المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من الأصول العقلية لمعرفة الدين الحق



قتيبة
11-16-2008, 01:17 PM
من الأصول العقلية لمعرفة الدين الحق

سامر رشواني**


لم تزل مسألة العلاقة بين العقل والدين محل نظر علماء الكلام والفلاسفة؛ على اختلاف نحلهم ومذاهبهم منذ العهود الأولى للإسلام. ولم يزل البحث قائما عن أقوى الأدلة في الدلالة على وجود الخالق ووحدانيته، وعلى صدق النبوة والوحي.

وليس المقام هنا مقام بيان لهذه الأدلة وتفصيل لها. فذاك أمر يطول ذكره. ولا يستدعي السياق بسط القول فيها. إذ إننا بين يدي رسالة؛ تحمل أسئلة وشكوكا تعرض في فهم الدين عموما والإسلام خصوصا. ولا تكاد تمس بالبراهين الأساسية الدالة على فكرة الإله ووحدانيته وصدق النبوة عموما، ونبوة محمد خصوصا.

كما أن ما تحمله من تصورات عن العقل وطرق المعرفة واليقين؛ بحاجة لكثير من النظر والمراجعة. لما يلزم منها من محاكمة للدين من خلال مقدمات، يظن أنها عقلية وهي ليست كذلك.

ولا بد قبل الشروع في مناقشة ما جاء في هذه الرسالة من بيان أنها تحتوي على كثير من التفاصيل التي تستدعي النظر والمناقشة. ولكننا سنحاول التركيز على الحجج الأساسية التي تقوم عليها، والتي تدور في معظمها حول الشك (أو التشكيك) في صدق محمد، واعتبار الإسلام دين الحق، وإن كانت مقدمة الرسالة توحي بالتشكك في فكرة الدين عموما.

مشكلة اليقين

نحن بحاجة إلى أدلة ناصعة واضحة لا يختلف فيها اثنان ولا يمكن إنكارها. أن الأدلة الحسية "المعجزات المادية"؛ هي أقوى الأدلة على صدق نبوة النبي.

وبناء على هذا التصور فإن اختلاف الناس في صدق الدين (وهو هنا الإسلام)، وافتقاد رسول الله محمد إلى المعجزات الحسية، يعني أن دين الإسلام لا يقوم على أدلة يقينية كافية للإيمان به.

وفي مناقشة هذا التصور، لا بد من التمييز بين درجات العلم ومراتبه، كما شرحها علماء المنطق والمتكلمون والفلاسفة. إذ ميزوا بين نوعين من العلم:

- العلم الضروري الذي يلزم الإنسان باضطرار لا يمكنه دفعه أو إنكاره ولا يختلف فيه اثنان عاقلان. وينطبق هذا النوع من العلم على البديهيات والحدسيات والحسيات.

- والعلم الاستدلالي وهو الذي يستند إلى مقدمات بديهية أو حسية أو عقلية، ويركب منها نتائج تختلف عن هذه المقدمات، وتكون نتائجه محل نظر وفكر وقابلة للنقاش والرد. وقد تكون هذه النتائج يقينية، وقد لا ترقى لدرجة اليقين فتكون ظنية.

وعلى هذا، فهل يجب أن يكون العلم بصدق دين ما ضروريا؛ بحيث لا يمكن أن ينكره منكر أو يجحده عاقل؟ وهل يصح أن تكون أدلة صدق الدين بحيث يمكن أن يختلف فيها وينكرها منكر؟ ثم ما أثر وجود الإنكار والاختلاف على حقيقة هذه الأدلة وصدق الدين؟

لم يختلف أحد من علماء المسلمين وغيرهم في أن العلم بنفس محمد، وأنه كان بمكة وادعى النبوة، وأنه تحدى الناس بالقرآن دلالة على نبوته، من باب العلم الضروري الذي لا مجال لإنكاره أو جحده. كما لا يمكن إنكار وجود مدينة في الجزيرة العربية اسمها مكة، حتى ولو لم نر هذه المدينة أو نذهب إليها.

