المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشموليّـة للشيخ الجليل الحميدي ... حلقة فريدة في" المُراجَعـات " ؟!!



خلوصي
10-23-2008, 09:12 PM
السلام عليكم و رحمة الله :

من أجمل الكتب التي قرأتها .. ذات النفس التحقيقي .. و الحس العبودي الذي يتلمسه القاريء في ما يمكن تسميته مراجعات الشيخ لما قد نشأ عليه من مآخذ و أنظار و مشارب و اجتهادات ؟! ليكون لله وحده !.....

فهل عندكم من علم به ؟؟

و هل تسمحون لي بعرض لبابه على أفهامكم المحترمة ... على حلقات ؟

و الشيخ من أقدم تلاميذ الشيخ الزاهد ابن عثيمين رحمه الله ... و كان يشغل منصب عميد معهد إعداد الأئمة و الخطباء برابطة العالم الإسلامي ... و أستاذ أصول الدين بجامعة أم القرى .

خلوصي
10-29-2008, 01:35 AM
السكوت علامة الرضا :hearts:


من مقدمة الكتاب أقتطع لكم :
........
وإن مما دفعني إلى تأليف هذه الرسائل ما رأيته من واقع بعض المسلمين السيء، حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً، وتنافرت قلوبهم، وتشتت شملهم.

وكان من أهم الأسباب في ذلك ما جرى من الشقاق بين بعض أهل العلم منهم، وإشغال أنفسهم في الردود بعضهم على بعض واتهام بعضهم بعضاً في دينهم.
.........
.......
وهذه الرسائل من مهماتها تقريب وجهات النظر بين المختلفين من أهل العلم والتقوى ليُلقوا أسلحتهم الموجهة إلى نحورهم، وليتفرغوا لأعدائهم الحقيقيين، ولتجتمع من ورائهم الأمة الإسلامية.
ولقد جرت محاولات جادة لجمع علماء المسلمين تحت لواء واحد، خصوصاً في هذا العصر على إثر انتشار الصحوة الدينية وتعدد الجماعات الإسلامية،

ولكنْ حال دون النجاح في ذلك اختلاف بعض أهل العلم الذي تولد عنه اختلاف القلوب، وكانت العقبة الكبرى التي تحول دون اجتماعهم هي الخلافات العقدية التي انبنى عليها حكم بعضهم على بعض بالضلال والابتداع، وإذا كان أهل العلم يضلل بعضهم بعضاً ويبدع بعضهم بعضاً فإن اجتماعهم على عمل واحد يكون بعيد المنال، فكان من أهداف هذه الرسائل رفع معالم واضحة لعلماء الأمة كي يلتقوا عليها وإن لم يتفقوا على رأي واحد، تمهيداً لجمعهم تحت رابطة واحدة ولواء واحد.

ومن مقاصد هذه الرسائل أنها تعالج أنواعاً من القصور في فهم بعض أمور الدين، وهذا القصور ناتج من عوامل متعددة، منها الميل من بعض الدعاة إلى التميز عن سائر المسلمين،
وعدم مراعاة المحافظة على جماعة المسلمين العامة،
وعدم الاهتمام الكافي بجمع كلمة المسلمين،
وعدم وجود الفزع والإشفاق من تفرقهم وضعف قوتهم،
كما أن من أسباب ذلك تركيز الأفكار على قضايا محدودة من الدين وضعف الاهتمام بقضايا الدين الأخرى.
......
........
وهذا تعريف موجز بهذه الرسائل :
الأولى: (شمول الاجتهاد في الدين)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن الاجتهاد في الدين يشمل العقائد كما يشمل الأحكام الفقهية، اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، و استرشاداً بأقوال العلماء الربانيين المحققين، وتلمساً للسبل التي تخلص الأمة الإسلامية من الشقاق والنزاع والعداوة والبغضاء.

الثانية: (شمول العقيدة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العقيدة تشمل كل عمل يتعلق باعتقاد القلب وإن كان ظاهره ليس من أمور العقيدة، ومن أبرز ذلك تحكيم الإسلام في جميع شئون الحياة ورفض الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.

الثالثة: (شمول العبادة) وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن العبادة تطلق على كل عمل مشروع أريد به وجه الله تعالى، مع بيان الإيجابيات لهذا الفهم الشامل والسلبيات للفهم القاصر.

الرابعة: (شمول معالم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة)،
وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن صفات الفرقة الناجية والطائفة المنصورة تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، وما يترتب على ذلك من النتائج البناءة في قيام جماعة المسلمين وحمايتها
من التصدع والانهيار.

الخامسة: (شمول السلفية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن السلفية لا تختص بالعقائد، بل تشمل كل ما جاء به الدين من العلم النافع والعمل الصالح، ولذلك فهي تشمل قطاعاً كبيراً من المسلمين ولا تختص بطائفة معينة، مع بيان السلبيات المترتبة على حصر السلفية في طائفة محدودة، أو في جانب معين من الدين.

السادسة: (شمول الإسلام للرسالات السماوية)، وهذه الرسالة تهدف إلى بيان أن أصل الدين الذي هو التوحيد شامل لكل الرسالات السماوية، وأن الإسلام العام يطلق على كل هذه الرسالات، وفي هذا رد على فرية التقريب بين الأديان السماوية.

وقد سمَّيتُ هذه الرسائل (الرسائل الشمولية) لأنها كلها تشتمل على تصحيح بعض المفاهيم القاصرة، وتدعو إلى شمولية الفهم لمحتويات هذه الرسائل.

هذا وقد كنت كتبت هذه الرسائل ما بين عامي أربعة وأربعمائة وألف وأربعة عشر وأربعمائة وألف، وذلك حينما كنت أدرِّس مادة العقيدة في المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وقد درَّست أغلب مادة هذه الرسائل لطلاب ذلك المعهد، كما نقلها عدد منهم إلى البلاد التي ذهبوا للعمل فيها ودرَّسوها لطلابهم كما أفادوني بذلك، ولقد كان بعض الطلاب يلحون عليَّ كثيراً في طباعة هذه الرسائل، ولكني تأخرت في ذلك أولاً لانشغالي بإعداد كتاب (التاريخ الإسلامي/ مواقف وعبر) الذي بلغ عشرة مجلدات، وثانياً لأنني كنت أحاول أن أجد الوقت لإعادة النظر فيها وتنقيحها.

والآن فإنني أقدمها للأمة الإسلامية محاولاً بذلك الإسهام في الإصلاح ما استطعت، وقد بذلت جهدي في إعدادها، والتزمت أن لا أستشهد بحديث إلا إذا كان مقبولاً عند أهل الحديث، فإن يكن فيها صواب فمن توفيق الله تعالى، وإن يكن فيها خطأ فمن نفسي القاصرة.

وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد لي ولجميع إخواني المسلمين.

خلوصي
11-14-2008, 05:41 AM
الرسالة الأولى : شمول الاجتهاد في الدين
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ

المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن من أعظم الأمور التي فرقت المسلمين إلى شيع وأحزاب اختلاف بعض أهل العلـم فـي أمور العقيدة، ثم ما ترتب على ذلك من انتقادات واتهامات وبراءة أحيانًا!! فقد حكم بعض العلماء على مخالفيهم بالابتداع والضلال والفسق وأحيانًا بالكفر، وامتُحن بعضهم فحصل له شيء من الأذى.
وهذه الأحكام التي ترتبت على الخلاف العقدي كانت من أبرز الأسباب التي حالت دون اجتماع جماعة المسلمين؛ وذلك لأن عامة المسلمين وطلاب العلم وأساتذته بمختلف أنواعه تبع لعلماء الدين، فإذا كان علماء الدين يطعن بعضهم ببعض في العقيدة؛ فكيف يجتمعون؟! وإذا لم يجتمعوا فكيف يجتمع سائر المسلمين؟!

