قتيبة
10-14-2008, 04:30 AM
التدوين والجمع في العصر النبوي وروايات لكتابة الحديث النبوي الشريف
بحث مجمع من عدة مشاركات حول التدوين في العصر النبوي
الأمر بالكتابة في القرآن الكريم
قولُه تعالى : ( ن , والقَلَمِ و ما يَسْطُرُونَ ) قال الحسن البصريّ : ( ن ) الدواةُ , و( القلمُ ) القلمُ (14) .
واحتجَّ ابنُ فارس بهذه الآية على إباحة التدوين للحديث , وقال: أعلى ما يُحتجُّ به في ذلك / محاسن الاصطلاح , للبلقيني.
قال الخطيب البغدادي: وقد أدّب الله سبحانه عباده بمثل ذلك في الدين، فقال عزّ وجلّ: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، ذلكم
أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألاّ ترتابوا) [سورة البقرة (2) الآية:282] كتاب تقييد العلم .
وقال البلقيني: وقد ندب الله إلى الكتابة في قوله تعالى (... فاكتبوه ...) كتاب محاسن الاصطلاح للبلقيني.
قال الخطيب في نقييد العلم ـ بعد ما ذكر آية الدين السابقة ـ : لمّا أمر الله تعالى بكتابة الدين، حفظاً له، واحتياطاً عليه، وإشفاقاً من دخول الريب فيه،
كان العلم ـ الذي حفظه أصعب من حفظ الدين ـ أحرى أن تُباح كتابته، خوفا من دخول الريب والشكّ فيه (21).
ومن ظريف الآثار ما روي عن أبي المليح، عن أيّوب (ت131هـ) أنّه قال: يعيبون علينا الكتاب، وقد قال الله تعالى: (... علمها عند ربّي
في كتاب ...) [سورة طه (20) الآية: (52)] (22).
وروى الدارمي هذا الأثر، عن أيّوب، عن أبي المليح ومن ذلك: قالوا لقتادة: نكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أنْ تكتب ، وقد أخبرك
اللطيف الخبير أنّه يكتب ، قال: (علمها عند ربّي في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى)(المحدث الفاصل و كتاب تقيد العلم
السنّة والقرآن متعاضدان ، وليس ترك السنّة إلاّ تركاً للقرآن، ومؤدّيا للقضاء عليه كلّياً ، حيث إنّ السنّة هي بيان القرآن وهو يبقى بدونها
مستعجماً . هذا ، مع أنّ السنّة بعيدة الأطراف ، واسعة الأكناف ، فهي ـ على المدى البعيد ـ أكثر تعرّضاً لأشكال التحريف ، وهذا ما دفع
علماءَ الإسلام إلى وضع ضوابط علم الدراية والمصطلح للمحافظة عليها ، والتوثّق من سلامتها .
============
ونصّ القرآن الكريم على حسن الاقتداء بالرسول ، واتّباع أوامره و نواهيه ، فقال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله اُسوةٌ حسنةٌ ) (سورة
الأحزاب (33) الآية : 21) .
وقال جلّ وعلا : (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (سورة الحشر (59) الآية : 7).
وجعل في آيات عديدة ، طاعة الرسول من طاعة الله ، وقرنهما في محلّ واحد، وأمر المؤمنين بهما، فقال تعالى: (... من يُطع الرسول فقد
أطاع الله ...) (سورة النساء (4) الآية :80) .
ثمّ جعل ما ينطق به الرسول وحياً ، وان لم يكن قرآناً ، في قوله تبارك اسمه : (... ما ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى علّمه شديد
القوى) (سورة النجم (53) الآية :3).
===
الدليل على املاء النبي و كتابة الصحابة نورد من ذلك والكتابة عنه
كتابة عبدالله بن عمرو رضي الله عنه
أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو وقال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق" رواه الحاكم وصححه
صحيفة سيدنا علي رضي الله عنه
صحيح البخاري، الإصدار 2.03 - للإمام البخاري
الجزء الأول >> 3 - كتاب العلم. >> 39 - باب: كتابة العلم.
111 - حدثنا محمد بن سلام قال: أخبرنا وكيع، عن سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة قال:
قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.
[2882، 6507، 6517].
[ش (كتاب) شيء مكتوب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الصحيفة) الورقة المكتوبة،
ما كتبه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إلى عمّاله وغيرهم، في ما يتعلّق بالاُمور الدينية.
استدلّ بعضهم على جواز كتابة الحديث بما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من كتبه تلك:
كتب كثيرة، تشتمل على مهمّات أحكام الإسلام، وعقائده، وخطوطه العريضة، وبيان الأنصبة والمقادير الشرعيّة للزكاة، والديات، والحدود، والمحرّمات، وغير ذلك.
من ذلك كتابه إلى عمرو بن حزم الأنصاري ، عامله على اليمن.
وكتابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وقومه في حضرموت
وكتاب في الزكاة، والديات، كان عند أبي بكر رضي الله عنه
طلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش المرض اراد كتابة كتابة مما يدل على ان الكتابة ليس منهي عنها
حدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:
لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: (اتئوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا من بعده). قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط، قال: (قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع). فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه. البخاري باب: كتابة العلم.
[ش (بكتاب) ما يكتب عليه. (كتابا) فيه بيان لمهمات الأحكام. (غلبه الوجع) أي اشتد عليه الألم، فلا داعي لأن نكلفه ما يشق عليه، والحال أن عندنا كتاب الله. (حسبنا) كافينا. (اللغط) الجلبة والصياح، واصوات مبهمة لا تفهم. (لا ينبغي) لا يليق. (الرزية) المصيبة. (ما حال) وهو اختلافهم ولغطهم].
قال القاضي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف. (ج/ص: 18/130)
واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي:
فقيل: هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث: اكتبوا لأبي شاه، وحديث صحيفة علي -رضي الله عنه-.
وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر -رضي الله عنه- أَنساً -رضي الله عنه- حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة: أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب، وغير ذلك من الأحاديث.
وقيل: إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة.
وقيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة،
===
وقال ابن حجر : إنّ السلف اختلفوا في ذلك [ أي التدوين ] عملاً وتركاً , وإنْ كان الأمر استقرّ , والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم , بل على استحبابه , بل على وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعيّن عليه تبليغ العلم - فتح الباري ( ج 1 ص 182
وقال ابن كثير : وقد حكي إ جماع العلماء في الأعصار المتأخّرة على تسويغ كتابة الحديث , وهذا أمرٌ مستفيضٌ , شائعٌ , ذائعٌ , من غير نكير- اختصار علوم الحديث المطبوع مع الباعث الحثيث ( ص 127 ) وقال شاكر : ثم جاء إ جماع الأمة القطعي _ بعد _ قرينةً قاطعةً على أنّ الإذنهو الأمر الأخير , وهو إ جماعٌ ثابتٌ بالتواتر العمليّ , عن كلّ طوائف الأمة بعد الصدر الأوّل الباعث الحثيث ( ص 128 ) .
وقال الدكتور عبد الغني عبد الخالق : إجماع الأمّة القطعيّ _ بعد عصر الصحابة والتابعين _ على الإذن وإباحة الكتابة..وهو إجماعٌ ثابتٌ بالتواتر العمليّ عن كلّ طوائف الأمة بعد الصدر الأوّل حجية السنة ( ص 448 )
=====
التدوين والجمع في العصر النبوي:
ثم استعرض الحافظ الكتاني ما ألفه أهل القرن وتوجيهاته الشريفة، مبتدئاالأول ودونوه من المجاميع المتضمنة لأقوال النبي ، فقال:بالنبي
"إن تأمل المتأمل يجد أن التدوين والجمع وقع في زمنه عليه السلام ومنه. فقد كتب عليه السلام كتبا لأهل الإسلام في الشرائع والأحكام؛ منها: كتابه عليه السلام في الصدقات، وكان عند أبي بكر. وكتابه عليه السلام في نصاب الزكاة وغيرها الذي كان عند عمر. وكتابه إلى أهل اليمن بأنواع الفقه وأبواب مختلفة في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الطلاق والعتاق، وأحكام الصلاة ومس المصحف، وغير ذلك، وهو كتاب جليل، احتج الفقهاء وغيرهم بما فيه من مقادير الديات وغيرها".
أخرج أحمد وأبو داود وحسنه، والحاكم من طريق أبي سفيان عن سالم بن كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله، وقرنهعبد الله بن عمر قال: "كتب رسول الله بسيفه حتى قبض، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض".
وقد ساقه الإمام مالك في "الموطأ" في باب: صدقة الماشية من كتاب الزكاة قائلا: "مالك: إنه قرأ كتاب عمر في الصدقات"...فساقه.
وقال الإمام أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي في "القانون" لما تكلم على طرق نشر العلم وأنها مأثورة قديمة قال: "وأما التأليف؛ يفعله من كتب الوحي إذا نزل، وكتب الرسائل إلى الملوك وغيرهم،فأصله ما كان النبي وكتاب الصدقات، وقد جمع فيه مسائل، فهو علم مدون، وذلك هو التأليف، ولكن كان المصطفى لا يكتب بيده لما أغناه الله عن ذلك، لقد كان يأمر بالكتب، والمقصود إنما هو: وضع العلم وتدوينه وتخليده، سواء كتب العلم بيده أم لا، وكم من عالم يملي ولا يكتب، ويكون ذلك تأليفا".
وقال القاضي عياض: "اعتمد مالك، والعلماء والخلفاء قبلهم كل ما في هذا الكتاب، يعني: كتابه عليه السلام لعمرو بن حزم، ولم يرد عن الصحابة إنكار شيء منه". هـ. قال الباجي: "هو أصل في كتابة العلم وتصنيفه في الكتب". هـ.
