أبو مريم
09-30-2008, 11:25 PM
ذهبت المعتزلة إلى أن أن معرفة الله تعالى لا تكون إلا بالنظر بمعنى أن معرفة الله تعالى من المعارف النظرية لا الضرورية، وهم يستدلون على ذلك بأدلة كثيرة منها :
الاستقراء، وأنه تابع لقصدنا وكراهتنا والضرورى لا يحصل بمقدورنا ولا يمكننا دفعه وليس تابعا لقصدنا وكراهتنا .
ومنها أنه لو كان ضروريا لما اختلف فيه العقلاء كما فى سائر الضروريات .
ومنها أنه لو كان ضروريا لما أمكن نفيه عن النفس بشبهة كما حدث لابن الراوندى وأبى عيسى الوراق .( 1)
لكن ذلك يجاب عنه بسهولة بأنه قد ثبت عن أقوام جحدهم المحسوسات، وثبت عن أقوام جحدهم المتواترات، وثبت عن أقوام جحدهم البديهيات وهم المسفسطة وهذا لا يمنع من كونها ضرورية؛ فهى مجرد دعاوى لا يمكن التحقق من صحتها، غاية ما هنالك أنكم تبنون أدلتكم على تحسين الظن بهؤلاء الملاحدة وتأخذون بشهادتهم وكأنها مقدمات يقينية .
وقد استدلوا بدليل آخر وهو : أن الله تعالى لو كان يعرف بالضرورة لوجب فى العادم لتلك المعرفة أن يكون معذورا (2 ) لأن تعريف الضرورى ما يحصل فينا بغير إرادة منا فلو كان الله تعالى يُعرف بذلك وليس بغيره لكان العادم لتلك المعرفة معذورا لأنه لم يفرط فى شىء مقدور له، ومعلوم أن العادم لمعرفة الله تعالى ليس معذورا ؛ فعلم أنها ليست ضرورية بل نظرية .
لكن لماذا لا تكون المعرفة تحصل بطريقين على سبيل التبادل أو التكامل بمعنى أنها تحصل ضرورة لبعض الناس وتحصل دلالة لآخرين، أو أنها تحصل إجمالا بالضرورة وتكتمل بالنظر ؟
وهنا يلجأ المعتزلة إلى التحكم فيقولون بأن ما يقع لشخص بالضرورة لا يمكن أن يقع لشخص آخر دلالة (3 ) وقد أجاب عنه إمام الحرمين بأنه لا يمتنع أن يعلم الشىء فى موضع ما دلالة وفى موضع آخر ضرورة لأنه ليس فيه سوى خلق المقدور بغير قدرة وهو غير ممتنع.(4 )
ولكن هناك ما هو أبعد من ذلك فالعقول لا تستوى ولا تتطابق فيما بينها وهم قد بنوا قولهم هذا على دعوى مفادها أن الناس جميعا يستوون فى المعارف وفى القدرات والمواهب وأن العقل البشرى متحد ومتطابق وهذا غير صحيح .
ثم من قال إن معرفة الله تعالى لا طريق إليها إلا العقل والنظر ولماذا لا تكون هناك طرق أخرى ؟
وحتى لو سلمنا لهم بأن ما يعرف دلالة لدى شخص لا يعرف ضرورة لدى آخر، وأنه لا سبيل لمعرفة الله تعالى إلا العقل والنظر العقلى فإن دليلهم هذا لا يصح أيضا لأنه فى تلك الحالة – أى فى حالة كون معرفة الله تعالى ضرورية – فلا يكون هناك عادم لها بل جاحد لها وهذا لا يكون معذورا .
عموما لقد أسرف المعتزلة فى النهج العقلى، وأوجبوا النظر بناء على أن معرفة الله تعالى واجبة، وأنها لا تحصل ولا تتم إلا بالنظر، وأنها لو كانت تحصل على وجه ما بدون نظر فإن ذلك لا يكفى ولا يعذر صاحبه.. وكانت المحصلة أن النظر فى طريق معرفة الله تعالى هو أول الواجبات(5 ) وأنه لا يصح إيمان بغير نظر؛ فلا يصح إيمان المقلد، وقد بالغ بعضهم فكفروا من أسموه بالمقلد فى باب معرفة الله تعالى وأنه مخلد فى النار ولو نطق بالشهادتين وصام وصلى وأتى بكل الفرائض الواجبة وانتهى عما حرمه الله تعالى، قال بشر بن المعتمر : إن المكلف يأتى بالنظر فى الحالة الثانية ( أى بعد الحالة الأولى التى هى لحظة بلوغه ) والمعرفة فى الحالة الثالثة فإن مات فى الرابعة ولم يأت بها كان عدوا لله تعالى وهو قول أصحاب المهلة .
