حازم
04-19-2005, 12:54 PM
بقلم : سليمان الخراشى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده :
كنت قد كتبت قبل حوالي ثلاث سنوات رسالة مطولة عن فكر وأدب تركي الحمد، ولكن لم يتيسر طبعها في حينه، إنما وجدتْ الانتشار –ولله الحمد- على شبكة الإنترنت بناء على طلبٍ من إخوة كرام رأوا في ذلك حلاً مؤقتاً للتصدي لانحرافات هذا الرجل. ثم بعد ذلك اقترح البعض أن تُخْتصر تلك الدراسة ويُكتفى منها بما ذكرته عن "ثلاثيته" لسببين وجيهين؛ هما:
1- أن "ثلاثيته" هي سبب شهرته بين الناس، ولولاها لما راح ولا جاء.
2- أن تأثير القصص في الناس أشد من تأثير المقالات الفكرية التي يعسر فهمها على كثيرين.
لهذا قمت بالاقتصار في هذه الرسالة على الحديث عن "الثلاثية" وما فيها من مضامين خطيرة يُسْتغرب صدروها من رجل يدعي الإسلام.
أما فكر الرجل ففي ظني أنه لا يستحق مزيدًا من الاهتمام؛ لعدم ثباته على مبدأ واحد، بل هو يتقلب تقلب الليل والنهار! فبينا تراه بعثياً يعلي قيمة الفكر الاشتراكي، إذا بك تجده بعدها مفكرًا قومياً، ثم تفاجأ به عن قريب قد انقلب كاتباً ليبرالياً ! ثم رابعةً كاتباً نفعيًا يدور مع مصلحته الخاصة.. وهكذا؛ فهو كما قيل:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعـدناني!
والله يقول عن أصحاب هذا التلون والتردد: "مذبذبين" لا يثبتون على رأي بل يدورون مع أهوائهم.
والملاحظ في كتابات الدكتور تركي الحمد –هداه الله- استكباره عن الحق، ومراغمته لأهله، ورضاه بأن يتقلب بين تلك المذاهب والمبادئ دون أن يكون لدعوة الكتاب والسنة نصيب من ذلك.
ومن يتأمل تلك الكتابات يجدها تدور حول هذه الأفكار التي تتردد عنده كثيراً:
أولها: تشنيعه على العاملين للإسلام في هذا الزمان، وتسميتهم –ظلماً وزورًا- "بالإسلامويين"، ومحاولة إقامة الحاجز بينهم وبين عامة المسلمين. وتصويرهم بأنهم لا يمثلون الإسلام الصحيح. وكان الأولى به أن يعترف بفضلهم وبجهودهم ويشكرها لهم، ويقبل ما عندهم من الحق. أما ما خالفوا فيه الكتاب والسنة فيُرَدُّ عليهم.
ثانيها : ادعاؤه المتكرر بأن الحق المطلق لا يمتلكه أحد! وهذا –في ظني- من تأثير "الذبذبة" التي لازمت مواقفه. لأن هذا التنقل بين أهواء البشر أورثه شكاً فيها جميعاً، بعد أن خبرها وعرف المآخذ عليها. ثم نظر إلى دعوة الكتاب والسنة نظرته لتلك الأهواء ([1])!
ثالثها: أنه يخلط بين أمر "الدين" وأمر "الدنيا"، فمن كان متقدمًا في أموره "الدنيوية" كان عند الحمد المقدَّم في جميع الأمور ! وأصبحت "ثقافته" أو "حضارته" أولى بأن تحتذى من الآخرين.
وهذا الخلط جعله يهوي في دركات الضلال عندما فضل الثقافات الأخرى على دين "الإسلام" وإن كان يستر هذا الأمر العظيم بعدم استعماله كلمة "الإسلام" عند المفاضلة !
معارضاً بهذا حكم الله تعالى في قوله (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وأنه تعالى قد ارتضى هذا الدين لعباده. وختم رسله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكتبه بالقرآن فمن ارتضى غير ذلك فهو لا شك من أكفر الكافرين.
أما تخلف المسلمين في أمر الدنيا فلا شأن للإسلام به، إنما هو من عند أنفسهم عندما انصرفوا عن الأخذ بأسباب العلم والقوة وغرقوا في الخرافات والخزعبلات؛ حتى فاتهم الدين الصحيح والدنيا المتقدمة، إلا من رحم الله.
فأمر الدنيا كلأٌ مباح لجميع البشر؛ كما قال تعالى: (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً). فمن بذل أسبابها حصّلها بإذن الله، ولهذا تجد المتقدمين دنيوياً في عالمنا أصحاب أديان ومشارب شتى لا يختص الأمر بدين أو ثقافة محددة.
وليعلم الحمد بعد هذا أن التقدم الدنيوي لا يغني عند الله شيئاً ما لم يقترن ذلك بالدين الصحيح، وقد أهلك سبحانه كثيرًا من الأمم السابقة التي أعرضت عن الحق وكفرت به مع إخباره عنها بأنها قد بلغت شأناً عظيماً في أمور الدنيا. قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم).
الخلاصة: أن من أراد دراسة فكر الرجل ورغب في الرد عليه فلعله لا يغفل عن هذه الأمور الثلاثة التي ذكرتها، وهي ما يمثل معالم فكره .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (أجمعين) .
تعريف بتركي الحمد (1)
هو : تركي حمد التركي الحمد ، المشهور بـ( تركي الحمد ) من أسرة قصيمية انتقلت إلى المنطقة الشرقية ، وسكنت الدمام ، وكان والده يعمل في شركة (أرامكو ) .
ـ من مواليد 10 /3/1952م الأردن ، الكرك " العقيلات " .
ـ درس الإبتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الدمام .
ـ حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة الرياض عام 1975م .
ـ ثم سافر إلى الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات كاملة ! حصل منها على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة ( كلورادو ) عام 1979م .
ـ ثم حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية ـ أيضاً ـ عام 1985م ، من جامعة جنوب كاليفورنيا .
ـ عمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الملك سعود منذ عام 1985م إلى عام 1995م.
ـ ثم طلب التقاعد المبكر ليتفرغ للكتابة. !(2)
مؤلفاته :
1- الحركات الثورية المقارنة عام 1986 م
2- دراسات أيدلوجية في الحالة العربية عام 1992م
3- الثقافة العربية أمام تحديات التغيير عام 1993م
4- عن الإنسان أتحدث 1995م
5- رواية ثلاثية بعنوان (أطياف الأزقة المهجورة )
أ ـ العدامة .
ب ـ الشميسي .
ج ـ الكراديب .
6- كتاب ( الثقافة العربية في عصر العولمة ) .
7- رواية بعنوان ( شرق الوادي ) (3)
8- السياسة بين الحلال والحرام، (مجموعة مقالات).
- له العديد من المشاركات الصحفية عبر المقالات ، كمقالاته الأسبوعية في جريدة الشرق الأوسط ، أو مقالاته في جريدة الحياة ، أو مجلة الاتصال، وغيرها من المجلات السعودية وغير السعودية .
ثلاثية تركي الحمد
ثلاثية تر كي الحمد تسمى ( أطياف الأزقة المهجورة ) وهي من ثلاث حلقات متسلسلة تحكي قصة بطل واحد هو ( هشام العابر ) .
الحلقة الأولى : بعنوان ( العدامة )([3])
الحلقة الثانية : بعنوان ( الشميسي )([4])
الحلقة الثالثة : بعنوان ( الكراديب )([5])
1 ـ العدامة :
بطل هذه الثلاثية هو ( هشام بن إبراهيم العابر ) شاب صغير السن يعيش مع والديه في مدينة الدمام في فترة الثمانينات الهجرية . وأما اصلهم فيعود إلى القصيم! .
وكان هذا الفتى الصغير مولعًا بالقراءة ومتابعة مايدور حوله من أحداث وأفكار في تلك الفترة الصاخبة بالشعارات ، فاعتنق لأجل هذا الفكر القومي الماركسي الذي كان متوهجاً ساحراً لكل متفتح على الحياة ، لا سيما بعد نجاح هذا الفكر ( على اختلاف درجاته ) في الاستيلاء على البلاد العربية، مما زاد من رصيد معتنقيه الذين رأوا فيه خير موحد للأمة العربية التي مزقها الاستعمار .
لهذا : اعتنق هشام هذا الفكر وآمن به ، ثم استطاع أفراد تنظيم ( حزب البعث بالسعودية !! ) أن يضموه إليهم كعضو جديد في الحزب بعدما أعجبوا به وبأفكاره .
استمر هشام يحضر اجتماعات الحزب ( السرية ) ، ويشارك في نقاشاتهم وفي إعداد التقارير لهم عن الأحوال السياسية الجارية .
كما أنه استطاع أن يضم صديقه ( عدنان العلي ) إلى هذا الحزب ، إلا أنه برغم كل هذا يود التخلص من الارتباط بعضوية الحزب ، مع البقاء على أفكاره دون أن يشعر بأي تقييد .
سافر هشام إلى الرياض لتقديم أوراقه إلى كلية التجارة مؤملاً أن يدرس شيئاً عن الأفكار والأنظمة السياسية المختلفة . فاضطر للسكن في بيت خاله (المتدين ) .
كان أولاد خاله يختلفون عنه كثيراً في أسلوب حياتهم وطريقة عيشهم ، حيث كانوا مقبلين على اللهو والتمتع بالحياة، ولم تكن الأفكار الفلسفية والأحداث السياسية تستهويهم لا سيما ( عبدالرحمن ) الذي تميز عنهم بحبه للمغامرات (النسائية) مع شربه للخمر ( أو العَرَق ) .
تغيرت أحوال هشام بسبب ابن خاله عبدالرحمن الذي أغراه بالتمتع بشبابه ومعاقرة الخمر والنساء، فانساق هشام معه تدريجياً إلى أن سقطت جميع المثل التي كان يراها في السابق من عينيه بفضل رعاية والديه له في الدمام . فأقبل على حياته الجديدة بنهم شديد وبعلاقات نسائية متتالية .
كان هشام قد سافر من قبل مع أهله إلى بلدهم الأصلي ( القصيم ) لزيارة جده وجدته .
وهناك تعرف هشام على (عبد المحسن التغيري ) الذي عرَّف هشاماً على بقية زملائه من خلال ( كشتات ) البر . وهم ( محمد الغبيرة ) و( دعيس الدعيس ) و(سليم السنور ) و ( صالح الطرثوث ) و( مهنا الطعيري ) وكانوا جميعاً من المهووسين بجمال عبد الناصر وبقوميته لا سيما ( مهنا الطعيري ) .
عاد هشام إلى الدمام مواصلاً ترقب أخبار الاعتقالات التي حدثت لأفراد الحزب والأحزاب والتنظيمات الأخرى المعارضة ( للحكومة السعودية ) ومواصلاً أيضاً غزله المتبادل مع بنت الجيران ( نورة ) .
وبهذا انتهت الرواية الأولى من ثلاثية تركي الحمد .
لتبدأ بعدها أحداث الرواية الثانية ( الشميسي ) .
2 ـ الشميسي :
تكاد تكون أحداث رواية الشميسي مخصصة لحال هشام في مدينة الرياض، وهذا مايوحي به اسمها ( الشميسي ) الذي هو اسم شارع شهير في مدينة الرياض .
سجل هشام في كلية التجارة وانتقل إلى السكن عند خاله في الرياض ، وكثرت ملابسته للمحرمات من شراب ونساء بواسطة ( عبد الرحمن ) ابن خاله.
ثم ارتبط بعلاقة غير شرعية مع جارة خاله ( سارة ) أو ( سوير ) وأصبح يتردد عليها .
تفاجأ هشام بالتزام صديقه عدنان ، الذي اختار سبيل الخير مسلكاً له وارتبط مع شباب صالحين أثناء قدومه للدراسة الجامعية في الرياض ـ أيضاً ـ.
انتقل هشام للسكن في عزبة مع ( عبد المحسن التغيري ) الذي قدم الرياض من القصيم لكي يأخذ ـ أي هشام ـ حريته الكافية التي كانت مقيدة نوعاً ما في منـزل خاله .
انتهت امتحانات نصف العام فذهب هشام إلى الدمام لزيارة أهله مواصلاً علاقته العاطفية مع ( نورة ) بنت الجيران بعد أن علم بزواجها .
رجع هشام إلى الرياض مواصلاً ـ أيضاً ـ مغامراته النسائية لا سيما مع (سوير ) التي حملت منه !
جاء والده فجأة لزيارة الرياض لإخباره بأنه مطلوب من قبل رجال الأمن (المباحث ) .
وبعد أخذ ورد قرر الوالد إخفاءه عن أعين الأمن عند أحد زملائه إلى حين استصدار جواز مزور له لكي يتمكن من الهرب إلى بيروت([6]) عن طريق البحرين ، ولكن رجال الأمن كانوا له بالمرصاد حيث قبضوا عليه وحققوا معه ثم قرروا ترحيله إلى جدة لمواصلة التحقيق ( الجاد ! ) معه .
بهذا الحدث انتهت رواية الشميسي وهي الحلقة الثانية من ثلاثية تركي الحمد ، لتبدأ بعدها أحداث الحلقة الأخيرة من الثلاثية وهي رواية ( الكراديب).
3ـ الكراديب :
هذه الرواية مخصصة لبيان أحوال هشام في السجن في جدة بعد أن حُقق معه ولكنه أبى الاعتراف بانتسابه إلى تنظيم ( حزب البعث ) ، فقرروا أن يلبث في السجن إلى حين ، حيث تعرف من خلال السجن على الشيوعي ( عارف)، فبدأت بينهما نقاشات حول أفكار بعضهما مع شد وجذب ، لأن كل واحد منهما يؤيد فكرته لتصحيح الأوضاع.
اعترف هشام بما يريده السجانون فنقلوه من مكانه إلى مكان آخر أفضل منه. حيث تعرف ـ أيضاً ـ على ( وليد ) الذي يؤمن بالقومية كحل لأفراد الأمة ، و (عبد الله ) الذي ينتمي إلى ( الجبهة الديمقراطية ) وهي جبهة منفصلة عن حزب البعث ، ( ولقمان ) الذي ينتسب إلى الإخوان المسلمين ! .
استمرت النقاشات بين هؤلاء الأربعة ، وكلٌ منهم يحاول أن يبين صحة نظرة واختياره هذا المسلك الذي سلكه ، وارتضاه دون غيره .
بعد مدة من الزمن تم الافراج عن هشام الذي عاد فوراً إلى الدمام ، ولكنه وجد كل شيء حوله قد تغير ولم يعد يحمل ذكرى الماضي لا سيما وأبوه قد انتقل إلى بيتٍ جديد بدل بيتهم القديم الذي عاش فيه سنيه الأولى .
بعد أخذ ورد قرر أهله أن يعود إلى مواصلة دراسته في الرياض ، فعاد إليها مندهشاً لمدى تغيرها عن عهده القديم بها ، في مبانيها وفي أفرادها ( وهو ينظر بعينين فقدتا بريقهما ، إلى أزقة كانت مأهولة ، فلم تعد إلا أزقة مهجورة تجوبها أطياف لاحياة فيها ، ولكنها لا تريد أن تموت ) ([7])، وبهذا انتهت أحداث الحلقة الأخيرة من ثلاثية تركي الحمد .
ملامح بطل الثلاثية : هشام العابر :
لنتبين ملامح ( هشام العابر ـ أو تركي الحمد ) في هذه الرواية سأقتطف بعض العبارات من الثلاثية تُكون لنا صورة متكاملة لشخصيته (صفاته وطموحاته):
1ـ هو شاب يحب القراءة : لاسيما قراءة الكتب ( المحرَّمة ) الفلسفية والماركسية .
( لقد خرج إلى الدنيا وهو لا يعرف إلا هواية واحدة ، ولذة واحدة هي القراءة، ويقرأ أي شيء ، وكل شيء تقع عليه يده ) ([8])
( أخذت القراءات الفلسفية والسياسية تجذبه كثيراً منذ أن أهداه أحد أصدقاء والده كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد " لعبد الرحمن الكواكبي ، حتى أنه كان يقضي ليالي بطولها في قراءة النصوص الماركسية والقومية والوجودية وغيرها من التيارات الفلسفية والسياسية مما تقع عليه يده في المكتبات المحلية ، أو يحصل عليه مما هو غير متاح في المكتبات ) ([9])
( في المرحلة الثانوية أهمل الدراسة إهمالاً تاماً ، ولولا خشيته من جرح كبرياء والده وقلب أمه لما درس إطلاقاً ، وتفرغ لعالمه الجديد من القراءة واكتشاف النصوص المحرمة )([10])
( لم تعد الكتب المتوفرة في المكتبات المحلية ترضي شغفه بالعالم الجديد الذي اكتشف ، فكان في كل رحلة مع والديه إلى الدول المجاورة ، الأردن أو سوريا ولبنان يجلب معه بعضاً من تلك الكتب الممنوعة والمحرمة ، والتي تكون زاده المعرفي طوال الفترة اللاحقة ) ([11]) .
( كان ينفق كل مصروفه على الكتب الماركسية غير المتاحة في بلده ، وخاصة مؤلفات آرنستوتشي غيفارا ، وريجس دوبريه ، وفرانز فانون ، بالإضافة إلى مؤلفات ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين وترو تسكي وستالين ، التي تشكل الزاد الفكري الرئيسي .أما ما كان يهزه من الداخل فعلاً ، فقد كانت مؤلفات غيفارا التي كانت تدغدغ شيئاً ما داخل ذاته . كانت هذه الكتب ، بالإضافة إلى الأعمال الأدبية والروائية العالمية الخالدة ، تباع بأرخص الأسعار على أرصفة الشوراع في عمان ودمشق وبيروت ، وعلى عربات أشبه بعربات الخضار . التهم خلال رحلاته ، وبعد العودة ، كل روايات مكسيم غوركي خاصة ، وأهم الروايات الخالدة في الأدب الروسي عامة . قرأ " آنا كرنينا " و " البعث " لليو تولستوي ، " والجريمة والعقاب " "والأخوة كارامازوف " لفيدور دوستويفسكي ، و"الدون الهاديء" لميخائيل تشولوكوف . وقد أثارت فيه رواية " الأم " لغوركي أحاسيس وانفعالات عنيفة متداخلة ، من الغضب إلى الحماس إلى البكاء إلى العطف إلى القسوة إلى الرقة ، مما جعله يعيد قراءتها مرات ومرات. بكى عدة مرات مع العم توم في كوخه ، وعاش مع لانغ وزوجته في أرضهما الطيبة ، وتعاطف كثيراً مع مدام بوفاري بنفس القدر الذي حنق فيه على سكارليت أوهايرا . وكان يختلس لحظات طويلة يقرأ فيها ألبرتو مورافيا وبلزاك واميل زولا ، لا حباً في ذات هذه الأعمال دائماً ، ولكن بحثاً عن مشهد جنسي هنا ، أو وصف لعلاقة حميمة هناك ويتصور في لحظة حلم يقظة أنه البطل في كل هذه العلاقات. أما ذلك الوصف الأخاذ للحياة الاجتماعية في هذه الأعمال ، فلم يكن يهمه كثيراً ، إذ كان يعتقد أن الأدب الروسي لا يعلى عليه في هذا المجال كما قرأ بعض روايات تشارلز ديكنز ، وأعجبته خاصة " قصة مدينتين " ، التي اعتبراها ، مع " الأم" أفضل أعمال يمكن كتابتها . كان ينفق مصروفه على هذه الكتب ) ([12]).
2ـ هو يريد أن يكون مفكراً طليقاً ، لا يتقيد بأي دين أو مذهب سوى (العلم!) .
( يذكر ذات مرة أنه دخل في مجادلة مع مدرس الدين حول نظرية النشوء والإرتقاء لدارون ، حين شتم هذا المدرس النظرية واصفاً إياها بالفكر والإلحاد ، وشتم صاحبها واصفاً إياه باليهودية والمؤامرة اليهودية على الإسلام والمسلمين . يذكر يومها أنه قال للمدرس إن هذه النظرية إنتاج علمي ، والعلم هو سيد العصر شئنا أم أبينا . قد يخطىء دارون وقد يصيب بشأن أصل الإنسان وأصل الأنواع ولكن التطور حقيقة تفرض نفسها ، كما أن دارون ليس يهودياً لا أباً ولا أماً . يومها اتخذ منه مدرس الدين موقفاً عدائياً ، واصبح لا يناديه إلا بالفاسق . ولكن ذلك لم يكن يهمه كثيراً بل لم يكن يهمه على الإطلاق، مع ذلك الحماس وذلك الإنطلاق الذي وجده في عالمه الجديد )([13]).
( أريد أن أكون مفكراً طليقاً ، لا مناضلاً سياسياً في تنظيم ) ([14]).
3ـ هو ماركسي المذهب ، ليس كالماركسيين ، بل يحب المزج بين الماركسية والقومية العربية :
( أعجبته كتابات ياسين الحافظ وكذلك المنطلقات ، إذ وجد فيها مزيجاً أخاذاً ومثيراً من الماركسية والقومية . وجد فيها شيئاً كان يشعر أنه ينقص الكتابات الماركسية التي قرأ ، وكذلك الكتابات القومية على اختلافها . فقد سبق له أن قرأ " في سبيل البعث" لميشيل عفلق ، وبعض كتابات منيف الرزاز وصلاح البيطار ، والكتابات الناصرية القليلة مثل فلسفة الثورة ، لجمال عبد الناصر ، وكتابات أنور السادات حول ثورة يوليو وعبد الناصر ، وكذلك " بصراحة " محمد حسنين هيكل التي ينشرها في جريدة الأهرام كل يوم جمعة ، ويستمع إليها من خلال إذاعة "صوت العرب " من القاهرة ، فقد كانت الأهرام ممنوعة من الدخول في بلده . كانت الكتابات الماركسية تركز على المسألة الاجتماعية والأممية ، وبقدر ما كان متحمساً للمسألة الاجتماعية ومؤمناً بها ، بقدر ما كان متردداً بشأن المسألة الأممية .إنه يشعر أنه قومي حتى النخاع ، والقومية تسري في عروقه . وتهزه خطابات جمال عبد الناصر ، وتثمله الشعارات القومية التي يطلقها البعثيون والناصريون والقوميون العرب . لكن رغم ذلك ، كان يحس أن هنالك شيئأ ناقصاً ، كان يشعر أن هؤلاء لم يعطوا المسألة الاجتماعية حقها من الإهتمام، وخاصة قضايا مثل الصراع الطبقي والإشتراكية العلمية والحتمية التاريخية . ولذلك اعتقد أن الفكر الماركسي ، رغم بعض التحفظات ، هو الذي من الممكن أن ينير الطريق ويعطي فلسفة متكاملة للحياة . أعجبته كتابات الحافظ والمنطلقات لأنها تمزج المسألة القومية بالإجتماعية . جامعة ما يشعر بميل إليه في فلسفة واحدة )([15])
( لا تعجبني أفكار عفلق والبيطار والرزاز . أعتقد أنها عاطفية أكثر من اللزوم ، رغم إيماني بإطارها العام . نحن بحاجة إلى فلسفة متكاملة . وأعتقد أن الماركسية هي الحل رغم النواقص التي من الممكن إكمالها ) ([16])
( إذا كان ما في المنطلقات هو فكر البعث ، فإني أجد نفسي فيه ، فهو يمزج القومية بالماركسية . . . وهذه هي قناعاتي ) ([17])
( أحس بالهلع والنفور من كل ما يمت إلى التنظيم وفكره بصلة . وبقيت علاقته الحميمية بالماركسية )([18])
هو يتبنى فكراً ماركسياً لا يعتقد بدور البطل في التاريخ ، بل هي التناقضات المادية والاجتماعية التحتية ، وانعكاساتها الفوقية السياسية والثقافية)([19])
( الماركسية . . . هي الفكر العلمي الشامل القادر على منحنا مفاتيح التاريخ والمجتمع والسياسة ، ومن لديه هذه المفاتيح لا خوف عليه ولا هو يحزن ) ([20])
( الحقيقة أني ميال إلى الفكر الماركسي )([21])
( سوف يتعلم الماركسية على أصولها )([22])
( من قال لك إني شيوعي ؟ . . . أنا اشتراكي )([23]) .
( أنا أميل إلى الماركسية ، ولكني لست شيوعياً )([24]).
ولكن هشاماً برغم هذا الحسم (الماركسي) لتوجهه إلا أنه بقي متردداً متحيراً في أمره تصارعه أفكار شتى حول هذا الكون ، وخالقه ، وأحداثه ، مما لم يستطع أن يستوعبه فأصبح ينادي بتفاهة هذه الحياة وأهلها ، وعبثية أحداثها وأقدارها ، مع ترقب وتوجس لهجوم الموت (الغادر!) عليه :
(ليست الحياة إلا حفلة ماجنة يُدخن فيها الحشيش ويؤكل الخبز مغموساً بالنبيذ والعرق الراشح من أجساد أدمنت الجنس ، وأدماها الهوى ، ومزقت نفسها بوحشة أخلاقية .نحاول أن نضفي المثال والجمال على هذه الحفلة العابثة ، ولكن كل شىء ينكشف ولو بعد حين ، وتقف الحقيقة عارية من جديد ، كما ولدت عارية من قديم … العدم يقف بالمرصاد ، والمجهول يتربص من بعيد ، والعجز يقيد المجتمع ) ([25])
(الموت قادم لا محالة .. إنه مصير ملموس ، وليس كمصير الأمة أو الطبقة، مشكوك فيه بقدر ما هو مشكوك في الأمة والطبقة ذاتهما . فلماذا الإحتياط ، ولماذا الخوف ؟ … ولماذا هذه اللعبة السمجة ، لعبة القط والفأر … ما نحن إلا ممثلون في مسرحية ، وسواء طال دور أحدنا في هذه المسرحية أم قصر ، فإنه لايلبث أن ينتهي ، وتنتهي كل المسرحية في النهاية …
ثم بعد تردد طفيف .
ـ ولو كان لي من الأمر شيئاً ([26]) في البداية ، لما اخترت الاشتراك في المسرحية من الأساس )([27]).
( هل ما يجري هو حكمة خافية لاندريها ، أو أنه مجرد عبث اعتدنا عليه فأصبح نظاماً ، أم هو مزيج منهما ، أم لا هذا ولا ذاك ؟ أين المعنى في كل ذلك وما هو النظام ؟ لا أحد يدري ، ولن يدري أحد )([28]).
( يالهذا الموت الجبان الغادر … إنه يأخذ أجمل ما في الحياة ويضحك ويهجرنا حين نريده ، ويحل ضيفاً ثقيلاً حين لانريده … ليت موسى لم يفقأ عين عزرائيل حين أتى لقبض روحه ، ولكنه قصم ظهره أو دق عنقه … ولكن حتى لو مات عزرائيل ، هل يموت الموت ؟ ويقلع عن أفكاره هذه ويقتنع بأهمية الموت لا ستمرار الحياة ، ولكنه يكرهه ، ولا زال يعتقد بجبنه وغدره )([29]).
(عليك الرحمة ياابن آدم . ظننت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة وأحقر من بعوضة، يا لك من معتوه يا ابن آدم ، أردت أن تكون إنساناً كما أراد لك من أنسنك ، ولكنك وجدت نفسك في عالم تداس فيه كصرصار تائه ، وتسحق فيه كذبابة وقحة ) ([30]).
