مشاهدة النسخة كاملة : العقل ام النقل ؟
فى الاسلام دائما ما نقدم النقل على العقل فهل فى هذا التقديم اهانة لعقل الانسان ؟؟؟
احمد المنصور
04-21-2005, 06:20 PM
فى الاسلام دائما ما نقدم النقل على العقل فهل فى هذا التقديم اهانة لعقل الانسان ؟؟؟
ليس كل نقل. من كل يؤخذ ويرد إلا من المصطفى :salla2: (لأنه لا ينطق عن الهوى).
والآن لو أنت مؤمن بأن هذا الكلام من عند الله عزّ وجلّ فكيف يكون إهانة للعقل؟؟؟. إلا إذا افترضت أنك "أحكم" من الله!. وهذا سهلٌ إبطاله.
ولو كنت تعتقد بأن هذا الكلام من عند غير الله ستجد الاسلام (القرآن) يدعوك للتفكر والتأمل (أي احترام العقل) للتفريق بين ما هو من عند الله وما هو من عند غيره.
وسؤالك يمكن سحبه على الشيطان - لعنه الله - حين امره الله عزّ وجلّ بالسجود. لم يُرجع الامر لحكمة يعلمها الخالق ولا يعلمها هو بل رد الامر إلى صفاته المخلوقة والتي لا تقوم له إلا بهذا الخالق.
إذًا عقلك فوق كل شيء إلا خالق هذا العقل وخالقك (وبالتالي أوامره).
وهنا نصل إلى النتيجة: الاسلام يحترم العقل ويدعو للتفكر. ولكن عقلك لست أنت خالقه إذًا يجب تسبيق الخالق وأوامره على العقل.
د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-21-2005, 07:24 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقة بين العقل والنقل
المحاضرة الأولي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ،وأشهد أن لا إله لا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ، أرسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، فكان داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ) (الأحزاب:46) ، وقد أنزل الله معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه قال تعالى :
( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (البقرة:213) ، ومن أهم الأمور التي تقرر العقيدة السليمة في نفوس المسلمين ، وتسهم في إزالة الخلاف بين المتناظرين ، وتقرب القلوب إلى التمسك بالقرآن والسنة على فهم سلف الأمة ، حقيقة العلاقة بين العقل والنقل ، فالعلاقة بين العقل والنقل تعتبر عاملا حاسما في تحديد هوية المسلم واعتقاده ، لاسيما في باب الغيبيات وما يتعلق بالأسماء والصفات ، ولأهمية ذلك نتعرف على موقف السلف الصالح من هذه العلاقة وما هو المنهج الصحيح الذي يسلكه الموحد في هذا الموضوع ؟
المقصود بالعقل : العقل في أقرب الآراء آلة غيبية تابعة للروح مغروزة في الجانب الغيببي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها ، ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من أفعال الإنسان في ظاهر البدن ، فيقال هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء وهذا مجنون إذا لم يتصف بها ، قال تعالى : ( أَفَلَمْ يسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِهَا ) ، فالآية تدل على أن العقل موجود في القلب ، قال الثعالبي في الجواهر الحسان : ( هذه الآية تقتضى أن العقل في القلب وذلك هو الحق ، ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ ) ، وقال القرطبى في الجامع لأحكام القرآن : ( أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محل الأذن ، وقد قيل : إن العقل محله الدماغ وروي ذلك عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحة ) .
والعقل يقوم بتحصيل المعلومات وجمعها من حواس الإنسان ثم يحللها ويصنف الحدث المرافق لها ، ثم يخزنها في ذاكرة الإنسان الذي بدوره يقوم باستدعائها حسبما يشاء ، والغاية الرئيسية من وجود العقل ، معرفة الإنسان بما ينفعه ويضره ، وكيف يحصِّل الخير الأعلى ويدفع عن نفسه الشر الأدنى ويحقق لنفسه الأفضل دائما ؟
ما هي حدد المعرفة بالعقل :
العقل هو أساس الجهاز الإدراكى البشرى فهو في القلب يشبه المعالج في الكمبيوتر ، والحواس تشبه وسائل إدخال المعلومات أو إخراجها والمخ فيه ذاكرة الإنسان أو ما يشبه القرص الصلب ، والله عز وجل قد خلق الإنسان بجهاز إداركى محدود ، تحقيقا لعلة معينة ، تمثلت في الابتلاء كما قال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيرا ً) (الإنسان:2) ، وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة ، لتقدير القيم التقريبية للحدود المعينة في المؤثرات الخارجية التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكى في جسم الإنسان ، والتي يطلقون عليها في علم النفس العتبات المطلقة للحواس الخمس فوجدوا أن البصر يدرك به العقل صورة شمعة مضاءة ترى على بعد 30 ميلا في ليل مظلم صاف 290 مليميكرون ، ووجدوا أن السمع يدرك به العقل صوت دقة ساعة في ظروف هادئة تماما على بعد 20 قدما ، والتذوق يدرك به العقل ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء ، والشم يدرك به العقل نقطة عطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة ، وحاسة اللمس يدرك جناح ذبابة يسقط على الصدغ من مسافة 1 سم تقريبا .
فإذا كان الجهاز الإدراكى في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يرى ما وراء ذلك ، كالذي يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يرى الملائكة أو الجن أو عالم الغيب ، أو يرى ذات الله وصفاته من باب أولى ، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعنى عدم وجودها فالجن مثلا جهازه الإدراكى يختلف عن الإنسان من حيث القوة قال تعالى في وصفه : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) (لأعراف:27) ، وموسى عليه السلام لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها مطلقا ، ولكن النفي معلق بانتهاء الحياة الدنيا ، فإن الشيء لا يرى لسببين :
1 - خفاء المرئي وهو ممتنع في حق الله .
2- ضعف الجهاز الإدراكى للرائي .
وهذا هو شأن موسى عليه السلام ، ولذلك تجلى الله للجبل الذي يتحمل أقصى درجة ممكنة من ضوء الشمس والذي لا يتحملة الإنسان أكثر من تسع دقائق تقريبا ، قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ، فَلَمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) (الأعراف:143) .
فمن الخطأ طلب البحث عن كيفية الأمور الغيبية أو الذات الإلهية أو صفاتها في الدنيا ، لأن النواميس التي أوجدها الله في الكون لا تسمح بذلك اللهم إلا إذا حدث خرق للعادة كأن يرى بعض الرسل الملائكة أو الجنة أو النار أو بعض أمور الغيب أو ما يعجز الإنسان العادي عن إدراكه .
أما في الآخرة فالأمر مختلف تماما ، إذ أن مدركات الإنسان في الآخرة تختلف عن مدركاته في الدنيا كما صح الخبر عن رسول الله بذلك في الحديث المتفق عليه ، حيث قال : ( خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال : اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فقـال : السلام عليكم ، فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن ) ، فالإنسان يوم القيامة على صورة آدم طوله ستون زراعا ومن أجل ذلك فإن مداركه وحواسه تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة ، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم عيانا ) أو ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ) ، كما روى ذلك البخاري علمنا أن إدرك العين المبصرة في الدنيا وقدرتها تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة وقدرتها على الرؤية .
من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح ، وكذلك الحال في بقية الصفات فنؤمن بها ونثبتها لله دون طلب للكيفية ، أما العقل فأقصى حدوده أن يتعرف على الله ووجوده من خلال الأسباب ، فهناك عدة أمور يدرك بها العقل حقائق الأشياء ، أولها البديهيات أو الأوليات ، وذلك كالحكم على أن البعرة تدل يقينا على البعير وأن الأثر يدل يقينا على المسير ، ومن هنا كان المسلم على يقين بوجود الله من خلال إثبات وجود الخالق بدلالة المخلوقات ، وقد ثبت ذلك بحكم الأوليات أو البديهيات ، إن من أكبر المحرمات جريمة الزى ، والحكم فيها لا بد أن يقوم على مفردات يقينية ولا يبنى على أمور ظنية ، وقد بين القرآن وسائل إدراك اليقين عند الحكم على المرتكبين لها ، فمن ذلك البديهيات وارتباط العلل بالمعلولات ، كما قالت مريم للملك عندما قال لها :
( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ – بزواج - وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا - بزنا – لأن البديهيات تجعل العاقل يحكم حكما يقينيا بأن الولد لا يأتي إلا من طريق مشروع أو طريق ممنوع ولذلك أكد لها الملك أن ذلك واضح صحيح ، وأن حالتها استثناء وأن الله يخلق ما يشاء - قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا – من أجل ذلك أثبت لها الخالق براءتها ، بخرق العادات وظهور المعجزات ، وأوحى إليها أنها إذا رأت من أنكر عليها ، أن تلزم الصمت وتمتنع عن الكلام ، وكل ما عليها أن تشير إلى الغلام وتقول :
( إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلي يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) ، سبحان الله أطفل صغير ينطق بهذه الكلمات ؟ ويعرف كل هذه المعلومات ، ويفهم لوازم العبارات ( إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَل آدَمَ خَلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، ( ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .
فالله عز وجل قادر على أن يعلم الناس ما يشاء ، فيدركون بأبصارهم ما هو تحت الأرض وفوق السماء ، كما قال سبحانه وتعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ) البقرة ، ولكنه من حكمته جعل جهاز الإدراك في الإنسان محدودا ، وجعل باب الإطلاع على الغيب بالعقل وحده مسدودا ، لكي تكون الحياة نوعا من أنواع الابتلاءات ، ويكون أهل العلم بين الناس درجات ، فآيات القرآن أثبتت للإنسان جهازا للإدراك شاملا متكاملا أساسه في القلب ، أول مهامه إدراك الأشياء ومعرفة الأسماء ، وتمييز خصائصها والتعرف على أوصافها ، يقول الله تعالى : ( أَفَلمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ ) وقال أيضاً: ( وَلقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الجِنِّ وَالإِنسِ لهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلئِكَ كَالأَنْعَامِ بَل هُمْ أَضَلُّ أُوْلئِكَ هُمْ الغَافِلُونَ ) ، فالبديهيات من أبرز الأمور العقلية في الدلالة على وجود الخالق .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء المحسوسات ، وقد جعلها الله وسيلة من وسائل الإثبات ، في الحكم على الزانيات المومسات فقال : ( وَالذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقْبَلُوا لهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَأَصْلحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ – جاء في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود أنه قَال : كنَّا ليْلةَ الجُمُعَةِ فِي المَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَال : لوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ ، أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ ، وَاللهِ لأَسْأَلنَّ عَنْهُ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ ، فَلمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أَتَى رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَلهُ ، فَقَال يا رسول الله : لوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ ، فنزل قول الله تعالى :
( وَالذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلمْ يَكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الصَّادِقِينَ وَالخَامِسَةُ أَنَّ لعْنَةَ اللهِ عَليْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الكَاذِبِينَ وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَليْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ ) .
وقد أمر الله عبادة باستخدام المحسوسات التي هى من مكونات الجهاز الإدراكى في النظر إلى الإبداع الكونى ، والتأمل في خلق السماوات والتفكر في سائر المخلوقات ، ( إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
وقال تعالى : ( أَفَلمْ يَنْظُرُوا إِلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لكُل عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ وَالنَّخْل بَاسِقَاتٍ لهَا طَلعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا للعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلدَةً مَيْتًا كَذَلكَ الخُرُوجُ ) ق/6: 11 ، وقال أيضاً: ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِل كَيْفَ خُلقَتْ وَإِلى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلى الجِبَال كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الغاشية/171:21 .
والحق سبحانه وتعالى يدعوا عباده إلى النظر في آياتة الكونية ، والمخلوقات المرئية ، بما في ذلك النفس البشرية ، فهى في حقيقتها صفحات كونية وأدلة عقلية في كتاب الله الكونى ، ودور الإنسان الذي أمر الله به في القرآن هو التفكر والاعتبار والنظر في الآثار ، فالأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير ، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير ، فدور العقل هنا البحث في المخلوقات وما فيها من حكم وآيات ، فإن المفعولات دالة على الأفعال ، والأفعال دالة على الصفات ، فالمفعول يدل على الفاعل ، والمخلوق يدل على الخالق ، وذلك يدل باللزوم على وجود الله وقدرته وعلمه ومشيئته .
ثم ما في المخلوقات من أنواع التغييرات ، وما فيها من تنوع في الأشكال والجمال والحسن والكمال ، يدل على وجود إرادة للحق في إدارة الملك ، كما أن ما فيها من المصالح والغايات والحكم البينات الواضحات ، يدل على حكمته وإتقان صنعته ، وغير ذلك مما دعانا الله تعالى إلى النظر فيه فقال سبحانه تعالى : ( إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ التِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَل اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُل دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة/164 .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء أيضا المتواترات : كعلمنا بوجود مكة والمدينة ، فإن العلم بوجودهما علم يقيني ، وكذلك بعثة النبي العلم بها علم يقينى ، لما ورد فيها من تواتر الأخبار وحملة الآثار ، وقد اتفق علماء الحديث على أن الأحاديث المتواترة تدل على اليقين وهى التي رواها جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب عن جمع آخر يستحيل اتفاقهم على الكذب إلى نهاية الإسناد إلى رسول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ .
ومن الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء التجريبيات ، وقد يعبر عنها باطراد العادات ، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة وأن الشمس مشرقة ، وأن الماء ينزل من السماء فيحي الأرض بعد موتها ، فهي سنن وعادات وتجربة وممارسات ، ولذلك حذرنا الله من العصيان ، بما حدث لأعدائه في سالف الزمان ، كان مصيرهم الخسف والمسخ والصيحة والنبران فقال تعالى :
( قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ آل عمران ) وقال : ( قُل للذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لهُمْ مَا قَدْ سَلفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلينَ ) ( فَهَل يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلينَ فَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا ) ، وفي الحديث ( لا يُلدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ ) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلى النَّارِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا ) ، فغاية ما للعقل النظر في الأسباب والتعرف على دلالتها ، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز ذلك كما قال تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) .
لكن لو أردنا أن نتعرف على عالم الغيب وما يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو الملائكة أو الجن أو نتعرف ذات الله أسمائه وصفاته ، فهل يصلح العقل لذلك ، كما حاولت الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتردية وغيرهم من أتباع الجهمية ، سوف يقع في الضلال وسوف يقول على الله بالمحال ، فلا بد من طريق آخر هو طريق النقل ، فما المقصود بالنقل ؟ يقصد بالنقل عند علماء العقائد الوحي المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله S ويسمى أيضا بالشرع أو السمع أو الخبر ، كقول أبى عمر بن عبد البر : ( حديث النزول حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي S) ، وكقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع ) ، وكقوله أيضا عن صفة الكلام ونسبة القول إلى الله تعالى : ( فالقول قد ورد في السمع مضافا الى الله .. وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح ) .
فالنقل أو الوحي أو الشرع أو السمع أو الخبر كلها عند علماء العقائد معان مترادفة تدل على كتاب الله وسنة رسوله S، فالنقل هو ما جاءنا من الله يعرفنا فيه عن نفسه وما في عالم الغيب ، والعاقل لا بد أن يقر به ويقدمه وسلم له ، فلا يوجد من هو أعلم بالله من الله ولا أعلم من رسول الله بالله ، فما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وجب علينا الإيمان به كما أخبر ، وما أمرنا الله به كان صلاحنا في أتباعه .
هل يمكن أن يتعارض العقل مع النقل ؟ من المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت بل العقل الصريح يشهد للنقل الصحيح ويؤيده ، والسبب في ذلك سبب منطقى وهو وحدة المصدر فالذي خلق العقل هو الله ، والذي أرسل إليه النقل هو الله وهو سبحانه أعلم بصناعته لعقل الإنسان وأعلم بما يصلحه في كل زمان ومكان ، فإذا وضع نظاما ببالغ علمه وحكمته لصلاح صنعته وألزم الإنسان بمنهجه وشرعته ، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى أو يعيش معيشة ضنكا إذا اتبع هداية الله تعالى كما قال سبحانه :
( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى ) ، ومعلوم عند سائر العقلاء أن أولى من يضع نظام التشغيل للمصنوعات صانعها ، قال شيخ الإسلام : ( كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول ، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح ولكن كثيرا من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا ، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفا بالأدلة الشرعية ، وليس في المعقول ما يخالف المنقول ) ، وقال أيضا : ( من قال بموجب نصوص القرآن والسنة أمكنه أن يناظر الفلاسفة مناظرة عقلية يقطعهم بها ويتبين له أن العقل الصريح مطابق للسمع الصحيح ) .
ما هي أسباب التعارض بين العقل والنقل إن وجدت ؟ لو حدث تعارض بين العقل والنقل فذلك لسببين لا ثالث لهما : الأول : أن النقل لم يثبت فينسب مدعى التعارض إلى دين الله ما ليس منه كالذين يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة وينقلونها للناس دون تمحيص ، فماذا يصنع العاقل إذا سمع خطيبا ، يذكر في مرة حديثا مرفوعا إلى رسول الله S : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله القَلَمَ ، فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ ) ، ثم يسمعه مرة أخرى يروى حديثا آخر : ( أول ما خلق الله العقل ، فقال له : أقبل ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك ) ، ثم ثالثا فيه : ( أول ما خلق الله نورى ) ؟ .
