أبو مريم
10-23-2008, 03:04 AM
التواتر في أصل اللغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من قوله تعالى ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾(1 ) أي رسولا بعد رسول بفترة بينهما، فكذا التواتر في المخبرين المراد به مجيئهم على غير الاتصال
وأما في اصطلاح العلماء فهو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم.( 2)
والقضية المتواترة هى كل قضية يصدق بها العقل بواسطة إخبار جماعة يؤمن من مثلهم التواطؤ على الكذب كالعلم بوجود المدن .(3 )
والمتواترات أكثر تعقيدا من الضرورىات الأخرى؛ فهى ليست من الأوليات التى تدرك ببداهة العقل ولا من المشاهدات التى يدركها الشخص بحسه الخاص الظاهر والباطن دون توسط لغة وعبارات ومعانى ولا من المجربات التى تقوم على المشاهدات مع نوع من القياس الذى يتميز بالخفاء من حيث إنه لا يعبر عنه والجلاء من حيث قربه من العقل وبداهته.. وإنما تعتمد على نوع من الفهم والتواصل مع الآخرين بجانب القياس العقلى .
ويبدو أنها أضيفت إلى قائمة الضرورىات التى عنوا بها رغم كونهم لم يحصروا جميع الضرورىات لأهميتها القصوى فى المجتمع الإنسانى، فالعلم الإنسانى بطبيعته تراكمى وهذا يعتمد بصفة أساسية على عملية النقل وآفة الخبر المنقول إنما هى الكذب فإن استحال الكذب حدث اليقين بصدق الخبر فى حد ذاته، ويبقى أن تصدق القضية التى نقلت بالخبر حتى يكون العلم بها ضروريا بمعنى أن هناك شرطان للتواتر :
الأول الصدق بالنسبة للمخبر بها .
الثانى الصدق بالنسبة للواقع .
وذلك أن الخبر يحكم بصدقة أو كذبه من وجهين : الأول من حيث مطابقة اعتقاد المخبر ، والثانى من حيث مطابقة الواقع .
ولذلك اشترط فى المتواتر ما يضمن صدق المخبرين مما يحيل تواطئهم على الكذب وما يضمن صدق القضية المخبر عنها، وإنما يكون ذلك بكونها ضرورية، ثم حذف من ذلك البديهة لأن تحصيلها عن طريق التواتر تحصيل لحاصل، وكذلك ما يكون فيه إعمال للقياس والاستنباط كالتجريبيات؛ لأنه لا يمكن أن نجزم بكونها تجريبيات ظنية أو يقينية؛ فإن المجربات الظنية تختلط باليقينية ويختص بمعرفة ذالك من حصلت له ولا يمكن أن تحيل العادة تواطؤ المخبرين بما يحصل لكل واحد منهم من طمأنينة النفس، فلم يبق سوى المشاهدات ولذلك قالوا فى شرط التواتر إنه ينبغى أن يكون مستند الناقلين فيه الحس وليس العقل.
والتحقق من تلك الشروط هو عمل العقل ((إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوت المخبر بوجود مكة، وأما الحكم بصدقه فهو للعقل -وآلته السمع- لا مجرد السمع بل تكرر السماع، ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد، ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو كتكرر التجربة، ولكل مرة في التجربة شهادة أخرى إلى أن ينقلب الظن علما ولا يشعر بوقته فكذلك التواتر))(4 )
إلا أن الحاصل بالتواتر هو علم جزئي من شأنه أن يحصل بالإحساس ولذلك لا يعتبر التواتر إلا فيما يستند إلى المشاهدة فحكم المتواترات حكم المحسوسات ولذلك لا يقع في العلوم بالذات وهذا يعنى أن المتواترات ليست عند المناطقة الارسططاليسيين من جملة مقدمات العلوم لأنها تعطى قضايا جزئية مثلها مثل المشاهدات، وهذا لا يعنى أنها ليست من جملة الضرورىات ..
وعلى كل فقد عنى بها المناطقة إلى حد ما على وجه الإجمال، وإنما كان للأبحاث المتعلقة بالتواتر الحظ الأوفى من العناية لدى الأصوليين لعلاقتها بالدليل الشرعى، فتناولوها من حيث إفادة الخبر المتواتر للعلم اليقينى، وتناولوها من حيث طبيعتها وهل هى من العلوم الضرورىة أو النظرىة، كما تناولوا الشروط التى يجب توافرها فى الخبر حتى يصير متواترا، كما تحدثوا عن أنواع أخرى من التواتر تلحق بالخبر كالتواتر المعنوى والتواتر الذى يكون عن طريق القاسم المشترك بين عدة أخبار .. وبالجملة فلم يترك الأصوليون شاردة ولا واردة تتعلق بالتواتر إلا وأفاضوا فيها ولا تقارن جهودهم فى مبحث التواتر بجهود المناطقة .
أما بالنسبة لردهم على الاعتراضات التى أثيرت على إفادة التواتر للعلم اليقينى فلم يكتفوا بذلك بل إنهم قد بالغوا فيه وفى استقصائه وأضافوا إليه اعتراضات أخرى قوية لم يقل بها أحد قبلهم(5 ) وقد بالغ أبو الحسين البصرى فى الرد على المعترضين وتوسع فى ذلك وتشعب فى إيراد الاحتمالات وليس هنا مجال سردها فإنه مما يطول به المقام ولا طائل منه كما سيأتى بيانه .
لكن أهم ما يلاحظ عليه أنه اعتمد على بعض القواعد الكلامية التى تأثر فيها بمذهبه الاعتزالى ،فقد استدل على أن خبر أهل التواتر صدق استنادا لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين وأن الكذب قبيح والعادة تصرف الناس عن فعل القبيح مجتمعين( 6) لكن ذلك غير مسلم ، بل ربما كان ضده هو الأولى وهو أن تكون العادة تحيل تواطؤهم على الصدق فإن ذلك هو الغالب فى أحوال الناس ويكون ما اتفقوا عليه هو الكذب وليس الصدق(7 )
وماذا لو اتفق أهل مدينة أو جيش عظيم على وضع خبر لا أصل له إما لدفع مفسدة عنهم لا سبيل إلى دفعها إلا به وإما لجلب مصلحة لا تحصل إلا به وهذا مما يغلب مثله في كل عصر وزمان حتى إنه أكثر الأخبار العامة الشائعة الواقعة في المعتاد(8 )
والذي يؤكده أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو عرفوا ما فى بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء جاز في مثل هذه الصورة أن يتطابقوا على الكذب وإن كانوا كثيرين جدا
وقد أجابوا عن ذلك بأن العادة إنما تحيل دوامه وتوجب انكشافه عن قرب من الزمان.