قلت : هذه أبرز ملامح (هشام العابر) : فهو يحب القراءة منذ صغره في الكتب (المحرّمة) الفلسفية والماركسية ، التي كانت ممنوعة ـ لضررها ـ في بلاده (السعودية) ولهذا كان يحرص على تحصيلها من عدة منافذ .
ولأجل قراءته هذه فقد تعلق قلبه بالفكر الماركسي والفكر القومي الذي كان عالياً صوته شديداً هيجانه في تلك الفترة ، فحاول أن يمزج بين (القومية والماركسية) متأثراً ببعض قيادات ومنظري (حزب البعث) .
ولأجل هذا انضم (هشام) ـ على كرهٍ وتمنع ـ إلى هذا الحزب ، لأنه يود أن يكون مفكراً طليقاً ، بدلاً من حصره في صرامة التنظيمات .
وكانت نظرته إلى الحياة سوداوية تشاؤمية ، لأنه لم يعرف لها هدفاً ، ولم يفقه حكمة الله من خلقها ، وجعل الخلق يتوارثونها ، لم يعد يرى منها سوى أنها حياة لا قيمة لها ، تجري أحداثها وأقدارها بعبثٍ لا حكمة فيه .
ويتضح بعد هذا الموجز عن هشام العابر (أو تركي الحمد !) وأفكاره أن الحديث ـ دون تطويل ـ سيكون حول :
6 ـ بيان تنقص الحمد في ثلاثيته :
أ ـ لله .
ب ـ وملائكته .
جـ ـ وكتبه .
د ـ ورسله .
هـ ـ ودينه .
و ـ وعباده الصالحين .
7 ـ مباحث أخرى .
تركي الحمد يتنقص في ثلاثيته :
الله وملائكته وكتبه ورسله ودينه وعباده الصالحين
تنقص الحمد لله ـ عز وجل ـ :
لم يقدر تركي الحمد الله ـ عز وجل ـ حق قدره ولم يعظمه كما يعظمه عباده المؤمنون ، بل تحدث عنه في روايته وكأنه يتحدث عن بشرٍ مثله حديث الند للند بعبارة مملوءة بالتحدي والسخرية ـ والعياذ بالله ـ ، وإن كان قد أخفى أشدها بالأسلوب الرمزي الذي عهدناه من هذا الصنف من البشر عندما يخوضون في مثل هذه الأمور .
فالحمد جاء في روايته بلهجة غريبة شاذة عن أهل هذا المجتمع في حديثهم عن ربهم ـ سبحانه وتعالى ـ حيث تجرأ في ذلك بصورة وقحة فاجرة .
وهو مشابه في هذه الجرأة لتيار الحداثة في ديار المسلمين الذين كانوا أول من ترددت هذه الظاهرة ( الكفرية ) في أشعارهم وأحاديثهم ، حيث لم يتورعوا عن الحديث عن الله ـ عز وجل ـ بألفاظ سوقية بشرية ، فمن ذلك على سبيل المثال :
قول صلاح عبد الصبور في قصيدته ( الناس في بلادي )
( يا أيها الإله ،
كم أنت قاسٍ موحش
يا أيها الإله ) ([31]).
وقول الشاعر (الماركسي) البياتي :
( الله في مدينتي يبيعه اليهود
الله في مدينتي مشرّد طريد )([32]) !!
وقول معين بسيسو :
( وطرقت جميع الأبوا ب
أخفتني عاهرة
ووشى بي قديس
كان الله معي
لكن الله هناك
يدلي بشهادته .. في مركز بوليس ) ([33]) !!
وقول توفيق زياد :
( ومداخن الأفران
قائمة .. كآلهة المنايا )([34])!!
وقول محمود دريش :
( نرسم القدس
إلهً يتعرى فوق خطٍ داكن الخضرة
أشباه عصافير تهاجر ) ([35])!!
وهكذا .. في عبارات (كفرية) كثيرة تتناثر في أشعارهم القذرة ([36])
وفي ظني أن هذه الظاهرة السيئة قد وفدت إلى ديار المسلمين عبر شعراء اليهود والنصارى وكتابهم ، الذين تُرجمت أشعارهم وعباراتهم وكانت مصدراً رئيساً لشعراء المسلمين .
وأولئك اليهود والنصارى ـ كما هو معلوم ـ لا يعظمون الله حق تعظيمه ، ولا ينزهون اسمه عن لغوهم وباطلهم .
وسبب ذلك ـ والعلم عند الله ـ هو تأثرهم بما جاء في كتبهم الدينية المحرّفة (لا سيما التوراة) عند الحديث عن الله ـ عز وجل ـ وصفاته حيث تتحدث تلكم الكتب ( المقدسة !) عن الله وصفاته كحديثها عن الخلق وصفاتهم، فجعلوا ( المولى سبحانه وتعالى في صورة بشر حقود ، سريع الغضب، كثير الندم ) ([37]).
فمن ذلك قولهم في ( سفر التكوين ، الإصحاح الثاني ) عن الله ـ عز وجل ـ : ( وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله … )([38])!
ومن ذلك إخبارهم عن الله ـ عز وجل ـ بأن اليهود عندما تاهوا نزل الله ـ عز وجل ـ فهداهم إلى طريق الخروج ! (جاء في سفر الخروج "وارتحلوا من سكوت ، ونزلوا في إيثام في طرف البرية . وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق ، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم …)([39]).
ومن ذلك زعمهم أن الله يبكي ويلطم وجهه ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ ([40])وأنه ـ تعالى ـ يصارع يعقوب عليه السلام ـ ([41])!! وأنه ـ تعالى ـ اعترف بخطئه أمام كبير الأحبار([42])!! وأنه ـ تعالى ـ يندم ويحزن وينسى([43])!!
إلى آخر تلك الصفات السيئة التي ألصقها اليهود ـ لعنهم الله ـ برب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ
يقول الدكتور محمد البار بعد أن ذكر هذه الافتراءات :
(ومما تقدم نخلص إلى أن صفات الله سبحانه وتعالى في التوراة والتلمود ، لا يمكن أن تكون صفات الله خالق الأكوان ومدبرها .. بل لا يمكن أن تكون إلا من صفات أراذل البشر .
هذا قليل من كثير من هذه الافتراءات والغثاء والكذب ، والتجديف في وصف المولى سبحانه وتعالى .. والتوارة والعهد القديم والتلمود كلها مليئة بهذه الأوصاف المنكرة والسجايا الخبيثة التي لا يمكن أن يوصف بها إلا أحط البشر وأراذلهم ، فكيف يمكن أن يوصف بها المولى سبحانه وتعالى؟!)([44]) .
وقال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد أن أورد شيئاً من تلكم الأكاذيب :
(فهذه الأمثلة من أوضح الأدلة على التحريف ، فإن الله عز وجل موصوف بصفات الكمال المطلق وكل ما يشعر بالنقص فالله عز وجل منزه عنه، فتضمين اليهود كتابهم صفات تشعر بوصف الله بصفات لا تليق بمقام الألوهية والربوبية والكمال المطلق ، دليل واضح على التحريف والتبديل إذ لا يمكن أن يتضمن الكتاب الذي نزل من عند الله ما يطعن فيه جل وعلا .
وبأمثال هذه الافتراءات من قبل متقدميهم تجرأ متأخروهم على الافتراء على الله ، واعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله لا يعذبهم، وفي هذا يقول الله عز وجل: {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ([45])) ([46]).
قلت : فهذه العقيدة الفاسدة قد أخذها كتاب وشعراء أهل الكتاب من كتبهم ( المحرفة ) فأضحوا يرددونها في نثرهم وأشعارهم دون أي خوف أو خجل من رب العالمين ، لأن كتبهم ( المقدسة !) قد جرأتهم على نقل وترديد هذا الاستخفاف والطعن بربهم ـ عز وجل ـ وأسقطت هيبته من نفوسهم .
ثم جاء من بعدهم ( نصارى ) العرب ([47]) فنقلوا تلك العقيدة في كتاباتهم ونظمهم .
وعن هؤلاء الكفرة أخذها كتابنا وشعراؤنا الذين ( يدعون ) الإسلام ، فخاضوا فيها تقليدا لأولئك دون أن يعصمهم عن هذا الخوض المنكر رهبة من الله ـ عز وجل ـ
فأصبحنا نسمع ونقرأ عبارات لبعض الشعراء ( المسلمين ! ) تضاهي في كفرها عبارات اليهود والنصارى ، ويندى لها جبين المسلم الموحد ، ويأسى على حال إخوانه الذين تابعوا الكافرين في طعنهم برب العالمين ، مصداقاً لقولe في هذا الصنف " لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو القذة بالقذة . حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قيل : اليهود والنصارى ؟ قال e " فمن ؟ "([48]) أي ليس إلا هم .
وقد دخل شرذمة من كتابنا وشعرائنا هذا الجحر الذي أخبر عنه الرسولe بل زادوا عليه بأن طعنوا في خالقهم ـ عز وجل ـ متابعة لمن هم شر البرية ـ كما سبق
يقول الدكتور أنس داود في كتابه ( الاسطورة في الشعر العربي الحديث):
(لجأ شعراؤنا إلى الكتب المقدسة وبخاصة التوراة والإنجيل وقلما استفادوا من القرآن في هذا السبيل ، ربما لأنهم يعيشون في أمة إسلامية لا تستسيغ مثل هذه النظرة الفنية إلى أقدس مقدساتها الدينية ، ولأن الكتاب المقدس كان مصدر استلهام فني في الشعر الأوربي بمثل ما استلهم هؤلاء الشعراء أساطير الأقدمين . ولأن ثمة نسباً ـ كما نرى ـ بين كتاب كالتوراة ومجموعات الأساطير المتوارثة في قوة تصويرها لنوازع الإنسان ، وتجسيدها للأهواء البشرية حتى حين تتحدث عن الأنبياء لا تتحدث عنهم هذا الحديث المتطهر الذي تجده في القرآن ، بل نجد لديهم فيضاً من الغرائز ، وغلبة للشهوات أحياناً ولجوءً إلى الحيل والخديعة ، وغير ذلك مما نجده في الحديث عن داود وعن سليمان وغيرهما من الأنبياء مما يقربهم من الشخصيات الأسطورية في نوازعها الجارفة وسلوكها كل مسلك)
قلت : ثم جاء ( الحمد ) منضماً إلى هذا الركب ومتحدثاً في ثلاثيته عن ربه عز وجل بعبارات بشعه لا تصدر عن مؤمن فمن ذلك :
قوله على لسان هشام : (أراد أن يتحدث مع عارف ، لكنه فقد الرغبة في الحديث . الله ، الحتمية ، الجبرية ، العلم .. كلها أشياء يتعلق بقشة منها . يريد الخروج ، فمن يوفر له ذلك ، فهو الله)([49]).
وقوله عنه : (يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم) ([50]).
وقوله : (دائماً المستقبل الذي لا يجئ ، والتاريخ الذي لا نعيه ، والله الذي لا نراه، يقفون وراء كل شيء ، ويبررون كل شيء) ([51]).
وقوله : (واستسلم لحلم يقظة جميل … تصور نفسه من بني إسرائيل أو سام ، وود لو كان أسيره إلى الأبد . تصور أنه يوشع نفسه ، أو سوبرمان ذاته . قادر على إيقاف الزمن ذاته . لا شيخوخة ولا موت ولا ألم ولا … تحقيق . تصور أنه الله ذاته … ولم لا … ما فرقه عن الحلاج والسهروردي وابن العربي ؟ ([52]) نحن الله والله نحن … كانت تلك رسالة موسى والمسيح ومحمد ، ولكن أكثر الناس لا يدركون ، فجعلوه ابن الله إنه ذات الله الآن ، فماذا يفعل ؟ هل يجعل الكون أكثر راحه ، وينشر السعادة بين البشر ؟ ولكن … ما هي السعادة ؟ ! سعادة سقراط أم أفلاطون أم أرسطوا أم ديوجين أم أبقور أم زينون أم كونفيشيوس أم بوذا أم وأم ، وأم … جملة أمَّات لا نهاية لها . كالحياة ذاتها . ثم لو نشر السعادة وقضى على الألم ، فهل يكون للسعادة نقيض الشقاء أو نقيض الألم ، فكيف يمكن إدراك السعادة إذا ختفى الألم ؟ حتى الجنة بدت له عديمة اللذة في تلك اللحظة كما بدت جهنم عديمة الألم . الخمرة لا تسكر ذاتها ، والجمرة لا تحرق نفسها … البراز لا يتأذى من رائحة نفسه ، والفل لا يستمتع بريح ذاته . لابد من البراز لاكتشاف لذة الفلة ، ولا بد من الفلة لاكتشاف قذارة البراز . ولذلك كان هناك جنة ونار معاً ، الله وشيطان ، نبي وفرعون ، وكل في قدر يسبحون… تحقيق السعادة وحدها ، يعني توحيد الألوان . وعندما تتوحد الألوان ، تختفي … المعنى في الاختلاف ، والعماء في التجانس . مشكلة … وجود الحياة بشكلها الحالي مشكلة … وجعلها أجمل وأحلى وأعدل مشكلة، لم لا تكون ذات الحياة هي المشكلة ؟ لو كان ذات الله ، لألغى الحياة ذاتها . لألغى هذه المسرحية المملة ، وصرف ممثليها وألغى تلك الأدوار المقررة المعروفة . لا حرية مع الوجود ، فكل الحرية في العدم …) ([53]).
وقوله : (الله أعلم ! مسكينٌ أنت يالله … دائماً نُحَملك مانقوم به من أخطاء) ([54]).
وقوله على لسان ( الشيوعي ) عارف : (إن الانتحار هو تحد للإله نفسه .
ثم وهو يضحك بسرعة :
ـ هذا إن كان هناك إله … الانتحار يا صديقي يعني أني قد اخترت الجحيم ورفضت النعيم بملء إرادتي … فالنعيم الحق هو ما أختاره أنا ، لا ما يختاره لي ما ليس أنا … الجحيم هو النعيم حين أختاره أنا ، والنعيم هو الجحيم حينما بختاره غيري لي أنا .
ويضحك عارف مرة أخرى ، ثم يعتدل في جلسته ، وقد اتسعت عيناه ، وبرقت عينه السليمة ، وقال وهو ينظر إلى هشام وقد اكتسى وجهه بعلامات نصر ما :
ـ الانتحار نصر على الله . ففي الانتحار تفوت الفرصة على الله أن يختار لك مصيرك . فأنت تدخل النار بإرادتك حين تنتحر وتعلم أن مصيرك هو النار . ليس الله هو من أدخلك النار ، بل أنت من فعل …
وابتسم هشام وهو يقول :
ـ ولكن افرض أن الله أدخلك الجنة بالرغم من انتحارك ، ألا يكون قد فوت عليك الفرصة واختار لك بالرغم منك ؟
وضحك عارف بحبور وهو يقول :
ـ كلا … فإذا دخلت النار فبإرادتي ، وإذا أدخلني الله الجنة فأكون قد فرضت إرادتي عليه … لقد توعدني بالنار فيما لو انتحرت ، ولكنه أدخلني الجنة برغم الوعيد . لقد فرضت إرادتي عليه ، وجعلته يغير وعيده ، لقد أصبحت نداً له . أبعد هذا الانتصار انتصارا؟ …
ـ ولماذا لا يكون هو قَدَّر عليك الاختيار منذ البدء ؟
ـ أكون قد فضحت اللعبة كلها حينذاك .
وعاد عارف إلى الاسترخاء وهو يردد :
ـ الانتحار هو النصر النهائي على كافة أشكال السلطة وأنواعها) ([55]).
الحمد يصرف ( العبادة ) لغير الله :
ومن تنقصه لخالقه ـ عز وجل ـ أنه امتهن لفظ ( العبادة ) وجعلها في غير موضعها ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإنما جعلها في عبادة البشر بعضهم لبعض .
حيث قال على لسان ( عشيقته !) سويّر :
( أنا أعبدك يا هشام ، والعبد لا يشرك مع معبوده شيئاً .
وبدون هدف أو غاية أوقصد قال بشيء من المزاح ، وقد أحس بالزهو يسيطر عليه من الداخل :
ـ ولكن الشرك لا يكون إلا بالله . هو المعبود الوحيد .
وكنمرة متوحشة ، نظرت إليه بعينيها المبللتين ، وقد زادتا اتساعاً على اتساعهما ، وهي تقول :
ـ إذا أنت ربي … ترحمني وتعذبني .وكل شيء منك مقبول ومحمود .
ولم يستطع الإحتمال فعلاً ، فقال بتلقائية :
ـ أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم .
ردّد ذلك وشعور من الزهو وشيء لا يعرفه ، أشبه ما يكون بالذنب ، يمتزجان في داخله . كانت يدها قابضة على يده ، فمدَّ يده الأخرى وأخذ يربت على خدها ويتحسسه بلذَّة ، فيما ارتمت هي في أحضانه بعنف ، وأخذت تشمه بصوت مسموع ، وهي تردد :
ـ أحبُّك … أحبُّك يا هشام … أعشقك … أعبدك ) ([56]).
تنقص عظيم :
ومن تنقصه لله ـ عز وجل ـ
قوله متحدثاً عن هشام وهو يحلم في منامه :
( وأخذ يسير على غير هدى في الصحراء ، وقشعريرة البرد تستولي عليه . كل شيء يوحي أنه لا يسير ، رغم أنه يسير . النجوم هي النجوم ، والصحراء والظلام عديمة الأبعاد لا يريد أن تنجلي ، واختفت البداية ، وتلاشت النهاية، فلا يدري أهو يسير أم يهيأ له أنه يسير . ولاح له بصيص نور من بعيد ، وأحس بالفرح الغامر رغم أنه يعلم أنه يحلم . وأخذ يغذ السير ، فيما النور يزداد سطوعاً وتتعدد ألونه ، أخضر وأحمر و أصفر ، ويتخللها لون أزرق باهت . وأخيراً وصل إلى حيث النور ، ثم فجأة أشرقت الشمس وهي تضحك بشكل هستيري لم تكن ذات الشمس التي يعرف ، فقد كانت شديدة الحرارة عديمة النور ، فرغم سطوعها ، إلا أن الظلام الحالك ما زال سائداً . وأخذ دماغه يغلي من الحرارة الشديدة ، إلا أن جسمه كان يرتعش برداً ، وأخذت النجوم ترسل سهاماً فضية في كل مكان ، حيث تتكسر بصوت أقرب إلى الرنين على صخور لا يراها ، ولكنه يعلم أنها هناك .
وفي خضم كل ذلك ، كانت نسمات هواء منعش تأتي من واحة وارفة الظلال تنبعث منها تلك الأضواء التي رآها من بعيد .كانت محاطة بأسلاك شائكة من كل جوانبها ، فلم يستطع الدخول . وأخذ يحوم حولها ، حتى تبين له الباب من بعيد .أتجه إليه ، وأراد الدخول بعجلة ، إلا أنه في اللحظة تلك ، برز له شخص من حيث لا يدري ، يحمل سوطاً طويلاً ، وملامح غريبة ، فقد كان له وجه ثور ، في رأس وجسم بشريين ، له مخالب في يديه ورجليه أشبه بمخالب الكلب ، وفي مؤخرته يبرز ذيل لولبي أشبه بذيل الخنزير ، استوقفه هذا الكائن وهو يخور قائلاً :
ـ إلى أين أيها الإنسان ؟
ـ أريد المأوى والطعام والسلام … هل هذا كثير ؟
ـ وهل تعتقد أن الدخول بهذه البساطة ؟ … الواحة واحتي ، ولا يدخلها إلا من يدفع الثمن . وثمنها بخس جداً … قبول شروطي .
ـ واحتك ؟ … شروطك ؟ … من أعطاك إياها ؟
ـ قوتي هي من أعطاني إياها … إنها لي وحدي .
ـ القوة لا تصنع حقاً.
ـ الحاجة أساس الحق .
ـ ونخر الكائن الغريب ، ثم قال بنفاد صبر :
ـ قوتي هي الحق هنا ، وإن كنت في شك من ذلك ، فحاول الدخول رغماً عني.
ولم يجد بداً من الاستسلام ، فقد كانت الحرارة والبرودة والظلام والصحراء لا تطاق ، فقال :
ـ حسنا … وما هي شروطك ؟
وافتر وجه الكائن عن بسمة رضا واسعة ، وأخذ اللعاب اللزج يسيل من بين أسنانه الضخمة ، فيما تحول أنفه إلى اللون الأرجواني وهو يقول :
ـ الآن أصبحت عاقلاً وحكيماً .
ثم استطرد :
ـ ليس لي إلا شرط واحد لا غير … أن تطيعني في كل ما آمرك به ، ولك أن تتمتع بالماء والهواء والثمار والسلام .
ـ ياله من سعر باهظ !
ـ ويالها من ثمار طيبة !
ـ وإن رفضتُ؟
ـ ليس لك إلا الصحراء والجوع والعطش وكلاب الطريق .
ـ ولكني لا أستغني عن الحرية …
ـ ونخر الكائن مرة أخرى وهو يقول :
ـ الحرية … ماهي الحرية ؟ مجرد كلمة .
ـ ولكن في البدء كان الكلمة .
ـ وما نفع الكلمة مع الجوع والقلق .
ـ وما نفع الشبع والسكينة مع العبودية ؟
وأخذ الكائن ينخر ويهز سوطه في الهواء ، وهو يقول :
ـ دعك من هرائك هذا … أمامك خياران ، إما أن تقبل شرطي وتدخل واحتي ، أو أن تعود إلى الضياع في الصحراء .
وأخذ يفكر في الخيارين وهو يختلس النظرات إلى داخل الواحة لقد كانت مظلمة مثل الصحراء حوله ، رغم الألوان التي كانت تحيط بها ، وتلك الأضواء التي يراها من هو بعيد ، ولكنها تختفي حالما يصلها أحدهم . ومن الداخل كانت تتراءى أشباح أهل الواحة رغم الظلام … وجوه حمراء ، وكروش منتفخه ، وأعين فقدت بريق الحياة ، وهم يأكلون طوال الوقت . وهيئ له أن وجوههم قد بدأت تتحول إلى شيء أقرب إلى وجه الكائن الذي يقف أمامه .
ـ ولكن قل لي …
قال هشام موجها حديثه للكائن :
ـ لماذا الظلام دامس في الواحة رغم الألوان والأنوار التي تتراءى من بعيد ؟
وضحك الكائن ، وهو يمتص بعض لعاب سال من جانب فمه ، قال :
ـ الظلام في كل مكان ، ولكن الطعام هنا فقط .
ـ ولكني أرى بصيص نور في الأفق يوحي بانبلاج الفجر في الصحراء ، ولا أرى ذلك البصيص في الواحة !
ـ النور مزعج للعين ، ونحن لا نحبه هنا فهو مفسد للسكينة والطمأنينه . ليس ألذ وأجمل من هدوء الليل ، وصمت الظلام .
ـ لم لا تقول إنك أنت من يكره النور ، كي لا يرى أحد وجهك المسخ .
وهناك ثار الكائن ، وأخذ ينخر بشدة ، ورفع السوط في الهواء يريد أن يهوي به على جسد هشام ، الذي فر من أمامه وهو يقول :
ـ سأضرب في الصحراء غير آبه بالشقاء … فلابد للصحراء من نهاية ، ولا بد لليل من فجر ، ولا بد أني واجد واحتي مهما طال الزمان … واحتي سوف تكون بلا سياج ولا ظلام ، ولا أمساخ بشر … وإن مت قبل ذلك ، فسوف أموت وأنا حر .
وتابع طريقه إلى عمق الصحراء فيما الشمس توقفت عن ضحكها ، وانكفأت على نفسها ، والكائن يضحك من بعيد ويقول بصوت كالرعد :
ـ لن تجد أفضل من واحتي هذه ، كل الواحات مثل واحتي … سوف تعود إلي مهما طال بكل التجوال ، طالباً الصفح والغفران ، مستجدياً أن أقبلك عبداً من عبيدي ، وساعتئذ … ستعرف من أنا .
وصاح هشام من بعيد :
ـ كلا … كلا لن أعود إلى واحتك إلا بعد أن يشرق فيها النور ويخلع السياج وتعود إلى الناس وجوههم .
وابتلعته الصحراء ، وقهقهة الكائن تدوي وراءه كالرعد ، والشمس عادت إلى ضحكها وحرقتها ، ولكنه يسير وهو يرى خيوط الفجر من بعيد)([57]).
قلت : تأمل ـ أخي المسلم ـ هذا الحلم الذي صاغه الحمد على لسان هشام جيداً ، ثم تساءل معي كما تساءلت :
ـ ماهي هذه الواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة ؟
ـ من هو هذا الشخص ( البشع !) الذي ساومه هشام على دخول الواحة ؟
لقد صاغ الحمد فكرته التي يريد إيصالها للقارئ بأسلوب رمزي شأنه في ذلك شأن أهل الرمزية الذين يروجون لفكرهم بتلك العبارات الغامضة خوفاً من عاقبة التصريح ( بالكفر) لا سيما في ديار التوحيد . وقد تابع الحمد هنا (شيخه) نجيب محفوظ في كفره عندما تحدث في روايته الشهيرة ( أولاد حارتنا ) عن الله ـ عز وجل ـ وعن أنبيائه بأسلوب رمزي([58]) قاء من خلال بما يحمله قلبه من كفر وحقد تجاه رب العالمين ـ تبارك وتعالى ـ وتجاه أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
فجاء الحمد يهرع من ورائه مستعرضاً قدراته في ( تمرير ) كفرياته في مثل هذا الحلم .
فالشخص البشع في نظر الحمد ـ هو الله ـ عز وجل ، وتعالى عن قول الحمد علواً كبيراً ـ . !!
والواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة هي الجنة ومافيها من سعادة واطمئنان .
فالحمد يريد أن يقول لنا بأن من أراد دخول الجنة فليلتزم بعبودية الله ـ عز وجل ـ وطاعة أوامره ، وأما من أنف من هذه العبودية واختار الحرية ! كما يزعم الحمد فلا بد أن يزهد في هذه الجنة ( أو الواحة ) ويضرب في أعماق الصحراء لعله يجد مصدراً آخر للسعادة لا تكون ضريبته فقدان الحرية !
وقد اختار الحمد الطريق الثاني وهو الاستنكاف عن عبادته سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم عن هذا الصنف من البشر : {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172)فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}([59]).
فمن استنكف عن عبادة الله وفرَّ منها طالباً الحرية كما يزعم ! فإنه لن يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً ، فالمرد ـ وإن طال الزمان ـ إلى الله الذي : {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ([60]).
ونحن نقول للحمد : من لم يرض بعبادة الله سبحانه وتعالى فإنه لا شك سيعبد غيره؛ لأن الإنسان لا يخرج عن العبودية بأي حال . فمن لم يعبد الرحمن عبد الهوى والشيطان ، ولذلك قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ([61]).
قال ابن كثير : ( أي إنما يأتمر بهواه ، فما رآه حسناً فعله ، وما رآه قبيحاً تركه ) –([62]).
فهو وإن ادعى أنه قد ترفع عن ( عبودية ) الله المستحق لها فإنه قد جعل تلك العبودية في غير محلها باتخاذه إلهه هواه .
وقال تعالى{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}([63]) .