وقد كان القاضى عبد الجبار من ألطفهم عبارة فلم يكفر المقلد ويحكم بخلوده فى النار وأنه عدو لله صراحة بل قال بفساد التقليد، وحاول أن يستدل على صحة مذهبه بطريقة مقبولة فقال إن عدم صحة إيمان المقلد إنما ترجع لكونه لا يأمن خطأ من قلده فيما يقدم عليه من الاعتقاد، وأن يكون جاهلا قبيح والإقدام على ما لا يؤمن كونه قبحا بمنزلة الإقدام عليه مع القطع بذلك (6 )
وإذا كان موقف المعتزلة من إيجاب النظر يتفق مع أصولهم التى وضعوها ويمكن أن ينسجم مع مبادئهم إلى حد كبير، وإذا كنا نلتمس عذرا للأشاعرة الذين لم يستطيعوا أن يتخلصوا من تلك الفكرة التى ورثوها عن أسلافهم (7 )فإننا نجد أنفسنا غير مقتنعين بقول كثير من فقهاء المذاهب الأربعة والأصوليين وبعض من يوصفون من أهل العلم بأنهم محافظون ومجافون للكلام كالقاضى أبى يعلى وابن الزاغونى وابن عقيل الذين ينحون نفس المنحى ويقولون بوجوب النظر بناء على نفس القاعدة وهى: أن معرفة الله تعالى لا تتم إلا بالنظر، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. ونراهم يحكمون بفساد إيمان من أسموه بالمقلد، ويرددون نفس عبارات المعتزلة.. والأمر يحتاج منا لوقفة؛ إذ لا يكفى أن نشير هنا إلى فساد مذهب المعتزلة وندعى أن من وافقهم فمذهبه مثل مذهبهم لأنه من الممكن أن تكون لهم أدلة أخرى يجب تقريرها أولا ثم الرد عليها :
أما أدلتهم فهى :
أولا : استدلوا بعموم ما ورد فى القرآن الكريم من الأمر بالنظر كقوله تعالى: ﴿إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب)) (8 )وفي صحيح ابن حبان لما نزل في آل عمران ﴿إن في خلق السموات والأرض..﴾ الآيات قال صلى الله عليه وسلم : ((لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها))(9 ) .
وبذم الله تعالى للمقلدين ، قال تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾(10 ) .. قالوا: وهذا يدل على أن التفكر والنظر واجب ويحرم تركه .(11 )
ثانيا: استدلوا بأن المطلوب إنما هو العلم وليس مجرد الاعتقاد، قال تعالى لنبيه (ص) ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾(12 ) فألزم الشارع بالعلم ، ويلزمنا نحن أيضا ؛ لقوله :(( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(13 )فتعين طلب اليقين في الوحدانية ، ويقاس عليها غيرها ، والتقليد لا يفيد إلا الظن .(14 )
وقال تعالى :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(15 ) فقال تعالى : ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ((وهذا القيد يدل على أن الشهادة باللسان فقط لا تفيد البتة ، فقد بين الله تعالى أن الشهادة لا تنفع إلا إذا حصل معها العلم والعلم عبارة عن اليقين الذي لو شكك صاحبه فيه لم يتشكك ، وهذا لم يحصل إلا عند الدليل ، فثبت أن إيمان المقلد لا ينفع البتة .(16 )
ثالثا : استدلوا على أن المعرفة التى لا تحصل إلا بالنظر واجبة بالإجماع، وأنه منعقد على وجوب معرفة الله تعالى ، وأنها لا تحصل بتقليد لجواز كذب المخبر ، واستحالة حصولها كمن قلد في حدوث العالم ، وكمن قلد في قدمه ، ولأن التقليد لو أفاد علما ، فإما بالضرورة ، وهو باطل ، وإما بالنظر ، فيستلزم الدليل والأصل عدمه ، والعلم يحصل بالنظر ، واحتمال الخطأ لعدم مراعاة القانون الصحيح وقالوا إن ذلك ليس لا يقتصر على معرفة الله تعالى فحسب بل ويشمل أركان الإسلام أيضا قال ابن مفلح : ((لا يجوز للعامي التقليد في أركان الإسلام ونحوها مما تواتر واشتهر، ذكره القاضى، وذكره أبو الخطاب وابن عقيل إجماعا))( 17)
قال السفارينى :
( (
وكل ما يطلب فيه الجزم *** فمنع تقليد بذاك حتم
لأنه لا يكتفى بالظن *** لذى الحجا فى قول أهل الفن
قال علماؤنا وغيرهم يحرم التقليد في معرفة الله تعالى ، وفي التوحيد والرسالة ، وكذا في أركان الإسلام الخمس ، ونحوها مما تواتر واشتهر ، عند الإمام أحمد - رحمه الله- والأكثر وذكره أبو الخطاب عن عامة العلماء ، وذكر غيره أنه قول الجمهور قاله))(18 )
ثم قالوا إن ما يمنع مذهبهم هو أنه مما يتعذر على العوام، و النظر فى أدلة معرفة وجود الله تعالى وصفاته ليس مما يتعذر على العوام بل إنها مما يحسنه العقلاء جميعا، ولا تختص بشخص دون آخر، كما أنها جلية وفى أعلى درجات الوضوح،قال ابن الزاغونى: ((إذا تأملنا أدلة التوحيد وما يجب على العامي ترك التقليد فيه وجدناه سهلا في مأخذه قريبا في تناوله تشتاق النفوس إليه بأنسها ويستند ذلك إلى شيئين : أحدهما : أن ذلك منوط بالعقل والعوام عقلاء والثاني : أن أدلة ذلك جلية في أعلى مقامات الإيضاح والكشف حتى تجد النفوس بها مستأنسة وذلك مثلما يستدل العامي على معرفة أن له خالقا فيعلم عند تأمل نفسه أنه جسم مجموع مفعول مصنوع وهو عاجز في نفسه عن صنع ذاته وصفاته))(19 )
والجواب من وجوه :
أولا : أنهم أخطئوا فى أصل المسألة:
فإن استدلالهم على منع التقليد بأنه لا يكتفى بالظن فى مسائل الإيمان مغالطة؛ لأنه استدل بمقدمة محذوفة غير صادقة وهى أن التقليد نوع من الظن وكل مقلد فهو ظان وغير جازم ، وهذا غير صحيح لأن التقليد لا يشترط فى حقه الظن.