أما العلم بأن ما جاء به هذا النبي يعد دلالة كافية على صدق دعوته ورسالته. فهذا أمر نظري يدخل في باب العلم الاستدلالي القابل للأخذ والرد، حتى وإن كانت نتائجه قطعية يقينية.

وفي هذا السياق، لابد من التنبه لقاعدة مهمة: "لا يمتنع فيمن يعرف الشيء أن يلتبس عليه الطريق الذي به يعرفه"(1). إذ نجد كثيرا من الناس يظنون فيما يعلمونه بعقولهم أنه معلوم بالسمع. وفيما يعلمونه باضطرار أنه معلوم باكتساب واستدلال.

أما قضية وجود الإنكار والاختلاف في أدلة صدق الدين، وما يراه البعض في ذلك من خدش لنصاعة الدين ولأدلته المثبتة لصدقه وقطعيته. فإن ذلك مبني أيضا على تصور غير صحيح عن أصول المعرفة وقواعدها.

ذلك أن أحدا لا يمكنه خلق العلم في الغير. كما يمكن أن يخلق في لسانه الاعتراف. وإنما يمكنه التنبيه لكي يعرف. ثم إن الغرض الأصلي هو المعرفة. وليس الاعتراف أو الإنكار. فقد يصدق الدين ويؤمن به من لا يعرفه المعرفة الاستدلالية اليقينية من العوام والمقلدين. وقد ينكر المشاهدات والمعلومات بالضرورة منكر ما.

ولكن المعرفة في الحالتين قائمة. ولا يؤثر فيها إنكار منكر أو اعتراف معترف. وعلى هذا "لا تأثير للدعاوى الباطلة في الأمور الثابتة"(2). كما لا تأثير لدعاوى السوفسطائية في إثبات العقل والوجود وغيرها من الضروريات.

الأدلة الحسية "المعجزات المادية"

يظن كثير من الناس أن المعجزات المادية من الأدلة القاطعة، التي تلزم العلم الضروري لمشاهدها، بحيث يضطر إلى التصديق بها. وعليه فهي الطريق الأمثل لإثبات صدق النبوة ومعرفة النبي.

ولكن العلم الحاصل عن شهود المعجزات -في حقيقة الأمر- لا يخرج عن كونه علما استدلاليا غير ضروري. ذلك أن المعجزة تعترضها احتمالات عقلية مختلفة بالنسبة لشاهدها، وبالنسبة لمتلقي خبرها.

فهي بالنسبة لشاهدها قد تكون ضربا من السحر، أو التأثير النفسي، أو الخدع البصرية. ويزداد احتمال هذا النوع من التفكير عند من لا يعلم السحر وحدوده وإمكاناته. وهذا يفسر لنا وجه إصرار القرآن بشدة على رفض تقديم معجزات حسية للكفار؛ لأنهم ليسوا بأهل سحر يعرفون حدوده وإمكاناته، وما يميزه عن المعجزة الخارقة للعادة، الخارجة عن طاقة أي إنسان. يقول تعالى: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}.

ولكي تثبت هذه المعجزات لدى من يحتاج لأدلة أخرى، فإن ذلك يتطلب العلم الضروري بحدوثها. وإن كان لبعض علماء التاريخ المحدثين والأنتربولوجين تأويل لهذه الأخبار. يضعونها في سياق الأساطير الدينية والخيال الشعبي.

لهذا يشير القرآن بعد ذكره مطالبة الكفار الرسول بالآيات الحسية، إلى الأدلة الأقوى والأبقى على صدق الدين. وكأنه بذلك يؤكد الطابع الاستدلالي للآيات الحسية القابلة للجدل، ويصرف الذهن عنها إلى الآيات الكونية الدالة على وجود الخالق.

