عبد الله المقصر
11-08-2008, 01:47 PM
في قراءاتي لموضوعات المنتدى لاحظت أن الكثير من الزملاء اللادينيين يستندون على ظن ساذج .. وهو أنهم هم العقلاء أصحاب الوعي والمنطق ، الذين يشغلون عقولهم ، ولا يؤسسون شيئا إلا على دليل وبرهان، أما نحن المسلمون فمجرد مجموعة من الاغبياء الذين أعطوا عقولهم استقالة ، هذا إذا تفضل زملاؤنا الملحدون وظنوا بأن لدينا عقلا أصلا .
وأريد فيما يلي من سطور إيضاح فكرتي حول العقل وحدوده ، ليس رغبة في دخول سجال ، إنما لمجرد البيان:
إن ملكات الكائن الإنساني كلها محدودة تماما ككيانه في جملته؛ غير أن في قرارة كيانه النفسي تستقر فكرة غريبة عن محدوديته، حيث تجاوز إمكاناته، وهي فكرة الكمال المطلق. وهي الفكرة المثالية التي تقوده نحو الدنو ارتقاء واقترابا من الله.
وبالنظر إلى محدودية ملكات الكيان البشري، سيكون من تكرار الحقائق المألوفة المشهودة أن نقول إن ملكة السمع والإبصار لا تطال كل الأصوات، ولا تبصر كل الموضوعات، بل يند عنها أكثر مما يتناوله السمع أو يحيط به النظر... وكذلك الشأن بالنسبة لباقي ملكات الحس.
لكن إذا كانت محدودية الحس وقصر إمكانياته أمرا لا يناقش فيه اختلافا، بل لا يجادل فيه حتى مماحكة وعنادا، فإن الوعي البشري قلما ينتبه إلى محدودية إمكانية أداته العاقلة. لذا تجد النظر الفلسفي قد انطلق منذ تأسيسه واثقا من قدرة اللوغوس (بمدلوله كجوهر مفكر) على عقلنة الوجود وتفسيره، والبت فيما وراءه من غيوب. ولم يتم التواضع والاعتراف بمحدودية الإمكان العقلي إلا بعد قرون من ممارسة التفكير الميتافيزيقي القائم على إطلاق العقل إلى الماوراء.
وهنا يصح القول إن حقل الفكر الديني بمجاله الميتافزيقي هو الذي أظهر محدودية فعل التعقل.
وبالنظر إلى تاريخنا الفكري نلقى توجيها نبويا لملكة التفكير العقلي، وتحديدا لمجال اشتغالها (في حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله؛ وفي حديث محمد بن عبيد عن الأعمش عن عمرو بن مرة قال مر النبي (ص) على قوم يتفكرون فقال تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق)؛ وفي حديث بن عباس: إن قوما تفكروا في الله عز وجل فقال النبي (ص) "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره").
لكن هنا يجوز الاستفهام: لماذا هذا التوجيه النبوي للحد من إطلاق التفكير في مبحث الماوراء الديني؟ هل هو قيد لحرية التفكير؟ ومنع لطلاقة النظر وفعل السؤال؟ أم أنه حفظ لطاقة العقل من أن تستهلك في غير مجال إمكان إثمارها الفعلي؟
إن الدلالة الإيمانية لمحدودية العقل هو احتياج هذا العقل. وهو الاحتياج الذي يؤكد ضرورة وحي السماء الذي هو وحده القادر على أن يمنح الكائن البشري إجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي يرتهن بجوابها استقرار القلب واطمئنان النفس. ومن هنا أرى أن الحديث النبوي لم يكن قيدا للتفكير بل توجيها له. إنه نوع من الترشيد المنهجي للنظر الميتافزيقي الذي سنجد الفلسفة بعد تحولها إلى النقد الابستمولوجي تحدد مقولاته وتعين مجالاته.
