حسام الدين حامد
09-19-2008, 05:03 PM
" لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي "
قال الله تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [البقرة : 260]
أحسب القارئ الفاضل يعيد تدبر الآية الكريمة إن علم بوصفها أنها أشد آيات كتاب الله بعثًا للرجاء في القلوب ..
لعلك – الآن - وقفت على سبب هذا الوصف ..
أرأيت؟!!
أرأيت صفات الله تتجلى؟!!
إنه الملك:
يطلع من يشاء من عباده، على ما يشاء من آياته ..
الودود:
يلجأ إليه عباده، فيُنزلون به حاجاتهم يقينًا منهم بوده ورحمته ..
الشكور:
يجزي على الإيمان بالطمأنينة، فكانت زيادة الإيمان دعوة المؤمنين والأنبياء ..
السميع:
وسع سمعه الأصوات، فلا يخفى عليه نداء أو دعاء في الأرض أو في السماء ..
القريب:
يسمع النداء ويجيب الدعاء، وهو بعلمه ونصرته أقرب إلى عبده من حبل الوريد ..
القدير:
يحيي ما مات، ويجمع ما تفرق، وبأمره يسعى ما تمزق، وبـ "كُن" يكون ما يريد ..
الحق المبين:
لا يرضى لنبيه أن تبقى حول إيمانه شبهة، فسأله عن إيمانه لينفي عنه كل شبهة ..
العدل:
يقيم على نبيه شاهدَ صدقٍ من نفسه، ويقيم من خلقه شاهدًا على صفات العزة والحكمة ..
العليم:
يعلم ما على لسان نبيه وما في قلبه، ويعلم ما على رأس الجبل وفي وعره، وهو علام الغيوب ..
العزيز:
الذي لا يُعجزه شيء، و ليس كمثله شيء، ولا يخفى عليه شيء وإن كان محله سويداء القلوب ..
الحكيم:
لا راد لحكمه ولا شك في حكمته، يقيم من كل مخلوق شهادة على خالقه، فلا ينكر ذاك إلا جاحد مكابر ..
المهيمن:
يأمر عبده أن يدعو ما تمزق من أجزاء الطير، ثم يأمر الطير فتأتي سعيًا فلا يتخلف منها عند النداء طائر ..
أرأيت الله الكريم يُعلمنا بخبر إبراهيم عليه السلام!!
لنعلم أنه الملك، الودود، العدل، الشكور، الحق المبين، السميع، القدير، المهيمن، الكريم، القريب، العليم، العزيز، الحكيم!!
أرأيت كيف كانت هذه الآية الكريمة - عند بعض العلماء - أرجى آية في كتاب الله!!
بل اذهب أبعد من ذلك وأعمق من ذاك، اذهب فتدبر الآية الكريمة بما فيها من:
دعاءِ إبراهيم فسؤالٍ من الله تعالى وجوابٍ من إبراهيم فاستجابةٍ منه عزّ وجلّ ..
استغرق - أيها القارئ الفاضل - في تدبر هذه الآية ..
حتى يقوم لك من نفسك سائلٌ مستفهمٌ، ومجيبٌ ملهَمٌ
وكأني بذاك السائل وهذا المجيب وقد قام بينهما حوارٌ فكان كالآتي :
قال السائل :
" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى" هذا الدعاء أرى له صيغةً وغرضًا وباعثًا ..
ردّ المجيب :
أحسنت غاية الإحسان !!
السائل:
أحسن الله إليك!! فصيغة الدعاء وردت بـ "كَيْفَ"، ولا أظن ذاك إلا لحكمة لا تخفى !!
المجيب:
نعم!!
من حكمته أن السؤال عن كيفية إحياء الله تعالى الموتى يصدر ممن آمن بإحياء الموتى،
فالإحاطة بكيفية إحياء الموتى ليست من أركان الإيمان،
في حين الإيمان بإحياء الله تعالى الموتى من أركان الإيمان،
فنخلص من ذلك أن إبراهيم ..
السائل:
أن إبراهيم عليه السلام كان يؤمن بإحياء الله تعالى الموتى،
وأنه عليه السلام طلب رؤيةَ أمرٍ لا يُطلب من أحدٍ الإحاطةُ به،
وهو: كيفية إحياء الله تعالى الموتى ..
