قتيبة
10-21-2008, 04:43 AM
أوجه التعارض في الحديث الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على رسوله الهادي الآمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد :
فهذا جزءٌ من رسالتي الدكتوراه الموسوم بـ (( التعارض في الحديث )) أحببت أن أخص به إخواني في ملتقى أهل الحديث ، والجزْ المعروض هنا هو الباب الثاني من الرسالة ويتعلق بأوجه التعارض في الحديث الشريف ، وأعتذر للجميع عن بعض الخلل أحياناً في التنسيق نظراً لأني استخرجت هذا من عدة ملفات وعدة أقراص محفوظة منذ عشر سنين ، وأحمد الله أني وجدت أعلب الملفات صالة لكنها تحتاج إلى بعض التنسيق ولم يُتح لي ذلك ، بالإضافة إلى وجود بعض الصفحات غير مصححة لأني وجدت ملفاتها المصححة غير صالحة وهي قليلة جداً ، وعلى كل خال أظن أن وجود هذا القدر بهذه الكيفية الآن سكون مفيداً إن شاء الله ، راجياً من كل من يستفيد من هذا الموضوع دعوة صالحة للكاتب ووالديه .
الباب الثاني
أوجه التَّعارض في الحديث
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأوّل : توهُّم تعارض النَّصين
الفصل الثَّاني : توهُّم تعارض الحديث مع أُصول الدِّين والشَّريعة
الفصل الثَّالث : توهُّم تعارض الحديث مع العقل ،والواقع
ونواميس الكون .
تمهيدٌ :
قد يفهم ناظرٌ إلى عنوان الرِّسالة " التَّعارض في الحديث " أنَّ المقصود بالبحث ، التَّعارض الواقع بين الأحاديث بعضها ببعضٍ ، وهذا وإن كان حقاً ، إلاّ أنَّه يُمثل جزءً من المراد لا كلَّه.
فبعد الاستقراء يمكنني القول أنَّ التَّعارض لم يرد على وجهةٍ واحدةٍ ، أو نمطٍ موحَّدٍ ، بل لقد اختلفت الأنماط وتنوَّعت الحالات.
فهناك التَّعارض الواقع بين النُّصوص ، وهذا يشمل القرآن والسُّنة ، وهناك التَّعارض بين الأحاديث والحوادث والوقائع ، والتَّعارض بين الحديث والعقل والرَّأي والقياس ، إلى غير ذلك من الوجوه والحالات .
ولسوف أتناول بالتَّفصيل في المباحث المقبلة كلَّ هذه الوجوه ، وما يندرج تحت كلِّ وجهٍ أو حالةٍ من الحالات.
واعتمدت في أمثلة التَّعارض على أقوال العلماء ومناقشاتهم في الغالب لأحاديث عدُّوها متعارضةً ومُشكلةً ، ثمَّ بناءً على استقرائي لعددٍ من كتب الرِّواية والدِّراية عندما وجدت أنَّ هذا الحديث يمكن أن يُصنَّف ضمن المتعارض .
وما ذكرته هنا في الفصول المقبلة لا يمثِّل إلاّ جزءً يسيراً ممَّا وقفت عليه من الأحاديث ، وما ذكرته لا يمثِّل إلاّ نماذج وعيِّناتٌ يندرج تحت كلِّ حالةٍ منها عددٌ من الأحاديث ، ولعلِّي أُوفَّق لجمع الأحاديث الّتي قيل عنها مُشكلةً أو متعارضةً في مصنَّفٍ مُستقلٍّ أُخصِّصه لدراستها ونقدها.
الفصل الأوّل
توهُّم تعارض النَّصين
وفيه مبحثان
المبحث الأوّل : تعارض الحديث مع القرآن
المبحث الثَّاني : تعارض الحديثين.
كما أسلفت سابقاً أنَّ التَّعارض مستحيلٌ بين النُّصوص ، وإنِّما هو توهُّم أو ظنُّ التَّعارض والتَّدافع ظاهريـًَّا ، والمقصود بتعارض النَّصين ، هو التَّعارض الّذي يظهر بين الآية والحديث ، أو بين الحديث والحديث ، مع اعتبار التَّقسيمات الّتي يتفرَّع إليها الحديث من قولٍ وفعلٍ وتقريرٍ ، وبخاصَّةٍ فيما يتعلَّق بتعارض الحديث كما سيأتي ، وهذا بيان المقصود والشُّروع في المطلوب .
المبحث الأوّل
تعارض الحديث مع القرآن الكريم
إنَّ القرآن الكريم ، والحديث الشَّريف كلاهما وحيٌ ، وخرجا من مشكاةٍ واحدةٍ ، وإن اختلفا في شيءٍ فإنَّما يختلفان في طريقة الوُرود ( المتواتر والآحاد ) وطريقة جواز الأداء ( بالَّلفظ الحرفي / المعنى) ولهذا لا يمكن للوحيِّ أن يتعارض أو يتناقض.
وإن تُوهِم ذلك ، أو وُجد بما لا يدع مجالاً للشَّكِّ ، ولم نستطع التَّوفيق بأيِّ وجهٍ من الوجوه بين طرفي الوحي ، فلا مناصَ حينئذٍ من تقديم ظاهر الكتاب على دلالة السُّنَّة . ولكنَّ واقع أغلب ما يُدَّعى عليه التَّعارض والتَّناقض هنا ، يمكن فيه الجمع والتَّوفيق .
ثمَّ إنَّ التَّعارض المتوهَّم قد يكون بين صريح الكتاب وصريح السُّنَّة ، أو بين مفهوم الكتاب وصريح السُّنَّة ، وغير ذلك ، ولكُلِّ حالةٍ طريقة تناولٍ ومنهج دراسةٍ ، أبيِّنُها في هذه المطالب:
المطلب الأوّل : تعارض صريح الكتاب مع السُّنَّة .
وهو ما تكون دلالة القرآن فيه صريحةً في مسألةٍ ما ، وتُعارِضُها دلالة الحديث الصَّريحة كذلك.
مثال ذلك : ما أورده ابن قتيبة (1) عن الطَّاعنين أنَّهم قالوا : ( رويتم عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أنَّه قال : " صِلَةُ الرَّحْمِ تَزِيْدُ فِي العُمْرِ"(2) ، والله تبارك وتعالى يقول : { فِإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُوُن }(1) فكيف تزيد صِلة الرَّحم في أجلٍ لا يُتأخَّر عنه ولا يُتَقدَّم ) ؟
فالنَّاظر يجد ما اعترض به أمراً وارداً ، والتَّدافع يكاد يكون أمراً واقعاً ، ولكن بنظرةٍ فاحصةٍ ، وبجمع طرق روايات الحديث ، واستقصاء ألفاظه نتوصَّل إلى حقيقتين :
الأولى : إنَّه لا يمكن ترجيح الآية على الحديث هنا لأن أحاديث زيادة العمر تصل إلى درجة التَّواتر ، فالآية والحديث كلاهما متواترٌ(2) .
الثَّانية : -يجب المصير إلى الجمع ، ومن خلال النَّظر في أجوبة العلماء عن هذا الحديث يمكن أن تحمل أقوالهم في الحديث على أمرين.
1- الزِّيادة الحقيقيَّة ، وهذا ما ذهب إليه عددٌ من العلماء منهم : ابن قتيبة(3) ، وابن فُورَك(4) ، وابن حجرٍ العَسْقَلانيُّ فقال (5) : ( وثانيها : إنَّ الزيادة على حقيقتها ، وذلك بالنِّسبة إلى علم الملك المُوكَّل بالعمر ، وأمَّا الأوّل الّذي دلّت عليه الآية فبالنِّسبة إلى علم الله تعالى ، كأن يُقال للملك مثلاً : إنَّ عمر فلانٍ مِئة سنةٍ مثلاً إن وصل رحمه ، وستون إن قطعها ، وقد سبق في علم الله أنَّه يصل أو يقطع ، فالّذي في علم الله لا يتقدَّم ولا يتأخَّر ، والّذي في علم الملك هو الّذي يمكن فيه الزِّيادة والنَّقص ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ }(6) فالمحو والإثبات بالنِّسبة لما في علم الملك ، وما في أمِّ الكتاب هو الذي في علم الله- تعالى- فلا محو فيه ألبته).
فحَمْلُ الزِّيادة على الحقيقة أمرٌ يقبله العقل ، ويؤيِّده النَّقل ، لما في هذا القول من وجاهةٍ ، واحتمال للصَّواب ، وذلك بالتَّفريق بين علم الله الأزليِّ ، وما هو معروفٌ عند الملَك المُوكَّل بالأجل والرِّزق وما إلى غير ذلك.
وهذا التَّفسير اختاره الغُماريُّ(1) واقتصر عليه فقال (2) : ( للمسلم عُمْران ؛ عمرٌ محدَّدٌ عند الله لا يُعلم غيره ، وعمرٌ مُردَّدٌ بين الزِّيادة والنَّقص عند ملَك الموت ، يقال له : عمر فلانٍ سبعون سنةً إن تصدَّق أو برَّ والديه ، وخمسون سنةً إن لم يفعل ذلك ، وهذا هو المُراد في الحديث ).
2- الزِّيادة المجازيَّة ، أي إنَّ هذه الزِّيادة كنايةٌ عن البَركة في العُمر بسبب التَّوفيق إلى الطَّاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة(3) ، وفي " نوادر الأُصول "(4) : " إنَّ العبدَ إذا عُمِر بالإيمانِ َوبِحياةِ القلب فذلك كثيرٌ وإن قلَّ مدته ، لأنَّ القِصَر من العُمْر إذا احتشى من الإيمان أربى على الكثير لأنَّ المتبقي من العمر العبودية لله- تعالى- ، كي يصير عند الله وجيهاً".
أو السَّعة والزِّيادة في الرِّزق وعافية البدن ، وقد قيل : " الفقر هو الموت الأكبر"(5) وانفرد ابن فُورَك بتفسيرٍ للزِّيادة فقال (6) : " إنَّ معنى الزِّيادة في العمر: نفي الآفات عنهم والزِّيادة في أفهامهم وعقولهم وبصائرهم ".
وهناك فهمٌ آخر للزِّيادة يمكن استنتاجه من جمع ألفاظ الحديث ، والمقارنة بينها، وهو أنَّ زيادة العمر هي بقاء أثر الواصل بعد موته ، وهذا مأخوذٌ من بعض ألفاظ الحديث مثل (7) :" مَنْ سَرَّه أن يُبسَط لَه في رِزقه ، ويُنْسأُ لَهُ في أثره فَليَصِل رَحِمَهُ" .
وهذا الفهم نقله صاحب "فيض القدير"(1) ، عن الزَّمَخْشريِّ أنَّه قال : معناه أنَّ الله يُبقي أثر واصل الرَّحم في الدُّنيا طويلاً ، فلا يضمحلّ سريعاً كما يضمحلُّ أثر قاطع الرَّحم. فحُمِل الأجل هنا على الأثر ، وهو تأويلٌ سائغٌ ، وتفسيرٌ محتملٌ.
وهناك وجهٌ آخر معناه قريبٌ من التَّأويل الأخير ، ورد في حديثٍ ضعيفٍ أخرجه الطَّبرانيُّ في " المعجم الأوسط(2)"، عن أبي الدَّرداء -رضي الله عنه - قال:"ذُكر عند رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم - من وصل رحمه أُنْسِىءَ له في أجله ، فقال: "إنَّه لَيْس زيادة فِي عُمْره ، قال الله تعالى : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } ولكِنَّ الرَّجلَ تَكُون لَهُ الذُّرِيَّة الصَّالحة يَدْعُونَ لَهُ مِن بَعْدِهِ " .
ففي التَّفسير السَّابق : جَعَل الزِّيادة في العمر زيادةً في أثره وذِكْرِهِ الطَّيِّب ، وفي الثَّاني ، أنَّ أبْنَاءَ المرء الصَّالحين يدعون له ، فكأنَّه بقيَ وعَمِل وازداد من الحسنات.
وبالجملة فهذه التَّفسيرات والتَّأويلات كلُّها مُحتملةٌ ، فلا ينبغي أن يُردَّ الحديث لشُبهةٍ ، أو استشكالٍ ، فالنَّقص من الحديث بِرَدِّهِ أو تضعيف ما ليس بضعيفٍ، كالزِّيادة أو تصويب ما ليس بصحيحٍ ، وكلاهما غير جائزٍ ،بل قد يصل إلى درجة الكذب على رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم- . وغير خافٍ الوعيد الشَّديد على من هذه حالُه ، وهذا عمله.
وقد يكون التَّعارض صريحاً بين نصين ، لكنَّه لفظيٌّ ، أي أن تكون لفظةٌ محدودةٌ وردت في نصِّ حديثٍ أو آيةٍ وعلى هذه الّلفظة مدار النَّهي أو الأمر ، وتأتي هذه الّلفظة ذاتها في نصٍّ آخر في موضعٍ مُخالفٍ تماماً لما جاءت عليه في النَّصِّ الأوّل ، ومثال ذلك : ما رواه البُخاري(3) مُسلمٌ (4) وأصحاب السُّنن عن أبي هُريرة-والّلفظ لمُسلمٍ - أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال :" إذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأنْتُم تَسْعُونَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ ،وَعَلَيْكُمُ السَّكِيْنَةُ ، فَمَاأدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا "(1) .وبمقابل هذا قول الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِيْن آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُم تَعْلَمُون }(2) .
فالملاحظ أنَّ الآية تحثُّ على السَّعي إلى الصَّلاة ، والحديث ينهى عن السَّعي إلى الصَّلاة وعلى هذا فإن اعترض معترضٌ ، أو استشكل أمرؤٌ فعنده ما يستند إليه ، وأغلب الظَّنِّ أنَّ الاستشكال قد حصل ، لأجوبة العلماء وكلامهم على الحديث والآية ، فمثلاً ذكر النَّوويُّ(3) في شرحه للحديث ما يُشعر بذلك فقال : ( فيه النَّدب الأكيد إلى إتيان الصَّلاة بسكينةٍ ووقارٍ ، والنَّهي عن إتيانها سعياً سواءٌ فيه صلاة الجمعة وغيرها ، سواءٌ خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا ، والمراد بقول الله تعالى " فاسعوا إلى ذكر الله : الذَّهاب ، يقال : سعيت في كذا أو إلى كذا إذا ذهبت إليه وعملت فيه).
وذكر ابن كثيرٍ في تفسيره للآية أنَّ السَّعي هو الاهتمام فقال (4) : ( أي اقصدوا واعمدوا اهتموا في سيركم إليها ، وليس المراد بالسَّعيِّ ها هنا المشي السَّريع ، وإنَّما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى :{ وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ }(5)) ومثل هذا التَّفسير مرويٌّ عن الشَّافعي- رحمه الله - حيث يقول(6): ( ومعقولٌ أنَّ السَّعي في هذا الموضع العمل لا السَّعي على الأقدام ، قال تعال :{ إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى }(7) قال :{ وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قال :{ وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورَاً } (8) وقال: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيْهَا }(9). وممَّا يؤيِّد هذا الفهم ، ما رواه البَيْهقيُّ(1) : عن عبدالله بن الصَّامت قال : خرجت إلى المسجد يوم الجمعة ، فلقيت أباذرٍ - رضي الله عنه - فبينا أنا أمشي إذ سمعت النِّداء ، فرفعت في المشي لقول الله عز وجل { إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ } فجذبني جذبةً كدت أن أُلاقيه فقال : " أو لسنا في سعيٍ" ؟ لذلك كان عمر بن الخطَّاب وابن مسعودٍ - رضي الله عنهما - يقرآنها : فامْضُوا إلى ذكر الله بدلاً من فاسعوا ،(2) وهو ما يؤيِّد ما قدَّمت من أجوبةٍ للعلماء ، وأفعالٍ للصَّحابة.
ولهذا لا اختلاف ولا تعارض بين ما أمر به الكتاب العزيز ، ونهت عنه السُّنَّة المُشرَّفة لأنَّ اتِّفاق الَّلفظيين ، لا يعني اتِّفاق المعنيين وهذا ما أكَّده وركَّز عليه ابن خُزَيمة حيث قال (3) : ( باب الأمر بالسَّكِينة في المشي إلى الجُمُعة ، والنَّهي عن السَّعي إليها والدَّليل على أنَّ الاسم الواحد يقع على فعلين يُؤمر بأحدهما ويُزْجر عن الآخر بالاسم الواحد ، فمن لا يفهم العلم ولا يُميِّز بين المعنيين قد يخطر بباله أنَّهما مختلفان ، قد أمر الله- عزَّوجلَّ-في نصِّ كتابه بالسَّعي إلى الجمعة في قوله { يَا أيُّهَا الّذِيْن آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاِة مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلىذِكْرِاللهِ } والنَّبيُّ المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم - قد نهى عن السَّعي إلى الصَّلاة فقال - صلّى الله عليه وسلّم - : " إذَا أتيْتُم الصَّلاة فَعَلَيْكُم السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ " وقال - صلّى الله عليه وسلّم -:" فَإِذَا أتَيْتم الصَّلاة فلا تَسْعُوا إليهَا وامْشُوا وَعَلَيْكُم السَّكِيْنَةُ " .
فالله- عزَّوجلَّ -أمر بالسَّعي إلى الجُمُعة ، والنَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - قد نهى عن السَّعي إلى الصَّلاة . فالسَّعي الّذي أمر الله به إلى الجمعة هو المُضيُّ إليها ، غير السَّعي الَّذي زجر النَّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في إثبات الصَّلاة ، لأنَّ السَّعي الَّذي زجر النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - هوالخَبب وشدَّة المشي إلى الصَّلاة الّذي هو ضدّ الوقار والسَّكينة ، فما أمر الله- عزَّ وجل به غير ما زجر النَّبي - صلّى الله عليه وسلّم - عنه ، وإن كان الاسم الواحد يقع عليهما جميعاً ).
وكلُّ ما قدَّمته عن السعي والمراد بكلٍّ منهما في القرآن وفي الحديث تؤيِّده الُّلغة ويعضده فهم الُّلغويين ، حيث قال ابن منظورٍ(1) : ( السَّعي : عَدْوٌ دون الشَّدِّ ، سعى يسعى سعياً ، وفي الحديث : " إذا أقيمت الصَّلاة .... " ، فالسَّعي هنا العدْو ، سعى إذا عدا ، وسعى إذا مشى ، وسعى إذا عمل وسعى إذا قصد ، وإذا كان بمعنى المُضِيِّ عُدِّي بإلى ، وإذا كان بمعنى العمل عُدِّيَ بالَّلام ، والسَّعي : القصد ، وبذلك فُسِّر قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله ، وليس من السَّعي الّذي هو العَدْو).
المطلب الثَّاني: توهُّم تعارض مفهوم الكتاب مع صريح السُّنَّة:
وهو ما تتعارض فيه دلالة السُّنَّة الصَّريحة مع ما يفهم من القرآن الكريم، ومثال ذلك: قول رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم -: الوَائِدَةُ وَالمّؤودَةُ فِي النَّار"ِ(2) “ وهناك رواياتٌ أُخرى بزيادة: "إلاّ أنْ تُدْرِكَ الوَائِدَةُ الإسلامَ فَتُسْلِمَ ".
فدلالة هذا الحديث الصَّريحة تقول أنَّ الوائدة والمؤودة كلتاهما في النَّار، وهذا يعارضه ويضادُّه مفهوم قول الله تعالى:{ وَإِذَا المَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } إذ يُفهم من قول الله هذا أنَّ الموؤدة لا ذنب لها فتُقتل، وهذا السُّؤال إنَّما هو ذمٌ وتقريعٌ لقاتلها، كونه قتلها بلا سببٍ. قال الرَّازي وغيره: "وسؤالها هو على وجه التَّبكيت لقاتِلها ". وقد استدلَّ ابن عبَّاس بهذه الآية على أنَّ أطفال المشركين في الجنَّة إن صحَّت الرِّواية عنه ؟!.
ممَّا تقدَّم يتَبيَّن أنَّ الاختلاف واضحٌ جليٌّ، والتَّعارض واقعٌ ملموسٌ، ولا يمكن إزالته بكلمةٍ أو جملةٍ، وقد خاض العلماء في هذين النَّصَّين لمحاولة التَّوفيق بينهما والتَّقريب بين مدلوليهما، فبعضهم اكتفى بالنَّظر إلى الأسانيد فحسب وحكم من خلالها بضعف الحديث، وبعضهم خاض في المتن لدفع الاستشكال عنه.
وقد توسَّع الدَّارقُطنِي(1) في إيراد أسانيد الحديث ليُبيِّن اختلافها واضطرابها، والكشف عن عللها وضعفها، وكذا فعل البُخاريُّ(2) عندما روى الحديث.
فذكر الدَّارقُطنِيُّ أن هذا الحديث روي مرسلاً عن الشَّعْبيِّ، وروى عن الشَّعْبيِّ عن علْقَمة، عن عبد الله بن مسعود، واختُلف فيه عن ابن مسعودٍ في رواياتٍ كثيرةٍ. ورُوي مُتَّصلاً عن الشَّعْبيِّ عن ابني مُلَيْكَة، واخْتُلف فيه عن ابنيْ مُلَيْكَة كذلك، فبعضهم أدخل عَلْقَمة بين الشَّعْبيِّ وبينهما، وبعضهم زاد كذلك ابن مسعود، إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة الّتي ذكرها الدَّارقُطنيُّ، ونبَّه على أغلبها البُخاريُّ.
وهذا التَّلوُّن الشَّديد في الحديث مع اتِّحاد مخرجِهِ يُسوِّغ قول من ضعَّفَهُ وردَّه بمخالفة الأَحاديث الصَّحيحة ومفهوم الآيات.
ولهذا فقد قال ابن الوزير(3) : “وقد بالَغتُ بالبحث عن صحَّة هذا الحديث حتَّى وجدتُ ما يمنع القطع بصحَّتهِ، فسقط الاحتجاج به وللّه الحمد(4) .
والحديث المقصود هو حديث سَلَمة بن يزيد الجُعْفِيِّ وأخيه، إذ هو الوحيد الَّذي ظهر أنَّه ذو إسنادٍ لا بأس به، كما قال ابن القَيِّم(5) .
أمَّا باقي الأحاديث الَّتِي تنُصُّ على دخول أطفال المشركين النَّار فهي ضعِيفةٌ، كما قال السُّبكِيُّ(1) واستثنى حديث سلمة بن يَزِيدٍ، وقال: " فإنَّه صحيح الإسناد، لكنَّهُ غير عامٍّ، وإنَّما هو نصٌّ في موؤدةٍ بعينها، فاحتمل التَّأويل.
ولو ترجَّحَ ضعف الحديث على صحَّتِهِ لاكتفيت بإيــراد ما أوردت ، ولاستغنيت عن إيراد الأوجه والاحتمالات الّتي يمكن أن يُحمل الحديث عليها،كما أنَّ الحديث لم يصل إلى المرتبة العُليا من الصَّحيح.