والواقع أن ذلك قد يحصل لو كان الأمر فى المتواتر منحصرا بين نسبة شىء لشىء أو نفيه عنه، لكن الغالب أن الخبر المتواتر هو أعقد من ذلك من حيث بنائه وهذا التكثر والتعقيد فى طبيعة النقول غالبا مما تحيل العاده الاتفاق عليه .
ومن ناحية أخرى فإننا قد اشترطنا فى التواتر حصول اليقين به والنفس لا يحصل لها اليقين بقول أهل بلد ما مجتمعين إن بلادهم خالية من الوباء أو لو زعم جيش أنه انتصر فلا يعتبر ما ذكروه هنا مثالا صحيحا .
ومما أوردوه من شكوك أنه فى حالة حصول توسط بين من أخبرنا وبين من شاهد ذلك سواء واسطة واحدة أو وسائط فلا يستبعد أن واحدا من أهل الشوكة حكم به واتبعه متابعوه ثم بعد ذلك اتبعهم الناس كما نشاهده من الرسوم والعادات ؟(9 )
والواقع أننا لو حاولنا إثبات إفادة التواتر للعلم اليقينى عن طريق نفى ما يمكن أن يعترضه من شكوك فإن ذلك فى منتهى الصعوبة لأن الشكوك التى يمكن أن تثار فى حد ذاتها لا يمكن أن تنتهى ولا يتصور أصلا أن تنتهى سواء فى هذا الأمر أو فى غيره، وقد حاول أبو الحسين البصرى أن يضع قسمة حاصرة لكل ما يمكن أن يورده المشككون على خبر المتواتر وقام بتفنيدها، وهو منهج جيد من حيث الشكل إلا أنه لا يتم لصاحبه،وهو ما قام الرازى بتوضيحه عمليا ففند هذا الاستدلال بعد إتمامه جملة وتفصيلا ليثبت فشل ذلك المنهج من الناحية العملية ويصل فى النهاية إلى نتيجة مفادها أنه لو كان العلم بالتواتر من اليقينيات فلا جدوى من المناظرة عنه وإثباته بل إن ذلك حال الظنيات؛ فمجرد محاولة إثبات أن المتواتر من باب اليقينيات هو اعتراف ضمنى بأنه ليس منها وأنه من الظنيات أما اليقينيات فإنما تعلم إنها كذلك بذاتها والتشكيك فيها لا ستحق جوابا كمن يشكك فى وجود مكة ومحمد ( ص ) فهو لا يستحق جوابا، يقول الرازى : ((واعلم أن بعض هذه الأسئلة والمعارضات لا شك أن فسادها أظهر من صحتها لكن ذلك إنما يكفي في ادعاء الظن القوي لا في ادعاء اليقين التام وكان غرضنا من الإطناب في هذه الأسئلة إن الذي قاله أبو الحسين من أن الاستدلال بخبر النوادر على صدق المخبرين أمر سهل هين مقرر في عقول البله والصبيان ليس بصواب بل لما فتحنا باب المناظرة دق الكلام ولا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عن كل هذه الإشكالات وذلك لو أمكن فإنما يمكن بعد تدقيقات في النظر عظيمة، ومن البين لكل عاقل أن علمه بوجود مكة ومحمد ( ص ) أظهر من علمه بصحة هذه الدلالة وإبطال ما فيها من الأقسام سوى القسم المطلوب وبناء الواضح على الخفي غير جائز؛ فظهر أن الحق ما ذهبنا إليه من أن هذا العلم ضروري وحينئذ لا نحتاج إلى الخوض في الجواب عن هذه الأسئلة التشكيك في الضرورىات لا يستحق الجواب))(10 ) وهذا من الرازى استدلال جيد ولكنه ما كان يحتاج لكل هذا الجهد فى الرد على استدلال أبى الحسين وإثارة الشبهات وتركها دون إجابة(11 )
ثم إنهم قد اختلفوا فى كونه من الضرورىات أو من النظرىات :
فذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة ووافقهم جمهور الفقهاء إلى أن العلم الحاصل عن خبر التواتر ضرورى ، وقال الكعبى وأبو الحسن البصرى من المعتزلة والدقاق من أصحاب الشافعى إنه نظرى وتوقف الشريف الرضى و الآمدى وقد استدل من قال بأنه من الضرورىات بأشياء منها :
أنه لو كان من النظرىات ما حصل لغير أهل النظر لكنه يحصل للصبيان والبله ومن ليسوا أهلا للنظر .
وقد أجاب عن ذلك الطرف الآخر بأنه نوع من النظر يليق بهم وليس معنى قولنا إن هؤلاء ليسوا أهلا للنظر إلا معنى عرفيا وهو أنهم غير أهل للنظر فى أمر كحدوث العالم والمسائل الغامضة لكن لا يعنى أنهم ليسوا أهلا للنظر فى كل شىء فإن ذلك غير صحيح ومما هم أهل فيه للنظر تلك المسألة التى نحن بصددها .
وقد استدل الطرف الآخر بأن ((الاستدلال هو ترتيب علوم يتوصل به إلى علم آخر فكل ما وقف وجوده على ترتيب علوم فهو مستدل عليه والعلم الواقع بالتواتر هذه سبيله))(12 ) .
وقد أجاب عنهم القائلون بأن التواتر من الضرورىات بقولهم : ((لا نسلم أن ذلك يكون كافيا في كون العلم الحاصل من التواتر نظريا إلا أن يكون العلم بالمقدمات قد علم معه أنها مرتبطة بالعلم الحاصل بخبر التواتر وأنها الواسطة المفضية إليه وذلك غير مسلم الوجود فيما نحن فيه كما ذهب إليه الغزالى))( 13) نعم قد يمكن أن نثبت صحته باستدلال ما لكن استدلالنا على أن التواتر مفض للعلم اليقينى ليس هو بالضرورة الطريقة التى بها يتوصل العقل لإدراك اليقين عن طريق التواتر .
والواقع أنهم حتى لو سلموا بذلك فهو لا يعنى أنه يقع نظريا بالمعنى المقصود بالنظر وإلا كان كل علم نظريا لأنه لا يخلو من إعمال عقل .
وأما قولهم إنه لو كان ضروريا لعلم ذلك من كل أحد ولما وقع الخلاف فيه أصلا- فهذا غير صحيح فلا يشترط فى الضرورى أن يكون العلم بكونه ضروريا علم ضرورى أيضا، كما أن خلاف الناس حول كون العلم ضروريا لا يطعن فى كونه ضروريا بل حتى لو اختلفوا فى كونه علما كما حدث من السمنية فهم ينكرون العلم بالمتواتر وهذا غير قادح فى إفادته للعلم اليقينى .