فمن لم يعبد الله عبد الشيطان ، وعبادته ـ أي الشيطان ـ تكون باتخاذ الشيطان نفسه إلها ([64])، أو بعبادة ما يزين عبادته من الأصنام والأحجار والصور و… الخ ، حتى وصل بأتباع الشيطان أن يعبدوا فرج المرأة ـ والعياذ بالله ـ
الحاصل : أن من تكبر عن عبادة الله أذله الله بأن صيره عبداً لهوىً أو شيطان أو مخلوق مثله .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وكذلك من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله ، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته ، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب .
قال أبو حازم : " لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى "
واعتبر ذلك بحال إبليس . فإنه امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل ، وطلب إعزاز نفسه ، فصيره الله أذل الأذلين ، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته ، فلم يرض بالسجود له ، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وكذلك عباد الأصنام ، أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر ، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه ، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار .
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله ، أو يبذل ماله في مرضاته ، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته ، لابد أن يذل لمن لا يسوى ، ويبذل له ماله ، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته ، عقوبة له ، كما قال بعض السلف " من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته")([65]).
وقال ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية عبادة الله وحده للعبد :
( اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ، ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ، ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب؛ أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به ، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولا بد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر ، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك . وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه ، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره ، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة ، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب ، والعقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما ، والله الموفق المعين ، وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة)([66]).
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مفصلاً هذا المعنى :
( " العبادة " هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة ، والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم .والدعاء والذكر والقراءة ، وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف لعذابه ، وأمثال ذلك هي من العبادة لله .
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له ، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}([67]) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}([68]) وقال تعالى {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}([69]) كما قال في الآية الأخرى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }([70]) وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}([71]) .
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}([72])وقال {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}([73])وذم المستكبرين عنها بقوله : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}([74])ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}([75])وقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} ([76])الآيات ولما قال الشيطان {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال الله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}([77]).
وقال في وصف الملائكة بذلك : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}([78]). وقال تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89)تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا(91)وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92)إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} ([79]).
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} ([80])، ولهذا قال النبي e في الحديث الصحيح : ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله )([81]).
وقد نعته الله " بالعبودية " في أكمل أحواله فقال في الإسراء : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا}([82])قال في الإيحاء:{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}([83]). وقال في الدعوة :{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}([84]). وقال في التحدي :{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } ([85]). فالدين كله داخل في العبادة .
وقد ثبت في الصحيح ([86])أن جبريل لما جاء إلى النبي e في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". قال : فما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : فما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم قال في آخر الحديث " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم " فجعل هذا كله من الدين .
" والدين " يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان أي : ذللته فذل ويقال يدين الله ، ويدين لله أي : يعبد الله ويطيعه ويخشع له ، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له .
و" العبادة " أصل معناها الذل أيضاً ، يقال طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له ، فإن آخر مراتب الحب هو " التتيم " وأوله " العلاقة " لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم " الصبابة " لانصباب القلب إليه ، ثم " الغرام " وهو الحب اللازم للقلب ، ثم " العشق " وآخرها " التتيم " يقال : تيم الله أي : عبد الله ، فالمتيم المعبد لمحبوبه .
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له ، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له ، كما قد يحب ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله .
وكل ما أُحب لغير الله فمحبته فاسدة ، وما عُظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً ، قال الله تعالى : {قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ([87])، فجنس المحبة تكون لله ورسوله ، كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله ) ([88]).
قلت : وأما ادعاء الحمد بأن عبودية الله وجنته ليس فيها نور ، وإنما النور والفجر ! في حريته ( المزعومة ) فهو من تلبيس الشيطان عليه ، ومن انتكاس قلبه حتى أصبح يبصر الأشياء على خلاف حقيقتها فغدا النور عنده ظلاماً ، والظلمة نوراً، وهذا حال أهل الباطل الذين يرون باطلهم حقاً والحق باطلاً منذ العهود القديمة . ولا أملك أن أقول للحمد في هذا المقام إلا ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والبغي إلا من أشرق عليه نور النبوة ، كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي e قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " ([89]) فكذلك أقول : ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور ، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل والهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها .
فهذه كلها ظلمات ، خلق فيها العبد ، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البته . فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته ، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض ، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله ، ووجهه مظلم وقلبه مظلم، لأنه مبقى على الظلمة الأصلية ، ولايناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها ، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش .
بصائر غشاها النهار بضوئه
ولاء مها قطع من الليل مظلم
يكاد نور النبوة يلمع تلك الأبصار ، ويخطفها لشدته وضعفها ، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها ، وملاءمتها إياها .
والمؤمن علمه نور وقوله نور ، ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور ، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ([90])) ([91]).
الحلف بغير الله في روايته :
ومن تنقصه لله ـ عز وجل ـ أنه استهان بالحلف بغيره ـ عز وجل ـ فذكره في روايته متغافلاً عن قدحه في عقيدة الإنسان وأنه من الشرك الأصغر([92])، مصداقاً لقوله e: "من حلف بغير الله فقد أشرك " ([93])وقال e : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" ([94]).
قال الحمد على لسان عبد الرحمن مخاطباً ابن عمته هشام ( أخبره أن ما يشعر به شيء طبيعي لشخص يشرب لأول مرة ، وأنه سوف يعتاد الشراب ولن يفعل به شيئاً بعد ذلك .إلا أن هشام صاح : " أول وآخر مرة ورأس أبوك…")([95]).
الحمد يعتقد أن الله في كل مكان !!!
ومن طوام تركي الحمد في روايتة أنه -وهو الذي درس عقيدة السلف في بلاد التوحيد- يعتقد عقيدة الأشاعرة في أن الله موجود في كل مكان ! ! ! وهذا من أغرب الأمور التي مرت علي أثناء دراستي لثلاثيته . مما جعلني أتفكر كثيراً في كيفية تسرب هذه البدعة الغريبة على بلادنا إلى ذهن الحمد وروايته ، ثم اكتشفت أنه قد نقلها ـ بغباء ـ من ثلاثية نجيب محفوظ ، دون أي تفكير بمدى صحتها !!! وهذا من الأدلة على أن الحمد مجرد ببغاء لنجيب محفوظ يردد ما يقوله في ثلاثيته ولو كان مخالفاً للنقل والعقل كهذه المسألة .
قال الحمد متحدثاً عن والد هشام :
( وضحك أبوه إحدى ضحكاته النادرة ، ثم عاد إلى وقاره وهدوئه المعتادين وهو يقول بحزم : اسمع يا ولدي … إن الله موجود في كل مكان ، والتقوى في النية الطيبة والسلوك الطيب مع الناس ، … ) ([96])
قلت :هذه عقيدة باطلة يدين بها متأخرو الأشاعرة ، والذي عليه سلف الأمة أن الله مستوٍ على عرشه فوق سماواته ، كما قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ([97]) وقال : {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ}([98]) وقال:{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ([99])… والأدلة على هذا كثيرة ليس هذا موضع التوسع فيها . فانظرها في كتاب ( العلو ) للذهبي و (مختصره ) اللألباني ، و( علو الله على خلقه ) للدكتور موسى الدويش ، و(إثبات علو الله … ) للشيخ حمود التويجري ـ رحمه الله ـ ، و ( الرحمن على العرش استوى ) للشيخ عبد الله السبت ، و( الرحمن على العرش استوى بين التنـزيه والتشويه ) للدكتور عوض منصور.
أما أن الحمد قد أخذ هذه العقيدة البدعية من نجيب محفوظ فلأن هذا الآخر قد ذكرها في ثلاثيته ـ التي هي عمدة الحمد ـ على لسان أحمد عبد الجواد .
حيث قال له الحمزاوي : ( ربنا موجود ) فرد عليه أحمد عبد الجواد : (نعم! -ومشيراً إلى الجهات الأربع- في كل مكان ) ([100]).
الحمد يرى أن عبودية الله كالأغلال !!
من تنقص الحمد لله عز وجل ، أنه لم يرض بعبوديته ، وإنما آثر عليها (الحرية) كما يدعي ! وهي في حقيقتها ليست ( حرية ) وإنما ( عبودية ) من نوع آخر ، إما للهوى أو الشيطان كما سبق .
يقول الحمد متحدثاً عن هشام : ( وطافت في ذهنه تجربته الدينية العميقة حين ذهب إلى المسجد مع ا لفجر ، وصلى بعمق غريب ولذيذ لأول مرة في حياته ، بعد تجربته الجسدية مع رقية فقد كانت صلواته السابقة مجرد حركات جسدية لا روح فيها ، ومجاملات اجتماعية بعض الأحيان . ورغم أنه يشعر بالضآلة حين يجامل في مثل هذه الأمور ، إلا أنه لا يستطيع إلا أن يجامل ، فالله غفور رحيم ، ولكن عباده لا يعرفون الرحمة والغفران ، لقد أحس بعد تلك التجربة العنيفة بتمزق لم يستطع إحتماله ، فكان بحاجة إلى أب رؤوف رؤوف يلقي بحمله عليه … أب ليس ككل الآباء . أب يسامح على الخطأ والخطيئة ، ويأخذ بيده إلى الراحة بعد العذاب ، والصفاء بعد القلق وذاك الوخز المؤلم في الداخل … ولكن شتان بين حاله مع رقية ، وهذا الإنقلاب العجيب في حال عدنان … كل إنسان يبحث عن أب رحيم قادر ، وأم حنون في الأزمات والملمات، والكل يبحث عن كتف عطوف عطوف قوي يبكي عليه ويلقي عليه بأحماله ، ولكن القليل هو من يريد أن يبقى باكياً على ذلك الكتف ، فهو لذيذ حقاً ، ولكن الألذ منه أن تخطئ وتصيب، فاللذة في وجود نقيضها وليس في مجرد وجودها .شيء لذيذ وجميل أن تجد من يكون مسؤولاً عنك طوال الوقت ، ولكن السعر باهظ جداً … إنه الحرية ذاتها . الطفل وحده من يدفع هذا السعر بالرغم منه ، ولكن من يريد أن يبقى طفلاً طوال الوقت ؟! الكل يجد الدفء في حضن الأم ، والقوة في الأب ، ولكن قلةً من يريدون البقاء في ذلك الحضن وعلى الكتف … ويبدو أن عدنان واحد من هؤلاء ) ([101]).
قلت : ومقصوده واضح لا يحتاج إلى إعمال ذهن ، وهو دليل استكباره عن عبادة ربه ـ كما سبق ـ وقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) ([102]) .
تنقصه للملائكة الكرام :
أما تنقص الحمد واستخفافه بالملائكة المكرمين؛ فمن ذلك قوله متحدثاً عن هشام في السجن :
( ثم نظر إلى النافذة ، وتلك النجوم التي تتبدى من ورائها على استحياء ، وهو يتصور أن يأتي ملاك رحمة من هنا أو هناك فينقله على جناحيه إلى حيث نسمة هواء طليقة . ولكن حتى الملائكة اختفت في هذه اللحظة ، ويبدو أنها نفسها تخاف الدخول إلى هذا المكان ، وليس إلا الرعب والسكون والانتظار)([103])!!
قلت : كيف تخاف الملائكة الدخول في هذا المكان أو غيره ، وهي معك أينما سرت . قال تعالى عن الإنسان : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)([104]).
وقال سبحانه : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ([105]).
وقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )([106]) .
فالملائكة المكرمون قد خُصََّ بعضهم بأنه لا يفارق الإنسان في جميع أحواله ـ كما سبق ـ ولكن الحمد لا يفقه هذا بعد أن اعتاد لسانه على الجرأة عند حديثه عن كل شيء مقدس، متأثراً بالكفرة الفجرة ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .
تنقص الحمد للقرآن :
أما سخريته بالقرآن ، وبآيات الله ، فهو أنه يضعها في غير موضعها ، بأسلوب هازل .
فمن ذلك قوله :
( حانت التفاتة من عبد الرحمن نحو الكيس الذي يحمله هشام ويشد عليه بقوة ، فقال وهو يضحك : " ما تلك بيمينك يا هشام ؟ " وابتسم هشام …)([107]) فهو يشير إلى قوله تعالى لموسى ـ عليه السلام (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى) ([108])
وقوله : ( وهز هشام رأسه وهو يبتسم محيياً ، فيما أخذ الآخرون يتضاحكون ويتغامزون فيما بينهم ويقولون : "شرَّفت الكراديب " "وما منكم إلا واردها " ) ([109]).
وهو يشير إلى قوله تعالى عن النار : ( وإن منكم إلا واردها ) ([110]).
قلت : لا يجوز أن يُنزل القرآن في غير منزله الذي أراده الله له ، وأن يُسْتدل به بهذه السخرية ([111]).
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عن ( استعمال بعض آيات القرآن في المزاح ما بين الأصدقاء ؟ ) فأجابت بأنه ( لا يجوز استعمال آيات القرآن في المزاح ) ([112]).
بغضه للقرآن :
يقول الحمد متحدثاً عن ذكريات هشام ، وصديقه عدنان : ( كانا في الصف الرابع الابتدائي ، وكانت مادتي القرآن الكريم والتجويد أصعب وأبغض المواد عند التلاميذ ) ([113])!!
قلت : أما ( أصعب ) فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ([114]).
وأما ( أبغض ) فهذه التي يريد الحمد ! والسؤال : لماذا كان كلام الله الذي فيه الهدى والنور أبغض المواد !؟ وكان الحب كله للكتب الفلسفية والماركسية و(المحرَّمة ) ؟!
وصدق الله إذ يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) ([115]).
تنقصه للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ :
لقد أسرف الحمد على نفسه كثيراً واقتحم لجة الكفر والضلال عندما تعرض لأنبياء الله تعالى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ واصفاً إياهم بكل منقصة جرياً وراء أكاذيب اليهود والنصارى التي استولت على ذهنه عند حديثه عنهم ـ عليهم السلام ـ فقد نسخت قراءاته لكتب اليهود والنصارى والملاحدة كل تعظيم غرسه القرآن في صدره حول الأنبياء والرسل .
ولنستمع إلى ( هرائه ) مع التعليق عليه بما تيسر .
قال الحمد على لسان هشام :
( قتل قابيل هابيل من أجل المرأة ، وخرج آدم من الجنة من أجل المرأة ، وأذنب من أجل المرأة ، وسخر سليمان الجن من أجل المرأة ، وقال رسولنا الكريم ([116]):" حُبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت الصلاة قرة عيني " ومزامير داود كلها عن المرأة ، وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ، وأبطل المسيح حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ، وكانت المرأة وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو … )([117]) .
قلت : لقد تضمن هذا النص من الحمد عدة فتراءات على أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ حيث لم يتورع ـ هداه الله ـ عن متابعة اليهود والنصارى في تلفيق التهم والنقائص لخير البشر ـ عليهم السلام ـ ولتفنيد ذلك أقول :
ـ أما قابيل وهابيل فإنهما لم يكونا من الأنبياء، هم بشر كغيرهم ، فلا شأن لنا بهما . ومع هذا فإن تركي الحمد لم يذكر إلا قولاً واحداً في قصتهما ولم يذكر القول الثاني .
فهو ألمح إلى القول الأول الذي يفيد بأن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب المرأة فقررا أن يتقربا إلى الله بقربان فمن تقبل منه كانت المرأة من نصيبه فتقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل ، فقام قابيل بقتل هابيل .
والقول الثاني الذي لم يذكره الحمد هو أنهما قررا أن يقوما بتقديم قربان إلى الله ـ عز وجل ـ فعمد قابيل إلى أسوأ ماله فقدمه قرباناً ، وعمد هابيل إلى أحسن ماله فقدمه ، فتقبل منه ولم يتقبل من أخاه قابيل ، فحسده قابيل وقام بقتله .
وفي هذا يقول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ : ( عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قربنا قرباناً ! وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله عز وجل أرسل إليه ناراً فأكلته ، وإن لم يكن رضيه خبت النار ، فقربا قرباناً . وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها . وقرب الآخر أبغض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع . وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد عليّ ؟ فلا والله لاتنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني فقال : لأقتلنك ! فقال أخوه : ماذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين)([118]) .
قلت : فهذا القول الثاني لم يشر إليه الحمد هو الذي يشهد له القرآن العظيم عندما تحدث عن قصة ابني آدم حيث قال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31) ) ([119]).
ولذا قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ بعد سياقه الأثر السابق عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : (فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لاعن سبب ولا عن تدارئ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم ، وهو ظاهر القرآن )([120]) .
فالحمد لم يسق إلا القول الذي يتماشى مع هواه ، علماً بأن هذه الروايات جميعها لم تصح مرفوعه إلى النبي e ، وإنما هي تنقل عن أهل الكتاب الذين أمرنا بعدم تصديقهم أو تكذيبهم إلا ما عارض شرعنا فإننا نكذبهم فيه ـ ولا كرامةـ.
بل إن القرآن والسنة الصحيحة لم تذكر ( قابيل وهابيل ) وإنما ذكرت بأن القصة حدثت لابني آدم فقط دون تفصيلات . كما في سورة المائدة ، وكما في قوله e في الصحيحين : " لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ، لأنه أول من سنَّ القتل " .
ـ أما قول الحمد بأن آدم ـ عليه السلام ـ قد خرج من الجنة من أجل المرأة فالذي في القرآن أن ( الشيطان ) قد وسوس لآدم وحواء جميعاً بالأكل من الشجرة ، وفي آيات أخرى يخبر الله بأن الشيطان قد وسوس لآدم بذلك دون ذكر لحواء .
قال تعالى : (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)([121]).
وقال سبحانه : (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين) ([122]).
وقال عز وجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى) ([123]).
فهذه الآيات فيها أن الشيطان وسوس لهما جميعاً (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ)؛ وفي سورة طه أنه وسوس لآدم أولاً (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) .فهي تشهد لمن قال بأن الوسوسة كانت لهما جميعاً حيث أغراهما الشيطان بنيل الخلد في الجنة وأن يكونا كسائر الملائكة . ولم يذكر فيها أن حواء هي التي أغرت آدم على الأكل من الشجرة كما تقول ذلك الروايات الإسرائيلية. ولهذا قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ : ( دأب الكتاب والأدباء في عصرنا هذا على فرية أن آدم عليه السلام خدعته حواء حتى أكل من الشجرة ، يصطنعون قول الكاذبين المفترين من أهل الكتاب ، بما حرفوا وكذبوا)([124]).
قلت : ولكن من يقول بأن حواء أكلت من الشجرة قبل آدم ، أو أنها سهلت له الأكل منها يستشهد بحديث رواه البخاري في صحيحه ويحمله على هذه القصة ، وهو أنه e قال : " لولا حواء لم تخن انثى زوجها " . قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : ( وقوله " لم تخن انثى زوجها " فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك ، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها ابليس حتى زينته لآدم ، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له ، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها ، وقريب من هذا الحديث " جحد آدم فجحدت ذريته " وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى ، وأن ذلك من طبعهن فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه أو على سبيل الندور ، وينبغي لهن أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن ، والله المستعان ) ([125]).
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم وهي التي حدته على أكلها ، والله أعلم ، وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري …) ثم ذكر الحديث السابق([126]) .
قلت : ومع هذا فلا يحسن أن يقال بأن آدم خرج من الجنة بسبب المرأة ، وإنما يقال بأنه ـ عليه السلام ـ خرج من الجنة بسبب مخالفته لنهي الله ـ عز وجل ـ بوسوسة من الشيطان مما ترتب عليه ابتلاؤه وذريته من بعده . وكان هذا قبل أن يتوب الله عليه ، ويصطفيه كأول نبي على وجه الأرض .
ـ أما قول الحمد بأن داود ـ عليه السلام ـ أذنب من أجل المرأة فهذا من افترائه متابعة لأشياخه اليهود الذين افتروا على داود ـ عليه السلام ـ في توراتهم المحرفة بأنه عليه السلام قتل أحد قواده بواسطة الخدعة حيث جعله في مقدمة الجيش لكي يتزوج بامرأته التي أُعجب بها داود ـ عليه السلام ـ بعد أن رآها عريانه !!! كما جاء في ( سفر صموئيل الثاني ، الاصحاح 11) .
وقد تسللت هذه الكذبة الشنيعة من اليهود إلى تفاسير المسلمين عبر الاسرائيليات التي أخذوها منهم دون تمحيص لها .
حيث تذكر هذه القصة المكذوبة في تفسير قوله تعالى : (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ )([127]) .
وقد أجاد ابن كثير ـ رحمه الله ـ عندما قال عند هذه الآية : ( قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ) ([128]) ثم ضعف القصة السابقة بأن في سندها ( يزيداً الرقاشي ) أحد الضعفاء في الحديث عند الأئمة .
وقبله قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ :
( قد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم ، كما قالوا في سليمان ما قالوا ، وفي داود ما قالوا )([129]) .
وقال القاضي عياض: ( لا تلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه ، ولا ورد في حديث صحيح ) قال: ( وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ) ([130]).
وقال الشيخ محمد أبو شهبه في كتابه ( الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ) : ( والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي . قال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم )([131]) .
وقال الدكتور البار بعد أن ذكر هذه القصة المكذوبة : ( يالها من جريمة بشعة حقيرة تزعم التوراة ( المحرفة ) أن داود عليه السلام ارتكبها ، وهو لاريب منها برئ)([132]).
قلت : شتان بين هذه القصة التي تصف نبي الله داود ـ عليه السلام ـ بالقتل والمخادعة في سبيل امرأة ، وبين قول الله تعالى عنه (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)([133]) .
فقد وصفه تعالى بالقوة في العلم والعمل وأبان ذلك e بقوله عنه بأنه " كان يصوم يوماً ويفطر يومأ ، ولا يفر إذا لاقى "([134]). وقال عنه " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " ([135])
فأين هذا الوصف العالي من و صف التوراة المحرفة التي استساغ الحمد أن يتأثر بها وينقلها تشويهاً لصورة نبي الله ـ عليه السلام ـ !؟
ـ أما قول الحمد بأن سليمان ـ عليه السلام ـ قد سخَّر الجن من أجل المرأة ، فهذا من كذبه الذي يعرفه صغار المسلمين الذي يقرأون القرآن .
فسليمان ـ عليه السلام ـ لم يسخر الجن بنفسه ، وإنما الذي سخرها الله ـ عز وجل ـ .
قال تعالى عن سليمان : (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) ([136]).
وأما قصته ـ عليه السلام ـ مع ( بلقيس ) ملكة اليمن التي يلمح إليها الحمد فهي أن سليمان غضب منها ومن قومها عندما أرسلوا له المال والهدايا لعله يكف عنهم . فأمر من حوله من الجن والإنس بأن يحضروا له عرش بلقيس الذي لا يكاد يوجد مثله في عظمته ، فقال : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ولكن سليمان لم يقنع بهذا ، فقال (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) وهو كاتبه آصف بن برخيا كما يُروى عن ابن عباس : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : أن تنظر مد بصرك فلا تكل إلا والعرش عندك : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ) أي سليمان : (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )([137]) .
أما سبب احضار العرش فليس لأجل المرأة كما يزعم الحمد ـ كذباً وافتراءً ـ وإنما لأجل أن يظهر سليمان عظمة ملكه لها ، وأنه نبي من عند الله ، قد سخر له الإنس والجن فتستجيب لدعوته لها إلى دين التوحيد بعد أن كانت تسجد هي وقومها للشمس .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( إن سليمان أراد باحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من بعده وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا فارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه )([138]).
ـ أما قول الحمد بأن نبينا قد حُبب إليه النساء ، فهذا صحيح ، وقد ورد في هذا قوله : (( حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة ))([139]).
وليس معنى هذا ما قد يظنه الحمد أو غيره من الجهلة أن هذه المحبة لأي امرأة ولو لم تحل له ـ والعياذ بالله ـ وإنما هذا خاص بزوجاته وما ملكت يمينه، وليس في هذا أي نقص لمرتبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل هو بيان لكمال رجولته .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( أما محبة الزوجات فلا لوم فيها ، بل هي من كماله ، وقد امتن سبحانه على عباده فقال : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)([140]).فجعل المرأة سكناً للرجل يسكن قلبه إليها ، وجعل بينهما خالص الحب ، وهو المودة المقرونه بالرحمة ) قال : ( ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حُبب إليه النساء ، كما في الصحيح عن أنس عن النبي : "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة" قال : ( فمحبة النساء من كمال الإنسان ، قال ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء ) قال : (فعشق النساء ثلاثة أقسام : قسم هو قُربة وطاعة ، وهو عشق امرأته وجاريته ، وهذا العشق عشق نافع ، فإنه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح ، وأكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله ، ولهذا يُحمد هذا العاشق عند الله، وعند الناس )([141]).
ـ أما قول الحمد بأن مزامير داود ـ عليه السلام ـ كلها عن المرأة ، فهذا كذب منه ، يريد به التهويل. قال الدكتور محمد البار ـ حفظه الله ـ وهو ممن اعتنى بدراسة المزامير :
( تنسب المزامير إلى مجموعة من أنبياء بني اسرائيل وأدبائهم وشعرائهم ، وتشتمل على 150 مزموراً ، منها 73 منسوبة إلى داود عليه السلام ، والأخرى منسوبة إلى موسى وسليمان ـ عليهما السلام ـ وإلى آساف وبني قورع وراجح وهيمان وأتيان ويدوتون )
وقال : ( رغم أنه لم تثبت نسبة أي من هذه المزامير الموجودة لداود أو غيره، إلا أنها أصبحت جزءً من الفولكلور الشعبي اليهودي )([142]).
وقال : ( تُقسم المزامير إلى ثلاث مجموعات أساسية تندرج تحتها مجموعات أصغر . وهذه المجموعات الثلاث هي :
1 ـ مجموعة التسابيح .
2 ـ مجموعة صلوات الاستغاثة .
3 ـ مجموعة التعليم )([143]) .
قلت : يتضح من هذا أن المزامير كلها عن دين اليهود وتسابيحهم وصلواتهم، وليست كما يزعم الحمد بأنها ( كلها عن المرأة ) !!!
والذي نعتقده ـ كمسلمين ـ هو ماجاء في القرآن الكريم أن الله قد آتى داود ـ عليه السلام ـ كتاباً مقدساً هو ( الزبور ) قال تعالى : (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ([144]).
ونعتقد أن داود ـ عليه السلام ـ قد وهبه الله صوتاً جميلاً يترنم به عند تسبيحه الله فتردد الجبال والطير معه .
قال تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)([145])، وقال: (يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)([146])، وأما قوله لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ : "يا أبا موسى ، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود"([147]).
فقد قال الخطابي : ( قوله (آل داود ) يريد داود نفسه ، لأنه لم ينقل أن أحداً من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي)([148]) وقال الحافظ ابن حجر : ( المراد بالمزمار الصوت الحسن ، وأصله الآله ، أطلق اسمه على الصوت للمشابهة )([149]).
ـ أما قول الحمد ( وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ) !!
فهذا من أقبح تشنيعاته على أنبياء الله ، والتعريض بهم بخُبثٍ وسوء طوية ، حيث لم يُعقب على هذا الكذب بما يبينه ، وإنما ساقه متأثرًا به متابعةً لأحفاد القردة .
ثم أعاده في موضع آخر من روايته مبيناً قصده ، حيث قال على لسان هشام ـ كما سيأتي ـ ( وزنت بنات لوط مع أبيهم )!!
