كلمة ( الإله الخالق) في سياق الحديث عن العالم والكون .
أما علماء الإسلام على مدار التاريخ ونظراً لسلامة تفكيرهم المبني على الفطرة الصحيحة وعلى الوحي المنزل فقد كانت عقيدة ( الإله الخالق القادر المدبر الحكيم ) تحتل مكان المركز من كل نشاطهم العلمي .
لقد انبهروا بالنظام الدقيق الذي يحكم العالم المادي ، ورأوا فيه دليلاً ساطعاً على وجود الله سبحانه وتعالي .
ذات يوم جاء قوم من الدهرية ( أي الملا حدة ) إلى الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان يجادلونه بغلظة فقال لهم : أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم ، فقالوا له هات ، فقال : ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستويةً ، ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز ذلك في العقل ؟
قالوا : لا ، هذا شيء لا يقبله العقل ، فقال أبو حنيفة :
يا سبحان الله ! إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد
ولا مجرى فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ؟
وسأل جماعة الإمامَ الشافعي رضي الله عنه :ما الدليل على وجود الصانع ؟ فقال : ورقة الفرصاد ؛ طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم ؟ قالوا : نعم ، قال : فتأكلها دودة القز فيخرج منها الأبريسم ، والنحل فيخرج منها العسل ، والشاة فيخرج منها البعر ، وتأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك ، فمن ذا الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد ؟
واحتج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بقلعة حصينة ، ملساء لا فرجة فيها ، ظاهرها كالفضة المذابة ، وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فلابد من الفاعل ، أراد بالقلعة البيضة وبالحيوان الفرخ .
وعلى الرغم من سيطرة النظرة المادية ( والتي تقود حتماً إلى الإلحاد ) على العلم الحديث فإنه تظهر بين الحين والآخر ، وكأنما على استحياء ، اتجاهات ونظرات تحاول إعادة فكرة الخالق إلى المنظور العلمي للكون .
ومن هذه الاتجاهات ، اتجاه ظهر منذ أوائل القرن العشرين يرى أن الكون المادي بمكوناته ومركباته وابتداءً من لحظة نشأته ، قد أعد بدقة لاستقبال الإنسان ، ويعرف هذا الاتجاه باسم المبدأ الإنساني The Anthropic Principle أي أن الإنسان هو الهدف من الخليقة وإن الكون المادي لم يخلق إلا من أجله .
ويتعلــــــــق بهـــــــــــذا الاتجـــــــــاه اتجاه آخـــــــــــر وهــــــــو مفهوم ( الكون المضبوط بدقة The Fine Tuned Universe والذي يقول أن جميع مكونات الكون الفيزيائي قد ضبطت بدقة تامة لتجعل ظهور الحياة الإنسانية ممكناً فيه وابتدءاً من نقطة زمنية معينة .
ولا يخفى على القارئ الكريم ما يلاقيه مثل هذا الاتجاه من عداء من قبل أصحاب النظرة العلمية المادية الذين يسعون جاهدين لفصل الكون المادي عن أي بعد غيبي وإلى جعله مجرد كتلة مادية صماء تعوم في الفضاء ، ظهرت بالمصادفة واستمرت في البقاء بفعل قوانين مادية نابعة من طبيعة المادة نفسها .
ولنعد أخيراً إلى علماءنا الأوائل وكيف استطاعوا أن يعبروا بدقة عن الحقائق العليا الخاصة بالإنسان والكون ، فهذا الجاحظ ( 255-163 هجرى) مثلاً يتحدث عن العالم المادي وكأنه يتكلم بلسان أصحاب اتجاهي المبدأ الإنساني والكون المضبوط بدقة والمشار إليهما آنفاً فيقول:
(( إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المُعد فيه كل ما يُحتاج إليه ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه ، وضروب النبات مهيأة لمنافعه وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحه ، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ( أورد هذه الفقرة الإمام الرازي في سياق تفسيره للآية 22 من سورة البقرة دون أن يشير إلى موضعها في مؤلفات الجاحظ ) . فليتأمل القارئ الكريم معي دقة تعبير أديب العربية العظيم ، وليتذكر أن هذا الكلام الطلي العميق قد كتب منذ حوالي ألف ومائة عام .
وهكذا قامت حضارتنا على الإيمان بالله ، ودارت مؤلفات علماءنا على هذا الإيمان دون حرج أو ضيق صدر ، بل بتسليم وحسن توكل وتواضع أمام علم الله وقدرته ، والدليل على ذلك أن الجاحظ بعد كلامه الدقيق والمتين مبنىً ومعنىً والذي نقلناه سابقاً يختمه بقوله : واللــه أعلــم .