وقال بحجية هذا الكتاب وشهرته كل من الأئمة: ابن عبد البر، والنووي، وابن كثير، حتى قال: "هذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا، يعتمدون عليه في مهمات هذا الباب كما قال يعقوب السفياني: "لا أعلم في جميع الكتب أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، كان الصحابة والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم، وصح أن عمر ترك رأيه ورجع إليه".
بل قال الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في "الزهر الباسم"( ) إثر كلام ابن كثير: "ظاهر كلامهم: دعوى إجماع أهل الصدر الأول على قبول حديث عمرو بن حزم، وذلك يقتضي الإجماع على العمل بالوجادة". هـ.
قال الحافظ الكتاني: "وفي هذا: مكاتبه – عليه السلام – إلى الملوك والأطراف وولاته، فقد كانت بإملائه – عليه السلام – على كُتابه، واعتنى الصحابة ومن بعدهم بجمعها ونسخها وحفظ نصوصها".
قلت: إلى أن وصلتنا في القرن الخامس عشر الهجري، وكثير منها محفوظ في متحف إصطنبول وغيره.
وقد استوعب أكثر نصوصها الإمام ابن سعد في "الطبقات"، وكذا الإمام محمد بن علي ابن حديدة الأنصاري في كتابه: "المصباح المضي، في كتاب النبي الأمي، ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي".
ووقوفنا على ذلك يفهمنا احتفاظ الصحابة والسلف بتلك المكاتب، وجمعهم نصوصها، وإلا؛ لما وصلت لابن سعد في القرن الثالث، وابن حديدة في القرن السابع، ثم وصولها إلى زماننا.
بل في سيرة ابن هشام: "قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن إلى البلدان وملوك العربأبي حبيب المصري أنه: وجد كتابا فيه ذكر بعث النبي والعجم، وما قال لأصحابه حين بعثهم. قال: فبعثت به إلى ابن هشام فعرفه".
وفي آخر "نصب الراية" للحافظ الزيلعي( ): أن الواقدي استدعى عكرمة قال: "وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته، فإذا فيه"..وأتى بنص كتاب النبي للمنذر بن ساوى، وجواب المصطفى له عليه السلام.
قال الشيخ عبد الحي الكتاني: "فيؤخذ منه أنه كان لابن عباس الكتب، إما من تصنيفه، أو من تصنيف من قبله، أو كان معه، ويفيد على كل حال وجود الكتب في تركة الصحابة وممتلكاتهم، ويفيد أنهم كانوا يعددون النسخ من مكاتبه عليه السلام ويدخرونها، وهذا هو الجمع والتدوين!".
ثم نقل الحافظ الكتاني في رسالته المنوه إليها نصوصا تقتضي تدوين ، وخطبه، وطبقات من تلفظ بالإسلام، وأسماء من يتعين خروجهمالصحابة لرسائل النبي في المغازي.
قال المقريزي في خططه: "كانت كتابة الديوان في صدر الإسلام: أن يجعل ما يكتب فيه صحفا مدرَجة".
قال الحافظ عبد الحي الكتاني رحمه الله: "فيمكننا الجزم بأن هذا أول تدوين وقع في الإسلام، إذ كتابة الناس على اختلاف مراتبهم في السبقية للإسلام، والهجرة والنصرة والغزو؛ المادة الأولى لكتب تراجم الصحابة وتراجم زعماء الإسلام وأبنائهم".
"وكان – عليه السلام - اتخذ كتابا يكتبون له أموال الصدقات؛ وهم: الزبير بن العوام، فإن غاب أو اعتذر كتب جهين بن الصلت أو حذيفة بن اليمان. ذكر ذلك ابن حزم في كتابه: "جوامع السيرة"، والقضاعي في كتاب "الأنباء".
"وهذا يدل على أن النظام والضبط وصل في زمنه عليه السلام إلى تقييد الداخل والخارج مما يتعلق بالأموال ونحوها، فكيف لا يقيدون الدين وهو أهم وأكبر وأكثر وقعا؟".
"...فهي أصل ديوان العطاء الذي دون في زمن عمر وبإذنه، وانتدابه لكتبه: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، قال الماوردي: كانوا شباب قريش، وقال لهم: اكتبوا الناس على منازلهم...".
"فهذا الديوان العمري المادة الوحيدة لتواريخ البيوتات الإسلامية العربية وغيرها، وكان الأساس الأكبر للتدوين الإسلامي في الأنساب وأهل السبقيات". اهـ بخ.
تدوين الصحابة رضوان الله عليهم:
ثم نقل الشيخ عبد الحي الكتاني – رحمه الله – في رسالته المنوه إليها نصوصا تثبت تدوين أمة من الصحابة والتابعين إلى أواسط القرن الثاني، ، وسيرته،بما لا يدع مجالا للشك أن الأمة الإسلامية عرفت تدوين حديث نبيها وأخباره، وأخبار أصحابه، وأحوال الأمة من سياسة واجتماع وتراجم، ودواوين...إلخ.
