المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما الإسلام قواعد العقائد 8 العلم الضروري والنظري البديهية و العقيدة



قتيبة
11-13-2008, 03:18 AM
ما الإسلام؟ / قواعد العقائد الثمانية / العلم الضروري / العلم النظري / البديهية و العقيدة

فما الاسلام؟ وكيف يكون الدخول فيه؟


قلت مرة لتلاميذي: "لو جاءكم رجل أجنبي، فقال لكم: ان لديه ساعة من الزمن، يريد أن يفهم فيها ما الاسلام، فكيف تفهمونه الاسلام في ساعة". قالوا: "هذا مستحيل، ولا بد له أن يدرس الوحيد والتوجيد، والتفسير والحديث والفقه والأصول، ويدخل في مشاكل ومسائل، لا يخرج منها في خمس سنين". قلت: "سبحان الله أما كان الاعرابي يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلبث عنده يوماً أو بعض يوم، فيعرف الاسلام ويحمله إلى قومه، فيكون لهم مرشداً ومعلماً، ويكون للاسلام داعياً ومبلغاً؟ وأبلغ من هذا، أما شرح الرسول الدين كله (في حديث سؤال جبريل) بثلاث جمل، تكلم فيها عن: الايمان والاسلام، والاحسان؟ فلماذا لا نشرحه اليوم في ساعة؟..".



فما الاسلام؟ وكيف يكون الدخول فيه؟

كل نحلة من النحل الصحيحة والباطلة، وكل جمعية من الجمعيات النافعة والضارة، وكل حزب من الاحزاب الخيرة والشريرة، لكل ذلك (مبادئ) وأسس فكرية، ومسائل عقائدية[1]، تحدد غايته وتوجه سيره، وتكون كالدستور لأعضائه وأتباعه.

ومن أراد أن ينتسب إلى واحد منها، نظر أولا إلى هذه (المبادئ)، فان ارتضاها واعتقد صحتها، وقبل بها بفكره الواعي وبعقله الباطن، ولم يبق عنده شك فيها، طلب (الانتساب) إلى الجمعية. فانتظم في سلك أعضائها ومتبعيها، ووجب عليه أن يقوم بالأعمال التي يلزمه بها دستورها، ويدفع رسم الاشتراك الذي يحدده نظامها، وكان عليه (بعد ذلك) أن يدل بسلوكه على اخلاصه لمبادئها، فيتذكر هذه المبادئ دائماً، فلا يأتي من الأعمال ما يخالفها، بل يكون باخلاقه وسلوكه، مثالا حسنا عليها، وداعية فعليا لها.

فالعضوية في الجمعية هي: (علم) بنظامها، و (اعتقاد) بمبادئها، و (اطاعة) لأحكامها، و (سلوك) في الحياة موافق لها. هذا وضع عام، ينطبق على الاسلام. فمن أراد أن يدخل في دين الاسلام عليه (أولا) أن يقبل أسسه العقلية، وأن يصدق بها تصديقا جازما، حتى تكون له (عقيدة). وهذه الأسس تتلخص في أن يعتقد ان هذا العالم المادي ليس كل شيء، وان هذه الحياة الدنيا ليست هي كالحياة كلها. فالانسان كان موجوداً قبل أن يولد، وسيظل موجوداً بعد أن يموت، وانه لم يوجد نفسه، بل وجد قبل أن يعرف نفسه، ولم توجده هذه الجمادات من حوله، لأنه عاقل ولا عقل لها، بل أوجده وأوجد هذه العوالم كلها من العدم إله واحد، هو وحده الذي يحيي ويميت، وهو الذي خلق كل شيء، وان شاء أفناه، وذهب به، وهذا الإله لا يشبه شيئا مما في العوالم، قديم لا أول له، باق لا آخر له، قادر لا حدود لقدرته، عالم لا يخفى شيء عن علمه، عادل ولكن لا تقاس عدالته المطلقة بمقاييس العدالة البشرية، هو الذي وضع نواميس الكون التي نسميها (قوانين الطبيعة)، وجعل كل شيء فيها بمقدار، وحدد من الأزل جزئياته وأنواعه، وما يطرأ عليه (على الاحياء وعلى الجمادات) من حركة وسكون، وثبات وتحول، وفعل وترك. ومنح الانسان عقلا يحكم به على كثير من الأمور، التي جعلها خاضعة لتصرفه. وأعطاه عقلا يختار به ما يريد، وارادة يحقق بها ما يختار. وجعل بعد هذه الحياة المؤقتة حياة دائمة في الآخرة، فيها يكافأ المحسن في الجنة، ويعاقب المسيء في جهنم.

وهذا الإله واحد احد، لا شريك له يعبد معه، ولا وسيط يقرب اليه ويشفع عنده بلا اذنه، فالعبادة له وحده خالصة، بكل مظاهرها.

له مخلوقات مادية ظاهرة لنا، تدرك بالحواس، ومخلوقات مغيبة عنا، بعضها جماد وبعضها حي مكلف، ومن الاحياء ما هو خالص للخير المحض، (وهم الملائكة)، ومنها ما هو مخصوص بالشر المحض (وهم الشياطين)[2]، وما هو مختلط، منه الخير والشرير، والصالح والطالح (وهم الجن). وانه يختار ناساً من البشر، ينزل عليهم الملك بالشرع الالهي ليبلغوه البشر، وهؤلاء هم الرسل.

وان هذه الشرائع تتضمنها كتب وصحائف أنزلت من السماء، ينسخ المتأخر منها ما تقدمه أو يعدله. وان آخر هذه الكتب هو القرآن، وقد حرفت الكتب والصحف قبله، أو ضاعت ونسيت، وبقي هو سالما من التحريف والضياع، وان آخر هؤلاء الرسل والأنبياء هو محمد بن عبد الله العربي القرشي، ختمت به الرسالات، وبدينه الاديان، فلا نبي بعده.

فالقرآن هو دستور الاسلام، فمن صدق بأنه من عند الله، وآمن به جملة وتفصيلا، سمي (مؤمنا). والايمان بهذا المعنى، لا يطلع عليه الا الله، لأن البشر لا يشقون قلوب الناس ولا يعلمون ما فيها، لذلك وجب عليه ليعدّه المسلمون واحداً منهم، ان يعلن هذا الايمان بالنطق بلسانه بالشهادتين.

وهما: "أشهد ان الا إله إلا الله، وأشهد ان محمدا رسول الله".

فاذا نطق بهما صار مسلما، أي: (مواطنا) أصيلا في دولة الاسلام، وتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلم، وقبل بالقيام بجميع الأعمال التي يكلفه بها الاسلام.

وهذه الأعمال (أي العبادات) قليلة، سهلة، ليس فيها مشقة بليغة، وليس فيها حرج.

أولها: أن يركع في الصباح ركعتين يناجي فيهما ربه، يسأله من خيره، ويعوذ به من عقابه، وأن يتوضأ قبلهما أي يغسل أطرافه، أو يغسل جسده كله (ان كانت به جنابة).

وأن يركع وفي وسطه أربعا، ثم رابعا، وأن يركع بعد غياب الشمس ثلاثاً، وفي أول الليل أربعاً[3].

هذه هي الصلوات المفروضة، لا يستغرق اداؤها كلها نصف ساعة في اليوم، لا يشترط لها مكان لا تؤدى إلا فيه، ولا شخص معين (أي رجل دين) لا تصح الا معه، ولا واسطة فيها (ولا في العبادات كلها) بين المسلم وربه.

الثاني: ان في السنة شهرا معينا، يقدم فيه المسلم فطوره، فيجعله في آخر الليل بدلا من أن يكون في أول النهار، ويؤخر غداءه إلى ما بعد غروب الشمس، ويمتنع في النهار عن الطعام والشراب ومعاشرة النساء، فيكون من ذلك شهر صفاء لنفسه، وراحة لمعدته، وتهذيب لخُلقه، وصحة لجسده، ويكون هذا الشهر مظهرا من مظاهر الاجتماع على الخير، والتساوي في العيش.