ويبدو أن فى المسألة خلافا لفظيا قد أشار إليه الغزالى؛ فإن كان المقصود بالضرورى أنه لا يحتاج فى حصوله لواسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة فى الذهن، فهو ضرورى ، وإن كان المقصود بالضرورى أنه لا يحدث بواسطة مطلقا كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فهو ليس بضرورى، فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع الثانية أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة ولكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه.(14 )
فالإشكال يكمن فى هل المقصود بالضرورى أنه ما لا تصرف للعقل فيه كالبديهيات أم أنه يشمل ما لا تصرف للعقل فيه وما للعقل فيه تصرف من نوع خاص فطرى لا يحتاج فيه المرء لاكتساب و تعلم، ولا خلاف فيه بين العقلاء، ولا تفاوت، فالكل يستفيد من الخبر الذى بلغ حد التواتر بالنسبة له علما يقينيا بلا روية أو تأمل بخلاف النظرىات التى تحتاج فى اكتسابها إلى ترتيب مقدمات ونظر وتأمل .
والواقع أنه لا فرق بين المجربات والمتواترات بهذا الصدد، وأننا لو اشترطنا فى الضرورى ما لا عمل فيه للعقل مطلقا لاقتصرت الضرورىات على البديهى، فإن ما يوردونه على المتواترات يرد أيضا على المجربات بل وعلى المشاهدات إن قلنا إنه لا بد للعقل فيها من دور لتمييز الصواب فيها مما قد يعرض للحواس من خطأ .
أما بالنسبة لشروط المتواتر وهى التى يتطلبها الخبر حتى يصير متواترا فقد أفاض فيها الأصوليون ، وقد قسمها الآمدى إلى قسمين : ما اتفق عليه من شروط ، وما اختلف حوله، وقسم القسم الأول إلى: ما يرجع إلى المخبرين الناقلين للخبر، وما يرجع إلى المستمعين الذين يتلقون الخبر .
فأما ما يرجع إلى المخبرين فأربعة شروط :
الشرط الأول : أن يكونوا قد انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب
وقد ذهب بعض الأصوليين لمحاولة تحديد عدد ما يحصل به التواتر من المخبرين فوقع بينهم الخلاف، والواقع أنهم قد استندوا فى ذلك للاستئناس ببعض الشرعيات فمثلا يقول بعضهم إنه اثنا عشر بعدد نقباء بنى إسرائيل أو سبعين استئناسا بقوله تعالى﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا﴾(15 ) .. وهكذا ولا يوجد لهم دليل سوى ذلك اللهم إلا التحكمات المحضة .
ذلك أن العلم بالتواتر لا يتوقف فقط على عدد المخبرين بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر فيه مثل (( القرائن المقترنة بالخبر وقوة سماع المستمع وفهمه وإدراكه للقرائن)) ولذلك يختلف الحال من خبر لآخر فنفس العدد الذى يحصل به اليقين بل نفس الأشخاص بعينهم الذين يحصل بهم اليقين بخبر ما قد لا يحصل بهم ذلك فى خبر آخر، ولذلك كانت محاولة ضبط عدد التواتر مع اختلافها وتعارضها وعدم مناسبتها وملائمتها للمطلوب مضطربة( 16) وهو ما أكد عليه المحققون من الأصوليين ومن المناطقة ، يقول الرازى : ((ليس للتواتر عدد يستدل بحصوله على حصول العلم فإن كل عدد يفترض فالعلم الضرورى بأن حال نقصان ذلك العدد واحد أو اثنين يساويه فى القوة ، بل متى علمنا حصول العلم علمنا أن الأحوال الموجبة للعلم كانت حاصلة على سبيل التمام والكمال ))( 17) و يقول ابن سينا ((ومن حاول أن يحصر هذه الشهادات في مبلغ عدد معلوم فقد أحال، فإن ذلك ليس متعلقا بعدد تؤثر الزيادة والنقصان فيه وإنما الرجوع فيه إلى مبلغ يقع معه اليقين فاليقين هو القاضي بتوافي الشهادات لا عدد الشهادات وهذه أيضا لا يمكن أن يقنع جاحدها أو يسكت بكلام ))( 18).
بل الضابط عندهم هو حصول العلم اليقينى وهو مثل الشعور بالشبع والرى فلو تكلف المرء معرفة ما هو العدد والكم الذى حصل له به ذلك لما استطاع وكذلك الأمر بالنسبة لحصول اليقين بسماع الخبر عن الكثرة(19 )
وهذا لا يمنع من إمكانية القطع من جهة الشرع بأن خبر الأربعة لا يحصل به التواتر كما قال الباقلانى ؛ لأنه لو كان يفيد اليقين لما جاز للقاضى بالإجماع أن يعرضه على المزكين لتحصل غلبة الظن ولو كان العلم حاصلا بقول الأربعة لما كان كذلك( 20)
الشرط الثانى:أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين:
لأن حصول اليقين للمنقول له هو فرع عن حصول اليقين بالنسبة لهم لكن لما كان الحس من جملة العلوم اليقينية وليس من الظنيات أمكن أن يكون هذا الشرط داخلا فى الشرط التالى وهو :
الشرط الثالث : أن يكون علمهم مستندا إلى الحس لا إلى دليل العقل:
يقول الآمدى :(( وإن سلمنا كون هذه العلوم ضرورية لكنها لو لم تنته إلى الحس لم تفد العلم؛ فإن أهل العلم لو اتفقت كلمتهم على الإخبار عن وجود الصانع لم يحصل العلم بذلك ،وإنما يحصل العلم بوجود مكة ومحمد > لانتهاء المخبرين عن ذلك إلى الحس ، وإذا كان كذلك كان المتواتر مبدأ غير أول )).(21 )
الشرط الرابع : أن يستوي طرفا الخبر ووسطه في هذه الشروط لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه فكانت هذه الشروط معتبرة فيه :
ويشترط فى المتواتر أن يكون فى كل طبقة من طبقاته قد بلغ حد التواتر لأن العلم بصدق الخبر يتبع أخس الطبقات .
وهذا يعنى أنه لا يشترط أن يكون الناقل للخبر هو من حصل له بالفعل ، والواقع أن الأصوليين لا يشترطون ذلك والمناطقة لم يصرحوا به ولا بخلافه ولكن يفهم من كلام ابن سينا أن المتواتر يشمل ما نقله المشاهد وما نقل عنه طالما توافر شرط التواتر فى كل طبقة وهو أن تحيل العادة تواطؤ المخبرين على الكذب يقول ابن سينا ((وكذلك القضايا التواترية وهي التي تسكن إليها النفس سكونا تاما يزول عنه الشك لكثرة الشهادات مع إمكانه بحيث تزول الريبة عن وقوع تلك الشهادات على سبيل الاتفاق والتواطؤ وهذا مثل اعتقادنا بوجود مكة ووجود جالنيوس وإقليدس))( 22) ومعلوم أن بين ابن سينا وبين من شاهد جالينوس وإقليدس قرونا عديدة وتشمل طبقات كثيرة وليست طبقة واحدة .