وقبل ذلك أخطئوا فى إطلاقهم لفظ المقلد على من لم يأت بأدلة العقل، والواقع أن المقلد كما يعرفه البيهقى فى شعب الإيمان باب القول في إيمان المقلد و المرتاب:((هو من تدين ما تدين لأنه دين آبائه و قرابته و أهل بلده و ليس عنده وراء ذلك حجة يأوي إليها، و المرتاب من يقول : اعتقدت الإسلام و تابعت أهله احتياطا لنفسي فإن كان حقا فقد فزت و إن لم يكن من ذلك شيء لم يضرني و واحد من هذين ليس بمسلم))(20 ).
فالمقلد الذى هو قرين المرتاب لا يتبع دين الله تعالى إلا لأنه وُجِد فى ذلك المجتمع المسلم ليس إلا، فهو يتبع الدين تعصبا لقومه وآبائه حتى إنه لو وجد فى قوم آخرين على أى ملة كانوا لاتبعها ولأنكر ما سواها تعصبا وحمية ليس إلا .
إن منشأ الخطأ فى إطلاق لفظ المقلد وما ترتب عليه من أحكام قاسية بلغت حد تكفير العوام إنما هو الخلاف اللفظى، فلفظ التقليد كما يقول السبكى : لفظ مشترك يطلق بمعنيين: أحدهما قبول قول الغير بغير حجة ، والمعنى الثاني للتقليد: أنه الاعتقاد الجازم المطابق لا لموجب ، وهذا المعنى الثانى لم يقل أحد من علماء الإسلام إنه لا يكفي في الإيمان إلا أبو هاشم من المعتزلة وقد انفرد بذلك عن طائفته وسائر طوائف الإسلام من أهل السنة وغيرهم وخالف الأدلة(21 ).
فالتقليد المذموم الذى لا ينفع صاحبه ليس ما ينبغى أن يطلق على عوام المسلمين، وإنما يطلق على نوع من المنافقين يقولون نؤمن بالله على سبيل الاحتياط ونؤمن بنبوة محمد (ص) لأنه من الأفضل ألا نخالف الناس ولعلهم على صواب فهم كثر.. إنه نوع سيء جدا من الإمعية ، بل هو نوع من النفاق لا ينفك صاحبه عن الشك، بل الشك من جملة أركانه، ولا يظن بصاحبه أن يكون محبا لله تعالى ولرسوله ولا آتيا بأعمال الإيمان القلبية وإن أمكن أن يأتى ببعض أفعال الجوارح .. ووضع حد فاصل بينه وبين الكافر الصريح من الصعوبة بمكان .
الخطأ الثانى: فى حصرهم للأدلة وإطلاقهم لفظ المقلد على من لم يستدل بها:
لا يمنع أن يكون إيمان المقلد نوعا من اليقين عن ضرورة على اعتبار أنه تقليد لمن ثبت صدقه بالمعجزات الدالة على صدقه، والمقلد فى شأن العقيدة إنما يقلد ما صحت نسبته للمؤيد بالمعجزات الدالة على صدقة عن طريق التواتر ؛ فإن كان المقلد هو مقلد للنبى (ص) الذى دلت المعجزة على صدقه فيما نقل إليه متواترا؛ فوصفه بأنه شاك بناء على أن التقليد يقتضى الشك والظن فى حد ذاته أو أن يقتضى الشك والظن لكون المقلد لا يعلم إن كان من قلده على الحق أو لا -هو قول باطل، قال ابن تيمية في المسودة :(( التقليد قبول القول بغير دليل ، فليس المصير إلى الإجماع بتقليد ، لأن الإجماع دليل ، ولذلك يقبل قول النبي -(ص) - ، ولا يقال تقليد ، وقد قال الإمام أحمد - ط- في رواية أبي الحارث من قلد الخبر رجوت أن يسلم إن شاء الله تعالى فأطلق اسم التقليد على من صار إلى الخبر ، وإن كان حجة بنفسه .))(22 )
بل إن الحجة التى وردت فى كتاب الله تعالى إنما هى فى اتباع الرسل قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾(32 ) وقال تعالى: ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾( 24) فكيف تقولون: إنه يأخذ كلام الغير بلا حجة لمن يتبع
أنبياء الله ورسله، ويتبع البراهين والبينات التى وجدها فى الكتاب والسنة ؟
ثم إن الإيمان ما هو إلا اتباع للفطرة وليس ابتداع وخروج عن الأصل حتى يطلب له دليل.
فضلا عن أن فى الكلام مغالطات كثيرة فهم يفترضون أن هناك تقليدا وإيمان بغير دليل كإيمان اليهود والنصارى، وليس الأمر كذلك قال تعالى : ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾(25 ) وقال تعالى : ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾(26 ) وقال تعالى : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾(27 ) وقال تعالى : ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(28 ) وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾( 29)، ,وقوله تعالى (( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾( 30) ..
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله (ص): (( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ))( 31).