ولهذا فسأذكر بعض الأقوال في توجيهِهِ، وقد تكون هذه الأقوال قريبةً لكنَّنِي لا أتبنَّاها، أو تكون ضعيفةً فأُنبِّه عليها.
قال ابن عبد البَرِّ (2) عن الحديث - أي حديث ابني مُلَيْكة -: "وهو صحيح الإسناد، إلاَّ أنَّه مُحتملٌ أن يكون خرج على جواب السَّائل في عينٍ مقصودةٍ، فكانت الإشارة إليها، وهذا أولى ما حُمل عليه هذا الحديث لمعارضةِ الآثار له، وعلى هذا يصحُّ معناه واللّه أعلم".
وقد فسَّر ابن حَزْمٍ كيف يكون هذا الحديث خاصَّاً بحادثة عينٍ فقال(3) : "وهذه اللَّفظَة - يعني لم تبلغ الحِنْث - ليست بلا شكٍّ من كلام رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - ولكنَّها من كلام سلَمة ابن يزيدٍ الجُعْفيِّ وأخيه، فلمَّا أخبر - عليه السَّلام - بأنَّ تلك الموؤدة في النَّار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما: إنَّها لم تبلغ الحِنْث وتصحيحاً، لأنَّها قد كانت بلغت الحِنْث بخلاف ظنِّهما... وهذا القول حكاه ابن الوزير(4) - على فَرَضِ صِحَّة الحديث - لأنَّه قد مرَّ معنا قبل قليل أنَّه يُضَعِّف الحديث.
وهذا أولى ما حُمِل الحديث عليه عند من ارتَضَوهُ سنداً، ولقد أشْكَلَ على البعض هذا التَّوجِيهِ بِحمْلِ الحديث على الخُصُوصِيَّة، ولكن عند البحث والتَّنْقِيب لا نرى إشكالاً في الأمر،بل إِنَّ الجُنُوح لهذا التَّفسير أولى من بعض التَّفسيرات البعيدة والمُتكلَّفة.
وبيان ذلك بمعرفة ماذا كان يُقصد بالوأد عند العرب، وكيف كانوا يَئِدون .
وعند التَّساؤل الأولي: ما هو الوأد؟ قد تكون الأجابة حاضرةً: هو دفن البنت في حالة الحياة خوف الفقر أو العار . ولكنَّ هذه الإجابة غير كافيةٍ، ولابُدَّ من الرُّجوع للمصادر لمعرفة مرادهم بذلك، ومن الَّذِي كان يقوم بالوأد، ومن كان يستعمله منهم ؟
يقول د. جوادعلي(1) : "الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطِبةً، فكان يستعمله واحدٌ ويتركه عشرةٌ، فجاء الإسلام وقد قلَّ ذلك منها إلاَّ من بني تميمٍ، فإنَّهم تزايد فيهم ذلك قُبيل الإسلام، وقبيلة كِنْدة، وقيس، وأسد، وهُذَيل، وبكرُوائلٍ من القبائل الَّتي عُرف فيها الوأد".
وقد كان العرب في الجاهلية يَئِدون أولادهم بطريقتين(2) : إمَّا أن تأتي المرأة إلى حُفرةٍ وتَلِدَ عندها فإن كان ولداً أمسكوه، وإن كانت بنتاً رمَوْها في الحفرة وأهالوا عليها التُّراب، وإمَّا أن يتركوها تكبر حتَّى تبلع ستَّ سنواتٍ، فيأخذها أبوها ويئدها، وفي الغالب كان الأب يقوم بهذا العمل.
فالوأد عمليةٌ مشتركةٌ قد يقوم بها الأب، أو الأمُّ، ولكلٍ منهما طريقةٌ ، ونصيب الأب فيها أكثر، فلو كان الحديث عامَّاً لكان نصُّه: الوائد والموؤدة في النَّار، ولكن لمَّا لم يكن كذلك، والوائدة هنا لم تكن قد وأدت ابنتها بالطَّريقة المعهودة - أي عند الولادة - فصبرت عليها حتَّى كبرت - وهو المفهوم من كلام السَّائِلين - لم تبلع الحِنْث - ووأدتها بنفسها بطريقة لم تُعهد للنِّساء ، كانت دعوى الخُصوصِيَّة وجِيهةً ، ولا غرابة فيها.
وهناك وجهٌ آخر لتأويل الحديث ذكره القارى وغيره ، وهو مُستبعدٌ، بل مُستَغْربٌ، فقال(3) : "وقد تُؤوَّل الوائدة بالقابلة لرضاها به، والمؤودة، بالمؤودةِ لها، وهي أمُّ الطِّفل فحُذِفت الصِّلة، إذ كان من دَيْدَنِهم أنَّ المرأة إذا أخذها الطَّلْقُ حفروا لها حفرةً عميقةً فجلست المرأة عليها، والقابلة وراءها ترقب الولد.
فإن ولدت ذكراً أمسكته، وإن ولدت أنثى ألقتها في الحُفرة، وأهالت التُّراب عليها. وهو بعيد كما قدَّمت، ولكنَّ البعض قَدَّمه على قول من جعله بسببٍ خاصٍّ(4) .
وعلى هذا فإزالة الإشكال في هذا الحديث تحتمل وجهين:
أولاً: أن نحكم على الحديث بالضَّعف ، كما فعل بعض العلماء، ولا نتشاغل بالتماس أوجه التَّوفيق والجمع.
ثانياً: أن نحمل هذا الحديث على سببٍ خاصٍّ قيل فيه، وهو سببٌ وجيهٌ كما بيَّنت قبل قليلٍٍ.
المطلب الثَّالث: توهُّم تعارض مفهوم الكتاب مع مفهوم السُّنَّة:
لم أُرد من هذا العنوان ما يتبادر إلى الذِّهن من تعريف المفهوم في علم الأُصول الّذي جاء فيه بيان المنطُوق والمفهوم، وتعريف المفهوم وتقسيمه إلى مفهوم مُوافَقةٍ ومُخالفةٍ وما إلى ذلك، ولكنِّي أردت ببساطةٍ أن أُظهر توهُّم التَّعارض بين الكتاب (القرآن) والحديث لا من حيث نصُّ كُلٍّ منهما على نقيض الآخر، بل من حيث ما يُستفاد من الآية وتَناقُضُه مع ما يُفهم من الحديث، مُستعيناً بالتَّعريف الأيسر للمفهوم وهو :" حُكم غير المنطوق في النَّص"(1) ، ولهذا فالمُراد من المفهوم هنا ما مايُقرأ بين السُّطور .
ومثال ذلك قوله تعالى: { وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْه سَبِيْلا }(2) فيُفهم من هذه الآية أنَّ الرِّجال والنِّساء جميعاً داخلون فـي الخِطَاب، لأنَّ لفظ النَّاس يتناولهما جميعاً، ثمَّ لاستوائهما في التَّكليف.
وهذا النَّصُّ عارضه نصٌّ حدِيثِيٌّ قَيَّده، فعن عبداللّه بن عمر أنَّ النَّبيَّ- صلّى اللّه عليه وسلّم - قال:(3) " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ تُسَافِرَ مَسِيْرَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، إلاّ وَمَعَها ذُومَحْرَمٍ ". فهذا الحديث يدلُّ على عدم جواز سفر المرأة وحدها دون محرمٍ.
ووجه التَّعارض بين الحديث والآية جاء ممَّا يلي:
* إنَّ الحجَّ مكتوبٌ على المرأة كما هو على الرَّجل، والحجُّ غالباً ما يَقْتضِي السَّفر، ممَّا يُوجِبُ على المرأة أن تُسافر لِتحُجَّ.
* ورد في النَّصِّ الحَدِيثيِّ عدم جواز سفر المرأة وحدها دون مَحرمٍ، وعلى هذا فلا يجوز سفرها للحجِّ وحدها كما لا يجوز لغيره، ولهذا تعارض مفهوم الآية الَّذي يُوجب عليها الحجَّ ومن ثَمَّ السَّفر له، ومفهوم الحديث الَّذي منعها من السَّفر بإطلاقٍ ومعه السَّفر إلى الحجِّ.
وهذا ما فَهمه عددٌ من العلماء عندما ذكروا هذا الحديث في أبواب الحجِّ والمناسك، مِمَّا يُعدُّ قولاً لهم في عدم جواز سفر المرأة للحجِّ دون مَحرمٍ.
وقال التِّرْمِذِيٌّ في "الجامع"(1) :" والعمل على هذا عند أهل العلم، يكرهون للمرأة أن تسافر إلاّ مع ذي مَحرم.
واختلف أهل العلم في المرأة إذا كانت مُوسِرةً ولم يكن لها مَحرمٌ هل ، تحجَّ؟
فقال بعض أهل العلم: لا يجب عليها الحجَّ، لأنَّ المَحرم من السَّبيل لقول اللّه - عزَّ وجَلَّ -: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيْلاً} فقالوا: إذا لم يكن لها مَحرمٌ فلا تستطيع إليه سبيلاً، وهو قول سفيان الثَّوريِّ وأهل الكوفة.
وقال بعض أهل العلم: إذا كان الطَّريق آمناً، فإنَّها تخرج مع النَّاس في الحجِّ وهو قول مالكٍ والشَّافِعيِّ ".
فواضِحٌ أنَّ اختلاف العلماء في هذه المسألة نابعٌ من إدْراكِهم للتَّعارض بين مفهومي الآية والحديث، فتَفَرَّعت بناءً على ذلك مذاهبهم وآراؤهم.
وقد أشار المَازِريُّ لهذا التَّعارض وإلى مذاهب العلماء فقال(2) : "أبو حنيفة يشترط في وجوب الحجِّ على المرأة وجود ذي مَحرمٍ، والشَّافِعيُّ يشترط ذلك أو امرأةً واحدةً تحجَّ معها، ومالكٌ لا يشترط من ذلك شيئاً.
وسبب الخِلاف معارضةُ عُموم الآيةِ بهذا الخبر، فعموم الآية قوله تعالى: من استطاع اليه سبيلا* يقتضي الوجوب وإنْ لم يكن ذو مَحرمٍ، والحديث يُخصِّصُ ذلك، فمَنْ خصَّصَ الآية به اشترط المَحرم، ومَنْ لم يُخصِّصْها لم يشترط، وقد يَحْمل مالك الحديث على سفر التَّطَوُّع.
ويُؤيِّد مذهبه أيضاً أن يقول: اتُّفِق على أنَّ عليها أن تهاجر من دار الكفر وإنْ لم يكن معها ذو مَحرمٍ لمَّا كان سفراً واجباً، وكذلك الحجُّ. وقد ينفصل عن هذا بأن يقال: إقامتها في دار الكفر لا تَحِلُّ ويُخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التَّأخير عن الحجِّ”.
وأرى أنَّ مَن جمع بين المُتعارضين بحَمْلهما على العُموم والخُصوص فيكون الحديث مُخصِّصاً للآية أقرب للصَّواب من غيره، ولهذا فقد خالف الإمام النَّوَويُّ مذهبه ورجَّح رأي الجمهور الَّذي لا يرى جواز سفر المرأة للحجِّ إلاّ مع زوجٍ أو مَحرمٍ وقال (6) :"وهذا هو الصَّحيح للأحاديث الصَّحيحة".
المبحث الثَّاني: تعارض الحديثين
إنَّ التَّعارض بين الأحاديث هو ميدان هذا الفنِّ الأكبر، بل إنَّ الذِّهنَ لينصرف إليه عند سماع كلمة تعارض، وما ذلك إلاّ لكثرته واشتهاره، ولمّا كان الحديث يشمل القول والفعل والتَّقرير، فإنَّ القول قد يتعارض مع القول أو القول مع الفعل، أو القول والفعل مع التَّقرير، وهذه الأمور سوف يكون عليها مدار الكلام في هذا المبحث.
المطلب الأوّل: تعارض القولين:
وهذا الّلون من التَّعارض موجودٌ بكثرةٍ كما مرَّ قبل قليلٍ، وهذا التَّعارض قد يكون صريحاً منطوقاً به في كلا الحديثين، وقد يكون صريحاً في حديثٍ، غير صريحٍ في آخر لكنَّ مفهومه يدلُّ على التَّعارض، وهذه أمثلةٌ على ذلك .
أولاً: ورود التَّعارض بين قولين لفظهما صريحٌ، ومثاله: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -: "لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاّ فِي فَرِيْضَةٍ، وَإنْ لَمْ يَجِدْ أحَدُكُمْ إلاّ عُودَ كَرْمٍ أوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ"(1) .
وهذا الحديث يتعارض مع أحاديث مُتنوِّعةٍ تُجيز صيام السَّبت، ومنها الحديث الّذي أشار إليه الحاكم بأنَّه معارضٌ لهذا الحديث، حيث قال عند روايته(2) :"صحيحٌ على شرط البُخاريِّ ولم يُخرِّجاه، وله مُعارضٌ بإسنادٍ صحيحٍ قد أخرجاه(1) : حديث همام عن قتادة عن أبي أيوبٍ العَتَكِيِّ، عن جُويْرِيَّة بنت الحارث أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - دخل عليها يوم الجُمعة وهي صائمةٌ فقال: "صُمْتِ أمْسِ"؟ قالت: لا، قال: "فَتُرِيْدِينَ أنْ تَصُومِي غَدَاً "؟ الحديث.
ومنها الحديث الّذي أخرجه البُخاريُّ(2) عن أبي هُريرة قال: سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم - يقول: "لا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلاّ يَوْمَاً قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ ".
فواضحٌ أنَّ بين هذين الحديثين وحديث النَّهي عن صيام السَّبت تعارُضاً ظاهراً، إذ هما يُجيزان للمرء أن يصوم السَّبت إن صام قبله الجُمُعه، وواضحٌ أنَّ سِياق الحديثين لم تذكرالفريضة فيهما، بل ما تَطوُّعٌ محضٌ، بعكس حديث الباب. ولا يفهم من استشهادي بهذين الحديثين أنَّهما المعارضان لحديث النَّهي عن صيام يوم السَّبت فحَسبُ، إذ أنَّ هناك أحاديث أُخرى يُفهم من سياقها التَّعارض والتَّناقض. ومنها: حديث صيام داود(3) أنَّه كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ممَّا يُوجب أن يقع ضمن صيامه يوم السَّبت مرتين كلَّ شهرٍ على الأقلِّ، وكذلك صيام الأيام البِيْض(4) من كلِّ شهرٍ، فإنَّه لابدَّ أن يُصادف السَّبتُ أحدَ هذه الأيام إلى غير ذلك من الأحاديث المُعارضة.
وعلى هذا فإنَّنا يجب أن نفهم أن هذا الحديث معارضٌ لجملةٍ من الأحاديث، وليس لحديثٍ واحدٍ، ولذلك اختلفت أقوال العلماء في الحديث، وفي توجيه التَّعارض والتَّناقض في الحديثين، في كلام يطول ويتفرَّع، وسوف يكون كلامي على هذا الحديث من وجهين ؛ أوّلهما: النَّظر في صحَّة الحديث، وثانيهما: النَّظر في توجيهه في مقابلة هذه الأحاديث المعارضة له.
أمَّا بالنِّسبة للنَّظر في صحَّة الحديث فقد اختلف العلماء والباحثون قديماً وحديثاً في صحَّة هذا الحديث، وفي حُجِّيته، فمن كاتمٍ ومُكذِّبٍ ومُضَعفٍ له، إلى مُصحِّحٍ له ،بل إلى من يضعه في أعلى درجات الصِّحَّة، ويجعله أصلاً تتفرَّع عنه مسائل.
وللوقوف على حقيقة ذلك أنقل ما يلي:
روى أبو داود(6) عن مالك أنَّه قال: هذا حديثٌ كذبٌ.
طريقة من صحَّحَه، ورجَّح عبد الحقِّ الرِّواية الأولى، وتَبِع في ذلك الدَّارقُطني، لكنَّ هذا التَّلوُّن في الحديث الواحد، بالإسناد الواحد، مع اتِّحاد الَمْخرج، يُوهِّن روايه، ويُنْبِىءُ بِقلَّة ضَبطِهِ، إلاّ أنْ يكونَ من الحُفَّاظ المُكثرين المعروفين بجمع طُرق الحديث فلا يكون ذلك دالاً على قِلَّة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا، بل اخْتُلِف فيه أيضاً على الرَّاوي عن عبد الله بن بُسرٍ أيضاً".
وقد بحث ابن القيِّم(1) هذا الحديث بحثاً طويلاً تناول فيه أقوال من رفَض الحديث وضعَّفه، أو حمله على النَّسخ أو غيره فأجاب عما احتوته، وتعرَّض لأقوال من كرِه الحديث وتعرَّض لحُجَجهم ثُمَّ قال(2) :"واحتجَّ الأثرم بما ذُكر في النُّصوص المتواترة على صوم يوم السَّبت، يعني أن يُقال: يمكن حمل النُّصوص الدَّالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النَّهي على صومه وحده، وعلى هذا تتَّفقُّ النُّصوص.
وهذه طريقةٌ جيِّدةٌ لولا أنَّ قوله في الحديث: "لا تَصُوُمُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاّ فِيْمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ " دليلٌ على المنعِ من صومه في غير الفرض مُفرداً أو مضافاً، لأنَّ الاستثناء دليل التَّناول، وهو يقتضي أنَّ النَّهي عنه يتناول كُلَّ صُور صومه، إلا صورة الفرض، ولو كان إنَّما يتناول صُورة الإفراد لقال: لا تصوموا يوم السَّبت إلا أن تصُوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، كما قال في الجُمعة.
فلمَّا خصَّ الصُّورة المأذون في صَومها بالفريضة، عُلم تناول النَّهي لما قابلها، وقد ثَبت صوم يوم السَّبت مع غيره بما تقدَّم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة: "إلا أنْ تَصُومُوا يَوماً قبله أو يَوْماً بَعْدَه" فدلَّ على أنَّ الحديث غيَر محفوظٍ وأنَّه شاذٌّ ، وإلى مثل هذا ذهب شيخه ابن تَيميَّة قبله وقال(3) : بعد أن ساق أقوال بعض من رفض الحديث: "وعلى هذا فيكون الحديث إمَّا شاذّاً غير محفوظٍ وإمَّا منسوخاً، وهذه طريقة قُدماء أصحاب أحمد الذين صحِبوه، كالأثرم، وأبي داود..."وقال(4) :"وأمَّا أكثر أصحابنا ففهِموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحملِه على الإفراد، فإنَّه سُئِل عن عين الحكم فأجاب بالحديث، وجوابُه بالحديث يقتضي اتِّباعُهُ ".
وخلاصة القول في هذا الحديث بأنَّه يحتمل أحد أمرين:
أوّلاً: الجمع ، وهذا يقود إلى قبول قول من حمل النَّهي على أنَّه نهيٌ عن إفراد الصَّوم يوم السَّبت، لا منع الصَّوم مُطلقاً.
ثانياً: التَّرجيح وهنا يرجح قول من - ذكر أنَّ الحديث شاذٌّ.
لذا فإنِّي أُرجِّح القول الأول، مختتماً ومستشهداً بكلمة لمرعي الكرمي(1) وهي نهايةٌ في التَّحقيق حيث قال(2) : فهذا الشَّارع قسَّم الأيام باعتبار الصَّوم ثلاثة أقسامٍ:
قسمٌ شُرع تخصيصه بالصِّيام إمَّا إيجابا كرمضان ، أو استحباباً كيوم عرفة وعاشوراء .
وقسمٌ نُهي عن صومه مُطلقاً كيوم العيدين.
وقسمٌ نُهى عن تخصيصه كيوم الجُمعة، وسُرَر شعبان، وإفراد صوم السَّبت، وإفراد رجب ، فلو صِيم مع غيره، أو وافق عادةً لم يُكره.
ثانياً: ورود التَّعارض في قولين ؛ أحدهما دلالته ظاهرةٌ، والآخر دلالته مُستنبطةٌ ، ومثال ذلك: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - لرجل عندما وجده يمشي بين القُبور وعليه نعلان فناداه النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - "يَا صَاحِبَ السَّبْتِيَّتَيْنِ وَيْحَكَ ألْقِ سِبْتِيَّيَتْكَ" فنَظر الرَّجل فلمَّا عرف رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - خلعهما فرمى بهما(3) .
فهذا الحديث الصَّريح في منع المشي بين القُبور بالنِّعال يُعارضه حديثٌ آخر فُهِم منه جواز المشي بين القبور بالنِّعال ، وهو ما روى البُخاريُّ(4) ومُسلمٌ (5) والّلفظ له - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -:"إنَّ الميِّت إذا وُضِع في قَبْره، إنَّه لَيَسمع خَفْق نِعالِهم إذا انْصرفوا".
فيُفهم من هذا الحديث جواز المشي بين القُبور بالنِّعال، وإلا لم يقل: "ليَسْمع خَفْقَ نِعالِهم". وهذا ما فهمه غيُر واحدٍ من العلماء من هذا الحديث ومنهم الطَّحاويُّ(1) إذ قال قبل روايته لهذا الحديث: "وقد رُوي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ما يدلُّ على إباحة المشي بين القُبور بالنِّعال، ثُمَّ ساق هذا الحديث.
ولإزالة هذا التَّعارض الوارد بين الحديثين لجا بعض العلماء إلى الجمع بينهما وذهب آخرون إلى التَّرجيح.
أمَّا الّذين ذهبوا إلى الجمع فقد قال بعضهم: إن النَّهي الّذي كان في حديث بشير - أي الحديث الأول - للنجاسة التي كانت في النعلين لئلا ينجس القبور، كما قد نهى أن يتغوط عليها أو يبال. والى هذا الرأي ذهب الطحاوي(2) والبيهقي(3) ، وأبو عبيد(4) وذكره النووي(5) كأحد أوجه الجمع بين الحديثين.
والتسليم لهذا الرأي فيه نظر اذ يعوزه النقل، ولو كان في النعل قذر أو نجاسة لنقل هذا في احدى روايات الحديث ، ولهذا شن ابن حزم بأسلوبه المعهود هجوما على أصحاب هذا الرأي فقال(6) : “وقال بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه فقال: لعل تينك النعلين كان فيهما قذر.
قال أبو محمد - أي ابن حزم - من قطع بهذا فقد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، اذ قوله ما لم يقل، ومن لم يقطع بذلك فقد حكم بالظن، وقفاما لا علم له به”.
قلت: فاني وان لم أوافق ابن حزم على عباراته، الا اني أرضى استنتاجه.
وذهب آخرون الى أنه - صلى الله عليه وسلم - وانما نهى عن النعال السبتية - وهي المدبوغة بالقرظ - لما فيها من الخيلاء، قال الخطابي(7) : “وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم، قال الشاعر يمدح رجلا: ويحذي نعال السبت ليس بتوأم(8) .
وقال أبو عبيد(9) : وانما ذكرت السبتية لأن أكثرهم في الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة، الا أهل السعة منهم والشرف.