الثالث: انه اذا فضل عن نفقات نفسه، ونفقات عياله، مقدار من المال محدود، بقي سنة كاملة لا يحتاج اليه، لأنه في غنى عنه، كلف أن يخرج منه بعد انقضاء السنة، مبلغ (2,5) في المئة، للفقراء والمحتاجين، لا يحس هو بثقلها، ويكون منها عون بالغ للمحتاج، وركن وطيد للتضامن الاجتماعي، وشفاء من داء الفقر، الذي هو من شر الادواء.

الرابع: ان الاسلام رتب للمجتمع الاسلامي، اجتماعات دورية. اجتماع بمثابة مجالس الحارات، يعقد خمس مرات في اليوم، مثل حصص المدرسة، هو صلاة الجماعة، يوثق كل عضو في عبوديته لله بالقيام بين يديه، ويكون من ثماره أن يعين الاقوياء الضعيف، ويعلّم العلماء الجاهل، ويسعف الأغنياء الفقير. ومدة انعقاده ربع ساعة، فلا يعطل عاملا عن عمله، ولا تاجراً عن تجارته، واذا تم الاجتماع وتخلف عنه مسلم فصلى في بيته، لم يعاقب على تخلفه ولكن فاته ثواب حضوره.

واجتماع لمجالس الاحياء. يعقد مرة في الاسبوع، هو (صلاة الجمعة)، ومدة انعقاده أقل من ساعة وحضوره واجب على الرجال.

واجتماع كمجالس المدينة، يعقد مرتين في السنة، وهو (صلاة العيد) وحضوره ليس على سبيل الالزام ومدة انعقاده أقل من ساعة، واجتماع، هو كالمؤتمر الشعبي العام، يعقد كل سنة في مكان معين، هو في الحقيقة دروة توجيهية ورياضية وفكرية، يكلف المسلم بأن يحضره مرة واحدة في العمر، اذا قدر على حضوره، وهو (الحج).

هذه هي (العبادات) الأصلية التي يكلف بها.

ومن العبادات أن يمتنع عن أفعال معينة، أفعال يجمع عقلاء الدنيا على أنها شر، وان الواجب الامتناع عنها، كالقتل بلا حقٍ، والتعدي على الناس، والظلم بأنواعه، والمسكر الذي يغيب العقل، والزنا الذي يذهب الاعراض، ويخلط الانساب، والربا والكذب والغش والغدر، والفرار من الخدمة العسكرية التي يراد منها اعلاء كلمة الله، ومنها (بل من أشدها) عقوق الوالدين، والحلف كاذباً، وشهادة الزور.

وأمثال ذلك من الأعمال القبيحة الشريرة، التي تجتمع العقول على ادراك قبحها وشرها. واذا قصر المسلم في القيام ببعض الواجبات، او ارتكب بعض الممنوعات، ثم رجع (وتاب) وطلب العفو من الله، فان الله يعفو عنه، وان لم يتب فإنه يبقى مسلما معدودا في المسلمين، ولكنه يكون (عاصيا) يستحق العقاب في الآخرة، ولكن عقابه مؤقت، لا يدوم دوام عقاب الكافر.

أما إذا أنكر بعض المبادئ، أي العقائد الأصلية، أو شكَّ فيها، أو جحد واجبا مجمعاً على وجوبه، أو حراما مجمعا على حرمته، أو أنكر ولو كلمة واحدة من القرآن، فإنه يخرج من الدين، ويعتبر مرتداً تنزع عنه الجنسية الاسلامية والردة أكبر جريمة في الاسلام، فهي كالخيانة العظمى في القوانين الحديثة، جزاؤها (ان لم يرجع عنها، ويتنصل منها) الموت.

قد يترك المسلم بعض الواجبات، أو يأتي بعض الممنوعات، وهو معترف بالوجوب والحرمة، فيبقى مسلما ولكنه يكون (عاصياً) اما الايمان فلا يتجزأ، فلو آمن مثلا بتسع وتسعين عقيدة، وكفر بواحدة فقط، كان كافراً.

وقد يكون المسلم غير مؤمن، كمن انتسب إلى حزب أو جمعية، وحضر اجتماعاتها، ودفع اشتراكاتها، وقام بواجب العضو فيها، ولكنه لم يقبل بمبادئها، ولم يقتنع بصحتها، بل دخل فيها للتجسس عليها، أو افساد أمرها.

وهذا هو (المنافق) الذي ينطق [4] بالشهادتين، ويؤدي العبادات ظاهرا، ولكنه غير مؤمن بالحقيقة ولا ناج عند الله، وان كان عند الناس معتبرا من المسلمين، لأن الناس لهم الظواهر, والله وحده مطلع على السرائر والقلوب.

فاذا آمن الناس بالأسس الفكرية للاسلام، وهي التصديق المطلق بالله، وتنزيهه عن الشريك والوسيط، وبالملائكة، وبالرسل، وبالكتب، وبالحياة الاخرى، وبالقدر، ونطق بالشهادتين، وصلى الفرائض، وصام رمضان، وأدى زكاة ماله، ان وجبت عليه الزكاة، وحج مرة في العمر ان استطاع، وامتنع عن المحرمات المجمع على حرمتها، فهو مسلم مؤمن، ولكن ثمرة الإيمان لا تظهر منه، ولا يحس بحلاوته، ولا يكون مسلما كاملا، حتى يسلك في حياته مسلك المسلم المؤمن. وقد لخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهاج هذا السلوك، بجلمة واحدة، كلمة من جوامع الكلم، ومن أبلغ ما نطق به بشر.

كلمة تجمع الخير كله، خير الدنيا، وما في عقبه من خير الآخرة. هي: أن يتذكر المسلم في قيامه وقعوده، وخلوته وجلوته، وجده وهزله، وفي حالاته كلها، ان الله مطلع عليه، وناظر اليه، فلا يعصيه وهو يذكر أنه يراه، ولا يخاف أو ييأس وهو يعلم أنه معه، ولا يشعر بالوحشة وهو يناجيه، لا يحس بالحاجة إلى أحد، وهو يطلب منه ويدعوه، فان عصى – ومن طبيعته انه يعصي – رجع وتاب، فتاب الله عليه.

كل ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم، في تعريف (الاحسان): "أن تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فإنه يراك".

هذا هو دين الاسلام بالقول المجمل، وتفصيله يأتي: (العقيدة) في هذا الجزء. و (الاسلام) و (الاحسان) في الأجزاء التالية ان شاء الله.



--------------------------------------------------------------------

[1] تجوز النسبة إلى الجمع اذا جرى مجرى العلم، فتقول: (حقوق دولية)، و (قوانين عمالية)، و (مظاهرات طلابية)، و (مسائل عقائدية). كما قالوا كذلك: (عالم أصولي)، و (رجل أنصاري)، و (مائدة ملوكية)، و (رسائل اخوانية)..

[2] والشياطين من الجن.

[3] وتحديد وقتها وبيان كيفيتها يكون بعد.

[4] النفاق هو اظهار الايمان. وابطان الكفر. وليس منه قوله صلى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث الخ...". فمن أخلف الوعد، وكذب القول، او خان الامانة، لا يعتبر بهذا وحده كافرا، وانما هو نفاق اجتماعي، غير النفاق الأصلي، نفاق العقيدة الذي ذكرناه.

============
تعريفات

العلم الضروري والعلم النظري



لا بد لي في هذا الفصل الذي أعرّف فيه (العقيدة) من أن أعرض إلى توضيح بعض المصطلحات التي يكثر دوراها على ألسنة العلماء، وورودها في كتب العقائد، وهي: (الشك)، و (الظن)، و (العلم)، لأصل منها إلى تعريف (العقيدة).