لا شك أن العاقل يقف حائرا بين هذه الروايات أي الأشياء خلق أولا ؟ وسيبعث ذلك في نفسه شكا ، كما أنه من الخطأ التوفيق بين هذه الروايات قبل البحث عن ثبوتها ، وكان يجب على من نقل هذه الروايات أن يتثبت من صحتها أولا ، وبالبحث وجد أن الحديث الأول ثابت صحيح ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله القَلَمَ ، فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ ) ( وهو حديث صحيح رواه الترمذي وصححه الألباني ) .
أما الثاني ( أول ما خلق الله العقل ، فقال له : أقبل ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك ) فموضوع باتفاق ، كما ذكر العجلونى في كشف الخفا ومزيل الإلباس ، وكما ذُكر في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، وأما الثالث ( أول ما خلق الله نورى ) فهو حديث موضوع أيضا رواه عبدا لرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء ، قال : يا جابر ، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك – خلقه - من نوره ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ، ولا جنة ولا نار ، ولا ملك ، ولا سماء ولا أرض ، ولا شمس ولا قمر ، ولا جني ولا إنسي ، فلما أراد أن يخلق الخلق ، قسم ذلك النور أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول القلم ، ومن الثاني اللوح ، ومن الثالث العرش ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الجزء الأول حملة العرش ، ومن الثاني الكرسي ، ومن الثالث باقي الملائكة ، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الأول السموات ، ومن الثاني الأرضين ، ومن الثالث الجنة والنار ، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء ، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله ، ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله .. وعلى هذا المنوال تأتينا اختراعات الصوفية والأباطيل العاطفية ، وما شابه ذلك من الأمور البدعية .
فأمثال هذه الأحاديث التي يتناقها غير الراسخين في العلم من الدعاة ، هي التي تحدث الفوضى وتدعو إلى تعارض العقل مع النقل ، فالعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح ، وينبغي على أهل العلم أن يتقوا الله في نقلهم للأحاديث الضعيفة والموضوعة بحجة ترغيب الناس في الإيمان والطاعة ، فإن من أبرز السلبيات التي تظهر من ذلك فتح باب البدعة على مصراعيه ، وتشويه الوحي بمصدريه القرآن والسنة .
السبب الثاني في التعارض أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله علي النحو الصحيح ، وللحديث بقية ونلتقي معكم بإذن الله تعالي في المحاضرة القادمة لنستكمل الموضوع عن حقيقة العلاقة بين العقل والنقل وأهميتها في فهم العقيدة الصحيحة المبنية على كتاب وسنة بفهم سلف الأمة ، أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
سم الله الرحمن الرحيم
العلاقة بين العقل والنقل ؟
المحاضرة الثانية
الحمد لله الأول بلا ابتداء ، والدائم بلا انتهاء ، استوى على عرشه في السماء ، له العظمة والعلو والكبرياء يُؤْتِي المُلكَ مَنْ يَشَاءُ ، وينْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ يشَاءُ ، ويُعِزُّ مَنْ يشَاءُ ، وَيذِلُّ مَنْ يشَاءُ ، بِيَدِه الخَيْرُ وهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، تعالى عن أن يكون له شريك في ملكه ، وتقدس أن يكون له معين على أمره ، لا تحيط به الأوهام ، ولا تدركه الأفهام ، حي لا يموت ، قيوم لا ينام ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ ، أحمده عز وجل على آلائه ، وأشكره سبحانه على نعمائه ، وأستعين به في عليائه ، أن يشفع فينا خاتِمُ أنبيائه ، وأن يجمعنا مع الصالحين من أوليائه ، وأومن به إيمان من أخلص له بالتوحيد ، وأفرده التسبيح والتمجيد .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اصطفاه على سائر الخلق لرسالته وابتعثه داعيا إلى توحيد وعبادته ، فصدع بأمره وجاهد ، ونصره على كل من عاند ، حتى أكمل الله له دينه ، وأتم عليه نعمه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد .
علمنا في المحاضرة الماضية أنه من المستحيل أن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح ، بل العقل يشهد له ويؤيده ، لأن المصدر واحد ، فالذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل ، ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده ، ولو حدث تعارض بين العقل والنقل ، فذلك لسببين لا ثالث لهما : الأول : أن النقل لم يثبت فيتمسك مدعى التعارض بحديث ضعيف أو موضوع ، والثاني أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله على النحو الصحيح ، فالسبب الثاني في التعارض بين العقل والنقل ، أن العقل لم يفهم النقل ، ومثال ذلك تشكيك بعض أتباع المستشرقين من الإسلاميين أساتذة الجامعات وشيوخ الفضائيات في حديث الذباب الذي رواه البخاري بسنده عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا وقعَ الذُّبابُ في إناءِ أحدِكم فليَغْمِسهُ كله ثمَّ ليَطْرَحهُ، فإنَّ في إحدَى جَناحَيهِ داءً وفي الآخر شفاءً ) فهذا الحديث من معجزات النبي S الطبية التي يجب أن يسجلها له تاريخ الطب بأحرف ذهبية ، حيث ذكر النبي S عامل المرض وعامل الشفاء محمولين على جناحي الذبابة قبل اكتشافهما بأربعة عشر قرنا ، وذكر تطهير الماء إذا وقع الذباب فيه ، فلو تلوث بالجراثيم الموجودة في أحد جناحيه ، فما علينا إلا أن نغمس الذبابة في الماء لإدخال عامل الشفاء ، الذي يوجد في الجناح الآخر ، الأمر الذي يؤدي إلى إبادة الجراثيم الموجودة بالماء ، وقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة الأسرار الغامضة في هذا الحديث ، فهناك خاصية عجيبة في أحد جناحي الذباب ، هي أنه يحول البكتريا إلى ناحية منه ، وعلى هذا فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب أو الطعام ، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واحد منها هو مبيد البكتريا ، الذي يحمله الذباب في جوفه قريبا من أحد جناحيه .
فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه ، ولذا فإن غمس الذباب كله وطرحه ، كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة به ، وكاف في إبطال عملها ، كما أنه قد ثبت علميا أن الذباب يفرز جسيمات صغيرة من نوع الإنزيم ، تسمى باكتر يوفاج أي مفترسة الجراثيم وهذه المفترسة للجراثيم الباكتر يوفاج ، أو عامل الشفاء صغيرة الحجم يقدر طولها بعشرين ميلي ميكرون تقريبا ، فإذا وقعت الذبابة في الطعام أو الشراب ، وجب أن تغمس فيه كي تخرج تلك الأجسام المضادة فتبيد الجراثيم التي تنقلها من هنا ، فالعلم قد حقق ما أخبر عنه النبي S بصورة معجزة ترد على أتباع المستشرقين في رفضهم للحديث ، وقد كتب الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظام بكلية الطب جامعة الإسكندرية ، كتب بحثا عن حديث الذبابة أكد فيه أن المراجع الطبية القديمة فيها وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب ، وفي العصر الحديث صرح الجراحون الذين عاشوا في السنوات العشر التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا ، أي في الثلاثينيات من القرن الحالي بأنهم قد رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والتقرحات المزمنة بالذباب ، ومن هنا يتجلى لنا أن العلم في تطوره قد أثبت في نظرياته العلمية والمعملية موافقته وتأكيده على مضمون الحديث الشريف ، مما يعد إعجازا علميا قد سبق سائر العلماء الآن .
وكذلك حديث ولوغ الكلب في الإناء الذي رواه مسلم (603) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُولُ اللّهِ صلي الله عليه وسلم قال : ( طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ ، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلبُ ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ) كانوا قديما يطعنون في الحديث ويتهكمون من السنة لقلة علمهم وضعف إيمانهم حتى ثبت علميا أنه المكروب الذي يحمله لعاب الكلب ، لا يمكن أن يزول من الإناء ، بالمنظفات الحديث أبدا ، لا صابون ولا إيريل ولا برسيل ، ولا أي عامل من عوامل التطهير ، لا بد من غسله سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ، هكذا تقول معامل التحاليل الكيمائية ، فتبا للآراء العقلية التي تعارض الأدلة النقلية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وما أثبته السمع الصحيح ، لم ينفه عقل صريح ، وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح ، وإنما يَظُنُّ تَعَارُضَهُما من غلط في مدلوليهما ، أو مدلول أحداهما ) .