المجيب:
نعم!!
وذاك قول شهاب الدين الألوسي رحمه الله: (وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة "كَيْفَ")
السائل:
السؤال بـ "كَيْفَ" قد يَرِدُ أحيانًا ممن لم يؤمن بإحياء الموتى،
وكأنه يقول: "إن كنت تزعم أن هناك بعثًا فأرني كيف يكون، فإن لم تستطع فليس هناك بعثٌ"، كالذي ضرب مثلًا ونسي خلقه فقال: "مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" [يس : 78]
المجيب:
سبقك ابن عطية رحمه الله فقال: (لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شئ قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح،
مثال ذلك أن يقول مدعٍ: "أنا أرفع هذا الجبل" فيقول المكذِّب له: "أرني كيف ترفعه!"،
فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليمٌ جدليٌ،
كأنه يقول:" افرض أنك ترفعه!! فأرني كيف ترفعه!!"،
فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازى،
خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: "أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى"
فكَمُل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة).
السائل:
فلا يتم الأمر حتى أسأل:
ألم يذكر أحد من أهل العلم أن السؤال كان عن إحياء الموتى لا الكيفية؟!!
المجيب:
بلى!!
قد ذكر بعض أهل العلم ذلك، لكن السؤال هنا عن رؤية إحياء الله تعالى الموتى
ولا يُطلب من أحد الإيمان الذي ينتج عن الرؤية،
فعاد الأمر كما كان أن إبراهيم عليه السلام يؤمن بإحياء الله تعالى الموتى،
وأنه عليه السلام طلب رؤية أمرٍ لا يُطلب من أحدٍ الإحاطة به
وهو: رؤية إحياء الله تعالى الموتى.
السائل:
قد عرفنا أمر صيغة الدعاء،
فآن لنا أن نعرف الغرض من هذا الدعاء!!
المجيب:
فيكفينا قول إبراهيم عليه السلام: "لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"
وليس هناك من يفصح عن مراد إبراهيم عليه السلام أفضل منه ..
السائل:
ثم ..
المجيب:
ثم يكفينا أنه عليه السلام لما أراد أن يحتج على الملك الكافر
قال له: "رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ" [البقرة : 258]
السائل:
ثم ..
المجيب:
ثم يكفينا أن آحاد المسلمين ينزهون عن التهمة بعدم الإيمان بإحياء الله الموتى بغير دليل،
فكيف يقال هذا عن نبي من أنبياء الله وأحد أولي العزم من الرسل وخليل الرحمن!! ..
السائل:
ثم ..
المجيب:
ثم يكفينا دعاء إبراهيم عليه السلام ففيه يدعو الله بربوبيته،
ويسأله سؤال العبد المحب الذي يعرف أنه لن يرى إلا أن يشاء الله،
فيقول: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى" فهذا إقرارٌ ضمنيٌّ بقدرة الله تعالى .
السائل:
ثم ننتقل إلى الباعث على الدعاء !!
المجيب:
قال القرطبي رحمه الله: (اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم - عليه السلام - عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكًّا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به).
السائل:
فإن كان هذا قول الجمهور،
فهل قال أحد: إن الباعث على الدعاء هو الشك؟!!
المجيب:
هذا ذكره بعض أهل التفسير!
السائل:
فما معنى الشك إذن؟!!
المجيب:
الشك المقصود هو الخواطر التي لا تستقر في القلب،
وتذهب بدعاء الله والاستعاذة به،
وليس المقصود بالشك هنا الشك الكفري،
والإجماع على ذلك ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله فقال:
(فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف)
ونقل قول ابن عطية رحمه الله:
(المراد بالشك فيه الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك المصطلح
- وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر -
هو منفي عن الخليل قطعاً؛ لأنه يستبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة؟)!!
السائل:
وهل الأنبياء عليهم السلام غير معصومين من هذه الخواطر؟!!
المجيب:
الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكفر والشرك والكبائر و الصغائر المزرية بالإجماع لا خلاف في ذلك،
وفي الصغائر غير المزرية خلاف،
أما حديث النفس الذي لا يصل إلى الفعل فهم عليهم السلام غير معصومين منه.