(ديكارت) في منهجه المشهور، ومن قبله (الغزالي) في (المنقذ من الضلال)، بدأً بالشك ليصلا منه إلى اليقيقن، شك ديكارت، ليتخذ من الشك سبيلا للتحقق، فما هو الشك؟

اذا كنت في مكة مثلا، وسألك سائل: هل في الطائف الآن مطر؟ لا تستطيع أن تقول: (نعم)، ولا تستطيع أن تقول: (لا). لأن من الممكن أن يكون في الطائف في تلك الساعة مطر، ومن الممكن أن يكون الجو فيها صحوا لا مطر فيه، إمكان وجود المطر خمسون في المئة مثلا، وإمكان عدمه خمسون، تساوى الطرفان فلا دليل يرجح الوجود، ولا دليل يرجح العدم. وهذا هو الشك.

فان نظرت فأبصرت في جهة الشرق، (والطائف شرقي مكة) غيوما تلوح على حواشي الافق من بعيد، رجح عندك رجحانا خفيفا ان في الطائف مطرا. وهذا الرجحان الخفيف لإمكان الوجود، هو ما يسمونه (الظن)، فأنت تقول: اظن ان في الطائف الآن مطرا، فالظن ستون في المئة مثلا (نعم)، وأربعون (لا).

فان رأيت الغمام قد ازداد وتراكم، واسود وتراكب، وخرج البرق يلمع من خلاله، وازداد ظنك بنزول المطر في الطائف، فصار (نعم) سبعون أو خمس وسبعون في المئة، وكان هذا ما يسميه علماؤنا بـ (غلبة الظن)، فأنت تقول لسائلك: يغلب على ظني ان في الطائف الآن مطرا، فإن أنت ذهبت إلى الطائف، فرأيت المطر بعينك، وأحسست به على وجهك أيقنت بنزوله، وعلماؤنا يسمون هذا اليقين (علما).

فصار لكلمة (العلم) معان: (العلم) المطلق الذي يقابل الجهل، (والعلم) الذي يقابل الفن والفلسفة. فالكيمياء علم، والفيزياء علم. أما الرسم فهو فن، والشعر فن. والعلم بهذا المعنى هو الذي تكون غايته الحقيقة، وأداته العقل، ووسيلته المحاكمة، والتجربة، والاستقراء. والفن هو الذي تكون غايته الجمال، وأداته الشعور، ووسيلته الذوق.

(والعلم) الذي يجيء بمعنى اليقين، ويقابل الشك والظن، هو الذي نقصده في هذا البحث[1].



العلم الضروري والعلم النظري:

العلم الذي يحصل بالحس والمشاهدة، لا يحتاج إلى دليل. الجبل الذي تراه أمامك لا تحتاج إلى إقامة الدليل على وجوده، انك تعلم – ضرورة – بأنه موجود، وكل من يراه (من العقلاء) يعلم أنه موجود.

وهذا ما يسمى (العلم الضروري)، أما العلم بأن مربع الوتر (في المثلث القائم الزاوية) يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين، فيحتاج إلى دليل عقلي، فالعالم أو طالب العلم الذي يصل إلى الدليل، يعلم هذه الحقيقة، أما العامي الجاهل فلا يعلمها، ولا يصدق بها، ما دام لم يطلع على هذا الدليل، ولو رأى المثلث أمامه، ولو أقيم على كل ضلع منه، مربع له. وهذا ما يسمى به (العلم النظري)، وهو الذي لا يحصل الا بالدليل العقلي.



---------------------------------------------------------------------

[1] أما العلم بالمعنى الخاص: كقولنا (علم النحو)، و (علم الكيمياء). فلعلمائنا فيه تعريفات كثيرة، ولكن اوضح تعريف وأبعده عن التعقيد، هو ما عرفه به (سارتون) بقوله: "العلم هو مجموعة معارف محققة ومنظمة..". فبقوله (معارف) خرجت المشاعر والخيالات، وبقوله (محققة) خرجت النظريات والفروض. وبقوله منظمة خرجت المعارف المبعثرة المتفرقة.

========
تعريفات

البديهية والعقيدة


ومن العلم النظري، ما يحتاج في الاصل إلى دليل، ولا يدرك بمجرد الحس والمشاهدة، ولكنه يعم ويشتهر، حتى يدركه العالم والجاهل، والكبير والصغير، وحتى يصير أقرب إلى (العلم الضروري). مثاله: العلم بأن (الجزء أصغر من الكل)، الرغيف الناقص أصغر من الرغيف الكامل، هذه حقيقة هي في الاصل من العلم النظري الذي يحتاج إلى دليل، ولكنك لا تجد من يشك فيها، ويطلب الدليل عليها، فالطفل اذا أخذت منه كف (الشكلاطة) الكامل، وأعطيته كفا ناقصا لا يقبله، واذا حاولت اقناعه بأن هذا أكبر لم يقنع، لأن كون (الجزء أصغر من الكل) بديهية.

و (مقولة الهُوية) – أي كون الشيء هو نَفْسُه – بديهية، ولو قال لك قائل: "اثبت لي ان هذا القلم الذي تحمله بيدك ليس ملعقة شاي". تقول له: "هذه بديهية، لا تحتاج إلى اثبات لأن القلم قلم..".

فالبديهيات[1] هي الحقائق العقلية التي يقبلها الناس جميعا، ولا يطلب أحد عليها دليلا، فاذا دخلت البديهية العقل الباطن، واستقرت فيه، وأثرت في الحدس والشعور، ووجهت الانسان في تفكيره (عقله الواعي)، وفي أعماله، سميت: (عقيدة)، وسمي الاعتقاد بها: (ايمانا).

ولكنا نعرف ان الانسان يعتقد الحق أحيانا، ويعتقد الباطل حينا، ونشاهد في هذه الأيام، من اتباع المذاهب المنحرفة، و (المبادئ) الباطلة، من امتزج بها قلبا وقالبا، وتمسك بها ظاهرا وباطنا، وبذل ماله ونفسه في نصرتها وحمايتها، فهل نسمي هؤلاء (مؤمنين)؟

أما اطلاقا فلا، ولكن يمكن أن نطلق عليهم اسم الايمان مضافا إلى الباطل الذي يؤمنون به، على نحو قوله تعالى:

?ألم تر إلى الذين اوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت?؟.

ويمكن اطلاق اسم الايمان مقيدا بالوصف، نحو قوله تعالى:

?وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون?.

أما (الايمان) بالمعنى الخاص، الذي لا ينصرف اذا اطلق الا إليه، ولا يدل الا عليه، المعنى الذي يراد كلما ورد ذكر الايمان ومشتقاته، في الكتاب والسنّة، وعلى ألسنة العلماء. فهو:

الاعتقاد بالله ربا واحدا.

- ومالكا مختارا متصرفا.

- وإلها مفردا بالعبادة، لا يشرك معه غيره في كل ما هو من جنس العبادة.

- والاعتقاد بكل ما أوحي به إلى نبيه، من: خبر الملائكة، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.

وصاحب هذا الاعتقاد هو (المؤمن)، فان نقص[2] شيئا منه، او ردّه، أو تردد في تصديقه، أو شك فيه، فَقَدَ صفةَ الايمان، ولم يعدْ يعدُّ مع المؤمنين.


------------------------------------------------------------------

[1] القياس: ان نقول في النسبة إلى البديهية (بدهي)، ولكن علماءنا استعملوا من القديم كلمة (بديهي) و (طبيعي)، كما يستعملها جمهور الناس اليوم. وانا اوثر أن استعمل العامي الفصيح، تنبيها على فصاحته، وقد نبهت في حواشي كتبي إلى عشرات وعشرات من هذه الكلمات.

[2] نقص شيئاً منه بمعنى أنقص.

======

تعريفات

البديهية والعقيدة


ومن العلم النظري، ما يحتاج في الاصل إلى دليل، ولا يدرك بمجرد الحس والمشاهدة، ولكنه يعم ويشتهر، حتى يدركه العالم والجاهل، والكبير والصغير، وحتى يصير أقرب إلى (العلم الضروري). مثاله: العلم بأن (الجزء أصغر من الكل)، الرغيف الناقص أصغر من الرغيف الكامل، هذه حقيقة هي في الاصل من العلم النظري الذي يحتاج إلى دليل، ولكنك لا تجد من يشك فيها، ويطلب الدليل عليها، فالطفل اذا أخذت منه كف (الشكلاطة) الكامل، وأعطيته كفا ناقصا لا يقبله، واذا حاولت اقناعه بأن هذا أكبر لم يقنع، لأن كون (الجزء أصغر من الكل) بديهية.