وأما ما يرجع إلى المستمعين من شروط فهى :
أن يكون المستمع متأهلا لقبول العلم بما أخبر به غير عالم به قبل ذلك وإلا كان فيه تحصيل الحاصل.
وهنا يختلف الأمر بين من قال بكون المتواتر من الضرورىات ومن قال إنه من النظرىات فمن قال إنه من النظرىات اشترط تقدم العلم بهذه الأمور على حصول العلم بخبر التواتر ، ومن زعم أنه ضروري لم يشترط سبق العلم بهذه الأمور لأن العلم عنده حاصل عند خبر التواتر بخلق الله تعالى( 23)
وأما ما اختلف فيه من شروط فهى :
ألا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد :
ولا شك أنه ليس شرطا ولا يفترضه العقل وذلك لأنه ((قد يحصل العلم بخبر أهل بلد من البلاد بل بخبر الحجيج أو أهل الجامع بواقعة وقعت وحادثة حدثت مع أنهم محصورون)).
والأضعف منه الشرط الآخر وهو أن تختلف أديانهم وأنسابهم يعنون بذلك المبالغة فى الاحتياط ، لكن كما هو واضح فليس هذا بشرط واجب لأنه قد يحصل بخبر أهل الملة الواحدة علما متواترا يقينيا(24 ).
وكذلك فلو أخذنا بذلك الشرط لقلنا إن العلوم الضرورىة مرتبطة بالباطل وأن للباطل ميزة وأنه لو اجتمع الناس على الحق لنقصت موارد اليقين لديهم وهذا غير مقبول .
ولكن إذا كان العلم بالمتواتر ضروريا فما فائدة تلك الشروط ؟ أليس ذلك من باب تحصيل الحاصل ؟
ثم إنهم ينتهون دائما عند كل اعتراض إلى أن العبرة بتحقق اليقين وفى ذلك نوع من الدور فهم إن كانوا يبحثون فى شروط اليقين بغرض التحقق من إفادة اليقين إلا أنهم يعودون فيستدلون على تحقق شرط اليقين بتحقق اليقين ؟
والجواب أن الغرض من وضع شروط للمتواتر إنما يفيد فى حال الجدل و فى إقامة الحجة على المنكر لأن المتواتر لا يقع العلم به لكل أحد بل لا بد فيه من توافر شروط معينة فى المتلقى؛ فإن قام أحد بإنكار كون خبر ما معين أنه متواتر فلا يكفى أن يقال له إنه من الضرورىات والتشكيك فى الضرورىات لا يستحق جوابا بل طريقة إلزامه أن نقول له: إن هناك شروطا متفقا عليها فى الخبر المتواتر وهذه الشروط قد تحققت فى هذا الخبر.
وكذلك يفيد فى نقد الخبر فلو ادعى أحد فى خبر ما أنه متواتر فإننا نبحث فى توافر تلك الشروط فى ذلك الخبر فإن توافرت فيه وإلا فهو غير متواتر وتبطل بذلك الدعوى أنه خبر متواتر .
وهذا بلا شك من الأمور المهمة فى الشريعة لما يترتب عليه من أحكام كالحكم فى منكر خبر التواتر المنقول عن النبى ( ص ) الذى يصل لدرجة تكفيره لأنه لو كان التواتر يفيد اليقين فهو إنما يكذب النبى ص ، ولا شك أن ذلك من الخطورة بمكان فوجب أن توضع له الشروط اللازمة لضبطه ..
ومما تناوله الأصوليون ما يعرف عندهم بالتواتر المعنوى وهو ما أشار إليه الطوسى بقوله ((أقول الشهادات قد تكون قولية وقد لا تكون كالأمارات والرجوع فيه إلى حصول اليقين وزاول الاحتمال للوثوق بعدم مواطأة الشهداء))(25 )
ولو قلنا إن التواتر المعنوى هو تغاير الألفاظ مع الاشتراك في معنى كلي ولو بطريق اللزوم لكان هو الأعم الغالب من التواتر.
وكثيرا ما يقع فى السنة بأن يتواتر معنى في ضمن أحاديث مختلفة الألفاظ متحدة المعنى ، فالمتواتر المعنوي ، كحديث الحوض ، وسخاء حاتم ، وشجاعة علي - ط- وغيرها ، وذلك إذا كثرت الأخبار في الواقع واختلف فيها لكن كل واحد منها يشتمل على معنى مشترك بينها بجهة التضمن أو الالتزام ، فيحصل العلم بالقدر المشترك ، وهو مثلا الشجاعة لعلي - ط- والسخاء لحاتم ونحو ذلك(26 )
------
(1)سورة المؤمنون : 44
(2)الرازى : المحصول 4 / 323
(2)انظر الآمدى : أبكار الأفكار رسالة دكتوراة بكلية أًول الدين جامعة الأزهر ص122
(4)الغزالى : محك النظر ص 17
(5)انظر الرازى : المحصول 4/234 ،4/366
(6)أبو الحسين البصرى : المعتمد في أصول الفقه ، 2/81-84
(7)الآمدى : الإحكام 2/23 ،الرازى المحصول 4/334-336
(8)الرازى : المحصول 4/347
(9)التفتازانى : شرح التلويح على التوضيح 3/48
(10)الرازى: المحصول ج 4 / 366-367
(11)هذه كانت عادة الإمام الرازى رحمه الله كان بارعا فى إيراد الشبهات وربما لم يحفل بردها مما جعل الكثير من أهل العلم ينفرون العامة من كتبه والواقع أن الرازى رحمه الله لم يقصد سوى إثارة الأذهان وشحذ الخواطر وقد صرح بذلك فيما نقله عنه ابن أبى أصيبعة وقال إنها وصية الرازى
(12)أبو الحسين البصرى : المعتمد 2/81
(13)الآمدى: الإحكام 2/34
(14)الغزالى : المستصفى 1/212
(15)سورة الأعراف: 155
(16)الآمدى الإحكام 2/37-39
(17)الرازى فخر الدين : معالم أصول الفقه ، مخطوط بمكتبة الأزهر ، رقم 309380 ، 8/ب-9/ أ
(18)ابن سينا : الإشارات 1/349
(19)انظر الآمدى : الإحكام 2/39
(20)انظر السابق 2/38
(21)الرازى : الملخص 100/أ
(22)ابن سينا : الإشارات 1/349
(23)الآمدى : الإحكام 2/36
(24)السابق 2/37
(25)الطوسى : شرح الإشارات 1/349
(26)انظر السفارينى : لوامع الأنوار 1/16
وأما في اصطلاح العلماء فهو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم.( 2)
والقضية المتواترة هى كل قضية يصدق بها العقل بواسطة إخبار جماعة يؤمن من مثلهم التواطؤ على الكذب كالعلم بوجود المدن .(3 )
والمتواترات أكثر تعقيدا من الضرورىات الأخرى؛ فهى ليست من الأوليات التى تدرك ببداهة العقل ولا من المشاهدات التى يدركها الشخص بحسه الخاص الظاهر والباطن دون توسط لغة وعبارات ومعانى ولا من المجربات التى تقوم على المشاهدات مع نوع من القياس الذى يتميز بالخفاء من حيث إنه لا يعبر عنه والجلاء من حيث قربه من العقل وبداهته.. وإنما تعتمد على نوع من الفهم والتواصل مع الآخرين بجانب القياس العقلى .