السائل:
فما دليلك على مقالك؟!
المجيب:
دليل نقلي ودليل عقلي ..
السائل:
الدليل النقلي؟!!
المجيب:
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن)،
قالوا: وإياك ؟، قال: (وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)،
فدل ذلك على كونه كان يأمر بالشر قبل إسلامه،
وهذا دليل على أن الأنبياء عليهم السلام يتعرضون لوساوس الشيطان،
وبدفعهم هذه الوساوس ومجاهدة النفس يُثابون.
السائل:
والدليل العقلي؟!
المجيب:
لو عُصم الأنبياء من حديث النفس ومن الوساوس لكانوا كالملائكة،
ولكان في ذلك حجة لأهل الباطل أن نفوس الأنبياء ليست كنفوسنا،
فابتلاهم الله بما ابتلانا به لتتحقق الأسوة في فعلهم،
وهي المجاهدة التي يثاب عليها الإنسان،
والمجاهدة في حق الأنبياء أقوى وأعلى.
السائل:
فتحصل لنا مما سبق أن جمهور أهل العلم على أن الباعث على هذا الدعاء
هو: استشراف النفس لرؤية ما أخبرت به،
ومن أهل العلم من قال:
إن الباعث على الدعاء هو الشك الذي عرض لقلب إبراهيم عليه السلام
ولم يستقر فيه وقد دفعه عليه السلام بالدعاء،
وليس الشك المقصود هو الشك الكفري بالإجماع،
فما الذي جعلنا نرجح قول الجمهور على غيره؟!
المجيب:
وإن كان الترجيح لا يلزمنا، إلا أن الراجح هو قول الجمهور
لقول النبي صلى الله عليه و سلم:
(نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ:
"رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي")
السائل:
وما معنى الحديث؟!
المجيب:
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك،
ولم ينقل لنا قط أنه عليه السلام شك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى،
فكذا إبراهيم عليه السلام لم يشك،
قال الخطابي رحمه الله:
(ليس في قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) اعتراف بالشك على نفسه،
ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما،
يقول: "إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بألّا يشك"
وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس).
السائل:
فهذا قول الله تعالى:
"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"
قد اتضح لي فيه ما كان قد أشكل ..
المجيب:
أحسنت!
رزقك الله حسن التوكل ..
السائل:
فقوله تعالى: "قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
أترى فيه ما ترشدني إليه؟!
المجيب:
نعم ..
السائل:
وما ذاك؟!
المجيب:
الله علّم إبراهيم كيفية إحياء الموتى؟ أو أراه إياها!!؟
السائل:
لا ..
المجيب:
فإن الله تعالى مكّن إبراهيم عليه السلام من رؤية إحياء الموتى، لا كيفية إحياء الموتى،
ذلك أن أمر القلوب لا يطلع عليه إلا العزيز سبحانه الذي لا يُغالب،
هو تعالى بحكمته يعلم أن ما رآه إبراهيم عليه السلام أنسب لزيادة الطمأنينة في قلبه،
ولعل هذا هو السر في كون ختام الآية الكريمة:
"وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" ولم يكن:
- واعلم أن الله على كل شيء قدير- أو - واعلم أن الله يحيي الموتى هكذا -
السائل:
فهل يحق لأحد أن يحتج بطلب إبراهيم عليه السلام فيقول:
إن كان أحد أنبياء الله طلب آية ليزداد إيمانًا،
فمن حقي أن أطلب آية ليتحقق الإيمان لي؟!!
المجيب:
لا يقول هذا من عنده حصاة من عقل،
فإن إبراهيم طلب زيادة الإيمان والكافر يطلب الإيمان،
إبراهيم عليه السلام طلب شيئًا لا يطلب من الكافر الإيمان به،
وهو الإحاطة بكيفية إحياء الموتى والكافر يطلب رؤية إحياء الموتى،
وهو غير مطالب بالإيمان الناتج عن الرؤية بل يكفيه الإيمان المبني على الخبر،
إبراهيم عليه السلام لو رُفض طلبه فهو على إيمانه،
والكافر لو رفض طلبه فهو على كفره،
إبراهيم عليه السلام يسأل الله بقلب سليم ملؤه الانكسار والافتقار،
والكافر يسأل الله بقلب أسود ران عليه ما كسب من الإثم ..