وأكثر ما يقع من دعاوى التعارض بن العقل والنقل ، ويكون سببه انعدام فهم العقل للنقل ، هو الجهل بمذهب السلف في توحيد الصفات والأفعال ، مثال ذلك ادعاء بعض المعصرين ، الذين يعتقدون عقيدة المتكلمين ، من الأشعرية والماتريدية ، ادعاؤهم بوجود التعارض بين الآيات القرآنية ، التي وردت في الاستواء والعلو والمعية ، كقوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ، وقوله : ( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) ، وقوله : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم ) ، يقول الشيخ طه عبد الله عفيفي في كتابه حق الله على العباد وحق العباد على الله : ( وليت شعري أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر ؟ فيقولون : إن الله في السماء بمقتضى قوله تعالى :( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) ، أم على العرش بمقتضى قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) أم في الأفاق بمقتضى قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم ) ) .
ويقول أيضا : ( وليت شعري أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر فيثبتون له يدا بمقتضى قوله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (الفتح:10) ، أم يدين بمقتضى قوله تعالى : ( بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (المائدة:64) أم أيد عديدة بمقتضى قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يس:71) .
فالشيخ طه العفيفي قد فهم هو ومن شاكله ، فهم من ظاهر الآيات التشبيه والتحيز والجسمية ، وأن الله في استوائه يشبه استواء الإنسان في الكيفية ، كما ذهبت إلى ذلك المعطلة أتباع الجهمية ، من معتزلة وماتريدية وأشعرية ، وظنوا أن الآياتِ متعارضةً متضاربةً ، ولا بد من تأويلها بأي طريقة ، حتى ولو أدت إلى تعطيل الحقيقة ، دون تصريح منهم بذلك ، والحجة عندهم أنهم يطلبون التنزيه ، فقالوا : الاستواء معناه استيلاء وقهر ، مع أن ذلك باطل في اللغة بإجماع أهلها ، ولو سألهم سائل : ما حجتكم التي تمسكتم بها في تفسير الاستواء بالاستيلاء ؟ قالوا حجتنا التي لا بديل لنا عنها ، ولا مندوحة لنا في تركها ، قول الشاعر الأخطل النصراني ، الذي سب المسلمين في دينهم ، واستهزأ بصلاتهم وصيامهم ، واحتقر أضاحيهم وأذانهم ، فقال في احتقار للمسلمين وعبادتهم : ولست بصائم رمضان يوما : ولست بآكل لحم الأضاحي - ولست بزائر بيتا بعيدا : بمكة ابتغى فيه صلاحي - ولست بقائم كالعير أدعو : قبيل الصبح حي على الفلاح .
ما هي حجتهم التي تمسكوا بها في تفسير الاستواء بالاستيلاء ؟ حجتهم هي قول هذا الأخطل النصراني : قد استوى بشر على العراق : من غير سيف أو دم مهراق ، أي ملك بشر على العراق وقهرها .
فهؤلاء لما نفوا الاستواء ، وعطلوا علو الفوقية بهذه الحجج العقلية ، ساءت سمعتهم عند عامة المسلمين وخاصتهم فالله يقول صراحة هو على العرش ، وهم يقولون صراحة ليس على العرش ، فما المخرج من هذه الورطة التي وضعوا أنفسهم فيها ؟ انظروا إلى المخرج في قول صاحب كتاب لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة ، الأشعرية يعتبرون أنفسهم أهل السنة والجماعة ، يقول : ( لو سئلنا عن قوله تعالى : الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ، لقلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قول العرب استوى فلان على المملكة أي استعلى عليها واطردت له ، ومنه قول الشاعر : قد استوى بشر على العراق : من غير سيف ودم مهراق ) .
قال ابن كثير في التعقيب على هذا البيت : ( هذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء ، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه وليس في بيت هذا النصراني ، حجة ولا دليل على ذلك ، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه ، ولا نجد أضعف من حجج الجهمية حتى أداهم الإفلاس من الحجج ، إلى بيت هذا النصراني المقبوح ) والعجب كل العجب أن قوة احتجاج الأشعرية بهذا البيت على نفي الاستواء أقوى من قوة الاحتجاج بآية الاستواء على إثباته .
روى الحسن بن محمد الطبري عن أبى سليمان ، قال : ( كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ما معنى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ؟ قال : إنه مستو على عرشه كما أخبر ، فقال الرجل : إنما معنى استوى استولى ، فقال له ابن الأعرابي : ما يدريك ؟ العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل قد استولى عليه ، والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر ) .
وقال أبو سليمان الخطابي وهو من أئمة اللغة : ( وزعم بعضهم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء ، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ، ولو كان الاستواء ها هنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة ، لأن الله تعالى قد أحاط علمُه وقدرتُه بكل شيء وكل بقعة من السماوات والأرضين وتحت العرش ، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر؟! ، ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشئ ، فإذا وقع التمكن منه قيل استولى عليه ، فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده ! ) .
والأشعرية يقولون أيضا في قوله تعالى : الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ، قالوا : معنى في السماء ، الملك الموكل بالعذاب في السماء ، وهذا أشد قبحا وتعسفا وافتراء ، وقالوا الله معنا بذاته في كل الوجود ، وهذا أقبح مما سبق لأنه اعتقاد مردود ، فيلزمهم أن يكون الله في أماكن التخلي والحمام ، وفي الأماكن القذرة مع أوسخ الأنتان ، تعالى الله عن ذلك الرحمن ، ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) (طه:5) ، فاعتقادهم لم يخرجهم من التعارض ، بل زادهم حيرة ومزيدا من التضارب ، أما هذه الآيات في حقيقتها ، فليس بينها أي تعارض في أدلتها ، وظاهرها مراد في حق الله وحده ، ويدل عليه وحده ، وعلى النحو الذي يليق بالله ، وهو وحده جل في علاه الذي يعلم كيفية ذاته وصفاته وأفعاله .
لكن تعالوا ننظر إلى عقيدة الأشعري نفسه ، وإلى المنبتين المخالفين لمذهبه ، ماذا قال أبو الحسن الأشعري في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ، قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله ، في بيان الفهم الصحيح لكتاب الله ، وكيفية الجمع بين هذه الآيات مع استواء الله : ( السموات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السماوات قال : أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ، والعرش أعلى السماوات ، وليس إذا قال : أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) يعنى جميع السماوات ، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ) .
فالله عز وجل مستو على عرشه ، وعرشه فوق سماواته ، ويعلم ما نحن عليه ، لا يخفي عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ، وليس بين الآيات أي تعارض يذكر ، وهذه عقيدة السلف في هذا الموضوع .
أما بالنسبة لما ذكره الشيخ طه العفيفي من التعارض في صفة اليد ، قوله : ( وليت شعري أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر فيثبتون له يدا بمقتضى قوله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (الفتح:10) ، أم يدين بمقتضى قوله تعالى : ( بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (المائدة:64) ، أم أيد عديدة بمقتضى قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يس:71) .
فهذا التعارض المزعوم ناشئ من سوء عقله وعدم فهمه لما ورد في كتاب الله ، فمذهب السلف الصالح في اليدين ليس فيه ما يحاولون إثباته من التناقض ، بل هو الحق الذي اجتمعت عليه الأدلة الجلية ، وهؤلاء يريدون أن يجعلوا صفة اليدين شيئا معنويا ، بحجة أنهم ينزهون الله تنزيها حقيقيا ، كما هو مذهب المتكلمين عندهم ، والحقيقة التي لا شك فيها أن مذهب السلف الصالح هو عين الكمال والتنزيه ، ولا تعارض فيه بين العقل والنقل ، فمذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم من أن لله تعالى يدين حقيقيتين من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف .
فالذين يفهمون لغة القرآن ، يعلمون أن العرب قد تستعمل الواحد في الجمع ، كقوله تعالى : ( وَالعَصْرِ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ ) (العصر:2) وقد تستعمل الجمع في الواحد كقوله تعالى : ( الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ) (آل عمران:173) ، وقد تستعمل الجمع في الاثنين كقوله تعالى : ( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) (التحريم:4) ولكنها لم تستعمل الواحد في الاثنين أبد ، فلا تقول عندي رجل ، وأنت تعنى رجلين ، ولم تستعمل الاثنين في الواحد ، فلا تقول عندي رجلان وأنت تعنى به مجموعة من الرجال ، فلا يجوز تأويل اليدين بالقدرة ، لأن القدرة صفة واحدة ، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد ، ولا يجوز تأويل اليدين بالنعمة لأن نعم الله لا تحصى ولا تعد ، يقول الله تعالى : ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (إبراهيم:34) ، وعند ذلك فلا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الجمع ، مما يدل على بطلان تأويل اليدين بالنعمة أو القدرة .