وهذا الكذب الفاحش قد أخذه الحمد من التوراة ( المحرّفة ) حيث جاء فيها ـ كما في سفر التكوين ، الاصحاح 19: 30ـ 38 ـ أن ابنتي لوط ـ عليه السلام ـ قامتا بإسقائه خمراً حتى سكر ، ثم اضطجعتا معه ، فحبلتا منه !!!
وهذه الكذبة لا يُستغرب صدورها من قوم قد قال الله ـ تعالى ـ عنهم: ((أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ))([150]) فمن كذب بعض الرسل وقتل بعضهم الآخر لا يستغرب عليه أن يفتري الكذب عليهم .
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر هذه القصة المفتراة: ( هذه فضائح الأبد، وتوليد الزنادقة والمبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهم السلام)([151])
وقال ابن القيم رحمه الله ـ:
( ومن قدحهم ([152])في الأنبياء : ما نسبوه إلى نص التوراة ، أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ، ونجى لوطاً بابنتيه فقط ، ظن ابنتاه أن الأرض قد خلت ممن يستبقين منه تسلاً . فقالت الصغرى للكبرى : إن أبانا شيخ ، ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر ، فهلمي نسقي أبانا خمراً ونضاجعه ، لنستبقي من أبينا نسلاً ، ففعلتا ـ بزعمهم ـ فنسبوا لوطاً النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما … )([153]).
ـ أما قول الحمد بأن المسيح ـ عليه السلام ـ أبطل حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، فلعله يشير إلى اتهام اليهود لمريم ـ رضي الله عنها ـ بالزنا من أجل حملها بعيسى ـ عليه السلام ـ دون زوج ، ومن ثمّ تكلم عيسى في المهد مبرئاً أمه من هذه التهمة الشنيعة التي وبخ الله اليهود لأجلها بقوله ـ تعالى ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا)([154]) فما دخل هذه الحادثة بما يتحدث عنه الحمد ؟!
ـ أما قول الحمد ( وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ) فيشير إلى ما ما أخرجه البخاري في صحيحه عن النبي e متحدثاً عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ : (( بينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى إلى جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة قال : ياسارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ : فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق . ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق . فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتوني بشيطان ، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي ، فأومأ بيده : مهيم ؟ قالت : رد كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ في نحره ، وأخدم هاجر )) ([155])
قلت : وفي هذا الحديث بيان عصمة الله لابراهيم وزوجه أن تمسهما يد ظالم ، حيث كف سبحانه كيد هذا الملك عنهما .
ـ أما قول الحمد بأن المرأة كانت ( وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو) فيشير إلى ما جاء في الإسرائيليات التي دخلت علينا من أهل الكتاب وقد ذكرها المؤرخون في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية :( ذكر أهل الكتاب أن اسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل .
قالوا : وكان اسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر .
قالوا : فلما كبر اسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطحنه له ليبارك عليه ويدعو له ، وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له ، فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لأن العيص كان أشعر الجلد ويعقوب ليس كذلك ، فلما جاء به وقربه قال : من أنت ؟ قال : ولدك . فضمه إلى وجهه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس والثياب فالعيص ، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده .
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له: ما هذا يا بني ؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته فقال : أما جئتني به قبل الساعة وأكلتُ منه ودعوتُ لك ؟ فقال : لا والله . وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك)([156]).
قلت : فهذه من أحاديث أهل الكتاب ، لاتصدق ولا تكذب ، وإن صحت ففيها بيان محبة الأم لابنها وحرصها على أن يكون محظياً عند والده ، ولاحرج في هذا.
تنقصات أخرى :
وقال الحمد في موضع آخر من روايته : ( رحماك يارب الكون … لماذا
خلقت حام طالما أن سام هو الحبيب ؟ ولماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ، وزنت بنات لوط مع أبيهم ، في كتاب يقولون إنه كلماتك وإرادتك ؟ )([157]).
وفي قول الحمد مخاطباً ربه ( لماذا خلقت حام ؟ ) سوء أدب ، ووقاحة ، وعدم تعظيم له سبحانه ، حيث وجه إليه سؤاله تعنتاً واعراضاً ، وقد قال تعالى : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)([158]).
وهو يشير بقوله : ( لماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ؟ ) إلى ما ورد في التوراة ( المحرّفة )([159]) التي هي عمدة الحمد في قدحه بأنبياء الله ! من أن نوحاً ـ عليه السلام ـ شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه ، فأبصره ابنه حام ( أبو كنعان ) ، وأخبر أخويه ( سام ويافث ) ، فأخذ ( سام ويافث ) الرداء وسترا عورة أبيهما دون أن ينظرا إليها ، فلما أفاق نوح وعلم بذلك لعن حاماً وابنه كنعان ، ودعا أن يكون عبداً لأخويه، ودعا لسامٍ بالبركة من الله .
وهذه احدى كذبات اليهود وتشويههم لصورة الأنبياء في كتبهم المحرفة ، التي نقل منها الحمد دون تورع أو خجل ، ولكن بمكرٍ وخبث ، ومحاولة منه لا سقاط المثل والرموز ـ كما سبق ـ بأسلوب حقير يناسب طبعه وعقليته التي لا تقيم وزناً لأي شيء مقدس ـ كما يحاول أن يدّعي ـ !
قال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد إيراده هذه القصة المكذوبة على نوح ـ عليه السلام ـ : ( وهذا محض كذب وافتراء ، فإن الله عز وجل قد وصف عبده نوحاً في كتابه المهيمن بقوله : ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)([160]))([161]).
ـ وأما قوله القبيح ( وزنت بنات لوطٍ مع أبيهم) فقد بينت كذبه ـ فيما سبق ـ وأنه مُتلقىً عن أبناء القردة ، من الذين جعلهم الحمد قدوته ، واتبع آثارهم في تعريضه بأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ دون خوف من الله ـ عز وجل ـ الذي قال عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)([162]).
ـ وقال الحمد على لسان هشام في السجن: ( يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم . إنه يحس في داخله أنه كان معاصراً لقابيل وهو يقتل أخاه ، ولنوح وهو يصارع أمواج الطوفان ، وليونس وهو يصيح في بطن الحوت، ولأيوب والدود ينخره ، وليوسف في الجب ، والمسيح هو يصيح مصلوباً ، والنبي الأمي وهو يشكو )([163]).
قوله ( حشر الإله الروح في جسد آدم ) هو من سوء أدبه مع ربه، وفيه اعتراض خفي على خلق آدم _ عليه السلام _ وكان الأولى به أن يقول : (نفخ الإلة الروح في آدم ) كما أخبر القرآن : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ([164]).
الحمد يعتقد صلب المسيح ـ عليه السلام ـ !!!
وكل هذا يهون أمام الطامة العظمى التي فاه بها الحمد ، وهي قوله : (والمسيح وهو يصيح مصلوباً ) !!! فهو يخالف بقوله هذا نصوص الشريعة واجماع المسلمين من أن المسيح ـ عليه السلام ـ لم يصلب بل رفعه الله إليه وألقى شبهه على غيره ممن صلب ، قال تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ([165]).
والذي دعا الحمد إلى هذه الزلة العظيمة هو ـ كما سبق ـ متابعته لليهود والنصارى الذين يزعمون أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد صلب ، وقد رد الله عليهم قولهم هذا في القرآن الذي يفترض أن يكون الحمد قد قرأه وآمن به! قال تعالى عن اليهود : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ([166]). وهذه العقيدة وهي عدم صلب المسيح ـ لا يخالف فيها أي مسلم ، عامياً كان او عالماً ، وإنما خلاف بعضهم في أنه هل رفع ـ عليه السلام ـ بجسده كما عليه الجمهور وهو الصحيح لأنه موافق لقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )([167]).
أم أنه تعالى توفاه بالنوم ثم قبض روحه كما يقبض أرواح البشر ، كما يختاره بعض العقلانيين من أمثال محمد عبده ومدرسته ([168]).
أما أنه عليه السلام قد صلب فهذا لم يفه به سوى المغضوب عليهم والضالين (وأذنابهم ! ) لأنه مصادم لما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وهو تكذيب لله ـ عز وجل ـ
فهل يعي الحمد خطورة قوله هذا ؟! أم يتمادى في تجاوزه كل ما هو قطعي تحت دعاوى ( الحرية ! )؟ عندها نقول له : (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)([169]).
تنقص آخر لأنبياء الله :
قال الحمد على لسان هشام :
( نحن نحاول أن نفهم سر ما يجري ، ولكننا ننتهي إلى صخرة سيزيف ، ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ، وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة … ) ([170]).
قلت : أما صخرة سيزيف فهي أسطورة يونانية لا شأن لنا به ولا بصخرته التي يحاول الصعود بها .
ـ أما قوله : ( ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ) ! فهو افتراء منه تابع فيه اليهود الذين اتخذهم قائده ودليله في روايته ، فالقول ما قالوا ، والرأي ما رأوا ، والرواية مارووا ، وإن كان فيها تنقص أو شتيمة لأنبياء الله ورسله ، فكل هذا لا يهم ( التوراتي ) تركي الحمد ! الذي شابه قلبه قلوبهم في حملها الغل على أكرم الخلق فأصبح يهذي بما تهذي به يهود .
ومن ذلك متابعته لهم في اتهام سليمان ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر !!! وقد رد الله هذا الكفر بقوله تعالى مدافعاً عن نبيه سليمان : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)([171]) .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( ان سحرة اليهود ـ فيما ذكر ـ كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك واخبر نبيه محمداً e أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ـ عليه السلام ـ مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ) ([172]).
ـ وأما قوله( وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة ) ! فلا أدري ما الداعي لكلمة ( العابثة ) ! أم أن الحمد أصبح لا يرى في كل شيء إلا العبث ؟
والذي ورد في تفسير قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ([173]) أن آصف بن برخيا وكان يعلم اسم الله الأعظم دعا الله به فاستجاب دعاءه، وليس ذلك تعويذات عابثة كما يزعم (العابث) تركي الحمد .
سخرية الحمد وتنقصه شعائر الإسلام :
أما سخريته بشعائر الدين ، وتهوينه من أمرها؛ فمن ذلك أنه أخبر عن هشام بأنه ( صلى الفجر مع خاله دون اغتسال ) ([174])!!
وقوله مهوناً أمر الصلاة : ( حتى والده لم يكن يؤدي الفروض في المسجد أكثر الأحيان ، كأكثر أهل الدمام ، بل كان يؤديها في المنـزل غالباً ، وذلك على عكس أهل الرياض والقصيم .. ) ([175]) .
وقوله : ( وبقي هشام وحيداً لا يدري ما يفعل ، هل يلحق خاله إلى المسجد ، أم يواصل النوم مثل أبناء خاله .. وأخيراً عزم على مواصلة النوم ، فلا ريب أن الأبناء أدرى بحال الدار ، واستلقى على فراشه ، وأخذ النسيم البارد ورطوبة السحر يداعبان أجفانه . وعندما كان المؤذن ينادي : " الصلاة خير من النوم … الصلاة خير من النوم " ، كان قد أغفى تماماً) ([176]).
وقوله : ( إنه لا يحب القصيم كثيراً . ففي الدمام أصحابه والأجواء التي اعتاد عليها والبحر ، وفي القصيم لا أصداء ولا بحر ، وفوق كل ذلك صلاة الفجر التي لا بد أن يؤديها جماعة في المسجد مع جده .عندما يلذ للعين الرقاد)([177]).
سخريته وتنقصه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
فمن ذلك قوله على لسان وليد مخاطباً هشاماً :
( أنت تتحدث عن الموت وكأنه كائن مجسد ، وليس حادثه أو حالاً .
وضحك هشام باقتضاب وهو يقول :
ـ وما أدراك أنه ليس كائناً ؟ .. ألا يقولون إن الملاك عزرائيل هو قابض الأرواح ؟ أوليس ذاك الهيكل العظمي الأسود هو الموت بعينه ؟ ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يوم القيامة يؤتى بالموت على شكل خروف فيذبح على الحدود بين الجنة والنار ؟
ثم وهو يضحك :
ـ لقد ذكرتني بنزار وقصائده المتوحشة .
ثم وهو يعتدل في جلسته :
ـ ولكن أتدري ما يحيرني يا وليد … هل يمكن للموت أن يموت ؟ كيف يموت من هو ميت أصلاً ؟ وإذا كان الموت يميتنا ، فمن يميت الموت ؟ … الله ؟ .. هو الحياة ذاتها فكيف يمكن للحياة أن تميت ؟ .. حقاً يا لها من حيرة ) ([178]).
قلت : أما تسميته ملك الموت بعزرائيل فهو من جهله ، لأنه لم تصح هذه التسمية في أي من الأحاديث الصحيحة ([179])، و الله ـ عز وجل ـ سماه في القرآن ملك الموت ولم يذكر له اسماً غيره .
قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) ([180]).
وأما قوله : ( ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يؤتى بالموت على شكل خروف …الخ ) فهو من سخريته بأحاديث النبي e ، وإلا فإنه يعلم أنهم لا يقولون ، وإنما القائل هو محمد e ([181])، الذي قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم : " يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت . ثم يقال : يا أهل النار ! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت . قال : فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال :يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت " ثم قرأ رسول الله e : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ([182]).
أما تحيره : كيف يموت الموت ؟ فقد أجاب عنه العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله تعليقاً على الحديث السابق : ( وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل ، كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحاً وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلاً عن أن يذبح .
وهذا لا يصح ، فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح ، كما ينشئ من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله ينشئ من الأعراض أعراضاً ومن الأجسام أجساماً ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ، ولا يستلزم جمعاً بين النقيضين ولا شيئاً من المحال ، ولا حاجة إلى تكلف من قال: إن الذبح لملك الموت! فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل ، وسببه قلة الفهم لمراد الرسول e من كلامه ، فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح ، وظن غالط آخر أن العرض يعدم ويزول ويصير مكانه جسم يذبح ، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه ، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساماً ويجعلها مادة لها ، كما في الصحيح عنه e " تجي البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان " الحديث ، فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه غمامتين ) ([183]).
بغض الحمد لعباد الله الصالحين :
كما أن الحمد أبغض ربه ـ عز وجل ـ وملائكته ، وأنبياءه وكتبه ، وشرائعه ، فإنه حتماً سيبغض عباده الصالحين ، وسيبغض ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات .
وإليك ما يشهد لهذا :
يقول الحمد متحدثاً عن هشام :
( أخذ يقلب الكتاب الذي أعطاه إياه عدنان ، " المنقذ من الضلال " للغزالي كان لا يحب هذا النوع من الكتب )([184]) .
وهذا النوع من الكتب يعني به الكتب الإسلامية التي تقربه من الخير ، وتباعده من الشر فهو لا يطيقها ، ولا يحبها ، بل يهرع إلى كتب أحبابه من الفلاسفة والماركسيين الذين يجد عندهم ما يروي ظمأه ، ويوافق طبعه فالطيور على أشكالها تقع.
ويقول الحمد على لسان مهنا :
( أرجو أن لا تتحدث عن البعثيين أو القوميين العرب أو حتى الدراويش من الاخوان المسلمين … كل هؤلاء سذج ومزيفون ) ([185]).
ويقول على لسان والد هشام متحدثاً مع ابنه :
( ولكن ما لقيت إلا البعثيين كي تصبح منهم … أطقع ناس … ولا أخرط منهم إلا الشيوعيين والإخوان )([186]) !!
ويقول عن ( الاخواني ) لقمان :
( يا لك من منافق يالقمان … تخدم ألف إله وإله ، ثم تقول لا إله إلا الله … قاتل الله الحياة ، فهي النفاق بعينه قاتل الله الحياة فهي التي تجعلنا عبيداً دون أن نريد ، وأسياداً ونحن نريد ولا نريد . قاتل الله حياة تذلنا فيها لقمة ، وتأسرنا كلمة ، وتستعبدنا شهوة ، ويموت فيها الطيبون .. ثم نقول لا إله إلا الله )([187]) .
قلت : جماعة الإخوان إحدى الجماعات الإسلامية الشهيرة التي يعرفها معظم الناس، نشأت في مصر ثم امتدت إلى معظم بلاد العالم . وهي جماعة عليها مؤاخذات كثيرة من عدم اهتمام بنشر العقيدة السلفية ، أو تعليم للعلم الشرعي النافع ، وإنما همها ( التجميع ) والوصول إلى الحكم بأي طريقة([188]).
ومع هذا فلا نؤيد ( الماركسي ) ( البعثي ) تركي الحمد في طعنه بها ، فشتان بين جماعة إسلامية ( مقصرة ) وبين جماعات ومذاهب ( كافرة ) عدوة للإسلام والمسلمين .
هذا عن نقده واستهزائه بجماعة الإخوان المسلمين، أما غيرهم من عباد الله ( الملتزمين ) فقد نالهم ما نال أولئك من سخرية لاذعة بأسلوب مبطن . يقول الحمد عن ( عدنان العلي ) صديق هشام : ( لم يكن عدنان يأتي إلى المقصف وحده ، فغالباً ما كان يرافقه زميلان من ذوي اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ، وبعض الأحيان يزدادون إلى خمسة ، يشربون الشاي ويتحدثون بهمس لا يكاد يسمع ، وكان أكثر ما أثار استغراب هشام هو أنهم لا يبتسمون أبداً ، وإذا حدث ذلك من أحدهم ، غطى فمه بطرف غترته وكأنه يعتذر ، ثم يعود إلى تلك الملامح التي لا توحي بشيء ) ([189]).
قلت : تأمل هذه السخرية المتكلفة التي أراد الحمد إيصالها إلى ذهن قارئه، بأن كل من التزم بدين الله ، فهو لا شك سيكون متجهماً لا يبتسم ، وإذا ابتسم فإنه سيعتذر من ابتسامته !! ونسي أن هؤلاء الملتزمين هم أول من يعمل بحديث النبي e ، " تبسمك في وجه أخيك لك صدقه " ([190]) ولا يجدون غضاضة في هذا التبسم لأنه سنة نبيهم محمد e ، فلماذا تعمد الحمد قلب الحقائق ، الأجل أنهم لم يبتسموا في وجه ( ماركسي ) ( بعثي ) !؟ أم أنه الحقد الذي يحمله في صدره على كل ( ملتزم ) فأراد تفريغ بعضه في روايته هذه عبر هذا الأسلوب المبطن ؟ ثم تأمل ـ أخي القارئ ـ سخريته بسنة محمد e ( اللحية ) بهذا الأسلوب الحقير( اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ) !! وهو تهويل منه ومبالغة ، لأن الجميع لا يكاد يجد مثل هذا الصنف المتخيل ، فلماذا تقليل الكثير وتكثير القليل يا تركي !؟ ولم يكتف الحمد بهذه السخرية السابقة باللحية لأنها لم تشف غيظه من أهل الإسلام ، فرددها مرة أخرى عندما قال متحدثاً عن هشام :
( ثم فتح الباب عن وجه أحد زملاء عدنان بلحيته الكثه ، ورأسه الحليقة تماماً) ([191]).
فزاد على سخريته باللحية اتهام الصالحين بأنهم يرون السنة حلق الرأس ، ولهذا هم يحلقون رؤسهم اتباعاً لها ، وهذا كذب عليهم وهو اتهام قديم قال به أعداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ عندما اتهموه وأتباع دعوته بأنهم يحلقون رؤسهم ، ويأمرون من اتبعهم بحلق رأسه ! ، ولهذا فهم من الخوارج الذين قال فيهم النبي e : "سيماهم التحليق " ([192])! ثم جاء الحمد مردداً هذه التهمة الباطلة متابعة منه لأعداء الدعوة التي شرق بها العلمانيون والملحدون.
وهذا الاتهام باطل ، لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة وأتباعها يتبعون في هذه المسألة أحاديث النبي e التي تجعل أمر الشعر من أمور العادات التي يتبع فيها المرء عادة بلده في ابقاء الشعر أو حلقه . وإنما ينهى عن القزع ، وهو حلق بعض الشعر وترك بعضه لنهي النبي e عن ذلك .
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ راداً على من ادعى بأن علماء الدعوة يكفرون من لم يحلق شعر رأسه !! : (إن هذا كذب وافتراء علينا ، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فإن والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم ، وليس عدم الحلق منها ، بل ولم نقل أن الحلق مسنون ، فضلاً عن أن يكون واجباً ، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام !
والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع ، وهو : حلق بعض الرأس وترك بعضه ، وهذا الذي نهينا عنه ، ونؤدب فاعله)([193]) .
مباحث أخرى
ـ تنقص الحمد قبيلة النبي e
ـ حقده على حكومة المملكة العربية السعودية
ـ محبته للرافضة .
ـ المواقف الجنسية في ثلاثيته .
ـ العبارات الوقحة .
تنقص الحمد قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم :
لم تسلم قبيلة قريش ـ وهي أفضل القبائل ـ من لمز الحمد في روايته حيث قال على لسان عارف:
( طز في قريش يا صاحبي … ولماذا يجعل نزار قريشاً مثلاً أعلى ؟.. ألأنها قبيلة النبي ؟ … والنعم بأبي القاسم ولكن قريشاً لا .. لقد جعلوا كل تاريخنا تاريخاً لقريش . ألم يكن هناك غير قريش في الساحة ؟ ) ([194]).
قلت : قبحك الله وأخزاك ! فقبيلة قريش التي تطعن فيها هي قبيلة محمدe (الذي تدعي الفخربه !!) ([195]) هي القبيلة التي كان منها أفضل الخلق بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهم صحابة رسول الله e ، من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة وعبد الرحمن والزبير … وغيرهم ـ رضوان الله عليهم ـ وهي القبيلة التي قال فيها e : "إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانه ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " ([196]).
وأما ادعاؤك بأنهم جعلوا تاريخنا تاريخاً لقريش ، فكأنك تعرض بتوليهم أمر الأمة منذ الخلفاء الراشدين مروراً بالدولة الأموية وانتهاء بالعباسيين ، وهذا ليس مغمزاً فيهم وإنما فخر لهم أن قادوا الأمة ، ونشروا الإسلام ـ على تفاوت بينهم في ذلك ـ متبعين قول الرسول e : " إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم إلا كبه الله على وجهه ، ما أقاموا الدين " ([197]).
قال الإمام أبو عمرو الداني حاكياً أقوال أهل السنة :
( ومن قولهم إن الإمامة في قريش مقصورة عليهم دون غيرهم من سائر العرب والعجم ، لقوله e : " الأئمة من قريش ، ولا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان " ولإجماع المسلمين بعده e على أن ولوا قريشاً ) ([198]) .
أي ما أقاموا الدين كما في الحديث الذي قبله .
حقد الحمد على حكومة المملكة العربية السعودية :
لم يعد خافياً على أحد أن التيارات الماركسية والشيوعية وما سار في ركبها هي جميعها حاقدة على الدولة السعودية المسلمة ، حيث كانوا يعدونها ـ في زمن الشعارات ـ أم الدول المتخلفة الرجعية !! لأنها لا زالت تحكم بالإسلام. فكانوا يُسَخرون كل طاقاتهم في سبيل محاربتها أو تغيير حكومتها إن استطاعوا . ولذا فقد سخروا إعلامهم للنيل منها ، والسخرية بها وبحكامها ، وسخروا كوادرهم لمحاولة تجنيد عملاء لهم فيها ( كهشام العابر !! ) لعلهم يقومون بانقلاب فيها ويسقطون حكومتها ، كما فعلوا في بعض الدول العربية .
كل هذا فعلوه لكن الله ـ عز وجل ـ رد كيدهم في نحرهم ، وأرجعهم خائبين خاسرين بفضله تعالى ثم بفضل جهود الملك فيصل ـ رحمه الله ـ وإخوانه الذين حاربوا ( شراذم ) الشيوعيين والبعثيين والقوميين ، وشردوهم ، ومزقوهم شرَّ ممزق ، واستماتوا في سبيل حماية دينهم وبلادهم من عبث العابثين وإن غلفوا ذلك بدعوى ( التقدم ) و ( والتحضر ) .
ثم دار الزمان دورته ، فإذا بهذه الدولة ( الرجعية ) ـ عند هؤلاء المنحرفين ـ ـ أعني السعودية ـ تصبح أعز دولة في عالمنا ديناً ودنيا ، حيث جمعت بين الدين الصحيح وهو (الدعوة السلفية ) وبين التطور الدنيوي (المتواصل ) ([199]).
أما تلكم الدول ( التقدمية ) ! ـ في نظر الحمد ـ فإنها حين أفاقت من سكرة الشعارات ، وجدت نفسها بلادين ( صحيح ) ولا دنيا ( متقدمة ) ، فدينها التقليد والخرافة([200])، ودنياها البؤس ، والشقاء . كما هو مشاهد لكل أحد. فبدأ الذين اساؤا للسعودية يعيدون النظر في حساباتهم ويتراجعون عن مواقفهم الخاطئة معها بعد أن انقشعت غشاوة الغوغاء والشعارات عنهم .
ولم يبق منهم على طريقته الأولى سوى ( حزب البعث ) الذي لا زال يعيش أسيراً لتلك الفترة السابقة ، ولا زال يحاول النيل بما استطاع من الدولة السعودية : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) ([201]) .
كل هذا أقوله مقدمة لما جاء في ثلاثية الحمد من نيل من الدولة السعودية، حيث صاغ كيده بأسلوب غير مباشر لأنه يعلم أنه لا يستطيع (المواجهة!).
يقول الحمد متحدثاً عن أحد اجتماعات ( حزب البعث ) في السعودية !
( ثم فجأة قال منصور بهدوء ودون أن ينظر إليه :
ـ ما رأيك في الحكومة يا هشام … ؟
سؤال مباغت لم يكن يتوقعه ، مثل قنبلة ألقيت فجأة . لم يحر جواباً ، أحسّ بالاضطراب ، ولاذ بالصمت . غير أن منصور عاود إلقاء قنابله ، موجهاً عينيه الثاقبتين إلى عين هشام مباشرة وهو يقول :
ـ لا داعي للإجابة . . . أنا أجيب عنك . . . إنها حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال ليس إلا . . . )([202]).
قلت : لا يستطيع الحمد أن يطعن في ( الحكومة السعودية ) صراحة ، ولذا فقد صاغ طعنه ـ بهدف إيصاله إلى القراء ـ على لسان منصور (البعثى) .
فحكومتنا عند الحمد ( حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال) !
ولهذا فالمطلوب ليس مناصحتها، إنما إسقاطها واستلام ( حزب البعث ) للسلطة بدلاً منها، حيث سيقوم هذا الحزب ( العادل ! ) بإقامة حكومة (ديمقراطية ! ) تساوي بين الناس دون نظرٍ إلى ( أديانهم ! ) ، وتوزيع الثروة بينهم بالتساوي !!
وسوريا والعراق خير شاهد على هذا !!!
وقال الحمد في روايته على لسان ( الرفيق حديجان ! )
( يا رفيق فهد . . . لقد تحدثنا عن الأمة كثيراً ، ولكن ماذا بشأن قطرنا هذا ، كيف السبيل إلى تحرره ؟ )([203])
فالهدف هو تحرير ( السعودية ) واسقاط راية التوحيد ، ورفع راية (البعث) بدلاً منها ! (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)([204]).