أما الخلاف ذاته بين العلماء فقد وجد بين الصحابة رضي الله عنهم في الأمور العلمية كالعقائد،والأمور العملية كالفقه، وإن كان قليلاً في أمور العقيدة؛ كخلافهم في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا، وهل يعذَّب الميت ببكاء أهله عليه أم لا؟ ولكن لم يكن له أثر في إضعاف جماعتهم، كما أن الخلاف في الأمور العملية التي أصبح العلماء يطلقون عليها "الفقه" قد وجد بعد الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن له أثر في إضعاف الجماعة إلا قليلاً، وذلك لأنه لم يترتب عليه أحكام بالبدعة والضلال والفسوق والكفر.
ولقد حصل في هذا العصر من بعض طلاب العلم أنواع من السلوك الشاذ؛ مثل عدم السلام على المخالف، وعدم الصلاة خلفه، بسبب الخلافات العقدية!!
ولقد أبلغني بعض طلابي من المعهد العالي لإعداد الأئمة والدعاة في عدة دورات ما يجري في البلاد الإسلامية من تطاحن بين بعض أفراد الجماعات الإسلامية وتبادل الاتهامات، وأن أكثر ذلك راجع إلى الخلاف في أمور العقيدة، وخاصة ما يتعلق بالأسماء والصفات.
كما أنني علمت عن ظاهرة انتشار الغلو في بعض المجتمعات فيما يتعلق بالحكم على علماء الدين، حيث بدأت تظهر من بعض طلاب العلم اتهامات لبعض أكابر العلماء بالابتداع والضلال، حتى إن بعض طلاب العلم قاموا بإحراق بعض الكتب المهمة مثل "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني؛ لما تحتوي عليه تلك الكتب
في -نظرهم- من الضلال والبدع.
ولقد كان ذلك وما سيأتي ذكره مما دفعني إلى نشر هذه الرسالة؛ لعل ذلك يخفف من المعركة المحتدمة بين طلاب العلم، وخاصة الدعاة إلى الله تعالى الذين تنتظر الأمة خلاصها على أيديهم من هذا الوضع المتردي الذي نعيش فيه.
بل لعل ما تحتوي عليه هذه الرسالة من محاولة الإصلاح يكون سببًا في تآلف القلوب وجمع الشمل، وتوحيد الصف نحو جهاد الأعداء.
هذا؛ وإنني لم أكتب هذه الرسالة للترجيح بين أقوال العلماء المختلفين، ولا لبيان الصواب منها من الخطأ، فإن هذا قد يتعارض مع الأهداف من تحرير هذه الرسالة؛ التي قصدت منها تقريب وجهات النظر بين أهل العلم الديني، وأن ينظر بعضهم إلى بعض نظرة محبة وتقدير، وأن يعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه مما يسوغ فيه الاختلاف، وأن يحكموا على مخالفيهم بأنهم قد اجتهدوا فأخطؤوا إذا كانوا من أهل الاجتهاد.
وإنما أردت أن أحدد أبرز القضايا التي يدور حولها هذا البحث، وأن أبين أن الاجتهاد سائغ في أمور الدين كلها بالنسبة لأهل السنة والجماعة، الذين يجعلون الكتاب والسنة هما مصدر العلم الديني، ويجعلون أصولهم منبثقة منهما؛ ويحتكمون إليهما عند الاختلاف، ويعتقدون بعدالة الصحابة رضي الله عنهم، ويقدمون أقوالهم على آراء العلماء الذين جاؤوا من بعدهم.
أما الذين يجهلون السنة النبوية ويطعنون ببعض الصحابة؛ كالخوارج والرافضة، والذين يعتبرون مرجعهم الأساسي هو العقل، فيردون إليه نصوص الكتاب والسنة ويحتكمون إليه عند التنازع؛ كالمعتزلة والجهمية وأتباع الفلاسفة..أما هؤلاء فلا عبرة بأقوالهم وآرائهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الاجتهاد المعتدِّ به لمخالفتهم أهل السنة في أصول الدين .
هذا وقد أضفت إلى هذه الطبعة موضوعين:
الأول: بيان ماجرى بين العلامة الشيخ عز الدين بن عبد السلام وبعض علماء الحنابلة المعاصرين له، حيث وصفهم بأوصاف شنيعة؛ وذلك كمثَلٍ للآثار السيئة التي ترتبت على الانحراف في الحكم على المخالفين، وعلى أهمية دعوة أهل العلم إلى الأخذ بمنهج الاعتدال في ذلك .
والموضوع الثاني: بيان علاقة هذا الموضوع بظهور الإمام المهدي، وقد كنت كتبت هذا الموضوع في الطبعة الأولى لهذه الرسالة، ثم إني حذفته في المرحلة الأخيرة قبل النشر؛ خشية أن يثير بعض التساؤلات، ولكني رأيت بعد ذلك أن إضافته أمر مهم، خصوصًا وأن الأمة الإسلامية قد تكون مقبلة على فتن كبيرة، فيكون هذا الموضوع مما يكشف بعض الضوء في ذلك.


نماذج من اجتهاد الصحابة


ومما يدل على أن من اجتهد في الدين فأخطأ أنه لا إثم عليه؛ ما أخرجه الشيخان من حديث عبدالله بن عمر م قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرِد منا ذلك، فَذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنِّف واحدًا منهم([1] (http://majles.alukah.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=132471#_ftn1)).
وفي هذا الحديث يقول الحافظ ابن حجر: وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم([2] (http://majles.alukah.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=132471#_ftn2)).
وهذا في مجال الأحكام العملية، ولا فرق في الدين بين الأحكام العملية والعقائد العلمية كما سيأتي.
وفي هذا الحديث يتبين لنا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتناقشوا بينهم.. من هو المصيب ومن هو المخطئ؟ هل هم الذين أخذوا الأمر النبوي على ظاهره؟ أم الذين أخذوا بمقاصد الشريعة؟ فأوَّلوا الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد حثَّهم على الإسراع بالوصول إلى ذلك الموقع، وهذا مثَل
مما رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه من البعد عن الجدل والاختلاف، فالشيء الذي كانوا يهتمون به هو الحرص على بلوغ رضوان الله تعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك اجتهدوا في فهم الأمر النبوي.

وعلى هذا فإنه لا لوم على العلماء الذين أخذوا النصوص الشرعية على ظاهرها، ولا على الذين أولوها بما يتفق -في نظرهم- مع المقاصد الشرعية، ولا يجوز لكل فريق أن يحكم على الفريق الآخر بالحكم الذي يخرجه من دائرة أهل السنة والجماعة.

وقد ذكر الإمام ابن تيمية أمثلة من اختلاف الصحابة في بعض أمور العقيدة؛ ومن ذلك قولـه: فعائشة أم المؤمنين ك قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وقالت: "من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية"! وجمهور الأمة على قول ابن عباس، مع أنهم لا يبدِّعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين ك، وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي لماَّ قيل لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، فقالت: إنما قال: إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق، ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال، كما ثبت عن رسول
الله ج: "وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"، صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الأحاديث، وأم المؤمنين تأولت، والله يرضى عنها، وكذلك معاوية نُقل عنه في أمر المعراج أنه قال: إنما كان بروحه، والناس على خلاف معاوية ، ومثل ذلك كثير.

وأما الاختلاف في "الأحكام" فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلَّما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبوبكر وعمر م سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء
لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة:
"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدركتهم العصر في الطريق، فقال قوم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وفاتهم العصر، وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة، فصلوا في الطريق، فلم يعب واحدًا من الطائفتين، أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر، وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة
فهو ملحق بالأحكام"([3] (http://majles.alukah.net/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=132471#_ftn3)).
ويقصد بغير الأمور المهمة جزئيات العقيدة؛ لأنه إنما ساق هذا الدليل بعد ذكر خلاف الصحابة رضي الله عنهم في بعض أمور العقيدة.
وهذه الأمثلة التي ذكرها ابن تيمية من أوضح الأدلة على أن الاجتهاد في أمور العقيدة كان معروفًا عند الصحابة، وأنه لم يكن يترتب على الخلاف في ذلك تبديع ولا تضليل.

([1])البخاري (4119) في المغازي، مسلم (1770)في الجهاد.

([2]) فتح الباري (7/410).

([3])مجموع الفتاوى (24/172، 173).


اقتباسات من كلام الإمام ابن تيمية :
.......
..................

خلوصي
11-23-2008, 06:28 AM
اقتباسات من كلام الإمام ابن تيمية

إننا حينما نستعرض كلام العلماء الكبار في هذا الشأن نجد لهم نظرات معتدلة في الحكم على المخالفين في كل أمور الدين، وسيكون التركيز في هذه الرسالة على بيان شيء من أقوال عالم من أعظم علماء المسلمين، كان له صولات وجولات في جميع علوم الدين، وجاهد طوال حياته بلسانه وقلمه لحماية دين الإسلام، وتنقيته مما شابه من أغاليط المغالطين ودسائس الماكرين وأوهام المخطئين.. ذلكم هو الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية، الذي جمع الله تعالى له علوم من تقدمه فعرضها بعدالة، واعتدل في حكمه على المخالفين.
وأبدأ بنقل بيانه عن مصطلحات يتكرر ذكرها في هذا المجال بينما يقلُّ استعمالها في التعريف بالعلوم؛ حيث يقول: أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان؛ أمور خبرية اعتقادية، وأمور طلبية عملية.
فالأول:
كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل في ذلك أخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار، وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك.
وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.

والثاني:
الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب؛ كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًّا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لِمَخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله.. فهي من القسم الثاني([1]).

أصول الدين وفروعه

وفي بيان أصول الدين وفروعه وأن المجتهد إذا أخطأ لا يأثم؛ يذكر ابن تيمية طوائف المسلمين الذين اختلفوا في باب الأسماء والصفات، ثم يذكر أن بعض السلف لا يرى الانتساب في أصول الدين إلى عالم معين، وإنما يرى الانتساب إلى الكتاب والسنة، ثم قال: وهذه طريقة جيدة، ولكن هذا مما يسُوغ فيه الاجتهاد؛ فإن مسائل الدِّقِّ في الأصول لا يكاد يتفق عليها طائفة؛ إذ لو كان كذلك لما تنازع في بعضها السلف من الصحابة والتابعين، وقد يُنكَر الشيء في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص.
وأصل هذا ما قد ذكرته في غير هذا الموضع: أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية؛ وإن سمِّيتْ تلك "مسائل أصول" وهذه "مسائل فروع"فإن هذه التسمية محدثة، قسَّمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين؛ وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب؛ لا سيَّما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة.
وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها؛ فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها، وكثيرًا ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل، كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة، بل الحق أن الجلي من كل واحد من الصنفين "مسائل أصول"والدقيق "مسائل فروع".
فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة؛ كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة؛ ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحدهذه كفر.
وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية؛ بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمَلِ؛ وهو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل؛ لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة؛ ولهذا تقر الأمة من يفصلها على الإطلاق، وهم الفقهاء؛ وإن كان قد يُنكر على من يتكلم في تفصيل الجمل القولية؛ للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة، وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة.

وقولنا: "إنها قد تكون بمنزلتها"؛ يتضمن أشياء:

منها: أنها تنقسم إلى قطعي وظني.

ومنها: أن المصيب وإن كان واحدًا فالمخطئ قد يكون معفوًّا عنه وقد يكون مذنبًا، وقد يكون فاسقًا، وقد يكون كالمخطئ في الأحكام العملية سواء؛ لكن تلك لكثرة فروعها، والحاجة إلى تفريعها اطمأنت القلوب بوقوع التنازع فيها والاختلاف، بخلاف هذه؛ لأن الاختلاف هو مفسدة لا يُحتمل إلا لدرء ما هو أشد منه.

فلما دعت الحاجة إلى تفريع الأعمال وكثرة فروعها، وذلك مستلزم لوقوع النزاع.. اطمأنت القلوب فيها إلى النزاع؛ بخلاف الأمور الخبرية؛ فإن الاتفاق قد وقع فيها على الـجُمل؛ فإذا فُصلت بلا نزاع فحسن؛ وإن وقع التنازع في تفصيلها فهو مفسدة من غير حاجة داعية إلى ذلك.
إلى أن قال رحمه الله:

ومما يتصل بذلك: أن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد، وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم؛
وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء.
وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفهم بها،كما قال علي ط:"حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون؛ أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟!"، وقال ابن مسعود ط: "ما من رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم".
وكذلك قال ابن عباس ط لمن سأله عن قوله تعالـى:] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }الطلاق12[[الطلاق:12]، فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت؟ وكفرك تكذيبك بها،

وقال لمن سأله عن قوله تعالى: ] {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }المعارج4[المعارج:4]، هو يوم أخبر الله به؛ الله أعلم به.