السائل:
فكأن مثل هذا الكافر مثل من أخبرنا الله بقولهم:
"وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [البقرة : 118]
وجواب هؤلاء: أن الآيات التي تكفي الإيمان موجودة،
وطلب المزيد من الآيات تعنت لا يفيد،
ولذلك ختم تعالى الآية بقوله: "قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"،
وكذا مثل هذا الكافر كمثل اليهود حين قالوا:
"لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة" [البقرة : 55]
المجيب:
بل إن هناك من رأى إحياء الموتى فما نفعهم ذلك شيئًا،
واقرأ قول الله تعالى:
"فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" [البقرة : 73-74]
السائل:
فهؤلاء يحتجون بفعل إبراهيم عليه السلام وهم لا حجة لهم فيه،
بل هم مثل المشركين وأهل الكتاب حين يطلبون الآيات ليؤمنوا،
والآيات الكافية لتحقق الإيمان أمامهم بينة،
ثم هم لا يضمنون إن جاءتهم آية كما طلبوا أنهم لا يؤمنون بها،
كما قال تعالى: "وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا
قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْأَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ" [الأنعام : 109]
المجيب :
ولو جاءتهم الآية القاهرة التي طلبوها ولم يؤمنوا بها فلهم عذاب لا يعذب مثله أحد،
كما قال تعالى للحواريين حين طلبوا أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء،
لتطمئن قلوبهم ويكونوا عليها من الشاهدين:
"قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ" [المائدة : 115]
السائل:
فهل يصح أن يقال: إن استجابة الله تعالى لإبراهيم فيها ظلم لأحد من خلقه؟!!
المجيب:
فدعني أبادلك سؤالًا بسؤال!!
وما الظلم؟!
أهو عدم المساواة أم غير ذلك؟؟!
السائل:
المساواة ليست عدلًا، بل المساواة المطلقة ظلمٌ،
وعن تعريف الظلم فهو ..
المجيب:
فهو وضع الشيء في غير موضعه،
فأين في خبر إبراهيم عليه السلام وضع الشيء في غير موضعه؟!!
السائل:
على ذلك ليس في الأمر ظلمًا لأحد،
فإبراهيم عليه السلام يُطالب بإيمان لا يطالب به أحد لم يرَ مثل ما رأى إبراهيم عليه السلام،
وعليه أمور لم يطلب مثلها من أحد إلا إبراهيم عليه السلام،
فكان كل شيء في موضعه.
المجيب:
ومثل الذي يعترض على استجابة الله لإبراهيم عليه السلام كمثل تلميذ فاشل
رأى أستاذه فضّل أحد التلاميذ - لسبب لم يعرفه ذلك الفاشل –
فأراد الفاشل أن يتخذ ذلك عذرًا لفشله - وهو فاشل أصلًا –
فامتنع عن حضور درس هذا المدرس لأنه ظالم!!
وفي آخر العام وقع ذلك التلميذ فيما يتوقعه الجميع من رسوب وفشل !!
السائل:
هذا على أننا نعلم بعضًا من أسباب تفضيل الله لإبراهيم عليه السلام،
فيكفينا قوله تعالى: "نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ" [الأنعام : 83]
وقوله تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ" [هود : 75]
وقوله تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [النحل : 120]
المجيب:
...............................
السائل:
...............................
فاسمح لي أيها القارئ الكريم بعد إذ:
نقلتك من تدبر موضع الرجاء في الآية الكريمة
إلى تدبر الآية الكريمة، اسمح لي أن أنتزعك من هذا الحوار المثمر
بين السائل المستفهم والمجيب الملهم ..
لتقرأ بنفسك في تفاسير أهل العلم وتقف على أقوالهم؛ فإن في أقوالهم خيرًا ونفعًا؛
عسى أن يكون لك قولٌ تضيفه على لسان المجيب أو السائل في الحوار الذي انتزعتك منه،
والله أسأل ..
أن يكتب لك التوفيق، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلبك، وشفاء صدرك ..