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده :
كنت قد كتبت قبل حوالي ثلاث سنوات رسالة مطولة عن فكر وأدب تركي الحمد، ولكن لم يتيسر طبعها في حينه، إنما وجدتْ الانتشار –ولله الحمد- على شبكة الإنترنت بناء على طلبٍ من إخوة كرام رأوا في ذلك حلاً مؤقتاً للتصدي لانحرافات هذا الرجل. ثم بعد ذلك اقترح البعض أن تُخْتصر تلك الدراسة ويُكتفى منها بما ذكرته عن "ثلاثيته" لسببين وجيهين؛ هما:
1- أن "ثلاثيته" هي سبب شهرته بين الناس، ولولاها لما راح ولا جاء.
2- أن تأثير القصص في الناس أشد من تأثير المقالات الفكرية التي يعسر فهمها على كثيرين.
لهذا قمت بالاقتصار في هذه الرسالة على الحديث عن "الثلاثية" وما فيها من مضامين خطيرة يُسْتغرب صدروها من رجل يدعي الإسلام.
أما فكر الرجل ففي ظني أنه لا يستحق مزيدًا من الاهتمام؛ لعدم ثباته على مبدأ واحد، بل هو يتقلب تقلب الليل والنهار! فبينا تراه بعثياً يعلي قيمة الفكر الاشتراكي، إذا بك تجده بعدها مفكرًا قومياً، ثم تفاجأ به عن قريب قد انقلب كاتباً ليبرالياً ! ثم رابعةً كاتباً نفعيًا يدور مع مصلحته الخاصة.. وهكذا؛ فهو كما قيل:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعـدناني!
والله يقول عن أصحاب هذا التلون والتردد: "مذبذبين" لا يثبتون على رأي بل يدورون مع أهوائهم.
والملاحظ في كتابات الدكتور تركي الحمد –هداه الله- استكباره عن الحق، ومراغمته لأهله، ورضاه بأن يتقلب بين تلك المذاهب والمبادئ دون أن يكون لدعوة الكتاب والسنة نصيب من ذلك.
ومن يتأمل تلك الكتابات يجدها تدور حول هذه الأفكار التي تتردد عنده كثيراً:
أولها: تشنيعه على العاملين للإسلام في هذا الزمان، وتسميتهم –ظلماً وزورًا- "بالإسلامويين"، ومحاولة إقامة الحاجز بينهم وبين عامة المسلمين. وتصويرهم بأنهم لا يمثلون الإسلام الصحيح. وكان الأولى به أن يعترف بفضلهم وبجهودهم ويشكرها لهم، ويقبل ما عندهم من الحق. أما ما خالفوا فيه الكتاب والسنة فيُرَدُّ عليهم.
ثانيها : ادعاؤه المتكرر بأن الحق المطلق لا يمتلكه أحد! وهذا –في ظني- من تأثير "الذبذبة" التي لازمت مواقفه. لأن هذا التنقل بين أهواء البشر أورثه شكاً فيها جميعاً، بعد أن خبرها وعرف المآخذ عليها. ثم نظر إلى دعوة الكتاب والسنة نظرته لتلك الأهواء ([1])!
ثالثها: أنه يخلط بين أمر "الدين" وأمر "الدنيا"، فمن كان متقدمًا في أموره "الدنيوية" كان عند الحمد المقدَّم في جميع الأمور ! وأصبحت "ثقافته" أو "حضارته" أولى بأن تحتذى من الآخرين.
وهذا الخلط جعله يهوي في دركات الضلال عندما فضل الثقافات الأخرى على دين "الإسلام" وإن كان يستر هذا الأمر العظيم بعدم استعماله كلمة "الإسلام" عند المفاضلة !
معارضاً بهذا حكم الله تعالى في قوله (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وأنه تعالى قد ارتضى هذا الدين لعباده. وختم رسله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكتبه بالقرآن فمن ارتضى غير ذلك فهو لا شك من أكفر الكافرين.
أما تخلف المسلمين في أمر الدنيا فلا شأن للإسلام به، إنما هو من عند أنفسهم عندما انصرفوا عن الأخذ بأسباب العلم والقوة وغرقوا في الخرافات والخزعبلات؛ حتى فاتهم الدين الصحيح والدنيا المتقدمة، إلا من رحم الله.
فأمر الدنيا كلأٌ مباح لجميع البشر؛ كما قال تعالى: (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً). فمن بذل أسبابها حصّلها بإذن الله، ولهذا تجد المتقدمين دنيوياً في عالمنا أصحاب أديان ومشارب شتى لا يختص الأمر بدين أو ثقافة محددة.
وليعلم الحمد بعد هذا أن التقدم الدنيوي لا يغني عند الله شيئاً ما لم يقترن ذلك بالدين الصحيح، وقد أهلك سبحانه كثيرًا من الأمم السابقة التي أعرضت عن الحق وكفرت به مع إخباره عنها بأنها قد بلغت شأناً عظيماً في أمور الدنيا. قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم).
الخلاصة: أن من أراد دراسة فكر الرجل ورغب في الرد عليه فلعله لا يغفل عن هذه الأمور الثلاثة التي ذكرتها، وهي ما يمثل معالم فكره .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (أجمعين) .
تعريف بتركي الحمد (1)
هو : تركي حمد التركي الحمد ، المشهور بـ( تركي الحمد ) من أسرة قصيمية انتقلت إلى المنطقة الشرقية ، وسكنت الدمام ، وكان والده يعمل في شركة (أرامكو ) .
ـ من مواليد 10 /3/1952م الأردن ، الكرك " العقيلات " .
ـ درس الإبتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الدمام .
ـ حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة الرياض عام 1975م .
ـ ثم سافر إلى الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات كاملة ! حصل منها على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة ( كلورادو ) عام 1979م .
ـ ثم حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية ـ أيضاً ـ عام 1985م ، من جامعة جنوب كاليفورنيا .
ـ عمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الملك سعود منذ عام 1985م إلى عام 1995م.
ـ ثم طلب التقاعد المبكر ليتفرغ للكتابة. !(2)
مؤلفاته :
1- الحركات الثورية المقارنة عام 1986 م
2- دراسات أيدلوجية في الحالة العربية عام 1992م
3- الثقافة العربية أمام تحديات التغيير عام 1993م
4- عن الإنسان أتحدث 1995م
5- رواية ثلاثية بعنوان (أطياف الأزقة المهجورة )
أ ـ العدامة .
ب ـ الشميسي .
ج ـ الكراديب .
6- كتاب ( الثقافة العربية في عصر العولمة ) .
7- رواية بعنوان ( شرق الوادي ) (3)
8- السياسة بين الحلال والحرام، (مجموعة مقالات).
- له العديد من المشاركات الصحفية عبر المقالات ، كمقالاته الأسبوعية في جريدة الشرق الأوسط ، أو مقالاته في جريدة الحياة ، أو مجلة الاتصال، وغيرها من المجلات السعودية وغير السعودية .
ثلاثية تركي الحمد
ثلاثية تر كي الحمد تسمى ( أطياف الأزقة المهجورة ) وهي من ثلاث حلقات متسلسلة تحكي قصة بطل واحد هو ( هشام العابر ) .
الحلقة الأولى : بعنوان ( العدامة )([3])
الحلقة الثانية : بعنوان ( الشميسي )([4])
الحلقة الثالثة : بعنوان ( الكراديب )([5])
1 ـ العدامة :
بطل هذه الثلاثية هو ( هشام بن إبراهيم العابر ) شاب صغير السن يعيش مع والديه في مدينة الدمام في فترة الثمانينات الهجرية . وأما اصلهم فيعود إلى القصيم! .
وكان هذا الفتى الصغير مولعًا بالقراءة ومتابعة مايدور حوله من أحداث وأفكار في تلك الفترة الصاخبة بالشعارات ، فاعتنق لأجل هذا الفكر القومي الماركسي الذي كان متوهجاً ساحراً لكل متفتح على الحياة ، لا سيما بعد نجاح هذا الفكر ( على اختلاف درجاته ) في الاستيلاء على البلاد العربية، مما زاد من رصيد معتنقيه الذين رأوا فيه خير موحد للأمة العربية التي مزقها الاستعمار .
لهذا : اعتنق هشام هذا الفكر وآمن به ، ثم استطاع أفراد تنظيم ( حزب البعث بالسعودية !! ) أن يضموه إليهم كعضو جديد في الحزب بعدما أعجبوا به وبأفكاره .
استمر هشام يحضر اجتماعات الحزب ( السرية ) ، ويشارك في نقاشاتهم وفي إعداد التقارير لهم عن الأحوال السياسية الجارية .
كما أنه استطاع أن يضم صديقه ( عدنان العلي ) إلى هذا الحزب ، إلا أنه برغم كل هذا يود التخلص من الارتباط بعضوية الحزب ، مع البقاء على أفكاره دون أن يشعر بأي تقييد .
سافر هشام إلى الرياض لتقديم أوراقه إلى كلية التجارة مؤملاً أن يدرس شيئاً عن الأفكار والأنظمة السياسية المختلفة . فاضطر للسكن في بيت خاله (المتدين ) .
كان أولاد خاله يختلفون عنه كثيراً في أسلوب حياتهم وطريقة عيشهم ، حيث كانوا مقبلين على اللهو والتمتع بالحياة، ولم تكن الأفكار الفلسفية والأحداث السياسية تستهويهم لا سيما ( عبدالرحمن ) الذي تميز عنهم بحبه للمغامرات (النسائية) مع شربه للخمر ( أو العَرَق ) .
تغيرت أحوال هشام بسبب ابن خاله عبدالرحمن الذي أغراه بالتمتع بشبابه ومعاقرة الخمر والنساء، فانساق هشام معه تدريجياً إلى أن سقطت جميع المثل التي كان يراها في السابق من عينيه بفضل رعاية والديه له في الدمام . فأقبل على حياته الجديدة بنهم شديد وبعلاقات نسائية متتالية .
كان هشام قد سافر من قبل مع أهله إلى بلدهم الأصلي ( القصيم ) لزيارة جده وجدته .
وهناك تعرف هشام على (عبد المحسن التغيري ) الذي عرَّف هشاماً على بقية زملائه من خلال ( كشتات ) البر . وهم ( محمد الغبيرة ) و( دعيس الدعيس ) و(سليم السنور ) و ( صالح الطرثوث ) و( مهنا الطعيري ) وكانوا جميعاً من المهووسين بجمال عبد الناصر وبقوميته لا سيما ( مهنا الطعيري ) .
عاد هشام إلى الدمام مواصلاً ترقب أخبار الاعتقالات التي حدثت لأفراد الحزب والأحزاب والتنظيمات الأخرى المعارضة ( للحكومة السعودية ) ومواصلاً أيضاً غزله المتبادل مع بنت الجيران ( نورة ) .
وبهذا انتهت الرواية الأولى من ثلاثية تركي الحمد .
لتبدأ بعدها أحداث الرواية الثانية ( الشميسي ) .
2 ـ الشميسي :
تكاد تكون أحداث رواية الشميسي مخصصة لحال هشام في مدينة الرياض، وهذا مايوحي به اسمها ( الشميسي ) الذي هو اسم شارع شهير في مدينة الرياض .
سجل هشام في كلية التجارة وانتقل إلى السكن عند خاله في الرياض ، وكثرت ملابسته للمحرمات من شراب ونساء بواسطة ( عبد الرحمن ) ابن خاله.
ثم ارتبط بعلاقة غير شرعية مع جارة خاله ( سارة ) أو ( سوير ) وأصبح يتردد عليها .
تفاجأ هشام بالتزام صديقه عدنان ، الذي اختار سبيل الخير مسلكاً له وارتبط مع شباب صالحين أثناء قدومه للدراسة الجامعية في الرياض ـ أيضاً ـ.
انتقل هشام للسكن في عزبة مع ( عبد المحسن التغيري ) الذي قدم الرياض من القصيم لكي يأخذ ـ أي هشام ـ حريته الكافية التي كانت مقيدة نوعاً ما في منـزل خاله .
انتهت امتحانات نصف العام فذهب هشام إلى الدمام لزيارة أهله مواصلاً علاقته العاطفية مع ( نورة ) بنت الجيران بعد أن علم بزواجها .
رجع هشام إلى الرياض مواصلاً ـ أيضاً ـ مغامراته النسائية لا سيما مع (سوير ) التي حملت منه !
جاء والده فجأة لزيارة الرياض لإخباره بأنه مطلوب من قبل رجال الأمن (المباحث ) .
وبعد أخذ ورد قرر الوالد إخفاءه عن أعين الأمن عند أحد زملائه إلى حين استصدار جواز مزور له لكي يتمكن من الهرب إلى بيروت([6]) عن طريق البحرين ، ولكن رجال الأمن كانوا له بالمرصاد حيث قبضوا عليه وحققوا معه ثم قرروا ترحيله إلى جدة لمواصلة التحقيق ( الجاد ! ) معه .
بهذا الحدث انتهت رواية الشميسي وهي الحلقة الثانية من ثلاثية تركي الحمد ، لتبدأ بعدها أحداث الحلقة الأخيرة من الثلاثية وهي رواية ( الكراديب).
3ـ الكراديب :
هذه الرواية مخصصة لبيان أحوال هشام في السجن في جدة بعد أن حُقق معه ولكنه أبى الاعتراف بانتسابه إلى تنظيم ( حزب البعث ) ، فقرروا أن يلبث في السجن إلى حين ، حيث تعرف من خلال السجن على الشيوعي ( عارف)، فبدأت بينهما نقاشات حول أفكار بعضهما مع شد وجذب ، لأن كل واحد منهما يؤيد فكرته لتصحيح الأوضاع.
اعترف هشام بما يريده السجانون فنقلوه من مكانه إلى مكان آخر أفضل منه. حيث تعرف ـ أيضاً ـ على ( وليد ) الذي يؤمن بالقومية كحل لأفراد الأمة ، و (عبد الله ) الذي ينتمي إلى ( الجبهة الديمقراطية ) وهي جبهة منفصلة عن حزب البعث ، ( ولقمان ) الذي ينتسب إلى الإخوان المسلمين ! .
استمرت النقاشات بين هؤلاء الأربعة ، وكلٌ منهم يحاول أن يبين صحة نظرة واختياره هذا المسلك الذي سلكه ، وارتضاه دون غيره .
بعد مدة من الزمن تم الافراج عن هشام الذي عاد فوراً إلى الدمام ، ولكنه وجد كل شيء حوله قد تغير ولم يعد يحمل ذكرى الماضي لا سيما وأبوه قد انتقل إلى بيتٍ جديد بدل بيتهم القديم الذي عاش فيه سنيه الأولى .
بعد أخذ ورد قرر أهله أن يعود إلى مواصلة دراسته في الرياض ، فعاد إليها مندهشاً لمدى تغيرها عن عهده القديم بها ، في مبانيها وفي أفرادها ( وهو ينظر بعينين فقدتا بريقهما ، إلى أزقة كانت مأهولة ، فلم تعد إلا أزقة مهجورة تجوبها أطياف لاحياة فيها ، ولكنها لا تريد أن تموت ) ([7])، وبهذا انتهت أحداث الحلقة الأخيرة من ثلاثية تركي الحمد .
ملامح بطل الثلاثية : هشام العابر :
لنتبين ملامح ( هشام العابر ـ أو تركي الحمد ) في هذه الرواية سأقتطف بعض العبارات من الثلاثية تُكون لنا صورة متكاملة لشخصيته (صفاته وطموحاته):
1ـ هو شاب يحب القراءة : لاسيما قراءة الكتب ( المحرَّمة ) الفلسفية والماركسية .
( لقد خرج إلى الدنيا وهو لا يعرف إلا هواية واحدة ، ولذة واحدة هي القراءة، ويقرأ أي شيء ، وكل شيء تقع عليه يده ) ([8])
( أخذت القراءات الفلسفية والسياسية تجذبه كثيراً منذ أن أهداه أحد أصدقاء والده كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد " لعبد الرحمن الكواكبي ، حتى أنه كان يقضي ليالي بطولها في قراءة النصوص الماركسية والقومية والوجودية وغيرها من التيارات الفلسفية والسياسية مما تقع عليه يده في المكتبات المحلية ، أو يحصل عليه مما هو غير متاح في المكتبات ) ([9])
( في المرحلة الثانوية أهمل الدراسة إهمالاً تاماً ، ولولا خشيته من جرح كبرياء والده وقلب أمه لما درس إطلاقاً ، وتفرغ لعالمه الجديد من القراءة واكتشاف النصوص المحرمة )([10])
( لم تعد الكتب المتوفرة في المكتبات المحلية ترضي شغفه بالعالم الجديد الذي اكتشف ، فكان في كل رحلة مع والديه إلى الدول المجاورة ، الأردن أو سوريا ولبنان يجلب معه بعضاً من تلك الكتب الممنوعة والمحرمة ، والتي تكون زاده المعرفي طوال الفترة اللاحقة ) ([11]) .
( كان ينفق كل مصروفه على الكتب الماركسية غير المتاحة في بلده ، وخاصة مؤلفات آرنستوتشي غيفارا ، وريجس دوبريه ، وفرانز فانون ، بالإضافة إلى مؤلفات ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين وترو تسكي وستالين ، التي تشكل الزاد الفكري الرئيسي .أما ما كان يهزه من الداخل فعلاً ، فقد كانت مؤلفات غيفارا التي كانت تدغدغ شيئاً ما داخل ذاته . كانت هذه الكتب ، بالإضافة إلى الأعمال الأدبية والروائية العالمية الخالدة ، تباع بأرخص الأسعار على أرصفة الشوراع في عمان ودمشق وبيروت ، وعلى عربات أشبه بعربات الخضار . التهم خلال رحلاته ، وبعد العودة ، كل روايات مكسيم غوركي خاصة ، وأهم الروايات الخالدة في الأدب الروسي عامة . قرأ " آنا كرنينا " و " البعث " لليو تولستوي ، " والجريمة والعقاب " "والأخوة كارامازوف " لفيدور دوستويفسكي ، و"الدون الهاديء" لميخائيل تشولوكوف . وقد أثارت فيه رواية " الأم " لغوركي أحاسيس وانفعالات عنيفة متداخلة ، من الغضب إلى الحماس إلى البكاء إلى العطف إلى القسوة إلى الرقة ، مما جعله يعيد قراءتها مرات ومرات. بكى عدة مرات مع العم توم في كوخه ، وعاش مع لانغ وزوجته في أرضهما الطيبة ، وتعاطف كثيراً مع مدام بوفاري بنفس القدر الذي حنق فيه على سكارليت أوهايرا . وكان يختلس لحظات طويلة يقرأ فيها ألبرتو مورافيا وبلزاك واميل زولا ، لا حباً في ذات هذه الأعمال دائماً ، ولكن بحثاً عن مشهد جنسي هنا ، أو وصف لعلاقة حميمة هناك ويتصور في لحظة حلم يقظة أنه البطل في كل هذه العلاقات. أما ذلك الوصف الأخاذ للحياة الاجتماعية في هذه الأعمال ، فلم يكن يهمه كثيراً ، إذ كان يعتقد أن الأدب الروسي لا يعلى عليه في هذا المجال كما قرأ بعض روايات تشارلز ديكنز ، وأعجبته خاصة " قصة مدينتين " ، التي اعتبراها ، مع " الأم" أفضل أعمال يمكن كتابتها . كان ينفق مصروفه على هذه الكتب ) ([12]).
2ـ هو يريد أن يكون مفكراً طليقاً ، لا يتقيد بأي دين أو مذهب سوى (العلم!) .
( يذكر ذات مرة أنه دخل في مجادلة مع مدرس الدين حول نظرية النشوء والإرتقاء لدارون ، حين شتم هذا المدرس النظرية واصفاً إياها بالفكر والإلحاد ، وشتم صاحبها واصفاً إياه باليهودية والمؤامرة اليهودية على الإسلام والمسلمين . يذكر يومها أنه قال للمدرس إن هذه النظرية إنتاج علمي ، والعلم هو سيد العصر شئنا أم أبينا . قد يخطىء دارون وقد يصيب بشأن أصل الإنسان وأصل الأنواع ولكن التطور حقيقة تفرض نفسها ، كما أن دارون ليس يهودياً لا أباً ولا أماً . يومها اتخذ منه مدرس الدين موقفاً عدائياً ، واصبح لا يناديه إلا بالفاسق . ولكن ذلك لم يكن يهمه كثيراً بل لم يكن يهمه على الإطلاق، مع ذلك الحماس وذلك الإنطلاق الذي وجده في عالمه الجديد )([13]).
( أريد أن أكون مفكراً طليقاً ، لا مناضلاً سياسياً في تنظيم ) ([14]).
3ـ هو ماركسي المذهب ، ليس كالماركسيين ، بل يحب المزج بين الماركسية والقومية العربية :
( أعجبته كتابات ياسين الحافظ وكذلك المنطلقات ، إذ وجد فيها مزيجاً أخاذاً ومثيراً من الماركسية والقومية . وجد فيها شيئاً كان يشعر أنه ينقص الكتابات الماركسية التي قرأ ، وكذلك الكتابات القومية على اختلافها . فقد سبق له أن قرأ " في سبيل البعث" لميشيل عفلق ، وبعض كتابات منيف الرزاز وصلاح البيطار ، والكتابات الناصرية القليلة مثل فلسفة الثورة ، لجمال عبد الناصر ، وكتابات أنور السادات حول ثورة يوليو وعبد الناصر ، وكذلك " بصراحة " محمد حسنين هيكل التي ينشرها في جريدة الأهرام كل يوم جمعة ، ويستمع إليها من خلال إذاعة "صوت العرب " من القاهرة ، فقد كانت الأهرام ممنوعة من الدخول في بلده . كانت الكتابات الماركسية تركز على المسألة الاجتماعية والأممية ، وبقدر ما كان متحمساً للمسألة الاجتماعية ومؤمناً بها ، بقدر ما كان متردداً بشأن المسألة الأممية .إنه يشعر أنه قومي حتى النخاع ، والقومية تسري في عروقه . وتهزه خطابات جمال عبد الناصر ، وتثمله الشعارات القومية التي يطلقها البعثيون والناصريون والقوميون العرب . لكن رغم ذلك ، كان يحس أن هنالك شيئأ ناقصاً ، كان يشعر أن هؤلاء لم يعطوا المسألة الاجتماعية حقها من الإهتمام، وخاصة قضايا مثل الصراع الطبقي والإشتراكية العلمية والحتمية التاريخية . ولذلك اعتقد أن الفكر الماركسي ، رغم بعض التحفظات ، هو الذي من الممكن أن ينير الطريق ويعطي فلسفة متكاملة للحياة . أعجبته كتابات الحافظ والمنطلقات لأنها تمزج المسألة القومية بالإجتماعية . جامعة ما يشعر بميل إليه في فلسفة واحدة )([15])
( لا تعجبني أفكار عفلق والبيطار والرزاز . أعتقد أنها عاطفية أكثر من اللزوم ، رغم إيماني بإطارها العام . نحن بحاجة إلى فلسفة متكاملة . وأعتقد أن الماركسية هي الحل رغم النواقص التي من الممكن إكمالها ) ([16])
( إذا كان ما في المنطلقات هو فكر البعث ، فإني أجد نفسي فيه ، فهو يمزج القومية بالماركسية . . . وهذه هي قناعاتي ) ([17])
( أحس بالهلع والنفور من كل ما يمت إلى التنظيم وفكره بصلة . وبقيت علاقته الحميمية بالماركسية )([18])
هو يتبنى فكراً ماركسياً لا يعتقد بدور البطل في التاريخ ، بل هي التناقضات المادية والاجتماعية التحتية ، وانعكاساتها الفوقية السياسية والثقافية)([19])
( الماركسية . . . هي الفكر العلمي الشامل القادر على منحنا مفاتيح التاريخ والمجتمع والسياسة ، ومن لديه هذه المفاتيح لا خوف عليه ولا هو يحزن ) ([20])
( الحقيقة أني ميال إلى الفكر الماركسي )([21])
( سوف يتعلم الماركسية على أصولها )([22])
( من قال لك إني شيوعي ؟ . . . أنا اشتراكي )([23]) .
( أنا أميل إلى الماركسية ، ولكني لست شيوعياً )([24]).
ولكن هشاماً برغم هذا الحسم (الماركسي) لتوجهه إلا أنه بقي متردداً متحيراً في أمره تصارعه أفكار شتى حول هذا الكون ، وخالقه ، وأحداثه ، مما لم يستطع أن يستوعبه فأصبح ينادي بتفاهة هذه الحياة وأهلها ، وعبثية أحداثها وأقدارها ، مع ترقب وتوجس لهجوم الموت (الغادر!) عليه :
(ليست الحياة إلا حفلة ماجنة يُدخن فيها الحشيش ويؤكل الخبز مغموساً بالنبيذ والعرق الراشح من أجساد أدمنت الجنس ، وأدماها الهوى ، ومزقت نفسها بوحشة أخلاقية .نحاول أن نضفي المثال والجمال على هذه الحفلة العابثة ، ولكن كل شىء ينكشف ولو بعد حين ، وتقف الحقيقة عارية من جديد ، كما ولدت عارية من قديم … العدم يقف بالمرصاد ، والمجهول يتربص من بعيد ، والعجز يقيد المجتمع ) ([25])
(الموت قادم لا محالة .. إنه مصير ملموس ، وليس كمصير الأمة أو الطبقة، مشكوك فيه بقدر ما هو مشكوك في الأمة والطبقة ذاتهما . فلماذا الإحتياط ، ولماذا الخوف ؟ … ولماذا هذه اللعبة السمجة ، لعبة القط والفأر … ما نحن إلا ممثلون في مسرحية ، وسواء طال دور أحدنا في هذه المسرحية أم قصر ، فإنه لايلبث أن ينتهي ، وتنتهي كل المسرحية في النهاية …
ثم بعد تردد طفيف .
ـ ولو كان لي من الأمر شيئاً ([26]) في البداية ، لما اخترت الاشتراك في المسرحية من الأساس )([27]).
( هل ما يجري هو حكمة خافية لاندريها ، أو أنه مجرد عبث اعتدنا عليه فأصبح نظاماً ، أم هو مزيج منهما ، أم لا هذا ولا ذاك ؟ أين المعنى في كل ذلك وما هو النظام ؟ لا أحد يدري ، ولن يدري أحد )([28]).
( يالهذا الموت الجبان الغادر … إنه يأخذ أجمل ما في الحياة ويضحك ويهجرنا حين نريده ، ويحل ضيفاً ثقيلاً حين لانريده … ليت موسى لم يفقأ عين عزرائيل حين أتى لقبض روحه ، ولكنه قصم ظهره أو دق عنقه … ولكن حتى لو مات عزرائيل ، هل يموت الموت ؟ ويقلع عن أفكاره هذه ويقتنع بأهمية الموت لا ستمرار الحياة ، ولكنه يكرهه ، ولا زال يعتقد بجبنه وغدره )([29]).
(عليك الرحمة ياابن آدم . ظننت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة وأحقر من بعوضة، يا لك من معتوه يا ابن آدم ، أردت أن تكون إنساناً كما أراد لك من أنسنك ، ولكنك وجدت نفسك في عالم تداس فيه كصرصار تائه ، وتسحق فيه كذبابة وقحة ) ([30]).