أجل ليس من وظيفة النبي الإيغال في بيان مقولات التفكير وتعيين تضاريس جغرافية العقل، بل وظيفته هو التأهيل القيمي للكائن الانساني بإعطائه معنى وجوده ووجود الكون من حوله، وتسطير قواعد قيم العيش.
وإذا كان نقد أداة التفكير العقلي منبثة خلال تاريخ الفكر الديني والفلسفي، فإن البدء في تحليلها ابستمولوجيا، والبرهنة على محدودية مقولاتها ومبادئها لم يبدأ فعليا إلا مع مشروع نقد العقل عند كانط. وبصرف النظر عن موقفنا من التحليل المعرفي الكانطي، الذي ليس هذا مقام التفصيل فيه، نقول إن نقده لملكة العقل النظري قد أسهم في التسييج الابستملوجي لفعل التفكير، بدل إطلاقه من قبل؛ كما أن تمييز كانط بين الشيء في ذاته (النومين) والظاهر (الفينومين) سيؤسس للشكية المطلقة في إمكان بلوغ الحقيقة، على نحو لم يرده هو نفسه. لذا نلاحظ أن الدرس الفلسفي الكانطي ستستثمره من بعده مختلف الفلسفات، سواء في المجال الثقافي الفرنسي مع أوجست كونت وباقي فلاسفة النزوع الوضعي العلموي، أو في الفلسفة الألمانية النمساوية مع كارناب ورايشنباخ، أو في المجال الفلسفي الأنجلوساكسوني مع اللاأدري برتراند راسل... هذا فضلا عن التيار النيو- كانطي الذي سيشيع بفضل أعمال إرنست كاسيرر وبول ناتورب، وهرمان كوهن...
لكن هل منع هذا النقد الابستملوجي النزوعَ الفكري نحو الماوراء؟ هل استطاعت الفلسفة الوضعية بتسفيهها لمبحث الميتافيزيقا أن تحد من تعلق الإنسان بأسئلة الوجود الكبرى؟ هل استطاع العقل الفلسفي المادي بنزوعه الإلحادي أن يطفئ جوعة الإيمان في النفس البشرية؟
إن الذي ينبغي أن يعيه أتباع الالحاد واللادينية هو أن البديل الذي قدمته الفلسفة العلموية هو الإيقاع بالوعي في عدمية المعنى، بسبب من عملها على تقويض الأساس الديني القادر وحده على إعطاء دلالة الوجود.
وأريد فيما يلي من سطور إيضاح فكرتي حول العقل وحدوده ، ليس رغبة في دخول سجال ، إنما لمجرد البيان:
إن ملكات الكائن الإنساني كلها محدودة تماما ككيانه في جملته؛ غير أن في قرارة كيانه النفسي تستقر فكرة غريبة عن محدوديته، حيث تجاوز إمكاناته، وهي فكرة الكمال المطلق. وهي الفكرة المثالية التي تقوده نحو الدنو ارتقاء واقترابا من الله.
وبالنظر إلى محدودية ملكات الكيان البشري، سيكون من تكرار الحقائق المألوفة المشهودة أن نقول إن ملكة السمع والإبصار لا تطال كل الأصوات، ولا تبصر كل الموضوعات، بل يند عنها أكثر مما يتناوله السمع أو يحيط به النظر... وكذلك الشأن بالنسبة لباقي ملكات الحس.
لكن إذا كانت محدودية الحس وقصر إمكانياته أمرا لا يناقش فيه اختلافا، بل لا يجادل فيه حتى مماحكة وعنادا، فإن الوعي البشري قلما ينتبه إلى محدودية إمكانية أداته العاقلة. لذا تجد النظر الفلسفي قد انطلق منذ تأسيسه واثقا من قدرة اللوغوس (بمدلوله كجوهر مفكر) على عقلنة الوجود وتفسيره، والبت فيما وراءه من غيوب. ولم يتم التواضع والاعتراف بمحدودية الإمكان العقلي إلا بعد قرون من ممارسة التفكير الميتافيزيقي القائم على إطلاق العقل إلى الماوراء.