قال الله تعالى:(( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ( 32) فهذا الدين منقوش في الفطرة لا يبدله أحد، ثم يأتي الأنبياء بما يصدق ويؤيد هذه الفطرة، فليس في الأمر إذن تقليد مطلقا، وإنما هو حجج عقلية.(33 )
وحتى لو فرضنا جدلا أن من يسمونه بالمقلد هو بالفعل مؤمن عن غير دليل فهذا لا يضره طالما أنه قد طابق الواقع، ونحن نعلم أنه قد طابق الواقع فلا يسعنا أن نحكم ببطلانه، يقول الغزالى فى إلجام العوام ((وصورة الحق إذا انتقشت بها قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له أهو دليل حقيقى، أو إقناعى، أو قبول بحسن الاعتقاد فى قائله، أو قبول لمجرد التقليد من غير سبب.. فليس المطلوب الدليل المقيد بل الفائدة وهى حقيقة الحق على ما هو عليه، فمن اعتقد حقيقة الحق فى الله تعالى وفى صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه فهو سعيد وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلامى، ولم يكلف الله تعالى عباده إلا ذلك ))(34 )
ثم إنكم بذلك قد خالفتم الشرع وخالفتم ما عليه أهل العلم من السلف والخلف فضلا عن مخالفتكم الواقع المشاهد :
فلم يثبت عن النبى (ص) ولاعن صحابته رضوان الله عليهم أنهم كانوا يدعون الناس للإيمان عن طريق مناظرة الملاحدة والنصارى، أو أنهم كانوا يرتبون الأدلة على طريقة المتكلمين، بل قد كان النبى صلى الله عليه وسلم يكتفي في الإيمان من الأعراب بالتلفظ بكلمتي الشهادة المنبئ عن العقد الجازم ، ويقاس غير الإيمان من أصول الدين عليه .
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفتحون البلدان فيحكمون بإسلام من تلفظ بالشهادتين ولا يسألونه عن دليل تصديقه، ولا أمروا أحدا باتباع النظر العقلى ولا أرجئوه حتى ينظر .( 35)
يقول الرازى فى التفسير الكبير فى تفسير قوله تعالى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴾(36 ) : ((قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون : إن إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على محمد عليه السلام ، ولو لم يكن إيمانهم صحيحا لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا عالمين حدوث الأجساد بالدليل ولا إثبات كونه تعالى منزها عن الجسمية والمكان والحيز ولا إثبات كونه تعالى عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها.. فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح ))(37 ).
كما أن مذهبكم مخالف للمشهور عند أهل العلم من السلف والخلف :
قال النووي : الآتى بالشهادتين مؤمن حقا ، -وإن كان مقلدا- على مذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف ،وقال ابن تيمية: واتفق المسلمون على أن الصبى إذا بلغ مسلما لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين؛ ولهذا قال الأئمة كالشافعي و أحمد وغيرهما : يجب على كافل الصبى أن يأمره بالطهارة والصلاة لسبع، ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد شهادتين ولا نظر ولا استدلال ونحو ذلك ولا يؤمر بذلك بعد البلوغ ..
لكن من أين دخل هذا المذهب على بعض أهل العلم من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة؟
يجيب ابن تيمية على ذلك بأنه جاء عن طريق المنتسبين إلى المذاهب الفقهية من المتكلمين الذين تأثروا بأقوال المعتزلة ؛ فقد كان سائدا فى الأوساط الكلامية القول بأن إيمان المقلد لا يصح ((ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم كمالك و أبى حنيفة و الشافعى و أحمد وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه : ( قال أصحابنا ) و (اختلف أصحابنا ) فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له ، ففي ذلك الكلام عموم وخصوص فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس وقد يجتمع فيه الوصفان))(38 )
وأما مخالفته للواقع :
فإن الناظر فى تلك المسائل من العوام عرضة للشبهات والشكوك حتى إن بعض أهل العلم من المتكلمين من حرم على العوام النظر فى كتب المتكلمين، وألف الغزالى كتابه الشهير" إلجام العوام عن علم الكلام" فكيف تفترضون فى العوام أن يكون إيمانهم متعلقا بما لا يقويه بل يفسده ويضره؟!
وما أقبح أن يقال للصبى الذى أدرك الحلم : شك فى وجود الله تعالى فإنه أول ما يجب عليك فعله، أو هل شككت يا بنى بمجرد بلوغك أم لا ؟! أو حتى: قل لا إله إلا الله يا بنى عندما تبلغ وإلا فأنت كافر ! لا أحد من الفقهاء قال ذلك؛ فالفقهاء متفقون على أنه إذا بلغ الصبي لا يجب على وليه أن يقول له: قل لا إله إلا الله. لأنه ولد على الإسلام، فهو مسلم بالفطرة، بل يغلب جانب الإسلام دائما حتى لو وجدنا لقيطا في بلاد الكفار، فإننا نفترض في هذا اللقيط الإسلام ونعامله معاملة المسلمين .
ثم يقال لهؤلاء : هل أتى القرآن بالأدلة التامة التى تجعل الإنسان مؤمنا إيمانا ينفعه أم لا ؟
فإن قالوا: " لا" فقد أهلكوا أنفسهم ولم يستحقوا منا جوابا، وإن قالوا : "نعم" قلنا لهم: فكيف تطلقون على من آمن وأقر بها مقلدا حتى يقرأ أدلتكم ويسير على طريقتكم؟
فإن قالوا: إنه لا يفهمها، قلنا لهم: ومن أدراكم أنه يفهم أدلتكم؟ ومن قال إن صياغتكم للأدلة أفضل وأيسر وأقرب للفهم من صياغة القرآن الكريم ؟ هذا على فرض سلامة أدلتكم من الطعون .
ثم إننا إذا تأملنا حال من يطلق عليه مقلد وحال من يطلق عليه غير مقلد بل متبع للدليل لوجدنا أن أحدهما أولى بما يطلق على الآخر؛ فالذى يدعى اتباع الدليل ما هو إلا مقلد فى الحقيقة لأدلة بعض المتكلمين والفلاسفة سائر معها حيث سارت؛ إن قالوا هى ستة أو خمسة أو سبعة ،إن قالوا حدوث مطلق أو حدوث بشرط الإمكان ..ولا يسلم منها دليل من غير
الاستقراء، وأنه تابع لقصدنا وكراهتنا والضرورى لا يحصل بمقدورنا ولا يمكننا دفعه وليس تابعا لقصدنا وكراهتنا .