وهناك رأيٌ آخر في الجمع هو لابن حزم(1) ، اذ أنه رأى أن النهي عن المشي بين القبور مختص بالنعال السبتية، لأنها سبتية دون أن يعلل جريا منه على حمل المراد على ظاهر اللفظ، فقال بعد رواية حديث “ان العبد اذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم” فهذا اخبار منه - عليه السلام - بما يكون بعده، وأن الناس من المسلمين سيلبسون النعال في مدامن الموتى الى يوم القيامة على عموم انذاره - عليه السلام - بذلك، ولم ينه عنه، والأخبار لا تنسخ أصلا، فصح اباحة لباس النعال في المقابر، ووجب استثناء السبتية منها، لنصه - عليه السلام - عليها. والى هذا الراي الأخير مال القاضي أبو يعلى حيث قال(2) : “ذلك مختص بالنعال السبتية لا يتعداها الى غيرها، لأن الحكم تعبدي غير معلل، فلا يتعدى مورد النص.
أما الذين ذهبوا الى الترجيح فقد تمسكوا بظاهر النهي، وحملوا المراد بالنعال على العموم ولم يخصوها بالسبتية، فقد نقل ابن القيم(3) أن الامام أحمد قال عن اسناد هذا الحديث الذي فيه النهي: انه جيد، وأنه يذهب اليه الا من علة.
وقال ابن القيم عن تعارض الحديثين(4) : “وأما معارضته بقوله - صلى الله عليه وسلم - “انه يسمع قرع نعالهم” فمعارضة فاسدة فان هذا اخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالواقع ، وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا لا يدل على الاذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، اذ الاخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه ولا تحريمه ولا حكمه، فكيف يعارض النهي الصريح به”.
والى قريب منها ذهب ابن حجر (5) - رحمه الله - فقال بعد حكايته الحديث: واستدل به على جواز المشي بين القبور ولادلة فيه. ... وقال أيضا: وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء فإنَّه متعقَّب بأنَّ ابن عمر كان يلبس النِّعال السِّبْتيَّة ويقول: إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - كان يلبسها، وهو حديثٌ صحيحٌ(1) .
قلت: ولا يمنع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس هذه النعال في حياته المعتادة أن ينهى عنها عند دخول المقابر، لأنه لا يتلاءم مع ما يجب أن يكون عليه المؤمن من خشوع وخضوع وتواضع، لذا أراني أميل الى رأي الخطابي مع هذه الملاحظة التي ربما فاتت البعض من العلماء وبنه عليها النووي(7) . وبهذا يزول التعارض دون الحاجة الى أهمال أحد الحديثين.
ويلتحق بهذا المطلب وجود التعارض في القول الواحد، أي في الحديث نفسه كما زعم من ادعى التناقض على الأحاديث، ومثاله ما أورده ابن قتيبة عندما قال(8) : “قالوا حديث يفسد أوله آخره، قالوا: رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: “اذا قام أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا، فانه لا يدري أين باتت يده”(9) قالوا: وهذا الحديث جائز لاولا قوله فانه لا يدري أين باتت يده، وما منا أحد الا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه، وحيث باتت رجله، وأذنه ، وأنفه وسائر أعضائه ، وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه في نومه، ولو أن رجلا حس فرجه في يقظته لما نقض ذلك طهارته فكيف بأن يمسه وهو لا يعلم، والله لا يؤاخذ الناس بما لا يعلمون.
فالمعترضون على هذا الحديث كما يظهر اعترضوا على أمرين، وجدوا أنهما غير معقولين.
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم - : “أين باتت يده” حيث فهموا منه أن جسمه يبات في مكان ويده في مكان آخر، ولهذا أوردوا الاعتراضات التي تبين ذلك حيث جاء: وما منا أحد الا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه وحيث باتت رجله. وهذا الاعتراض منقوض بالروايات الأخرى عند ابن خزيمة(10) والدارقطني(11) بزيادة لفظه منه، فقد قال ابن خزيمة(12) : باب ذكر الدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انما أراد بقوله: “فانه لا يدري أين باتت يده منه”، أي أنه لا يدري أين باتت يده من جسده، ثم روى الحديث ولفظه: “اذا استيقظ احدكم من نومه فلا يغمس يده في انائه، أو في منوئه حتى يغسلها فانه لا يدري أين باتت يده منه”. واسناده في هذا الحديث صحيح. فبهذا ينتقض الاعتراض الأول.
وثانيهما: انه يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - أين باتت يده ، أي على أي جزء من أجزاء جسمه وهذا لا يوجب غسلا لليد، لأن أقصى ما يمكن أن تمسه الفرج، ويرى المعترضون أن الوضوء من مس الفرج في اليقظة لا يوجب غسلا لليد أو وضوءا فكيف بالنوم وهو مقام احتمال ليس الا؟
وقد ذكر النووي تعليل هذا الأمر عن الشافعي فقال(1) : سببه ما قاله الشافعي - رحمه الله - وغيره أن أهل الحجاز كانوا يقتصرون على الاسنجاء بالأحجار وبلادهم حارة، فاذا نام أحدهم عرق، فلا يأمن أن تطوف يده على المحل النجس أو على بثره أو قمله ونحو ذلك فتتنجس”. فالعلة اذا ليست مجرد الخوف من مس الفرج بل الخوف من التنجس ولهذا قال الشاطبي(2) : “اذ النائم قد يمس فرجه فيصيبه شيء من نجاسة في المحل لعدم استنجاء تقدم النوم، او يكون قد استجمر فوق موضع الاستجمار، وهو لو كان يقزظان فمس لعلم بالنجاسة اذا علقت بيده فيغسلها قبل غمسها في الاناء لئلا يفسد الماء، واذا أممكن هذا لم يتوجه الاعتراض”.
فبهذا التعليل يندفع الاعتراض التثاني، وهو تعليل مقبول ومعقول اذا الخشية لابد مترتبة من خوف اصابة النجاسة، ولهذا نقل ابن عبد البر(3) الاجماع عن جماهير العلماء في الذي يبيت في سراويله وينام فيها، ثم يقوم من نومه ذلك أنه مندوب الى غسل يده قبل أن يدخلها في اناء وضوئه، قال: وفهم من أوجب عليه مع حاله هذه غسل يده فرضا. وعلل ابن عبد البر(4) الندب فيمن هذه حالة بأن من بات في سراويله لا يخاف عليه أن يمس بيده نجاسة في الأغلب من أمره.
المطلب الثاني: توهم تعارض القول مع الفعل:
وذلك أن يرد قول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه نهي عن أمر ما ثم ينقل لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قام بهذا الأمر وفعله، مما يجعل الناظر إلى هذين النَّصين في حيرة واضطراب، ان لم يكن في شك وارتياب.
وابتداء قد تكون الإجابة حاضرة وميسورة بأن نقدم الآخر على الأول منهما، أي أن نحمل الأمر على النسخ ان استطعنا معرفة زمن كل منهما، عند من يقولون بجواز نسخ القول بفعل، أو أن نرجح القول على الفعل، لأن دلالة القول أقوى من دلالة الفعل ، ولا يعتريه ما يعتري الفعل من احتمالات تصرفه عن أن يكون بقوة القول ، كأن يكون من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن هذه الاجابات لا تكون الا بعد دراسة النصين سندا او متنا، وتقديم أجوبة مقبولة مقنعة، مع الأخذ بعين الاعتبار القواعد الحديثية والأصولية.
أما ادعاء الخصوصية فهيهات، اذ لابد من نص يثبت التخصيص، والخصوصية لا تثبت بالاحتمال، ولا يمكن ادعائهما بمجرد التعارض والتضاد، ثم اني أفهم الخصوصية التي خص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة في احكام العبادات تميل نحو التشديد عليه لا العكس، اذ لا يعقل أن يامر أمته بأمر فيه عزيمة، ثم يترخص لنفسه - صلى الله عليه وسلم - فمثلا التهحد سنة على المؤمنين، لكنه فرض عليه - صلى الله عليه وسلم (5) - كما ذهب الى ذلك أغلب المحققين وكذا عند أكثر المفسرين في تفسيرهم لقوله تعالى(6) : {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} قال البغوي(7) : وكانت صلاة الليل فريضة على - النبي صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى(8) : {يا أيها المزمل قم الليل الا...} ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى(9) : {فأقرؤا ما تيسر منه} وبقي الوجوب ثابتاً في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله(10) :{نافلة لك} أي زيادة لك، يريد فريضـــــــة زائدة على سائر الفرائض.
وهذا القول مروي عن ابن عباس، فقد ذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: يعني النافلة، أو بقيام الليل وكتب عليه، وذكر أن مجاهدا قال: انها نافلة وليست فرضا، وعقب بقوله: وأولى القولين بالصواب في ذلك القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل دون سائر أمته، فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك فقول لا معنى له.
فبعد هذا الاستطراد الذي اضطررت اليه لتأييد ما ذهبت اليه من أن الخصوصية في العبادات تميل في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وأمته من بعدهم بالشيء الذي فيه عزيمة، ثم يأتيه بدعوى التخصيص، ومن أدعى هذا فعليه البينة.
ومن أمثلة التعارض بين القول والفعل ما رواه البخاري(11) ومسلم(12) في صحيحهما - واللفظ للبخاري - عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: “اذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا”.
ثم ما نقله البخاري(13) عن ابن عمر أنه كان يقول: “ان ناسا يقولون اذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر، لقد ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته”.
ولقد اختلفت أنظار العلماء لهذين الحديثين مع أحاديث أخرى انضافت اليهما، ولكنها لا تخرج عما فيهما - وبناء على ذلك اختلفت اجتهاداتهم ومذاهبهم، ولا أريد أن أدخل في تفصيلات المذاهب من حيث النهي عن الاستقبال، أو الاستدبار، وهل هو عنهما معا، وهل يجوز الاستقبال دون الاستدبار، أم هما مباحان معا، لأن هذا وان كان متعلقات، الباب الا أنه لا يقذم كثيرا أو لا يوخر كما أرى، ولهذا فلسوف ابحث في قضية النهي عن الاستقبال والاستدبار معا، كما نطق بذلك الحديث، وما نقل الينا من استقبال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو استدبار القبلة كما نقل الينا من فعله، فالذي يهمني بالدرجة الأولى هو بحث تناقض القول مع الفعل. وللتوفيق بينهما نجد عدة اراء.
منها أن البعض ذهب الى أن النهي على ما هو عليه، والفعل مختص به - صلى الله عليه وسلم - قال السيوطي(1) : “وقال آخرون: هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والأحاديث الدالة على المنع باقية بحالها، وأيده ابن دقيق العيد: بأنه لو كان هذا الفعل عاما للأمة لبينه لهم باظهار بالقول، فان الأحكام لا بد من بيانها. وقد رد ابن حجر هذا الرأي فقال(2) : “ودعوى خصوصية ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا دليل عليها اذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال”.
وذهب آخرون الى النسخ كما يوحي بذلك ضيع ابن شاهين(3) حيث ساق بعد حديث النهي عدة أحاديث، منها حديث ابن عمر المتقدم آنفا، وحديث جابر ابن عبد الله، قال(4) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا أن نستدبر القبلة، أو نستقبلها بطروحنا اذا أهرقنا الماء، ثم قد رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة. وعقب على هذه الأحاديث برايين أحدهما قوله: وهذا يدل على أن حديث النهي نسخ بغيره والى هذا جنح الحازمي(5) وغيره.
وقد تعقب عدد من العلماء من ذهب الى هذا فهم ابن الجوزي حيث قال(1) : “وقد ظن جماعة نسخ الأول بالثاني وليس كذلك”، وقال النووي(2) : “وأما قولهم ناسخان فخطأ ، لأن النسخ لا يصار اليه الا اذا تعذر الجمع، ولم يتعذر هنا”.
ثم انه قد غاب عن الأذهان أن الفعل لا ينسخ القول، بل ان من زعم النسخ لا يستطيع أن يدافع عن شبهة خطيرة، وهي لو لم يرتقي ابن عمر، أو يشاهد جابر فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما نقل الينا الخلاف، فيكون عمل الأمة جميعا على الحديث المنسوخ، وهذا باطل بين البطلان.
وذهب فريق ثالث، وهو أعدل الأقوال وأحكمها الى التفريق بين قضاء الحاجة في الخلاء، وبين قضائها في البنيان، فمنعوا الأول، وأجازوا الأخير.
قال الشافعي(3) : كان القوم عربا، انما عامة مذاهبهم في الصحاري، وكثير من مذاهبهم لا حش فيها يسترهم، فكان الذاهب لحاجته اذا استقبل القبلة أو استدبرها استقبل المصلي بفرجه أو استدبره، ولم يكن عليهم ضرورة في أي بشرقوا أو يغربوا، فأمروا بذلك. وكانت البيوت مخالفة للصحراء فاذا كان بين اظهرها كان من فيه مستترا لا يراه الا من دخل أو أشرف عليه، وكان المذاهب بين المنازل متضايقة لا يمكن من التحرف فيها ما يمكن في الصحراء ، فلما ذكر ابن عمر ما رأى من رسول الله من استقباله بيت المقدس، وهو حينئذ مستدبر الكعبة دل على أنه انما نهى عن استقبال الكعبة واستدبارها في الصحراء دون المنازل.
وقد صح ابن عبد البر هذا الرأي وارتضاه فقال(4) : “والصحح عندنا الذي يذهب اليه ما قاله مالك وأصحابه، والشافعي لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها دون رد شيء ثابت منها.
وهو من أسلم الأداء وأحكمها، ويؤيده ما نقل عن مروان الأًغر قال(5) : “رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول اليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ، أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى، انما نهي عن ذلك في الفضاء، فاذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس”.
ويلتحق بتعارض القول مع الفعل، تعارض الهم بالفعل مع القول، ولا شك أن الهم بالفعل ليس بفعل ، وان كان الله - تعالى - يثيب على الهم بالحسنة، ولا يعاقب على الهم بالسيئة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : “من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فان هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة”(6) .
والهم مرحلة تسبق الفعل مباشرة تسبقها مراحل، اذ نقل السيوطي(7) عن السبكي (8) انه قال: الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمسة مراتب: الأول: الهاجس، وهو ما يلقي فيها، ثم جريانه فيها وهو الخاطر، ثم حديث النفس، وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا؟ ثم الهم، وهو ترجيح قصد الفعل، ثم العزم، وهو قوة ذلك القصد والجزم به.
ورأى القرافي(9) أن الهم والعزم مترادفان فقال(10) بعد تعريفه للهم والعزم: “فظاهر أنه -أي الهم - مراد في للعزم، وأن معناهما واحد”.
ويرى الغزالي(11) أن أحوال القلب قبل العمل بالجارحة أربعة(12) : الخاطر، وهو حديث النفس، ثم الميل، ثم الاعتقاد، ثم الهم.
اذا فالهم عند جميعهم - تقريبا - هو المرحلة التي تسبق الفعل تماما.
أما مثال تعارض الهم مع أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو ما ورد في الصحيحين(13) واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: “والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف والى رجال فأحرق عليهم بيوتهم،...”.
وهذا يتعارض مع حديث آخر رواه البخاري(14) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث، فقال: “ان وجدتم فلانا وفلانا، فاحرقوهما بالنار” ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: “اني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وان النار لا يعذب بها الا الله، فان وجدتموهما فاقتلوهما”.
وواضح جلي أن الهم بالتحريف، يتعارض مع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحرق بالنار، ولدفع التعارض يرى ابن حجر(15) أن التحريق كان ثم نسخ، وذكر هو وغيره الاجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.
المطلب الثالث: توهم تعارض الفعلين:
ان ادعاء تعارض الأفعال على النبي - صلى الله عليه وسلم - من مستشنع الأمور، اذ كيف يعزى تضاد الأفعال لرجل ما فضلا عن نبي مشرع يوحي اليه، ولهذا يجب التأني والتريث عند ادعاء التعارض، فان كنا نستطيع حمل تعارض القولين على النسخ أو غيره، وحمل تعارض القول والفعل على الخصوصية وما شابهها، فاننا نجد صعوبة عند ورود تعارض الفعلين.
ولمزيد القاء الضوء على قضية تعارض الفعلين لابد من استطراد أصولي بين أقوال العلماء في هذه المسألة، وقد لخص أقوالهم ورتبها الدكتور محمد سليمان الأشقر، فهائنذا أنقل من كتابه(16) بتصرف قال:
1 - ذهب القاضي الباقلاني الى القول الأول، فرأى أن الفعلين لا يتعارضان، وأن التعارض فيهما محال، يقول في كتابه التقريب: “دخول التعارض على الفعلين محال، لأنه ان وقعا من شخصين، أو من شخص واحد في وقتين، أو على وجهين مختلفين لم يكن بينهما تعارض، لأن الفعل يكون من أحد الفاعلين قربة، ويكون من الآخر معصية، ويكون من الشخص الواحد في وقت قربة، وفي وقت آخر حراما”(17) .
وقال العلائي(18) : هذا القول هو الذي اطبق عليه جمهور أئمة الأصول”.
2 - وذهب جمع آخر من العلماء الى القول الثاني، وهو ان وقوع التعارض يفيد جواز فعل الأمرين، أو نسخ الأشد للأيسر كنسخ الوجوب للندب، أو نسخ التحريم للأقل وهكذا.
وحقيقة الأمر أن التعارض قد يرد، وواجبنا حينذا أن ننظر في كيفية ازالة هذا التعارض، لا في نفيه، أو القول باستحالته، وعلى هذا يجب التعامل مع الأمثلة اللاحقة.
ومثال ما وقع التعارض فيه بين الأفعال ما رواه البخاري(1) في “صحيحه” عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة.
ثم ما رواه ايضا(2) عن عبد الله بن زيد ان النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين.
وما رواه(3) عن عثمان بن عفان أنه دعا باناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الاناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه الى المرفقين ثلاث مرارظ، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار الى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه.
وشاهدي من سياقة هذه الأحاديث اظهار الاختلاف بين روايات هؤلاء الصحابة فقائل ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وآخر ذكر أنه توضأ مرتين مرتين، وثالث قال انه توضأ ثلاثا ثلاثا. فلو اعترض معترض على هذه الأفعال بالتناقض أو التدافع لوجد من يؤيده ويقف في صفه.
ولكن الفهم العميق، والتدقيق في اطلاق الألفاظ يأبي علينا الموافقة على تعارض هذه الأحاديث والأفعال، اذ من الممكن توجيهها وازالة الاختلاف عنها.
ولازالة التعارض يمكن حمل الأمر على الجواز، أي جواز الوضوء مرة مرة، وجوازه مرتين، وثلاثا. وقد جعل الشافعي(4) وابن خزيمة هذا الاختلاف من باب اختلاف المباح، قال الشافعي: “ولا يقال لشيء من هذه الاحاديث مختلف مطلقا، ولكن الفعل فيها يختلف من وجه أنه مباح، لا اختلاف الحلال والحرام، والأمر والنهي ، ولكن أقل ما يجزيء من الوضوء مرة، وأكمل ما يكون من الوضوء ثلاث”.
وقال ابن خزيمة(1) : “باب اباحة الوضوء مرة مرة، والدليل على أن غاسل اعضاء الوضوء مرة مرة مؤد لفرض الوضوء، اذ غاسل أعضاء الوضوء مرة مرة واقع عليه اسم غاسل، والله - عز وجل - أمر بغسل أعضاء الوضوء بلا ذكر توقيت، وفي وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، واعضاء الوضوء شفعا، وبعضه وترا دلالة على أن هذا كله مباح، وأن كل من فعل في الوضوء ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات مؤد لفرض الوضوء، لأن هذا من اختلاف المباح، لا من اختلاف الذي بعضه مباح وبعضه محظور".
وهذا منهما محمل حسن، وهو نظير قولهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في المغرب بكذا وكذا، واخبار آخر أنه كان يقرأ بسور مختلفة وهكذا فان هذا كله لا يقال له اختلاف، انما هو من باب المباح. ولقد رأيت ابن حبان والبيهقي وابن عبد البر يسلكون هذا المسلك لدفع التعارض عن الافعال. وكذا غير واحد من العلماء غيرهم، الا أني رأيت ابن تيمية قد اطلق على اختلاف المباح اختلاف التنوع، وعلى ضده اختلاف التضاد، وهو اطلاق حسن .
قال ابن تيمية(2) : أما أنواع الاختلاف فهي في الاصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه، منه ما يكون كل واحد من القولين أو أو الفعلين حقا مشروعا كما في القرآءات التي اختلف فيها الصحابة... ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والاقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازه الى غير ذلك مما شرع جميعه...".
فعلى هذا فتعارض الفعلين هنا غير مؤثر، وانما هو اختلاف مباح وتنوع يجوز الاقتصار فيه على الوضوء مرة ويجوز مرتين، وتجوز ثلاثا. وهذا التعارض لم يؤثر على المقولات الفقهيه، اذ لم يوجد من الفقهاء من تحيز لهذا الفعل، ومنهم من تحيز لذاك، ولكن هناك أنواعا من تعارض الفعل قد أثرت ، وكان لها صدى في مجال الفقه ومثالها:
ما روي البخاري في صحيحه(3) عن عبدالله بن بحينه - رضي الله عنه - أنه قال ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك.
وروى أيضا عن عبد الله - وهو ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم.
فهذا فعلان مختلفان، رويا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد صحيحة.
وهذا الاختلاف ليس كسابقه، اذا ترتب عليه اختلاف أحكام سجود السهو بين العلماء، وبناء على ذلك اختلفت اجتهاداتهم في هذه المسألة.
فمنهم من ذهب الى أن السجدتين قبل السلام مطلقا وهم الشافعية(1) ، ومنهم من ذهب الى انه بعد السلام مطلقا وهم الحنفية(2) ، وذهب آخرون الى التفصيل وهم المالكية(3) فقالوا: ان كان السهو بزيادة فالسجود له بعد السلام، وان كان بنقصان فالسجود قبل السلام. أما أحمد والظاهرية فقالوا بالعمل بالأحاديث جميعا، أي السجود قبل السلام أحيانا، وبعد أحيانا أخرى حسب ما كان يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ويجب التنبيه هنا الى أن اختلافاتهم الكثيرة في شأن سجود السهو لم يكن مصدرها هذين الحديثين فقط، بل كان الاعتماد على عدد آخر من الأحاديث، ولكن الحديثين الذين وصفا فعل النبي كانا اساسيين في المسألة ومرجحين عند حصول الاشكال. وقد ذكر النووي (4) الاحاديث التي اعتمد عليها العلماء عند بيانهم أحكام سجود السهو، وبين أقوال كل منهم.
وأرى أن تفصيل المالكية تفصيل حسن يذهب التعارض والتضاد، وان كان رأى الشافعية كذلك لا يخلو من قوة ووجاهة. والكلام في هذه المسألة قد يطول فأكتفى بما نقلت من أقوال العلماء محيلا على كتبهم، وأرى أن أهمها كتاب العلائي(5) "نظم الفرائد لما تصمنه حديث ذي اليدين من الفوائد" فهو مخصص لهذه المسألة. مستوعب لأقاويل العلماء ومناقشتها.
المطلب الرابع: توهم تعارض التقرير مع القول والفعل.