ولكن ما سر كل هذا التأكيد على اليقينية والنصاعة المطلقة لأدلة صدق الدين، ونفي المخالف والمنكر؟ هل يراد من ذلك أن يجعل العلم بالدين علما ضروريا لا يمكن لأحد جحده أو إنكاره. إذن لكان كل جاحد أو منكر له معدودا في إطار المجانين. ولارتفع بذلك التكليف أساسا ولم يبق له من مبرر!. يقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99)(3).

ثم هناك تصور لا أصل له يقوم في أذهان بعض الناس وهو أن الله قد ترصد من لم يصل إلى الحقيقة بعذاب شديد في الآخرة. وهذه فكرة لا أساس لها من الصحة: بل عكسها هو الصحيح. فكل من أخلص في نفسه البحث عن الحقيقة، وبذل في ذلك جهده فإنه لا بد مثاب من عند الله. بغض النظر عن وصوله إلى الحقيقة من عدمها حتى ولو كانت هذه الحقيقة هي الإسلام نفسه.

ولا يمثل واقع المؤمنين أي دليل على أحقية دين ما أو بطلانه. فليس تقدم مجتمع ما دليلا على أن الدين الذي يعتنقه صحيح وحق، والعكس بالعكس. فليس هناك أي رابط تفسيري أو عقدي بين الأمرين. بل إن القرآن يربط ذلك باتباع سنن الله في عمارة الكون: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}. ولا يعد التقدم والتفوق المادي خصيصة أو مزية من مزايا الأمة المؤمنة على سواها.

الدين والعقل

إن معظم الشبهات التي تقوم في مواجهة الإسلام، والتي جاءت الرسالة على ذكر طرف منها، تقوم على قاعدة أو تصور جاء ذكره فيها وهو: "أن النظريات والحقائق العلمية دائما يكفي لإبطالها نقيض واحد، وكذلك الدين". ولكن هذا التصور غير صحيح لأمرين:

الأول: أن علماء الطبيعة لا يعترفون بهذه القاعدة ولا يتبعونها. بل إن الحقيقة العلمية تبقى كذلك حتى يطرد في نظرهم خلافها. أما أن توجد ظاهرة واحدة مخالفة فإن ذلك غير كاف لنقض الحقيقة. ولكنهم ينطلقون يبحثون عن العناصر المجهولة التي تفسر هذه الظاهرة دون أن تكون ناقضة لأصل الحقيقة.

ومن جهة أخرى، فإن الدين لا يقاس هنا على الحقائق العلمية. ذلك أن محل المخالفة المفترضة فيه؛ لا توجد إلا في إطار نصي. وهذا الإطار النصي قابل لتفسيرات وتأويلات مختلفة، توافق الأصول العامة للدين، ولا تستدعي الاعتقاد بنقض الدين من أساسه.

ثم إنه إذا ثبت فيما سبق أن الاستدلال العقلي هو طريق معرفة صدق النبي والدين الحق. وتوصل الإنسان من خلاله إلى التأكد من صدق نبي الإسلام وصحة دعوته. ثم تراءى له بعد ذلك أن أمورا موجودة في دين الإسلام تخالف العقل من حيث:

- التناقض في داخل الدين.

- اختلاف الدين مع الحقائق العلمية.

فما أثر ذلك على إيمانه بجملة الدين؟ هل يدفعه ذلك لإعادة النظر في صدق هذا الدين والتشكيك فيه؟ هنا لا بد لنا من العودة إلى أحد أصول التفكير المنطقي التي تقوم على: "أن أدلة العقول لا يمكن أن تتصادم".

بمعنى أنه إذا توصل العقل إلى إثبات حقيقة ما مثل الجاذبية الأرضية. فإن حصول ظواهر أخرى تخالف هذه الحقيقة لا ينكرها. ولكنه يدفعنا إلى النظر في تفسير هذه الظواهر المستجدة، ومحاولة فهمها.