ويبدو أنها أضيفت إلى قائمة الضرورىات التى عنوا بها رغم كونهم لم يحصروا جميع الضرورىات لأهميتها القصوى فى المجتمع الإنسانى، فالعلم الإنسانى بطبيعته تراكمى وهذا يعتمد بصفة أساسية على عملية النقل وآفة الخبر المنقول إنما هى الكذب فإن استحال الكذب حدث اليقين بصدق الخبر فى حد ذاته، ويبقى أن تصدق القضية التى نقلت بالخبر حتى يكون العلم بها ضروريا بمعنى أن هناك شرطان للتواتر :
الأول الصدق بالنسبة للمخبر بها .
الثانى الصدق بالنسبة للواقع .
وذلك أن الخبر يحكم بصدقة أو كذبه من وجهين : الأول من حيث مطابقة اعتقاد المخبر ، والثانى من حيث مطابقة الواقع .
ولذلك اشترط فى المتواتر ما يضمن صدق المخبرين مما يحيل تواطئهم على الكذب وما يضمن صدق القضية المخبر عنها، وإنما يكون ذلك بكونها ضرورية، ثم حذف من ذلك البديهة لأن تحصيلها عن طريق التواتر تحصيل لحاصل، وكذلك ما يكون فيه إعمال للقياس والاستنباط كالتجريبيات؛ لأنه لا يمكن أن نجزم بكونها تجريبيات ظنية أو يقينية؛ فإن المجربات الظنية تختلط باليقينية ويختص بمعرفة ذالك من حصلت له ولا يمكن أن تحيل العادة تواطؤ المخبرين بما يحصل لكل واحد منهم من طمأنينة النفس، فلم يبق سوى المشاهدات ولذلك قالوا فى شرط التواتر إنه ينبغى أن يكون مستند الناقلين فيه الحس وليس العقل.
والتحقق من تلك الشروط هو عمل العقل ((إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوت المخبر بوجود مكة، وأما الحكم بصدقه فهو للعقل -وآلته السمع- لا مجرد السمع بل تكرر السماع، ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد، ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو كتكرر التجربة، ولكل مرة في التجربة شهادة أخرى إلى أن ينقلب الظن علما ولا يشعر بوقته فكذلك التواتر))(4 )
إلا أن الحاصل بالتواتر هو علم جزئي من شأنه أن يحصل بالإحساس ولذلك لا يعتبر التواتر إلا فيما يستند إلى المشاهدة فحكم المتواترات حكم المحسوسات ولذلك لا يقع في العلوم بالذات وهذا يعنى أن المتواترات ليست عند المناطقة الارسططاليسيين من جملة مقدمات العلوم لأنها تعطى قضايا جزئية مثلها مثل المشاهدات، وهذا لا يعنى أنها ليست من جملة الضرورىات ..
وعلى كل فقد عنى بها المناطقة إلى حد ما على وجه الإجمال، وإنما كان للأبحاث المتعلقة بالتواتر الحظ الأوفى من العناية لدى الأصوليين لعلاقتها بالدليل الشرعى، فتناولوها من حيث إفادة الخبر المتواتر للعلم اليقينى، وتناولوها من حيث طبيعتها وهل هى من العلوم الضرورىة أو النظرىة، كما تناولوا الشروط التى يجب توافرها فى الخبر حتى يصير متواترا، كما تحدثوا عن أنواع أخرى من التواتر تلحق بالخبر كالتواتر المعنوى والتواتر الذى يكون عن طريق القاسم المشترك بين عدة أخبار .. وبالجملة فلم يترك الأصوليون شاردة ولا واردة تتعلق بالتواتر إلا وأفاضوا فيها ولا تقارن جهودهم فى مبحث التواتر بجهود المناطقة .
أما بالنسبة لردهم على الاعتراضات التى أثيرت على إفادة التواتر للعلم اليقينى فلم يكتفوا بذلك بل إنهم قد بالغوا فيه وفى استقصائه وأضافوا إليه اعتراضات أخرى قوية لم يقل بها أحد قبلهم(5 ) وقد بالغ أبو الحسين البصرى فى الرد على المعترضين وتوسع فى ذلك وتشعب فى إيراد الاحتمالات وليس هنا مجال سردها فإنه مما يطول به المقام ولا طائل منه كما سيأتى بيانه .
لكن أهم ما يلاحظ عليه أنه اعتمد على بعض القواعد الكلامية التى تأثر فيها بمذهبه الاعتزالى ،فقد استدل على أن خبر أهل التواتر صدق استنادا لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين وأن الكذب قبيح والعادة تصرف الناس عن فعل القبيح مجتمعين( 6) لكن ذلك غير مسلم ، بل ربما كان ضده هو الأولى وهو أن تكون العادة تحيل تواطؤهم على الصدق فإن ذلك هو الغالب فى أحوال الناس ويكون ما اتفقوا عليه هو الكذب وليس الصدق(7 )
وماذا لو اتفق أهل مدينة أو جيش عظيم على وضع خبر لا أصل له إما لدفع مفسدة عنهم لا سبيل إلى دفعها إلا به وإما لجلب مصلحة لا تحصل إلا به وهذا مما يغلب مثله في كل عصر وزمان حتى إنه أكثر الأخبار العامة الشائعة الواقعة في المعتاد(8 )
والذي يؤكده أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو عرفوا ما فى بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء جاز في مثل هذه الصورة أن يتطابقوا على الكذب وإن كانوا كثيرين جدا
وقد أجابوا عن ذلك بأن العادة إنما تحيل دوامه وتوجب انكشافه عن قرب من الزمان.