عرف ابن حجر(6) التقرير بأنه ما يفعل بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يقال ويطلع عليه بغير انكار.
وقال أبو شامة(7) : اذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا صادرا من مسلم مكلف، أو سمع منه قولا، أو بلغه ذلك ولم ينكره مع فهمه له، دل على رفع الحرج في ذلك الفعل، فانه لو كان منكرا لأنكره.
ووجه دخول هذا المطلب تحت هذا المبحث، هو أن التقرير جزء من الحديث أو السنة، اذ أن تعريفها المتفق عليه بين الأصةوليين والمحدثين(1) : "ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير".
ولذلك عندما يتعارض تقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قول أو فعل، فانما هو تعارض واقع بين حديثين، وعند حصول هذا التعارض لا نستطيع تقديم اجابات جاهزة بان نقول ان دلالة القول أو الفعل أقوى من دلالة التقرير، اذ هما فعل، والتقرير غالبا ما يكون سكوتا، أو أن يكون سكوت مقرون بتبسم أو اهتزاز، يفهم منه رضي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الأمر وعدم انكاره(2) .
ومن أمثلة تعارض التقرير مع القول ما رواه الشيخان(3) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت ألعب البنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذا دخل يتقمعن منه، فيسر بهن الى فيلعبن معي.
فيستفاد من هذا الحديث اقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وصوبحاتها على اللعب بالبنات، وهن اللعب المصورة، وهذا التقرير يتعارض مع أحاديث قوليه نهت عن الصور صنيعها، اتخاذها، بيعها. منها الحديث الذي رواه البخاري(4) عن عائشة - رضي الله عنها - أنها أخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخله، فعرفت في وجهه الكراهة، فقلت يا رسول الله أتوب الى الله والى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ان أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: "ان أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم" وقال: "ان البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة".
وقد تنبه العلماء وبخاصة شراح الصحيحين لهذا التعارض، فحاولوا الاجابة عنه بأجوبة متعددة، منها: ما ذكره النووي(5) عن القاضي عياض(6) من جواز اللعب بهن - أي اللعب - قال: وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث. ونقل أن الجمهور يرى جواز اللعب بهن.
ومن الأجوبة أن حديث اللعب منسوخ حكاه النووي وابن حجر(7) وعزياه لطائفة من العلماء، والنسخ يحتاج لدليل أو قرينة، والدليل منتف في هذا الحديث.
ولذلك أراني أميل للرأي الأول من جواز لعب الصغار بالبنات والجواز باق على حاله، لم يتسخ ولم يتغير، والنهي يحمل على من أراد التلهي أو اجلال وتعظيم الصور، وهذا ما يفسر اجازة العلماء للستور التي عليها الصور ان كانت ممتهنة.
قال الخطابي(8) : في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وانما أرخص لعائشة فيها لأنها اذاك كانت غير بالغ. ونقل ابن عبد البر(9) عن عكرمة أنه قال: "كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا، ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام" ، وذكر نظير هذا عن ابن سيرين، وسعيد بن جبير، وسالم بن عبد الله.
أما عن تعارض الفعل مع التقرير فله صورتان، وهما: "أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ويقر أحدا على تكره، أو أن يترك شيئا ويقر أحدا على فعله"(10) .
وأنا على يقين من وجود الصورتين جميعا في الكتب الا أنني لم أوفق لاستلال أمثلة على الحالة الأولى خاصة من كتب السنة، ولعلي استدرك هذا بعدما أجده وفيما يخص الحالة الثانية فاستطيع أن أمثل لها بما رواه مسلم(11) عن عبد الله بن عباس أن خالد بن الوليد الذي يقال له: سيف الله أخبره أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضبا محنوذا(12) قدمت به حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قلما يقدم اليه طعام تحدث به ويسمى له، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده الى الضب فقالت أمرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟! قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه.
قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله ينظر فلم ينهي.
فكما يظهر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع عن فعل ، ولكنه أقره من غير نكير، الا أن التعارض الظاهر هنا مرفوع بنص الحديث، لأن ترك الفعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عيافة له، وهو من الأمور الجبلية التي لا تدخل في التشريع.
الفصل الثاني
توهم تعارض الحديث مع أصول الدين والشريعة
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول : تعارض الحديث مع قواعد العقائد.
المبحث الثاني : تعارض الحديث مع القواعد الشرعية والأصولية الفقهية.
المبحث الأول
توهم تعارض الحديث مع قواعد العقائد
إنَّ البحث في هذا الأمر عويصٌ ومعقّدٌ ، نظراً للاختلاف الواسع في نظر العلماء على تعدُّد مشاربهم ، للعقائد وقواعدها، وما يجب أن يكون أصلاً وما يتفرَّع منه، بل ما هو منها محكمٌ ينبغي اتِّباعه مع ما هو متشابه يجب ردّه إلىلمحكم. ولا يستطيع المرء إلا أن ينزع دوماً نحو رأيه واعتقاده ، سيّما وأنَّ المتعلِّق بهذه النُّقطة هو اعتقاده وما يجب عليه في حقِّ الله -جل وعلا-وما لا يجب ، وهذا بحدِّ ذاته غير شائنٍ لأهله، إلا إنَّ الخطأ والخطل يكمنان عندما يجعل المرء نفسه مقياساً للصَّواب والخطأ، منه ينبع الصَّواب، ومن غيره دوماً التَّجديف والخطأ، فكلُّ ما وافق رأيه من نصوصٍ هو أيضاً صوابٌ، وما خالفه فمِن ضمن المشكلات المتعارضات، ويُطلق على هذا اللون الذي خالف وجهة نظرٍ ما ـ زوراً وبهتاناً - التَّعارض مع قواعد العقائد!! ولو تواضع أحدهم قليلا لقال: إنَّ هذا متعارضٌ مع العقائد فيما يبدو لي وهو صوابٌ قد يحتمل الخطأ، ولهذا (1) " لا يصح القول بأنَّ هذا الحديث أو ذلك مخالفٌ للعقيدة هكذا باطلاقٍ! فأحاديث الصِّفات - مثلاً - تشتشكل أولاً على ضوء ما يتبنَّاه الباحث، وهكذا أحاديث القَدَر وغيرها من مسائل الأصول المختلف فيها.
فلابدَّ - إذن - من إضافة قيدٍ على توهُّم الإشكال في أيِّ مجالٍ من مجالات هذا النَّوع فنقول: هذا الحديث يوهم التَّشبيه بالنَّظر إلى الباحث، أو فيما يتعلَّق بعقيدة الباحث المُتبناة... وهكذا".
أمَّا عن سيري في هذا المبحث فسوف يكون بإيراد عناوين أشبه بقواعد، أو بمسائل من الأُمهات في هذا المجال، ثم أشرع في إيراد الأمثلة على ما قصدت، وقد جعلت ذلك كلَّه في مطالب هذا بيانها.
المطلب الأول: التنزيه:
تكاد تتَّفِق الفِرق جميعاً - سوى المخذولين منهم الذين انسلخوا عن الإسلام - على تنزيه الله - سبحانه وتعالى - عن المُشاكلة والمُشابهة لأيٍّ من المخلوقات.
فالمعتزلة، والجهميَّة، والخوارج، والأشاعرة، وأصحاب الحديث... إلخ، كلُّهم يُقرُّون نظرياً بوجوب تنزيه الله - تعالى -، وهذه نقولٌ توضِّح ما قدَّمت له(2) .
قال القاضي عبد الجبار(1) : "لا خلاف بين الأمَّة أنَّ ما في سورة الصَّمد حقيقةٌ، وكذلك ما في آية الكرسي، وأن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(2) حقيقةٌ في التَّوحيد.
وقال أبو القاسم الكَعْبي(3) : "المعتزلة مجمعةٌ على أنَّ الله جلَّ ذكره شيءٌ لا كالأشياء، وأنَّه ليس بجسمٍ ولا عرَضٍ، بل هو الخالق للجسم والعَرَض، وأنَّ شيئاً من الحواس، لا يُدركه في دنيا ولا آخرة، وأنَّه لا تحصره الأماكن، ولا تحدُّه الأقطار، بل هو الذي لم يزل ولا مكان، ولا زمان، ولا نهاية ولا حدٍّ، ثمَّ خلق ذلك أجمع وأحدثه مع سائر ما خَلَق ، لا من شيءٍ ، وأنَّه القديم وكلُّ ما سواه محدثٌ، وهذا هو التَّوحيد".
وقالت الجَهْميَّة(4) : لا يجوز أن يُوصَف الباري - تعالى - بصفةٍ يُوصف بها خلقه لأنَّ ذلك يقضي تشبيهاً.
وذكر الغزالي التَّنزيه كأوَّل قاعدةٍ من قواعد العقائد فقال(5) : (( التَّنزيه: وأنَّه ليس بجسمٍ مُصوَّر، ولا جوهر محدود مقدر، وأنَّه لا يماثل الأجسام لا في التَّقدير، ولا في قبول الانقسام، وأنَّه ليس بجوهرٍ ولا تحلُّه الجواهر، ولا بِعَرَضٍ ولا تحلُّه الأعراض، بل لا يماثِلُ موجوداً، ولا يماثِلُه موجودٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }ولا هو مثل شيءٍ )).
وقرَّر الّلقَّاني(6) في منظومته أن:
وكلُّ نَصٍّ أوهم التُّشْبِيها أوِّله أو فَوِّض ورُمْ تَنْزِيها.
وقال شارحاً عقب ذلك(7) : (( أي اقصد واعتقد مع تفويض علم ذلك المعنى (تنزيهاً) له - تعالى - عما لا يليق به، فالسَّلف ينزِّهونه - سبحانه - عمَّا يوهمه ذلك الظاهر من المعنى المحال، يُفوِّضُون علم حقيقته على التَّفصيل إليه تعالى، مع اعتقاد أنَّ هذه النُّصوص من عنده سبحانه، فظهر ممّا قرَّرنا اتِّفاق السَّلف والخَلف على تنزيهه - تعالى - عن المعنى المحال..)).
وإلى هذا ذهب الباجُوري(1) كذلك فقال عند شرحه جملة (ورُمْ تَنْزِيها)(2) : ((اقصد تنزيهاً له تعالى عمّا لا يليق به )).
وقال القُشيريُّ(3) في بيان اعتقاد الصُّوفِيَّة(4) : ((اعلموا -رحمكم الله - أنَّ شيوخ هذه الطَّائفة، بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحةٍ في التَّوحيد صانوا بها عقائدهم عن البِدع، ودانوا بما وجدوا عليه السَّلف وأهل السُّنَّة من توحيدٍ ليس فيه تمثيلٌ ولا تعطيلٌ )).
وقال الصَّابُوني(5) - في بيان عقيدة أصحاب الحديث(4) -: "أصحاب الحديث، حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم، يشهدون لله تعالى بالوحدانيَّة، وللرسول - صلّى الله عليه وسلّم - بالرِّسالة والنُّبوَّة، ويعرفون ربَّهم - عزَّ وجل - بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله - صلّى الله عليه وسلّم - على ما وردت الأخبار الصِّحاح به، ونقلته العدول الثِّقات عنه، ويُثبتون له - جلَّ جلاله - ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلم - ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنَّه خلق آدم بيده، كما نصَّ سبحانه عليه في قوله - عزَّ من قائل -: {يا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }(1) ولا يحرِّفُون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النِّعمتين، أو القُوَّتين تحريف المُعتزلة الجهميَّة - أهلكهم الله -، ولا يُكيِّفُيونَهما بكيفٍ، أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، تشبيه المشبِّهة - خذلهم الله -وقد أعاذ الله - تعالى - أهل السُّنَّة من التَّحريف والتَّكييف، ومَنَّ عليهم بالتَّعريف والتَّفهيم، حتى سلكوا سُبل التَّوحيد والتَّنزيه، وتركوا القول بالتَّعليل والتَّشبيه، واتَّبعوا قول الله - عزَّ وجل - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وهُو السَّميع البَصير}(2))) .
فهذه النُّقول تبيِّن أنَّ أغلب الفِرق تقول بالتَّنزيه، ولكنَّنا عند التَّطبيق نجد اختلافاً وتنافُراً بين ما سلكوه عملياً وما ارتضَوه نظرياً، وذلك لأنَّ كل فرقةٍ ترى التَّنزيه بمنظارها ووفق أصولها، حتَّى عُدَّ التأويل تنزيها !! ونفى الصِّفات تنزيهاً !! في اختلافٍ كبيٍر ليس هذا محلّه(3) .
وبناءً على ذلك فقد رأت كلُّ فرقةٍ كلَّ حديثٍ يُناقض أصولها مناقضاً للتَّوحيد والتَّنزيه، فردَّت بذلك أحاديث كثيرةً، دون وجه حقٍّ، وقد كان هذا الرَّدُّ صريحاً عند بعضهم، وغير صريحٍ عند آخرين، وبخاصَّةٍ في الأحاديث التي تتعلَّق بالصِّفات، إذ هي الأكثر إثارةً للجدل في تاريخ الفكر الإسلامي.
ولسوف اتعرَّض لنماذج من الأمثلة، وهي كثيرةٌ متعدِّدةٌ ، لا أستطيع استيعاب ولو نسبةٍ ضيئلةٍ منها، وما سأذكره يندرج تحته مثيله ونظيره، ومن النَّماذج:
أوّلاً: تنزيه الله عن الجسميَّة ومتعلّقاتها: لقد وردت آياتٌ وأحاديثُ كثيرةٌ تثبت لله تعالى بما يُوهم الجسمية ومُشابهة المخلوقات، كالعين، واليدين، والوجه، ومن الأحاديث الأصابع، القدم، النَّزول، ...إلخ.
فالمعتزلة يقتصرون على ما نطق به القرآن، ويرفضون ما جاءت به السُّنَّة من هذا القبيل ثمَّ يَعمَدُون إلى النُّصوص القرآنيّة، فيصرفونها عن ظاهرها.
أمَّا أهل السُّنَّة فيؤمنون بما جاءت به الآيات والأحاديث ، دون تأويلٍ أو تحريفٍ أو تعطيلٍ ، وقد جعل البعض لفهم أهل السنَّة ومن يلتحق بهم لهذه الأحاديث منهجين:
منهج السَّلف: وهو الإيمان بما ورد في هذه النُّصوص، وإثباته مع تفويض كيفيته إلى الله تعالى.
منهج الخلَف: وهو تأويل ما يوحيه ظاهر النُّصوص ليتَّسق مع تنزيه الله عن الجسميَّة والجارحة.
ومن أمثلة هذا الضَّرب من الأحاديث ما رواه البُخاريُّ(1) ومُسلمٌ(2) عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: (( يَنْزِلُ رَبُّنَا - تَبارك وتعالى - كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّيْنَا حِيْنَ يَبْقَى ثُلُثُ الّليلِ الآخِر يقُول: مَنْ يَدْعُوني فَأسْتَجِيْب لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَه، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ )).
فمع اتِّفاق الجميع - كما قدَّمت - على التَّنزيه، الا إنَّ طرائق تناولهم لهذا الحديث وأشباهِهِ قد اختلفت وتباينت وتنوَّعت.
قال ابن حَجَرٍ(3) : ((وقد اختُلِف في معنى النزول على أقوالٍ؛ فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبِّهة - تعالى الله عن قولهم ـ. ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملةً وهم الخوارج والمعتزلة ، وهو مكابرةٌ ، والعجب أنَّهم أوَّلوا ما في القرآن من نحو ذلك ،وأنكروا ما في الحديث إمَّا جهلاً وإمَّا عناداً.
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال، مُنزِّهاً الله تعالى عن الكيفيَّة والتَّشبيه وهم جمهور السَّلف ، ومنهم من أوَّله على وجهٍ يليق مُستعملٍ في كلام العرب ، ومنهم من أفرط في التَّأويل حتى كاد يخرج إلى نوعٍ من التَّحريف )).
فالمعتزلة ينفون هذا الحديث، لأنَّه عندهم خبر آحادٍ، ويكفى لنفي صفةٍ لم تَرِد في القرآن أن يقولوا فيها أنَّها من أخبار الآحاد(4)!! . ولذلك عندما تعرَّض القاضي عبد الجبار(5) لتأويل بعض الصِّفات، لم يتعرَّض لصفاتٍ استقلَّت السُّنَّة بإثباتها .
ولهذا لم يتعرَّض لحديث النُّزول، ولا عرَّج عليه. مع أنَّ نظائر أكثر الآيات التي تعرَّضوا لها نطقت به السُّنَّة __.__
قال ابن فُورك(1) : ((واعلم أنَّه قلَّما يَرِد في هذه الأخبار من أمثال هذه الألفاظ إلا ونظائِرها موجودةٌ في الكتاب. وهي إذا وردت في الكتاب محمولةٌ عندهم على التَّأويل الصَّحيح، مخرَّجه على الوجه الذي يليق بصفاته تعالى. وإذا وردت في الأخبار أبطلوها مناقضةً منهم لأصولهم كسائر مناقضاتهم في مذاهبهم المبيَّنة على آرائهم الفاسدة، ممّا لم يشهد بها كتابٌ ولا سنّةٌ ولا بان فيها اتِّفاق الأمَّة، وذلك لجحدهم سنن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - واستخفافهم بأهل النَّقل واستهاناتهم برواياتهم )).
أمَّا الخلَف، أو الأشاعرة والماتريديَّة، فإنَّهم يتأوَّلُون النُّزول على أكثر من تأويلٍ(2) أشهرها: أنَّ النُّزول نزول الأمر والرَّحمه، أو أنَّه يُنْزِل مَلَكاً فينادي ... الحديث.
وقد استدلوا لهذا بما ذكره ابن فُورك عن بعض أهل النَّقل بلفظ "يُنْزِل" لا "يَنْزِل" وقال: وذكر أنَّه ضبطه عمَّن سمعه من الثِّقات الضابط_ين ولم يذكر من هو هذا الّذي ضبط ذلك، ولا من هم الثِّقات الضَّابطون _________. __________________
ون_قل ابن حَجرٍ(3) هذا الرَّأي مرتضياً له، وقال: ويقوّيه ما رواه النَّسائي(4) من طريق الأغر، عن أبي هُريرة وأبي سعيد بلفظ: (( إنَّ الله يُمْهِل حتّى يمضِى شطْرُ الليلِ ثُمَّ يأمر مُنادياً فيقول..)). ولم يذكر ابن حجر أو غيره، عن أيِّ راوٍ من رواة صحيح البُخاري هذا الضَّبط لهذه اللفظة، واقتصر محقِّق "دفع شبه التشبيه"(5) على لفظ "يُنْزِلُ"!! وهو غير ثابتٍ، وغيُر معروفٍ قائِلُه، وحاول أنْ يُلصِق هذا القول بابن حجر، والحال أنَّ ابن حَجَرٍ قد نقله عن ابن فُورك.
ثُمَّ إنَّ الأصبهانيَّ(1) قال في "الحجه"(2) : ((ذكر علي بن عمر الحَرْبي(3) في كتاب "السُّنة" أنَّ الله تعالى يَنزِل كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدُّنيا، قاله النبي - صلّى الله عليه وسلّم - من غير أن يقال كيف.
فان قيل: يَنْزِل أو يُنْزِل؟ قيل: يَنْزِل - بفتح الياء وكسر الزاي -، ومن قال: يُنْزِل - بضم الياء فقد ابتدع )). ويؤيِّده لفظ البُخاري كما في الدَّعوات والتَّوحيد: "يتنزَّل" .
أمَّا جمهور السَّلف وأهل الحديث فإنَّهم يُقرُّون بنزول الله - سبحانه وتعالى - نُزولاً يليق به، دون تشبيهٍ بمخلوقٍ ولا تكييف.
قال الصَّابونيُّ(4) : ((وثبَّت أصحاب الحديث نزول الرَّب سبحانه وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدُّنيا، من غير تشبيهٍ بنزول المخلوقين، ولا تمثيلٍ ولا تكييف، بل يُثبتون ما أثبته رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وينتهون فيه إليه، ويُمرُّون الخبر الصَّحيح الوارد ذكره على ظاهرِهِ،ويكون علمه إلى الله)) .
وروى البَيْهقيُّ(15) عن الأوزاعِيِّ، ومالك، وسفيان الثَّوري ، والليث بن سعد أنَّهم قالوا في هذه الأحاديث: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفيَّةٍ.
والملاحظ أنَّ من نفى الأحاديث وأنكرها قد انطلق من التَّشبيه، وكذا من أوَّل وحاول صرف الألفاظ عن ظواهرها، لأنَّ التَّشبيه قد تبادر لأذهان هؤلاء فاضطروا للإنكار والتَّأويل.
والذي به أجزم أنَّ الفئة الوحيدة التي برئت من التَّشبيه هي التي أثبتت لله - سبحانه - هذه الصفات وآمنت بها وأقرت، وفوَّضت كيفيتها لله - سبحانه وتعالى - وهو مذهب جمهور السَّلف، وبه أقول واعتقد فهم المنزِّهون حقاً.
ولهذا فمقولة:مذهب السَّلف أسلم، ومذهب الخلَف أحكم غير سليمةٍ،(( فمذهب السَّلف أسلم، ودع ما قيل من أنَّ مذهب الخلَف أعلم، فإنَّه من زُخرف الأقاويل، وتحيُّن الأباطيل، فإنَّ أولئك قد شاهدوا الرَّسول والتَّنزيل، وهم أدرى بما نزل به الأمين جبريل ))(1) .
وما ينطبق على هذا الحديث من بحثٍ ينطبق على غيره من أحاديث الصِّفات، فظهر أنَّ التَّعارض مع قاعدة التَّنزيه، في هذا الباب متساقطٌ مرجوحٌ.
ثانياً: تنزيه الله عن التَّحيُّز والمكان.
ومن الأمور التي يدَّعُون فيها التَّنزيه أيضاً وبخاصَّةٍ المعتزلة، مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، إذ يرى المعتزلة ومن وافقهم أنَّ القول بالرُّؤية يقتضي التَّحيُّز والمكان، والله - تعالى - مُنزَّهٌ عنهما. فهم قد انطلقوا من التَّشبيه لينتهوا حسب زعمهم إلى التَّنزيه، وأنَّي لبدايةٍ غير سليمةٍ أن تُثمر نتائج صحيحةً؟.
قال السَّالمي(2) من الإباضية: ((رؤية الله تعالى من الأشياء التي لا يُتصوَّر في العقل صحَّة وجودها، لأنَّ العقل يحيل ذلك، وذلك أنَّ مِن لوازم الرُّؤية وشرائطها أن يكون المرئِيُّ متحيِّزاً، أي مُتشخِّصاً، والرَّب - تعالى - يستحيل عليه التَّشخيص، ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِي متكيِّفاً، أي ذا كيفٍ: أي لون، وذلك على الله محالٌ، ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِيُّ متبعِّضاً، أي ذا أبعاضٍ: أي أجزاء.