وبناء على هذا إذا ثبت لدى المرء صدق الدين بالأدلة الكافية الوافية؛ فإنه سيجعل ذلك حكما فيما يأتيه عنه من أخبار وأحاديث. أي أن الأصل موافقة تفاصيل الدين لجملته وأصله، وأي تفصيل أو فرع يتصور خلافه له فلابد من النظر فيه:

- برده ونفي وجوده أساسا (تضعيف الخبر).

- بتأويله بما يتوافق مع أصول الدين.

لا بد من العلم بأن الأحاديث التي تخالف أصول الدين والثابت بالقرآن، مؤولة أو مردودة. فلا خلاف عند جميع العقلاء على أن القطعي مقدم على الظني، وأن المتواتر مقدم على الآحاد.

أما ما يقال عن التأويلات الجاهزة لمشكل الآيات أو الأحاديث؛ فهي لم تصبح جاهزة إلا بعد أن اشتغل بها العلماء منذ قرون بعيدة. وهو وصف ينطبق على الإشكالات المطروحة نفسها. إذ يصح وصفها بأنها إشكالات جاهزة. فقد كررها الطاعنون في الإسلام منذ زمن طويل ولا يزالون.

الإسلام وغيره من الأديان

يثور كثيرا هذا التساؤل: هل الإسلام دين راعٍ للبشر جميعا حريص عليهم؟. لقد تميز الإسلام بأنه رسالة عامة للبشر كافة على اختلاف أجناسهم وألوانهم وعروقهم وأصولهم. وذلك على خلاف أديان سابقة جاءت خاصة لقوم أو قبيلة أو عرق أو نحو ذلك من الأطر الخاصة.

ولا يمكن لعاقل يعرف الإسلام أن يقول إن الإسلام غير حريص على هداية البشر كافة إلى طريق الرشاد، وآيات القرآن في ذلك أكثر من أن تحصى. هذا من ناحية أصل الدعوة وأساسها.

أما من ناحية الأحكام التشريعية الخاصة بمعاملة غير المسلمين فهي لا تخرج عن المقاصد الكلية التي جاء بها الإسلام. من حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر وحرمة الدم والمال على المسالمين والمعاهدين. ولا يمكن التعامل مع النصوص التي تتصل بهذه المسائل بشكل انتقائي اجتزائي. بل لا بد من نظرة كلية تشمل جميع النصوص المتصلة بالموضوع.

أما من تجاوز ونقض عهده وذمته فلا يمكن القول إنه ينبغي غض الطرف عنه ومسامحته باعتبار أن الإسلام دين مسالم!. والقتال الذي يصور على أنه إرغام للناس على دخول الدين إنما شُرع أساسا لضمان حرية الناس في اتباع الأديان التي يختارونها طوعا: {ولولا دفع الله الناس}.

وليس التاريخ الإسلامي حجة على الإسلام في شيء. فقد وجدت فيه صفحات مضيئة شاهدة بالعدل والمساواة. كما وجدت فيه صفحات أخرى معتمة خرج فيها الحكام والأمراء عن أحكام الإسلام واتبعوا أهوائهم.

ثم إنه لا يمكن نسبة كل ما فعله اليهود أو المسيحيون في تاريخهم من فظائع إلى أديانهم. وإلا قلنا إن المسيحية دين الحرب والقتل؛ بالرغم من أن نصوصا في الإنجيل تطالب بتطبيق أقصى درجات التسامح والعفو عن الظالمين.

الهوامش:

(1) القاضي عبد الجبار، المغني، مجلد 16.

(2) كما أن وجود علماء مسلمين يحملون معتقدات تخالف الحقائق العلمية لا يبرر تحميل الدين تبعة آرائهم. وهم بأي حال قلة شاذة بل نادرة.

(3) ورد ذكر هذه الآية بعد الآيات التي ترفض مطالبة الرسول بالمعجزات الحسية.


-----------------------------------------

** باحث سوري؛ يمكنكم التواصل معه عبر بريد الصفحة tazkia@iolteam.com.

http://www.islamonline.net/arabic/In...rticle04.shtml

لينة
12-07-2008, 02:24 PM
للرفع

ناصر الشريعة
12-07-2008, 10:47 PM
جزاكم الله خيرا.