ومثل هذا كثير عن السلف.

فإذا كان العلم "بهذه المسائل" قد يكون نافعًا، وقد يكون ضارًّا لبعض الناس، تبين لك أن القول قد ينكر في حال دون حال، ومع شخص دون شخص؛
وأن العالم قد يقول القولين الصوابين، كل قول مع قوم؛ لأن ذلك هو الذي ينفعهم؛ مع أن القولين صحيحان لا منافاة بينهما؛ لكن قد يكون قولهما جميعًا فيه ضرر على الطائفتين؛ فلا يجمعهما إلا لمن لا يضره الجمع.

وإذا كانت قد تكون قطعية، وقد تكون اجتهادية.. سوَّغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية، وكثير من تفسير القرآن، أو أكثره من هذا الباب؛ فإن الاختلاف في كثير من التفسير هو من باب المسائل العلمية الخبرية، لا من باب العملية؛ لكن قد تقع الأهواء في المسائل الكبار، كما قد تقع في مسائل العمل([2]).
ويقول في موضع آخر: وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها؛ قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يُكفَّر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
فأما التفريق بين نوع وتسميته "مسائل الأصول" وبين نوع آخر وتسميته "مسائل الفروع".. فهذا الفرق ليس له أصل؛ لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حدُّ مسائل الأصول التي يكفَّر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد،ومسائل الفروع هي مسائل العمل؛ قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث.. هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكِر لها يكفُر بالاتفاق.
وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية؛ لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده،
أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذيقال لأهله: "إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذُرُّوني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني الله عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين! فأمر الله البَرَّ بردِّ ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتُك يا رب؛ فغفر الله له"، فهذا شكَّ في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له،وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع([3]).
وذكر ابن تيمية قاعدة مهمة في الحكم على المجتهدين في مسائل الأصول والفروع، فقال -رحمه الله- بعد كلامٍ له:
ونحن نذكر "قاعدة جامعة" في هذا الباب لسائر الأمة؛ فنقول:
لابدَّ أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُردُّ إليها الجزئيات ليتكلم
بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب
وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات؛ فيتولد فساد عظيم.

فنقول: إن الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول،

ونحن نذكر أصولاً جامعة نافعة:




([1]) المرجع السابق (11/336).

([2]) المرجع السابق (6/56-60).

([3]) المرجع السابق (23/346، 347).

خلوصي
11-27-2008, 06:04 AM
الأصل الأول:

أنه هل يمكن كل واحد أن يعرف باجتهاده الحق
في كل مسألة فيها نزاع؟ وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه
فلم يصل إلى الحق؛ بل قال ما اعتقَد أنه هو الحق في نفس الأمر؛ ولم يكن هو الحق في نفس الأمر: هل يستحق أن يعاقب أم لا؟
هذا أصل المسألة.

ثم ذكر أقوال بعض الطوائف في تأثيم المجتهدين المخطئين، إلى أن قال: وأما غير هؤلاء فيقول: هذا قول السلف وأئمة الفتوى؛ كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي؛ وغيرهم لا يُؤثِّمون مجتهدًا مخطئًا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره؛ ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلَّى خلفه، وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهم لا يكفِّرون ولا يفسِّقون ولا يؤثِّمون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية.

قالوا: والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره.

قالوا: والفرق بين ذلك في مسائل الأصول والفروع، كما أنها محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة.. فهي باطلة عقلاً؛ فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة؛فمنهم من قال: مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل، قالوا: وهذا فرق باطل؛ فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل: وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنى والربا والظلم والفواحش، وفي المسائل العلمية ما لا يأثم المتنازعون فيه؛ كتنازع الصحابة؛ هل رأى محمد ربه؟ وكتنازعهم في بعض النصوص؛ هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات؛ هل هي من القرآن
أم لا؟ وكتنازعهم في بعض معاني القرآن والسنة؛ هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلام؛ كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ونحو ذلك، فليس في هذا تكفير ولا تفسيق.
قالوا: والمسائل العملية فيها عمل وعلم فإذا كان الخطأ مغفورًا فيها؛ فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورًا، ومنهم من قال: المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي، والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي، قال أولئك: وهذا الفرق خطأ أيضًا؛ فإن كثيرًا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها، وفيها ما هو قطعي بالإجماع؛ كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة، كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قدامة([1])، ورأوا أنها حلال لهم؛ ولم تكفِّرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا.
وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ ولم يُؤثِّمهم
النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن تكفيرهم، وخطؤهم قطعي، وكذلك أسامة
بن زيد قد قتل الرجل المسلم! وكان خطؤه قطعيًّا، وكذلك الذين وجدوا رجلاً في غنم له فقال: إني مسلم؛ فقتلوه وأخذوا ماله! كان خطؤهم قطعيًّا، وكذلك خالد بن الوليد قتل بني جذيمة وأخذ أموالهم! كان مخطئًا قطعًا.
وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط، وعمار الذي تمعك في التراب للجنابة كما تمعك الدابة، بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلُّوا.. كانوا مخطئين قطعًا، وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ولم يعلموا بوجوب الحج أو لم يعلموا تحريم الخمر لم يُحَدُّوا على ذلك، وكذلك لو نشؤوا بمكان جهل.
وقد زنت على عهد عمر امرأة، فلما أقرت به قال عثمان: إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام، فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدُّوها! واستحلال الزنى خطأ قطعًا.
والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهو مخطئ قطعاً، ولا إثم عليه باتفاق، وكذلك لا كفارة عليه عند الأكثرين.
ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل؛ هو مخطئ قطعًا، إذا تبين له الأكل بعد الفجر؛ ولا إثم عليه، وفي القضاء نزاع، وكذلك من اعتقد غروب الشمس فتبين بخلافه، ومثل هذا كثير.
وقول الله تعالى في القرآن: ]…رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ [البقرة:286]،قال الله تعالى: "قد فعلت"، ولم يفرق بين الخطأ القطعي في مسألة قطعية أو ظنية، والظني ما لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان أخطأ قطعًا، قالوا: فمن قال: إن المخطئ في مسألة قطعية أو ظنية يأثم؛ فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم.
قالوا: وأيضًا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين، ليس هو وصفًا للقول في نفسه ؛ فإن الإنسان قد يقطع بأشياء عَلِمَ -بالضرورة أو بالنقل المعلوم- صدقها عنده، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعًا ولا ظنًّا، وقد يكون الإنسان ذكيًّا قوي الذهن سريع الإدراك؛ فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علمًا ولا ظنًّا.

فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة، وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وهذا، فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال: كل من خالفه قد خالف القطعي، بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد، وهذا مما يختلف فيه الناس، فعُلِم أن هذا الفرق لا يطَّرد ولا ينعكس.ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال: المسائل الأصولية هي المعلومة بالعقل، فكل مسألة علمية استقل العقل بدركها فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها، والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع، قالوا: فالأول كمسائل الصفات والقدر؛ والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار.
فيقال لهم: ما ذكرتموه بالضد أولى؛ فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل.

إلى أن قال: وحينئذ؛ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يقال: إنها أصول الدين.. كفراً، فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل المبتدعة في الشرع هم الكفار لا من خالفهم، وإن لم يكن الخطأ فيها كفراً فلا يكفَّر من خالفهم فيها، فثبت أنه ليس كافراً في حكم الله ورسوله على التقديرين، ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالاً يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفِّرون من خالفهم فيها ويستحلون دمه؛ كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم.
وأهل السنة لا يبتدعون قولاً ولا يكفِّرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفًا لهم مستحلاًّ لدمائهم، كما لم تكفِّر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم([2])!!

وبهذا تبين بطلان هذه الأقوال في بيان أصول الدين وفروعه فيبقى القول الذي ذكره الإمام ابن تيمية قبل ذلك هو القول الصحيح؛ وهو أن المسائل الكبيرة في الدين هي أصول الدين، وأن المسائل الصغيرة هي فروع الدين؛ سواء في القضايا العلمية التي على رأسها أمور العقيدة، أو في القضايا العملية التي يراد بها ما يحتويه علم الفقه.
وبهذا يتبين خطأ العلماء الذين أخرجوا الصلاة من أصول الدين وهي عمود الإسلام كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يكون عمود الشيء الذي لا يقوم إلا عليه فرعًا من ذلك الشيء؟!

وقال -رحمه الله تعالى- في بيان هذا الموضوع: وأيضًا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ كقوله : لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[[البقرة:286]، ............................
..........................
وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة

، وقد دعاه المؤمنون بقولهم: ] رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ[[البقرة:286]، فقال: "قد فعلت".
فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسًا ما تعجز عنه، خلافًا للجهمية المجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي، خلافًا للقدرية والمعتزلة.

وهذا فصل الخطاب في هذا الباب؛ فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومُفتٍ وغير ذلك.. إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع؛ كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة خلافًا للجهمية المجبرة، وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب([3])
.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر في حواره مع المخالفين في باب أسماء الله تعالى وصفاته:

ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه
في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب
أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك.. فهذا أولى([4]).
وفي موضع آخر يؤكد ابن تيمية -رحمه الله- عدم المؤاخذة في الخطأ في أمور الاعتقاد، حيث يقول: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة،وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم؛ فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصوده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب إمكانه.. هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاده، ولا يؤاخذه بما أخطأ؛ ...............
............
وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى، كما نطق به القرآن، وإنما توقفوا في شخص معين لعدم العلم بدخوله في المتقين([5]).