يتبع 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على رسوله الهادي الآمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد :
فهذا جزءٌ من رسالتي الدكتوراه الموسوم بـ (( التعارض في الحديث )) أحببت أن أخص به إخواني في ملتقى أهل الحديث ، والجزْ المعروض هنا هو الباب الثاني من الرسالة ويتعلق بأوجه التعارض في الحديث الشريف ، وأعتذر للجميع عن بعض الخلل أحياناً في التنسيق نظراً لأني استخرجت هذا من عدة ملفات وعدة أقراص محفوظة منذ عشر سنين ، وأحمد الله أني وجدت أعلب الملفات صالة لكنها تحتاج إلى بعض التنسيق ولم يُتح لي ذلك ، بالإضافة إلى وجود بعض الصفحات غير مصححة لأني وجدت ملفاتها المصححة غير صالحة وهي قليلة جداً ، وعلى كل خال أظن أن وجود هذا القدر بهذه الكيفية الآن سكون مفيداً إن شاء الله ، راجياً من كل من يستفيد من هذا الموضوع دعوة صالحة للكاتب ووالديه .
الباب الثاني
أوجه التَّعارض في الحديث
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأوّل : توهُّم تعارض النَّصين
الفصل الثَّاني : توهُّم تعارض الحديث مع أُصول الدِّين والشَّريعة
الفصل الثَّالث : توهُّم تعارض الحديث مع العقل ،والواقع
ونواميس الكون .
تمهيدٌ :
قد يفهم ناظرٌ إلى عنوان الرِّسالة " التَّعارض في الحديث " أنَّ المقصود بالبحث ، التَّعارض الواقع بين الأحاديث بعضها ببعضٍ ، وهذا وإن كان حقاً ، إلاّ أنَّه يُمثل جزءً من المراد لا كلَّه.
فبعد الاستقراء يمكنني القول أنَّ التَّعارض لم يرد على وجهةٍ واحدةٍ ، أو نمطٍ موحَّدٍ ، بل لقد اختلفت الأنماط وتنوَّعت الحالات.
فهناك التَّعارض الواقع بين النُّصوص ، وهذا يشمل القرآن والسُّنة ، وهناك التَّعارض بين الأحاديث والحوادث والوقائع ، والتَّعارض بين الحديث والعقل والرَّأي والقياس ، إلى غير ذلك من الوجوه والحالات .
ولسوف أتناول بالتَّفصيل في المباحث المقبلة كلَّ هذه الوجوه ، وما يندرج تحت كلِّ وجهٍ أو حالةٍ من الحالات.
واعتمدت في أمثلة التَّعارض على أقوال العلماء ومناقشاتهم في الغالب لأحاديث عدُّوها متعارضةً ومُشكلةً ، ثمَّ بناءً على استقرائي لعددٍ من كتب الرِّواية والدِّراية عندما وجدت أنَّ هذا الحديث يمكن أن يُصنَّف ضمن المتعارض .
وما ذكرته هنا في الفصول المقبلة لا يمثِّل إلاّ جزءً يسيراً ممَّا وقفت عليه من الأحاديث ، وما ذكرته لا يمثِّل إلاّ نماذج وعيِّناتٌ يندرج تحت كلِّ حالةٍ منها عددٌ من الأحاديث ، ولعلِّي أُوفَّق لجمع الأحاديث الّتي قيل عنها مُشكلةً أو متعارضةً في مصنَّفٍ مُستقلٍّ أُخصِّصه لدراستها ونقدها.
الفصل الأوّل
توهُّم تعارض النَّصين
وفيه مبحثان
المبحث الأوّل : تعارض الحديث مع القرآن
المبحث الثَّاني : تعارض الحديثين.
كما أسلفت سابقاً أنَّ التَّعارض مستحيلٌ بين النُّصوص ، وإنِّما هو توهُّم أو ظنُّ التَّعارض والتَّدافع ظاهريـًَّا ، والمقصود بتعارض النَّصين ، هو التَّعارض الّذي يظهر بين الآية والحديث ، أو بين الحديث والحديث ، مع اعتبار التَّقسيمات الّتي يتفرَّع إليها الحديث من قولٍ وفعلٍ وتقريرٍ ، وبخاصَّةٍ فيما يتعلَّق بتعارض الحديث كما سيأتي ، وهذا بيان المقصود والشُّروع في المطلوب .
المبحث الأوّل
تعارض الحديث مع القرآن الكريم
إنَّ القرآن الكريم ، والحديث الشَّريف كلاهما وحيٌ ، وخرجا من مشكاةٍ واحدةٍ ، وإن اختلفا في شيءٍ فإنَّما يختلفان في طريقة الوُرود ( المتواتر والآحاد ) وطريقة جواز الأداء ( بالَّلفظ الحرفي / المعنى) ولهذا لا يمكن للوحيِّ أن يتعارض أو يتناقض.
وإن تُوهِم ذلك ، أو وُجد بما لا يدع مجالاً للشَّكِّ ، ولم نستطع التَّوفيق بأيِّ وجهٍ من الوجوه بين طرفي الوحي ، فلا مناصَ حينئذٍ من تقديم ظاهر الكتاب على دلالة السُّنَّة . ولكنَّ واقع أغلب ما يُدَّعى عليه التَّعارض والتَّناقض هنا ، يمكن فيه الجمع والتَّوفيق .
ثمَّ إنَّ التَّعارض المتوهَّم قد يكون بين صريح الكتاب وصريح السُّنَّة ، أو بين مفهوم الكتاب وصريح السُّنَّة ، وغير ذلك ، ولكُلِّ حالةٍ طريقة تناولٍ ومنهج دراسةٍ ، أبيِّنُها في هذه المطالب:
المطلب الأوّل : تعارض صريح الكتاب مع السُّنَّة .
وهو ما تكون دلالة القرآن فيه صريحةً في مسألةٍ ما ، وتُعارِضُها دلالة الحديث الصَّريحة كذلك.
مثال ذلك : ما أورده ابن قتيبة (1) عن الطَّاعنين أنَّهم قالوا : ( رويتم عن النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - أنَّه قال : " صِلَةُ الرَّحْمِ تَزِيْدُ فِي العُمْرِ"(2) ، والله تبارك وتعالى يقول : { فِإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُوُن }(1) فكيف تزيد صِلة الرَّحم في أجلٍ لا يُتأخَّر عنه ولا يُتَقدَّم ) ؟
فالنَّاظر يجد ما اعترض به أمراً وارداً ، والتَّدافع يكاد يكون أمراً واقعاً ، ولكن بنظرةٍ فاحصةٍ ، وبجمع طرق روايات الحديث ، واستقصاء ألفاظه نتوصَّل إلى حقيقتين :
الأولى : إنَّه لا يمكن ترجيح الآية على الحديث هنا لأن أحاديث زيادة العمر تصل إلى درجة التَّواتر ، فالآية والحديث كلاهما متواترٌ(2) .
الثَّانية : -يجب المصير إلى الجمع ، ومن خلال النَّظر في أجوبة العلماء عن هذا الحديث يمكن أن تحمل أقوالهم في الحديث على أمرين.
1- الزِّيادة الحقيقيَّة ، وهذا ما ذهب إليه عددٌ من العلماء منهم : ابن قتيبة(3) ، وابن فُورَك(4) ، وابن حجرٍ العَسْقَلانيُّ فقال (5) : ( وثانيها : إنَّ الزيادة على حقيقتها ، وذلك بالنِّسبة إلى علم الملك المُوكَّل بالعمر ، وأمَّا الأوّل الّذي دلّت عليه الآية فبالنِّسبة إلى علم الله تعالى ، كأن يُقال للملك مثلاً : إنَّ عمر فلانٍ مِئة سنةٍ مثلاً إن وصل رحمه ، وستون إن قطعها ، وقد سبق في علم الله أنَّه يصل أو يقطع ، فالّذي في علم الله لا يتقدَّم ولا يتأخَّر ، والّذي في علم الملك هو الّذي يمكن فيه الزِّيادة والنَّقص ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ }(6) فالمحو والإثبات بالنِّسبة لما في علم الملك ، وما في أمِّ الكتاب هو الذي في علم الله- تعالى- فلا محو فيه ألبته).
فحَمْلُ الزِّيادة على الحقيقة أمرٌ يقبله العقل ، ويؤيِّده النَّقل ، لما في هذا القول من وجاهةٍ ، واحتمال للصَّواب ، وذلك بالتَّفريق بين علم الله الأزليِّ ، وما هو معروفٌ عند الملَك المُوكَّل بالأجل والرِّزق وما إلى غير ذلك.
وهذا التَّفسير اختاره الغُماريُّ(1) واقتصر عليه فقال (2) : ( للمسلم عُمْران ؛ عمرٌ محدَّدٌ عند الله لا يُعلم غيره ، وعمرٌ مُردَّدٌ بين الزِّيادة والنَّقص عند ملَك الموت ، يقال له : عمر فلانٍ سبعون سنةً إن تصدَّق أو برَّ والديه ، وخمسون سنةً إن لم يفعل ذلك ، وهذا هو المُراد في الحديث ).
2- الزِّيادة المجازيَّة ، أي إنَّ هذه الزِّيادة كنايةٌ عن البَركة في العُمر بسبب التَّوفيق إلى الطَّاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة(3) ، وفي " نوادر الأُصول "(4) : " إنَّ العبدَ إذا عُمِر بالإيمانِ َوبِحياةِ القلب فذلك كثيرٌ وإن قلَّ مدته ، لأنَّ القِصَر من العُمْر إذا احتشى من الإيمان أربى على الكثير لأنَّ المتبقي من العمر العبودية لله- تعالى- ، كي يصير عند الله وجيهاً".
أو السَّعة والزِّيادة في الرِّزق وعافية البدن ، وقد قيل : " الفقر هو الموت الأكبر"(5) وانفرد ابن فُورَك بتفسيرٍ للزِّيادة فقال (6) : " إنَّ معنى الزِّيادة في العمر: نفي الآفات عنهم والزِّيادة في أفهامهم وعقولهم وبصائرهم ".
وهناك فهمٌ آخر للزِّيادة يمكن استنتاجه من جمع ألفاظ الحديث ، والمقارنة بينها، وهو أنَّ زيادة العمر هي بقاء أثر الواصل بعد موته ، وهذا مأخوذٌ من بعض ألفاظ الحديث مثل (7) :" مَنْ سَرَّه أن يُبسَط لَه في رِزقه ، ويُنْسأُ لَهُ في أثره فَليَصِل رَحِمَهُ" .
وهذا الفهم نقله صاحب "فيض القدير"(1) ، عن الزَّمَخْشريِّ أنَّه قال : معناه أنَّ الله يُبقي أثر واصل الرَّحم في الدُّنيا طويلاً ، فلا يضمحلّ سريعاً كما يضمحلُّ أثر قاطع الرَّحم. فحُمِل الأجل هنا على الأثر ، وهو تأويلٌ سائغٌ ، وتفسيرٌ محتملٌ.
وهناك وجهٌ آخر معناه قريبٌ من التَّأويل الأخير ، ورد في حديثٍ ضعيفٍ أخرجه الطَّبرانيُّ في " المعجم الأوسط(2)"، عن أبي الدَّرداء -رضي الله عنه - قال:"ذُكر عند رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم - من وصل رحمه أُنْسِىءَ له في أجله ، فقال: "إنَّه لَيْس زيادة فِي عُمْره ، قال الله تعالى : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } ولكِنَّ الرَّجلَ تَكُون لَهُ الذُّرِيَّة الصَّالحة يَدْعُونَ لَهُ مِن بَعْدِهِ " .
ففي التَّفسير السَّابق : جَعَل الزِّيادة في العمر زيادةً في أثره وذِكْرِهِ الطَّيِّب ، وفي الثَّاني ، أنَّ أبْنَاءَ المرء الصَّالحين يدعون له ، فكأنَّه بقيَ وعَمِل وازداد من الحسنات.
وبالجملة فهذه التَّفسيرات والتَّأويلات كلُّها مُحتملةٌ ، فلا ينبغي أن يُردَّ الحديث لشُبهةٍ ، أو استشكالٍ ، فالنَّقص من الحديث بِرَدِّهِ أو تضعيف ما ليس بضعيفٍ، كالزِّيادة أو تصويب ما ليس بصحيحٍ ، وكلاهما غير جائزٍ ،بل قد يصل إلى درجة الكذب على رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم- . وغير خافٍ الوعيد الشَّديد على من هذه حالُه ، وهذا عمله.
وقد يكون التَّعارض صريحاً بين نصين ، لكنَّه لفظيٌّ ، أي أن تكون لفظةٌ محدودةٌ وردت في نصِّ حديثٍ أو آيةٍ وعلى هذه الّلفظة مدار النَّهي أو الأمر ، وتأتي هذه الّلفظة ذاتها في نصٍّ آخر في موضعٍ مُخالفٍ تماماً لما جاءت عليه في النَّصِّ الأوّل ، ومثال ذلك : ما رواه البُخاري(3) مُسلمٌ (4) وأصحاب السُّنن عن أبي هُريرة-والّلفظ لمُسلمٍ - أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال :" إذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأنْتُم تَسْعُونَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ ،وَعَلَيْكُمُ السَّكِيْنَةُ ، فَمَاأدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا "(1) .وبمقابل هذا قول الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِيْن آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُم تَعْلَمُون }(2) .
فالملاحظ أنَّ الآية تحثُّ على السَّعي إلى الصَّلاة ، والحديث ينهى عن السَّعي إلى الصَّلاة وعلى هذا فإن اعترض معترضٌ ، أو استشكل أمرؤٌ فعنده ما يستند إليه ، وأغلب الظَّنِّ أنَّ الاستشكال قد حصل ، لأجوبة العلماء وكلامهم على الحديث والآية ، فمثلاً ذكر النَّوويُّ(3) في شرحه للحديث ما يُشعر بذلك فقال : ( فيه النَّدب الأكيد إلى إتيان الصَّلاة بسكينةٍ ووقارٍ ، والنَّهي عن إتيانها سعياً سواءٌ فيه صلاة الجمعة وغيرها ، سواءٌ خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا ، والمراد بقول الله تعالى " فاسعوا إلى ذكر الله : الذَّهاب ، يقال : سعيت في كذا أو إلى كذا إذا ذهبت إليه وعملت فيه).
وذكر ابن كثيرٍ في تفسيره للآية أنَّ السَّعي هو الاهتمام فقال (4) : ( أي اقصدوا واعمدوا اهتموا في سيركم إليها ، وليس المراد بالسَّعيِّ ها هنا المشي السَّريع ، وإنَّما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى :{ وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ }(5)) ومثل هذا التَّفسير مرويٌّ عن الشَّافعي- رحمه الله - حيث يقول(6): ( ومعقولٌ أنَّ السَّعي في هذا الموضع العمل لا السَّعي على الأقدام ، قال تعال :{ إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى }(7) قال :{ وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قال :{ وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورَاً } (8) وقال: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيْهَا }(9). وممَّا يؤيِّد هذا الفهم ، ما رواه البَيْهقيُّ(1) : عن عبدالله بن الصَّامت قال : خرجت إلى المسجد يوم الجمعة ، فلقيت أباذرٍ - رضي الله عنه - فبينا أنا أمشي إذ سمعت النِّداء ، فرفعت في المشي لقول الله عز وجل { إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلى ذِكْرِ اللهِ } فجذبني جذبةً كدت أن أُلاقيه فقال : " أو لسنا في سعيٍ" ؟ لذلك كان عمر بن الخطَّاب وابن مسعودٍ - رضي الله عنهما - يقرآنها : فامْضُوا إلى ذكر الله بدلاً من فاسعوا ،(2) وهو ما يؤيِّد ما قدَّمت من أجوبةٍ للعلماء ، وأفعالٍ للصَّحابة.
ولهذا لا اختلاف ولا تعارض بين ما أمر به الكتاب العزيز ، ونهت عنه السُّنَّة المُشرَّفة لأنَّ اتِّفاق الَّلفظيين ، لا يعني اتِّفاق المعنيين وهذا ما أكَّده وركَّز عليه ابن خُزَيمة حيث قال (3) : ( باب الأمر بالسَّكِينة في المشي إلى الجُمُعة ، والنَّهي عن السَّعي إليها والدَّليل على أنَّ الاسم الواحد يقع على فعلين يُؤمر بأحدهما ويُزْجر عن الآخر بالاسم الواحد ، فمن لا يفهم العلم ولا يُميِّز بين المعنيين قد يخطر بباله أنَّهما مختلفان ، قد أمر الله- عزَّوجلَّ-في نصِّ كتابه بالسَّعي إلى الجمعة في قوله { يَا أيُّهَا الّذِيْن آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاِة مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلىذِكْرِاللهِ } والنَّبيُّ المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم - قد نهى عن السَّعي إلى الصَّلاة فقال - صلّى الله عليه وسلّم - : " إذَا أتيْتُم الصَّلاة فَعَلَيْكُم السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ " وقال - صلّى الله عليه وسلّم -:" فَإِذَا أتَيْتم الصَّلاة فلا تَسْعُوا إليهَا وامْشُوا وَعَلَيْكُم السَّكِيْنَةُ " .
فالله- عزَّوجلَّ -أمر بالسَّعي إلى الجُمُعة ، والنَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - قد نهى عن السَّعي إلى الصَّلاة . فالسَّعي الّذي أمر الله به إلى الجمعة هو المُضيُّ إليها ، غير السَّعي الَّذي زجر النَّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في إثبات الصَّلاة ، لأنَّ السَّعي الَّذي زجر النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - هوالخَبب وشدَّة المشي إلى الصَّلاة الّذي هو ضدّ الوقار والسَّكينة ، فما أمر الله- عزَّ وجل به غير ما زجر النَّبي - صلّى الله عليه وسلّم - عنه ، وإن كان الاسم الواحد يقع عليهما جميعاً ).
وكلُّ ما قدَّمته عن السعي والمراد بكلٍّ منهما في القرآن وفي الحديث تؤيِّده الُّلغة ويعضده فهم الُّلغويين ، حيث قال ابن منظورٍ(1) : ( السَّعي : عَدْوٌ دون الشَّدِّ ، سعى يسعى سعياً ، وفي الحديث : " إذا أقيمت الصَّلاة .... " ، فالسَّعي هنا العدْو ، سعى إذا عدا ، وسعى إذا مشى ، وسعى إذا عمل وسعى إذا قصد ، وإذا كان بمعنى المُضِيِّ عُدِّي بإلى ، وإذا كان بمعنى العمل عُدِّيَ بالَّلام ، والسَّعي : القصد ، وبذلك فُسِّر قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله ، وليس من السَّعي الّذي هو العَدْو).
المطلب الثَّاني: توهُّم تعارض مفهوم الكتاب مع صريح السُّنَّة:
وهو ما تتعارض فيه دلالة السُّنَّة الصَّريحة مع ما يفهم من القرآن الكريم، ومثال ذلك: قول رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم -: الوَائِدَةُ وَالمّؤودَةُ فِي النَّار"ِ(2) “ وهناك رواياتٌ أُخرى بزيادة: "إلاّ أنْ تُدْرِكَ الوَائِدَةُ الإسلامَ فَتُسْلِمَ ".
فدلالة هذا الحديث الصَّريحة تقول أنَّ الوائدة والمؤودة كلتاهما في النَّار، وهذا يعارضه ويضادُّه مفهوم قول الله تعالى:{ وَإِذَا المَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } إذ يُفهم من قول الله هذا أنَّ الموؤدة لا ذنب لها فتُقتل، وهذا السُّؤال إنَّما هو ذمٌ وتقريعٌ لقاتلها، كونه قتلها بلا سببٍ. قال الرَّازي وغيره: "وسؤالها هو على وجه التَّبكيت لقاتِلها ". وقد استدلَّ ابن عبَّاس بهذه الآية على أنَّ أطفال المشركين في الجنَّة إن صحَّت الرِّواية عنه ؟!.
ممَّا تقدَّم يتَبيَّن أنَّ الاختلاف واضحٌ جليٌّ، والتَّعارض واقعٌ ملموسٌ، ولا يمكن إزالته بكلمةٍ أو جملةٍ، وقد خاض العلماء في هذين النَّصَّين لمحاولة التَّوفيق بينهما والتَّقريب بين مدلوليهما، فبعضهم اكتفى بالنَّظر إلى الأسانيد فحسب وحكم من خلالها بضعف الحديث، وبعضهم خاض في المتن لدفع الاستشكال عنه.
وقد توسَّع الدَّارقُطنِي(1) في إيراد أسانيد الحديث ليُبيِّن اختلافها واضطرابها، والكشف عن عللها وضعفها، وكذا فعل البُخاريُّ(2) عندما روى الحديث.
فذكر الدَّارقُطنِيُّ أن هذا الحديث روي مرسلاً عن الشَّعْبيِّ، وروى عن الشَّعْبيِّ عن علْقَمة، عن عبد الله بن مسعود، واختُلف فيه عن ابن مسعودٍ في رواياتٍ كثيرةٍ. ورُوي مُتَّصلاً عن الشَّعْبيِّ عن ابني مُلَيْكَة، واخْتُلف فيه عن ابنيْ مُلَيْكَة كذلك، فبعضهم أدخل عَلْقَمة بين الشَّعْبيِّ وبينهما، وبعضهم زاد كذلك ابن مسعود، إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة الّتي ذكرها الدَّارقُطنيُّ، ونبَّه على أغلبها البُخاريُّ.
وهذا التَّلوُّن الشَّديد في الحديث مع اتِّحاد مخرجِهِ يُسوِّغ قول من ضعَّفَهُ وردَّه بمخالفة الأَحاديث الصَّحيحة ومفهوم الآيات.
ولهذا فقد قال ابن الوزير(3) : “وقد بالَغتُ بالبحث عن صحَّة هذا الحديث حتَّى وجدتُ ما يمنع القطع بصحَّتهِ، فسقط الاحتجاج به وللّه الحمد(4) .
والحديث المقصود هو حديث سَلَمة بن يزيد الجُعْفِيِّ وأخيه، إذ هو الوحيد الَّذي ظهر أنَّه ذو إسنادٍ لا بأس به، كما قال ابن القَيِّم(5) .
أمَّا باقي الأحاديث الَّتِي تنُصُّ على دخول أطفال المشركين النَّار فهي ضعِيفةٌ، كما قال السُّبكِيُّ(1) واستثنى حديث سلمة بن يَزِيدٍ، وقال: " فإنَّه صحيح الإسناد، لكنَّهُ غير عامٍّ، وإنَّما هو نصٌّ في موؤدةٍ بعينها، فاحتمل التَّأويل.
ولو ترجَّحَ ضعف الحديث على صحَّتِهِ لاكتفيت بإيــراد ما أوردت ، ولاستغنيت عن إيراد الأوجه والاحتمالات الّتي يمكن أن يُحمل الحديث عليها،كما أنَّ الحديث لم يصل إلى المرتبة العُليا من الصَّحيح.
ولهذا فسأذكر بعض الأقوال في توجيهِهِ، وقد تكون هذه الأقوال قريبةً لكنَّنِي لا أتبنَّاها، أو تكون ضعيفةً فأُنبِّه عليها.