والواقع أن ذلك قد يحصل لو كان الأمر فى المتواتر منحصرا بين نسبة شىء لشىء أو نفيه عنه، لكن الغالب أن الخبر المتواتر هو أعقد من ذلك من حيث بنائه وهذا التكثر والتعقيد فى طبيعة النقول غالبا مما تحيل العاده الاتفاق عليه .
ومن ناحية أخرى فإننا قد اشترطنا فى التواتر حصول اليقين به والنفس لا يحصل لها اليقين بقول أهل بلد ما مجتمعين إن بلادهم خالية من الوباء أو لو زعم جيش أنه انتصر فلا يعتبر ما ذكروه هنا مثالا صحيحا .
ومما أوردوه من شكوك أنه فى حالة حصول توسط بين من أخبرنا وبين من شاهد ذلك سواء واسطة واحدة أو وسائط فلا يستبعد أن واحدا من أهل الشوكة حكم به واتبعه متابعوه ثم بعد ذلك اتبعهم الناس كما نشاهده من الرسوم والعادات ؟(9 )
والواقع أننا لو حاولنا إثبات إفادة التواتر للعلم اليقينى عن طريق نفى ما يمكن أن يعترضه من شكوك فإن ذلك فى منتهى الصعوبة لأن الشكوك التى يمكن أن تثار فى حد ذاتها لا يمكن أن تنتهى ولا يتصور أصلا أن تنتهى سواء فى هذا الأمر أو فى غيره، وقد حاول أبو الحسين البصرى أن يضع قسمة حاصرة لكل ما يمكن أن يورده المشككون على خبر المتواتر وقام بتفنيدها، وهو منهج جيد من حيث الشكل إلا أنه لا يتم لصاحبه،وهو ما قام الرازى بتوضيحه عمليا ففند هذا الاستدلال بعد إتمامه جملة وتفصيلا ليثبت فشل ذلك المنهج من الناحية العملية ويصل فى النهاية إلى نتيجة مفادها أنه لو كان العلم بالتواتر من اليقينيات فلا جدوى من المناظرة عنه وإثباته بل إن ذلك حال الظنيات؛ فمجرد محاولة إثبات أن المتواتر من باب اليقينيات هو اعتراف ضمنى بأنه ليس منها وأنه من الظنيات أما اليقينيات فإنما تعلم إنها كذلك بذاتها والتشكيك فيها لا ستحق جوابا كمن يشكك فى وجود مكة ومحمد ( ص ) فهو لا يستحق جوابا، يقول الرازى : ((واعلم أن بعض هذه الأسئلة والمعارضات لا شك أن فسادها أظهر من صحتها لكن ذلك إنما يكفي في ادعاء الظن القوي لا في ادعاء اليقين التام وكان غرضنا من الإطناب في هذه الأسئلة إن الذي قاله أبو الحسين من أن الاستدلال بخبر النوادر على صدق المخبرين أمر سهل هين مقرر في عقول البله والصبيان ليس بصواب بل لما فتحنا باب المناظرة دق الكلام ولا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عن كل هذه الإشكالات وذلك لو أمكن فإنما يمكن بعد تدقيقات في النظر عظيمة، ومن البين لكل عاقل أن علمه بوجود مكة ومحمد ( ص ) أظهر من علمه بصحة هذه الدلالة وإبطال ما فيها من الأقسام سوى القسم المطلوب وبناء الواضح على الخفي غير جائز؛ فظهر أن الحق ما ذهبنا إليه من أن هذا العلم ضروري وحينئذ لا نحتاج إلى الخوض في الجواب عن هذه الأسئلة التشكيك في الضرورىات لا يستحق الجواب))(10 ) وهذا من الرازى استدلال جيد ولكنه ما كان يحتاج لكل هذا الجهد فى الرد على استدلال أبى الحسين وإثارة الشبهات وتركها دون إجابة(11 )
ثم إنهم قد اختلفوا فى كونه من الضرورىات أو من النظرىات :
فذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة ووافقهم جمهور الفقهاء إلى أن العلم الحاصل عن خبر التواتر ضرورى ، وقال الكعبى وأبو الحسن البصرى من المعتزلة والدقاق من أصحاب الشافعى إنه نظرى وتوقف الشريف الرضى و الآمدى وقد استدل من قال بأنه من الضرورىات بأشياء منها :
أنه لو كان من النظرىات ما حصل لغير أهل النظر لكنه يحصل للصبيان والبله ومن ليسوا أهلا للنظر .
وقد أجاب عن ذلك الطرف الآخر بأنه نوع من النظر يليق بهم وليس معنى قولنا إن هؤلاء ليسوا أهلا للنظر إلا معنى عرفيا وهو أنهم غير أهل للنظر فى أمر كحدوث العالم والمسائل الغامضة لكن لا يعنى أنهم ليسوا أهلا للنظر فى كل شىء فإن ذلك غير صحيح ومما هم أهل فيه للنظر تلك المسألة التى نحن بصددها .
وقد استدل الطرف الآخر بأن ((الاستدلال هو ترتيب علوم يتوصل به إلى علم آخر فكل ما وقف وجوده على ترتيب علوم فهو مستدل عليه والعلم الواقع بالتواتر هذه سبيله))(12 ) .
وقد أجاب عنهم القائلون بأن التواتر من الضرورىات بقولهم : ((لا نسلم أن ذلك يكون كافيا في كون العلم الحاصل من التواتر نظريا إلا أن يكون العلم بالمقدمات قد علم معه أنها مرتبطة بالعلم الحاصل بخبر التواتر وأنها الواسطة المفضية إليه وذلك غير مسلم الوجود فيما نحن فيه كما ذهب إليه الغزالى))( 13) نعم قد يمكن أن نثبت صحته باستدلال ما لكن استدلالنا على أن التواتر مفض للعلم اليقينى ليس هو بالضرورة الطريقة التى بها يتوصل العقل لإدراك اليقين عن طريق التواتر .
والواقع أنهم حتى لو سلموا بذلك فهو لا يعنى أنه يقع نظريا بالمعنى المقصود بالنظر وإلا كان كل علم نظريا لأنه لا يخلو من إعمال عقل .
وأما قولهم إنه لو كان ضروريا لعلم ذلك من كل أحد ولما وقع الخلاف فيه أصلا- فهذا غير صحيح فلا يشترط فى الضرورى أن يكون العلم بكونه ضروريا علم ضرورى أيضا، كما أن خلاف الناس حول كون العلم ضروريا لا يطعن فى كونه ضروريا بل حتى لو اختلفوا فى كونه علما كما حدث من السمنية فهم ينكرون العلم بالمتواتر وهذا غير قادح فى إفادته للعلم اليقينى .