فمنهم: أبو بكر الصديق؛ جمع في رق خمسمائة حديث من حديث رسول ، وكان يرجع إليها إذا روجع.الله
وعمر بن الخطاب؛ استكتب ما روي من شعر الجاهلية والإسلام. وله كتابه المشهور إلى قاضيه على البصرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "هو كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه". وسبق الحديث عن ديوانه، وكان له تابوت يجمع فيه كل معاهدة كانت بينه وبين الناس.
وعلي بن أبي طالب؛ له كتاب في أقضيته، وكتاب القضاء والقضاة ساقه صاحب "نهج البلاغة".
وعبد الله بن عباس؛ كان له كاتب يكتب ، فاجتمع منها حمل بعير، وكان يكتب الفتاوى التي يُسأل عنها،رواياته عن النبي وكتب عنه ابن الأزرق غريب القرآن، بل كانت له كتب يكتب عنها الناس كعكرمة وغيره.
بإذنه،وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ كان يكتب الحديث زمن النبي له في ذلك نسخا للنهيوكان يسمي صحيفته: "الصادقة"، واعتبر بعض العلماء إذن النبي المتقدم عنه.
وزيد بن ثابت؛ نسب له كتاب في الفرائض.
وجابر بن عبد الله؛ له منسك صغير خرجه الإمام مسلم، ألف فيه ابن المنذر جزءا كبيرا، استقصى منه ، حدث عنهانحو مائة ونيف وخمسين نوعا من الفقه. وله صحيفة فيما رواه عن النبي مجاهد.
وعبد الله بن مسعود؛ كان له كتاب، رواه عنه ابنه عبد الرحمن.
وأبو هريرة حافظ الصحابة، كانت لديه كتب كثيرة جمعها من حديث رسول .الله
وضبطهاوأنس بن مالك؛ كان له كتاب دون فيه مروياته عن النبي وعرضها.
ومعاوية بن أبي سفيان؛ استكتب فضائل عثمان بن عفان، ودون رواته وأحوالهم، وكانت تسرد عليه الكتب الكثيرة في التواريخ والكتابات، حتى قيل بأنه أول من جمع مكتبة، والصحيح أن أبا بكر الصديق هو أول من جمع مكتبة حسبما في "تاريخ المكتبات الإسلامية" للشيخ عبد الحي الكتاني، وكثرت في عهد معاوية الدواوين، حتى دون الولادات، والوافدين من الخارج.
بل حدَّث هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة – كما في طبقات ابن سعد( ) - أنه: "أحرق يوم الحرة – سنة ثلاث وستين للهجرة – كتب فقه كانت له، فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحبُّ إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي".
فثبت بذلك أن كتب الفقه كانت موجودة مدونة في الصدر الأول للإسلام، وكتابة بعض الصحابة فتاواهم ومسموعاتهم وأحكامهم القضائية إنما يدل على كتابة غيرهم من أمثالهم ومن تلامذتهم، ما مؤداه أنها: كانت سلعة نافقة في ذلك العصر.
وقد خص الحافظ الدارمي في مسنده بابا سماه: "باب من رخص في كتابة العلم"، ملأه آثارا وأحاديث في الموضوع، أردف به بابا بعنوان: "باب من لم ير كتابة الحديث". فكأنه يثبت به نسخ الحكم الأول أو تأويله، بل هو نفسه يدل على شيوع الكتابة في الصدر الأول. فليراجع.
تدوين التابعين وتابعيهم:
وممن دون كذلك بعد تلك الطبقة: الحارث بن كلدة، وصبيغ التميمي، والحسن البصري، وزائدة بن قدامة الثقفي ابو الصلت الكوفي، وحجر بن عدي، وسليم بن قيس الهلالي، وعلي بن أبي رافع، وعبيدة بن قيس السلماني، وعروة بن الزبير، وكعب الأحبار، وابن شهاب الزهري، وخالد بن يزيد بن معاوية، وأبو خلف الأزدي، والضحاك بن مزاحم، وعوانة بن حكيم الأزدي، وعكرمة مولى بن عباس، وأبو قلابة، وقتادة بن دعامة السدوسي، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، وزيد بن أسلم مولى ابن عمر.
قال الحافظ عبد الحي الكتاني: "فظهر لك بما سطر وقدر: أن التدوين والجمع إنما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبأمره في الأحكام والحلال والحرام، تدوينا مرتبا على الكتب والأبواب والمسائل، لا التدوين المفرد في الأبواب، ولا في التاريخ والأخبار والحكمة والطب، التي علمتَ مما سبق أن جمعا ألفوا فيها فيما قبل".
الهوامش:
( ) "قوت القلوب" (1/ 159).
( ) "التمدن الإسلامي" (3/ 50).
( ) "التمدن الإسلامي" (3/ 205).
( ) "ابتداء التدوين" ص2.
( ) ص35.
( ) (2/ 371).