و (مقولة الهُوية) – أي كون الشيء هو نَفْسُه – بديهية، ولو قال لك قائل: "اثبت لي ان هذا القلم الذي تحمله بيدك ليس ملعقة شاي". تقول له: "هذه بديهية، لا تحتاج إلى اثبات لأن القلم قلم..".

فالبديهيات[1] هي الحقائق العقلية التي يقبلها الناس جميعا، ولا يطلب أحد عليها دليلا، فاذا دخلت البديهية العقل الباطن، واستقرت فيه، وأثرت في الحدس والشعور، ووجهت الانسان في تفكيره (عقله الواعي)، وفي أعماله، سميت: (عقيدة)، وسمي الاعتقاد بها: (ايمانا).

ولكنا نعرف ان الانسان يعتقد الحق أحيانا، ويعتقد الباطل حينا، ونشاهد في هذه الأيام، من اتباع المذاهب المنحرفة، و (المبادئ) الباطلة، من امتزج بها قلبا وقالبا، وتمسك بها ظاهرا وباطنا، وبذل ماله ونفسه في نصرتها وحمايتها، فهل نسمي هؤلاء (مؤمنين)؟

أما اطلاقا فلا، ولكن يمكن أن نطلق عليهم اسم الايمان مضافا إلى الباطل الذي يؤمنون به، على نحو قوله تعالى:

?ألم تر إلى الذين اوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت?؟.

ويمكن اطلاق اسم الايمان مقيدا بالوصف، نحو قوله تعالى:

?وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون?.

أما (الايمان) بالمعنى الخاص، الذي لا ينصرف اذا اطلق الا إليه، ولا يدل الا عليه، المعنى الذي يراد كلما ورد ذكر الايمان ومشتقاته، في الكتاب والسنّة، وعلى ألسنة العلماء. فهو:

الاعتقاد بالله ربا واحدا.

- ومالكا مختارا متصرفا.

- وإلها مفردا بالعبادة، لا يشرك معه غيره في كل ما هو من جنس العبادة.

- والاعتقاد بكل ما أوحي به إلى نبيه، من: خبر الملائكة، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.

وصاحب هذا الاعتقاد هو (المؤمن)، فان نقص[2] شيئا منه، او ردّه، أو تردد في تصديقه، أو شك فيه، فَقَدَ صفةَ الايمان، ولم يعدْ يعدُّ مع المؤمنين.


----------------------------------------------------------------

[1] القياس: ان نقول في النسبة إلى البديهية (بدهي)، ولكن علماءنا استعملوا من القديم كلمة (بديهي) و (طبيعي)، كما يستعملها جمهور الناس اليوم. وانا اوثر أن استعمل العامي الفصيح، تنبيها على فصاحته، وقد نبهت في حواشي كتبي إلى عشرات وعشرات من هذه الكلمات.

[2] نقص شيئاً منه بمعنى أنقص.

====
قواعد العقائد

القاعدة الأولى


قواعد العقائد[1]

القاعدة الأولى :

ما أدركه بحواسي لا أشك في انه موجود.

هذه بديهية عقلية مسلّمة، ولكن المشاهد اني أمشي في الصحراء ساعة الظهيرة، فأرى بركة ماء، تلوح ظاهرة للعين، فاذا جئتها لم أجد الا التراب لأن الذي رأيته سراب. وأضع القلم المستقيم في كأس الماء، فأراه منكسرا، وهم لم ينكسر.

ويكون المرء في سهرة، الحديث فيها عن الجن والعفاريت، ثم يذهب إلى داره، فان كان الطريق خاليا مظلما، وكان مخلوع القلب، واسع الخيال، رأى أمامه جنيا أو عفريتاً، فشاهده وأحس بوجوده، وما ثمة شيء مما رأى، والسحرة والمشعوذون يعرضون غرائب تراها ولا حقيقة لها.

فالحواس إذن تخطئ، وتخدع، وتتوهم، او يتوهم صاحبها. فهل أشك لهذا في وجود ما أحس به؟

لا، لأني ان شككت فيما أرى وأسمع وأحس، تداخلت لديّ الحقائق والخيالات. وصرت أنا والمجنون سواء.

ولكن أضيف شرطا آخر لحصول العلم (أي اليقين) بوجود ما أحسه – هو الا يحكم العقل بالتجربة السابقة ان الذي أحس به وهم او خداع حواس، والعقل يخدع أول مرة، فيحسب السراب ماء، فاذا رآه مرة اخرى أدرك أنه سراب. والعقل يحكم بعد أن رأى القلم منكسرا أول مرة، أنه لا يزال مستقيما كما كان، وان بدا للعين منكسرا، والأمور التي تخطئ فيها الحواس أو تخدع، أمور محدودة معدودة معروفة، لا تبطل القاعدة ولا تؤثر فيها، ومنها عمل سحرة فرعون، وما يعمله سحرة (السيرك) في هذه الأيام.



---------------------------------------------------------------

[1] استأذن قارئ كتابي: ان امهد لذكر هذه القواعد، بكلمة ليست من موضوع هذا الكتاب، ولكنها تبين قصتها، وكيف وصلت اليها. وتفصيل ذلك: أنني كنت أدرس الأدب العربي في بغداد قبل الحرب الثانية، فكلفت في النصف الثاني من العام أن أدرس معه الدين، وكان منهج الدين سورا من القرآن تفسر وتشرح.. فقبلت ودخلت فاذا الفصل في هرج ومرج، وكان عهدي به في درس الأدب، هادئا ساكنا، واذا الطلاب يتخذون من درس الدين مسلاة ومضيعة للوقت، وأدركت ان سبب ذلك ضعف الايمان في نفوسهم. فقلت لهم: ارفعوا المصاحف واسمعوا، والهمني الله الهاما مفاجئا، بلا اعداد سابق بحثا جديدا في الايمان، وضعت فيه بعض هذه القواعد، ونشرت خلاصته في الرسالة سنة (1937) أو سنة (1938)، وهو في كتابي: (فكر ومباحث). ولما كلفت وضع مناهج مدراس الأوقاف في سورية (أيام الوحدة)، ووضعتها كلها وحدي، وطبقت كما وضعتها، أدخلت هذه القواعد في المنهج، ودللت على ما كتبته ليكون مرجعا، فأخذه أحد المؤلفين في العقائد وادعاه لنفسه، ووضعه في كتابه، ولكن لم يهتد إلى ما أريده منه، فمشى في أول الطريق وضاع في آخره. فلما أحلت على المعاش (وكنت مستشار محكمة النقض)، وذهبت إلى الرياض، ثم إلى مكة، أدرس في كلية التربية فيها، رجعت إلى هذه القواعد، وزدت فيها حتى بلغت ثماني قواعد، هي التي أذكرها هنا.
=======
قواعد العقائد

القاعدة الثانية


هناك أشياء ما شاهدناها ولا أحسسنا بها، ولكنا نوقن بوجودها كما نوقن بوجود ما نشاهده ونحس به، نوقن بوجود الهند والبرازيل، ولم نزرهما ولم نرهما، ونوقن بأن (الاسكندر المقدوني) فتح بلاد فارس، (والوليد بن عبد الملك) بنى الجامع الأموي، ولم نحضر حروب الاسكندر، ولا شهدنا بناء الجامع الأموي.

ولو نظر كل واحد منا في نفسه لرأى ان ما يوقن بوجوده من الأشياء التي لم يرها، أكثر من (الأشياء) التي رآها من الممالك والبلدان، ومن حوادث التاريخ الذي كان، ومما يقع الآن.