ويبدو أن فى المسألة خلافا لفظيا قد أشار إليه الغزالى؛ فإن كان المقصود بالضرورى أنه لا يحتاج فى حصوله لواسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة فى الذهن، فهو ضرورى ، وإن كان المقصود بالضرورى أنه لا يحدث بواسطة مطلقا كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فهو ليس بضرورى، فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع الثانية أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة ولكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين بلفظ منظوم ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه.(14 )
فالإشكال يكمن فى هل المقصود بالضرورى أنه ما لا تصرف للعقل فيه كالبديهيات أم أنه يشمل ما لا تصرف للعقل فيه وما للعقل فيه تصرف من نوع خاص فطرى لا يحتاج فيه المرء لاكتساب و تعلم، ولا خلاف فيه بين العقلاء، ولا تفاوت، فالكل يستفيد من الخبر الذى بلغ حد التواتر بالنسبة له علما يقينيا بلا روية أو تأمل بخلاف النظرىات التى تحتاج فى اكتسابها إلى ترتيب مقدمات ونظر وتأمل .
والواقع أنه لا فرق بين المجربات والمتواترات بهذا الصدد، وأننا لو اشترطنا فى الضرورى ما لا عمل فيه للعقل مطلقا لاقتصرت الضرورىات على البديهى، فإن ما يوردونه على المتواترات يرد أيضا على المجربات بل وعلى المشاهدات إن قلنا إنه لا بد للعقل فيها من دور لتمييز الصواب فيها مما قد يعرض للحواس من خطأ .
أما بالنسبة لشروط المتواتر وهى التى يتطلبها الخبر حتى يصير متواترا فقد أفاض فيها الأصوليون ، وقد قسمها الآمدى إلى قسمين : ما اتفق عليه من شروط ، وما اختلف حوله، وقسم القسم الأول إلى: ما يرجع إلى المخبرين الناقلين للخبر، وما يرجع إلى المستمعين الذين يتلقون الخبر .
فأما ما يرجع إلى المخبرين فأربعة شروط :
الشرط الأول : أن يكونوا قد انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب
وقد ذهب بعض الأصوليين لمحاولة تحديد عدد ما يحصل به التواتر من المخبرين فوقع بينهم الخلاف، والواقع أنهم قد استندوا فى ذلك للاستئناس ببعض الشرعيات فمثلا يقول بعضهم إنه اثنا عشر بعدد نقباء بنى إسرائيل أو سبعين استئناسا بقوله تعالى﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا﴾(15 ) .. وهكذا ولا يوجد لهم دليل سوى ذلك اللهم إلا التحكمات المحضة .
ذلك أن العلم بالتواتر لا يتوقف فقط على عدد المخبرين بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر فيه مثل (( القرائن المقترنة بالخبر وقوة سماع المستمع وفهمه وإدراكه للقرائن)) ولذلك يختلف الحال من خبر لآخر فنفس العدد الذى يحصل به اليقين بل نفس الأشخاص بعينهم الذين يحصل بهم اليقين بخبر ما قد لا يحصل بهم ذلك فى خبر آخر، ولذلك كانت محاولة ضبط عدد التواتر مع اختلافها وتعارضها وعدم مناسبتها وملائمتها للمطلوب مضطربة( 16) وهو ما أكد عليه المحققون من الأصوليين ومن المناطقة ، يقول الرازى : ((ليس للتواتر عدد يستدل بحصوله على حصول العلم فإن كل عدد يفترض فالعلم الضرورى بأن حال نقصان ذلك العدد واحد أو اثنين يساويه فى القوة ، بل متى علمنا حصول العلم علمنا أن الأحوال الموجبة للعلم كانت حاصلة على سبيل التمام والكمال ))( 17) و يقول ابن سينا ((ومن حاول أن يحصر هذه الشهادات في مبلغ عدد معلوم فقد أحال، فإن ذلك ليس متعلقا بعدد تؤثر الزيادة والنقصان فيه وإنما الرجوع فيه إلى مبلغ يقع معه اليقين فاليقين هو القاضي بتوافي الشهادات لا عدد الشهادات وهذه أيضا لا يمكن أن يقنع جاحدها أو يسكت بكلام ))( 18).
بل الضابط عندهم هو حصول العلم اليقينى وهو مثل الشعور بالشبع والرى فلو تكلف المرء معرفة ما هو العدد والكم الذى حصل له به ذلك لما استطاع وكذلك الأمر بالنسبة لحصول اليقين بسماع الخبر عن الكثرة(19 )
وهذا لا يمنع من إمكانية القطع من جهة الشرع بأن خبر الأربعة لا يحصل به التواتر كما قال الباقلانى ؛ لأنه لو كان يفيد اليقين لما جاز للقاضى بالإجماع أن يعرضه على المزكين لتحصل غلبة الظن ولو كان العلم حاصلا بقول الأربعة لما كان كذلك( 20)
الشرط الثانى:أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين:
لأن حصول اليقين للمنقول له هو فرع عن حصول اليقين بالنسبة لهم لكن لما كان الحس من جملة العلوم اليقينية وليس من الظنيات أمكن أن يكون هذا الشرط داخلا فى الشرط التالى وهو :
الشرط الثالث : أن يكون علمهم مستندا إلى الحس لا إلى دليل العقل:
يقول الآمدى :(( وإن سلمنا كون هذه العلوم ضرورية لكنها لو لم تنته إلى الحس لم تفد العلم؛ فإن أهل العلم لو اتفقت كلمتهم على الإخبار عن وجود الصانع لم يحصل العلم بذلك ،وإنما يحصل العلم بوجود مكة ومحمد > لانتهاء المخبرين عن ذلك إلى الحس ، وإذا كان كذلك كان المتواتر مبدأ غير أول )).(21 )
الشرط الرابع : أن يستوي طرفا الخبر ووسطه في هذه الشروط لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه فكانت هذه الشروط معتبرة فيه :
ويشترط فى المتواتر أن يكون فى كل طبقة من طبقاته قد بلغ حد التواتر لأن العلم بصدق الخبر يتبع أخس الطبقات .
وهذا يعنى أنه لا يشترط أن يكون الناقل للخبر هو من حصل له بالفعل ، والواقع أن الأصوليين لا يشترطون ذلك والمناطقة لم يصرحوا به ولا بخلافه ولكن يفهم من كلام ابن سينا أن المتواتر يشمل ما نقله المشاهد وما نقل عنه طالما توافر شرط التواتر فى كل طبقة وهو أن تحيل العادة تواطؤ المخبرين على الكذب يقول ابن سينا ((وكذلك القضايا التواترية وهي التي تسكن إليها النفس سكونا تاما يزول عنه الشك لكثرة الشهادات مع إمكانه بحيث تزول الريبة عن وقوع تلك الشهادات على سبيل الاتفاق والتواطؤ وهذا مثل اعتقادنا بوجود مكة ووجود جالنيوس وإقليدس))( 22) ومعلوم أن بين ابن سينا وبين من شاهد جالينوس وإقليدس قرونا عديدة وتشمل طبقات كثيرة وليست طبقة واحدة .