قال ابن عبد البَرِّ (2) عن الحديث - أي حديث ابني مُلَيْكة -: "وهو صحيح الإسناد، إلاَّ أنَّه مُحتملٌ أن يكون خرج على جواب السَّائل في عينٍ مقصودةٍ، فكانت الإشارة إليها، وهذا أولى ما حُمل عليه هذا الحديث لمعارضةِ الآثار له، وعلى هذا يصحُّ معناه واللّه أعلم".
وقد فسَّر ابن حَزْمٍ كيف يكون هذا الحديث خاصَّاً بحادثة عينٍ فقال(3) : "وهذه اللَّفظَة - يعني لم تبلغ الحِنْث - ليست بلا شكٍّ من كلام رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - ولكنَّها من كلام سلَمة ابن يزيدٍ الجُعْفيِّ وأخيه، فلمَّا أخبر - عليه السَّلام - بأنَّ تلك الموؤدة في النَّار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما: إنَّها لم تبلغ الحِنْث وتصحيحاً، لأنَّها قد كانت بلغت الحِنْث بخلاف ظنِّهما... وهذا القول حكاه ابن الوزير(4) - على فَرَضِ صِحَّة الحديث - لأنَّه قد مرَّ معنا قبل قليل أنَّه يُضَعِّف الحديث.
وهذا أولى ما حُمِل الحديث عليه عند من ارتَضَوهُ سنداً، ولقد أشْكَلَ على البعض هذا التَّوجِيهِ بِحمْلِ الحديث على الخُصُوصِيَّة، ولكن عند البحث والتَّنْقِيب لا نرى إشكالاً في الأمر،بل إِنَّ الجُنُوح لهذا التَّفسير أولى من بعض التَّفسيرات البعيدة والمُتكلَّفة.
وبيان ذلك بمعرفة ماذا كان يُقصد بالوأد عند العرب، وكيف كانوا يَئِدون .
وعند التَّساؤل الأولي: ما هو الوأد؟ قد تكون الأجابة حاضرةً: هو دفن البنت في حالة الحياة خوف الفقر أو العار . ولكنَّ هذه الإجابة غير كافيةٍ، ولابُدَّ من الرُّجوع للمصادر لمعرفة مرادهم بذلك، ومن الَّذِي كان يقوم بالوأد، ومن كان يستعمله منهم ؟
يقول د. جوادعلي(1) : "الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطِبةً، فكان يستعمله واحدٌ ويتركه عشرةٌ، فجاء الإسلام وقد قلَّ ذلك منها إلاَّ من بني تميمٍ، فإنَّهم تزايد فيهم ذلك قُبيل الإسلام، وقبيلة كِنْدة، وقيس، وأسد، وهُذَيل، وبكرُوائلٍ من القبائل الَّتي عُرف فيها الوأد".
وقد كان العرب في الجاهلية يَئِدون أولادهم بطريقتين(2) : إمَّا أن تأتي المرأة إلى حُفرةٍ وتَلِدَ عندها فإن كان ولداً أمسكوه، وإن كانت بنتاً رمَوْها في الحفرة وأهالوا عليها التُّراب، وإمَّا أن يتركوها تكبر حتَّى تبلع ستَّ سنواتٍ، فيأخذها أبوها ويئدها، وفي الغالب كان الأب يقوم بهذا العمل.
فالوأد عمليةٌ مشتركةٌ قد يقوم بها الأب، أو الأمُّ، ولكلٍ منهما طريقةٌ ، ونصيب الأب فيها أكثر، فلو كان الحديث عامَّاً لكان نصُّه: الوائد والموؤدة في النَّار، ولكن لمَّا لم يكن كذلك، والوائدة هنا لم تكن قد وأدت ابنتها بالطَّريقة المعهودة - أي عند الولادة - فصبرت عليها حتَّى كبرت - وهو المفهوم من كلام السَّائِلين - لم تبلع الحِنْث - ووأدتها بنفسها بطريقة لم تُعهد للنِّساء ، كانت دعوى الخُصوصِيَّة وجِيهةً ، ولا غرابة فيها.
وهناك وجهٌ آخر لتأويل الحديث ذكره القارى وغيره ، وهو مُستبعدٌ، بل مُستَغْربٌ، فقال(3) : "وقد تُؤوَّل الوائدة بالقابلة لرضاها به، والمؤودة، بالمؤودةِ لها، وهي أمُّ الطِّفل فحُذِفت الصِّلة، إذ كان من دَيْدَنِهم أنَّ المرأة إذا أخذها الطَّلْقُ حفروا لها حفرةً عميقةً فجلست المرأة عليها، والقابلة وراءها ترقب الولد.
فإن ولدت ذكراً أمسكته، وإن ولدت أنثى ألقتها في الحُفرة، وأهالت التُّراب عليها. وهو بعيد كما قدَّمت، ولكنَّ البعض قَدَّمه على قول من جعله بسببٍ خاصٍّ(4) .
وعلى هذا فإزالة الإشكال في هذا الحديث تحتمل وجهين:
أولاً: أن نحكم على الحديث بالضَّعف ، كما فعل بعض العلماء، ولا نتشاغل بالتماس أوجه التَّوفيق والجمع.
ثانياً: أن نحمل هذا الحديث على سببٍ خاصٍّ قيل فيه، وهو سببٌ وجيهٌ كما بيَّنت قبل قليلٍٍ.
المطلب الثَّالث: توهُّم تعارض مفهوم الكتاب مع مفهوم السُّنَّة:
لم أُرد من هذا العنوان ما يتبادر إلى الذِّهن من تعريف المفهوم في علم الأُصول الّذي جاء فيه بيان المنطُوق والمفهوم، وتعريف المفهوم وتقسيمه إلى مفهوم مُوافَقةٍ ومُخالفةٍ وما إلى ذلك، ولكنِّي أردت ببساطةٍ أن أُظهر توهُّم التَّعارض بين الكتاب (القرآن) والحديث لا من حيث نصُّ كُلٍّ منهما على نقيض الآخر، بل من حيث ما يُستفاد من الآية وتَناقُضُه مع ما يُفهم من الحديث، مُستعيناً بالتَّعريف الأيسر للمفهوم وهو :" حُكم غير المنطوق في النَّص"(1) ، ولهذا فالمُراد من المفهوم هنا ما مايُقرأ بين السُّطور .
ومثال ذلك قوله تعالى: { وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْه سَبِيْلا }(2) فيُفهم من هذه الآية أنَّ الرِّجال والنِّساء جميعاً داخلون فـي الخِطَاب، لأنَّ لفظ النَّاس يتناولهما جميعاً، ثمَّ لاستوائهما في التَّكليف.
وهذا النَّصُّ عارضه نصٌّ حدِيثِيٌّ قَيَّده، فعن عبداللّه بن عمر أنَّ النَّبيَّ- صلّى اللّه عليه وسلّم - قال:(3) " لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ تُسَافِرَ مَسِيْرَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، إلاّ وَمَعَها ذُومَحْرَمٍ ". فهذا الحديث يدلُّ على عدم جواز سفر المرأة وحدها دون محرمٍ.
ووجه التَّعارض بين الحديث والآية جاء ممَّا يلي:
* إنَّ الحجَّ مكتوبٌ على المرأة كما هو على الرَّجل، والحجُّ غالباً ما يَقْتضِي السَّفر، ممَّا يُوجِبُ على المرأة أن تُسافر لِتحُجَّ.
* ورد في النَّصِّ الحَدِيثيِّ عدم جواز سفر المرأة وحدها دون مَحرمٍ، وعلى هذا فلا يجوز سفرها للحجِّ وحدها كما لا يجوز لغيره، ولهذا تعارض مفهوم الآية الَّذي يُوجب عليها الحجَّ ومن ثَمَّ السَّفر له، ومفهوم الحديث الَّذي منعها من السَّفر بإطلاقٍ ومعه السَّفر إلى الحجِّ.
وهذا ما فَهمه عددٌ من العلماء عندما ذكروا هذا الحديث في أبواب الحجِّ والمناسك، مِمَّا يُعدُّ قولاً لهم في عدم جواز سفر المرأة للحجِّ دون مَحرمٍ.
وقال التِّرْمِذِيٌّ في "الجامع"(1) :" والعمل على هذا عند أهل العلم، يكرهون للمرأة أن تسافر إلاّ مع ذي مَحرم.
واختلف أهل العلم في المرأة إذا كانت مُوسِرةً ولم يكن لها مَحرمٌ هل ، تحجَّ؟
فقال بعض أهل العلم: لا يجب عليها الحجَّ، لأنَّ المَحرم من السَّبيل لقول اللّه - عزَّ وجَلَّ -: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيْلاً} فقالوا: إذا لم يكن لها مَحرمٌ فلا تستطيع إليه سبيلاً، وهو قول سفيان الثَّوريِّ وأهل الكوفة.
وقال بعض أهل العلم: إذا كان الطَّريق آمناً، فإنَّها تخرج مع النَّاس في الحجِّ وهو قول مالكٍ والشَّافِعيِّ ".
فواضِحٌ أنَّ اختلاف العلماء في هذه المسألة نابعٌ من إدْراكِهم للتَّعارض بين مفهومي الآية والحديث، فتَفَرَّعت بناءً على ذلك مذاهبهم وآراؤهم.
وقد أشار المَازِريُّ لهذا التَّعارض وإلى مذاهب العلماء فقال(2) : "أبو حنيفة يشترط في وجوب الحجِّ على المرأة وجود ذي مَحرمٍ، والشَّافِعيُّ يشترط ذلك أو امرأةً واحدةً تحجَّ معها، ومالكٌ لا يشترط من ذلك شيئاً.
وسبب الخِلاف معارضةُ عُموم الآيةِ بهذا الخبر، فعموم الآية قوله تعالى: من استطاع اليه سبيلا* يقتضي الوجوب وإنْ لم يكن ذو مَحرمٍ، والحديث يُخصِّصُ ذلك، فمَنْ خصَّصَ الآية به اشترط المَحرم، ومَنْ لم يُخصِّصْها لم يشترط، وقد يَحْمل مالك الحديث على سفر التَّطَوُّع.
ويُؤيِّد مذهبه أيضاً أن يقول: اتُّفِق على أنَّ عليها أن تهاجر من دار الكفر وإنْ لم يكن معها ذو مَحرمٍ لمَّا كان سفراً واجباً، وكذلك الحجُّ. وقد ينفصل عن هذا بأن يقال: إقامتها في دار الكفر لا تَحِلُّ ويُخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التَّأخير عن الحجِّ”.
وأرى أنَّ مَن جمع بين المُتعارضين بحَمْلهما على العُموم والخُصوص فيكون الحديث مُخصِّصاً للآية أقرب للصَّواب من غيره، ولهذا فقد خالف الإمام النَّوَويُّ مذهبه ورجَّح رأي الجمهور الَّذي لا يرى جواز سفر المرأة للحجِّ إلاّ مع زوجٍ أو مَحرمٍ وقال (6) :"وهذا هو الصَّحيح للأحاديث الصَّحيحة".
المبحث الثَّاني: تعارض الحديثين
إنَّ التَّعارض بين الأحاديث هو ميدان هذا الفنِّ الأكبر، بل إنَّ الذِّهنَ لينصرف إليه عند سماع كلمة تعارض، وما ذلك إلاّ لكثرته واشتهاره، ولمّا كان الحديث يشمل القول والفعل والتَّقرير، فإنَّ القول قد يتعارض مع القول أو القول مع الفعل، أو القول والفعل مع التَّقرير، وهذه الأمور سوف يكون عليها مدار الكلام في هذا المبحث.
المطلب الأوّل: تعارض القولين:
وهذا الّلون من التَّعارض موجودٌ بكثرةٍ كما مرَّ قبل قليلٍ، وهذا التَّعارض قد يكون صريحاً منطوقاً به في كلا الحديثين، وقد يكون صريحاً في حديثٍ، غير صريحٍ في آخر لكنَّ مفهومه يدلُّ على التَّعارض، وهذه أمثلةٌ على ذلك .
أولاً: ورود التَّعارض بين قولين لفظهما صريحٌ، ومثاله: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم -: "لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاّ فِي فَرِيْضَةٍ، وَإنْ لَمْ يَجِدْ أحَدُكُمْ إلاّ عُودَ كَرْمٍ أوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ"(1) .
وهذا الحديث يتعارض مع أحاديث مُتنوِّعةٍ تُجيز صيام السَّبت، ومنها الحديث الّذي أشار إليه الحاكم بأنَّه معارضٌ لهذا الحديث، حيث قال عند روايته(2) :"صحيحٌ على شرط البُخاريِّ ولم يُخرِّجاه، وله مُعارضٌ بإسنادٍ صحيحٍ قد أخرجاه(1) : حديث همام عن قتادة عن أبي أيوبٍ العَتَكِيِّ، عن جُويْرِيَّة بنت الحارث أنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - دخل عليها يوم الجُمعة وهي صائمةٌ فقال: "صُمْتِ أمْسِ"؟ قالت: لا، قال: "فَتُرِيْدِينَ أنْ تَصُومِي غَدَاً "؟ الحديث.
ومنها الحديث الّذي أخرجه البُخاريُّ(2) عن أبي هُريرة قال: سمعت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم - يقول: "لا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلاّ يَوْمَاً قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ ".
فواضحٌ أنَّ بين هذين الحديثين وحديث النَّهي عن صيام السَّبت تعارُضاً ظاهراً، إذ هما يُجيزان للمرء أن يصوم السَّبت إن صام قبله الجُمُعه، وواضحٌ أنَّ سِياق الحديثين لم تذكرالفريضة فيهما، بل ما تَطوُّعٌ محضٌ، بعكس حديث الباب. ولا يفهم من استشهادي بهذين الحديثين أنَّهما المعارضان لحديث النَّهي عن صيام يوم السَّبت فحَسبُ، إذ أنَّ هناك أحاديث أُخرى يُفهم من سياقها التَّعارض والتَّناقض. ومنها: حديث صيام داود(3) أنَّه كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ممَّا يُوجب أن يقع ضمن صيامه يوم السَّبت مرتين كلَّ شهرٍ على الأقلِّ، وكذلك صيام الأيام البِيْض(4) من كلِّ شهرٍ، فإنَّه لابدَّ أن يُصادف السَّبتُ أحدَ هذه الأيام إلى غير ذلك من الأحاديث المُعارضة.
وعلى هذا فإنَّنا يجب أن نفهم أن هذا الحديث معارضٌ لجملةٍ من الأحاديث، وليس لحديثٍ واحدٍ، ولذلك اختلفت أقوال العلماء في الحديث، وفي توجيه التَّعارض والتَّناقض في الحديثين، في كلام يطول ويتفرَّع، وسوف يكون كلامي على هذا الحديث من وجهين ؛ أوّلهما: النَّظر في صحَّة الحديث، وثانيهما: النَّظر في توجيهه في مقابلة هذه الأحاديث المعارضة له.
أمَّا بالنِّسبة للنَّظر في صحَّة الحديث فقد اختلف العلماء والباحثون قديماً وحديثاً في صحَّة هذا الحديث، وفي حُجِّيته، فمن كاتمٍ ومُكذِّبٍ ومُضَعفٍ له، إلى مُصحِّحٍ له ،بل إلى من يضعه في أعلى درجات الصِّحَّة، ويجعله أصلاً تتفرَّع عنه مسائل.
وللوقوف على حقيقة ذلك أنقل ما يلي:
روى أبو داود(6) عن مالك أنَّه قال: هذا حديثٌ كذبٌ.
طريقة من صحَّحَه، ورجَّح عبد الحقِّ الرِّواية الأولى، وتَبِع في ذلك الدَّارقُطني، لكنَّ هذا التَّلوُّن في الحديث الواحد، بالإسناد الواحد، مع اتِّحاد الَمْخرج، يُوهِّن روايه، ويُنْبِىءُ بِقلَّة ضَبطِهِ، إلاّ أنْ يكونَ من الحُفَّاظ المُكثرين المعروفين بجمع طُرق الحديث فلا يكون ذلك دالاً على قِلَّة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا، بل اخْتُلِف فيه أيضاً على الرَّاوي عن عبد الله بن بُسرٍ أيضاً".
وقد بحث ابن القيِّم(1) هذا الحديث بحثاً طويلاً تناول فيه أقوال من رفَض الحديث وضعَّفه، أو حمله على النَّسخ أو غيره فأجاب عما احتوته، وتعرَّض لأقوال من كرِه الحديث وتعرَّض لحُجَجهم ثُمَّ قال(2) :"واحتجَّ الأثرم بما ذُكر في النُّصوص المتواترة على صوم يوم السَّبت، يعني أن يُقال: يمكن حمل النُّصوص الدَّالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النَّهي على صومه وحده، وعلى هذا تتَّفقُّ النُّصوص.
وهذه طريقةٌ جيِّدةٌ لولا أنَّ قوله في الحديث: "لا تَصُوُمُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلاّ فِيْمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ " دليلٌ على المنعِ من صومه في غير الفرض مُفرداً أو مضافاً، لأنَّ الاستثناء دليل التَّناول، وهو يقتضي أنَّ النَّهي عنه يتناول كُلَّ صُور صومه، إلا صورة الفرض، ولو كان إنَّما يتناول صُورة الإفراد لقال: لا تصوموا يوم السَّبت إلا أن تصُوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، كما قال في الجُمعة.
فلمَّا خصَّ الصُّورة المأذون في صَومها بالفريضة، عُلم تناول النَّهي لما قابلها، وقد ثَبت صوم يوم السَّبت مع غيره بما تقدَّم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة: "إلا أنْ تَصُومُوا يَوماً قبله أو يَوْماً بَعْدَه" فدلَّ على أنَّ الحديث غيَر محفوظٍ وأنَّه شاذٌّ ، وإلى مثل هذا ذهب شيخه ابن تَيميَّة قبله وقال(3) : بعد أن ساق أقوال بعض من رفض الحديث: "وعلى هذا فيكون الحديث إمَّا شاذّاً غير محفوظٍ وإمَّا منسوخاً، وهذه طريقة قُدماء أصحاب أحمد الذين صحِبوه، كالأثرم، وأبي داود..."وقال(4) :"وأمَّا أكثر أصحابنا ففهِموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحملِه على الإفراد، فإنَّه سُئِل عن عين الحكم فأجاب بالحديث، وجوابُه بالحديث يقتضي اتِّباعُهُ ".
وخلاصة القول في هذا الحديث بأنَّه يحتمل أحد أمرين:
أوّلاً: الجمع ، وهذا يقود إلى قبول قول من حمل النَّهي على أنَّه نهيٌ عن إفراد الصَّوم يوم السَّبت، لا منع الصَّوم مُطلقاً.
ثانياً: التَّرجيح وهنا يرجح قول من - ذكر أنَّ الحديث شاذٌّ.
لذا فإنِّي أُرجِّح القول الأول، مختتماً ومستشهداً بكلمة لمرعي الكرمي(1) وهي نهايةٌ في التَّحقيق حيث قال(2) : فهذا الشَّارع قسَّم الأيام باعتبار الصَّوم ثلاثة أقسامٍ:
قسمٌ شُرع تخصيصه بالصِّيام إمَّا إيجابا كرمضان ، أو استحباباً كيوم عرفة وعاشوراء .
وقسمٌ نُهي عن صومه مُطلقاً كيوم العيدين.
وقسمٌ نُهى عن تخصيصه كيوم الجُمعة، وسُرَر شعبان، وإفراد صوم السَّبت، وإفراد رجب ، فلو صِيم مع غيره، أو وافق عادةً لم يُكره.
ثانياً: ورود التَّعارض في قولين ؛ أحدهما دلالته ظاهرةٌ، والآخر دلالته مُستنبطةٌ ، ومثال ذلك: قول النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - لرجل عندما وجده يمشي بين القُبور وعليه نعلان فناداه النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - "يَا صَاحِبَ السَّبْتِيَّتَيْنِ وَيْحَكَ ألْقِ سِبْتِيَّيَتْكَ" فنَظر الرَّجل فلمَّا عرف رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - خلعهما فرمى بهما(3) .
فهذا الحديث الصَّريح في منع المشي بين القُبور بالنِّعال يُعارضه حديثٌ آخر فُهِم منه جواز المشي بين القبور بالنِّعال ، وهو ما روى البُخاريُّ(4) ومُسلمٌ (5) والّلفظ له - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -:"إنَّ الميِّت إذا وُضِع في قَبْره، إنَّه لَيَسمع خَفْق نِعالِهم إذا انْصرفوا".
فيُفهم من هذا الحديث جواز المشي بين القُبور بالنِّعال، وإلا لم يقل: "ليَسْمع خَفْقَ نِعالِهم". وهذا ما فهمه غيُر واحدٍ من العلماء من هذا الحديث ومنهم الطَّحاويُّ(1) إذ قال قبل روايته لهذا الحديث: "وقد رُوي عن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ما يدلُّ على إباحة المشي بين القُبور بالنِّعال، ثُمَّ ساق هذا الحديث.
ولإزالة هذا التَّعارض الوارد بين الحديثين لجا بعض العلماء إلى الجمع بينهما وذهب آخرون إلى التَّرجيح.
أمَّا الّذين ذهبوا إلى الجمع فقد قال بعضهم: إن النَّهي الّذي كان في حديث بشير - أي الحديث الأول - للنجاسة التي كانت في النعلين لئلا ينجس القبور، كما قد نهى أن يتغوط عليها أو يبال. والى هذا الرأي ذهب الطحاوي(2) والبيهقي(3) ، وأبو عبيد(4) وذكره النووي(5) كأحد أوجه الجمع بين الحديثين.
والتسليم لهذا الرأي فيه نظر اذ يعوزه النقل، ولو كان في النعل قذر أو نجاسة لنقل هذا في احدى روايات الحديث ، ولهذا شن ابن حزم بأسلوبه المعهود هجوما على أصحاب هذا الرأي فقال(6) : “وقال بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه فقال: لعل تينك النعلين كان فيهما قذر.
قال أبو محمد - أي ابن حزم - من قطع بهذا فقد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، اذ قوله ما لم يقل، ومن لم يقطع بذلك فقد حكم بالظن، وقفاما لا علم له به”.
قلت: فاني وان لم أوافق ابن حزم على عباراته، الا اني أرضى استنتاجه.
وذهب آخرون الى أنه - صلى الله عليه وسلم - وانما نهى عن النعال السبتية - وهي المدبوغة بالقرظ - لما فيها من الخيلاء، قال الخطابي(7) : “وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم، قال الشاعر يمدح رجلا: ويحذي نعال السبت ليس بتوأم(8) .
وقال أبو عبيد(9) : وانما ذكرت السبتية لأن أكثرهم في الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة، الا أهل السعة منهم والشرف.