( ) طبقات ابن سعد، ج5، ص179- 180.
بحث مجمع من عدة مشاركات حول التدوين في العصر النبوي
الأمر بالكتابة في القرآن الكريم
قولُه تعالى : ( ن , والقَلَمِ و ما يَسْطُرُونَ ) قال الحسن البصريّ : ( ن ) الدواةُ , و( القلمُ ) القلمُ (14) .
واحتجَّ ابنُ فارس بهذه الآية على إباحة التدوين للحديث , وقال: أعلى ما يُحتجُّ به في ذلك / محاسن الاصطلاح , للبلقيني.
قال الخطيب البغدادي: وقد أدّب الله سبحانه عباده بمثل ذلك في الدين، فقال عزّ وجلّ: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، ذلكم
أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألاّ ترتابوا) [سورة البقرة (2) الآية:282] كتاب تقييد العلم .
وقال البلقيني: وقد ندب الله إلى الكتابة في قوله تعالى (... فاكتبوه ...) كتاب محاسن الاصطلاح للبلقيني.
قال الخطيب في نقييد العلم ـ بعد ما ذكر آية الدين السابقة ـ : لمّا أمر الله تعالى بكتابة الدين، حفظاً له، واحتياطاً عليه، وإشفاقاً من دخول الريب فيه،
كان العلم ـ الذي حفظه أصعب من حفظ الدين ـ أحرى أن تُباح كتابته، خوفا من دخول الريب والشكّ فيه (21).
ومن ظريف الآثار ما روي عن أبي المليح، عن أيّوب (ت131هـ) أنّه قال: يعيبون علينا الكتاب، وقد قال الله تعالى: (... علمها عند ربّي
في كتاب ...) [سورة طه (20) الآية: (52)] (22).
وروى الدارمي هذا الأثر، عن أيّوب، عن أبي المليح ومن ذلك: قالوا لقتادة: نكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أنْ تكتب ، وقد أخبرك
اللطيف الخبير أنّه يكتب ، قال: (علمها عند ربّي في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى)(المحدث الفاصل و كتاب تقيد العلم
السنّة والقرآن متعاضدان ، وليس ترك السنّة إلاّ تركاً للقرآن، ومؤدّيا للقضاء عليه كلّياً ، حيث إنّ السنّة هي بيان القرآن وهو يبقى بدونها
مستعجماً . هذا ، مع أنّ السنّة بعيدة الأطراف ، واسعة الأكناف ، فهي ـ على المدى البعيد ـ أكثر تعرّضاً لأشكال التحريف ، وهذا ما دفع
علماءَ الإسلام إلى وضع ضوابط علم الدراية والمصطلح للمحافظة عليها ، والتوثّق من سلامتها .
============
ونصّ القرآن الكريم على حسن الاقتداء بالرسول ، واتّباع أوامره و نواهيه ، فقال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله اُسوةٌ حسنةٌ ) (سورة
الأحزاب (33) الآية : 21) .
وقال جلّ وعلا : (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (سورة الحشر (59) الآية : 7).
وجعل في آيات عديدة ، طاعة الرسول من طاعة الله ، وقرنهما في محلّ واحد، وأمر المؤمنين بهما، فقال تعالى: (... من يُطع الرسول فقد
أطاع الله ...) (سورة النساء (4) الآية :80) .
ثمّ جعل ما ينطق به الرسول وحياً ، وان لم يكن قرآناً ، في قوله تبارك اسمه : (... ما ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى علّمه شديد
القوى) (سورة النجم (53) الآية :3).
===
الدليل على املاء النبي و كتابة الصحابة نورد من ذلك والكتابة عنه
كتابة عبدالله بن عمرو رضي الله عنه
أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو وقال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق" رواه الحاكم وصححه
صحيفة سيدنا علي رضي الله عنه
صحيح البخاري، الإصدار 2.03 - للإمام البخاري
الجزء الأول >> 3 - كتاب العلم. >> 39 - باب: كتابة العلم.
111 - حدثنا محمد بن سلام قال: أخبرنا وكيع، عن سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة قال:
قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.
[2882، 6507، 6517].
[ش (كتاب) شيء مكتوب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الصحيفة) الورقة المكتوبة،
ما كتبه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إلى عمّاله وغيرهم، في ما يتعلّق بالاُمور الدينية.
استدلّ بعضهم على جواز كتابة الحديث بما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من كتبه تلك:
كتب كثيرة، تشتمل على مهمّات أحكام الإسلام، وعقائده، وخطوطه العريضة، وبيان الأنصبة والمقادير الشرعيّة للزكاة، والديات، والحدود، والمحرّمات، وغير ذلك.
من ذلك كتابه إلى عمرو بن حزم الأنصاري ، عامله على اليمن.
وكتابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وقومه في حضرموت
وكتاب في الزكاة، والديات، كان عند أبي بكر رضي الله عنه
طلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش المرض اراد كتابة كتابة مما يدل على ان الكتابة ليس منهي عنها
حدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:
لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: (اتئوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا من بعده). قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط، قال: (قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع). فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه. البخاري باب: كتابة العلم.
[ش (بكتاب) ما يكتب عليه. (كتابا) فيه بيان لمهمات الأحكام. (غلبه الوجع) أي اشتد عليه الألم، فلا داعي لأن نكلفه ما يشق عليه، والحال أن عندنا كتاب الله. (حسبنا) كافينا. (اللغط) الجلبة والصياح، واصوات مبهمة لا تفهم. (لا ينبغي) لا يليق. (الرزية) المصيبة. (ما حال) وهو اختلافهم ولغطهم].
قال القاضي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف. (ج/ص: 18/130)
واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي:
فقيل: هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث: اكتبوا لأبي شاه، وحديث صحيفة علي -رضي الله عنه-.
وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر -رضي الله عنه- أَنساً -رضي الله عنه- حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة: أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب، وغير ذلك من الأحاديث.
وقيل: إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة.
وقيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة،
===
وقال ابن حجر : إنّ السلف اختلفوا في ذلك [ أي التدوين ] عملاً وتركاً , وإنْ كان الأمر استقرّ , والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم , بل على استحبابه , بل على وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعيّن عليه تبليغ العلم - فتح الباري ( ج 1 ص 182
وقال ابن كثير : وقد حكي إ جماع العلماء في الأعصار المتأخّرة على تسويغ كتابة الحديث , وهذا أمرٌ مستفيضٌ , شائعٌ , ذائعٌ , من غير نكير- اختصار علوم الحديث المطبوع مع الباعث الحثيث ( ص 127 ) وقال شاكر : ثم جاء إ جماع الأمة القطعي _ بعد _ قرينةً قاطعةً على أنّ الإذنهو الأمر الأخير , وهو إ جماعٌ ثابتٌ بالتواتر العمليّ , عن كلّ طوائف الأمة بعد الصدر الأوّل الباعث الحثيث ( ص 128 ) .
وقال الدكتور عبد الغني عبد الخالق : إجماع الأمّة القطعيّ _ بعد عصر الصحابة والتابعين _ على الإذن وإباحة الكتابة..وهو إجماعٌ ثابتٌ بالتواتر العمليّ عن كلّ طوائف الأمة بعد الصدر الأوّل حجية السنة ( ص 448 )
=====
التدوين والجمع في العصر النبوي:
ثم استعرض الحافظ الكتاني ما ألفه أهل القرن وتوجيهاته الشريفة، مبتدئاالأول ودونوه من المجاميع المتضمنة لأقوال النبي ، فقال:بالنبي
"إن تأمل المتأمل يجد أن التدوين والجمع وقع في زمنه عليه السلام ومنه. فقد كتب عليه السلام كتبا لأهل الإسلام في الشرائع والأحكام؛ منها: كتابه عليه السلام في الصدقات، وكان عند أبي بكر. وكتابه عليه السلام في نصاب الزكاة وغيرها الذي كان عند عمر. وكتابه إلى أهل اليمن بأنواع الفقه وأبواب مختلفة في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الطلاق والعتاق، وأحكام الصلاة ومس المصحف، وغير ذلك، وهو كتاب جليل، احتج الفقهاء وغيرهم بما فيه من مقادير الديات وغيرها".
أخرج أحمد وأبو داود وحسنه، والحاكم من طريق أبي سفيان عن سالم بن كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله، وقرنهعبد الله بن عمر قال: "كتب رسول الله بسيفه حتى قبض، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض".
وقد ساقه الإمام مالك في "الموطأ" في باب: صدقة الماشية من كتاب الزكاة قائلا: "مالك: إنه قرأ كتاب عمر في الصدقات"...فساقه.
وقال الإمام أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي في "القانون" لما تكلم على طرق نشر العلم وأنها مأثورة قديمة قال: "وأما التأليف؛ يفعله من كتب الوحي إذا نزل، وكتب الرسائل إلى الملوك وغيرهم،فأصله ما كان النبي وكتاب الصدقات، وقد جمع فيه مسائل، فهو علم مدون، وذلك هو التأليف، ولكن كان المصطفى لا يكتب بيده لما أغناه الله عن ذلك، لقد كان يأمر بالكتب، والمقصود إنما هو: وضع العلم وتدوينه وتخليده، سواء كتب العلم بيده أم لا، وكم من عالم يملي ولا يكتب، ويكون ذلك تأليفا".
وقال القاضي عياض: "اعتمد مالك، والعلماء والخلفاء قبلهم كل ما في هذا الكتاب، يعني: كتابه عليه السلام لعمرو بن حزم، ولم يرد عن الصحابة إنكار شيء منه". هـ. قال الباجي: "هو أصل في كتابة العلم وتصنيفه في الكتب". هـ.