وأما ما يرجع إلى المستمعين من شروط فهى :
أن يكون المستمع متأهلا لقبول العلم بما أخبر به غير عالم به قبل ذلك وإلا كان فيه تحصيل الحاصل.
وهنا يختلف الأمر بين من قال بكون المتواتر من الضرورىات ومن قال إنه من النظرىات فمن قال إنه من النظرىات اشترط تقدم العلم بهذه الأمور على حصول العلم بخبر التواتر ، ومن زعم أنه ضروري لم يشترط سبق العلم بهذه الأمور لأن العلم عنده حاصل عند خبر التواتر بخلق الله تعالى( 23)
وأما ما اختلف فيه من شروط فهى :
ألا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد :
ولا شك أنه ليس شرطا ولا يفترضه العقل وذلك لأنه ((قد يحصل العلم بخبر أهل بلد من البلاد بل بخبر الحجيج أو أهل الجامع بواقعة وقعت وحادثة حدثت مع أنهم محصورون)).
والأضعف منه الشرط الآخر وهو أن تختلف أديانهم وأنسابهم يعنون بذلك المبالغة فى الاحتياط ، لكن كما هو واضح فليس هذا بشرط واجب لأنه قد يحصل بخبر أهل الملة الواحدة علما متواترا يقينيا(24 ).
وكذلك فلو أخذنا بذلك الشرط لقلنا إن العلوم الضرورىة مرتبطة بالباطل وأن للباطل ميزة وأنه لو اجتمع الناس على الحق لنقصت موارد اليقين لديهم وهذا غير مقبول .
ولكن إذا كان العلم بالمتواتر ضروريا فما فائدة تلك الشروط ؟ أليس ذلك من باب تحصيل الحاصل ؟
ثم إنهم ينتهون دائما عند كل اعتراض إلى أن العبرة بتحقق اليقين وفى ذلك نوع من الدور فهم إن كانوا يبحثون فى شروط اليقين بغرض التحقق من إفادة اليقين إلا أنهم يعودون فيستدلون على تحقق شرط اليقين بتحقق اليقين ؟
والجواب أن الغرض من وضع شروط للمتواتر إنما يفيد فى حال الجدل و فى إقامة الحجة على المنكر لأن المتواتر لا يقع العلم به لكل أحد بل لا بد فيه من توافر شروط معينة فى المتلقى؛ فإن قام أحد بإنكار كون خبر ما معين أنه متواتر فلا يكفى أن يقال له إنه من الضرورىات والتشكيك فى الضرورىات لا يستحق جوابا بل طريقة إلزامه أن نقول له: إن هناك شروطا متفقا عليها فى الخبر المتواتر وهذه الشروط قد تحققت فى هذا الخبر.
وكذلك يفيد فى نقد الخبر فلو ادعى أحد فى خبر ما أنه متواتر فإننا نبحث فى توافر تلك الشروط فى ذلك الخبر فإن توافرت فيه وإلا فهو غير متواتر وتبطل بذلك الدعوى أنه خبر متواتر .
وهذا بلا شك من الأمور المهمة فى الشريعة لما يترتب عليه من أحكام كالحكم فى منكر خبر التواتر المنقول عن النبى ( ص ) الذى يصل لدرجة تكفيره لأنه لو كان التواتر يفيد اليقين فهو إنما يكذب النبى ص ، ولا شك أن ذلك من الخطورة بمكان فوجب أن توضع له الشروط اللازمة لضبطه ..
ومما تناوله الأصوليون ما يعرف عندهم بالتواتر المعنوى وهو ما أشار إليه الطوسى بقوله ((أقول الشهادات قد تكون قولية وقد لا تكون كالأمارات والرجوع فيه إلى حصول اليقين وزاول الاحتمال للوثوق بعدم مواطأة الشهداء))(25 )
ولو قلنا إن التواتر المعنوى هو تغاير الألفاظ مع الاشتراك في معنى كلي ولو بطريق اللزوم لكان هو الأعم الغالب من التواتر.
وكثيرا ما يقع فى السنة بأن يتواتر معنى في ضمن أحاديث مختلفة الألفاظ متحدة المعنى ، فالمتواتر المعنوي ، كحديث الحوض ، وسخاء حاتم ، وشجاعة علي - ط- وغيرها ، وذلك إذا كثرت الأخبار في الواقع واختلف فيها لكن كل واحد منها يشتمل على معنى مشترك بينها بجهة التضمن أو الالتزام ، فيحصل العلم بالقدر المشترك ، وهو مثلا الشجاعة لعلي - ط- والسخاء لحاتم ونحو ذلك(26 )
------
(1)سورة المؤمنون : 44
(2)الرازى : المحصول 4 / 323
(2)انظر الآمدى : أبكار الأفكار رسالة دكتوراة بكلية أًول الدين جامعة الأزهر ص122
(4)الغزالى : محك النظر ص 17
(5)انظر الرازى : المحصول 4/234 ،4/366
(6)أبو الحسين البصرى : المعتمد في أصول الفقه ، 2/81-84
(7)الآمدى : الإحكام 2/23 ،الرازى المحصول 4/334-336
(8)الرازى : المحصول 4/347
(9)التفتازانى : شرح التلويح على التوضيح 3/48
(10)الرازى: المحصول ج 4 / 366-367
(11)هذه كانت عادة الإمام الرازى رحمه الله كان بارعا فى إيراد الشبهات وربما لم يحفل بردها مما جعل الكثير من أهل العلم ينفرون العامة من كتبه والواقع أن الرازى رحمه الله لم يقصد سوى إثارة الأذهان وشحذ الخواطر وقد صرح بذلك فيما نقله عنه ابن أبى أصيبعة وقال إنها وصية الرازى
(12)أبو الحسين البصرى : المعتمد 2/81
(13)الآمدى: الإحكام 2/34
(14)الغزالى : المستصفى 1/212
(15)سورة الأعراف: 155
(16)الآمدى الإحكام 2/37-39
(17)الرازى فخر الدين : معالم أصول الفقه ، مخطوط بمكتبة الأزهر ، رقم 309380 ، 8/ب-9/ أ
(18)ابن سينا : الإشارات 1/349
(19)انظر الآمدى : الإحكام 2/39
(20)انظر السابق 2/38
(21)الرازى : الملخص 100/أ
(22)ابن سينا : الإشارات 1/349
(23)الآمدى : الإحكام 2/36
(24)السابق 2/37
(25)الطوسى : شرح الإشارات 1/349
(26)انظر السفارينى : لوامع الأنوار 1/16