وهناك رأيٌ آخر في الجمع هو لابن حزم(1) ، اذ أنه رأى أن النهي عن المشي بين القبور مختص بالنعال السبتية، لأنها سبتية دون أن يعلل جريا منه على حمل المراد على ظاهر اللفظ، فقال بعد رواية حديث “ان العبد اذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم” فهذا اخبار منه - عليه السلام - بما يكون بعده، وأن الناس من المسلمين سيلبسون النعال في مدامن الموتى الى يوم القيامة على عموم انذاره - عليه السلام - بذلك، ولم ينه عنه، والأخبار لا تنسخ أصلا، فصح اباحة لباس النعال في المقابر، ووجب استثناء السبتية منها، لنصه - عليه السلام - عليها. والى هذا الراي الأخير مال القاضي أبو يعلى حيث قال(2) : “ذلك مختص بالنعال السبتية لا يتعداها الى غيرها، لأن الحكم تعبدي غير معلل، فلا يتعدى مورد النص.
أما الذين ذهبوا الى الترجيح فقد تمسكوا بظاهر النهي، وحملوا المراد بالنعال على العموم ولم يخصوها بالسبتية، فقد نقل ابن القيم(3) أن الامام أحمد قال عن اسناد هذا الحديث الذي فيه النهي: انه جيد، وأنه يذهب اليه الا من علة.
وقال ابن القيم عن تعارض الحديثين(4) : “وأما معارضته بقوله - صلى الله عليه وسلم - “انه يسمع قرع نعالهم” فمعارضة فاسدة فان هذا اخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالواقع ، وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا لا يدل على الاذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، اذ الاخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه ولا تحريمه ولا حكمه، فكيف يعارض النهي الصريح به”.
والى قريب منها ذهب ابن حجر (5) - رحمه الله - فقال بعد حكايته الحديث: واستدل به على جواز المشي بين القبور ولادلة فيه. ... وقال أيضا: وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء فإنَّه متعقَّب بأنَّ ابن عمر كان يلبس النِّعال السِّبْتيَّة ويقول: إنَّ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - كان يلبسها، وهو حديثٌ صحيحٌ(1) .
قلت: ولا يمنع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس هذه النعال في حياته المعتادة أن ينهى عنها عند دخول المقابر، لأنه لا يتلاءم مع ما يجب أن يكون عليه المؤمن من خشوع وخضوع وتواضع، لذا أراني أميل الى رأي الخطابي مع هذه الملاحظة التي ربما فاتت البعض من العلماء وبنه عليها النووي(7) . وبهذا يزول التعارض دون الحاجة الى أهمال أحد الحديثين.
ويلتحق بهذا المطلب وجود التعارض في القول الواحد، أي في الحديث نفسه كما زعم من ادعى التناقض على الأحاديث، ومثاله ما أورده ابن قتيبة عندما قال(8) : “قالوا حديث يفسد أوله آخره، قالوا: رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: “اذا قام أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا، فانه لا يدري أين باتت يده”(9) قالوا: وهذا الحديث جائز لاولا قوله فانه لا يدري أين باتت يده، وما منا أحد الا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه، وحيث باتت رجله، وأذنه ، وأنفه وسائر أعضائه ، وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه في نومه، ولو أن رجلا حس فرجه في يقظته لما نقض ذلك طهارته فكيف بأن يمسه وهو لا يعلم، والله لا يؤاخذ الناس بما لا يعلمون.
فالمعترضون على هذا الحديث كما يظهر اعترضوا على أمرين، وجدوا أنهما غير معقولين.
أولهما: قوله - صلى الله عليه وسلم - : “أين باتت يده” حيث فهموا منه أن جسمه يبات في مكان ويده في مكان آخر، ولهذا أوردوا الاعتراضات التي تبين ذلك حيث جاء: وما منا أحد الا وقد درى أن يده باتت حيث بات بدنه وحيث باتت رجله. وهذا الاعتراض منقوض بالروايات الأخرى عند ابن خزيمة(10) والدارقطني(11) بزيادة لفظه منه، فقد قال ابن خزيمة(12) : باب ذكر الدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انما أراد بقوله: “فانه لا يدري أين باتت يده منه”، أي أنه لا يدري أين باتت يده من جسده، ثم روى الحديث ولفظه: “اذا استيقظ احدكم من نومه فلا يغمس يده في انائه، أو في منوئه حتى يغسلها فانه لا يدري أين باتت يده منه”. واسناده في هذا الحديث صحيح. فبهذا ينتقض الاعتراض الأول.
وثانيهما: انه يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - أين باتت يده ، أي على أي جزء من أجزاء جسمه وهذا لا يوجب غسلا لليد، لأن أقصى ما يمكن أن تمسه الفرج، ويرى المعترضون أن الوضوء من مس الفرج في اليقظة لا يوجب غسلا لليد أو وضوءا فكيف بالنوم وهو مقام احتمال ليس الا؟
وقد ذكر النووي تعليل هذا الأمر عن الشافعي فقال(1) : سببه ما قاله الشافعي - رحمه الله - وغيره أن أهل الحجاز كانوا يقتصرون على الاسنجاء بالأحجار وبلادهم حارة، فاذا نام أحدهم عرق، فلا يأمن أن تطوف يده على المحل النجس أو على بثره أو قمله ونحو ذلك فتتنجس”. فالعلة اذا ليست مجرد الخوف من مس الفرج بل الخوف من التنجس ولهذا قال الشاطبي(2) : “اذ النائم قد يمس فرجه فيصيبه شيء من نجاسة في المحل لعدم استنجاء تقدم النوم، او يكون قد استجمر فوق موضع الاستجمار، وهو لو كان يقزظان فمس لعلم بالنجاسة اذا علقت بيده فيغسلها قبل غمسها في الاناء لئلا يفسد الماء، واذا أممكن هذا لم يتوجه الاعتراض”.
فبهذا التعليل يندفع الاعتراض التثاني، وهو تعليل مقبول ومعقول اذا الخشية لابد مترتبة من خوف اصابة النجاسة، ولهذا نقل ابن عبد البر(3) الاجماع عن جماهير العلماء في الذي يبيت في سراويله وينام فيها، ثم يقوم من نومه ذلك أنه مندوب الى غسل يده قبل أن يدخلها في اناء وضوئه، قال: وفهم من أوجب عليه مع حاله هذه غسل يده فرضا. وعلل ابن عبد البر(4) الندب فيمن هذه حالة بأن من بات في سراويله لا يخاف عليه أن يمس بيده نجاسة في الأغلب من أمره.
المطلب الثاني: توهم تعارض القول مع الفعل:
وذلك أن يرد قول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه نهي عن أمر ما ثم ينقل لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قام بهذا الأمر وفعله، مما يجعل الناظر إلى هذين النَّصين في حيرة واضطراب، ان لم يكن في شك وارتياب.
وابتداء قد تكون الإجابة حاضرة وميسورة بأن نقدم الآخر على الأول منهما، أي أن نحمل الأمر على النسخ ان استطعنا معرفة زمن كل منهما، عند من يقولون بجواز نسخ القول بفعل، أو أن نرجح القول على الفعل، لأن دلالة القول أقوى من دلالة الفعل ، ولا يعتريه ما يعتري الفعل من احتمالات تصرفه عن أن يكون بقوة القول ، كأن يكون من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن هذه الاجابات لا تكون الا بعد دراسة النصين سندا او متنا، وتقديم أجوبة مقبولة مقنعة، مع الأخذ بعين الاعتبار القواعد الحديثية والأصولية.
أما ادعاء الخصوصية فهيهات، اذ لابد من نص يثبت التخصيص، والخصوصية لا تثبت بالاحتمال، ولا يمكن ادعائهما بمجرد التعارض والتضاد، ثم اني أفهم الخصوصية التي خص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة في احكام العبادات تميل نحو التشديد عليه لا العكس، اذ لا يعقل أن يامر أمته بأمر فيه عزيمة، ثم يترخص لنفسه - صلى الله عليه وسلم - فمثلا التهحد سنة على المؤمنين، لكنه فرض عليه - صلى الله عليه وسلم (5) - كما ذهب الى ذلك أغلب المحققين وكذا عند أكثر المفسرين في تفسيرهم لقوله تعالى(6) : {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} قال البغوي(7) : وكانت صلاة الليل فريضة على - النبي صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى(8) : {يا أيها المزمل قم الليل الا...} ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى(9) : {فأقرؤا ما تيسر منه} وبقي الوجوب ثابتاً في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله(10) :{نافلة لك} أي زيادة لك، يريد فريضـــــــة زائدة على سائر الفرائض.
وهذا القول مروي عن ابن عباس، فقد ذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: يعني النافلة، أو بقيام الليل وكتب عليه، وذكر أن مجاهدا قال: انها نافلة وليست فرضا، وعقب بقوله: وأولى القولين بالصواب في ذلك القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل دون سائر أمته، فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك فقول لا معنى له.
فبعد هذا الاستطراد الذي اضطررت اليه لتأييد ما ذهبت اليه من أن الخصوصية في العبادات تميل في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وأمته من بعدهم بالشيء الذي فيه عزيمة، ثم يأتيه بدعوى التخصيص، ومن أدعى هذا فعليه البينة.
ومن أمثلة التعارض بين القول والفعل ما رواه البخاري(11) ومسلم(12) في صحيحهما - واللفظ للبخاري - عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: “اذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا”.
ثم ما نقله البخاري(13) عن ابن عمر أنه كان يقول: “ان ناسا يقولون اذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر، لقد ارتقيت يوما على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته”.
ولقد اختلفت أنظار العلماء لهذين الحديثين مع أحاديث أخرى انضافت اليهما، ولكنها لا تخرج عما فيهما - وبناء على ذلك اختلفت اجتهاداتهم ومذاهبهم، ولا أريد أن أدخل في تفصيلات المذاهب من حيث النهي عن الاستقبال، أو الاستدبار، وهل هو عنهما معا، وهل يجوز الاستقبال دون الاستدبار، أم هما مباحان معا، لأن هذا وان كان متعلقات، الباب الا أنه لا يقذم كثيرا أو لا يوخر كما أرى، ولهذا فلسوف ابحث في قضية النهي عن الاستقبال والاستدبار معا، كما نطق بذلك الحديث، وما نقل الينا من استقبال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو استدبار القبلة كما نقل الينا من فعله، فالذي يهمني بالدرجة الأولى هو بحث تناقض القول مع الفعل. وللتوفيق بينهما نجد عدة اراء.
منها أن البعض ذهب الى أن النهي على ما هو عليه، والفعل مختص به - صلى الله عليه وسلم - قال السيوطي(1) : “وقال آخرون: هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والأحاديث الدالة على المنع باقية بحالها، وأيده ابن دقيق العيد: بأنه لو كان هذا الفعل عاما للأمة لبينه لهم باظهار بالقول، فان الأحكام لا بد من بيانها. وقد رد ابن حجر هذا الرأي فقال(2) : “ودعوى خصوصية ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا دليل عليها اذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال”.
وذهب آخرون الى النسخ كما يوحي بذلك ضيع ابن شاهين(3) حيث ساق بعد حديث النهي عدة أحاديث، منها حديث ابن عمر المتقدم آنفا، وحديث جابر ابن عبد الله، قال(4) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا أن نستدبر القبلة، أو نستقبلها بطروحنا اذا أهرقنا الماء، ثم قد رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة. وعقب على هذه الأحاديث برايين أحدهما قوله: وهذا يدل على أن حديث النهي نسخ بغيره والى هذا جنح الحازمي(5) وغيره.
وقد تعقب عدد من العلماء من ذهب الى هذا فهم ابن الجوزي حيث قال(1) : “وقد ظن جماعة نسخ الأول بالثاني وليس كذلك”، وقال النووي(2) : “وأما قولهم ناسخان فخطأ ، لأن النسخ لا يصار اليه الا اذا تعذر الجمع، ولم يتعذر هنا”.
ثم انه قد غاب عن الأذهان أن الفعل لا ينسخ القول، بل ان من زعم النسخ لا يستطيع أن يدافع عن شبهة خطيرة، وهي لو لم يرتقي ابن عمر، أو يشاهد جابر فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما نقل الينا الخلاف، فيكون عمل الأمة جميعا على الحديث المنسوخ، وهذا باطل بين البطلان.
وذهب فريق ثالث، وهو أعدل الأقوال وأحكمها الى التفريق بين قضاء الحاجة في الخلاء، وبين قضائها في البنيان، فمنعوا الأول، وأجازوا الأخير.
قال الشافعي(3) : كان القوم عربا، انما عامة مذاهبهم في الصحاري، وكثير من مذاهبهم لا حش فيها يسترهم، فكان الذاهب لحاجته اذا استقبل القبلة أو استدبرها استقبل المصلي بفرجه أو استدبره، ولم يكن عليهم ضرورة في أي بشرقوا أو يغربوا، فأمروا بذلك. وكانت البيوت مخالفة للصحراء فاذا كان بين اظهرها كان من فيه مستترا لا يراه الا من دخل أو أشرف عليه، وكان المذاهب بين المنازل متضايقة لا يمكن من التحرف فيها ما يمكن في الصحراء ، فلما ذكر ابن عمر ما رأى من رسول الله من استقباله بيت المقدس، وهو حينئذ مستدبر الكعبة دل على أنه انما نهى عن استقبال الكعبة واستدبارها في الصحراء دون المنازل.
وقد صح ابن عبد البر هذا الرأي وارتضاه فقال(4) : “والصحح عندنا الذي يذهب اليه ما قاله مالك وأصحابه، والشافعي لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها دون رد شيء ثابت منها.
وهو من أسلم الأداء وأحكمها، ويؤيده ما نقل عن مروان الأًغر قال(5) : “رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول اليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ، أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى، انما نهي عن ذلك في الفضاء، فاذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس”.
ويلتحق بتعارض القول مع الفعل، تعارض الهم بالفعل مع القول، ولا شك أن الهم بالفعل ليس بفعل ، وان كان الله - تعالى - يثيب على الهم بالحسنة، ولا يعاقب على الهم بالسيئة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : “من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فان هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة”(6) .
والهم مرحلة تسبق الفعل مباشرة تسبقها مراحل، اذ نقل السيوطي(7) عن السبكي (8) انه قال: الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمسة مراتب: الأول: الهاجس، وهو ما يلقي فيها، ثم جريانه فيها وهو الخاطر، ثم حديث النفس، وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا؟ ثم الهم، وهو ترجيح قصد الفعل، ثم العزم، وهو قوة ذلك القصد والجزم به.
ورأى القرافي(9) أن الهم والعزم مترادفان فقال(10) بعد تعريفه للهم والعزم: “فظاهر أنه -أي الهم - مراد في للعزم، وأن معناهما واحد”.
ويرى الغزالي(11) أن أحوال القلب قبل العمل بالجارحة أربعة(12) : الخاطر، وهو حديث النفس، ثم الميل، ثم الاعتقاد، ثم الهم.
اذا فالهم عند جميعهم - تقريبا - هو المرحلة التي تسبق الفعل تماما.
أما مثال تعارض الهم مع أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو ما ورد في الصحيحين(13) واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: “والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف والى رجال فأحرق عليهم بيوتهم،...”.
وهذا يتعارض مع حديث آخر رواه البخاري(14) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث، فقال: “ان وجدتم فلانا وفلانا، فاحرقوهما بالنار” ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: “اني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وان النار لا يعذب بها الا الله، فان وجدتموهما فاقتلوهما”.
وواضح جلي أن الهم بالتحريف، يتعارض مع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحرق بالنار، ولدفع التعارض يرى ابن حجر(15) أن التحريق كان ثم نسخ، وذكر هو وغيره الاجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.
المطلب الثالث: توهم تعارض الفعلين:
ان ادعاء تعارض الأفعال على النبي - صلى الله عليه وسلم - من مستشنع الأمور، اذ كيف يعزى تضاد الأفعال لرجل ما فضلا عن نبي مشرع يوحي اليه، ولهذا يجب التأني والتريث عند ادعاء التعارض، فان كنا نستطيع حمل تعارض القولين على النسخ أو غيره، وحمل تعارض القول والفعل على الخصوصية وما شابهها، فاننا نجد صعوبة عند ورود تعارض الفعلين.
ولمزيد القاء الضوء على قضية تعارض الفعلين لابد من استطراد أصولي بين أقوال العلماء في هذه المسألة، وقد لخص أقوالهم ورتبها الدكتور محمد سليمان الأشقر، فهائنذا أنقل من كتابه(16) بتصرف قال:
1 - ذهب القاضي الباقلاني الى القول الأول، فرأى أن الفعلين لا يتعارضان، وأن التعارض فيهما محال، يقول في كتابه التقريب: “دخول التعارض على الفعلين محال، لأنه ان وقعا من شخصين، أو من شخص واحد في وقتين، أو على وجهين مختلفين لم يكن بينهما تعارض، لأن الفعل يكون من أحد الفاعلين قربة، ويكون من الآخر معصية، ويكون من الشخص الواحد في وقت قربة، وفي وقت آخر حراما”(17) .
وقال العلائي(18) : هذا القول هو الذي اطبق عليه جمهور أئمة الأصول”.
2 - وذهب جمع آخر من العلماء الى القول الثاني، وهو ان وقوع التعارض يفيد جواز فعل الأمرين، أو نسخ الأشد للأيسر كنسخ الوجوب للندب، أو نسخ التحريم للأقل وهكذا.
وحقيقة الأمر أن التعارض قد يرد، وواجبنا حينذا أن ننظر في كيفية ازالة هذا التعارض، لا في نفيه، أو القول باستحالته، وعلى هذا يجب التعامل مع الأمثلة اللاحقة.
ومثال ما وقع التعارض فيه بين الأفعال ما رواه البخاري(1) في “صحيحه” عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة.
ثم ما رواه ايضا(2) عن عبد الله بن زيد ان النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين.
وما رواه(3) عن عثمان بن عفان أنه دعا باناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الاناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه الى المرفقين ثلاث مرارظ، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار الى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه.
وشاهدي من سياقة هذه الأحاديث اظهار الاختلاف بين روايات هؤلاء الصحابة فقائل ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وآخر ذكر أنه توضأ مرتين مرتين، وثالث قال انه توضأ ثلاثا ثلاثا. فلو اعترض معترض على هذه الأفعال بالتناقض أو التدافع لوجد من يؤيده ويقف في صفه.
ولكن الفهم العميق، والتدقيق في اطلاق الألفاظ يأبي علينا الموافقة على تعارض هذه الأحاديث والأفعال، اذ من الممكن توجيهها وازالة الاختلاف عنها.
ولازالة التعارض يمكن حمل الأمر على الجواز، أي جواز الوضوء مرة مرة، وجوازه مرتين، وثلاثا. وقد جعل الشافعي(4) وابن خزيمة هذا الاختلاف من باب اختلاف المباح، قال الشافعي: “ولا يقال لشيء من هذه الاحاديث مختلف مطلقا، ولكن الفعل فيها يختلف من وجه أنه مباح، لا اختلاف الحلال والحرام، والأمر والنهي ، ولكن أقل ما يجزيء من الوضوء مرة، وأكمل ما يكون من الوضوء ثلاث”.
وقال ابن خزيمة(1) : “باب اباحة الوضوء مرة مرة، والدليل على أن غاسل اعضاء الوضوء مرة مرة مؤد لفرض الوضوء، اذ غاسل أعضاء الوضوء مرة مرة واقع عليه اسم غاسل، والله - عز وجل - أمر بغسل أعضاء الوضوء بلا ذكر توقيت، وفي وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، واعضاء الوضوء شفعا، وبعضه وترا دلالة على أن هذا كله مباح، وأن كل من فعل في الوضوء ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات مؤد لفرض الوضوء، لأن هذا من اختلاف المباح، لا من اختلاف الذي بعضه مباح وبعضه محظور".
وهذا منهما محمل حسن، وهو نظير قولهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في المغرب بكذا وكذا، واخبار آخر أنه كان يقرأ بسور مختلفة وهكذا فان هذا كله لا يقال له اختلاف، انما هو من باب المباح. ولقد رأيت ابن حبان والبيهقي وابن عبد البر يسلكون هذا المسلك لدفع التعارض عن الافعال. وكذا غير واحد من العلماء غيرهم، الا أني رأيت ابن تيمية قد اطلق على اختلاف المباح اختلاف التنوع، وعلى ضده اختلاف التضاد، وهو اطلاق حسن .
قال ابن تيمية(2) : أما أنواع الاختلاف فهي في الاصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه، منه ما يكون كل واحد من القولين أو أو الفعلين حقا مشروعا كما في القرآءات التي اختلف فيها الصحابة... ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والاقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازه الى غير ذلك مما شرع جميعه...".
فعلى هذا فتعارض الفعلين هنا غير مؤثر، وانما هو اختلاف مباح وتنوع يجوز الاقتصار فيه على الوضوء مرة ويجوز مرتين، وتجوز ثلاثا. وهذا التعارض لم يؤثر على المقولات الفقهيه، اذ لم يوجد من الفقهاء من تحيز لهذا الفعل، ومنهم من تحيز لذاك، ولكن هناك أنواعا من تعارض الفعل قد أثرت ، وكان لها صدى في مجال الفقه ومثالها:
ما روي البخاري في صحيحه(3) عن عبدالله بن بحينه - رضي الله عنه - أنه قال ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك.
وروى أيضا عن عبد الله - وهو ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم.
فهذا فعلان مختلفان، رويا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد صحيحة.
وهذا الاختلاف ليس كسابقه، اذا ترتب عليه اختلاف أحكام سجود السهو بين العلماء، وبناء على ذلك اختلفت اجتهاداتهم في هذه المسألة.
فمنهم من ذهب الى أن السجدتين قبل السلام مطلقا وهم الشافعية(1) ، ومنهم من ذهب الى انه بعد السلام مطلقا وهم الحنفية(2) ، وذهب آخرون الى التفصيل وهم المالكية(3) فقالوا: ان كان السهو بزيادة فالسجود له بعد السلام، وان كان بنقصان فالسجود قبل السلام. أما أحمد والظاهرية فقالوا بالعمل بالأحاديث جميعا، أي السجود قبل السلام أحيانا، وبعد أحيانا أخرى حسب ما كان يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ويجب التنبيه هنا الى أن اختلافاتهم الكثيرة في شأن سجود السهو لم يكن مصدرها هذين الحديثين فقط، بل كان الاعتماد على عدد آخر من الأحاديث، ولكن الحديثين الذين وصفا فعل النبي كانا اساسيين في المسألة ومرجحين عند حصول الاشكال. وقد ذكر النووي (4) الاحاديث التي اعتمد عليها العلماء عند بيانهم أحكام سجود السهو، وبين أقوال كل منهم.
وأرى أن تفصيل المالكية تفصيل حسن يذهب التعارض والتضاد، وان كان رأى الشافعية كذلك لا يخلو من قوة ووجاهة. والكلام في هذه المسألة قد يطول فأكتفى بما نقلت من أقوال العلماء محيلا على كتبهم، وأرى أن أهمها كتاب العلائي(5) "نظم الفرائد لما تصمنه حديث ذي اليدين من الفوائد" فهو مخصص لهذه المسألة. مستوعب لأقاويل العلماء ومناقشتها.