فكيف أيقن بوجود هذه الأشياء وهو لم يدركها بحواسه؟

أيقن به حين نقله جماعات عن جماعات، لا يتصور امكان اتفاقهم (في العادة) على اختراع هذه الاخبار، ونقلها كذبا.

فالقاعدة الثانية: ان اليقين كما يحصل بالحس والمشاهدة، يحصل بالخبر الذي نعتقد صدق صاحبه.

========
قواعد العقائد

القاعدة الثالثة - ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس؟


ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس؟ وهل تستطيع أن تصل إلى ادراك كل موجود؟

ان مثل النفس والحواس مع الموجودات، كمثل رجل سجنه الحاكم في برج القلعة، وسد عليه الأبواب والنوافذ، ولم يترك له الا شقوقا في جدار البرج، شقا يطل منه على النهر الذي يجري في الشرق، وشقا على الجبل الذي يقوم في الغرب، وشقا على القصر الذي يجثم في الشمال، وشقا على الملعب الذي يقع في الجنوب.

السجين هو النفس، والقلعة الجسد، وهذه الشقوق هي الحواس، حس النظر يشرف منه على عالم الألوان، وحس السمع على عالم الأصوات، وحس الذوق على عالم الطعوم، وحس الشم على عالم الروائح، وحس اللمس على عالم الأجسام.

1- والسؤال الآن: هل أدرك بكل حاسة من هذه الحواس كل ما في العالم الذي تشرف عليه؟ السجين عندما ينظر من شق النهر، لا يرى النهر كله، ولكن جزءاً منه، وكذلك العين حين تشرف على عالم الألوان، لا تراه كله بل ترى بعضه.

أنا لا أرى نملة تمشي على بعد ثلاثة أميال، مع أن النملة موجودة، ولا أرى الجراثيم والحوينات[1] في كأس الماء الصافي، مع ان في الكأس الملايين من هذه الجراثيم. ولا أرى الكهارب التي تدور وسط الذرة، دوران الكواكب في فضاء الأفلاك. وان لهذه النملة صوتا، ولكني لا أسمعه، لأن أذني تلتقط الهزات من خمس إلى عشرين الفا، فما نقص لا تسمعه، وما زاد ثقب طبلة الاذن فبطل بذلك السمع. وأنا لا أشم للسكر رائحة، مع أن النملة والذباب يشمه ويسرع اليه. فالحواس اذن لا تدرك من العوالم التي سلطت عليها الا جزءا منها.

2- ثم الا يمكن أن يكون بين عالم الألوان الذي تشرف عليه العين. وعالم الاصوات الذي تطل عليه الاذن عالم آخر، لا أدركه أصلا لأنه ليس عندي الحاسة لادراكه؟

الا يمكن أن يكون بين النهر وبين الجبل بالنسبة لسجين البرج بستان عظيم، لم يره ولم يعلم به، لأنه لا يجد شقا يطل منه عليه؟ فهل يحق له أن ينكره لأنه لا يراه؟

الاكمه (الذي ولد أعمى)، قد يستطيع بالسماع معرفة أن البحر أزرق، والمرج أخضر، ولكنه لا يستطيع أن يدرك ما هي الزرقة وما هي الخضرة، والأصم، قد يعرف بالتعلم ان في الانغام: البيات، والرصد، والسيكا. ولكنه لا يستطيع أن يدرك حقيقة النغم، فهل يحق للأعمى أن ينكر وجود الخضرة، وللأصم أن يجحد حقيقة النغم لأنه لا يدركها؟

ان الغرفة التي تبدو لك ساكنة سكونا عميقا، فيها – في جوّها – جميع الاغاني والاصوات التي تذاع الان، من جميع الاذاعات. أنت لا تحس بها لأنها ليست لوناً تراه بعينك، ولا صوتا تسمعه باذنك. انها اهتزازات من نوع آخر، فيها صوت ولكن لا تدركه الاذن، فاذا جئت بالرّاد[2] الذي يردّها عليك، سمعتها.

الضغظ الجوي لا تحس باختلافه القليل، لأنه ليس لديك حاسة تدركه بها، فاذا جئت بـ (البارومتر) أدركته به. الهزات الخفيفة لا تدركها، ولكن (الرادار) يدركها. ففي الوجود أشياء كثيرة لا تدخل في نطاق الحواس، لأنها ليست لونا يرى، ولا صوتا يسمع، ولا جمادا يلمس، ولا رائحة تشم، ولا طعما يذاق، فهل يحق لي ان أنكرها، لأن حواسي المحدودة لا تدركها؟

3- والحواس هل هي كاملة؟ كان الاقدمون يحصرونها في خمس حواس فقط، لا يتصورون امكان الزيادة عليها. ولكن كشفت في الانسان الان حواس اخرى أودعها الله فيه وما يقبل الزيادة يوصف بالنقصان.

أنا أغمض عيني، وأبسط يدي أو أقبضها، فأحس بأنها مبسوطة أو مقبوضة لم ألمسها ولم أرها، فبأي حاسة أحسست بها؟ بما يسمى (الحسّ العضلي). وأحس بالتعب والوني، وبالغثيان، وبالانبساط أو الانقباض، وما أحسست بذلك بواحدة من الحواس الخمس، بل (بالحس الداخلي). وأمشي فلا أميل، مع أن الطفل أول مشيه يميل، وراكب الدراجة، ولاعبو (السرك)، الذي يأتون بالعجائب، بأي حاسة ضبطو توازنهم؟

ان هناك حاسة ثامنة هي (حاسة التوازن)، وأذكر أنهم كشفوا موضعها، الذي وضعها الله فيه، في الاذن الداخلية مادة سائلة قليلة، بها يكون التوازن، وأذكر أنهم (في تجاربهم) استخرجوها من أرنب، فصارت تمشي الارنب مترنحة كأنها سكرى.

فالقاعدة الثالثة: هي أنه لا يحق لنا أن ننكر وجود أشياء لمجرد أننا لا ندركها بحواسنا.



---------------------------------------------------------------------

[1] حوين تصغير حيوان، وهذا ما يسمى في علم الصرف (تصغير الترخيم) ويكون بعد حذف الزوائد من الاسم.

[2] الراد: اسم فاعل من رد وضعتها (للراديو)، لأنه يرد الصوت الذي يرسله المذياع.

========
قواعد العقائد

القاعدة الرابعة - الخيال


قلنا ان الحواس محدودة المدى، فأنا لا أستطيع أن أرى ببصري كل مرئي، وهذا صحيح ولكن الله أعطانا (ملكة) نتم بها نقص الحواس، هي الخيال. أنا ان لم أستطع أن أرى داري في دمشق، وأنا في مكة، أستطيع أن أتخيلها فكأنني أراها، فالخيال يكمل الحواس. فهل للخيال حدود، أم أنه مطلق غير محدود؟ هل أستطيع أن أتخيل شيئا لم أدركه بالحواس؟

الخيال عند علماء النفس خيالان: خيال مرجع، كتخيلي الدار في دمشق، وأنا في مكة، وخيال مبدع، هو خيال الشعراء والقصاصين والرسامين، وسائر أهل الفنون. فانظروا إلى خيالات هؤلاء الفنانين، هل جاؤوا بشيء غير ما في الواقع؟ الذي نحت تمثال (فينوس) جاء بصورة لم نر من يماثلها تماماً، ولكن هل كانت جديدة، أم أخذ أجزاء من الواقع، فألف بينها؟ أخذ أجمل انف رآه، وأجمل فم، وأجمل جسم، فجمع هذا إلى ذاك، فجاء بجديد، ولكن هذا الجديد مؤلف من أجزاء قديمة.

وتمثال الثور المجنح الأشوري في متحف باريس، ما فيه الا ان ناحِتَهُ أخذ رأس رجل فوضعه على جسد ثور، ووضع له أجنحة طائر. صورة جديدة ولكنها مؤلفة من أجزاء قديمة.