اللهم آمين ..
قال الله تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [البقرة : 260]
أحسب القارئ الفاضل يعيد تدبر الآية الكريمة إن علم بوصفها أنها أشد آيات كتاب الله بعثًا للرجاء في القلوب ..
لعلك – الآن - وقفت على سبب هذا الوصف ..
أرأيت؟!!
أرأيت صفات الله تتجلى؟!!
إنه الملك:
يطلع من يشاء من عباده، على ما يشاء من آياته ..
الودود:
يلجأ إليه عباده، فيُنزلون به حاجاتهم يقينًا منهم بوده ورحمته ..
الشكور:
يجزي على الإيمان بالطمأنينة، فكانت زيادة الإيمان دعوة المؤمنين والأنبياء ..
السميع:
وسع سمعه الأصوات، فلا يخفى عليه نداء أو دعاء في الأرض أو في السماء ..
القريب:
يسمع النداء ويجيب الدعاء، وهو بعلمه ونصرته أقرب إلى عبده من حبل الوريد ..
القدير:
يحيي ما مات، ويجمع ما تفرق، وبأمره يسعى ما تمزق، وبـ "كُن" يكون ما يريد ..
الحق المبين:
لا يرضى لنبيه أن تبقى حول إيمانه شبهة، فسأله عن إيمانه لينفي عنه كل شبهة ..
العدل:
يقيم على نبيه شاهدَ صدقٍ من نفسه، ويقيم من خلقه شاهدًا على صفات العزة والحكمة ..
العليم:
يعلم ما على لسان نبيه وما في قلبه، ويعلم ما على رأس الجبل وفي وعره، وهو علام الغيوب ..
العزيز:
الذي لا يُعجزه شيء، و ليس كمثله شيء، ولا يخفى عليه شيء وإن كان محله سويداء القلوب ..
الحكيم:
لا راد لحكمه ولا شك في حكمته، يقيم من كل مخلوق شهادة على خالقه، فلا ينكر ذاك إلا جاحد مكابر ..
المهيمن:
يأمر عبده أن يدعو ما تمزق من أجزاء الطير، ثم يأمر الطير فتأتي سعيًا فلا يتخلف منها عند النداء طائر ..
أرأيت الله الكريم يُعلمنا بخبر إبراهيم عليه السلام!!
لنعلم أنه الملك، الودود، العدل، الشكور، الحق المبين، السميع، القدير، المهيمن، الكريم، القريب، العليم، العزيز، الحكيم!!
أرأيت كيف كانت هذه الآية الكريمة - عند بعض العلماء - أرجى آية في كتاب الله!!
بل اذهب أبعد من ذلك وأعمق من ذاك، اذهب فتدبر الآية الكريمة بما فيها من:
دعاءِ إبراهيم فسؤالٍ من الله تعالى وجوابٍ من إبراهيم فاستجابةٍ منه عزّ وجلّ ..
استغرق - أيها القارئ الفاضل - في تدبر هذه الآية ..
حتى يقوم لك من نفسك سائلٌ مستفهمٌ، ومجيبٌ ملهَمٌ
وكأني بذاك السائل وهذا المجيب وقد قام بينهما حوارٌ فكان كالآتي :
قال السائل :
" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى" هذا الدعاء أرى له صيغةً وغرضًا وباعثًا ..
ردّ المجيب :
أحسنت غاية الإحسان !!
السائل:
أحسن الله إليك!! فصيغة الدعاء وردت بـ "كَيْفَ"، ولا أظن ذاك إلا لحكمة لا تخفى !!
المجيب:
نعم!!
من حكمته أن السؤال عن كيفية إحياء الله تعالى الموتى يصدر ممن آمن بإحياء الموتى،
فالإحاطة بكيفية إحياء الموتى ليست من أركان الإيمان،
في حين الإيمان بإحياء الله تعالى الموتى من أركان الإيمان،
فنخلص من ذلك أن إبراهيم ..
السائل:
أن إبراهيم عليه السلام كان يؤمن بإحياء الله تعالى الموتى،
وأنه عليه السلام طلب رؤيةَ أمرٍ لا يُطلب من أحدٍ الإحاطةُ به،
وهو: كيفية إحياء الله تعالى الموتى ..