ويذكر -رحمه الله- اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في بعض المسائل العلمية الاعتقادية، ويبين مذهب أهل السنة في عذر المجتهد إذا أخطأ فيقول:وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت.. مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أَحدُ القولين خطأٌ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مُؤَدٍّ لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه؛ وهل يقال له: مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع، ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر.
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ([6]).

ويذكر -رحمه الله- أن العالم إذا أخطأ يُترك خطؤه، ولكنه لا يكفَّر ولا يفسَّق ولا يؤثَّم، وذلك في جوابه على سؤال حول موضوع عصمة الأنبياء عليهم السلام؛ حيث يقول: وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم؛ ...............
.................
وبيَّن في موضع آخر أن المجتهدين من العلماء في أمور الدين إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم والله يغفر لهم خطأهم؛ حيث يقول: ولكن الأنبياء -صلوات الله عليهم- هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب، فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه؛ فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغْلُون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يُؤثِّمون([8]).

ويبين -رحمه الله- الفرق بين المجتهد الذي يريد الوصول إلى معرفة الحق، وبين المفرِّط الذي يتبع هواه فيقول:
([1])يعني قدامة بن مظعون.

([2]) المرجع السابق (19/203-212)، وانظر: منهاج السنة (5/85- 95).

([3]) مجموع الفتاوى (19/216، 217).

([4]) المرجع السابق (3/179).

([5]) المرجع السابق (20/165، 166).

([6]) المرجع السابق (19/123).

([7]) المرجع السابق (35/100).

([8]) المرجع السابق (35/69).

خلوصي
12-05-2008, 09:19 AM
.....
ويبين -رحمه الله- الفرق بين المجتهد الذي يريد الوصول إلى معرفة الحق، وبين المفرِّط الذي يتبع هواه فيقول:

فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله.. فهو ظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمر الله ورسوله؛فهذا مغفور له خطؤه كما قال تعالى في [البقرة:285، 286]، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الله قال:"قد فعلت"،

ويذكر -رحمه الله- في موضع آخر
أن تأثيم المجتهدين هو مذهب الخوارج؛
حيث يقول عنهم: وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل، فلم يحتملوا ذلك، وجعلوا موارد الاجتهاد -بل الحسنات- ذنوبًا! وجعلوا الذنوب كفرًا([3])!!

ثم ذكر ابن تيمية -رحمه الله-
أن رفع الإثم عن المخطئين في اجتهادهم مشروط بلزومهم جماعة المسلمين، وعدم مفارقتهم إياهم، وعدم براءتهم من المسلمين المخالفين لهم؛ حيث يقول:

ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة، ومنهم من يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محمودًا فيما رده من الباطل وقاله من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد بالباطل باطلاً أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة.

ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ،
والله -سبحانه وتعالى- يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك؛ ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛
بخلاف من والى مُوافِقَه وعادى مُخالِفَه وفرق بين جماعة المسلمين،
وكفَّر وفسَّق مخالِفَه دون موافِقِه في مسائل الآراء والاجتهادات؛ واستحل قتال مخالِفِه دون موافِقِه.. فهؤلاء أهل التفرق والاختلافات([4]).

وفي موضع آخر يبين المؤلف عذر المجتهد إذا أخطأ؛ سواء في الأصول أو الفروع، ويبين
أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع ليس من منهج السلف، ولكنه ظهر من جهة المعتزلة ثم انتقل إلى أهل السنة، وذلك بعد أن ذكر منهج السلف في الترجيح بين الأدلة التي يسميها بعض المتكلمين "أمارات"؛ حيث يقول:

وأما السلف والأئمة الأربعة والجمهور فيقولون: بل الأمارات بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى؛ فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ولم ير ما يعارضه عمل به، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئًا معذورًا، ولهأجر على اجتهاده وعمله بما تبين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه.
فإذا أريد بالخطأ الإثم؛ فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب مطيع لله فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر؛ فالمصيب واحد وله أجران.

إلى أن قال:
وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جَعْلُ الدين قسمين؛ أصولاً وفروعًا.. لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين،
ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين: إن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه قال: كل مجتهد مصيب، ومراده أنه لا يأثم، وهذا قول عامة الأئمة؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما.

والذين فرقوا بين الأصول الفروع لم يذكروا ضابطًا يميز بين النوعين،بل تارة يقولون: هذا قطعي، وهذا ظني، وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشيء قطعيًّا وظنيًّا أمر إضافي، وتارة يقولون: الأصول هي العلميات الخبريات والفروع العمليات، وكثير من العمليات من جحدها كفر؛كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة يقولون: هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطئ؛ فإن الكفر حكمشرعي يتعلق بالشرع، وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع([5])
.
ويبين -رحمه الله- أن المجتهدين المتأولين في أحكام الدين غايةُ الحكم عليهم أنهم مخطئون؛ حيث يقول:

وكل من كان باغيًا أو ظالمًا أو معتديًا أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان؛ متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حِلَّ أمور، واعتقد الآخر تحريمها؛ كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة.. وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون،.......
.
وإذا كان هذا في الباغي الذي يخرج على الإمام ونحوه إذا كان متأولاً، فكيف بمن اجتهد في أمر من أمور الدين فقال فيه باجتهاده، فهو وإن أخطأ لا إثم عليه كما تقدم؛ سواء كان ذلك في الأحكام أو في العقائد.
وينتقد -رحمه الله- العلماء الذين يضللون مخالفيهم أو يكفِّرونهم ويستعْدُون عليهم السلطان، حيث يقول:..................
...........................
.............................. ............([1])يريد ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبدالله بن عباس م، وفيه الخبر عن نزول ملك من السماء وقوله: "أبشر بنورين أوتيتهما، لم يُؤْتَهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيتَه"، مسلم (806)، في صلاة المسافرين.

([2]) مجموع الفتاوى (3/317، 318).

([3]) المرجع السابق (28/489).

([4]) المرجع السابق (3/348، 349).

([5]) المرجع السابق (13/123-126).

([6]) المرجع السابق (35/75).

خلوصي
12-17-2008, 06:05 AM
لا أحد يؤانس وحدتي في حرقتي على أمتي ؟ ! ؟

حسام الدين حامد
12-17-2008, 09:28 PM
لا أحد يؤانس وحدتي في حرقتي على أمتي ؟ ! ؟


ولم ذاك أخانا الكريم ؟!

وإن كلامك لحسنٌ جميل في مجمله، غير أنه أتى في مواضع فاختصر القول وأجمله، فنظرتُ للمجمل فانتفعت به جزاك الله خيرًا، ونظرت لموضع الإجمال فقلتُ لعل التركيز عليه يذهب بنفع الموضوع ويشتت مقصده ..

فإن كنت ترى حفظك الله التعقيب على كلامك شرطًا لإظهار مشاركتك الحرقة .. فإني أخالفك في ذلك .. ولعله من الخلاف السائغ : ) !

خلوصي
12-19-2008, 02:10 PM
شكرا جزيلا أخي العزيز ... ها قد آنست وحشتي :)):


وينتقد -رحمه الله- العلماء الذين يضللون مخالفيهم أو يكفِّرونهم ويستعْدُون عليهم السلطان، حيث يقول:


وكان ابن فورك في مخاطبة السلطان قصد إظهار مخالفة الكرامية، كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كفَّرهم عند السلطان، ولم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفَّره، فإنه هو ظلم نفسه!


وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، ويتبعون الرسول؛ فلا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه، وأهل البدع مثل الخوارج يبتدعون بدعة ويكفِّرون من خالفهم ويستحلون دمه، وهؤلاء كلٌّ منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضًا مبتدع فيرد بدعة ببدعة وباطلاً بباطل([1])!!


وفي موضع آخر يبين -رحمه الله- أن الذي يدافع عن العلماء ويدفع عنهم تكفير الغلاة فهو محسن، وإن اعتقد وقوع أولئك العلماء المحكوم عليهم بالكفر غير المتعمد، فإن مجرد حمايتهم ونصرهم غرض شرعي حسن، فيقول: ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أنَّ دافع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر؛ حماية له ونصرًا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضًا شرعيًا حسنًا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد([2]).


ويقول -رحمه الله- في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"،

بعد أن ناقش عددًا من كبار العلماء المنتسبين إلى مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله:

ثم إنه ما من هؤلاء إلا مَنْ له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين.. ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء.. احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكرها جمهور المسلمين من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.


وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين،والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات؛ ويتجاوز لهم عن السيئات ...............

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك؛ فالله يغفر له خطأه، تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين ............



ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنِّع على مَنْ خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابًا بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة.. فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم أو أصغر فيمن يعظِّمه هو من أصحابه، فقلَّ من يَسْلم من مثل ذلك في المتأخرين؛ لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبُعْد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب([3]).


ويقول أيضًا في هذا الكتاب: ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية([4])، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم.. فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا يؤاخذه بما أخطأه، ...

ويقول -رحمه الله- في بيان هذا الموضوع: والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعملية([6])، كما قد بُسط في غير موضع، ثم ذكر أمثلة على ذلك؛ منها مَن اعتقد أن الله تعالى لا يُرى في الآخرة؛ .................



ومنها اعتقاد أن الله تعالى لا يَعجب كما اعتقد ذلك القاضي شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون مِن جَهـل السبب والله منزه عن الجهل([7])، ومنها اعتقاد أن الميت لا يسمع خطاب الحي لاعتقاده أن قوله تعالى[ النمل:80[ومن أقواله في هذا الأمر: هذا مع أني دائمًا، ومن جالسني يعلم ذلك مني.. أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية؛ إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية([9]).




ويقول في الرد على من حكموا على المخالفين المخطئين بالكفر:

إن المتأول الذي قصْده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر، بل ولا يفسق، إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويكفِّرون من خالفهم؛كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة؛ كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

وقد يسلكون في التكفير ذلك؛ فمنهم من يكفِّر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل من خرج عمَّا هو عليه من أهل البدع! وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية.

وهذا القول أيضًا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفَّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليُحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعيَّن؛ كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه.



وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيُستغفر لهم ويُترحم عليهم، وإذا قال المؤمن: ][[الحشر:10]، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله؛ فخالف السنة أو أذنب ذنبًا.. فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان؛ فيدخل في العموم([10])


.
وفي كتاب "الاستقامة"

عقد -رحمه الله- فصلاً فيما اختلف فيه المؤمنون من الأقوال والأفعال في الأصول والفروع، ثم قال: ومن هذا الباب ما هو من باب التأويل والاجتهاد الذي يكون الإنسان مستفرغًا فيه وسعه؛ علمًا وعملاً.
قال: ثم إن الإنسان قد يبلغ ذلك ولا يعرف الحق في المسائل الخبرية الاعتقادية، وفي المسائل العملية الاقتصادية، والله سبحانه قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان .......



وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ومن حديثأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله استجاب لهم هذا الدعاء،وقال: "قد فعلت"([11]).

وأفاد في موضع آخر من هذا الكتاب بأن الاجتهاد يكون مذمومًا إذا صاحبه البغي؛ حيث يقول:
ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد،واستشهد بآيات؛ منها قول الله تعالى: في [آل عمران:19]،
ثم قال: فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي12]).


ويقول الإمام ابن تيمية أيضًا في التحذير من تفرق الأمة بسبب تفرق علمائها: "وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أُمِرت الرسل بذلك، ومأمورون بألا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة كما أُمِرت الرسل بذلك، وهؤلاء آكد، فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد، وأما القدر الذي تنازعوا فيه فلا يقال: إن الله أمر كلاًّ منهم باطنًا وظاهرًا بالتمسك بما هو عليه كما أمر بذلك الأنبياء، وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام، فإنما يقال: إن الله أمر كلاًّ منهم أن يطلب الحق بقدر وسعه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، .......



فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله؛ فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله، ومن فعل ما أُمِر به بحسب حاله؛ من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة .........



، فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه لله وهو محسن، ويدوم على هذا الإسلام، فإسلام وجهه إخلاصه لله، وإحسان فعله الحسن، فتدبَّرْ هذا فإنه أصل جامع نافع عظيم"([13]).



وبهذا نعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية حينما دعا إلى تعميم الاجتهاد في كل أمور الدين، وحَمَلَ كلام المخالفين من العلماء على الخطأ، وبيَّن أن المخطئ مغفور له خطؤه ولا إثم عليه..نعلم بذلك أن ابن تيمية من أعظم الدعاة إلى بيان المنهج الإسلامي في معرفة الحق والحكم على المخالفين، وإلى قيام جماعة المسلمين وتماسكها،

وهو يدرك بأن قيامها واستمرار وجودها القوي غير ممكن ما دام علماء الدين -الذين يضع المسلمون ثقتهم بهم- يتبادلون التهم، ويحكم بعضهم على بعض بالفسق والابتداع؛ إن لم يحكموا عليهم بالكفر!

فلذلك كرر بيان هذا الموضوع في كثير من فتاواه كما تبين لنا،وهو يدعو إلى ما يترتب على ذلك من عمران المحبة بين العلماء وتوافر الولاء القلبي بينهم، وإن ظل بعضهم على قناعتهم بما توصلوا إليه في اجتهادهم.


وهكذا رأينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان عادلاً في حكمه على المخالفين من أهل السنة، محافظًا على منزلة علماء الدين.


أما ما نراه من شدة ابن تيمية على مخالفيه في مواضع أخرى، فهو محمول على الرغبة القوية في بيان ما يراه من الحق؛ حتى لا يضيع في خضم الخلاف الذي قد يُعرض أحيانًا بأسلوب مؤثر.

وابن تيمية -رحمه الله تعالى- حينما يرد بشدة على المخالفين ويحكم عليهم بأحكام شديدة؛ إنما يريد المتشددين في مذهبهم، الذين يحكمون على أهل الإثبات الكامل بأنهم مُجسِّمة وحَشْوية، فهؤلاء ظالمون في حكمهم فاستحقوا منه الأحكام الشديدة،


أما العلماء المعتدلون من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم؛ الذين يحكمون على مخالفيهم ممن هم أهل للاجتهاد بالخطأ.. فإنهم في نظر ابن تيمية مجتهدون مخطئون،

وإن لم يكن هؤلاء وأمثالهم من العلماء المجتهدين هم المقصودين بالحكم عليهم بالخطأ في كلام ابن تيمية، فمن هم العلماء الذين عناهم في كتاباته الكثيرة حينما حكم عليهم بأنهم مجتهدون مخطئون؟!



إنه ينبغي لنا ألا نأخذ مذهب العالم من نمط واحد من كتاباته، وإنما نأخذ نماذج من أنماط متعددة لنصل إلى تقرير مذهبه، وإننا حينما نقارن بين النصوص التي يحمل فيها ابن تيمية على مخالفيه فيصفهم بالضلال، وبين النصوص التي حكم عليهم فيها بأنهم مجتهدون مخطئون ويلتمس لهم الأعذار.. ندرك أنه لا يقصد الحكم على طائفة بعينها مرة بالضلال ومرة بالخطأ، وإنما يحكم بالضلال على من اجتهد في أمر من أمور الدين وهو ليس أهلاً للاجتهاد، أو تعمد مخالفة الحق تعصبًا للرأي أو للمذهب، أو جار في حكمه على مخالفيه، بينما يحكم بالخطأ على من خالف الصواب وهو من أهل الاجتهاد وقد بذل وسعه لمعرفة الحق.

وإن من إنصاف ابن تيمية وإنصاف الحق أن نأخذ كلامه كاملاً في بيان أخطاء الآخرين والرد عليهم، وفي بيان فضائلهم وفي الاعتذار لهم، الأمرَ الذي له أهميته في قصر الخلاف على بيان الحق عند كل عالم، من غير أن يتجاوز ذلك إلى البراءة من المخالفين أو الحكم عليهم بالأحكام الجائرة.
([1]) المرجع السابق (16/95، 96).

([2]) المرجع السابق (35/103).

([3])درء تعارض العقل والنقل (2/102، 103).

([4])يعني في المسائل العقدية كما تقدم.

([5])درء تعارض العقل والنقل (2/315).

([6])جاء في الفتاوى: "والعلمية"، وهو خطأ؛ لأن الخبرية هي العلمية وإنما أراد المؤلف العملية؛ لأنه يعبر في مواضع كثيرة عن مسائل العقيدة بالعلمية أو الخبرية، ويعبر عن الأحكام الفقهية بالعملية.

([7])وذلك بمناسبة قول الله تعالى في[الصافات:12]، وذلك على
قراءة ضم التاء في ] بل عجبت و يسخرون [؛ وهي قراءة حمزة والكسائي في آخرين، انظر: زاد المسير لابن الجوزي (7/50).

([8])مجموع الفتاوى (20/33-36).

([9]) المرجع السابق (3/229).

([10])منهاج السنة النبوية (5/239-241).

([11])الاستقامة (1/24-26).

([12]) المرجع السابق (1/31).

([13])مجموعة الرسائل المنيرية (3/141)، رسالة " قاعدة في توحد الملة وتعدد الشرائع"،وهي الرسالة الثامنة.
__________________

خلوصي
04-14-2009, 04:33 AM
لقد استفاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كثيرًا في كتبه من منهج الكتاب والسنة، فنجده مثلاً حينما يتحدث عن المخالفين في أمور العقيدة يتشدد، ويأتي بأساليب الكلام المنوعة في الرد عليهم والتنفير من مذاهبهم، وهذا يشبه آيات الوعيد وأحاديثه؛ حيث إن من أعظم مقاصدها التنفيرَ من الأعمال السيئة التي حذرت منها تلك الآيات والأحاديث، ثم نجده في مواضع أخرى يعتذر لبعض أولئك المخالفين؛ وهم الذين لم تصل مخالفتهم إلى حد رَدِّ الكتاب والسنة والاستقلال بأصول تخالفهما، أو الدخول في هذا العلم من غير أهلية له، ومع اعتذاره لهم يفتح لهم باب الرجاء فيعتبرهم من جملة علماء هذه الأمة المرحومة، المثاب مجتهدها، المغفور لمخطئها، وذلك يشبه آيات الوعد وأحاديثه الوعد التي من أهم مقاصدها فتح باب الأمل والرجاء لمن قد يصابون باليأس من رحمة الله تعالى.

ولكن طائفة من العلماء تمسكوا بكتابات ابن تيمية التي يرد بها على المخالفين بما فيها من شدة وغلظة، وربما فاقه بعضهم في هذا المجال، بينما مروا مر الكرام على كتاباته التي يعتذر فيها لبعض المخالفين، ويحنو عليهم، ويخاطبهم فيها خطاب العالم لإخوانه الذين يسير هو وإياهم لبلوغ هدف واحد، وإن اختلف طريقه قليلاً عن طريقهم.

وكان ينبغي الجمع بين هذه الكتابات وتلك لنخرج منها بصياغة معتدلة لآراء ابن تيمية الاجتهادية، وهي التي فيها الخير الكثير، والحل لكثير من مشكلات تفرق العلماء وتفرق الأمة من خلفهم.

إنني حينما كتبت هذه الرسالة وجمعت هذه الدرر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية إنما أهدف إلى رفع الملام عن أئمة الإسلام؛ كالنووي والعز بن عبدالسلام وابن حجر العسقلاني، حيث وصفهم بعض طلاب العلم في هذا العصر بالابتداع والضلال!!

كما أهدف في مقابل ذلك إلى رفع الملام عن أئمة الإسلام الذين أخذوا بظاهر الآيات ولم يؤولوها؛ كابن تيمية وابن القيم والذهبي، ومن قبلهم ابن قتيبة وابن خزيمة وغيرهم؛ حيث إن هؤلاء العلماء وُصفوا من مخالفيهم بأوصاف شنيعة، فقد قيل عنهم إنهم حشوية ومجسمة، وحُكِم عليهم بالبدعة والضلال، بل بالكفر أحيانًا من بعض العلماء السابقين ومن بعض أهل العلم في هذا العصر.