وكذلك الحيوان العجيب الذي تخيله القزويني، وخيالات الشعراء مهما أوغلت في باب الاستعارة والتشبيه والكناية – والمبالغات العجيبة، لا تخرج عن كونها جمعا بين أجزاء متفرقة في الواقع.

بل اننا اذا أوغَلْنا في الاغراب في جمع هذه الاجزاء، نجد الخيال نفسه قد عجز عن الالمام بهذا الجمع، خذوا – مثلا – جزءاً من عالم اللون، وجزءا من عالم الصوت: فقولوا ان فلانا المغني قد غنى نغمة معطرة بعطر الورد، او أن العطر الفلاني له رائحة لونها أحمر، واعرضوا هذه الصورة على خيالكم، تجدوا أنكم لم تستطيعوا أن تتخيلوها، مع أنها جميعا ما خرجت عن عالم الواقع.

فنحن لا نستطيع أن نتخيل نغمة عطرة، ولا رائحة حمراء، ولا نتصور الا الابعاد الثلاثة (الطول والعرض والارتفاع)، لا نستطيع أن نتصور بعداً رابعاً[1] ولا دائرة ليس لها محيط، ولا مثلثا ليس له زوايا. فكيف (اذن) نتخيل الآخرة وما فيها، وهي عالم يختلف عن عالمنا؟ ان الآخرة بالنسبة لهذه الدنيا، كالدنيا بالنسبة لبطن الجنين، لو أمكن أن نتصل بالجنين ونسأله وأمكن أن يجيب، وقلنا له: ما الكون؟ لقال، ان الكون هو هذه الأغشية التي تغشاني، وهذه الظلمات التي تحيط بي.

ولو قلنا له: ان هاهنا كونا آخر فيه شمس وقمر، وليل ونهار، وبر وبحر، وسهل وجبل، وصحاري قاحلة، وجنات عارشات. لما فهم معنى هذا الكلام ولو فهمه لما استطاع تخّيل حقيقته.

ومن هنا قال ابن عباس: "ما في الدنيا مما في الآخرة الا الاسماء". فلا خمر الآخرة كخمرة الدنيا، ولا حورها كنسائها، ولا نار جهنم كنارها، ولا الصراط الممدود على جهنم كالجسور الممدودة على الأودية والأنهار. فالقاعدة الرابعة، ان الخيال البشري لا يستطيع أن يُلمّ الا بما أدركته الحواس.



---------------------------------------------------------------

[1] المقصود البعد الحقيقي، أما ما ذهب إليه (انشتاين) من اعتبار الزمان بعداً رابعاً، فهو شيء اعتباري لا حقيقي.

=======
قواعد العقائد

القاعدة الخامسة


لما أبصرت العين العود المستقيم أعوج، وهو في كأس الماء، لم ينخدع العقل بما رأت العين، بل عرف أنه لم يزل مستقيما، ولما رأت التراب ماء في الصحراء، عرف العقل أنه سراب، وأنه ليس ماء ولكنه تراب. ولما أبصرنا ساحر (السيرك) يخرج من فمه مئة منديل، ومن كمّه عشرين ارنباً أدرك العقل أنها خدعة. فالعقل أصح حكما، وحكمه أبعد مدى، ولكن هل يحكم على كل شيء ويمتد مداه إلى غير ما نهاية؟

ان العقل لا يستطيع أن يدرك شيئاً، حتى يحصره بين اثنين: الزمان والمكان، فما لم ينحصر بينهما، لم يدركه العقل بنفسه. فلو قال لك مدرس التاريخ؛ ان حربا وقعت بين العرب والفرس، ولكنها لم تقع قبل الاسلام ولا بعده، ولم تقع في زمن من الازمان، ولكنها وقعت فعلا، لم تدرك ذلك ولم تصدقه، ولم تقبله. ولو قال لك مدرس الجغرافية؛ ان بلدة ليست في سهل ولا جبل، ولا في بر ولا بحر، ولا في أرض ولا سماء، ولا في مكان من الأمكنة، ولكنها موجودة – لم تدرك ذلك، ولم تصدقه، ولم تقبله.

فالعقل لا يحكم الا في حدود الزمان والمكان. فما كان خارجا عنهما من مسائل الروح، وأمور القدر، وآلاء الله وصفاته، فلا حكم للعقل عليه.

ثم إن العقل محدود، لا يحكم على غير المحدود، ولا يستطيع أن يحيط به. تصور خلود المؤمنين في الجنة! ان عقل المؤمن موقن بأنه حقيقة وقد جاءه هذا اليقين من الخبر الصادق. ولكن انظر هل يحيط عقلك بالخلود؟ ركز فكرك فيه، تجد انك تتصور بقاءهم في الجنة قرنا وقرنين، ومئة قرن، ومليون والف مليون، ثم تجد عقلك يقف عاجزا، ويسألك وبعد؟ إنه يريد أن يضع لذلك نهاية. انه لا يدرك الـ (لا نهاية)، واذا افترض الوصول اليها وقع في التناقض الذي يقول ببطلانه.

ان للفيلسوف الالماني (كانْت) كتابا مشهورا، في اثبات ان العقل لا يستطيع أن يحكم الا على عالم المادة وحده. ولكن ما قال به (كانْت) قاله علماؤنا من قبل وردّدوه وأثبتوه حتى صار كالبديهية المسلّمة، وصار الكلام فيه كالحديث المعاد. حتى (متناقضات كانْت) المشهورة، سبق اليها علماؤنا، وبينوا بالادلة الرياضية ان (الدور والتسلسل) باطل.

من أقرب أدلتهم هذا الدليل ، وهو أن تخرج من نقطة (م) ، مثلا (في الشكل) شعاعين ، أي خطين مستقيمين متباعدين ، وتفرض مد كل خط إلى ما لا نهاية له ( & ) وتصل بين الخطين على أبعاد متساوية خطوطاً :

(ن هـ) و (ن1 هـ1) (ن2 هـ2) وهكذا، حتى تصل إلى الخط (& &) هل هذا الخط محدود، أم هو غير محدود؟





اذا قلت أنه محدود يردّ عليك انه بين لا نهايتين، فكيف يكون محدودا؟ وان قلت أنه غير محدود، ردّ عليك بأنه بين نقطتين، فيكف يكون غير محدود؟ فهو محدود، وغير محدود، وهذا تناقض!

فثبت ان العقل يختل ميزانه ان حاول الحكم على غير المحدود، ويقع في التناقض المستحيل، اذا بحث فيما لا ينتهي.

فالعقل اذن لا يستطيع أن يحكم، ولا يصح حكمه الا في الأمور المادية المحدودة. أما (ما وراء المادة)، أي عالم الغيب (الميتافيزيك)، فلا حكم للعقل عليه. وهذا الذي أثبته (كانْت) في كتابه، وقاله علماؤنا من قبل، موجود في كتاب شرح المواقف للسيد، ورسالة (المقصد الاسني) للغزالي[1] وسائر كتب علم الكلام.



--------------------------------------------------------------------------

[1] بقيت هذه الرسالة (المقصد الأسني في شرح أسماء الله الحسنى) في مكتبتي أكثر من ثلاثين سنة، لم أجد دافعاً إلى قراءتها، ثم أخذتها فوجدت فيها شيئا عجيباً من عبقرية الغزالي. فهو يتكلم عن الاسم والمسمى والصلة بينها ويربط بين أسماء الله وسلوك المسلم بأسلوب جديد وطريقة مبتكرة. وهذا شأن الغزالي في كل موضوع يكتب فيه وإن كان في كتابه العظيم (الاحياء) كثير من الصوفيات المخالفة للسنة، وكان فيه كثير من الأحاديث التي لا أصل لها، وكان أثره في نفس قارئه العزلة والخمول، والبعد عن روح المغامرة والجهاد. مع انه ألف في عهد الحروب الصليبية، التي وجب فيها الجهاد على الرجال والنساء، كما هو واجب الآن، لاخراج الكافر من أرض المسلمين التي يحتلها. وأنا أقول بأن الغزالي أعظم مفكر اسلامي، ولكنه ليس بمعصوم – والانصاف العلمي يستوجب ذكر عيوبه المعدودة – وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه.