ومنها أنه لو كان ضروريا لما اختلف فيه العقلاء كما فى سائر الضروريات .
ومنها أنه لو كان ضروريا لما أمكن نفيه عن النفس بشبهة كما حدث لابن الراوندى وأبى عيسى الوراق .( 1)
لكن ذلك يجاب عنه بسهولة بأنه قد ثبت عن أقوام جحدهم المحسوسات، وثبت عن أقوام جحدهم المتواترات، وثبت عن أقوام جحدهم البديهيات وهم المسفسطة وهذا لا يمنع من كونها ضرورية؛ فهى مجرد دعاوى لا يمكن التحقق من صحتها، غاية ما هنالك أنكم تبنون أدلتكم على تحسين الظن بهؤلاء الملاحدة وتأخذون بشهادتهم وكأنها مقدمات يقينية .
وقد استدلوا بدليل آخر وهو : أن الله تعالى لو كان يعرف بالضرورة لوجب فى العادم لتلك المعرفة أن يكون معذورا (2 ) لأن تعريف الضرورى ما يحصل فينا بغير إرادة منا فلو كان الله تعالى يُعرف بذلك وليس بغيره لكان العادم لتلك المعرفة معذورا لأنه لم يفرط فى شىء مقدور له، ومعلوم أن العادم لمعرفة الله تعالى ليس معذورا ؛ فعلم أنها ليست ضرورية بل نظرية .
لكن لماذا لا تكون المعرفة تحصل بطريقين على سبيل التبادل أو التكامل بمعنى أنها تحصل ضرورة لبعض الناس وتحصل دلالة لآخرين، أو أنها تحصل إجمالا بالضرورة وتكتمل بالنظر ؟
وهنا يلجأ المعتزلة إلى التحكم فيقولون بأن ما يقع لشخص بالضرورة لا يمكن أن يقع لشخص آخر دلالة (3 ) وقد أجاب عنه إمام الحرمين بأنه لا يمتنع أن يعلم الشىء فى موضع ما دلالة وفى موضع آخر ضرورة لأنه ليس فيه سوى خلق المقدور بغير قدرة وهو غير ممتنع.(4 )
ولكن هناك ما هو أبعد من ذلك فالعقول لا تستوى ولا تتطابق فيما بينها وهم قد بنوا قولهم هذا على دعوى مفادها أن الناس جميعا يستوون فى المعارف وفى القدرات والمواهب وأن العقل البشرى متحد ومتطابق وهذا غير صحيح .
ثم من قال إن معرفة الله تعالى لا طريق إليها إلا العقل والنظر ولماذا لا تكون هناك طرق أخرى ؟
وحتى لو سلمنا لهم بأن ما يعرف دلالة لدى شخص لا يعرف ضرورة لدى آخر، وأنه لا سبيل لمعرفة الله تعالى إلا العقل والنظر العقلى فإن دليلهم هذا لا يصح أيضا لأنه فى تلك الحالة – أى فى حالة كون معرفة الله تعالى ضرورية – فلا يكون هناك عادم لها بل جاحد لها وهذا لا يكون معذورا .
عموما لقد أسرف المعتزلة فى النهج العقلى، وأوجبوا النظر بناء على أن معرفة الله تعالى واجبة، وأنها لا تحصل ولا تتم إلا بالنظر، وأنها لو كانت تحصل على وجه ما بدون نظر فإن ذلك لا يكفى ولا يعذر صاحبه.. وكانت المحصلة أن النظر فى طريق معرفة الله تعالى هو أول الواجبات(5 ) وأنه لا يصح إيمان بغير نظر؛ فلا يصح إيمان المقلد، وقد بالغ بعضهم فكفروا من أسموه بالمقلد فى باب معرفة الله تعالى وأنه مخلد فى النار ولو نطق بالشهادتين وصام وصلى وأتى بكل الفرائض الواجبة وانتهى عما حرمه الله تعالى، قال بشر بن المعتمر : إن المكلف يأتى بالنظر فى الحالة الثانية ( أى بعد الحالة الأولى التى هى لحظة بلوغه ) والمعرفة فى الحالة الثالثة فإن مات فى الرابعة ولم يأت بها كان عدوا لله تعالى وهو قول أصحاب المهلة .