فالآيات الثلاث التي أوردها الشيخ طه العفيفي ، يقول فيها السلف إن التأويل في حال التثنية تحريف للكلم عن مواضعه ، فقوله تعالى : ( بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (المائدة:64) يدل على إثبات صفة اليدين لله حقيقة ، أما قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يس:71) ، فالمقصود من الجمع التعظيم وهذا وارد في لغة العرب ، فلما قال في بداية الآية : خلقنا ، قال : أيدينا ، ولما قال : خلقت ، قال : بيدي ، ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ) (صّ:75) ، وأما قوله تعالى : ( إِنَّ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (الفتح:10) وقوله تعالى : ( قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (آل عمران:26) ، وقوله تعالى : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة:113) .
فإطلاق اليد هنا من باب تسمية الشيء بسببه ، فقد تكون بمعنى القدرة لأن القدرة هي قوة اليد ، يقال : فلان له يد في كذا و يد في كذا ، أي له قدرة ، ومن لوازم اليد للرحمن القوة والخير والعطاء ، والسح والبذل والسخاء .. الخ ولا يقال يد لمن ليس له يد ، أما قوله تعالى : ( بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (المائدة:64) ، وقوله : ( قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) (الحجر:32) ، فلا يمكن أن تأول بالقدرة أو النعمة لأن تركيب السياق يمنع ذلك كما هو الحال في لغة العرب .
والله لم ينكر على اليهود وصفهم له باليد ، وإنما أنكر عليهم وصف اليد بالغلول : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) (البقرة:113) ، وهذه الآية من الأدلة الواضحة على إثبات يدين لله على الحقيقة ، والآيات في ذلك كثيرة ، وفي حديث الشفاعة المشهور الذي رواه البخاري من حديث أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( يجتمعُ المؤمنون يومَ القيامةِ فيقولون : لو استَشفَعنا إلى ربنا ، فيأتونَ آدمَ فيقولون : أنت أبو الناس ، خَلَقَك الله بيدِهِ ، وأسجدَ لك مَلائكتهَ ، وعلمكَ أسماءَ كلِّ شيءٍ ، فاشفَعْ لنا عندَ ربِّك حتى يُريحَنا من مكانِنا هذا ، فيقول : لستُ هناكم ، ويذكرُ ذنبَهُ فَيستحي ) فجعلوا خلق الله لآدم بيده ميزة له من بين الخلق ، فدل على أن اليد على ظاهرها ، ولها كيفية لا نعلمها ، تليق برب العزة والجلال ، الذي لا يعلم كيف هو إلا هو ، ومن الأحاديث الدالة على أن للّه يدين حقيقيتين ، ما رواه البخاري عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يدُ اللهِ مَلأي لا يَغيضها نَفَقة سَحَّاء الليلَ والنهارَ ، أرأيتم ما أنفقَ منذ خلق الله السماواتِ والأرضَ فإنه لم يَغض ما في يده ، عرشه على الماء وبيدِهِ الأخرى الميزانُ ، يَخفضُ ويرفع ) ، وَمن حَدِيثِ زُهَيْرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ( إنَّ المُقْسِطِين عِنْدَ اللّهِ عَلَى? مَنَابِرَ مِنْ نُور ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَل ، وَكِلتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ، الذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ) .
وهم يحاولون الخروج من هذا التناقض الذي زعموه وتصوروه في الآيات ، بتناقض أشد ضلالا وأبعد منالا فأهل التأويل والتعطيل يؤولون اليدين ، إما بالقدرة أو النعمة تارة أو خزائن الخير تارة أخرى ، فرارا من التشبيه ، فيقولون في قوله تعالى : ( قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) أي بنعمتي أو بقدرتي ، وقد أرادوا بذلك أن يجعلوها لا تدل على يدين حقيقيتين كما أراد الله من الآية ، بل أرادوا أن يجعلوها شيئا معنويا ويخترعوا لها أي معنى يوافق قواعدهم وأصولهم ولو كان ذلك باطلا ولا دليل عليه ، وهذا قول على الله بلا علم ولا قال به أحد من علماء السلف ، كما أن تناقضهم يدل على بطلان قولهم لأنهم لو كانوا على الحق لاتفقوا على معنى واحد ، والأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا بدليل واضح ، وقد تنوعت النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على إثبات يدين لله تبارك وتعالى ووصفها بأوصاف تمنع تأويلها بالقدرة أو النعمة .
والذي نود أن نلخصه الآن هو أنه من المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت بل العقل الصريح يشهد للنقل الصحيح ويؤيده ، والسبب في ذلك سبب منطقي وهو وحدة المصدر فالذي خلق العقل هو الله ، والذي أرسل إليه النقل هو الله وهو سبحانه أعلم بصناعته لعقل الإنسان وأعلم بما يصلحه في كل زمان ومكان ، فإذا وضع نظاما ببالغ علمه وحكمته لصلاح صنعته وألزم الإنسان بمنهجه وشرعته ، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى أو يعيش معيشة ضنكا إذا اتبع هداية الله تعالى كما قال سبحانه : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى ) ، ولو حدث تعارض بين العقل والنقل فذلك لسببين لا ثالث لهما : الأول : أن النقل لم يثبت فينسب مدعى التعارض إلى دين الله ما ليس منه كالذين يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة وينقلونها للناس دون تمحيص ، السبب الثاني في التعارض بين العقل والنقل أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله على النحو الصحيح .
نقف بإذن الله تعالى عند هذا الحد ونلتقي معكم بإذن الله تعالى في مساء الغد ، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقة بين العقل والنقل ؟
المحاضرة الثالثة
الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) وقال تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي أَنْزَل عَلى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا ، قَيِّماً ليُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّ لهُمْ أَجْراً حَسَناً ، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ، وَيُنْذِرَ الذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلداً قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ وَلا لآبَائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً ) (الكهف:5) ، وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام:1) .
واختتمه بالحمد فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار : ( وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْل العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيل الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) (الزمر:75) ، ولهذا قال تعالى : ( وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لهُ الحَمْدُ فِي الأُولى وَالآخِرَةِ وَلهُ الحُكْمُ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ ) (القصص:70) ) كما قال تعالى : ( الحَمْدُ للهِ الذِي لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) (سبأ:1) ، فله الحمد في الأولى والآخرة أي في جميع ما خلق وما هو خالق هو المحمود في ذلك كله ، كما يقول نبينا المصلي : ( اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ) ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس ، أي يسبحونه ويحمدونه عدد أنفاسهم ، لما يرون من عظيم نعمه وكمال قدرته وعظيم سلطانه وتوالي منته ودوام إحسانه وواسع رحمته ، كما قال تعالى :
( إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) (يونس:10) .
والحمد لله الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي ، أرسله إلى جميع خلقه من إنس وجان ، من لدن بعثته إلى آخر الزمان ، كما قال تعالى : ( قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً الذِي لهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لعَلكُمْ تَهْتَدُون َ) (لأعراف:158) .
وقال تعالى : ( لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلغَ ) (الأنعام:19) ، فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وإنس وجان ، فهو نذير له من الكفر والفسوق والعصيان ، ولهذا قال تعالى : ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) (هود:17) ، فمن كفر بالقرآن فالنار موعده بنص القرآن وكما قال تعالى : ( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلمُون َ) (القلم:44) ، فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين ، مبلغا لهم عن الله بالوحيين ، كتاب الله الذي : ( لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (فصلت:42) ، وسنته صلى الله عليه وسلم ، أما بعد .
فموضوعنا اليوم نستكمل فيه الحديث عن العلاقة بين العقل والنقل ، ونبدأ محاضرة اليوم بسؤال هام : هل يقدم العقل على النقل إذا توهم أحد بالجهل وجود التعارض بينهما ؟ وهل يصح ما ذكره فخر الدين الرازي المتكلم الأشعري أنه إذا تعارضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مع أدلتهم العقلية وأصولهم الكلامية ، فمن الواجب في اعتقادهم تقديم أدلتهم العقلية وأصولهم الكلامية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وذلك عندهم أمر بلا جدال ، ومنهج متبع بلا فصال ، وليس لتغييره عندهم مجال ، وربما يعبرون عن هذا السؤال الذي نبدأ به محاضرة اليوم بقولهم :
إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية ، أو السمع والعقل ، أو النقل والعقل ، أو الظواهر المقلية والقواطع العقلية ، أو نحو ذلك من عبارات الأشعري ، فإما أن نقدم السمع وهو محال ، لأن العقل أصل في ثبوت النقل ، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا وطعنا في العقل ، الذي هو أصل النقل ، والقدح في أصل الشيء قدح فيه ، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا ، فوجب تقديم العقل ، ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض ، ويقول أبو حامد الغزالي :
( قال أبو حامد الغزالي : من أخذ علمه من العبارات والألفاظ ضل ضلالا بعيدا ومن رجع إلى العقل استقام أمره وصلح دينه ) .
وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه من الأشعرية قانونا شاملا ، يقيسون عليه كتاب الله وسنة رسوله قياسا كاملا ، وللأسف إن هذا المنهج الأشعري هو الذي يدرس به كل أزهري كتاب الله وسنة رسوله في باب العقيدة ، هذا المنهج المسمى أيضا منهج الخلف يعتقدون أنه أعلم وأحكم من مذهب السلف ، قال البيجوري في حاشيته على جوهرة التوحيد ، الكتاب المقرر على المرحلة الثانوية بالمعاهد الأزهرية ، ويدرس الطالب أيضا منهج الأشعرية في الكلية ، حتى أعلى الدرجات العلمية في جميع المؤسسات التعليمية التابعة للأزهر الشريف ، يقول البيجوري مفضلا طريقة الخلف على طريقة السلف تحت قول صاحب الجوهرة :
وكل نص أوهم التشبيه : أوّله أو فوض ورم تنزيها ، يقول : ( وطريقة الخلف أعلم لما فيها من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم وهى الأرجح ولذلك قدمها المصنف ، وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد لله تعالى ) .
والجواب أنه إذا تعارض العقل والنقل ، لجهل العقل بما ورد في النقل ، أو غاب عنه الفهم الصحيح للأدلة القرآنية والنبوية ، وجب علي المسلم العاقل قبل التعطيل أو التأويل بغير دليل أن يتقى الله ، ولا يقدم عقله وهواه ، على كتاب الله وسنة رسوله S ، فمهمة العقل تجاه النقل لمن صدق في إسلامه ، تصديق المنقول إذا كان خبرا ، وتنفيذه إذا كان أمرا .
ومن ثم فإن الله إذا عرفنا بنفسه في النقل الصحيح أو عرفنا بشيء مما في عالم الغيب أو عالم الشهادة وجب على كل إنسان مسلم عاقل أن يصدق بالمنقول عن الرسول S تصديقا جازما يبلغ حد اليقين الذي ينافي الشك ، ولا يرد الأدلة ويعطلها زاعما أنه من أصحاب المدرسة العقلية التي تحكِّم العقل في كل شيء حتى في باب الأسماء والصفات فيوجب على الله بعقله أشياء ، ويجوز له من الصفات ما يشاء ويجعل ما نزل من السماء ، في الخبر عن الصفات ، دربا من الخيال أو المستحيلات ، قال ابن قيم الجوزية في شفاء العليل : ( العقل الصريح موافق للنقل الصحيح والشرعة مطابقة للفطرة يتصادقان ولا يتعارضان خلافا لمن قال : إذا تعارض العقل والوحي قدمنا العقل على الوحي فقبحا لعقل ينقض الوحي حكمه : ويشهد حقا أنه هو كاذب ) .
وسوف نبين لكم بإذن الله تعالى خطأ الأشعرية في زعمهم أنه إذا تعارضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مع أدلتهم العقلية وأصولهم الكلامية ، فمن الواجب في اعتقادهم تقديم العقل على القرآن والسنة بلا فصال ، الأدلة السمعية مع الأدلة العقلية ، أو ما يطلقون عليه الظواهر النقلية والقواطع العقلية ، أو نحو ذلك من عبارات الأشعرية وسوف نلخص لكم الرد على زعمهم الباطل في الأمور الآتية :
الأمر الأول : الذي يرد به على من قدم عقله على كتاب الله في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات والأحكام والتكليفات ، أن الله سبحانه وتعالى لما أهبط الأبوين من الجنة عهد إليهما عهدا لهما ولجميع الذرية إلى يوم القيامة ، وضمن لمن تمسك بعهده أنه لا يضل ولا يشقى ولمن أعرض عنه معيشة ضنكا ، يعيش في الضلال والشقاء فقال تعالى : ( قَال اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى ، قَال رَبِّ لمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قَال كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلكَ اليَوْمَ تُنْسَى) (طه:123/126) .
قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية ، وقوله ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى) ، يتناول باتفاق العلماء الذكر الذي أنزله على أنبيائه ورسله وهو الوحي والآيات المسموعة المقروءة ، بدليل قوله تعالى بعدها : ( قَال رَبِّ لمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قَال كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلكَ اليَوْمَ تُنْسَى ) ، فهذا هو الإعراض عن ذكره بتناسيه وترك العمل به ، فإذا كان هذا حال المعرض عن النقل الذي هو الوحي أو الكتاب والسنة ، فكيف حال المعارض للوحي بعقله أو عقل من قلده وأحسن الظن به دون كتاب الله وسنة رسوله ، فكما أنه لا يكون مؤمنا إلا من قبل الكتاب والسنة ، وانقاد لهما ، فمن أعرض عنهما وعارض ما فيهما ، فهو من أبعد الناس عن وصف الإيمان .
الأمر الثاني : الذي يرد به على من قدم عقله على كتاب الله على من قدم عقله على كتاب الله في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات والأحكام والتكليفات ، كما فعل المتكلمون من الأشعرية ، أن أصولهم العقلية وآراءهم الكلامية وأهواءهم المذهبية التي عارضوا بها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وما زعموا فيه أن أحكام العقل أحكام قطعية ، وأن نصوص الوحي نصوص ظنية هؤلاء كذبوا على أنفسهم ، لماذا لأن كبار علمائهم شهدوا على أنفسهم بالحيرة والتردد ، والشك والتخبط فيما وصولوا إليه من أحكام عقلية ، وأنهم لم يقطعوا فيها حكما ، ولم يحصلوا منها علما ، ولا يجد فيها يقينهم ركنا ، فالذين ضيعوا أعمارهم وأفنوا أعمالهم في تقنين المذهب الأشعري وبينيانه الكلامي ، أعلنوا قبل موتهم حيرتهم ، وأسفهم وتوبتهم ، وأعلنوا للجميع ندمهم .
فهذا هو الإمام فخر الدين الرازي الذي كرس حياته في التصنيف للمذهب الأشعري ، والتأسيس للأصول التي تدرس في كل معهد أزهري ، قال في آخر عمره : ( يا ليتنا بقينا على العدم الأول ، وليتنا ما شهدنا هذا العالم ، وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن ، ثم قال :
نهاية أقدام العقول عقال : وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا : وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا : سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة : فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها : رجال فزالوا والجبال جبال
ثم قال : اعلم أنه بعد التوغل في هذه المضائق والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق ، رأيت الأصوب والأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم ، والفرقان الكريم ، وهو ترك التعمق والاستدلال ، بأقسام أجسام السماوات والأرضين على وجود رب العالمين ، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل ، لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : ( الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى ) ، ( إِليْهِ يَصْعَدُ الكَلمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالحُ يَرْفَعُهُ ) ، واقرأ في النفي :
( ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ ) ، ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلمًا ) ، وقال : ( هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيًّا ) ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ) .
وكذلك قال أبو المعالي الجويني : ( يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به ) ، وقال عند موته : ( لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي ) ، وقال ابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق : فيك يا أغلوطة الفكر : حار أمري وانقضى عمري - سافرت فيك العقول : فما ربحت إلا أذى السفر .
وقال آخر : ( اضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي ، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء ) ، والعجب أنك ترى إصرارا من بعض إخواننا في التمسك بالعقيدة الأشعرية لا تجد له نظيرا ، وإذا حاولت بحكم الأخوة أو المشاركة في العمل أن تبين له الحقيقة أو تنصحه بقراءة المؤلفات في هذه العقيدة ، من باب معرفة الرأي والرأي الآخر أو التنزل مع الخصم للوصول به إلى الحق كما قال تعالى : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعَلى هُدى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِين ٍ ) ، تجد صدودا غريبا .
فهؤلاء حالهم يشبه قوما نزلوا بفلاة من الأرض نزلوا في الصحراء في ليلة ظلماء ، فهجم عليهم العدو ، فقاموا في الظلام هاربين ، فارين مولين ، كل له رأي وتخمين ، مختلفين غير متفقين ، لم يجتمعوا على طريق واحد للنجاة ، فكل يقول بوجهته ، وكل يخرج ما في جعبته ، ويظن أن النجاة في اتباع عقيدته ، فيقول للآخرين إنكم لن تصلوا إلى اليقين إلا إذا كنتم خلفي من السالكين ، ثم كل واحد يدور مع أتباعه في متاهة ، وأتباعه ينصرونه ويؤيدونه في سفاهة ، وكل واحد يرى في رأي شيخه وجاهة ، حتى وصلوا بحمقهم مع شيخهم إلى التهلكة ، وعلموا أن أصوله وآراءه كانت أمورا مربكة .