=========
قواعد العقائد

القاعدة السادسة - الإستعاذة بقوة وراء الكائنات


ان الناس جميعا، المؤمن منهم والكافر، والناشئ في صوامع العبادة، والمتربي في مخادع الفسوق، اذا ألمّت بهم ملمّة ضاقوا بها ذرعا، ولم يجدوا لها دفعا، لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات، قوة لا يرونها ولكنهم يشعرون بأرواحهم وقلوبهم، وكل عصب من أعصابهم بوجودها، وبعظمتها وجلالها. يقع هذا الكثير من الطلاب أيام الامتحان، ولكثير من المرضى عند اشتداد الألم، وعجز الطبيب. كلهم يعودون إلى ربهم، ويقبلون على عبادته. فهل سألتم أنفسكم، ما السبب في هذا وأمثاله؟ لماذا نجد كل من وقع في شدة يرجع إلى الله؟ نذكر جميعا[1] أيام الحرب الماضية، والتي قبلها، كيف كان الناس يقبلون على الدين، ويلجؤون إلى الله. الرؤساء والقواد يؤمّون المعابد، ويدعون الجنود إلى الصلاة.

ولقد قرأت في مجلة (المختار) المترجمة عن مجلة (ريدر زاديجست)، مقالة نشرت أيام الحرب، لشاب من جنود المظلات (يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئا جديدا) يروي قصته فيقول: انه نشأ في بيت ليس فيه من يذكر الله أو يصلي، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين، ولا مدرس متدين، نشأ نشأة (علمانية) مادية، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف الا الأكل والشرب والفساد، ولكنه لما هبط أول مرة، ورأى نفسه ساقطا في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة، جعل يقول: يا الله يا رب. ويدعو من قلبه، وهو يتعجب من أين جاءه هذا الايمان؟

وبنت (ستالين) نشرت من عهد قريب مذكراتها، فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين، وقد نشأت في غمرة الالحاد، وتعجب هي نفسها من هذا المعاد.وما في ذلك عجب، فالايمان بوجود اله، شيء كامن في كل نفس، انه فطرة (غريزة) من الفِطَر البشرية الأصلية، كغريزة الجنس، والانسان (حيوان ذو دين).

ولكن هذه الفطرة، قد (تغطيها) الشهوات والرغبات والمطامع، والمطالب الحيوية المادية، فاذا هزتها المخاوف والاخطار والشدائد، القت عنها غطاءها فظهرت. ولذلك سمي غير المؤمن (كافرا)، ومعنى الكافر في لسان العرب (الساتر). ومن العجيب اني وجدت تأييد هذه الفكرة في كلمتين متباعدتين، في الزمان والمكان والظرف والقصد، ولكنهما متقاربتان في المعنى.

كلمة لعابدة مسلمة تقية معروفة هي (رابعة العدوية[2])، وكلمة لكاتب فرنسي ملحد معروف هو (اناتول فرانس). واناتول فرانس يقول في معرض كفره والحاده: "ان المرء يؤمن اذا ظهر بنتيجة فحص البول، انه مصاب بداء السكري، (يوم لم يكن قد عرف الانسولين)..". ورابعة، قيل لها: "ان فلانا أقام ألف دليل على وجود الله"، فضحكت وقالت: "دليل واحد يكفي"، قيل: "وما هو؟"، قالت: "لو كنت ماشيا وحدك في الصحراء، وزلت قدمك فسقطت في بئر، لم تستطع الخروج منها، فماذا تصنع؟". قال: "انادي يا (الله).." قالت: وذاك هو الدليل..". في قرارة نفس كل انسان الايمان باله، هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين لأن الله خبرنا ان الايمان فطرة فطر الناس عليها. وقد عرفها الافرنج من جديد، (دوركايم) استاذ الاجتماع الفرنسي المشهور[3] له كتاب في ان الايمان بوجود اله بديهية. لا يمكن أن يعيش الانسان ويموت من غير أن يفكر في وجود اله لهذا الكون، ولكنْ ربما قصر عقله فلم يهتد إلى المعبود بحق، فعبد من دونه أشياء، عبدها على توهم أنها هي الله، او انها تقرب إلى الله.

فاذا جد الجد، وكانت ساعة الخطر، رجع إلى الله وحده ونبذ هذه المعبودات. مشركو قريش، كانوا يعبدون (هبل)، و (اللات)، و (العزى)، حجارة وأصنام، (هبل) صنم من العقيق، جاء به (عمرو بن لحيّ) من عندنا، من (الحمّة)[4] قالوا له انه اله عظيم قادر، فحمله على جمل وجاء به، فسقط على الطريق فانكسرت يده، فعملوا له يدا من ذهب. اله تنكسر يده! وكانوا مع ذلك يعبدونه!! يعبدونه في ساعات الامن، فاذا ركبوا البحر، وهاجت الامواج، ولا شبح الغرق، لم يقولوا: يا (هبل)، بل قالوا: يا الله.

وهذا مشاهد إلى اليوم عندما تغرق السفن، أو تشب النيران، أو يكون الخطر، او يشتد المرض، تجد الملحدين يرجعون إلى الدين.

لماذا؟ لان الايمان غريزة، أصدق تعريف للانسان انه (حيوان متدين)، وانظروا إلى هؤلاء الملحدين الماديين، عندما يأتيهم الموت هل تظنون ان (ماركس) أو (لينين) لما أيقن بالموت، دعا (وسائل الانتاج) التي يؤلهها، أم دعا الله؟ ثقوا أنهما لم يموتا حتى دعوا الله، ولكن حين لا ينفع الدعاء. و (فرعون) تكبر وتجبر، وقال، أنا ربكم الأعلى، فلما أدركه الغرق، قال: "آمنت بالذي آمنت به بنوا اسرائيل..".

وفي عاطفة الحب التي يحس بها المحبون دليل على ان الإيمان فطرة في النفوس، الحب صورة مصغرة للإيمان، ونوع من أنواع العبادة. والفرنسيون لما غلب عليهم ترك الدين، استعملوا كلمة (العبادة) في الحب[5]. وقلدهم في ذلك بعض المتفرنجين منا، فصاروا يقولون في قصصهم: (يحبها ويعبدها) و (احبها حتى العبادة) وما ذلك الا لأن العبادة هي المظهر الفطري للاعتقاد بالاله، ولأن في الحب شبها من الايمان.

المحب يطيع محبوبه، وينفذ كل رغبة له، وكذلك يكون المؤمن مع الله. والمحب لا يبالي أن يسخط عليه الناس كلهم ان رضي المحبوب، وكذلك يكون المؤمن مع الله. والمحب يخاف المحبوب، ويخشى غضبه، ويرضى بكل ما يكون منه وكذلك يكون المؤمن مع الله. فالحب (أي العشق) دليل على ان الايمان فطرة في النفوس.


------------------------------------------------------------------

[1] أعني الكهول والشيوخ الذين أدركوا الحرب الأخيرة: سنة (1939 م)، ومن قبلها الحرب الأولى: (1914 م)، وقد أدركتهما وقلت ما قلت عنهما، عن مشاهدة وعيان.

[2] ظهرت من سنوات قصة غنائية مصورة، زعموا أنها تمثل حياة رابعة العدوية، مع انها لا تمثل الا ما في نفس مؤلفها من خيالات وتهاويل، وما فيها من حقائق التاريخ الا القليل.

[3] دوركايم استاذ الاجتماع الفرنسي: هو يهودي مثل (فرويد)، الذي أفسد عقول الناس حينا من الدهر.

[4] الحمة ذات الينابيع المعدنية التي أخذها اليهود من سورية بعد حرب الأيام الستة.

[5] كلمة العبادة هي في اللغة الفرنسية: (Adorer).

