المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الوجود والصدفة



عبد الله المقصر
11-11-2008, 07:50 PM
لقد فتحت الفيزياء الكوانطية بكشفها عن المجال ما تحت الذري أمام الوعي العلمي والفلسفي أسئلة جديدة تتمحور حول طبيعة الوجود: هل هو فعلا وجود منظم؟ أم أن الصدفة جزء أساس من تكوينه ؟ وإذا قلنا بوجود الصدفة فهل يعني هذا انتفاء السببية الناظمة له، وبالتالي انتفاء وجود إرادة عاقلة (الإلوهية بالمفهوم الديني) هي التي قامت بتنظيمه؟
قبل النظر في نوعية الجواب الفيزيائي المتداول اليوم حول مسألة الصدفة أريد أن أطرح سؤالا أوليا أراه مدخلا لإعادة النظر والتفكير في طبيعة أبحاث فيزياء الكوانطا وهو :
هل فعلا يكشف العالم ما تحت الذري عن وجود فوضى؟ أم أن هذه الفوضى مجرد نتاج ضعف أدواتنا ووسائلنا العلمية في القياس ؟
إن المجال الموضوعاتي للفيزياء الذرية قلب الكثير من المسلمات والمفهومات والمناهج. بل حتى داخل المنطق، نادى المناطقة بوجوب استبدال المنطق الصوري الأرسطي ؛ لأنه قائم على رؤية قيمية ثنائية(يختصرها مبدأ الثالث المرفوع)، وهو بذلك عاجز عن احتواء هذه الظاهرة الوجودية الجديدة والمدهشة .
وأمام هذه الظاهرة الخارقة لمألوف التفكير العلمي الكلاسيكي ونسق مقاربته للوجود لم يكن أمام العقلانية إلا أن تقف موقفا من ثلاثة مواقف ممكنة، كما يقول روجر موشيلي:
إما أن تعد الصدفة الملحوظة في بعض ظواهر الطبيعة نتاج جهلنا بقوانين تلك الظواهر وأسبابها. وهذا بالفعل ما يعبر عنه بوانكاري بقوله :" إن الصدفة هي فقط مقياس جهلنا".
والفرض الثاني هو أن الصدفة نتاج تقاطع سلسلتين أو أكثر من الأسباب المستقلة وهذا هو التعريف الشهير الذي وضعه كورنو. والفرض الثالث حسب روجر موشيلي يمكن أخذه من تعريف برجسون لمدلول الصدفة ، وهو التعريف الذي مهد لإيضاحه بمثاله التالي : "قطعت ريح شديدة سقفا من القرميد فسقط فوق رجل كان مارا في الطريق فمات." في العادة نقول عن الحادث إنه وقع صدفة. لكن لو أن الريح قطعت ذات السقف وسقط على الأرض دون أن يحدث قتلا، فإننا نسميه حدثا عاديا ناتجا عن قوانين الطبيعة.
ويخلص برجسون من هذا المثال إلى تنبيهنا إلى أمر هام وهو أننا لا نصدر وصف الصدفة إلا عندما يكون ثمة تعلق بمصلحة بشرية . وبالتالي فالصدفة نوع من التأويل البشري يتم خلعه على الظواهر الحتمية.