ومن ذلك قول أحد علماء هذا العصر: "لقد ضل ابن تيمية حينما قال بفناء النار"، وكان الأولى أن يقول: لقد أخطأ ابن تيمية؛ لأنه إنما قال هذا القول -على فرض أنه قاله-عن اجتهاد منه، وهو من أبرز أهل الاجتهاد، فغاية ما يحكم عليه به المخالف أن يصفه بالخطأ، والخطأ لا يترتب عليه بغض ولا براءة، بل يظل العلماء وإن اختلف اجتهادهم على حب وولاء.

كما أهدف من ذلك إلى رفع الحرج عن علماء هذا العصر؛ الذين اتُّهموا في عقائدهم لأنهم ذهبوا إلى بعض ما قرره بعض علماء السنة القدامى من تأويل بعض الآيات على غير ظاهرها؛ حيث اتُّهموا بالتعطيل، ونُسبوا إلى بعض فرق الغلاة؛ كالمعتزلة والجهمية، وإلى رفع الحرج عن العلماء الذين أخذوا بقول بعض علماء السنة الذين فسروا تلك الآيات على ظاهرها، حيث وصفوهم بالتجسيم والتشبيه ونحو ذلك، وكل فريق من هؤلاء العلماء المعاصرين إنما ساروا على ما سار عليه علماء كبار من أهل السنة والجماعة، فهل نصف أولئك العلماء بهذه الصفات الشنيعة؟!

وإذا تبين لنا أن المنهج الصحيح هو الحكم على العلماء المخالفين بالخطأ إذا كانوا من أهل الاجتهاد، وعدم جواز تضليلهم أو تبديعهم،فضلاً عن تفسيقهم أو تكفيرهم.. فإن هذا الحكم يسري على كل من اقتدى بهم وأخذ باجتهادهم من أهل العلم وعامة المسلمين.

لكن المشاهد في هذا العصر أن بعض العلماء يتورعون عن الحكم على كبار العلماء السابقين بالضلال والابتداع ويحكمون عليهم بالخطأ، بينما ينبري بعض تلامذتهم للحكم على بعض علماء هذا العصر بالضلال والابتداع، وهؤلاء العلماء المحكوم عليهم هم على منهج أولئك العلماء الكبار، ومع ذلك فإن كثيرًا من العلماء المعاصرين لا ينكرون هذا التناقض في الحكم.
ونظرًا لظهور هذا التناقض فإن بعض المتشددين في هذا العصر حكموا على بعض كبار العلماء السابقين بالضلال والابتداع وحرموا قراءة كتبهم، ولو أن العلماء الذين تورعوا عن الحكم على كبار العلماء بالضلال والابتداع عمموا هذا الحكم علىكل من أخذ باجتهادهم؛ لما حصل هذا الغلو الذي باعد بين أهل العلم الديني من المسلمين، وأوجد بينهم شيئًا من العداوة والبغضاء، وعامة المسلمين تبع لأهل العلم منهم، فإذا تفرق أهل العلم وتباعدوا تبعهم في ذلك عامة المسلمين.

إن الذي ينظر إلى النزاع بين طلاب العلم على مر الزمن بسبب الخلاف الدائر بين العلماء المتبوعين في أمور العقيدة.. يشفق على أوضاع هذه الأمة التي تتطاحن وتتناحر بسبب الخلاف بين أهل العلم الديني!

ولو أن علماء الدين ربَّوا تلامذتهم على المنهج المعتدل، القائم على تخطئة المخالفين لهم حينما يتبين لهم خطؤهم، لا على تجريحهم وتبديعهم وتضليلهم.. لأصبح الجو العلمي الديني هادئًا، ولسادت بين طلاب العلم روح المودة والأخوة القائمة على عذر المخالفين، وعدم معاملتهم معاملة الفساق والكفار في البغض والبراءة، مع اعتصام كل فريق بما يراه هو الحق، ومع قيام المناظرات والردود فيما بينهم على منهج متزن معتدل، لا يفسد المودة ولا يجرح الأخوة الإيمانية بينهم، وبالتالي فإنه لا يترتب على خلافهم تحزبات ولا انقسامات تصل إلى مستوى العامة والمثقفين من غير المتخصصين في الدراسات الإسلامية.


من أقوال الإمام الذهبي
......
...............

خلوصي
06-04-2009, 10:40 AM
لن أخبركم بأقوال الإمام الذهبي !


بسمات

خلوصي
04-08-2011, 02:07 PM
لن أخبركم بأقوال الإمام الذهبي !


بسمات

و ماذا يهمكم ؟
لقد أخذتم أقواله من مواقع أخرى - بسمات -

خلوصي
08-05-2011, 11:27 AM
من أقوال الإمام الذهبي

من العلماء الذين رأيت لهم أقوالاً معتدلة في الحكم على العلماء الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ومن ذلك أنه ذكر في ترجمة محمد بن نصر المروزي بعض أقواله في العقيدة، وأنه هجره على ذلك علماء وقته، وخالفه أئمة خراسان والعراق، ثم قال الذهبي: ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه؛ لما سلم لنا لا ابن نصر ولا ابن مَنْدَه ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهوأرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفضاضة([1]).


وقال في ترجمة محمد بن إسحاق ابن خزيمة: وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة؛ فَلْيعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفُّوا وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله،
ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه وتوخِّيه لاتِّباع الحق- أهدرناه وبدَّعناه.. لَقَلَّ من يَسلَم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنِّه وكرمه([2]).
وحديث الصورة المذكور هو ما أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة ط قال: قال رسول الله ج: "خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعًا.."، الحديث، قال أبو بكر ابن خزيمة: فصورة آدم -وهي ستون ذراعًا- التي خبَّر النبي http://www.tafsir.net/vb/images/smilies/slah.png أن آدم خُلق عليها، لا على ما توهم بعض من لم يتحرَّ العلم فظن أن قوله على صورته صورة الرحمن([3]).
وذكر في ترجمة الشيخ أبي اليُمن زيد بن الحسن الكندي انتقاد القفطي له، ثم قال: قلت: ما علمنا عنه إلا خيرًا، وكان يحب الله ورسوله وأهل الخير، وشاهدت له فتيا في القرآن تدل على خير وتقرير جيد، لكنها تخالف طريقة أبي الحسن (يعني الأشعري)، فلعل القفطي قصد أنه حنبلي العقد،
وهذا شيء قد سمج القول فيه، فكل من قصد الحق من هذه الأمة فالله يغفر له، أعاذنا الله من الهوى والنفس([4]).
وقال في ترجمة الإمام أبي الحسن الأشعري رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة، رواها البيهقي: سمعت أبا حازم العبدري: سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيته فقال: اشهد عليَّ أني لا أُكفِّر أحدًا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات.


قال الذهبي: قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول:أنا لا أكفِّر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي ج: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"([5])، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم([6]).


وقال في ترجمة شيخ الإسلام موفق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة: وقال أبو شامة: كان إمامًا علَمًا في العلم والعمل، صنف كتبًا كثيرة، لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته في العلم ومعرفته بمعاني الأخبار!


قال الذهبي: قلت: وهو وأمثاله متعجب منكم مع علمكم وذكائكم كيف قلتم! وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى، ولا عجب في ذلك، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلُّب الحق أن يُغفَر له من هذه الأمة المرحومة([7]).
فهذه بعض أقوال الإمام الذهبي في الحكم على العلماء، وهو من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد استفاد منه في تسامحه وعدله في الحكم على المخالفين له من العلماء.




من أقوال بعض العلماء المعاصرين


يقول سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح "لمعة الاعتقاد" لموفق الدين ابن قدامة:
وحكم التأويل على ثلاثة أقسام:


الأول: أن يكون صادرًا عن اجتهاد وحسن نية؛ بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله؛ فهذا معفو عنه لأن هذا منتهى وسعه، ..........
الثاني: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصب، وله وجه في اللغة العربية؛ فهو فسق وليس بكفر، إلا أن يتضمن نقصًا أو عيبًا في حق الله؛ فيكون كفرًا.
الثالث: أن يكون صادرًا عن هوى وتعصب، وليس له وجه في اللغة العربية؛ فهذا كفر؛ لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له([8]).


وقد أجرى الأخ خالد الحسينان في مجلة "المسلمون" حوارًا مع الشيخ محمد العثيمين، وفي ذلك يقول: ماذا تقولون لمن يتتبعون أخطاء العلماء وسيئاتهم، ثم يُبرزونها
ويسكتون عن حسناتهم بدعوى أن هذه الأخطاء في باب العقيدة؟


فأجاب فضيلة الشيخ: هذا خطأ؛ فالعقيدة كغيرها من حيث إنه قد يقع فيها الخطأ، أفلم يعلم هؤلاء أن العلماء قد اختلفوا في أبدية النار؛ هل هي مؤبدة أو غير مؤبدة؟! وهؤلاء من السلف والخلف، وقد اختلفوا في شيء من العقيدة،فهل نُظهر سيئاتهم؟ الصراطُ الذي يوضع على جهنم؛ هل هو طريق كغيره من الطرق، أو هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف؟! الذي يوزن يوم القيامة؛ هل هو الأعمال أم صاحب العمل أم صحائف الأعمال؟ هل رأى الرسول ربه أم لم يره؟ هل تُعاد الروح إلى البدن فيكون العذاب على البدن والروح أو على الروح وحدها في القبر بعد الدفن؟! كل هذه مسائل في العقيدة واختلف فيها العلماء، فهل نُظهر سيئاتهم أو نرفضهم؟!‍


وفي سؤال آخر عمن أراد أن يقيِّم شخصًا فيذكر مساوئه فقط ولا يذكر ما لديه من خير؛ قال من ضمن جوابه: فالواجب على من أراد أن يقيِّم شخصًا تقييمًا كاملاً إذا دعت الحاجة أن يذكر مساوئه ومحاسنه، وإذا كان ممن عُرف بالنصح للمسلمين أن يعتذر عما صدر منه من المساوئ؛ فمثلاً نحن نرى من العلماء كابن حجر والنووي وغيرهما من لهم أخطاء في العقيدة، لكنها أخطاء نعلم علم اليقين فيما نعرف من أحوالهم أنها صدرت عن اجتهاد؛ فمثلاً نجدهم يؤولون قوله تعالى في [الفجر:22] وجاء أمر ربك؛ لماذا؟! فالله يقول: جاء ربك، وهم يقولون: جاء أمره؛ فهذا خطأ، فإنه لا بدَّ علينا أن نؤمن بأن الله يجيء كيف شاء، لكن نلتمس لهم العذر،ولا نجعل من هذا الخطأ -الذي نعلم أنه صادر عن اجتهاد-لا نجعل منه بابًا للسب والقدح فيهم(
[9]).
وكذلك حينما حقق سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -http://www.tafsir.net/vb/images/smilies/rhm.png- الأجزاء الثلاثة الأولى من "فتح الباري"، خطَّأَ الشارح الحافظ ابن حجر العسقلاني في مواضع من العقيدة، ولم يحكم عليه بالضلال ولا بالابتداع(1).وهذا الذي سار عليه هذان العالمان الجليلان هو المنهج الصحيح في الحكم على المخالفين.