وقد كان القاضى عبد الجبار من ألطفهم عبارة فلم يكفر المقلد ويحكم بخلوده فى النار وأنه عدو لله صراحة بل قال بفساد التقليد، وحاول أن يستدل على صحة مذهبه بطريقة مقبولة فقال إن عدم صحة إيمان المقلد إنما ترجع لكونه لا يأمن خطأ من قلده فيما يقدم عليه من الاعتقاد، وأن يكون جاهلا قبيح والإقدام على ما لا يؤمن كونه قبحا بمنزلة الإقدام عليه مع القطع بذلك (6 )
وإذا كان موقف المعتزلة من إيجاب النظر يتفق مع أصولهم التى وضعوها ويمكن أن ينسجم مع مبادئهم إلى حد كبير، وإذا كنا نلتمس عذرا للأشاعرة الذين لم يستطيعوا أن يتخلصوا من تلك الفكرة التى ورثوها عن أسلافهم (7 )فإننا نجد أنفسنا غير مقتنعين بقول كثير من فقهاء المذاهب الأربعة والأصوليين وبعض من يوصفون من أهل العلم بأنهم محافظون ومجافون للكلام كالقاضى أبى يعلى وابن الزاغونى وابن عقيل الذين ينحون نفس المنحى ويقولون بوجوب النظر بناء على نفس القاعدة وهى: أن معرفة الله تعالى لا تتم إلا بالنظر، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. ونراهم يحكمون بفساد إيمان من أسموه بالمقلد، ويرددون نفس عبارات المعتزلة.. والأمر يحتاج منا لوقفة؛ إذ لا يكفى أن نشير هنا إلى فساد مذهب المعتزلة وندعى أن من وافقهم فمذهبه مثل مذهبهم لأنه من الممكن أن تكون لهم أدلة أخرى يجب تقريرها أولا ثم الرد عليها :
أما أدلتهم فهى :
أولا : استدلوا بعموم ما ورد فى القرآن الكريم من الأمر بالنظر كقوله تعالى: ﴿إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب)) (8 )وفي صحيح ابن حبان لما نزل في آل عمران ﴿إن في خلق السموات والأرض..﴾ الآيات قال صلى الله عليه وسلم : ((لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها))(9 ) .
وبذم الله تعالى للمقلدين ، قال تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾(10 ) .. قالوا: وهذا يدل على أن التفكر والنظر واجب ويحرم تركه .(11 )
ثانيا: استدلوا بأن المطلوب إنما هو العلم وليس مجرد الاعتقاد، قال تعالى لنبيه (ص) ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾(12 ) فألزم الشارع بالعلم ، ويلزمنا نحن أيضا ؛ لقوله :(( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(13 )فتعين طلب اليقين في الوحدانية ، ويقاس عليها غيرها ، والتقليد لا يفيد إلا الظن .(14 )
وقال تعالى :﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(15 ) فقال تعالى : ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ((وهذا القيد يدل على أن الشهادة باللسان فقط لا تفيد البتة ، فقد بين الله تعالى أن الشهادة لا تنفع إلا إذا حصل معها العلم والعلم عبارة عن اليقين الذي لو شكك صاحبه فيه لم يتشكك ، وهذا لم يحصل إلا عند الدليل ، فثبت أن إيمان المقلد لا ينفع البتة .(16 )
ثالثا : استدلوا على أن المعرفة التى لا تحصل إلا بالنظر واجبة بالإجماع، وأنه منعقد على وجوب معرفة الله تعالى ، وأنها لا تحصل بتقليد لجواز كذب المخبر ، واستحالة حصولها كمن قلد في حدوث العالم ، وكمن قلد في قدمه ، ولأن التقليد لو أفاد علما ، فإما بالضرورة ، وهو باطل ، وإما بالنظر ، فيستلزم الدليل والأصل عدمه ، والعلم يحصل بالنظر ، واحتمال الخطأ لعدم مراعاة القانون الصحيح وقالوا إن ذلك ليس لا يقتصر على معرفة الله تعالى فحسب بل ويشمل أركان الإسلام أيضا قال ابن مفلح : ((لا يجوز للعامي التقليد في أركان الإسلام ونحوها مما تواتر واشتهر، ذكره القاضى، وذكره أبو الخطاب وابن عقيل إجماعا))( 17)
قال السفارينى :
( (
وكل ما يطلب فيه الجزم *** فمنع تقليد بذاك حتم
لأنه لا يكتفى بالظن *** لذى الحجا فى قول أهل الفن
قال علماؤنا وغيرهم يحرم التقليد في معرفة الله تعالى ، وفي التوحيد والرسالة ، وكذا في أركان الإسلام الخمس ، ونحوها مما تواتر واشتهر ، عند الإمام أحمد - رحمه الله- والأكثر وذكره أبو الخطاب عن عامة العلماء ، وذكر غيره أنه قول الجمهور قاله))(18 )
ثم قالوا إن ما يمنع مذهبهم هو أنه مما يتعذر على العوام، و النظر فى أدلة معرفة وجود الله تعالى وصفاته ليس مما يتعذر على العوام بل إنها مما يحسنه العقلاء جميعا، ولا تختص بشخص دون آخر، كما أنها جلية وفى أعلى درجات الوضوح،قال ابن الزاغونى: ((إذا تأملنا أدلة التوحيد وما يجب على العامي ترك التقليد فيه وجدناه سهلا في مأخذه قريبا في تناوله تشتاق النفوس إليه بأنسها ويستند ذلك إلى شيئين : أحدهما : أن ذلك منوط بالعقل والعوام عقلاء والثاني : أن أدلة ذلك جلية في أعلى مقامات الإيضاح والكشف حتى تجد النفوس بها مستأنسة وذلك مثلما يستدل العامي على معرفة أن له خالقا فيعلم عند تأمل نفسه أنه جسم مجموع مفعول مصنوع وهو عاجز في نفسه عن صنع ذاته وصفاته))(19 )
والجواب من وجوه :
أولا : أنهم أخطئوا فى أصل المسألة:
فإن استدلالهم على منع التقليد بأنه لا يكتفى بالظن فى مسائل الإيمان مغالطة؛ لأنه استدل بمقدمة محذوفة غير صادقة وهى أن التقليد نوع من الظن وكل مقلد فهو ظان وغير جازم ، وهذا غير صحيح لأن التقليد لا يشترط فى حقه الظن.