المجيب:
نعم!!
وذاك قول شهاب الدين الألوسي رحمه الله: (وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة "كَيْفَ")
السائل:
السؤال بـ "كَيْفَ" قد يَرِدُ أحيانًا ممن لم يؤمن بإحياء الموتى،
وكأنه يقول: "إن كنت تزعم أن هناك بعثًا فأرني كيف يكون، فإن لم تستطع فليس هناك بعثٌ"، كالذي ضرب مثلًا ونسي خلقه فقال: "مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" [يس : 78]
المجيب:
سبقك ابن عطية رحمه الله فقال: (لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شئ قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح،
مثال ذلك أن يقول مدعٍ: "أنا أرفع هذا الجبل" فيقول المكذِّب له: "أرني كيف ترفعه!"،
فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليمٌ جدليٌ،
كأنه يقول:" افرض أنك ترفعه!! فأرني كيف ترفعه!!"،
فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازى،
خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: "أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى"
فكَمُل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة).
السائل:
فلا يتم الأمر حتى أسأل:
ألم يذكر أحد من أهل العلم أن السؤال كان عن إحياء الموتى لا الكيفية؟!!
المجيب:
بلى!!
قد ذكر بعض أهل العلم ذلك، لكن السؤال هنا عن رؤية إحياء الله تعالى الموتى
ولا يُطلب من أحد الإيمان الذي ينتج عن الرؤية،
فعاد الأمر كما كان أن إبراهيم عليه السلام يؤمن بإحياء الله تعالى الموتى،
وأنه عليه السلام طلب رؤية أمرٍ لا يُطلب من أحدٍ الإحاطة به
وهو: رؤية إحياء الله تعالى الموتى.
السائل:
قد عرفنا أمر صيغة الدعاء،
فآن لنا أن نعرف الغرض من هذا الدعاء!!
المجيب:
فيكفينا قول إبراهيم عليه السلام: "لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"
وليس هناك من يفصح عن مراد إبراهيم عليه السلام أفضل منه ..
السائل:
ثم ..
المجيب:
ثم يكفينا أنه عليه السلام لما أراد أن يحتج على الملك الكافر
قال له: "رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ" [البقرة : 258]
السائل:
ثم ..
المجيب:
ثم يكفينا أن آحاد المسلمين ينزهون عن التهمة بعدم الإيمان بإحياء الله الموتى بغير دليل،
فكيف يقال هذا عن نبي من أنبياء الله وأحد أولي العزم من الرسل وخليل الرحمن!! ..
السائل:
ثم ..
المجيب:
ثم يكفينا دعاء إبراهيم عليه السلام ففيه يدعو الله بربوبيته،
ويسأله سؤال العبد المحب الذي يعرف أنه لن يرى إلا أن يشاء الله،
فيقول: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى" فهذا إقرارٌ ضمنيٌّ بقدرة الله تعالى .
السائل:
ثم ننتقل إلى الباعث على الدعاء !!
المجيب:
قال القرطبي رحمه الله: (اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم - عليه السلام - عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكًّا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به).
السائل:
فإن كان هذا قول الجمهور،
فهل قال أحد: إن الباعث على الدعاء هو الشك؟!!
المجيب:
هذا ذكره بعض أهل التفسير!
السائل:
فما معنى الشك إذن؟!!
المجيب:
الشك المقصود هو الخواطر التي لا تستقر في القلب،
وتذهب بدعاء الله والاستعاذة به،
وليس المقصود بالشك هنا الشك الكفري،
والإجماع على ذلك ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله فقال:
(فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف)
ونقل قول ابن عطية رحمه الله:
(المراد بالشك فيه الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك المصطلح
- وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر -
هو منفي عن الخليل قطعاً؛ لأنه يستبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة؟)!!
السائل:
وهل الأنبياء عليهم السلام غير معصومين من هذه الخواطر؟!!
المجيب:
الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكفر والشرك والكبائر و الصغائر المزرية بالإجماع لا خلاف في ذلك،
وفي الصغائر غير المزرية خلاف،
أما حديث النفس الذي لا يصل إلى الفعل فهم عليهم السلام غير معصومين منه.