========
قواعد العقائد

ضيق الألفاظ


وليس معنى هذا أن حب الله، من جنس حب المعشوق، لا. فالعاشق يطيع معشوقه ويخشاه، ويرضى بكل ما يجيء منه، ويؤثر رضاه على رضى الناس، للذته به، فهو يحب فيه نفسه، ولو أن (ليلى) أصابها الجذام فشوه وجهها، وأكل أنفها وعينها لما دنا منها (قيس) ولما مال عليها، بل لفر منها، ونأى عنها، هذا هو فرق ما بين حب المخلوق وحب الخالق.

انهما نوعان مختلفان ولكن اللغات البشرية لضيقها عن استيعاب المعاني الروحية، تستعمل اللفظ الواحد، في معان كثيرة. فنحن نقول: "فلان يحب مناظر الجبال"، و "فلان يحب علم التاريخ"، و "فلان يحب الرز باللحم"، "والوالد يحب ولده"، و "المجنون يحب ليلى"، و "المؤمن يحب الله". وكل حب منها، يختلف عن الآخر. ومثل ذلك كلمة: (الجمال)، نستعملها وهي لفظ واحد، للدلالة على ألف معنى. ومن ذلك قولنا: "الله سميع بصير"، و "فلان سميع بصير"، أي: ليس أصم ولا أعمى. وسمع الله وبصره لا يشبه سمع العبد ولا بصره لأن الله لا يماثل شيئاً من المخلوقات ولا يماثله شيء، وجيمع آيات الصفات جاءت من هذا الباب ، والله ليس كمثله شيء.

=====
قواعد العقائد

القاعدة السابعة - الدليل النفسي على وجود العالم الآخر


هي ان الانسان يدرك بالحَدْس ان هذا العالم المادي ليس كل شيء، وان وراءه عالماً روحياً مجهولا، يدرك منه لمحات تدل عليه. ذلك ان الانسان يرى اللذات المادية محدودة، اذا هي بلغت غايتها ووصلت إلى حدها، لم تعد اللذة لذة، ولكن صارت (عادة)، فذهب طعمها، وبطل سحرها، وصارت كالنكتة المحفوظة، والحديث المعاد.

يبصر الفقير سيارة الغني تمر به، وعمارة الغني يمر بها، فيحسب أنه يحوز الدنيا ان حاز مثلها، فان صارت له، لم يعد يشعر بالمتعة بها. ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيب، يظن ان متع الدنيا كلها بحبه، والاماني كلها في قربه، فاذا تزوج التي يحب، ومر على الزواج سنتان، اضمحلت تلك الأماني، وماتت تلك المتع، ولم يبق له منها الا ذكرها، ويمرض المريض ويتألم، فيتصور اللذة كلها في ذهاب الألم والشفاء من المرض، فاذا عاودته الصحة، ونسي أيام المرض، لم يعد يرى في الصحة شيئا من تلك اللذات، ويتمنى الشاب "الشهرة" ويفرح ان اذاعت الاذاعة اسمه، ونشرت الصحف رسمه، فاذا هو اشتهر وصار اسمه ملء السمع، وشخصه ملء البصر، صارت له الشهرة أمراً معتادا.

ثم يجد أنه يسمع الاغنية الحالمة، في الليلة الساجية، قد خرجت من قلب مغنٍ عاشق، فهزت من سامعها حبّة القلب، وأطلّت على عالم الروح، ويقرأ القصة العبقرية، للأديب البارع، فيحس كأنها تمشي به في مسارب عالم مسحور، فيه مع السحر شعر وعطر، فاذا انتهت القصة رأى كأنه كان في حلم لَذٍّ فتّان، وصحا منه، فهو يحاول عبثا أن يعود إلى لذته وفتونه.

ويعيش في لحظات التجلي، حين تصفو النفوس بالتأمل فتتخفف من أثقال المادة، فتعلو بجناحين من الصفاء والتجرد، حتى تصل إلى حيث ترى الأرض وما عليها، أصغر من أن ينظر اليها، لما تجد من لذة الروح التي لا تَعْدلها لذة الطعام للجائع، ولا لذة الوصال للمحروم، ولا لذائذ المال والجاه للفقير المغمور.

واذا بالنفس تتشوق أبدا إلى هذا (العالم الروحي) العلوي، العالم المجهول، الذي لا تعرف منه الا هذه اللمحات، التي لا تكاد تبدو لها حتى تختفي، وهذه النفحات التي لا تهب حتى تسكن. فيعلم أن اللذات المادية محدودة، وان اللذات الروحية أكبر منها كبرا، وأعمق في النفس أثرا. ويُوقن (بالحدس النفسي، لا بالدليل العقلي)، ان هذه الحياة المادية ليست كل شيء، وان العالم المجهول، المختبئ وراء عالم المادة، حقيقة قائمة، تحن اليها الأرواح، وتحاول أن تطير اليها، ولكن هذا الجسد الكثيف يحجبها عنها، ويمسكها عن ان تنطلق وراءها، وهذا هو الدليل النفسي على وجود العالم الآخر.
=======
قواعد العقائد

القاعدة الثامنة - الاعتقاد بوجود الحياة الاخرى


الاعتقاد بوجود الحياة الاخرى، نتيجة لازمة للاعتقاد بوجود الله – وبيان ذلك ان الاله لا يكون الا عادلا، والعادل لا يقرّ الظلم، ولا يدع الظالم بغير عقاب – ولا يترك المظلوم من غير انصاف، ونحن نرى أن في هذه الحياة من يعيش ظالما ويموت ظالما لم يعاقب – ومن يعيش مظلوما ويموت مظلوما لم ينصف – فما معنى هذا؟ وكيف يتم هذا ما دام الله موجودا – وما دام الله لا يكون الا عادلا؟ معناه أنه لا بد من (حياة اخرى) يكافأ فيها المحسن. ويعاقب المسيء.

وان (الرواية) لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا، ولو انه عرض (فلم) في الراني (التلفزيون)، فقطع من وسطه وقيل (انتهى)، لما صدق أحد من المشاهدين انه انتهى، ولنادوا ماذا جرى للبطل؟ وأين تتمة القصة؟ ذلك لأنهم ينتظرون من المؤلف أن يتم القصة، ويسدد حساب أبطالها. هذا والمؤلف بشر، فكيف يصدق عاقل، ان (قصة) الحياة تنتهي بالموت؟ كيف؟ ولم يسدد بعد الحساب، ولا اكتملت الرواية؟ فأيقن العقل من هنا، ان لهذا الكون ربا، وان بعد الدنيا آخره.

وان ذاك العالم المجهول، الذي لمحت الروح ومضة من نوره في الاغنية الحالمة، والقصة البارعة، واستروحت نفحة من عطره، في ساعة التجلي، ليس عالم المثل[1] الذي كان خيالا صاغه أفلاطون، ولكنه عالم الآخرة، الذي هو حقيقة أبدعها خالق افلاطون. ورأى أن أكبر لذائذ الدنيا، لذة الوصال، لا تدوم الا نصف دقيقة، فعلم أنها ليست الا مثالا من لذات الآخرة، انها لقمة من الطعام تذوقها، فان اعجبك اشتريت منه فأكلت حتى شبعت. انها نموذج تجاري[2]، تراه فان ارتضيته طلبت البضاعة. ان هذه اللذة التي لا تدوم الا نصف دقيقة، مثال مصغر للذات العالم الآخر، التي تدوم ابدا، والتي لا حد لها تقف عنده، والتي تبقى (لذة) دائما، لا تصير (عادة)، كما تصير اللذات في الدنيا عادات.



----------------------------------------------------------------------

[1] المثل العليا: نظرية لافلاطون معروفة (Idé alisme)، ومنها جاء قولهم: "شيء مثالي"، وهو (Idéal).

[2] النموذج التجاري: هو تعريف للاصطلاح الفرنسي: (Echantillon) وتلفظ: (اشانتيون)

اقتباس من كتاب تعريف عام بدين الإسلام الشيخ علي الطنطاوي

http://www.daawa-info.net/books1.php?parts=193&au=علي%20الطنطاوي