قلت : هذه أبرز ملامح (هشام العابر) : فهو يحب القراءة منذ صغره في الكتب (المحرّمة) الفلسفية والماركسية ، التي كانت ممنوعة ـ لضررها ـ في بلاده (السعودية) ولهذا كان يحرص على تحصيلها من عدة منافذ .
ولأجل قراءته هذه فقد تعلق قلبه بالفكر الماركسي والفكر القومي الذي كان عالياً صوته شديداً هيجانه في تلك الفترة ، فحاول أن يمزج بين (القومية والماركسية) متأثراً ببعض قيادات ومنظري (حزب البعث) .
ولأجل هذا انضم (هشام) ـ على كرهٍ وتمنع ـ إلى هذا الحزب ، لأنه يود أن يكون مفكراً طليقاً ، بدلاً من حصره في صرامة التنظيمات .
وكانت نظرته إلى الحياة سوداوية تشاؤمية ، لأنه لم يعرف لها هدفاً ، ولم يفقه حكمة الله من خلقها ، وجعل الخلق يتوارثونها ، لم يعد يرى منها سوى أنها حياة لا قيمة لها ، تجري أحداثها وأقدارها بعبثٍ لا حكمة فيه .
ويتضح بعد هذا الموجز عن هشام العابر (أو تركي الحمد !) وأفكاره أن الحديث ـ دون تطويل ـ سيكون حول :
6 ـ بيان تنقص الحمد في ثلاثيته :
أ ـ لله .
ب ـ وملائكته .
جـ ـ وكتبه .
د ـ ورسله .
هـ ـ ودينه .
و ـ وعباده الصالحين .
7 ـ مباحث أخرى .
تركي الحمد يتنقص في ثلاثيته :
الله وملائكته وكتبه ورسله ودينه وعباده الصالحين
تنقص الحمد لله ـ عز وجل ـ :
لم يقدر تركي الحمد الله ـ عز وجل ـ حق قدره ولم يعظمه كما يعظمه عباده المؤمنون ، بل تحدث عنه في روايته وكأنه يتحدث عن بشرٍ مثله حديث الند للند بعبارة مملوءة بالتحدي والسخرية ـ والعياذ بالله ـ ، وإن كان قد أخفى أشدها بالأسلوب الرمزي الذي عهدناه من هذا الصنف من البشر عندما يخوضون في مثل هذه الأمور .
فالحمد جاء في روايته بلهجة غريبة شاذة عن أهل هذا المجتمع في حديثهم عن ربهم ـ سبحانه وتعالى ـ حيث تجرأ في ذلك بصورة وقحة فاجرة .
وهو مشابه في هذه الجرأة لتيار الحداثة في ديار المسلمين الذين كانوا أول من ترددت هذه الظاهرة ( الكفرية ) في أشعارهم وأحاديثهم ، حيث لم يتورعوا عن الحديث عن الله ـ عز وجل ـ بألفاظ سوقية بشرية ، فمن ذلك على سبيل المثال :
قول صلاح عبد الصبور في قصيدته ( الناس في بلادي )
( يا أيها الإله ،
كم أنت قاسٍ موحش
يا أيها الإله ) ([31]).
وقول الشاعر (الماركسي) البياتي :
( الله في مدينتي يبيعه اليهود
الله في مدينتي مشرّد طريد )([32]) !!
وقول معين بسيسو :
( وطرقت جميع الأبوا ب
أخفتني عاهرة
ووشى بي قديس
كان الله معي
لكن الله هناك
يدلي بشهادته .. في مركز بوليس ) ([33]) !!
وقول توفيق زياد :
( ومداخن الأفران
قائمة .. كآلهة المنايا )([34])!!
وقول محمود دريش :
( نرسم القدس
إلهً يتعرى فوق خطٍ داكن الخضرة
أشباه عصافير تهاجر ) ([35])!!
وهكذا .. في عبارات (كفرية) كثيرة تتناثر في أشعارهم القذرة ([36])
وفي ظني أن هذه الظاهرة السيئة قد وفدت إلى ديار المسلمين عبر شعراء اليهود والنصارى وكتابهم ، الذين تُرجمت أشعارهم وعباراتهم وكانت مصدراً رئيساً لشعراء المسلمين .
وأولئك اليهود والنصارى ـ كما هو معلوم ـ لا يعظمون الله حق تعظيمه ، ولا ينزهون اسمه عن لغوهم وباطلهم .
وسبب ذلك ـ والعلم عند الله ـ هو تأثرهم بما جاء في كتبهم الدينية المحرّفة (لا سيما التوراة) عند الحديث عن الله ـ عز وجل ـ وصفاته حيث تتحدث تلكم الكتب ( المقدسة !) عن الله وصفاته كحديثها عن الخلق وصفاتهم، فجعلوا ( المولى سبحانه وتعالى في صورة بشر حقود ، سريع الغضب، كثير الندم ) ([37]).
فمن ذلك قولهم في ( سفر التكوين ، الإصحاح الثاني ) عن الله ـ عز وجل ـ : ( وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله … )([38])!
ومن ذلك إخبارهم عن الله ـ عز وجل ـ بأن اليهود عندما تاهوا نزل الله ـ عز وجل ـ فهداهم إلى طريق الخروج ! (جاء في سفر الخروج "وارتحلوا من سكوت ، ونزلوا في إيثام في طرف البرية . وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق ، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم …)([39]).
ومن ذلك زعمهم أن الله يبكي ويلطم وجهه ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ ([40])وأنه ـ تعالى ـ يصارع يعقوب عليه السلام ـ ([41])!! وأنه ـ تعالى ـ اعترف بخطئه أمام كبير الأحبار([42])!! وأنه ـ تعالى ـ يندم ويحزن وينسى([43])!!
إلى آخر تلك الصفات السيئة التي ألصقها اليهود ـ لعنهم الله ـ برب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ
يقول الدكتور محمد البار بعد أن ذكر هذه الافتراءات :
(ومما تقدم نخلص إلى أن صفات الله سبحانه وتعالى في التوراة والتلمود ، لا يمكن أن تكون صفات الله خالق الأكوان ومدبرها .. بل لا يمكن أن تكون إلا من صفات أراذل البشر .
هذا قليل من كثير من هذه الافتراءات والغثاء والكذب ، والتجديف في وصف المولى سبحانه وتعالى .. والتوارة والعهد القديم والتلمود كلها مليئة بهذه الأوصاف المنكرة والسجايا الخبيثة التي لا يمكن أن يوصف بها إلا أحط البشر وأراذلهم ، فكيف يمكن أن يوصف بها المولى سبحانه وتعالى؟!)([44]) .
وقال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد أن أورد شيئاً من تلكم الأكاذيب :
(فهذه الأمثلة من أوضح الأدلة على التحريف ، فإن الله عز وجل موصوف بصفات الكمال المطلق وكل ما يشعر بالنقص فالله عز وجل منزه عنه، فتضمين اليهود كتابهم صفات تشعر بوصف الله بصفات لا تليق بمقام الألوهية والربوبية والكمال المطلق ، دليل واضح على التحريف والتبديل إذ لا يمكن أن يتضمن الكتاب الذي نزل من عند الله ما يطعن فيه جل وعلا .
وبأمثال هذه الافتراءات من قبل متقدميهم تجرأ متأخروهم على الافتراء على الله ، واعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله لا يعذبهم، وفي هذا يقول الله عز وجل: {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ([45])) ([46]).
قلت : فهذه العقيدة الفاسدة قد أخذها كتاب وشعراء أهل الكتاب من كتبهم ( المحرفة ) فأضحوا يرددونها في نثرهم وأشعارهم دون أي خوف أو خجل من رب العالمين ، لأن كتبهم ( المقدسة !) قد جرأتهم على نقل وترديد هذا الاستخفاف والطعن بربهم ـ عز وجل ـ وأسقطت هيبته من نفوسهم .
ثم جاء من بعدهم ( نصارى ) العرب ([47]) فنقلوا تلك العقيدة في كتاباتهم ونظمهم .
وعن هؤلاء الكفرة أخذها كتابنا وشعراؤنا الذين ( يدعون ) الإسلام ، فخاضوا فيها تقليدا لأولئك دون أن يعصمهم عن هذا الخوض المنكر رهبة من الله ـ عز وجل ـ
فأصبحنا نسمع ونقرأ عبارات لبعض الشعراء ( المسلمين ! ) تضاهي في كفرها عبارات اليهود والنصارى ، ويندى لها جبين المسلم الموحد ، ويأسى على حال إخوانه الذين تابعوا الكافرين في طعنهم برب العالمين ، مصداقاً لقولe في هذا الصنف " لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو القذة بالقذة . حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قيل : اليهود والنصارى ؟ قال e " فمن ؟ "([48]) أي ليس إلا هم .
وقد دخل شرذمة من كتابنا وشعرائنا هذا الجحر الذي أخبر عنه الرسولe بل زادوا عليه بأن طعنوا في خالقهم ـ عز وجل ـ متابعة لمن هم شر البرية ـ كما سبق
يقول الدكتور أنس داود في كتابه ( الاسطورة في الشعر العربي الحديث):
(لجأ شعراؤنا إلى الكتب المقدسة وبخاصة التوراة والإنجيل وقلما استفادوا من القرآن في هذا السبيل ، ربما لأنهم يعيشون في أمة إسلامية لا تستسيغ مثل هذه النظرة الفنية إلى أقدس مقدساتها الدينية ، ولأن الكتاب المقدس كان مصدر استلهام فني في الشعر الأوربي بمثل ما استلهم هؤلاء الشعراء أساطير الأقدمين . ولأن ثمة نسباً ـ كما نرى ـ بين كتاب كالتوراة ومجموعات الأساطير المتوارثة في قوة تصويرها لنوازع الإنسان ، وتجسيدها للأهواء البشرية حتى حين تتحدث عن الأنبياء لا تتحدث عنهم هذا الحديث المتطهر الذي تجده في القرآن ، بل نجد لديهم فيضاً من الغرائز ، وغلبة للشهوات أحياناً ولجوءً إلى الحيل والخديعة ، وغير ذلك مما نجده في الحديث عن داود وعن سليمان وغيرهما من الأنبياء مما يقربهم من الشخصيات الأسطورية في نوازعها الجارفة وسلوكها كل مسلك)
قلت : ثم جاء ( الحمد ) منضماً إلى هذا الركب ومتحدثاً في ثلاثيته عن ربه عز وجل بعبارات بشعه لا تصدر عن مؤمن فمن ذلك :
قوله على لسان هشام : (أراد أن يتحدث مع عارف ، لكنه فقد الرغبة في الحديث . الله ، الحتمية ، الجبرية ، العلم .. كلها أشياء يتعلق بقشة منها . يريد الخروج ، فمن يوفر له ذلك ، فهو الله)([49]).
وقوله عنه : (يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم) ([50]).
وقوله : (دائماً المستقبل الذي لا يجئ ، والتاريخ الذي لا نعيه ، والله الذي لا نراه، يقفون وراء كل شيء ، ويبررون كل شيء) ([51]).
وقوله : (واستسلم لحلم يقظة جميل … تصور نفسه من بني إسرائيل أو سام ، وود لو كان أسيره إلى الأبد . تصور أنه يوشع نفسه ، أو سوبرمان ذاته . قادر على إيقاف الزمن ذاته . لا شيخوخة ولا موت ولا ألم ولا … تحقيق . تصور أنه الله ذاته … ولم لا … ما فرقه عن الحلاج والسهروردي وابن العربي ؟ ([52]) نحن الله والله نحن … كانت تلك رسالة موسى والمسيح ومحمد ، ولكن أكثر الناس لا يدركون ، فجعلوه ابن الله إنه ذات الله الآن ، فماذا يفعل ؟ هل يجعل الكون أكثر راحه ، وينشر السعادة بين البشر ؟ ولكن … ما هي السعادة ؟ ! سعادة سقراط أم أفلاطون أم أرسطوا أم ديوجين أم أبقور أم زينون أم كونفيشيوس أم بوذا أم وأم ، وأم … جملة أمَّات لا نهاية لها . كالحياة ذاتها . ثم لو نشر السعادة وقضى على الألم ، فهل يكون للسعادة نقيض الشقاء أو نقيض الألم ، فكيف يمكن إدراك السعادة إذا ختفى الألم ؟ حتى الجنة بدت له عديمة اللذة في تلك اللحظة كما بدت جهنم عديمة الألم . الخمرة لا تسكر ذاتها ، والجمرة لا تحرق نفسها … البراز لا يتأذى من رائحة نفسه ، والفل لا يستمتع بريح ذاته . لابد من البراز لاكتشاف لذة الفلة ، ولا بد من الفلة لاكتشاف قذارة البراز . ولذلك كان هناك جنة ونار معاً ، الله وشيطان ، نبي وفرعون ، وكل في قدر يسبحون… تحقيق السعادة وحدها ، يعني توحيد الألوان . وعندما تتوحد الألوان ، تختفي … المعنى في الاختلاف ، والعماء في التجانس . مشكلة … وجود الحياة بشكلها الحالي مشكلة … وجعلها أجمل وأحلى وأعدل مشكلة، لم لا تكون ذات الحياة هي المشكلة ؟ لو كان ذات الله ، لألغى الحياة ذاتها . لألغى هذه المسرحية المملة ، وصرف ممثليها وألغى تلك الأدوار المقررة المعروفة . لا حرية مع الوجود ، فكل الحرية في العدم …) ([53]).
وقوله : (الله أعلم ! مسكينٌ أنت يالله … دائماً نُحَملك مانقوم به من أخطاء) ([54]).
وقوله على لسان ( الشيوعي ) عارف : (إن الانتحار هو تحد للإله نفسه .
ثم وهو يضحك بسرعة :
ـ هذا إن كان هناك إله … الانتحار يا صديقي يعني أني قد اخترت الجحيم ورفضت النعيم بملء إرادتي … فالنعيم الحق هو ما أختاره أنا ، لا ما يختاره لي ما ليس أنا … الجحيم هو النعيم حين أختاره أنا ، والنعيم هو الجحيم حينما بختاره غيري لي أنا .
ويضحك عارف مرة أخرى ، ثم يعتدل في جلسته ، وقد اتسعت عيناه ، وبرقت عينه السليمة ، وقال وهو ينظر إلى هشام وقد اكتسى وجهه بعلامات نصر ما :
ـ الانتحار نصر على الله . ففي الانتحار تفوت الفرصة على الله أن يختار لك مصيرك . فأنت تدخل النار بإرادتك حين تنتحر وتعلم أن مصيرك هو النار . ليس الله هو من أدخلك النار ، بل أنت من فعل …
وابتسم هشام وهو يقول :
ـ ولكن افرض أن الله أدخلك الجنة بالرغم من انتحارك ، ألا يكون قد فوت عليك الفرصة واختار لك بالرغم منك ؟
وضحك عارف بحبور وهو يقول :
ـ كلا … فإذا دخلت النار فبإرادتي ، وإذا أدخلني الله الجنة فأكون قد فرضت إرادتي عليه … لقد توعدني بالنار فيما لو انتحرت ، ولكنه أدخلني الجنة برغم الوعيد . لقد فرضت إرادتي عليه ، وجعلته يغير وعيده ، لقد أصبحت نداً له . أبعد هذا الانتصار انتصارا؟ …
ـ ولماذا لا يكون هو قَدَّر عليك الاختيار منذ البدء ؟
ـ أكون قد فضحت اللعبة كلها حينذاك .
وعاد عارف إلى الاسترخاء وهو يردد :
ـ الانتحار هو النصر النهائي على كافة أشكال السلطة وأنواعها) ([55]).
الحمد يصرف ( العبادة ) لغير الله :
ومن تنقصه لخالقه ـ عز وجل ـ أنه امتهن لفظ ( العبادة ) وجعلها في غير موضعها ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإنما جعلها في عبادة البشر بعضهم لبعض .
حيث قال على لسان ( عشيقته !) سويّر :
( أنا أعبدك يا هشام ، والعبد لا يشرك مع معبوده شيئاً .
وبدون هدف أو غاية أوقصد قال بشيء من المزاح ، وقد أحس بالزهو يسيطر عليه من الداخل :
ـ ولكن الشرك لا يكون إلا بالله . هو المعبود الوحيد .
وكنمرة متوحشة ، نظرت إليه بعينيها المبللتين ، وقد زادتا اتساعاً على اتساعهما ، وهي تقول :
ـ إذا أنت ربي … ترحمني وتعذبني .وكل شيء منك مقبول ومحمود .
ولم يستطع الإحتمال فعلاً ، فقال بتلقائية :
ـ أستغفر الله العظيم … أستغفر الله العظيم .
ردّد ذلك وشعور من الزهو وشيء لا يعرفه ، أشبه ما يكون بالذنب ، يمتزجان في داخله . كانت يدها قابضة على يده ، فمدَّ يده الأخرى وأخذ يربت على خدها ويتحسسه بلذَّة ، فيما ارتمت هي في أحضانه بعنف ، وأخذت تشمه بصوت مسموع ، وهي تردد :
ـ أحبُّك … أحبُّك يا هشام … أعشقك … أعبدك ) ([56]).
تنقص عظيم :
ومن تنقصه لله ـ عز وجل ـ
قوله متحدثاً عن هشام وهو يحلم في منامه :
( وأخذ يسير على غير هدى في الصحراء ، وقشعريرة البرد تستولي عليه . كل شيء يوحي أنه لا يسير ، رغم أنه يسير . النجوم هي النجوم ، والصحراء والظلام عديمة الأبعاد لا يريد أن تنجلي ، واختفت البداية ، وتلاشت النهاية، فلا يدري أهو يسير أم يهيأ له أنه يسير . ولاح له بصيص نور من بعيد ، وأحس بالفرح الغامر رغم أنه يعلم أنه يحلم . وأخذ يغذ السير ، فيما النور يزداد سطوعاً وتتعدد ألونه ، أخضر وأحمر و أصفر ، ويتخللها لون أزرق باهت . وأخيراً وصل إلى حيث النور ، ثم فجأة أشرقت الشمس وهي تضحك بشكل هستيري لم تكن ذات الشمس التي يعرف ، فقد كانت شديدة الحرارة عديمة النور ، فرغم سطوعها ، إلا أن الظلام الحالك ما زال سائداً . وأخذ دماغه يغلي من الحرارة الشديدة ، إلا أن جسمه كان يرتعش برداً ، وأخذت النجوم ترسل سهاماً فضية في كل مكان ، حيث تتكسر بصوت أقرب إلى الرنين على صخور لا يراها ، ولكنه يعلم أنها هناك .
وفي خضم كل ذلك ، كانت نسمات هواء منعش تأتي من واحة وارفة الظلال تنبعث منها تلك الأضواء التي رآها من بعيد .كانت محاطة بأسلاك شائكة من كل جوانبها ، فلم يستطع الدخول . وأخذ يحوم حولها ، حتى تبين له الباب من بعيد .أتجه إليه ، وأراد الدخول بعجلة ، إلا أنه في اللحظة تلك ، برز له شخص من حيث لا يدري ، يحمل سوطاً طويلاً ، وملامح غريبة ، فقد كان له وجه ثور ، في رأس وجسم بشريين ، له مخالب في يديه ورجليه أشبه بمخالب الكلب ، وفي مؤخرته يبرز ذيل لولبي أشبه بذيل الخنزير ، استوقفه هذا الكائن وهو يخور قائلاً :
ـ إلى أين أيها الإنسان ؟
ـ أريد المأوى والطعام والسلام … هل هذا كثير ؟
ـ وهل تعتقد أن الدخول بهذه البساطة ؟ … الواحة واحتي ، ولا يدخلها إلا من يدفع الثمن . وثمنها بخس جداً … قبول شروطي .
ـ واحتك ؟ … شروطك ؟ … من أعطاك إياها ؟
ـ قوتي هي من أعطاني إياها … إنها لي وحدي .
ـ القوة لا تصنع حقاً.
ـ الحاجة أساس الحق .
ـ ونخر الكائن الغريب ، ثم قال بنفاد صبر :
ـ قوتي هي الحق هنا ، وإن كنت في شك من ذلك ، فحاول الدخول رغماً عني.
ولم يجد بداً من الاستسلام ، فقد كانت الحرارة والبرودة والظلام والصحراء لا تطاق ، فقال :
ـ حسنا … وما هي شروطك ؟
وافتر وجه الكائن عن بسمة رضا واسعة ، وأخذ اللعاب اللزج يسيل من بين أسنانه الضخمة ، فيما تحول أنفه إلى اللون الأرجواني وهو يقول :
ـ الآن أصبحت عاقلاً وحكيماً .
ثم استطرد :
ـ ليس لي إلا شرط واحد لا غير … أن تطيعني في كل ما آمرك به ، ولك أن تتمتع بالماء والهواء والثمار والسلام .
ـ ياله من سعر باهظ !
ـ ويالها من ثمار طيبة !
ـ وإن رفضتُ؟
ـ ليس لك إلا الصحراء والجوع والعطش وكلاب الطريق .
ـ ولكني لا أستغني عن الحرية …
ـ ونخر الكائن مرة أخرى وهو يقول :
ـ الحرية … ماهي الحرية ؟ مجرد كلمة .
ـ ولكن في البدء كان الكلمة .
ـ وما نفع الكلمة مع الجوع والقلق .
ـ وما نفع الشبع والسكينة مع العبودية ؟
وأخذ الكائن ينخر ويهز سوطه في الهواء ، وهو يقول :
ـ دعك من هرائك هذا … أمامك خياران ، إما أن تقبل شرطي وتدخل واحتي ، أو أن تعود إلى الضياع في الصحراء .
وأخذ يفكر في الخيارين وهو يختلس النظرات إلى داخل الواحة لقد كانت مظلمة مثل الصحراء حوله ، رغم الألوان التي كانت تحيط بها ، وتلك الأضواء التي يراها من هو بعيد ، ولكنها تختفي حالما يصلها أحدهم . ومن الداخل كانت تتراءى أشباح أهل الواحة رغم الظلام … وجوه حمراء ، وكروش منتفخه ، وأعين فقدت بريق الحياة ، وهم يأكلون طوال الوقت . وهيئ له أن وجوههم قد بدأت تتحول إلى شيء أقرب إلى وجه الكائن الذي يقف أمامه .
ـ ولكن قل لي …
قال هشام موجها حديثه للكائن :
ـ لماذا الظلام دامس في الواحة رغم الألوان والأنوار التي تتراءى من بعيد ؟
وضحك الكائن ، وهو يمتص بعض لعاب سال من جانب فمه ، قال :
ـ الظلام في كل مكان ، ولكن الطعام هنا فقط .
ـ ولكني أرى بصيص نور في الأفق يوحي بانبلاج الفجر في الصحراء ، ولا أرى ذلك البصيص في الواحة !
ـ النور مزعج للعين ، ونحن لا نحبه هنا فهو مفسد للسكينة والطمأنينه . ليس ألذ وأجمل من هدوء الليل ، وصمت الظلام .
ـ لم لا تقول إنك أنت من يكره النور ، كي لا يرى أحد وجهك المسخ .
وهناك ثار الكائن ، وأخذ ينخر بشدة ، ورفع السوط في الهواء يريد أن يهوي به على جسد هشام ، الذي فر من أمامه وهو يقول :
ـ سأضرب في الصحراء غير آبه بالشقاء … فلابد للصحراء من نهاية ، ولا بد لليل من فجر ، ولا بد أني واجد واحتي مهما طال الزمان … واحتي سوف تكون بلا سياج ولا ظلام ، ولا أمساخ بشر … وإن مت قبل ذلك ، فسوف أموت وأنا حر .
وتابع طريقه إلى عمق الصحراء فيما الشمس توقفت عن ضحكها ، وانكفأت على نفسها ، والكائن يضحك من بعيد ويقول بصوت كالرعد :
ـ لن تجد أفضل من واحتي هذه ، كل الواحات مثل واحتي … سوف تعود إلي مهما طال بكل التجوال ، طالباً الصفح والغفران ، مستجدياً أن أقبلك عبداً من عبيدي ، وساعتئذ … ستعرف من أنا .
وصاح هشام من بعيد :
ـ كلا … كلا لن أعود إلى واحتك إلا بعد أن يشرق فيها النور ويخلع السياج وتعود إلى الناس وجوههم .
وابتلعته الصحراء ، وقهقهة الكائن تدوي وراءه كالرعد ، والشمس عادت إلى ضحكها وحرقتها ، ولكنه يسير وهو يرى خيوط الفجر من بعيد)([57]).
قلت : تأمل ـ أخي المسلم ـ هذا الحلم الذي صاغه الحمد على لسان هشام جيداً ، ثم تساءل معي كما تساءلت :
ـ ماهي هذه الواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة ؟
ـ من هو هذا الشخص ( البشع !) الذي ساومه هشام على دخول الواحة ؟
لقد صاغ الحمد فكرته التي يريد إيصالها للقارئ بأسلوب رمزي شأنه في ذلك شأن أهل الرمزية الذين يروجون لفكرهم بتلك العبارات الغامضة خوفاً من عاقبة التصريح ( بالكفر) لا سيما في ديار التوحيد . وقد تابع الحمد هنا (شيخه) نجيب محفوظ في كفره عندما تحدث في روايته الشهيرة ( أولاد حارتنا ) عن الله ـ عز وجل ـ وعن أنبيائه بأسلوب رمزي([58]) قاء من خلال بما يحمله قلبه من كفر وحقد تجاه رب العالمين ـ تبارك وتعالى ـ وتجاه أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
فجاء الحمد يهرع من ورائه مستعرضاً قدراته في ( تمرير ) كفرياته في مثل هذا الحلم .
فالشخص البشع في نظر الحمد ـ هو الله ـ عز وجل ، وتعالى عن قول الحمد علواً كبيراً ـ . !!
والواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة هي الجنة ومافيها من سعادة واطمئنان .
فالحمد يريد أن يقول لنا بأن من أراد دخول الجنة فليلتزم بعبودية الله ـ عز وجل ـ وطاعة أوامره ، وأما من أنف من هذه العبودية واختار الحرية ! كما يزعم الحمد فلا بد أن يزهد في هذه الجنة ( أو الواحة ) ويضرب في أعماق الصحراء لعله يجد مصدراً آخر للسعادة لا تكون ضريبته فقدان الحرية !
وقد اختار الحمد الطريق الثاني وهو الاستنكاف عن عبادته سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم عن هذا الصنف من البشر : {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172)فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}([59]).
فمن استنكف عن عبادة الله وفرَّ منها طالباً الحرية كما يزعم ! فإنه لن يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً ، فالمرد ـ وإن طال الزمان ـ إلى الله الذي : {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ([60]).
ونحن نقول للحمد : من لم يرض بعبادة الله سبحانه وتعالى فإنه لا شك سيعبد غيره؛ لأن الإنسان لا يخرج عن العبودية بأي حال . فمن لم يعبد الرحمن عبد الهوى والشيطان ، ولذلك قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ([61]).
قال ابن كثير : ( أي إنما يأتمر بهواه ، فما رآه حسناً فعله ، وما رآه قبيحاً تركه ) –([62]).
فهو وإن ادعى أنه قد ترفع عن ( عبودية ) الله المستحق لها فإنه قد جعل تلك العبودية في غير محلها باتخاذه إلهه هواه .
وقال تعالى{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}([63]) .