السائل:
فما دليلك على مقالك؟!
المجيب:
دليل نقلي ودليل عقلي ..
السائل:
الدليل النقلي؟!!
المجيب:
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن)،
قالوا: وإياك ؟، قال: (وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)،
فدل ذلك على كونه كان يأمر بالشر قبل إسلامه،
وهذا دليل على أن الأنبياء عليهم السلام يتعرضون لوساوس الشيطان،
وبدفعهم هذه الوساوس ومجاهدة النفس يُثابون.
السائل:
والدليل العقلي؟!
المجيب:
لو عُصم الأنبياء من حديث النفس ومن الوساوس لكانوا كالملائكة،
ولكان في ذلك حجة لأهل الباطل أن نفوس الأنبياء ليست كنفوسنا،
فابتلاهم الله بما ابتلانا به لتتحقق الأسوة في فعلهم،
وهي المجاهدة التي يثاب عليها الإنسان،
والمجاهدة في حق الأنبياء أقوى وأعلى.
السائل:
فتحصل لنا مما سبق أن جمهور أهل العلم على أن الباعث على هذا الدعاء
هو: استشراف النفس لرؤية ما أخبرت به،
ومن أهل العلم من قال:
إن الباعث على الدعاء هو الشك الذي عرض لقلب إبراهيم عليه السلام
ولم يستقر فيه وقد دفعه عليه السلام بالدعاء،
وليس الشك المقصود هو الشك الكفري بالإجماع،
فما الذي جعلنا نرجح قول الجمهور على غيره؟!
المجيب:
وإن كان الترجيح لا يلزمنا، إلا أن الراجح هو قول الجمهور
لقول النبي صلى الله عليه و سلم:
(نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ:
"رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي")
السائل:
وما معنى الحديث؟!
المجيب:
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك،
ولم ينقل لنا قط أنه عليه السلام شك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى،
فكذا إبراهيم عليه السلام لم يشك،
قال الخطابي رحمه الله:
(ليس في قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) اعتراف بالشك على نفسه،
ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما،
يقول: "إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بألّا يشك"
وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس).
السائل:
فهذا قول الله تعالى:
"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"
قد اتضح لي فيه ما كان قد أشكل ..
المجيب:
أحسنت!
رزقك الله حسن التوكل ..
السائل:
فقوله تعالى: "قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
أترى فيه ما ترشدني إليه؟!
المجيب:
نعم ..
السائل:
وما ذاك؟!
المجيب:
الله علّم إبراهيم كيفية إحياء الموتى؟ أو أراه إياها!!؟
السائل:
لا ..
المجيب:
فإن الله تعالى مكّن إبراهيم عليه السلام من رؤية إحياء الموتى، لا كيفية إحياء الموتى،
ذلك أن أمر القلوب لا يطلع عليه إلا العزيز سبحانه الذي لا يُغالب،
هو تعالى بحكمته يعلم أن ما رآه إبراهيم عليه السلام أنسب لزيادة الطمأنينة في قلبه،
ولعل هذا هو السر في كون ختام الآية الكريمة:
"وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" ولم يكن:
- واعلم أن الله على كل شيء قدير- أو - واعلم أن الله يحيي الموتى هكذا -
السائل:
فهل يحق لأحد أن يحتج بطلب إبراهيم عليه السلام فيقول:
إن كان أحد أنبياء الله طلب آية ليزداد إيمانًا،
فمن حقي أن أطلب آية ليتحقق الإيمان لي؟!!
المجيب:
لا يقول هذا من عنده حصاة من عقل،
فإن إبراهيم طلب زيادة الإيمان والكافر يطلب الإيمان،
إبراهيم عليه السلام طلب شيئًا لا يطلب من الكافر الإيمان به،
وهو الإحاطة بكيفية إحياء الموتى والكافر يطلب رؤية إحياء الموتى،
وهو غير مطالب بالإيمان الناتج عن الرؤية بل يكفيه الإيمان المبني على الخبر،
إبراهيم عليه السلام لو رُفض طلبه فهو على إيمانه،
والكافر لو رفض طلبه فهو على كفره،
إبراهيم عليه السلام يسأل الله بقلب سليم ملؤه الانكسار والافتقار،
والكافر يسأل الله بقلب أسود ران عليه ما كسب من الإثم ..