فأساطين الأشعرية والمتكلمين صرحوا بأنهم لم يصلون إلى اليقين ، وإنما يتكلمون في العقيدة وأصول الدين بالأولى والأحرى والظن والتخمين ، ولهذا ظهر فيمن خلفهم من السالكين ، مزيدُ من الحيرة والتردد ، والاعتراف بالجهل والتشتت ، وأنهم لم يصلوا إلى شيء فيه عبرة ، وإنما وصلوا إلى ما يشبه رموزا وشفرة ، فهذا حال الفلاسفة والمتكلمين ، لما داهمهم كتاب رب العالمين ، وحاصرهم اتباع الرسل المقدمين ، صاروا فرقا متناحرين ، وأحزابا مشتيين ، قال ابن رشد وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة الأقدمين ، في كتابه تهافت التهافت : ( ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ) ، وهذا أفضل المتأخرين في زمانه أبو الحسن الآمدي ، واقف في المسائل الكبار ، يذكر حجج الطوائف ويبقى واقفا حائرا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ( ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) ، وهذا صاحب كتاب المضنون به على غير أهله ، من فرط ذكائه ومعرفته بالفلسفة والكلام ، ينتهي وقت الموت في هذه المسائل إلى الشك والحيرة ، ثم يعرض عن هذه الطرق ، ويقبل على طريقة أهل الحديث وعلى صحيح البخاري ويموت وهو على صدره .
ولهذا ذهبت طائفة من أهل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة ، يعنى أن الأدلة العقلية قد تكافأت وتضاربت وتعارضت وتصادمت ، فلم يعرفوا الحق من الباطل ، فهم بمنزلة عميان قاموا في ليلة مظلمة يتهاوشون ويتصادمون ، وهم قد افتروا على ربهم حين جعلوا منزلة لفلسفتهم وأصولهم ، تكافئ وتواجه كلام ربهم وسنة نبيهم ، فأدلة الحق وشُبَه الباطل لا تتكافأ أبدا ، حتى يتكافأ الضوء مع الظلام ، والمسك مع أنتن الجيف ، أدلة الحق وشُبَه الباطل لا تتكافأ أبدا حتى يستوي البياض مع السواد ، وحتى يلج الجمل في سم الخياط ، فسبحان من أعمى عن الحق ، بصائر من شاء من الخلق ، كما أعمى عن شمس الوحي من شاء منهم ، فالذنب والنقص والعيب لكلل البصائر وضعفها ، لا للحق الذي ينجلي لأهل البصيرة في إيمانها ، ولقد أحسن القائل في وصف هؤلاء أن بصائرهم إنما هي بمنزلة أبصار الخفافيش ، التي تعجز عن ضوء النهار ولا تفتح أعينها فيه ، ويلائمها ظلام الليل فتذهب فيه وتجيء فيه .
ولهذا تجد أكثر هؤلاء المتكلمين من الأشعرية ، لم يتبين له الهدى في هذه الطرق العقلية ، التي خلعوا فيها قيود الأدلة النقلية ، وذلك لخلو قلوبهم عن حقائق العلم والإيمان ، الذي يقضى بالتسليم لكل ما ورد في القرآن ، فكانت نهايتهم إلى الشك والحيرة والخذلان ، فمصطلحاتهم ما أنزل الله بها من سلطان ، فهؤلاء أقرب وصف لهم ، ما ورد في قول ربهم : ( إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَل اللهُ بِهَا مِنْ سُلطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى أَمْ للإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ) (لنجم:23) .
فعلومهم وأصولهم ومصطلحاتهم ظنون ، مهما كتبت وألفت فيها المتون ، ومهما كلف بجوهرة التوحيد الدارسون ومهما فرضت ودرست وتبناها القائمون ، ومهما دافع عنها المشايخ والمعلمون ، فإرادة المتكلمين تابعة لهوى نفوسهم وعلومهم تدعو إلى إرادتهم ، وإرادتهم تدعو إلى علومهم ، فهؤلاء هم الذين أمر الله بالإعراض عنهم ، إذا تمسكوا في العقيدة بمذهبهم ، بعد إقامة الحجة عليهم ، يقول تعالى :
( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلى عَنْ ذِكْرِنَا وَلمْ يُرِدْ إِلا الحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلكَ مَبْلغُهُمْ مِنَ العِلمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلمُ بِمَنْ ضَل عَنْ سَبِيلهِ وَهُوَ أَعْلمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) (النجم:30) .
هؤلاء الأشعرية ، اخترعوا لنا مصطلحات بدعية لا حصر لها ، اخترعوا لنا مصطلح الحيز والجسمية ، والعرض والملوخية ، والجهة والطعمية ، وغير ذلك من السلطة الفكرية ، وسموا المثبتين للصفات حشوية ، ثم قالوا هذه أصولنا العقلية ، يستقيم معها أمر العقيدة الإسلامية ، أما العبارات القرآنية والألفاظ النبوية ، فلا تصلح مصدرا للأوصاف الإلهية ، انظر معي ودقق في عبارة الحجة الإسلامية ، أبى حامد الغزالي زهرة الصوفية ، وهو يقول في تقرير الأصول الكلامية :
( من أخذ علمه من العبارات والألفاظ ضل ضلالا بعيدا ، ومن رجع إلى العقل استقام أمره وصلح دينه ) ، كيف تكون عبارات الكتاب ضلالا ، وألفظ النقل في العقيدة محالا ، والكل يقر بأن القرآن هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا :
( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ) ( قالوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِل مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلى الحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ) (الأحقاف:31) ، كتاب ربنا من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم .
فطالب الهداية في الأمور الاعتقادية في غير القرآن والسنة ، قد شهد الله ورسوله له بالضلال ، فكيف يكون عقل الذي قد أضله الله مقدما على كتاب الله وسنة رسوله ، قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها المنقول : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلهُ اللهُ عَلى عِلمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَل عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية:23) ، وقال : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلهِ ذَلكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ ) (الأنعام:153) وقال فيمن قدم عقله على ما جاء به النقل : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى ) (لنجم:23) ، والقرآن مملوء بالأدلة التي تقطع بأن من قدم عقله على ما جاء في كتاب رب العزة والجلال ، فهو من أهل الضلال .
الأمر الثالث : الذي يرد به على من قدم عقله على كتاب الله في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات والأحكام والتكليفات ، كما فعل المتكلمون من الأشعرية ، أن أصحاب الأدلة القرآن ، المتمسكين بالسنة النبوية ، وخصوصا في باب الصفات الإلهية ، قد شهد الله لهم بالعلم واليقين ، وكفي به شهيدا في النزاع بين المختصمين ، قد شهد لهم أنهم على بصيرة من ربهم وبينة من أمرهم ، وأنهم هم أولو العقل والألباب ، والبصيرة في الكتاب ، وأن لهم نورا على نور ، وأنهم المهتدون المفلحون ، فقال تعالى في حق الذين يؤمنون بالغيب ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم :
( الم ذَلكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً للمُتَّقِينَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِل إِليْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ ) (البقرة:5) .
وقال : ( وَيَرَى الذِينَ أُوتُوا العِلمَ الذِي أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ) (سبأ:6) وهذا دليل ظاهر على أن الذي نراه معارضا للنقل ويقدم العقل علي كتاب الله وسنة رسوله ، ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير ، ولا قليل ولا كثير ، وقال تعالى : ( أَفَمَنْ يَعْلمُ أَنَّمَا أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ ) (الرعد:19) ، وهذه شهادة من الله على عمى هؤلاء وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك ، وشهادة المؤمنين عليهم بالبعد عن الحق ، وقال تعالى :
( اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلوْ لمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَال للنَّاسِ وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليم ٌ) (النور:35) فأخبر سبحانه بهذا المثل عن نور الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله ، وصدق رسله في قلوب عباده ، وتوافق كتاب ربهم ، مع نور عقولهم ونقاء فطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان ، أخبر سبحانه بهذا المثل الذي يتضمن أعلى أنواع النور المشهود ، وأنه نور على نور في القلب موجود ، نور الوحي ونور العقل ، نور الشِّرعَة ونور الفطرة ، نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية ، وقال تعالى : ( وَكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلكِنْ جَعَلنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ) (الشورى:52) ، وقال تعالى :
( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلنَا لهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ليْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلكَ زُيِّنَ للكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ) (الأنعام:122) وقال تعالى : ( فَالذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذِي أُنْزِل مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفْلحُونَ ) (الأعراف:157) ، وقال تعالى : ( اللهُ وَليُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَالذِينَ كَفَرُوا أَوْليَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالدُونَ) (البقرة:257) ثم أخبر سبحانه وتعالى عن حال المعرضين عن هذا النور ، المعارضين للوحي بالعقل ، بمثلين يتضمن أحدهما وصفهم بالجهل المركب والآخر يتضمن وصفهم بالجهل البسيط ، لأنهم ليسوا طبقة واحدة ، فهم بين ناظر وباحث ، ومقدر ومفكر ، وبين مقلد يحسن الظن بهم ، ومحب يسير في ركبهم ، فقال الله عز وجل في آيتين متتاليتين في الطائفتين الموصوفتين بالجهل البسيط والمركب : ( وَالذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ) (النور:39) هؤلاء هم أصحاب الجهل البسيط ، أما أصحاب الجهل المركب فقد ذكرهم الله في الآية التالية ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لمْ يَجْعَل اللهُ لهُ نُوراً فَمَا لهُ مِنْ نُورٍ) (النور:40) .