وقبل ذلك أخطئوا فى إطلاقهم لفظ المقلد على من لم يأت بأدلة العقل، والواقع أن المقلد كما يعرفه البيهقى فى شعب الإيمان باب القول في إيمان المقلد و المرتاب:((هو من تدين ما تدين لأنه دين آبائه و قرابته و أهل بلده و ليس عنده وراء ذلك حجة يأوي إليها، و المرتاب من يقول : اعتقدت الإسلام و تابعت أهله احتياطا لنفسي فإن كان حقا فقد فزت و إن لم يكن من ذلك شيء لم يضرني و واحد من هذين ليس بمسلم))(20 ).
فالمقلد الذى هو قرين المرتاب لا يتبع دين الله تعالى إلا لأنه وُجِد فى ذلك المجتمع المسلم ليس إلا، فهو يتبع الدين تعصبا لقومه وآبائه حتى إنه لو وجد فى قوم آخرين على أى ملة كانوا لاتبعها ولأنكر ما سواها تعصبا وحمية ليس إلا .
إن منشأ الخطأ فى إطلاق لفظ المقلد وما ترتب عليه من أحكام قاسية بلغت حد تكفير العوام إنما هو الخلاف اللفظى، فلفظ التقليد كما يقول السبكى : لفظ مشترك يطلق بمعنيين: أحدهما قبول قول الغير بغير حجة ، والمعنى الثاني للتقليد: أنه الاعتقاد الجازم المطابق لا لموجب ، وهذا المعنى الثانى لم يقل أحد من علماء الإسلام إنه لا يكفي في الإيمان إلا أبو هاشم من المعتزلة وقد انفرد بذلك عن طائفته وسائر طوائف الإسلام من أهل السنة وغيرهم وخالف الأدلة(21 ).
فالتقليد المذموم الذى لا ينفع صاحبه ليس ما ينبغى أن يطلق على عوام المسلمين، وإنما يطلق على نوع من المنافقين يقولون نؤمن بالله على سبيل الاحتياط ونؤمن بنبوة محمد (ص) لأنه من الأفضل ألا نخالف الناس ولعلهم على صواب فهم كثر.. إنه نوع سيء جدا من الإمعية ، بل هو نوع من النفاق لا ينفك صاحبه عن الشك، بل الشك من جملة أركانه، ولا يظن بصاحبه أن يكون محبا لله تعالى ولرسوله ولا آتيا بأعمال الإيمان القلبية وإن أمكن أن يأتى ببعض أفعال الجوارح .. ووضع حد فاصل بينه وبين الكافر الصريح من الصعوبة بمكان .
الخطأ الثانى: فى حصرهم للأدلة وإطلاقهم لفظ المقلد على من لم يستدل بها:
لا يمنع أن يكون إيمان المقلد نوعا من اليقين عن ضرورة على اعتبار أنه تقليد لمن ثبت صدقه بالمعجزات الدالة على صدقه، والمقلد فى شأن العقيدة إنما يقلد ما صحت نسبته للمؤيد بالمعجزات الدالة على صدقة عن طريق التواتر ؛ فإن كان المقلد هو مقلد للنبى (ص) الذى دلت المعجزة على صدقه فيما نقل إليه متواترا؛ فوصفه بأنه شاك بناء على أن التقليد يقتضى الشك والظن فى حد ذاته أو أن يقتضى الشك والظن لكون المقلد لا يعلم إن كان من قلده على الحق أو لا -هو قول باطل، قال ابن تيمية في المسودة :(( التقليد قبول القول بغير دليل ، فليس المصير إلى الإجماع بتقليد ، لأن الإجماع دليل ، ولذلك يقبل قول النبي -(ص) - ، ولا يقال تقليد ، وقد قال الإمام أحمد - ط- في رواية أبي الحارث من قلد الخبر رجوت أن يسلم إن شاء الله تعالى فأطلق اسم التقليد على من صار إلى الخبر ، وإن كان حجة بنفسه .))(22 )
بل إن الحجة التى وردت فى كتاب الله تعالى إنما هى فى اتباع الرسل قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾(32 ) وقال تعالى: ((قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾( 24) فكيف تقولون: إنه يأخذ كلام الغير بلا حجة لمن يتبع
أنبياء الله ورسله، ويتبع البراهين والبينات التى وجدها فى الكتاب والسنة ؟
ثم إن الإيمان ما هو إلا اتباع للفطرة وليس ابتداع وخروج عن الأصل حتى يطلب له دليل.
فضلا عن أن فى الكلام مغالطات كثيرة فهم يفترضون أن هناك تقليدا وإيمان بغير دليل كإيمان اليهود والنصارى، وليس الأمر كذلك قال تعالى : ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾(25 ) وقال تعالى : ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾(26 ) وقال تعالى : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾(27 ) وقال تعالى : ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(28 ) وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾( 29)، ,وقوله تعالى (( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾( 30) ..
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله (ص): (( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ))( 31).