السائل:
فكأن مثل هذا الكافر مثل من أخبرنا الله بقولهم:
"وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [البقرة : 118]
وجواب هؤلاء: أن الآيات التي تكفي الإيمان موجودة،
وطلب المزيد من الآيات تعنت لا يفيد،
ولذلك ختم تعالى الآية بقوله: "قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"،
وكذا مثل هذا الكافر كمثل اليهود حين قالوا:
"لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة" [البقرة : 55]
المجيب:
بل إن هناك من رأى إحياء الموتى فما نفعهم ذلك شيئًا،
واقرأ قول الله تعالى:
"فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" [البقرة : 73-74]
السائل:
فهؤلاء يحتجون بفعل إبراهيم عليه السلام وهم لا حجة لهم فيه،
بل هم مثل المشركين وأهل الكتاب حين يطلبون الآيات ليؤمنوا،
والآيات الكافية لتحقق الإيمان أمامهم بينة،
ثم هم لا يضمنون إن جاءتهم آية كما طلبوا أنهم لا يؤمنون بها،
كما قال تعالى: "وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا
قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْأَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ" [الأنعام : 109]
المجيب :
ولو جاءتهم الآية القاهرة التي طلبوها ولم يؤمنوا بها فلهم عذاب لا يعذب مثله أحد،
كما قال تعالى للحواريين حين طلبوا أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء،
لتطمئن قلوبهم ويكونوا عليها من الشاهدين:
"قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ" [المائدة : 115]
السائل:
فهل يصح أن يقال: إن استجابة الله تعالى لإبراهيم فيها ظلم لأحد من خلقه؟!!
المجيب:
فدعني أبادلك سؤالًا بسؤال!!
وما الظلم؟!
أهو عدم المساواة أم غير ذلك؟؟!
السائل:
المساواة ليست عدلًا، بل المساواة المطلقة ظلمٌ،
وعن تعريف الظلم فهو ..
المجيب:
فهو وضع الشيء في غير موضعه،
فأين في خبر إبراهيم عليه السلام وضع الشيء في غير موضعه؟!!
السائل:
على ذلك ليس في الأمر ظلمًا لأحد،
فإبراهيم عليه السلام يُطالب بإيمان لا يطالب به أحد لم يرَ مثل ما رأى إبراهيم عليه السلام،
وعليه أمور لم يطلب مثلها من أحد إلا إبراهيم عليه السلام،
فكان كل شيء في موضعه.
المجيب:
ومثل الذي يعترض على استجابة الله لإبراهيم عليه السلام كمثل تلميذ فاشل
رأى أستاذه فضّل أحد التلاميذ - لسبب لم يعرفه ذلك الفاشل –
فأراد الفاشل أن يتخذ ذلك عذرًا لفشله - وهو فاشل أصلًا –
فامتنع عن حضور درس هذا المدرس لأنه ظالم!!
وفي آخر العام وقع ذلك التلميذ فيما يتوقعه الجميع من رسوب وفشل !!
السائل:
هذا على أننا نعلم بعضًا من أسباب تفضيل الله لإبراهيم عليه السلام،
فيكفينا قوله تعالى: "نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ" [الأنعام : 83]
وقوله تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ" [هود : 75]
وقوله تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [النحل : 120]
المجيب:
...............................
السائل:
...............................
فاسمح لي أيها القارئ الكريم بعد إذ:
نقلتك من تدبر موضع الرجاء في الآية الكريمة
إلى تدبر الآية الكريمة، اسمح لي أن أنتزعك من هذا الحوار المثمر
بين السائل المستفهم والمجيب الملهم ..
لتقرأ بنفسك في تفاسير أهل العلم وتقف على أقوالهم؛ فإن في أقوالهم خيرًا ونفعًا؛
عسى أن يكون لك قولٌ تضيفه على لسان المجيب أو السائل في الحوار الذي انتزعتك منه،
والله أسأل ..
أن يكتب لك التوفيق، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلبك، وشفاء صدرك ..
اللهم آمين ..