ومن ذلك ما جاء في فتوى صادرة من اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية،
وقد جاء فيها "موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم؛ ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها.. أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فhttp://www.tafsir.net/vb/images/smilies/rahmahm.png رحمة واسعة، وجزاهم عنا خيـر الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة http://www.tafsir.net/vb/images/smilies/anhm.png وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي http://www.tafsir.net/vb/images/smilies/slah.png بالخير، وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات، وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة http://www.tafsir.net/vb/images/smilies/rahmahm.png، سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك"([10]).
فهذه الاقتباسات من كلام هؤلاء الأعلام السابقين والمعاصرين يستأنس بها في بيان شرعية الاجتهاد في أمور العقيدة كغيرها من أمور الدين؛ لأن الحكم بالخطأ على المخالف وعدم الحكم عليه بالضلال والابتداع بيان لشرعية الاجتهاد في هذه القضايا الخلافية.


والذين يقولون بعدم شرعية الاجتهاد في مسائل العقيدة يقال لهم: إنكم قد اجتهدتم في تفسير نصوص العقيدة؛ حيث إنكم لم تعتمدوا في تفسير كثير منها على نص من رسول الله http://www.tafsir.net/vb/images/smilies/slah.png، وإنما بينتم معانيها بناء علـى دلالات اللغة العربية، سواء حملها هؤلاء المفسرون على ظاهرها، أم أولوها بمعانٍ أخرى، وقد اتفق أهل السنة بمختلف طوائفهم على تفسير نصوص معية الله تعالى بالعلم وبالنصر والتأييد.


بل إن هناك نوعًا من التناقض بين بيان معاني نصوص الأسماء والصفات والقول بعدم شرعية الاجتهاد في ذلك؛ لأن بيان معناها يعني أنها من المحكم، أما عدم شرعية الاجتهاد فيها فهو يعني أنها من المتشابه، والقائلون بمنع الاجتهاد فيها يرون أنها من المحكم وليست من المتشابه.


إنه ينبغي أن تُعرض موضوعات العقيدة بالأسلوب الذي تعرض فيه أبواب الأحكام، وذلك بجمع أطراف الموضوع والنظر فيما عند المخالفين من الأدلة والاجتهادات، ثم ترجيح القول الراجح بالبراهين المقنعة بهدوء وروية، ومن غير هجوم على المخالفين ولا اتهام لهم في معتقداتهم؛ وذلك لأن عرض الموضوعات بشيء من العنف والاعتزاز بالرأي والتهوين مما عند الآخرين يورث في الطلاب الناشئين نوعًا من الشدة في التمسك بالمذهب العقدي الذي نشؤوا عليه؛ لشعورهم المهيمن بأنه الحق الذي لا يقبل النظر، وأن الذي مع الآخرين هو الباطل الذي لا يقبل النظر!الحق ليس بالكثرة ولا بالقلة


وبعض أهل العلم ينظرون إلى الحق من منظار القلة أو الكثرة، فمنهم من يرى أن الحق مع القلة، ويستدلون على ذلك بحديث الفِرَق([11])، ويقولون: إننسبة أهل الحق إلى أهل الباطل كنسبة واحد إلى ثلاثة وسبعين، وهذا لا دليل فيه على أن أهل الحق عددهم قليل؛ لأنه ليس في الحديث ما يفيد تساوي عدد أهل هذه الفرق، بل إن في إحدى روايات هذا الحديث: فقلنا: انعتهم لنا، فقال: "السواد الأعظم"، ذكره الحافظ الهيثمي من رواية الحافظ الطبراني، وقال: رجاله ثقات، وهذا يفيد بأن أصحاب الفرق الضالة يشذون عن أهل الحق الذين هم جمهور المسلمين.
وكذلك يستدلون بحديث الطائفة المنصورة([12])، وليس فيه دليل على ما ذهبوا إليه؛ لأن الصفات البارزة التي تميز الطائفة المنصورة هي الصفات الجهادية كما سيأتي في الكلام على هذه الطائفة، فالمعالم المميزة لها صفات عملية، وليست مجرد صفات علمية، والموضوع الذي نحن بصدده يرتكز على الجانب العلمي.
وربما استدلوا بقول الله تعالى: " و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك ......[الأنعام:116]، وهذا الاستدلال بعيد
عن الصواب؛ لأن هذه الآية نزلت في الكفار، وهم أكثر أهل الأرض في وقت بعثة النبي http://www.tafsir.net/vb/images/smilies/slah.png، ولا تنطبق هذه الآية على العلماء المجتهدين من المسلمين.


وبعض أهل العلم يرون أن الحق مع الكثرة؛ لأنهم هم الجمهور، وقد اعتبر العلماء قول الجمهور في الترجيح.


والصواب -والله أعلم- أن ينظر إلى الحق من خلال الأدلة الشرعية، وأن ينظر في تفسيرها دلالات اللغة العربية، مع مراعاة حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص والمجمل على المبين، وحمل الكلام على الحقيقة إلا إذا دلت القرائن على لزوم حمله على المجاز.. ونحو ذلك.



لمحة تاريخية عن الموضوع :
....
.........

خلوصي
09-03-2011, 08:23 AM
..


لمحة تاريخية عن الموضوع


لقد دخل أهل السنة والجماعة في صراع جدلي عنيف في القرنين الثاني والثالث مع المخالفين الذين شذوا عن منهج الحق، وخاصة مع الجهمية والمعتزلة، وبلغ الصراع ذروته حينما تمكن المعتزلة من قلب أمير المؤمنين المأمون؛ فأقنعوه بأفكارهم الشاذة التي من أهمها القول بخلق القرآن الكريم! وتحوَّل الصراع الجدلي إلى فتنة مرَّ بها علماء السنة كما هو معروف، وذلك فيما بين عامي ثمانية عشر ومائتين وأربعة وثلاثين ومائتين، وكان ذلك التمكين سببًا في انتشار مذهب المعتزلة، إلى أن خُضدت شوكتهم في عهد أمير المؤمنين المتوكل الذي كان مقتنعًا بمنهج أهل السنة، فصار الصراع بينهم وبين أهل السنة فكريًّا خاليًا من الضغوط السلطانية، فألَّف عدد من علماء السنة كتبًا في الرد على الجهمية والمعتزلة، ومن هؤلاء العلماء أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
وقد اشتهر أهل السنة آنذاك بالانتساب إلى الحديث النبوي، فكانوا يسمَّون "أهل الحديث"، ولما برز الإمام أحمد بن حنبل في الدفاع عن السنة نُسب أهل السنة إليه فكانوا يسمَّون "الحنابلة".
وقد ظلت المعارك الجدلية قائمة بين علماء السنة ومخالفيهم من المعتزلة والجهمية، إلى أن برز في الميدان أحد أقطاب المعتزلة؛ وهو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، حيث رفض مذهب المعتزلة، وأعلن على المنبر توبته، وذلك في عام ثلاثمائة، وقام بمناظرة علماء الاعتزال حتى أفحمهم وحصرهم، وقد ساعده على ذلك حدة ذكائه وقوة فهمه، ومعرفته الدقيقة بمذهب المعتزلة؛ حيث بقي معهم أربعين سنة، وقد بدأ آنذاك نجمهم بالأفول وتقوقعوا في دوائر ضيقة.
وفي ذلك يقول الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم( )!
وقد أعلن أبو الحسن الأشعري عند رجوعه إلى مذهب أهل السنة أنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي ذلك يقول: "قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها؛ التمسك بكتاب ربنا  وسنة نبينا http://tafsir.net/vb/images/smilies/slah.png، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم مفخم"( ).
وقد كان من أسباب شهرته وانتشار مذهبه أنه حاول التوفيق بين الاتجاهات العقدية السائدة في عصره، حيث اعتمد في مذهبه على الكتاب والسنة، ثم أثبت بعض الصفات على ظاهرها، وأوَّل بعضها الآخر، فكان دفاعه عن الكتاب والسنة وردُّه القوي على المعتزلة والجهمية قد جعل له حظوة كبيرة عند أهل الحديث، وتأويله لبعض الصفات قد جذب إليه قطاعًا من العلماء لا يرون الأخذ بالظاهر في بعض نصوص الصفات.
وقد سُمِّي أتباع هذا المذهب "الأشاعرة"، وظل الوئام بين أهل الحديث وبين الأشاعرة، وأصبحوا جميعًا ضد المعتزلة ونحوهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: "والأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية، كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم، وإنما وقعت الفُرقة بسبب فتنة القشيري"( ).
ويذكر ابن تيمية عن أبي القاسم بن عساكر أنه قال: "ما زالت الحنابلة الأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين،
حتى حدثت فتنة ابن القشيري"( ).
ويقول أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في هذا المعنى: "ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على مَرِّ الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع؛ لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات، فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري"( ).
ويلخص الحافظ ابن رجب هذه الفتنة بعد أن ذكر ما قام به الحنابلة من إنكار المنكرات عام أربعة وستين وأربعمائة؛ بقوله: ومضمون ذلك أن أبا نصر القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به! فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة، وقُتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأُخِذت ثياب!!
وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا منصور؛ يعنون العبيدي صاحب مصر، وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي، وأنه ممالئ للحنابلة، لا سيَّما والشريف أبو جعفر ابن عمه... إلخ( ).
ولأبي الحسن الأشعري كتب صرح فيها بإثبات الصفات وعدم التأويل؛ مثل كتاب "الإبانة عن أصول الديانة"، ولكن منهجه الذي اشتهر عنه والذي عليه من انتسب إليه؛ هو إثبات بعض الصفات وتأويل بعضها.
وهذا الأمر لا يهمنا في هذه الرسالة؛ لأنه ليس الغرض هو التحقيق في مذهب أبي الحسن الأشعري، وإنما المقصود هو المذهب المشهور الذي يُنسب إليه ويأخذ به طوائف من العلماء، ولا يزال يتبعه عدد كبير من العلماء وعامة المسلمين.
وفي الوقت الذي ظهر فيه أبو الحسن الأشعري في العراق تقريبًا ظهر أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي في بلاد ما وراء النهر، وقد التقَتْ أفكارهما على اعتماد الكتاب والسنة في الاستدلال، مع إثبات الأسماء وبعض الصفات، وتأويل بعض الصفات، على خلافٍ بينهما في ذلك، والرد على المعتزلة والجهمية في هذا الباب.
ونستفيد من هذا البيان أن أهل السنة كانوا في القرون الثلاثة الأولى لا يتعرضون لتأويل شيء من نصوص الأسماء والصفات على خلاف ظاهره، إلا بشكل نادر؛ كألفاظ المعية، ثم حدث الصراع الفكري بينهم وبين المعتزلة الذين نفوا جميع الصفات.
وقد كانت ردود أهل السنة تعتمد في ذلك العهد على الاستدلال بالكتاب والسنة، واستبعاد التوغل في المباحث العقلية.