وبالنظر إلى الأبحاث الدارسة لإشكالية فيزياء الكوانطا نرى أن بعض التأويلات المتفلسفة التي أطلقها الفيزيائيون تنزع نحو القول بأن الصدفة هي وجودية وليست معرفية. بمعنى أن الوجود ما تحت الذري وجود خارق للانتظام السببي ! وعدم كشف أسباب وأشكال انتظامه ليس نتاج ضعف وسائلنا في المعرفة، بل نتاج طبيعة الوجود ما تحت الذري ذاته.
لكن هل ثمة حقا إمكانية علمية للجزم بهذا التصور ؟
هل يملك الفيزيائي المشتغل في حقل الذرة أدوات منهجية تسمح له بالقطع اليقيني الجازم في شأن هذا المجال الوجودي الدقيق الذي يشتغل فيه؟
أميل إلى الاعتقاد بأن هذا التصور الذي يرجع الصدفة إلى الوجود يفتقر إلى الاستدلال الجازم، فهو مجرد افتراض. وهنا أستحضر جاك هارتونك أحد كبار المتخصصين في حساب الاحتمال ، حيث يميز بين ما يسميه بالصدفة الموضوعية الهشة، والصدفة الموضوعية الصلبة؛ فالأولى تتحصل بسبب ضعف أدوات المعرفة، أما الثانية فهي صدفة أنطلوجية حاصلة بسبب طبيعة الوجود ذاته الذي تنتفي منه السببية. وفي سياق بحثه في هذين النوعين من المداخل المنهجية الدارسة لإشكالية الصدفة في الوجود الطبيعي، ينتهي إلى أن الأمر غير قابل قطعا للبت والتوكيد. فلا يستطيع العلم أن يجزم بأن الصدفة ما هي إلا نتاج ضعف أدوات المعرفة، كما لا يستطيع الجزم بأنها راجعة إلى طبيعة الوجود ذاته؛ بل كل ما هو ممكن هو اعتبار أحد الفرضين كمُسَلَّمة عقلية غير قابلة للبرهنة.
أرى في قول هارتونك توكيدا لنسبية القدرة المعرفية البشرية، ووقوفا عند محدودية إدراكها للوجود. وفي قوله مقدار كبير من لمسة العلم وحكمة العلماء ، ولو أن هؤلاء المتنطعين المتملحدين كان لهم بعض من هذه الحكمة لما استسهلوا هذا التوظيف الإيديولوجي للعلم ومعطياته .
لكن في المقابل إن كثيرا من دعاتنا يقعون في ذات المزلق فتراهم باسم الإعجاز العلمي يقتطعون بضع معلومات معرفية أذاعتها العلوم، فيسارعون إلى أن يؤسسوا عليها تطابقات بِلَيِّ أعناق النصوص القرآنية والحديثية ، على نحو لا يسمح به العلم ولا النص الشرعي ذاته.

ينبغي أن نعلم أن سمو وعلو الحقيقة الكلية للوجود يجعل كل مقاربة معرفية لها محكومة بأن تعي إبتداء ان هذه الحقيقة هي أمر إعتقادي لابد فيه من مقدمات توضع موضع التسليم . ونحن في هذا كمسلمين معتقدين بقرآننا لا نستشعر تجاه أكبر عقل علمي لا أدري، ولا أصغر ملحد يشاكس بمقولات العلم دون فهم أصولها، بأي استصغار؛ لأننا ندرك أن كل نسق معرفي - علميا كان أو غير علمي - لابد في قيامه المنطقي من مسلمات ابتدائية . والحقيقة الوجودية الكبرى – حقيقة الإلوهية ومابعد الوجود، والقضاء والقدر ... – هي أفق ديني يجذب التفكير ، ولكن لا يمكن لوعاء العقل أن يشملها ويهيمن عليها بأقيسته واستنباطاته. وكل تنطع لاختزال هذه الحقيقة – على وساعتها وعمقها - بعقلنة تزعم الوثوق والشمول فذاك – في نظرنا - سلوك لامعرفي ؛ لأنه ناتج عن جهل بحقيقة العقل ذاته وإمكاناته الابستيملوجية المحدودة بطبيعتها التكوينية ، وليس فقط بمحمولها المعرفي .

أبو مريم
11-12-2008, 07:48 PM
موضوع قيم ويستحق التثبيت .

ناصر التوحيد
11-12-2008, 10:49 PM
نعم
جزاه الله خيرا ونفع الله به وبكتاباته

عبدو_ازرق
11-12-2008, 11:14 PM
جزاه الله خيرا

masre
11-13-2008, 01:00 AM
بارك الله فية .