فمن لم يعبد الله عبد الشيطان ، وعبادته ـ أي الشيطان ـ تكون باتخاذ الشيطان نفسه إلها ([64])، أو بعبادة ما يزين عبادته من الأصنام والأحجار والصور و… الخ ، حتى وصل بأتباع الشيطان أن يعبدوا فرج المرأة ـ والعياذ بالله ـ
الحاصل : أن من تكبر عن عبادة الله أذله الله بأن صيره عبداً لهوىً أو شيطان أو مخلوق مثله .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وكذلك من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله ، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته ، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب .
قال أبو حازم : " لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى "
واعتبر ذلك بحال إبليس . فإنه امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل ، وطلب إعزاز نفسه ، فصيره الله أذل الأذلين ، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته ، فلم يرض بالسجود له ، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وكذلك عباد الأصنام ، أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر ، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه ، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار .
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله ، أو يبذل ماله في مرضاته ، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته ، لابد أن يذل لمن لا يسوى ، ويبذل له ماله ، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته ، عقوبة له ، كما قال بعض السلف " من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته")([65]).
وقال ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية عبادة الله وحده للعبد :
( اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ، ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ، ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب؛ أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به ، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولا بد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر ، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك . وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه ، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره ، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة ، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب ، والعقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما ، والله الموفق المعين ، وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة)([66]).
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مفصلاً هذا المعنى :
( " العبادة " هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة ، والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم .والدعاء والذكر والقراءة ، وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف لعذابه ، وأمثال ذلك هي من العبادة لله .
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له ، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}([67]) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}([68]) وقال تعالى {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}([69]) كما قال في الآية الأخرى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }([70]) وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}([71]) .
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}([72])وقال {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}([73])وذم المستكبرين عنها بقوله : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}([74])ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}([75])وقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} ([76])الآيات ولما قال الشيطان {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال الله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}([77]).
وقال في وصف الملائكة بذلك : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}([78]). وقال تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89)تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا(91)وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92)إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} ([79]).
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} ([80])، ولهذا قال النبي e في الحديث الصحيح : ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله )([81]).
وقد نعته الله " بالعبودية " في أكمل أحواله فقال في الإسراء : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا}([82])قال في الإيحاء:{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}([83]). وقال في الدعوة :{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}([84]). وقال في التحدي :{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } ([85]). فالدين كله داخل في العبادة .
وقد ثبت في الصحيح ([86])أن جبريل لما جاء إلى النبي e في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". قال : فما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : فما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم قال في آخر الحديث " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم " فجعل هذا كله من الدين .
" والدين " يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان أي : ذللته فذل ويقال يدين الله ، ويدين لله أي : يعبد الله ويطيعه ويخشع له ، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له .
و" العبادة " أصل معناها الذل أيضاً ، يقال طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له ، فإن آخر مراتب الحب هو " التتيم " وأوله " العلاقة " لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم " الصبابة " لانصباب القلب إليه ، ثم " الغرام " وهو الحب اللازم للقلب ، ثم " العشق " وآخرها " التتيم " يقال : تيم الله أي : عبد الله ، فالمتيم المعبد لمحبوبه .
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له ، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له ، كما قد يحب ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله .
وكل ما أُحب لغير الله فمحبته فاسدة ، وما عُظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً ، قال الله تعالى : {قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ([87])، فجنس المحبة تكون لله ورسوله ، كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله ) ([88]).
قلت : وأما ادعاء الحمد بأن عبودية الله وجنته ليس فيها نور ، وإنما النور والفجر ! في حريته ( المزعومة ) فهو من تلبيس الشيطان عليه ، ومن انتكاس قلبه حتى أصبح يبصر الأشياء على خلاف حقيقتها فغدا النور عنده ظلاماً ، والظلمة نوراً، وهذا حال أهل الباطل الذين يرون باطلهم حقاً والحق باطلاً منذ العهود القديمة . ولا أملك أن أقول للحمد في هذا المقام إلا ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والبغي إلا من أشرق عليه نور النبوة ، كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي e قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " ([89]) فكذلك أقول : ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور ، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل والهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها .
فهذه كلها ظلمات ، خلق فيها العبد ، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البته . فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته ، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض ، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله ، ووجهه مظلم وقلبه مظلم، لأنه مبقى على الظلمة الأصلية ، ولايناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها ، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش .
بصائر غشاها النهار بضوئه
ولاء مها قطع من الليل مظلم
يكاد نور النبوة يلمع تلك الأبصار ، ويخطفها لشدته وضعفها ، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها ، وملاءمتها إياها .
والمؤمن علمه نور وقوله نور ، ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور ، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ([90])) ([91]).
الحلف بغير الله في روايته :
ومن تنقصه لله ـ عز وجل ـ أنه استهان بالحلف بغيره ـ عز وجل ـ فذكره في روايته متغافلاً عن قدحه في عقيدة الإنسان وأنه من الشرك الأصغر([92])، مصداقاً لقوله e: "من حلف بغير الله فقد أشرك " ([93])وقال e : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" ([94]).
قال الحمد على لسان عبد الرحمن مخاطباً ابن عمته هشام ( أخبره أن ما يشعر به شيء طبيعي لشخص يشرب لأول مرة ، وأنه سوف يعتاد الشراب ولن يفعل به شيئاً بعد ذلك .إلا أن هشام صاح : " أول وآخر مرة ورأس أبوك…")([95]).
الحمد يعتقد أن الله في كل مكان !!!
ومن طوام تركي الحمد في روايتة أنه -وهو الذي درس عقيدة السلف في بلاد التوحيد- يعتقد عقيدة الأشاعرة في أن الله موجود في كل مكان ! ! ! وهذا من أغرب الأمور التي مرت علي أثناء دراستي لثلاثيته . مما جعلني أتفكر كثيراً في كيفية تسرب هذه البدعة الغريبة على بلادنا إلى ذهن الحمد وروايته ، ثم اكتشفت أنه قد نقلها ـ بغباء ـ من ثلاثية نجيب محفوظ ، دون أي تفكير بمدى صحتها !!! وهذا من الأدلة على أن الحمد مجرد ببغاء لنجيب محفوظ يردد ما يقوله في ثلاثيته ولو كان مخالفاً للنقل والعقل كهذه المسألة .
قال الحمد متحدثاً عن والد هشام :
( وضحك أبوه إحدى ضحكاته النادرة ، ثم عاد إلى وقاره وهدوئه المعتادين وهو يقول بحزم : اسمع يا ولدي … إن الله موجود في كل مكان ، والتقوى في النية الطيبة والسلوك الطيب مع الناس ، … ) ([96])
قلت :هذه عقيدة باطلة يدين بها متأخرو الأشاعرة ، والذي عليه سلف الأمة أن الله مستوٍ على عرشه فوق سماواته ، كما قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ([97]) وقال : {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ}([98]) وقال:{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ([99])… والأدلة على هذا كثيرة ليس هذا موضع التوسع فيها . فانظرها في كتاب ( العلو ) للذهبي و (مختصره ) اللألباني ، و( علو الله على خلقه ) للدكتور موسى الدويش ، و(إثبات علو الله … ) للشيخ حمود التويجري ـ رحمه الله ـ ، و ( الرحمن على العرش استوى ) للشيخ عبد الله السبت ، و( الرحمن على العرش استوى بين التنـزيه والتشويه ) للدكتور عوض منصور.
أما أن الحمد قد أخذ هذه العقيدة البدعية من نجيب محفوظ فلأن هذا الآخر قد ذكرها في ثلاثيته ـ التي هي عمدة الحمد ـ على لسان أحمد عبد الجواد .
حيث قال له الحمزاوي : ( ربنا موجود ) فرد عليه أحمد عبد الجواد : (نعم! -ومشيراً إلى الجهات الأربع- في كل مكان ) ([100]).
الحمد يرى أن عبودية الله كالأغلال !!
من تنقص الحمد لله عز وجل ، أنه لم يرض بعبوديته ، وإنما آثر عليها (الحرية) كما يدعي ! وهي في حقيقتها ليست ( حرية ) وإنما ( عبودية ) من نوع آخر ، إما للهوى أو الشيطان كما سبق .
يقول الحمد متحدثاً عن هشام : ( وطافت في ذهنه تجربته الدينية العميقة حين ذهب إلى المسجد مع ا لفجر ، وصلى بعمق غريب ولذيذ لأول مرة في حياته ، بعد تجربته الجسدية مع رقية فقد كانت صلواته السابقة مجرد حركات جسدية لا روح فيها ، ومجاملات اجتماعية بعض الأحيان . ورغم أنه يشعر بالضآلة حين يجامل في مثل هذه الأمور ، إلا أنه لا يستطيع إلا أن يجامل ، فالله غفور رحيم ، ولكن عباده لا يعرفون الرحمة والغفران ، لقد أحس بعد تلك التجربة العنيفة بتمزق لم يستطع إحتماله ، فكان بحاجة إلى أب رؤوف رؤوف يلقي بحمله عليه … أب ليس ككل الآباء . أب يسامح على الخطأ والخطيئة ، ويأخذ بيده إلى الراحة بعد العذاب ، والصفاء بعد القلق وذاك الوخز المؤلم في الداخل … ولكن شتان بين حاله مع رقية ، وهذا الإنقلاب العجيب في حال عدنان … كل إنسان يبحث عن أب رحيم قادر ، وأم حنون في الأزمات والملمات، والكل يبحث عن كتف عطوف عطوف قوي يبكي عليه ويلقي عليه بأحماله ، ولكن القليل هو من يريد أن يبقى باكياً على ذلك الكتف ، فهو لذيذ حقاً ، ولكن الألذ منه أن تخطئ وتصيب، فاللذة في وجود نقيضها وليس في مجرد وجودها .شيء لذيذ وجميل أن تجد من يكون مسؤولاً عنك طوال الوقت ، ولكن السعر باهظ جداً … إنه الحرية ذاتها . الطفل وحده من يدفع هذا السعر بالرغم منه ، ولكن من يريد أن يبقى طفلاً طوال الوقت ؟! الكل يجد الدفء في حضن الأم ، والقوة في الأب ، ولكن قلةً من يريدون البقاء في ذلك الحضن وعلى الكتف … ويبدو أن عدنان واحد من هؤلاء ) ([101]).
قلت : ومقصوده واضح لا يحتاج إلى إعمال ذهن ، وهو دليل استكباره عن عبادة ربه ـ كما سبق ـ وقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) ([102]) .
تنقصه للملائكة الكرام :
أما تنقص الحمد واستخفافه بالملائكة المكرمين؛ فمن ذلك قوله متحدثاً عن هشام في السجن :
( ثم نظر إلى النافذة ، وتلك النجوم التي تتبدى من ورائها على استحياء ، وهو يتصور أن يأتي ملاك رحمة من هنا أو هناك فينقله على جناحيه إلى حيث نسمة هواء طليقة . ولكن حتى الملائكة اختفت في هذه اللحظة ، ويبدو أنها نفسها تخاف الدخول إلى هذا المكان ، وليس إلا الرعب والسكون والانتظار)([103])!!
قلت : كيف تخاف الملائكة الدخول في هذا المكان أو غيره ، وهي معك أينما سرت . قال تعالى عن الإنسان : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)([104]).
وقال سبحانه : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ([105]).
وقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )([106]) .
فالملائكة المكرمون قد خُصََّ بعضهم بأنه لا يفارق الإنسان في جميع أحواله ـ كما سبق ـ ولكن الحمد لا يفقه هذا بعد أن اعتاد لسانه على الجرأة عند حديثه عن كل شيء مقدس، متأثراً بالكفرة الفجرة ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .
تنقص الحمد للقرآن :
أما سخريته بالقرآن ، وبآيات الله ، فهو أنه يضعها في غير موضعها ، بأسلوب هازل .
فمن ذلك قوله :
( حانت التفاتة من عبد الرحمن نحو الكيس الذي يحمله هشام ويشد عليه بقوة ، فقال وهو يضحك : " ما تلك بيمينك يا هشام ؟ " وابتسم هشام …)([107]) فهو يشير إلى قوله تعالى لموسى ـ عليه السلام (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى) ([108])
وقوله : ( وهز هشام رأسه وهو يبتسم محيياً ، فيما أخذ الآخرون يتضاحكون ويتغامزون فيما بينهم ويقولون : "شرَّفت الكراديب " "وما منكم إلا واردها " ) ([109]).
وهو يشير إلى قوله تعالى عن النار : ( وإن منكم إلا واردها ) ([110]).
قلت : لا يجوز أن يُنزل القرآن في غير منزله الذي أراده الله له ، وأن يُسْتدل به بهذه السخرية ([111]).
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عن ( استعمال بعض آيات القرآن في المزاح ما بين الأصدقاء ؟ ) فأجابت بأنه ( لا يجوز استعمال آيات القرآن في المزاح ) ([112]).
بغضه للقرآن :
يقول الحمد متحدثاً عن ذكريات هشام ، وصديقه عدنان : ( كانا في الصف الرابع الابتدائي ، وكانت مادتي القرآن الكريم والتجويد أصعب وأبغض المواد عند التلاميذ ) ([113])!!
قلت : أما ( أصعب ) فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ([114]).
وأما ( أبغض ) فهذه التي يريد الحمد ! والسؤال : لماذا كان كلام الله الذي فيه الهدى والنور أبغض المواد !؟ وكان الحب كله للكتب الفلسفية والماركسية و(المحرَّمة ) ؟!
وصدق الله إذ يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) ([115]).
تنقصه للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ :
لقد أسرف الحمد على نفسه كثيراً واقتحم لجة الكفر والضلال عندما تعرض لأنبياء الله تعالى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ واصفاً إياهم بكل منقصة جرياً وراء أكاذيب اليهود والنصارى التي استولت على ذهنه عند حديثه عنهم ـ عليهم السلام ـ فقد نسخت قراءاته لكتب اليهود والنصارى والملاحدة كل تعظيم غرسه القرآن في صدره حول الأنبياء والرسل .
ولنستمع إلى ( هرائه ) مع التعليق عليه بما تيسر .
قال الحمد على لسان هشام :
( قتل قابيل هابيل من أجل المرأة ، وخرج آدم من الجنة من أجل المرأة ، وأذنب من أجل المرأة ، وسخر سليمان الجن من أجل المرأة ، وقال رسولنا الكريم ([116]):" حُبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت الصلاة قرة عيني " ومزامير داود كلها عن المرأة ، وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ، وأبطل المسيح حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ، وكانت المرأة وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو … )([117]) .
قلت : لقد تضمن هذا النص من الحمد عدة فتراءات على أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ حيث لم يتورع ـ هداه الله ـ عن متابعة اليهود والنصارى في تلفيق التهم والنقائص لخير البشر ـ عليهم السلام ـ ولتفنيد ذلك أقول :
ـ أما قابيل وهابيل فإنهما لم يكونا من الأنبياء، هم بشر كغيرهم ، فلا شأن لنا بهما . ومع هذا فإن تركي الحمد لم يذكر إلا قولاً واحداً في قصتهما ولم يذكر القول الثاني .
فهو ألمح إلى القول الأول الذي يفيد بأن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب المرأة فقررا أن يتقربا إلى الله بقربان فمن تقبل منه كانت المرأة من نصيبه فتقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل ، فقام قابيل بقتل هابيل .
والقول الثاني الذي لم يذكره الحمد هو أنهما قررا أن يقوما بتقديم قربان إلى الله ـ عز وجل ـ فعمد قابيل إلى أسوأ ماله فقدمه قرباناً ، وعمد هابيل إلى أحسن ماله فقدمه ، فتقبل منه ولم يتقبل من أخاه قابيل ، فحسده قابيل وقام بقتله .
وفي هذا يقول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ : ( عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قربنا قرباناً ! وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله عز وجل أرسل إليه ناراً فأكلته ، وإن لم يكن رضيه خبت النار ، فقربا قرباناً . وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها . وقرب الآخر أبغض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع . وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد عليّ ؟ فلا والله لاتنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني فقال : لأقتلنك ! فقال أخوه : ماذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين)([118]) .
قلت : فهذا القول الثاني لم يشر إليه الحمد هو الذي يشهد له القرآن العظيم عندما تحدث عن قصة ابني آدم حيث قال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31) ) ([119]).
ولذا قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ بعد سياقه الأثر السابق عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : (فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لاعن سبب ولا عن تدارئ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم ، وهو ظاهر القرآن )([120]) .
فالحمد لم يسق إلا القول الذي يتماشى مع هواه ، علماً بأن هذه الروايات جميعها لم تصح مرفوعه إلى النبي e ، وإنما هي تنقل عن أهل الكتاب الذين أمرنا بعدم تصديقهم أو تكذيبهم إلا ما عارض شرعنا فإننا نكذبهم فيه ـ ولا كرامةـ.
بل إن القرآن والسنة الصحيحة لم تذكر ( قابيل وهابيل ) وإنما ذكرت بأن القصة حدثت لابني آدم فقط دون تفصيلات . كما في سورة المائدة ، وكما في قوله e في الصحيحين : " لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ، لأنه أول من سنَّ القتل " .
ـ أما قول الحمد بأن آدم ـ عليه السلام ـ قد خرج من الجنة من أجل المرأة فالذي في القرآن أن ( الشيطان ) قد وسوس لآدم وحواء جميعاً بالأكل من الشجرة ، وفي آيات أخرى يخبر الله بأن الشيطان قد وسوس لآدم بذلك دون ذكر لحواء .
قال تعالى : (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)([121]).
وقال سبحانه : (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين) ([122]).
وقال عز وجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى) ([123]).
فهذه الآيات فيها أن الشيطان وسوس لهما جميعاً (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ)؛ وفي سورة طه أنه وسوس لآدم أولاً (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) .فهي تشهد لمن قال بأن الوسوسة كانت لهما جميعاً حيث أغراهما الشيطان بنيل الخلد في الجنة وأن يكونا كسائر الملائكة . ولم يذكر فيها أن حواء هي التي أغرت آدم على الأكل من الشجرة كما تقول ذلك الروايات الإسرائيلية. ولهذا قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ : ( دأب الكتاب والأدباء في عصرنا هذا على فرية أن آدم عليه السلام خدعته حواء حتى أكل من الشجرة ، يصطنعون قول الكاذبين المفترين من أهل الكتاب ، بما حرفوا وكذبوا)([124]).
قلت : ولكن من يقول بأن حواء أكلت من الشجرة قبل آدم ، أو أنها سهلت له الأكل منها يستشهد بحديث رواه البخاري في صحيحه ويحمله على هذه القصة ، وهو أنه e قال : " لولا حواء لم تخن انثى زوجها " . قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : ( وقوله " لم تخن انثى زوجها " فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك ، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها ابليس حتى زينته لآدم ، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له ، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها ، وقريب من هذا الحديث " جحد آدم فجحدت ذريته " وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى ، وأن ذلك من طبعهن فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه أو على سبيل الندور ، وينبغي لهن أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن ، والله المستعان ) ([125]).
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم وهي التي حدته على أكلها ، والله أعلم ، وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري …) ثم ذكر الحديث السابق([126]) .
قلت : ومع هذا فلا يحسن أن يقال بأن آدم خرج من الجنة بسبب المرأة ، وإنما يقال بأنه ـ عليه السلام ـ خرج من الجنة بسبب مخالفته لنهي الله ـ عز وجل ـ بوسوسة من الشيطان مما ترتب عليه ابتلاؤه وذريته من بعده . وكان هذا قبل أن يتوب الله عليه ، ويصطفيه كأول نبي على وجه الأرض .
ـ أما قول الحمد بأن داود ـ عليه السلام ـ أذنب من أجل المرأة فهذا من افترائه متابعة لأشياخه اليهود الذين افتروا على داود ـ عليه السلام ـ في توراتهم المحرفة بأنه عليه السلام قتل أحد قواده بواسطة الخدعة حيث جعله في مقدمة الجيش لكي يتزوج بامرأته التي أُعجب بها داود ـ عليه السلام ـ بعد أن رآها عريانه !!! كما جاء في ( سفر صموئيل الثاني ، الاصحاح 11) .
وقد تسللت هذه الكذبة الشنيعة من اليهود إلى تفاسير المسلمين عبر الاسرائيليات التي أخذوها منهم دون تمحيص لها .
حيث تذكر هذه القصة المكذوبة في تفسير قوله تعالى : (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ )([127]) .
وقد أجاد ابن كثير ـ رحمه الله ـ عندما قال عند هذه الآية : ( قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ) ([128]) ثم ضعف القصة السابقة بأن في سندها ( يزيداً الرقاشي ) أحد الضعفاء في الحديث عند الأئمة .
وقبله قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ :
( قد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم ، كما قالوا في سليمان ما قالوا ، وفي داود ما قالوا )([129]) .
وقال القاضي عياض: ( لا تلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه ، ولا ورد في حديث صحيح ) قال: ( وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ) ([130]).
وقال الشيخ محمد أبو شهبه في كتابه ( الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ) : ( والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي . قال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم )([131]) .
وقال الدكتور البار بعد أن ذكر هذه القصة المكذوبة : ( يالها من جريمة بشعة حقيرة تزعم التوراة ( المحرفة ) أن داود عليه السلام ارتكبها ، وهو لاريب منها برئ)([132]).
قلت : شتان بين هذه القصة التي تصف نبي الله داود ـ عليه السلام ـ بالقتل والمخادعة في سبيل امرأة ، وبين قول الله تعالى عنه (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)([133]) .
فقد وصفه تعالى بالقوة في العلم والعمل وأبان ذلك e بقوله عنه بأنه " كان يصوم يوماً ويفطر يومأ ، ولا يفر إذا لاقى "([134]). وقال عنه " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " ([135])
فأين هذا الوصف العالي من و صف التوراة المحرفة التي استساغ الحمد أن يتأثر بها وينقلها تشويهاً لصورة نبي الله ـ عليه السلام ـ !؟
ـ أما قول الحمد بأن سليمان ـ عليه السلام ـ قد سخَّر الجن من أجل المرأة ، فهذا من كذبه الذي يعرفه صغار المسلمين الذي يقرأون القرآن .
فسليمان ـ عليه السلام ـ لم يسخر الجن بنفسه ، وإنما الذي سخرها الله ـ عز وجل ـ .
قال تعالى عن سليمان : (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) ([136]).
وأما قصته ـ عليه السلام ـ مع ( بلقيس ) ملكة اليمن التي يلمح إليها الحمد فهي أن سليمان غضب منها ومن قومها عندما أرسلوا له المال والهدايا لعله يكف عنهم . فأمر من حوله من الجن والإنس بأن يحضروا له عرش بلقيس الذي لا يكاد يوجد مثله في عظمته ، فقال : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ولكن سليمان لم يقنع بهذا ، فقال (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) وهو كاتبه آصف بن برخيا كما يُروى عن ابن عباس : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : أن تنظر مد بصرك فلا تكل إلا والعرش عندك : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ) أي سليمان : (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )([137]) .
أما سبب احضار العرش فليس لأجل المرأة كما يزعم الحمد ـ كذباً وافتراءً ـ وإنما لأجل أن يظهر سليمان عظمة ملكه لها ، وأنه نبي من عند الله ، قد سخر له الإنس والجن فتستجيب لدعوته لها إلى دين التوحيد بعد أن كانت تسجد هي وقومها للشمس .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( إن سليمان أراد باحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من بعده وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا فارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه )([138]).
ـ أما قول الحمد بأن نبينا قد حُبب إليه النساء ، فهذا صحيح ، وقد ورد في هذا قوله : (( حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة ))([139]).
وليس معنى هذا ما قد يظنه الحمد أو غيره من الجهلة أن هذه المحبة لأي امرأة ولو لم تحل له ـ والعياذ بالله ـ وإنما هذا خاص بزوجاته وما ملكت يمينه، وليس في هذا أي نقص لمرتبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل هو بيان لكمال رجولته .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( أما محبة الزوجات فلا لوم فيها ، بل هي من كماله ، وقد امتن سبحانه على عباده فقال : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)([140]).فجعل المرأة سكناً للرجل يسكن قلبه إليها ، وجعل بينهما خالص الحب ، وهو المودة المقرونه بالرحمة ) قال : ( ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حُبب إليه النساء ، كما في الصحيح عن أنس عن النبي : "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة" قال : ( فمحبة النساء من كمال الإنسان ، قال ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء ) قال : (فعشق النساء ثلاثة أقسام : قسم هو قُربة وطاعة ، وهو عشق امرأته وجاريته ، وهذا العشق عشق نافع ، فإنه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح ، وأكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله ، ولهذا يُحمد هذا العاشق عند الله، وعند الناس )([141]).
ـ أما قول الحمد بأن مزامير داود ـ عليه السلام ـ كلها عن المرأة ، فهذا كذب منه ، يريد به التهويل. قال الدكتور محمد البار ـ حفظه الله ـ وهو ممن اعتنى بدراسة المزامير :
( تنسب المزامير إلى مجموعة من أنبياء بني اسرائيل وأدبائهم وشعرائهم ، وتشتمل على 150 مزموراً ، منها 73 منسوبة إلى داود عليه السلام ، والأخرى منسوبة إلى موسى وسليمان ـ عليهما السلام ـ وإلى آساف وبني قورع وراجح وهيمان وأتيان ويدوتون )
وقال : ( رغم أنه لم تثبت نسبة أي من هذه المزامير الموجودة لداود أو غيره، إلا أنها أصبحت جزءً من الفولكلور الشعبي اليهودي )([142]).
وقال : ( تُقسم المزامير إلى ثلاث مجموعات أساسية تندرج تحتها مجموعات أصغر . وهذه المجموعات الثلاث هي :
1 ـ مجموعة التسابيح .
2 ـ مجموعة صلوات الاستغاثة .
3 ـ مجموعة التعليم )([143]) .
قلت : يتضح من هذا أن المزامير كلها عن دين اليهود وتسابيحهم وصلواتهم، وليست كما يزعم الحمد بأنها ( كلها عن المرأة ) !!!
والذي نعتقده ـ كمسلمين ـ هو ماجاء في القرآن الكريم أن الله قد آتى داود ـ عليه السلام ـ كتاباً مقدساً هو ( الزبور ) قال تعالى : (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ([144]).
ونعتقد أن داود ـ عليه السلام ـ قد وهبه الله صوتاً جميلاً يترنم به عند تسبيحه الله فتردد الجبال والطير معه .
قال تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)([145])، وقال: (يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)([146])، وأما قوله لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ : "يا أبا موسى ، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود"([147]).
فقد قال الخطابي : ( قوله (آل داود ) يريد داود نفسه ، لأنه لم ينقل أن أحداً من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي)([148]) وقال الحافظ ابن حجر : ( المراد بالمزمار الصوت الحسن ، وأصله الآله ، أطلق اسمه على الصوت للمشابهة )([149]).
ـ أما قول الحمد ( وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ) !!
فهذا من أقبح تشنيعاته على أنبياء الله ، والتعريض بهم بخُبثٍ وسوء طوية ، حيث لم يُعقب على هذا الكذب بما يبينه ، وإنما ساقه متأثرًا به متابعةً لأحفاد القردة .
ثم أعاده في موضع آخر من روايته مبيناً قصده ، حيث قال على لسان هشام ـ كما سيأتي ـ ( وزنت بنات لوط مع أبيهم )!!