قال الله تعالى:(( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ( 32) فهذا الدين منقوش في الفطرة لا يبدله أحد، ثم يأتي الأنبياء بما يصدق ويؤيد هذه الفطرة، فليس في الأمر إذن تقليد مطلقا، وإنما هو حجج عقلية.(33 )
وحتى لو فرضنا جدلا أن من يسمونه بالمقلد هو بالفعل مؤمن عن غير دليل فهذا لا يضره طالما أنه قد طابق الواقع، ونحن نعلم أنه قد طابق الواقع فلا يسعنا أن نحكم ببطلانه، يقول الغزالى فى إلجام العوام ((وصورة الحق إذا انتقشت بها قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له أهو دليل حقيقى، أو إقناعى، أو قبول بحسن الاعتقاد فى قائله، أو قبول لمجرد التقليد من غير سبب.. فليس المطلوب الدليل المقيد بل الفائدة وهى حقيقة الحق على ما هو عليه، فمن اعتقد حقيقة الحق فى الله تعالى وفى صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه فهو سعيد وإن لم يكن ذلك بدليل محرر كلامى، ولم يكلف الله تعالى عباده إلا ذلك ))(34 )
ثم إنكم بذلك قد خالفتم الشرع وخالفتم ما عليه أهل العلم من السلف والخلف فضلا عن مخالفتكم الواقع المشاهد :
فلم يثبت عن النبى (ص) ولاعن صحابته رضوان الله عليهم أنهم كانوا يدعون الناس للإيمان عن طريق مناظرة الملاحدة والنصارى، أو أنهم كانوا يرتبون الأدلة على طريقة المتكلمين، بل قد كان النبى صلى الله عليه وسلم يكتفي في الإيمان من الأعراب بالتلفظ بكلمتي الشهادة المنبئ عن العقد الجازم ، ويقاس غير الإيمان من أصول الدين عليه .
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفتحون البلدان فيحكمون بإسلام من تلفظ بالشهادتين ولا يسألونه عن دليل تصديقه، ولا أمروا أحدا باتباع النظر العقلى ولا أرجئوه حتى ينظر .( 35)
يقول الرازى فى التفسير الكبير فى تفسير قوله تعالى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴾(36 ) : ((قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون : إن إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على محمد عليه السلام ، ولو لم يكن إيمانهم صحيحا لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا عالمين حدوث الأجساد بالدليل ولا إثبات كونه تعالى منزها عن الجسمية والمكان والحيز ولا إثبات كونه تعالى عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها.. فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح ))(37 ).
كما أن مذهبكم مخالف للمشهور عند أهل العلم من السلف والخلف :
قال النووي : الآتى بالشهادتين مؤمن حقا ، -وإن كان مقلدا- على مذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف ،وقال ابن تيمية: واتفق المسلمون على أن الصبى إذا بلغ مسلما لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين؛ ولهذا قال الأئمة كالشافعي و أحمد وغيرهما : يجب على كافل الصبى أن يأمره بالطهارة والصلاة لسبع، ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد شهادتين ولا نظر ولا استدلال ونحو ذلك ولا يؤمر بذلك بعد البلوغ ..
لكن من أين دخل هذا المذهب على بعض أهل العلم من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة؟
يجيب ابن تيمية على ذلك بأنه جاء عن طريق المنتسبين إلى المذاهب الفقهية من المتكلمين الذين تأثروا بأقوال المعتزلة ؛ فقد كان سائدا فى الأوساط الكلامية القول بأن إيمان المقلد لا يصح ((ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم كمالك و أبى حنيفة و الشافعى و أحمد وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه : ( قال أصحابنا ) و (اختلف أصحابنا ) فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له ، ففي ذلك الكلام عموم وخصوص فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس وقد يجتمع فيه الوصفان))(38 )
وأما مخالفته للواقع :
فإن الناظر فى تلك المسائل من العوام عرضة للشبهات والشكوك حتى إن بعض أهل العلم من المتكلمين من حرم على العوام النظر فى كتب المتكلمين، وألف الغزالى كتابه الشهير" إلجام العوام عن علم الكلام" فكيف تفترضون فى العوام أن يكون إيمانهم متعلقا بما لا يقويه بل يفسده ويضره؟!
وما أقبح أن يقال للصبى الذى أدرك الحلم : شك فى وجود الله تعالى فإنه أول ما يجب عليك فعله، أو هل شككت يا بنى بمجرد بلوغك أم لا ؟! أو حتى: قل لا إله إلا الله يا بنى عندما تبلغ وإلا فأنت كافر ! لا أحد من الفقهاء قال ذلك؛ فالفقهاء متفقون على أنه إذا بلغ الصبي لا يجب على وليه أن يقول له: قل لا إله إلا الله. لأنه ولد على الإسلام، فهو مسلم بالفطرة، بل يغلب جانب الإسلام دائما حتى لو وجدنا لقيطا في بلاد الكفار، فإننا نفترض في هذا اللقيط الإسلام ونعامله معاملة المسلمين .
ثم يقال لهؤلاء : هل أتى القرآن بالأدلة التامة التى تجعل الإنسان مؤمنا إيمانا ينفعه أم لا ؟
فإن قالوا: " لا" فقد أهلكوا أنفسهم ولم يستحقوا منا جوابا، وإن قالوا : "نعم" قلنا لهم: فكيف تطلقون على من آمن وأقر بها مقلدا حتى يقرأ أدلتكم ويسير على طريقتكم؟
فإن قالوا: إنه لا يفهمها، قلنا لهم: ومن أدراكم أنه يفهم أدلتكم؟ ومن قال إن صياغتكم للأدلة أفضل وأيسر وأقرب للفهم من صياغة القرآن الكريم ؟ هذا على فرض سلامة أدلتكم من الطعون .
ثم إننا إذا تأملنا حال من يطلق عليه مقلد وحال من يطلق عليه غير مقلد بل متبع للدليل لوجدنا أن أحدهما أولى بما يطلق على الآخر؛ فالذى يدعى اتباع الدليل ما هو إلا مقلد فى الحقيقة لأدلة بعض المتكلمين والفلاسفة سائر معها حيث سارت؛ إن قالوا هى ستة أو خمسة أو سبعة ،إن قالوا حدوث مطلق أو حدوث بشرط الإمكان ..ولا يسلم منها دليل من غير