وبعد ظهور أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي في بداية القرن الرابع صار أهل السنة على اتجاهين:
الأول: التمسك بظاهر النصوص الشرعية؛ وذلك في إثبات معاني الصفات مع تنـزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد سُمِّي هؤلاء أهل الحديث ثم غلب عليهم التسمية بالحنابلة.
والثاني: التمسك بظاهر النصوص في بعض الصفات، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وتأويل بعضها الآخر؛ لأنه في نظرهم يوهم التشبيه، وقد اشتهر بهذا المذهب الأشاعرة والماتريدية.
وكان هؤلاء مقبولين عند أهل الحديث من بداية القرن الرابع إلى ما بعد منتصف القرن الخامس؛ لدفاعهم عن السنة ووقوفهم القوي ضد الجهمية والمعتزلة، ولم يتجاوز الخلاف بينهم حدود الحوار العلمي، مع التورع عن الاتهام في العقيدة والحكم بالضلال أو البدعة، وإنما كانوا يعتمدون على مبدأ الحكم بالخطأ على المخالف إذا كان من أهل الاجتهاد، إلى أن ظهر ابن القشيري الذي سبق ذكره، وكان متعصبًا لمذهبه إلى حد الغلو والتشدد، فحوَّل الخلاف الدائر بين طائفتي أهل السنة إلى شقاق ونزاع، ومن ذلك الوقت كان الصراع العنيف يظهر على فترات من التاريخ، وأصبح الحكم على المخالفين يتسم بالاتهام بالضلال والبدعة وبالكفر أحيانًا! كما سيتبين من عرض نماذج من ذلك.
وفي العصر الحديث بلغ الصراع العقدي أشده بين بعض علماء الطرفين، وتبادل بعضهم الاتهامات بالضلال والبدعة، خصوصًا من طلاب العلم.
والمنهج الحق أن تتسع صدور الفريقين للنقد الهادف، وأن يكون هناك حوارات علمية تقوم على اعتبار قواعد الأخوة الإسلامية والأدب العلمي، مع استبعاد قضية البراءة من المخالفين ووصفهم بالابتداع والضلال، فضلاً عن الفسق والكفر.
إن هذا الصراع الفكري بين علماء المسلمين قد شغلهم عن ميادين المعركة الحقيقية مع المخالفين من الأعداء أو المنتسبين للإسلام، وإن من أهم علامات نجاح الداعية أن يدرس واقع الجاهلية المعاصرة له بتمعن وتعمق، مع فهم واقع المسلمين الفكري والسلوكي، ثم يركز دعوته على محاربة المخالفات السائدة في عصره، فهذا يجاهد في ميدانه الحقيقي الحيوي.
هذا؛ وإن من أبرز الأمثلة على النجاح في هذا المجال دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية http://tafsir.net/vb/images/smilies/rhm.png، فإنه قد نجح نجاحًا باهرًا، حيث قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، فقام بالرد على المخالفين بعلم راسخ وهدوء وروية أحيانًا، وبعنف أحيانًا أخرى حينما يقتضي المقام ذلك، فاستطاع أن يشد طلاب العلم إلى الكتاب والسنة، وأن يقلص من الآثار الفكرية البعيدة عن هذا المنهج،
ولكن ليس من الحكمة ولا من فقه الدعوة أن نعيد المعارك العلمية التي خاضها ابن تيمية في هذا العصر؛ لأن لكل عصر مخالفات متميزة وصورًا للجاهلية تختص بكل عصر.
كذلك فإن من أبرز أمثلة هذا النجاح دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب فإنه قد نجح في دعوته نجاحًا كبيرًا، فهو قد قرأ كتب ابن تيمية واستفاد منها، ولكنه لم يسر على منهاجه في الدعوة، وإنما قام بتشخيص المخالفات المعاصرة له، ثم قام بتركيز دعوته على تصحيح المفاهيم الإسلامية حول تلك المظاهر، فنجده مثلاً في كتابه المتميز الذي يعتبر أهم كتبه؛ وهو كتاب "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد".. يركز في جُلِّ أبوابه على تصحيح المفاهيم حول توحيد الألوهية، وذلك بعد دراسة المخالفات في ذلك في عصره وعلاجها على ضوء الكتاب والسنة، بينما لم يعقد للحكم بما أنزل الله تعالى إلا بابًا واحدًا؛ وذلك لأن المحيط الذي يعيش فيه لا يحتاج إلى ذلك، حيث إن الأحكام تقوم على المحاكم الشرعية، كما أننا نجده لم يعقد للأسماء والصفات إلا بابًا واحدًا؛ لأن المخالفات السائدة في محيطه ليست في هذا المجال، فكان ذلك من أسباب نجاحه في تصحيح المفاهيم السائدة في مجتمعه وإقامة دولة إسلامية كبيرة.
ولو أنه طبق منهج ابن تيمية بالكامل؛ فشغل نفسه بالردود على المخالفين من أصحاب المناهج العقلية والباطنية وغلاة الصوفية ونحوهم.. لوافاه الأجل ولم يصنع شيئًا سوى إضافة كتب حول هذه الموضوعات إلى المكتبة الإسلامية!!
وقد تغيرت الأوضاع في عصرنا الحاضر، فظهرت صور للجاهلية لم توجد من قبل؛ كالمذاهب الفكرية المنبثقة من الشيوعية والحضارة الغربية، وتضخم وجود بعض الصور التي كانت ضئيلة في الماضي؛ كالحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وتوجيه السياسة على غير منهج الإسلام، وحصر مفاهيم الإسلام في نطاق ضيق، وتضاءلت في بعض البلاد صور كانت كبيرة في العصور الماضية؛ كعبادة الأموات والأشجار والأحجار.
فليس المطلوب من الدعاة أن يركزوا على دراسة صور من الجاهليات القديمة، ولا أن يعيدوا دراسة المباحث الكلامية في مجالات النقد والردود على المخالفين بالمنهج نفسه الذي سار عليه المصلحون السابقون، وإنما لكل عصر دولة ورجال، والبراعة كل البراعة في دراسة الأوضاع المعاصرة دراسة دقيقة عميقة، ثم تسليط الأضواء عليها من خلال الكتاب والسنة، مع الاستفادة من اجتهادات أعلام الدعوة السابقين في دراستهم أوضاع مجتمعاتهم، والقيام بالدعوة في تصحيح المفاهيم الخاطئة وتوجيه الأمة على هدى الإسلام الحنيف.
ولقد كان للسلف من علماء الأمة الربانيين اهتمام كبير بهذا الجانب، ومن هؤلاء العلماء الإمام سفيان بن سعيد الثوري http://tafsir.net/vb/images/smilies/rhm.png، ومن الوصايا الحكيمة والتوجيهات السديدة التي جاءت عنه في ذلك؛ ما رواه عطاء بن مسلم قال: قال لي الثوري: إذا كنت بالشام فاذكر مناقب علي، وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر( )!
فهذا التوجيه يُعدُّ مثالاً للحكمة في الدعوة؛ حيث يكون وراء
إيراد النصوص غرض تربوي، يُقصَد منه التخفيف من مغالاة المتجهين نحوالغلو في قضية معينة، فأهل الشام لما كان بعضهم يتجاهلون مناقب علي بنأبي طالب أو يستخْفُون بذكرها؛ كان من الحكمة الجهر ببيانها، ولما كان بعض أهل الكوفة يتَّجهون نحو الغلو في علي بن أبي طالب وبنيه، ويغضُّون الطرف عن بيان فضائل أبي بكر وعمر؛ كان من الحكمة بيان فضائلهما، وكذلك فضائل عثمان رضي الله عن الجميع؛ وذلك ليحصل الاتزان عند جميع تلك الطوائف.
وهذا يُعدُّ نموذجًا من نماذج الدعوة الناجحة؛ حيث إنَّ مِنْ أهم عوامل نجاح الدعوة أن يتصدَّى الداعية لبيان الأمور التي تجاهلها الناس، أو وقعوا فيها بما يخالف الإسلام، فيكون بذلك قد شخَّص أدواء الأمة وأرشد إلى دواء تلك الأدواء، أما أن يأتي إلى الأمور التي قد طبقها الناس وأَلِفُوها فيتحدث عنها فإنـه لن يأتي بجديد، ولن يكون له عمل فعال في الإصلاح والتجديد، وإنما قد يؤكد أمورًا قد عرفها الناس وألفوها.