الأمر الرابع : الذي يرد به على من قدم عقله على كتاب الله في باب العقيدة وغيره ، كما فعل المتكلمون من الأشعرية ، أن الشواهد اليقينية والحجج القطعية لدى أصحاب الكتب السماوية ، قد دلت على أن الرسل صادقون ، وأنهم لا يخبرون عن الله إلا بالحق الذي يعلمون ، ولا يخبرون عن أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض ، فهم صادقون فيما يبلغون ، سواء في التكليف والطلب وأوامر العبودية ، أو في الخبر عن توحيد الأسماء والصفات والربوبية ، وهذا أول درجات الإيمان ، عند كل مسلم صادق ، فمتى علم المؤمن أن الرسول أخبر بشيء من الغيبيات أو الأسماء والصفات ، صدق تصديقا جازما يبلغ علم اليقين ، ويزداد المؤمن إيمانا بعين اليقين وحق اليقين ، وعلم أيضا أنه لا يجوز أن يكون في الوحي ، شيء باطني مخفي بخلاف ما أخبر به الناس ، وأنه من المحال أن يعارض الوحي دليل عقلي يحدث الالتباس ، وأن كل من يظن أنه يعارض خبر الرسل بحججه العقلية وآرائه الفكرية ، فحجته داحضة ، وشبهته فاسدة ، من جنس السفسطة ، وأنواع القرمطة ، فالعقلاء عن الله يعلمون أنه من المحال ، أن يعارض كتابَ الله وسنةَ رسوله رأي أو مقال ، فما بالكم بمن اعتقد أن أدلة الوحي متضاربة ، وأن أدلة العقل والنقل متعارضة ، وأنه ينبغي كما يزعمون تقديم العقل على النقل عند التعارض .
فالله عز وجل بصير بالعباد : ( الذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَاب ) ( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَار رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ) (آل عمران:194) نستكمل في المحاضرة القادمة بإذن الله بقية الأمور التي يرد بها على من قدم عقله على كتاب الله في باب الأسماء والصفات وغير ذلك من الغيبيات والأحكام والتكليفات ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقة بين العقل والنقل ؟
المحاضرة الرابعة
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله ، إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، ومالك يوم الدين ، الذي لا فوز إلا في طاعته ، ولا عز إلا في التذلل لعظمته ، ولا غنى إلا بالافتقار إلى رحمته ، ولا هدى إلا في التمسك بهدايته ، ولا حياة إلا في حبه وطاعته ، ولا نعيم إلا في قربه وجنته ولا صلاح للقلب إلا بإخلاص نيته ، إله عظيم كريم عزيز رحيم ، إذا أطيع أثاب وشكر ، وإذا عصي تاب وغفر .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، كلمة قامت بها الأرض والسماوات ، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات ، وبها أرسل الله تعالى رسله ، وأنزل كتبه وشرع شرائعه ، ولأجلها نصبت الموازين ، ووضعت الدواوين وقام سوق الجنة والنار ، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار ، والأبرار والفجار ، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب ، وهي الحق الذي من أجله كان العرض والحساب ، وعليها يقع السؤال والثواب والعقاب وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ، وهي حق الله على جميع العباد ، فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام ، وعنها يسأل الله عز وجل الأولين والآخرين ، ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، وسفيره بينه وبين عباده ، المبعوث بالدين القويم ، والمنهج المستقيم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماما للمتقين ، وحجة على الخلائق أجمعين ، أرسله على حين فترة من الرسل ، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل ، وافترض على العباد طاعته ، ونصرته وتوقيره ومحبته ، وسد الطرق دون جنته ، فلن تفتح لأحد إلا لطريقته ، صلى الله عليه وسلم ، شرح الله له صدره ، ورفع له ذكره ، ووضع عنه وزره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره ، يقول الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) (الأنفال:64) صلى الله عليه ، وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ..
نستكمل اليوم الحديث عن العلاقة بين العقل والنقل ، وقد علمنا مما سبق أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح ، بل يشهد له ويؤيده ، لأن المصدر واحد ، فالذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل ، ومن المحال أن يرسل إليه ما يفسده ، ولو حدث تعارض بين العقل والنقل ، فذلك لسببين لا ثالث لهما : الأول : أن النقل لم يثبت فيتمسك مدعى التعارض بحديث ضعيف أو موضوع ، والثاني أن العقل لم يفهم النقل ولم يدرك خطاب الله على النحو الصحيح ، وعلمنا أيضا أنه إذا تعارض العقل والنقل ، لجهل العقل بما ورد في النقل ، أو غاب عنه الفهم الصحيح للأدلة القرآنية والنبوية ، وجب علي المسلم العاقل أن يقدم النقل على العقل ، وأنه ينبغي قبل التعطيل أو التأويل بغير دليل أن يتقى الله ، ولا يقدم عقله وهواه ، على كتاب الله وسنة رسوله S ، فمهمة العقل تجاه النقل لمن صدق في إسلامه ، تصديق المنقول إذا كان خبرا ، وتنفيذه إذا كان أمرا ، ثم بينا بعض الوجوه في الرد على الأشعرية في زعمهم أنه إذا تعارضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مع أدلتهم العقلية وأصولهم الكلامية ، فمن الواجب في اعتقادهم تقديم أدلتهم العقلية وأصولهم الكلامية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية .
د. محمود عبد الرازق الرضواني
04-21-2005, 07:34 PM
http://www.asmaullah.com/lecture3.htm
جزاكم الله خيرا شيخنا الدكتور محمود الرضواني .
احب ان تضيف لنا امر مهم وهو : المصدر الواحد للعقل والنقل نؤمن به . ولكن قد يعترض علينا غير مسلم لا يؤمن بالله عز وجل او لا يؤمن بالرسالة . فكيف يكون الكلام معه ؟
وجزاكم الله خيرا
يتم تحديد قواعد قبول الحديث بطريقة عقلية اصلا من خلال اشتراط شروط تحول دون دخول الخطأ الى الحديث من خلال سنده ومتنه .
والعقل هو الذي استخدم في تصحيح هذه الاحاديث وقبول المنقول,فيكون ناتج التصحيح اجراء اعمال عقلية وفقا للظوابط الشرعية .
فاذا حكم العقل بصحة نسبة القول الى الرسول صلى الله عليه وسلم فان التصحيح ناتج عن عمل عقلي بظوابط فلو خلف العقل لكان احدهما غير صحيح .
فان قدحنا بالحديث ونسبته قدحنا بالعقل الذي قادنا الى تصحيح هذا الحديث .
وان قدحنا بالعقل فقد قدحنا بالحديث الذي اثبتناه عن طريق العقل .
لذلك من قدح بالنقل الصحيح انما يقدح بالعقل ومن قدح بالعقل فقد افسد الشرع والنقل.
محمدعلي
06-19-2005, 03:23 AM
العقل هو الطريق الذي اوصلني لوجود رب أوجد الخلق
العقل أثبت حجية الكتب السماوية والأنبياء عليهم الصلاة والسلام
ماسبق ثبت عقلا ومنطقاً بالقطع المنطقي المطبق
والعقل يثبت ويؤمن بكمال حكمة الله تبارك وتعالى
والعقل يثبت أن كلامه موجود وأنه مطلق الصحة والكمال
النتيجة المنطقية
العقل أثبت سلامة المصدر وكماله
إذاً كل ماجاء من هذا المصدر وإن لم نعرف الحكمة من وراءه إلا أن العقل يقول أن غياب الفهم أو السبب لايعني غلطه بل ثبات المصدر عقلاً يوجب اخذ كل ماجاء منه
يعني لاتعارض اطلاقا
Powered by vBulletin™ Version 4.2.1 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, ENGAGS © 2010