وقال بحجية هذا الكتاب وشهرته كل من الأئمة: ابن عبد البر، والنووي، وابن كثير، حتى قال: "هذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا، يعتمدون عليه في مهمات هذا الباب كما قال يعقوب السفياني: "لا أعلم في جميع الكتب أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، كان الصحابة والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم، وصح أن عمر ترك رأيه ورجع إليه".
بل قال الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في "الزهر الباسم"( ) إثر كلام ابن كثير: "ظاهر كلامهم: دعوى إجماع أهل الصدر الأول على قبول حديث عمرو بن حزم، وذلك يقتضي الإجماع على العمل بالوجادة". هـ.
قال الحافظ الكتاني: "وفي هذا: مكاتبه – عليه السلام – إلى الملوك والأطراف وولاته، فقد كانت بإملائه – عليه السلام – على كُتابه، واعتنى الصحابة ومن بعدهم بجمعها ونسخها وحفظ نصوصها".
قلت: إلى أن وصلتنا في القرن الخامس عشر الهجري، وكثير منها محفوظ في متحف إصطنبول وغيره.
وقد استوعب أكثر نصوصها الإمام ابن سعد في "الطبقات"، وكذا الإمام محمد بن علي ابن حديدة الأنصاري في كتابه: "المصباح المضي، في كتاب النبي الأمي، ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي".
ووقوفنا على ذلك يفهمنا احتفاظ الصحابة والسلف بتلك المكاتب، وجمعهم نصوصها، وإلا؛ لما وصلت لابن سعد في القرن الثالث، وابن حديدة في القرن السابع، ثم وصولها إلى زماننا.
بل في سيرة ابن هشام: "قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن إلى البلدان وملوك العربأبي حبيب المصري أنه: وجد كتابا فيه ذكر بعث النبي والعجم، وما قال لأصحابه حين بعثهم. قال: فبعثت به إلى ابن هشام فعرفه".
وفي آخر "نصب الراية" للحافظ الزيلعي( ): أن الواقدي استدعى عكرمة قال: "وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته، فإذا فيه"..وأتى بنص كتاب النبي للمنذر بن ساوى، وجواب المصطفى له عليه السلام.
قال الشيخ عبد الحي الكتاني: "فيؤخذ منه أنه كان لابن عباس الكتب، إما من تصنيفه، أو من تصنيف من قبله، أو كان معه، ويفيد على كل حال وجود الكتب في تركة الصحابة وممتلكاتهم، ويفيد أنهم كانوا يعددون النسخ من مكاتبه عليه السلام ويدخرونها، وهذا هو الجمع والتدوين!".
ثم نقل الحافظ الكتاني في رسالته المنوه إليها نصوصا تقتضي تدوين ، وخطبه، وطبقات من تلفظ بالإسلام، وأسماء من يتعين خروجهمالصحابة لرسائل النبي في المغازي.
قال المقريزي في خططه: "كانت كتابة الديوان في صدر الإسلام: أن يجعل ما يكتب فيه صحفا مدرَجة".
قال الحافظ عبد الحي الكتاني رحمه الله: "فيمكننا الجزم بأن هذا أول تدوين وقع في الإسلام، إذ كتابة الناس على اختلاف مراتبهم في السبقية للإسلام، والهجرة والنصرة والغزو؛ المادة الأولى لكتب تراجم الصحابة وتراجم زعماء الإسلام وأبنائهم".
"وكان – عليه السلام - اتخذ كتابا يكتبون له أموال الصدقات؛ وهم: الزبير بن العوام، فإن غاب أو اعتذر كتب جهين بن الصلت أو حذيفة بن اليمان. ذكر ذلك ابن حزم في كتابه: "جوامع السيرة"، والقضاعي في كتاب "الأنباء".
"وهذا يدل على أن النظام والضبط وصل في زمنه عليه السلام إلى تقييد الداخل والخارج مما يتعلق بالأموال ونحوها، فكيف لا يقيدون الدين وهو أهم وأكبر وأكثر وقعا؟".
"...فهي أصل ديوان العطاء الذي دون في زمن عمر وبإذنه، وانتدابه لكتبه: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، قال الماوردي: كانوا شباب قريش، وقال لهم: اكتبوا الناس على منازلهم...".
"فهذا الديوان العمري المادة الوحيدة لتواريخ البيوتات الإسلامية العربية وغيرها، وكان الأساس الأكبر للتدوين الإسلامي في الأنساب وأهل السبقيات". اهـ بخ.
تدوين الصحابة رضوان الله عليهم:
ثم نقل الشيخ عبد الحي الكتاني – رحمه الله – في رسالته المنوه إليها نصوصا تثبت تدوين أمة من الصحابة والتابعين إلى أواسط القرن الثاني، ، وسيرته،بما لا يدع مجالا للشك أن الأمة الإسلامية عرفت تدوين حديث نبيها وأخباره، وأخبار أصحابه، وأحوال الأمة من سياسة واجتماع وتراجم، ودواوين...إلخ.