المطلب الرابع: توهم تعارض التقرير مع القول والفعل.
عرف ابن حجر(6) التقرير بأنه ما يفعل بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يقال ويطلع عليه بغير انكار.
وقال أبو شامة(7) : اذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا صادرا من مسلم مكلف، أو سمع منه قولا، أو بلغه ذلك ولم ينكره مع فهمه له، دل على رفع الحرج في ذلك الفعل، فانه لو كان منكرا لأنكره.
ووجه دخول هذا المطلب تحت هذا المبحث، هو أن التقرير جزء من الحديث أو السنة، اذ أن تعريفها المتفق عليه بين الأصةوليين والمحدثين(1) : "ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير".
ولذلك عندما يتعارض تقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قول أو فعل، فانما هو تعارض واقع بين حديثين، وعند حصول هذا التعارض لا نستطيع تقديم اجابات جاهزة بان نقول ان دلالة القول أو الفعل أقوى من دلالة التقرير، اذ هما فعل، والتقرير غالبا ما يكون سكوتا، أو أن يكون سكوت مقرون بتبسم أو اهتزاز، يفهم منه رضي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الأمر وعدم انكاره(2) .
ومن أمثلة تعارض التقرير مع القول ما رواه الشيخان(3) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت ألعب البنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذا دخل يتقمعن منه، فيسر بهن الى فيلعبن معي.
فيستفاد من هذا الحديث اقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وصوبحاتها على اللعب بالبنات، وهن اللعب المصورة، وهذا التقرير يتعارض مع أحاديث قوليه نهت عن الصور صنيعها، اتخاذها، بيعها. منها الحديث الذي رواه البخاري(4) عن عائشة - رضي الله عنها - أنها أخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخله، فعرفت في وجهه الكراهة، فقلت يا رسول الله أتوب الى الله والى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ان أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: "ان أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم" وقال: "ان البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة".
وقد تنبه العلماء وبخاصة شراح الصحيحين لهذا التعارض، فحاولوا الاجابة عنه بأجوبة متعددة، منها: ما ذكره النووي(5) عن القاضي عياض(6) من جواز اللعب بهن - أي اللعب - قال: وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث. ونقل أن الجمهور يرى جواز اللعب بهن.
ومن الأجوبة أن حديث اللعب منسوخ حكاه النووي وابن حجر(7) وعزياه لطائفة من العلماء، والنسخ يحتاج لدليل أو قرينة، والدليل منتف في هذا الحديث.
ولذلك أراني أميل للرأي الأول من جواز لعب الصغار بالبنات والجواز باق على حاله، لم يتسخ ولم يتغير، والنهي يحمل على من أراد التلهي أو اجلال وتعظيم الصور، وهذا ما يفسر اجازة العلماء للستور التي عليها الصور ان كانت ممتهنة.
قال الخطابي(8) : في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وانما أرخص لعائشة فيها لأنها اذاك كانت غير بالغ. ونقل ابن عبد البر(9) عن عكرمة أنه قال: "كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا، ولا يرون بأسا بما وطئته الأقدام" ، وذكر نظير هذا عن ابن سيرين، وسعيد بن جبير، وسالم بن عبد الله.
أما عن تعارض الفعل مع التقرير فله صورتان، وهما: "أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ويقر أحدا على تكره، أو أن يترك شيئا ويقر أحدا على فعله"(10) .
وأنا على يقين من وجود الصورتين جميعا في الكتب الا أنني لم أوفق لاستلال أمثلة على الحالة الأولى خاصة من كتب السنة، ولعلي استدرك هذا بعدما أجده وفيما يخص الحالة الثانية فاستطيع أن أمثل لها بما رواه مسلم(11) عن عبد الله بن عباس أن خالد بن الوليد الذي يقال له: سيف الله أخبره أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضبا محنوذا(12) قدمت به حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قلما يقدم اليه طعام تحدث به ويسمى له، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده الى الضب فقالت أمرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟! قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه.
قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله ينظر فلم ينهي.
فكما يظهر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع عن فعل ، ولكنه أقره من غير نكير، الا أن التعارض الظاهر هنا مرفوع بنص الحديث، لأن ترك الفعل من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عيافة له، وهو من الأمور الجبلية التي لا تدخل في التشريع.
الفصل الثاني
توهم تعارض الحديث مع أصول الدين والشريعة
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول : تعارض الحديث مع قواعد العقائد.
المبحث الثاني : تعارض الحديث مع القواعد الشرعية والأصولية الفقهية.
المبحث الأول
توهم تعارض الحديث مع قواعد العقائد
إنَّ البحث في هذا الأمر عويصٌ ومعقّدٌ ، نظراً للاختلاف الواسع في نظر العلماء على تعدُّد مشاربهم ، للعقائد وقواعدها، وما يجب أن يكون أصلاً وما يتفرَّع منه، بل ما هو منها محكمٌ ينبغي اتِّباعه مع ما هو متشابه يجب ردّه إلىلمحكم. ولا يستطيع المرء إلا أن ينزع دوماً نحو رأيه واعتقاده ، سيّما وأنَّ المتعلِّق بهذه النُّقطة هو اعتقاده وما يجب عليه في حقِّ الله -جل وعلا-وما لا يجب ، وهذا بحدِّ ذاته غير شائنٍ لأهله، إلا إنَّ الخطأ والخطل يكمنان عندما يجعل المرء نفسه مقياساً للصَّواب والخطأ، منه ينبع الصَّواب، ومن غيره دوماً التَّجديف والخطأ، فكلُّ ما وافق رأيه من نصوصٍ هو أيضاً صوابٌ، وما خالفه فمِن ضمن المشكلات المتعارضات، ويُطلق على هذا اللون الذي خالف وجهة نظرٍ ما ـ زوراً وبهتاناً - التَّعارض مع قواعد العقائد!! ولو تواضع أحدهم قليلا لقال: إنَّ هذا متعارضٌ مع العقائد فيما يبدو لي وهو صوابٌ قد يحتمل الخطأ، ولهذا (1) " لا يصح القول بأنَّ هذا الحديث أو ذلك مخالفٌ للعقيدة هكذا باطلاقٍ! فأحاديث الصِّفات - مثلاً - تشتشكل أولاً على ضوء ما يتبنَّاه الباحث، وهكذا أحاديث القَدَر وغيرها من مسائل الأصول المختلف فيها.
فلابدَّ - إذن - من إضافة قيدٍ على توهُّم الإشكال في أيِّ مجالٍ من مجالات هذا النَّوع فنقول: هذا الحديث يوهم التَّشبيه بالنَّظر إلى الباحث، أو فيما يتعلَّق بعقيدة الباحث المُتبناة... وهكذا".
أمَّا عن سيري في هذا المبحث فسوف يكون بإيراد عناوين أشبه بقواعد، أو بمسائل من الأُمهات في هذا المجال، ثم أشرع في إيراد الأمثلة على ما قصدت، وقد جعلت ذلك كلَّه في مطالب هذا بيانها.
المطلب الأول: التنزيه:
تكاد تتَّفِق الفِرق جميعاً - سوى المخذولين منهم الذين انسلخوا عن الإسلام - على تنزيه الله - سبحانه وتعالى - عن المُشاكلة والمُشابهة لأيٍّ من المخلوقات.
فالمعتزلة، والجهميَّة، والخوارج، والأشاعرة، وأصحاب الحديث... إلخ، كلُّهم يُقرُّون نظرياً بوجوب تنزيه الله - تعالى -، وهذه نقولٌ توضِّح ما قدَّمت له(2) .
قال القاضي عبد الجبار(1) : "لا خلاف بين الأمَّة أنَّ ما في سورة الصَّمد حقيقةٌ، وكذلك ما في آية الكرسي، وأن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(2) حقيقةٌ في التَّوحيد.
وقال أبو القاسم الكَعْبي(3) : "المعتزلة مجمعةٌ على أنَّ الله جلَّ ذكره شيءٌ لا كالأشياء، وأنَّه ليس بجسمٍ ولا عرَضٍ، بل هو الخالق للجسم والعَرَض، وأنَّ شيئاً من الحواس، لا يُدركه في دنيا ولا آخرة، وأنَّه لا تحصره الأماكن، ولا تحدُّه الأقطار، بل هو الذي لم يزل ولا مكان، ولا زمان، ولا نهاية ولا حدٍّ، ثمَّ خلق ذلك أجمع وأحدثه مع سائر ما خَلَق ، لا من شيءٍ ، وأنَّه القديم وكلُّ ما سواه محدثٌ، وهذا هو التَّوحيد".
وقالت الجَهْميَّة(4) : لا يجوز أن يُوصَف الباري - تعالى - بصفةٍ يُوصف بها خلقه لأنَّ ذلك يقضي تشبيهاً.
وذكر الغزالي التَّنزيه كأوَّل قاعدةٍ من قواعد العقائد فقال(5) : (( التَّنزيه: وأنَّه ليس بجسمٍ مُصوَّر، ولا جوهر محدود مقدر، وأنَّه لا يماثل الأجسام لا في التَّقدير، ولا في قبول الانقسام، وأنَّه ليس بجوهرٍ ولا تحلُّه الجواهر، ولا بِعَرَضٍ ولا تحلُّه الأعراض، بل لا يماثِلُ موجوداً، ولا يماثِلُه موجودٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }ولا هو مثل شيءٍ )).
وقرَّر الّلقَّاني(6) في منظومته أن:
وكلُّ نَصٍّ أوهم التُّشْبِيها أوِّله أو فَوِّض ورُمْ تَنْزِيها.
وقال شارحاً عقب ذلك(7) : (( أي اقصد واعتقد مع تفويض علم ذلك المعنى (تنزيهاً) له - تعالى - عما لا يليق به، فالسَّلف ينزِّهونه - سبحانه - عمَّا يوهمه ذلك الظاهر من المعنى المحال، يُفوِّضُون علم حقيقته على التَّفصيل إليه تعالى، مع اعتقاد أنَّ هذه النُّصوص من عنده سبحانه، فظهر ممّا قرَّرنا اتِّفاق السَّلف والخَلف على تنزيهه - تعالى - عن المعنى المحال..)).
وإلى هذا ذهب الباجُوري(1) كذلك فقال عند شرحه جملة (ورُمْ تَنْزِيها)(2) : ((اقصد تنزيهاً له تعالى عمّا لا يليق به )).
وقال القُشيريُّ(3) في بيان اعتقاد الصُّوفِيَّة(4) : ((اعلموا -رحمكم الله - أنَّ شيوخ هذه الطَّائفة، بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحةٍ في التَّوحيد صانوا بها عقائدهم عن البِدع، ودانوا بما وجدوا عليه السَّلف وأهل السُّنَّة من توحيدٍ ليس فيه تمثيلٌ ولا تعطيلٌ )).
وقال الصَّابُوني(5) - في بيان عقيدة أصحاب الحديث(4) -: "أصحاب الحديث، حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم، يشهدون لله تعالى بالوحدانيَّة، وللرسول - صلّى الله عليه وسلّم - بالرِّسالة والنُّبوَّة، ويعرفون ربَّهم - عزَّ وجل - بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله - صلّى الله عليه وسلّم - على ما وردت الأخبار الصِّحاح به، ونقلته العدول الثِّقات عنه، ويُثبتون له - جلَّ جلاله - ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلم - ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنَّه خلق آدم بيده، كما نصَّ سبحانه عليه في قوله - عزَّ من قائل -: {يا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }(1) ولا يحرِّفُون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النِّعمتين، أو القُوَّتين تحريف المُعتزلة الجهميَّة - أهلكهم الله -، ولا يُكيِّفُيونَهما بكيفٍ، أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، تشبيه المشبِّهة - خذلهم الله -وقد أعاذ الله - تعالى - أهل السُّنَّة من التَّحريف والتَّكييف، ومَنَّ عليهم بالتَّعريف والتَّفهيم، حتى سلكوا سُبل التَّوحيد والتَّنزيه، وتركوا القول بالتَّعليل والتَّشبيه، واتَّبعوا قول الله - عزَّ وجل - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وهُو السَّميع البَصير}(2))) .
فهذه النُّقول تبيِّن أنَّ أغلب الفِرق تقول بالتَّنزيه، ولكنَّنا عند التَّطبيق نجد اختلافاً وتنافُراً بين ما سلكوه عملياً وما ارتضَوه نظرياً، وذلك لأنَّ كل فرقةٍ ترى التَّنزيه بمنظارها ووفق أصولها، حتَّى عُدَّ التأويل تنزيها !! ونفى الصِّفات تنزيهاً !! في اختلافٍ كبيٍر ليس هذا محلّه(3) .
وبناءً على ذلك فقد رأت كلُّ فرقةٍ كلَّ حديثٍ يُناقض أصولها مناقضاً للتَّوحيد والتَّنزيه، فردَّت بذلك أحاديث كثيرةً، دون وجه حقٍّ، وقد كان هذا الرَّدُّ صريحاً عند بعضهم، وغير صريحٍ عند آخرين، وبخاصَّةٍ في الأحاديث التي تتعلَّق بالصِّفات، إذ هي الأكثر إثارةً للجدل في تاريخ الفكر الإسلامي.
ولسوف اتعرَّض لنماذج من الأمثلة، وهي كثيرةٌ متعدِّدةٌ ، لا أستطيع استيعاب ولو نسبةٍ ضيئلةٍ منها، وما سأذكره يندرج تحته مثيله ونظيره، ومن النَّماذج:
أوّلاً: تنزيه الله عن الجسميَّة ومتعلّقاتها: لقد وردت آياتٌ وأحاديثُ كثيرةٌ تثبت لله تعالى بما يُوهم الجسمية ومُشابهة المخلوقات، كالعين، واليدين، والوجه، ومن الأحاديث الأصابع، القدم، النَّزول، ...إلخ.
فالمعتزلة يقتصرون على ما نطق به القرآن، ويرفضون ما جاءت به السُّنَّة من هذا القبيل ثمَّ يَعمَدُون إلى النُّصوص القرآنيّة، فيصرفونها عن ظاهرها.
أمَّا أهل السُّنَّة فيؤمنون بما جاءت به الآيات والأحاديث ، دون تأويلٍ أو تحريفٍ أو تعطيلٍ ، وقد جعل البعض لفهم أهل السنَّة ومن يلتحق بهم لهذه الأحاديث منهجين:
منهج السَّلف: وهو الإيمان بما ورد في هذه النُّصوص، وإثباته مع تفويض كيفيته إلى الله تعالى.
منهج الخلَف: وهو تأويل ما يوحيه ظاهر النُّصوص ليتَّسق مع تنزيه الله عن الجسميَّة والجارحة.
ومن أمثلة هذا الضَّرب من الأحاديث ما رواه البُخاريُّ(1) ومُسلمٌ(2) عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قال: (( يَنْزِلُ رَبُّنَا - تَبارك وتعالى - كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّيْنَا حِيْنَ يَبْقَى ثُلُثُ الّليلِ الآخِر يقُول: مَنْ يَدْعُوني فَأسْتَجِيْب لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَه، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ )).
فمع اتِّفاق الجميع - كما قدَّمت - على التَّنزيه، الا إنَّ طرائق تناولهم لهذا الحديث وأشباهِهِ قد اختلفت وتباينت وتنوَّعت.
قال ابن حَجَرٍ(3) : ((وقد اختُلِف في معنى النزول على أقوالٍ؛ فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبِّهة - تعالى الله عن قولهم ـ. ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملةً وهم الخوارج والمعتزلة ، وهو مكابرةٌ ، والعجب أنَّهم أوَّلوا ما في القرآن من نحو ذلك ،وأنكروا ما في الحديث إمَّا جهلاً وإمَّا عناداً.
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال، مُنزِّهاً الله تعالى عن الكيفيَّة والتَّشبيه وهم جمهور السَّلف ، ومنهم من أوَّله على وجهٍ يليق مُستعملٍ في كلام العرب ، ومنهم من أفرط في التَّأويل حتى كاد يخرج إلى نوعٍ من التَّحريف )).
فالمعتزلة ينفون هذا الحديث، لأنَّه عندهم خبر آحادٍ، ويكفى لنفي صفةٍ لم تَرِد في القرآن أن يقولوا فيها أنَّها من أخبار الآحاد(4)!! . ولذلك عندما تعرَّض القاضي عبد الجبار(5) لتأويل بعض الصِّفات، لم يتعرَّض لصفاتٍ استقلَّت السُّنَّة بإثباتها .
ولهذا لم يتعرَّض لحديث النُّزول، ولا عرَّج عليه. مع أنَّ نظائر أكثر الآيات التي تعرَّضوا لها نطقت به السُّنَّة __.__
قال ابن فُورك(1) : ((واعلم أنَّه قلَّما يَرِد في هذه الأخبار من أمثال هذه الألفاظ إلا ونظائِرها موجودةٌ في الكتاب. وهي إذا وردت في الكتاب محمولةٌ عندهم على التَّأويل الصَّحيح، مخرَّجه على الوجه الذي يليق بصفاته تعالى. وإذا وردت في الأخبار أبطلوها مناقضةً منهم لأصولهم كسائر مناقضاتهم في مذاهبهم المبيَّنة على آرائهم الفاسدة، ممّا لم يشهد بها كتابٌ ولا سنّةٌ ولا بان فيها اتِّفاق الأمَّة، وذلك لجحدهم سنن رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - واستخفافهم بأهل النَّقل واستهاناتهم برواياتهم )).
أمَّا الخلَف، أو الأشاعرة والماتريديَّة، فإنَّهم يتأوَّلُون النُّزول على أكثر من تأويلٍ(2) أشهرها: أنَّ النُّزول نزول الأمر والرَّحمه، أو أنَّه يُنْزِل مَلَكاً فينادي ... الحديث.
وقد استدلوا لهذا بما ذكره ابن فُورك عن بعض أهل النَّقل بلفظ "يُنْزِل" لا "يَنْزِل" وقال: وذكر أنَّه ضبطه عمَّن سمعه من الثِّقات الضابط_ين ولم يذكر من هو هذا الّذي ضبط ذلك، ولا من هم الثِّقات الضَّابطون _________. __________________
ون_قل ابن حَجرٍ(3) هذا الرَّأي مرتضياً له، وقال: ويقوّيه ما رواه النَّسائي(4) من طريق الأغر، عن أبي هُريرة وأبي سعيد بلفظ: (( إنَّ الله يُمْهِل حتّى يمضِى شطْرُ الليلِ ثُمَّ يأمر مُنادياً فيقول..)). ولم يذكر ابن حجر أو غيره، عن أيِّ راوٍ من رواة صحيح البُخاري هذا الضَّبط لهذه اللفظة، واقتصر محقِّق "دفع شبه التشبيه"(5) على لفظ "يُنْزِلُ"!! وهو غير ثابتٍ، وغيُر معروفٍ قائِلُه، وحاول أنْ يُلصِق هذا القول بابن حجر، والحال أنَّ ابن حَجَرٍ قد نقله عن ابن فُورك.
ثُمَّ إنَّ الأصبهانيَّ(1) قال في "الحجه"(2) : ((ذكر علي بن عمر الحَرْبي(3) في كتاب "السُّنة" أنَّ الله تعالى يَنزِل كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدُّنيا، قاله النبي - صلّى الله عليه وسلّم - من غير أن يقال كيف.
فان قيل: يَنْزِل أو يُنْزِل؟ قيل: يَنْزِل - بفتح الياء وكسر الزاي -، ومن قال: يُنْزِل - بضم الياء فقد ابتدع )). ويؤيِّده لفظ البُخاري كما في الدَّعوات والتَّوحيد: "يتنزَّل" .
أمَّا جمهور السَّلف وأهل الحديث فإنَّهم يُقرُّون بنزول الله - سبحانه وتعالى - نُزولاً يليق به، دون تشبيهٍ بمخلوقٍ ولا تكييف.
قال الصَّابونيُّ(4) : ((وثبَّت أصحاب الحديث نزول الرَّب سبحانه وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدُّنيا، من غير تشبيهٍ بنزول المخلوقين، ولا تمثيلٍ ولا تكييف، بل يُثبتون ما أثبته رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وينتهون فيه إليه، ويُمرُّون الخبر الصَّحيح الوارد ذكره على ظاهرِهِ،ويكون علمه إلى الله)) .
وروى البَيْهقيُّ(15) عن الأوزاعِيِّ، ومالك، وسفيان الثَّوري ، والليث بن سعد أنَّهم قالوا في هذه الأحاديث: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفيَّةٍ.
والملاحظ أنَّ من نفى الأحاديث وأنكرها قد انطلق من التَّشبيه، وكذا من أوَّل وحاول صرف الألفاظ عن ظواهرها، لأنَّ التَّشبيه قد تبادر لأذهان هؤلاء فاضطروا للإنكار والتَّأويل.
والذي به أجزم أنَّ الفئة الوحيدة التي برئت من التَّشبيه هي التي أثبتت لله - سبحانه - هذه الصفات وآمنت بها وأقرت، وفوَّضت كيفيتها لله - سبحانه وتعالى - وهو مذهب جمهور السَّلف، وبه أقول واعتقد فهم المنزِّهون حقاً.
ولهذا فمقولة:مذهب السَّلف أسلم، ومذهب الخلَف أحكم غير سليمةٍ،(( فمذهب السَّلف أسلم، ودع ما قيل من أنَّ مذهب الخلَف أعلم، فإنَّه من زُخرف الأقاويل، وتحيُّن الأباطيل، فإنَّ أولئك قد شاهدوا الرَّسول والتَّنزيل، وهم أدرى بما نزل به الأمين جبريل ))(1) .
وما ينطبق على هذا الحديث من بحثٍ ينطبق على غيره من أحاديث الصِّفات، فظهر أنَّ التَّعارض مع قاعدة التَّنزيه، في هذا الباب متساقطٌ مرجوحٌ.
ثانياً: تنزيه الله عن التَّحيُّز والمكان.
ومن الأمور التي يدَّعُون فيها التَّنزيه أيضاً وبخاصَّةٍ المعتزلة، مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، إذ يرى المعتزلة ومن وافقهم أنَّ القول بالرُّؤية يقتضي التَّحيُّز والمكان، والله - تعالى - مُنزَّهٌ عنهما. فهم قد انطلقوا من التَّشبيه لينتهوا حسب زعمهم إلى التَّنزيه، وأنَّي لبدايةٍ غير سليمةٍ أن تُثمر نتائج صحيحةً؟.
قال السَّالمي(2) من الإباضية: ((رؤية الله تعالى من الأشياء التي لا يُتصوَّر في العقل صحَّة وجودها، لأنَّ العقل يحيل ذلك، وذلك أنَّ مِن لوازم الرُّؤية وشرائطها أن يكون المرئِيُّ متحيِّزاً، أي مُتشخِّصاً، والرَّب - تعالى - يستحيل عليه التَّشخيص، ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِي متكيِّفاً، أي ذا كيفٍ: أي لون، وذلك على الله محالٌ، ومن لوازمها أيضاً أن يكون المرئِيُّ متبعِّضاً، أي ذا أبعاضٍ: أي أجزاء.
يتبع 1