وهذا الكذب الفاحش قد أخذه الحمد من التوراة ( المحرّفة ) حيث جاء فيها ـ كما في سفر التكوين ، الاصحاح 19: 30ـ 38 ـ أن ابنتي لوط ـ عليه السلام ـ قامتا بإسقائه خمراً حتى سكر ، ثم اضطجعتا معه ، فحبلتا منه !!!
وهذه الكذبة لا يُستغرب صدورها من قوم قد قال الله ـ تعالى ـ عنهم: ((أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ))([150]) فمن كذب بعض الرسل وقتل بعضهم الآخر لا يستغرب عليه أن يفتري الكذب عليهم .
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر هذه القصة المفتراة: ( هذه فضائح الأبد، وتوليد الزنادقة والمبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهم السلام)([151])
وقال ابن القيم رحمه الله ـ:
( ومن قدحهم ([152])في الأنبياء : ما نسبوه إلى نص التوراة ، أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ، ونجى لوطاً بابنتيه فقط ، ظن ابنتاه أن الأرض قد خلت ممن يستبقين منه تسلاً . فقالت الصغرى للكبرى : إن أبانا شيخ ، ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر ، فهلمي نسقي أبانا خمراً ونضاجعه ، لنستبقي من أبينا نسلاً ، ففعلتا ـ بزعمهم ـ فنسبوا لوطاً النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما … )([153]).
ـ أما قول الحمد بأن المسيح ـ عليه السلام ـ أبطل حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، فلعله يشير إلى اتهام اليهود لمريم ـ رضي الله عنها ـ بالزنا من أجل حملها بعيسى ـ عليه السلام ـ دون زوج ، ومن ثمّ تكلم عيسى في المهد مبرئاً أمه من هذه التهمة الشنيعة التي وبخ الله اليهود لأجلها بقوله ـ تعالى ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا)([154]) فما دخل هذه الحادثة بما يتحدث عنه الحمد ؟!
ـ أما قول الحمد ( وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ) فيشير إلى ما ما أخرجه البخاري في صحيحه عن النبي e متحدثاً عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ : (( بينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى إلى جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة قال : ياسارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ : فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق . ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق . فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتوني بشيطان ، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي ، فأومأ بيده : مهيم ؟ قالت : رد كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ في نحره ، وأخدم هاجر )) ([155])
قلت : وفي هذا الحديث بيان عصمة الله لابراهيم وزوجه أن تمسهما يد ظالم ، حيث كف سبحانه كيد هذا الملك عنهما .
ـ أما قول الحمد بأن المرأة كانت ( وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو) فيشير إلى ما جاء في الإسرائيليات التي دخلت علينا من أهل الكتاب وقد ذكرها المؤرخون في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية :( ذكر أهل الكتاب أن اسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل .
قالوا : وكان اسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر .
قالوا : فلما كبر اسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطحنه له ليبارك عليه ويدعو له ، وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له ، فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لأن العيص كان أشعر الجلد ويعقوب ليس كذلك ، فلما جاء به وقربه قال : من أنت ؟ قال : ولدك . فضمه إلى وجهه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس والثياب فالعيص ، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده .
فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له: ما هذا يا بني ؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته فقال : أما جئتني به قبل الساعة وأكلتُ منه ودعوتُ لك ؟ فقال : لا والله . وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك)([156]).
قلت : فهذه من أحاديث أهل الكتاب ، لاتصدق ولا تكذب ، وإن صحت ففيها بيان محبة الأم لابنها وحرصها على أن يكون محظياً عند والده ، ولاحرج في هذا.
تنقصات أخرى :
وقال الحمد في موضع آخر من روايته : ( رحماك يارب الكون … لماذا
خلقت حام طالما أن سام هو الحبيب ؟ ولماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ، وزنت بنات لوط مع أبيهم ، في كتاب يقولون إنه كلماتك وإرادتك ؟ )([157]).
وفي قول الحمد مخاطباً ربه ( لماذا خلقت حام ؟ ) سوء أدب ، ووقاحة ، وعدم تعظيم له سبحانه ، حيث وجه إليه سؤاله تعنتاً واعراضاً ، وقد قال تعالى : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)([158]).
وهو يشير بقوله : ( لماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ؟ ) إلى ما ورد في التوراة ( المحرّفة )([159]) التي هي عمدة الحمد في قدحه بأنبياء الله ! من أن نوحاً ـ عليه السلام ـ شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه ، فأبصره ابنه حام ( أبو كنعان ) ، وأخبر أخويه ( سام ويافث ) ، فأخذ ( سام ويافث ) الرداء وسترا عورة أبيهما دون أن ينظرا إليها ، فلما أفاق نوح وعلم بذلك لعن حاماً وابنه كنعان ، ودعا أن يكون عبداً لأخويه، ودعا لسامٍ بالبركة من الله .
وهذه احدى كذبات اليهود وتشويههم لصورة الأنبياء في كتبهم المحرفة ، التي نقل منها الحمد دون تورع أو خجل ، ولكن بمكرٍ وخبث ، ومحاولة منه لا سقاط المثل والرموز ـ كما سبق ـ بأسلوب حقير يناسب طبعه وعقليته التي لا تقيم وزناً لأي شيء مقدس ـ كما يحاول أن يدّعي ـ !
قال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد إيراده هذه القصة المكذوبة على نوح ـ عليه السلام ـ : ( وهذا محض كذب وافتراء ، فإن الله عز وجل قد وصف عبده نوحاً في كتابه المهيمن بقوله : ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)([160]))([161]).
ـ وأما قوله القبيح ( وزنت بنات لوطٍ مع أبيهم) فقد بينت كذبه ـ فيما سبق ـ وأنه مُتلقىً عن أبناء القردة ، من الذين جعلهم الحمد قدوته ، واتبع آثارهم في تعريضه بأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ دون خوف من الله ـ عز وجل ـ الذي قال عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)([162]).
ـ وقال الحمد على لسان هشام في السجن: ( يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم . إنه يحس في داخله أنه كان معاصراً لقابيل وهو يقتل أخاه ، ولنوح وهو يصارع أمواج الطوفان ، وليونس وهو يصيح في بطن الحوت، ولأيوب والدود ينخره ، وليوسف في الجب ، والمسيح هو يصيح مصلوباً ، والنبي الأمي وهو يشكو )([163]).
قوله ( حشر الإله الروح في جسد آدم ) هو من سوء أدبه مع ربه، وفيه اعتراض خفي على خلق آدم _ عليه السلام _ وكان الأولى به أن يقول : (نفخ الإلة الروح في آدم ) كما أخبر القرآن : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ([164]).
الحمد يعتقد صلب المسيح ـ عليه السلام ـ !!!
وكل هذا يهون أمام الطامة العظمى التي فاه بها الحمد ، وهي قوله : (والمسيح وهو يصيح مصلوباً ) !!! فهو يخالف بقوله هذا نصوص الشريعة واجماع المسلمين من أن المسيح ـ عليه السلام ـ لم يصلب بل رفعه الله إليه وألقى شبهه على غيره ممن صلب ، قال تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ([165]).
والذي دعا الحمد إلى هذه الزلة العظيمة هو ـ كما سبق ـ متابعته لليهود والنصارى الذين يزعمون أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد صلب ، وقد رد الله عليهم قولهم هذا في القرآن الذي يفترض أن يكون الحمد قد قرأه وآمن به! قال تعالى عن اليهود : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ([166]). وهذه العقيدة وهي عدم صلب المسيح ـ لا يخالف فيها أي مسلم ، عامياً كان او عالماً ، وإنما خلاف بعضهم في أنه هل رفع ـ عليه السلام ـ بجسده كما عليه الجمهور وهو الصحيح لأنه موافق لقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )([167]).
أم أنه تعالى توفاه بالنوم ثم قبض روحه كما يقبض أرواح البشر ، كما يختاره بعض العقلانيين من أمثال محمد عبده ومدرسته ([168]).
أما أنه عليه السلام قد صلب فهذا لم يفه به سوى المغضوب عليهم والضالين (وأذنابهم ! ) لأنه مصادم لما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وهو تكذيب لله ـ عز وجل ـ
فهل يعي الحمد خطورة قوله هذا ؟! أم يتمادى في تجاوزه كل ما هو قطعي تحت دعاوى ( الحرية ! )؟ عندها نقول له : (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)([169]).
تنقص آخر لأنبياء الله :
قال الحمد على لسان هشام :
( نحن نحاول أن نفهم سر ما يجري ، ولكننا ننتهي إلى صخرة سيزيف ، ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ، وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة … ) ([170]).
قلت : أما صخرة سيزيف فهي أسطورة يونانية لا شأن لنا به ولا بصخرته التي يحاول الصعود بها .
ـ أما قوله : ( ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ) ! فهو افتراء منه تابع فيه اليهود الذين اتخذهم قائده ودليله في روايته ، فالقول ما قالوا ، والرأي ما رأوا ، والرواية مارووا ، وإن كان فيها تنقص أو شتيمة لأنبياء الله ورسله ، فكل هذا لا يهم ( التوراتي ) تركي الحمد ! الذي شابه قلبه قلوبهم في حملها الغل على أكرم الخلق فأصبح يهذي بما تهذي به يهود .
ومن ذلك متابعته لهم في اتهام سليمان ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر !!! وقد رد الله هذا الكفر بقوله تعالى مدافعاً عن نبيه سليمان : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)([171]) .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( ان سحرة اليهود ـ فيما ذكر ـ كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك واخبر نبيه محمداً e أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ـ عليه السلام ـ مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ) ([172]).
ـ وأما قوله( وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة ) ! فلا أدري ما الداعي لكلمة ( العابثة ) ! أم أن الحمد أصبح لا يرى في كل شيء إلا العبث ؟
والذي ورد في تفسير قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ([173]) أن آصف بن برخيا وكان يعلم اسم الله الأعظم دعا الله به فاستجاب دعاءه، وليس ذلك تعويذات عابثة كما يزعم (العابث) تركي الحمد .
سخرية الحمد وتنقصه شعائر الإسلام :
أما سخريته بشعائر الدين ، وتهوينه من أمرها؛ فمن ذلك أنه أخبر عن هشام بأنه ( صلى الفجر مع خاله دون اغتسال ) ([174])!!
وقوله مهوناً أمر الصلاة : ( حتى والده لم يكن يؤدي الفروض في المسجد أكثر الأحيان ، كأكثر أهل الدمام ، بل كان يؤديها في المنـزل غالباً ، وذلك على عكس أهل الرياض والقصيم .. ) ([175]) .
وقوله : ( وبقي هشام وحيداً لا يدري ما يفعل ، هل يلحق خاله إلى المسجد ، أم يواصل النوم مثل أبناء خاله .. وأخيراً عزم على مواصلة النوم ، فلا ريب أن الأبناء أدرى بحال الدار ، واستلقى على فراشه ، وأخذ النسيم البارد ورطوبة السحر يداعبان أجفانه . وعندما كان المؤذن ينادي : " الصلاة خير من النوم … الصلاة خير من النوم " ، كان قد أغفى تماماً) ([176]).
وقوله : ( إنه لا يحب القصيم كثيراً . ففي الدمام أصحابه والأجواء التي اعتاد عليها والبحر ، وفي القصيم لا أصداء ولا بحر ، وفوق كل ذلك صلاة الفجر التي لا بد أن يؤديها جماعة في المسجد مع جده .عندما يلذ للعين الرقاد)([177]).
سخريته وتنقصه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
فمن ذلك قوله على لسان وليد مخاطباً هشاماً :
( أنت تتحدث عن الموت وكأنه كائن مجسد ، وليس حادثه أو حالاً .
وضحك هشام باقتضاب وهو يقول :
ـ وما أدراك أنه ليس كائناً ؟ .. ألا يقولون إن الملاك عزرائيل هو قابض الأرواح ؟ أوليس ذاك الهيكل العظمي الأسود هو الموت بعينه ؟ ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يوم القيامة يؤتى بالموت على شكل خروف فيذبح على الحدود بين الجنة والنار ؟
ثم وهو يضحك :
ـ لقد ذكرتني بنزار وقصائده المتوحشة .
ثم وهو يعتدل في جلسته :
ـ ولكن أتدري ما يحيرني يا وليد … هل يمكن للموت أن يموت ؟ كيف يموت من هو ميت أصلاً ؟ وإذا كان الموت يميتنا ، فمن يميت الموت ؟ … الله ؟ .. هو الحياة ذاتها فكيف يمكن للحياة أن تميت ؟ .. حقاً يا لها من حيرة ) ([178]).
قلت : أما تسميته ملك الموت بعزرائيل فهو من جهله ، لأنه لم تصح هذه التسمية في أي من الأحاديث الصحيحة ([179])، و الله ـ عز وجل ـ سماه في القرآن ملك الموت ولم يذكر له اسماً غيره .
قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) ([180]).
وأما قوله : ( ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يؤتى بالموت على شكل خروف …الخ ) فهو من سخريته بأحاديث النبي e ، وإلا فإنه يعلم أنهم لا يقولون ، وإنما القائل هو محمد e ([181])، الذي قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم : " يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت . ثم يقال : يا أهل النار ! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت . قال : فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال :يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت " ثم قرأ رسول الله e : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ([182]).
أما تحيره : كيف يموت الموت ؟ فقد أجاب عنه العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله تعليقاً على الحديث السابق : ( وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل ، كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحاً وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلاً عن أن يذبح .
وهذا لا يصح ، فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح ، كما ينشئ من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله ينشئ من الأعراض أعراضاً ومن الأجسام أجساماً ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ، ولا يستلزم جمعاً بين النقيضين ولا شيئاً من المحال ، ولا حاجة إلى تكلف من قال: إن الذبح لملك الموت! فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل ، وسببه قلة الفهم لمراد الرسول e من كلامه ، فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح ، وظن غالط آخر أن العرض يعدم ويزول ويصير مكانه جسم يذبح ، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه ، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساماً ويجعلها مادة لها ، كما في الصحيح عنه e " تجي البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان " الحديث ، فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه غمامتين ) ([183]).
بغض الحمد لعباد الله الصالحين :
كما أن الحمد أبغض ربه ـ عز وجل ـ وملائكته ، وأنبياءه وكتبه ، وشرائعه ، فإنه حتماً سيبغض عباده الصالحين ، وسيبغض ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات .
وإليك ما يشهد لهذا :
يقول الحمد متحدثاً عن هشام :
( أخذ يقلب الكتاب الذي أعطاه إياه عدنان ، " المنقذ من الضلال " للغزالي كان لا يحب هذا النوع من الكتب )([184]) .
وهذا النوع من الكتب يعني به الكتب الإسلامية التي تقربه من الخير ، وتباعده من الشر فهو لا يطيقها ، ولا يحبها ، بل يهرع إلى كتب أحبابه من الفلاسفة والماركسيين الذين يجد عندهم ما يروي ظمأه ، ويوافق طبعه فالطيور على أشكالها تقع.
ويقول الحمد على لسان مهنا :
( أرجو أن لا تتحدث عن البعثيين أو القوميين العرب أو حتى الدراويش من الاخوان المسلمين … كل هؤلاء سذج ومزيفون ) ([185]).
ويقول على لسان والد هشام متحدثاً مع ابنه :
( ولكن ما لقيت إلا البعثيين كي تصبح منهم … أطقع ناس … ولا أخرط منهم إلا الشيوعيين والإخوان )([186]) !!
ويقول عن ( الاخواني ) لقمان :
( يا لك من منافق يالقمان … تخدم ألف إله وإله ، ثم تقول لا إله إلا الله … قاتل الله الحياة ، فهي النفاق بعينه قاتل الله الحياة فهي التي تجعلنا عبيداً دون أن نريد ، وأسياداً ونحن نريد ولا نريد . قاتل الله حياة تذلنا فيها لقمة ، وتأسرنا كلمة ، وتستعبدنا شهوة ، ويموت فيها الطيبون .. ثم نقول لا إله إلا الله )([187]) .
قلت : جماعة الإخوان إحدى الجماعات الإسلامية الشهيرة التي يعرفها معظم الناس، نشأت في مصر ثم امتدت إلى معظم بلاد العالم . وهي جماعة عليها مؤاخذات كثيرة من عدم اهتمام بنشر العقيدة السلفية ، أو تعليم للعلم الشرعي النافع ، وإنما همها ( التجميع ) والوصول إلى الحكم بأي طريقة([188]).
ومع هذا فلا نؤيد ( الماركسي ) ( البعثي ) تركي الحمد في طعنه بها ، فشتان بين جماعة إسلامية ( مقصرة ) وبين جماعات ومذاهب ( كافرة ) عدوة للإسلام والمسلمين .
هذا عن نقده واستهزائه بجماعة الإخوان المسلمين، أما غيرهم من عباد الله ( الملتزمين ) فقد نالهم ما نال أولئك من سخرية لاذعة بأسلوب مبطن . يقول الحمد عن ( عدنان العلي ) صديق هشام : ( لم يكن عدنان يأتي إلى المقصف وحده ، فغالباً ما كان يرافقه زميلان من ذوي اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ، وبعض الأحيان يزدادون إلى خمسة ، يشربون الشاي ويتحدثون بهمس لا يكاد يسمع ، وكان أكثر ما أثار استغراب هشام هو أنهم لا يبتسمون أبداً ، وإذا حدث ذلك من أحدهم ، غطى فمه بطرف غترته وكأنه يعتذر ، ثم يعود إلى تلك الملامح التي لا توحي بشيء ) ([189]).
قلت : تأمل هذه السخرية المتكلفة التي أراد الحمد إيصالها إلى ذهن قارئه، بأن كل من التزم بدين الله ، فهو لا شك سيكون متجهماً لا يبتسم ، وإذا ابتسم فإنه سيعتذر من ابتسامته !! ونسي أن هؤلاء الملتزمين هم أول من يعمل بحديث النبي e ، " تبسمك في وجه أخيك لك صدقه " ([190]) ولا يجدون غضاضة في هذا التبسم لأنه سنة نبيهم محمد e ، فلماذا تعمد الحمد قلب الحقائق ، الأجل أنهم لم يبتسموا في وجه ( ماركسي ) ( بعثي ) !؟ أم أنه الحقد الذي يحمله في صدره على كل ( ملتزم ) فأراد تفريغ بعضه في روايته هذه عبر هذا الأسلوب المبطن ؟ ثم تأمل ـ أخي القارئ ـ سخريته بسنة محمد e ( اللحية ) بهذا الأسلوب الحقير( اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ) !! وهو تهويل منه ومبالغة ، لأن الجميع لا يكاد يجد مثل هذا الصنف المتخيل ، فلماذا تقليل الكثير وتكثير القليل يا تركي !؟ ولم يكتف الحمد بهذه السخرية السابقة باللحية لأنها لم تشف غيظه من أهل الإسلام ، فرددها مرة أخرى عندما قال متحدثاً عن هشام :
( ثم فتح الباب عن وجه أحد زملاء عدنان بلحيته الكثه ، ورأسه الحليقة تماماً) ([191]).
فزاد على سخريته باللحية اتهام الصالحين بأنهم يرون السنة حلق الرأس ، ولهذا هم يحلقون رؤسهم اتباعاً لها ، وهذا كذب عليهم وهو اتهام قديم قال به أعداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ عندما اتهموه وأتباع دعوته بأنهم يحلقون رؤسهم ، ويأمرون من اتبعهم بحلق رأسه ! ، ولهذا فهم من الخوارج الذين قال فيهم النبي e : "سيماهم التحليق " ([192])! ثم جاء الحمد مردداً هذه التهمة الباطلة متابعة منه لأعداء الدعوة التي شرق بها العلمانيون والملحدون.
وهذا الاتهام باطل ، لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة وأتباعها يتبعون في هذه المسألة أحاديث النبي e التي تجعل أمر الشعر من أمور العادات التي يتبع فيها المرء عادة بلده في ابقاء الشعر أو حلقه . وإنما ينهى عن القزع ، وهو حلق بعض الشعر وترك بعضه لنهي النبي e عن ذلك .
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ راداً على من ادعى بأن علماء الدعوة يكفرون من لم يحلق شعر رأسه !! : (إن هذا كذب وافتراء علينا ، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فإن والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم ، وليس عدم الحلق منها ، بل ولم نقل أن الحلق مسنون ، فضلاً عن أن يكون واجباً ، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام !
والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع ، وهو : حلق بعض الرأس وترك بعضه ، وهذا الذي نهينا عنه ، ونؤدب فاعله)([193]) .
مباحث أخرى
ـ تنقص الحمد قبيلة النبي e
ـ حقده على حكومة المملكة العربية السعودية
ـ محبته للرافضة .
ـ المواقف الجنسية في ثلاثيته .
ـ العبارات الوقحة .
تنقص الحمد قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم :
لم تسلم قبيلة قريش ـ وهي أفضل القبائل ـ من لمز الحمد في روايته حيث قال على لسان عارف:
( طز في قريش يا صاحبي … ولماذا يجعل نزار قريشاً مثلاً أعلى ؟.. ألأنها قبيلة النبي ؟ … والنعم بأبي القاسم ولكن قريشاً لا .. لقد جعلوا كل تاريخنا تاريخاً لقريش . ألم يكن هناك غير قريش في الساحة ؟ ) ([194]).
قلت : قبحك الله وأخزاك ! فقبيلة قريش التي تطعن فيها هي قبيلة محمدe (الذي تدعي الفخربه !!) ([195]) هي القبيلة التي كان منها أفضل الخلق بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهم صحابة رسول الله e ، من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة وعبد الرحمن والزبير … وغيرهم ـ رضوان الله عليهم ـ وهي القبيلة التي قال فيها e : "إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانه ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " ([196]).
وأما ادعاؤك بأنهم جعلوا تاريخنا تاريخاً لقريش ، فكأنك تعرض بتوليهم أمر الأمة منذ الخلفاء الراشدين مروراً بالدولة الأموية وانتهاء بالعباسيين ، وهذا ليس مغمزاً فيهم وإنما فخر لهم أن قادوا الأمة ، ونشروا الإسلام ـ على تفاوت بينهم في ذلك ـ متبعين قول الرسول e : " إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم إلا كبه الله على وجهه ، ما أقاموا الدين " ([197]).
قال الإمام أبو عمرو الداني حاكياً أقوال أهل السنة :
( ومن قولهم إن الإمامة في قريش مقصورة عليهم دون غيرهم من سائر العرب والعجم ، لقوله e : " الأئمة من قريش ، ولا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان " ولإجماع المسلمين بعده e على أن ولوا قريشاً ) ([198]) .
أي ما أقاموا الدين كما في الحديث الذي قبله .
حقد الحمد على حكومة المملكة العربية السعودية :
لم يعد خافياً على أحد أن التيارات الماركسية والشيوعية وما سار في ركبها هي جميعها حاقدة على الدولة السعودية المسلمة ، حيث كانوا يعدونها ـ في زمن الشعارات ـ أم الدول المتخلفة الرجعية !! لأنها لا زالت تحكم بالإسلام. فكانوا يُسَخرون كل طاقاتهم في سبيل محاربتها أو تغيير حكومتها إن استطاعوا . ولذا فقد سخروا إعلامهم للنيل منها ، والسخرية بها وبحكامها ، وسخروا كوادرهم لمحاولة تجنيد عملاء لهم فيها ( كهشام العابر !! ) لعلهم يقومون بانقلاب فيها ويسقطون حكومتها ، كما فعلوا في بعض الدول العربية .
كل هذا فعلوه لكن الله ـ عز وجل ـ رد كيدهم في نحرهم ، وأرجعهم خائبين خاسرين بفضله تعالى ثم بفضل جهود الملك فيصل ـ رحمه الله ـ وإخوانه الذين حاربوا ( شراذم ) الشيوعيين والبعثيين والقوميين ، وشردوهم ، ومزقوهم شرَّ ممزق ، واستماتوا في سبيل حماية دينهم وبلادهم من عبث العابثين وإن غلفوا ذلك بدعوى ( التقدم ) و ( والتحضر ) .
ثم دار الزمان دورته ، فإذا بهذه الدولة ( الرجعية ) ـ عند هؤلاء المنحرفين ـ ـ أعني السعودية ـ تصبح أعز دولة في عالمنا ديناً ودنيا ، حيث جمعت بين الدين الصحيح وهو (الدعوة السلفية ) وبين التطور الدنيوي (المتواصل ) ([199]).
أما تلكم الدول ( التقدمية ) ! ـ في نظر الحمد ـ فإنها حين أفاقت من سكرة الشعارات ، وجدت نفسها بلادين ( صحيح ) ولا دنيا ( متقدمة ) ، فدينها التقليد والخرافة([200])، ودنياها البؤس ، والشقاء . كما هو مشاهد لكل أحد. فبدأ الذين اساؤا للسعودية يعيدون النظر في حساباتهم ويتراجعون عن مواقفهم الخاطئة معها بعد أن انقشعت غشاوة الغوغاء والشعارات عنهم .
ولم يبق منهم على طريقته الأولى سوى ( حزب البعث ) الذي لا زال يعيش أسيراً لتلك الفترة السابقة ، ولا زال يحاول النيل بما استطاع من الدولة السعودية : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) ([201]) .
كل هذا أقوله مقدمة لما جاء في ثلاثية الحمد من نيل من الدولة السعودية، حيث صاغ كيده بأسلوب غير مباشر لأنه يعلم أنه لا يستطيع (المواجهة!).
يقول الحمد متحدثاً عن أحد اجتماعات ( حزب البعث ) في السعودية !
( ثم فجأة قال منصور بهدوء ودون أن ينظر إليه :
ـ ما رأيك في الحكومة يا هشام … ؟
سؤال مباغت لم يكن يتوقعه ، مثل قنبلة ألقيت فجأة . لم يحر جواباً ، أحسّ بالاضطراب ، ولاذ بالصمت . غير أن منصور عاود إلقاء قنابله ، موجهاً عينيه الثاقبتين إلى عين هشام مباشرة وهو يقول :
ـ لا داعي للإجابة . . . أنا أجيب عنك . . . إنها حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال ليس إلا . . . )([202]).
قلت : لا يستطيع الحمد أن يطعن في ( الحكومة السعودية ) صراحة ، ولذا فقد صاغ طعنه ـ بهدف إيصاله إلى القراء ـ على لسان منصور (البعثى) .
فحكومتنا عند الحمد ( حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال) !
ولهذا فالمطلوب ليس مناصحتها، إنما إسقاطها واستلام ( حزب البعث ) للسلطة بدلاً منها، حيث سيقوم هذا الحزب ( العادل ! ) بإقامة حكومة (ديمقراطية ! ) تساوي بين الناس دون نظرٍ إلى ( أديانهم ! ) ، وتوزيع الثروة بينهم بالتساوي !!
وسوريا والعراق خير شاهد على هذا !!!
وقال الحمد في روايته على لسان ( الرفيق حديجان ! )
( يا رفيق فهد . . . لقد تحدثنا عن الأمة كثيراً ، ولكن ماذا بشأن قطرنا هذا ، كيف السبيل إلى تحرره ؟ )([203])
فالهدف هو تحرير ( السعودية ) واسقاط راية التوحيد ، ورفع راية (البعث) بدلاً منها ! (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)([204]).