فمنهم: أبو بكر الصديق؛ جمع في رق خمسمائة حديث من حديث رسول ، وكان يرجع إليها إذا روجع.الله
وعمر بن الخطاب؛ استكتب ما روي من شعر الجاهلية والإسلام. وله كتابه المشهور إلى قاضيه على البصرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "هو كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه". وسبق الحديث عن ديوانه، وكان له تابوت يجمع فيه كل معاهدة كانت بينه وبين الناس.
وعلي بن أبي طالب؛ له كتاب في أقضيته، وكتاب القضاء والقضاة ساقه صاحب "نهج البلاغة".
وعبد الله بن عباس؛ كان له كاتب يكتب ، فاجتمع منها حمل بعير، وكان يكتب الفتاوى التي يُسأل عنها،رواياته عن النبي وكتب عنه ابن الأزرق غريب القرآن، بل كانت له كتب يكتب عنها الناس كعكرمة وغيره.
بإذنه،وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ كان يكتب الحديث زمن النبي له في ذلك نسخا للنهيوكان يسمي صحيفته: "الصادقة"، واعتبر بعض العلماء إذن النبي المتقدم عنه.
وزيد بن ثابت؛ نسب له كتاب في الفرائض.
وجابر بن عبد الله؛ له منسك صغير خرجه الإمام مسلم، ألف فيه ابن المنذر جزءا كبيرا، استقصى منه ، حدث عنهانحو مائة ونيف وخمسين نوعا من الفقه. وله صحيفة فيما رواه عن النبي مجاهد.
وعبد الله بن مسعود؛ كان له كتاب، رواه عنه ابنه عبد الرحمن.
وأبو هريرة حافظ الصحابة، كانت لديه كتب كثيرة جمعها من حديث رسول .الله
وضبطهاوأنس بن مالك؛ كان له كتاب دون فيه مروياته عن النبي وعرضها.
ومعاوية بن أبي سفيان؛ استكتب فضائل عثمان بن عفان، ودون رواته وأحوالهم، وكانت تسرد عليه الكتب الكثيرة في التواريخ والكتابات، حتى قيل بأنه أول من جمع مكتبة، والصحيح أن أبا بكر الصديق هو أول من جمع مكتبة حسبما في "تاريخ المكتبات الإسلامية" للشيخ عبد الحي الكتاني، وكثرت في عهد معاوية الدواوين، حتى دون الولادات، والوافدين من الخارج.
بل حدَّث هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة – كما في طبقات ابن سعد( ) - أنه: "أحرق يوم الحرة – سنة ثلاث وستين للهجرة – كتب فقه كانت له، فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحبُّ إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي".
فثبت بذلك أن كتب الفقه كانت موجودة مدونة في الصدر الأول للإسلام، وكتابة بعض الصحابة فتاواهم ومسموعاتهم وأحكامهم القضائية إنما يدل على كتابة غيرهم من أمثالهم ومن تلامذتهم، ما مؤداه أنها: كانت سلعة نافقة في ذلك العصر.
وقد خص الحافظ الدارمي في مسنده بابا سماه: "باب من رخص في كتابة العلم"، ملأه آثارا وأحاديث في الموضوع، أردف به بابا بعنوان: "باب من لم ير كتابة الحديث". فكأنه يثبت به نسخ الحكم الأول أو تأويله، بل هو نفسه يدل على شيوع الكتابة في الصدر الأول. فليراجع.
تدوين التابعين وتابعيهم:
وممن دون كذلك بعد تلك الطبقة: الحارث بن كلدة، وصبيغ التميمي، والحسن البصري، وزائدة بن قدامة الثقفي ابو الصلت الكوفي، وحجر بن عدي، وسليم بن قيس الهلالي، وعلي بن أبي رافع، وعبيدة بن قيس السلماني، وعروة بن الزبير، وكعب الأحبار، وابن شهاب الزهري، وخالد بن يزيد بن معاوية، وأبو خلف الأزدي، والضحاك بن مزاحم، وعوانة بن حكيم الأزدي، وعكرمة مولى بن عباس، وأبو قلابة، وقتادة بن دعامة السدوسي، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، وزيد بن أسلم مولى ابن عمر.
قال الحافظ عبد الحي الكتاني: "فظهر لك بما سطر وقدر: أن التدوين والجمع إنما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبأمره في الأحكام والحلال والحرام، تدوينا مرتبا على الكتب والأبواب والمسائل، لا التدوين المفرد في الأبواب، ولا في التاريخ والأخبار والحكمة والطب، التي علمتَ مما سبق أن جمعا ألفوا فيها فيما قبل".
الهوامش:
( ) "قوت القلوب" (1/ 159).
( ) "التمدن الإسلامي" (3/ 50).
( ) "التمدن الإسلامي" (3/ 205).
( ) "ابتداء التدوين" ص2.
( ) ص35.
( ) (2/ 371).
( ) طبقات ابن سعد، ج5، ص179- 180.