وهنا يصح القول إن حقل الفكر الديني بمجاله الميتافزيقي هو الذي أظهر محدودية فعل التعقل.
وبالنظر إلى تاريخنا الفكري نلقى توجيها نبويا لملكة التفكير العقلي، وتحديدا لمجال اشتغالها (في حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله؛ وفي حديث محمد بن عبيد عن الأعمش عن عمرو بن مرة قال مر النبي (ص) على قوم يتفكرون فقال تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق)؛ وفي حديث بن عباس: إن قوما تفكروا في الله عز وجل فقال النبي (ص) "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره").
لكن هنا يجوز الاستفهام: لماذا هذا التوجيه النبوي للحد من إطلاق التفكير في مبحث الماوراء الديني؟ هل هو قيد لحرية التفكير؟ ومنع لطلاقة النظر وفعل السؤال؟ أم أنه حفظ لطاقة العقل من أن تستهلك في غير مجال إمكان إثمارها الفعلي؟
إن الدلالة الإيمانية لمحدودية العقل هو احتياج هذا العقل. وهو الاحتياج الذي يؤكد ضرورة وحي السماء الذي هو وحده القادر على أن يمنح الكائن البشري إجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي يرتهن بجوابها استقرار القلب واطمئنان النفس. ومن هنا أرى أن الحديث النبوي لم يكن قيدا للتفكير بل توجيها له. إنه نوع من الترشيد المنهجي للنظر الميتافزيقي الذي سنجد الفلسفة بعد تحولها إلى النقد الابستمولوجي تحدد مقولاته وتعين مجالاته.
أجل ليس من وظيفة النبي الإيغال في بيان مقولات التفكير وتعيين تضاريس جغرافية العقل، بل وظيفته هو التأهيل القيمي للكائن الانساني بإعطائه معنى وجوده ووجود الكون من حوله، وتسطير قواعد قيم العيش.
وإذا كان نقد أداة التفكير العقلي منبثة خلال تاريخ الفكر الديني والفلسفي، فإن البدء في تحليلها ابستمولوجيا، والبرهنة على محدودية مقولاتها ومبادئها لم يبدأ فعليا إلا مع مشروع نقد العقل عند كانط. وبصرف النظر عن موقفنا من التحليل المعرفي الكانطي، الذي ليس هذا مقام التفصيل فيه، نقول إن نقده لملكة العقل النظري قد أسهم في التسييج الابستملوجي لفعل التفكير، بدل إطلاقه من قبل؛ كما أن تمييز كانط بين الشيء في ذاته (النومين) والظاهر (الفينومين) سيؤسس للشكية المطلقة في إمكان بلوغ الحقيقة، على نحو لم يرده هو نفسه. لذا نلاحظ أن الدرس الفلسفي الكانطي ستستثمره من بعده مختلف الفلسفات، سواء في المجال الثقافي الفرنسي مع أوجست كونت وباقي فلاسفة النزوع الوضعي العلموي، أو في الفلسفة الألمانية النمساوية مع كارناب ورايشنباخ، أو في المجال الفلسفي الأنجلوساكسوني مع اللاأدري برتراند راسل... هذا فضلا عن التيار النيو- كانطي الذي سيشيع بفضل أعمال إرنست كاسيرر وبول ناتورب، وهرمان كوهن...
لكن هل منع هذا النقد الابستملوجي النزوعَ الفكري نحو الماوراء؟ هل استطاعت الفلسفة الوضعية بتسفيهها لمبحث الميتافيزيقا أن تحد من تعلق الإنسان بأسئلة الوجود الكبرى؟ هل استطاع العقل الفلسفي المادي بنزوعه الإلحادي أن يطفئ جوعة الإيمان في النفس البشرية؟
إن الذي ينبغي أن يعيه أتباع الالحاد واللادينية هو أن البديل الذي قدمته الفلسفة العلموية هو الإيقاع بالوعي في عدمية المعنى، بسبب من عملها على تقويض الأساس الديني القادر وحده على إعطاء دلالة الوجود.