هناك بعض الملاحظات على ما ورد في هذه المقالة:


وبناء على هذا التصور فإن اختلاف الناس في صدق الدين (وهو هنا الإسلام)، وافتقاد رسول الله محمد إلى المعجزات الحسية، يعني أن دين الإسلام لا يقوم على أدلة يقينية كافية للإيمان به.قوله هذا يوهم إنكار معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية، وهي كثيرة ثابتة، مبينة في كتب دلائل النبوة.
فإن قصد أنها غير محسوسة لنا الآن، فما وجه تخصيصه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك دون بقية الأنبياء والرسل الذين أيدهم الله بالمعجزات الحسية؟!!


وعلى هذا، فهل يجب أن يكون العلم بصدق دين ما ضروريا؛ بحيث لا يمكن أن ينكره منكر أو يجحده عاقل؟ وهل يصح أن تكون أدلة صدق الدين بحيث يمكن أن يختلف فيها وينكرها منكر؟ ثم ما أثر وجود الإنكار والاختلاف على حقيقة هذه الأدلة وصدق الدين؟هنا خلط بين برهانية الدين، وبين الإنكار المجرد عن الدليل، فلا يلزم من وجود الدليل أن يسلم به الخصم، إذ هناك الاستكبار والعناد الذي يدفع الخصم إلى إنكار الحجة وعدم الاعتراف بها، وهذا ما ذكره كاتب المقالة في موضع آخر!!


أما العلم بأن ما جاء به هذا النبي يعد دلالة كافية على صدق دعوته ورسالته. فهذا أمر نظري يدخل في باب العلم الاستدلالي القابل للأخذ والرد، حتى وإن كانت نتائجه قطعية يقينية.هنا ملاحظة ستتكرر في مواضع أخرى، وهي أن العلم الضروري إما أن تكون الضرورة في أصله أو في نتيجته، فأما الأول فهو كالعلم بالبديهيات، وأما الثاني فهو أن تكثر الأدلة في العلم النظري الاستدلالي حتى يكون مجموعها سببا لحصول العلم الضروري بنتيجتها.
فإذا علم هذا، تبين أن العلم الصحيح بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كاف في الدلالة على صدق دعوته ورسالته، وهو أمر موجب للعلم الضروري وإن كان الطريق إليه هو النظر الاستدلالي.


ولكن العلم الحاصل عن شهود المعجزات -في حقيقة الأمر- لا يخرج عن كونه علما استدلاليا غير ضروري. ذلك أن المعجزة تعترضها احتمالات عقلية مختلفة بالنسبة لشاهدها، وبالنسبة لمتلقي خبرها.العلم الحاصل بالمعجزات بعد مشاهدتها ومعاينتها وتصورها علم ضروري لكونها معجزة يقطع العقل بعجز البشر عن الإتيان بمثلها، ومجرد التشكيك وتطريق الاحتمالات لا ينفي ضروريتها، كما أن تشكيكات السفسطائيين في البدهيات الضرورية لا يزيلها عن ضروريتها.
وفي كلام كاتب المقالة ما يوهم إنكاره للمعجزات الحسية، وأرجو أن لا يكون هذا مقصده، فإن إنكار المعجزات مخالف للحق، وهي لوثة عقلية أصابت مدرسة اللاعقلانيين المنهزمين أمام صدمة الحضارة المادية المبنية على شفا جرف هار من الكفر والفساد.


وهذا يفسر لنا وجه إصرار القرآن بشدة على رفض تقديم معجزات حسية للكفار؛ لأنهم ليسوا بأهل سحر يعرفون حدوده وإمكاناته، وما يميزه عن المعجزة الخارقة للعادة، الخارجة عن طاقة أي إنسان. يقول تعالى: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}.زعم الكاتب أن القرآن رفض تقديم معجزات حسية، وهذا كلام باطل، فقد ذكر القرآن الكريم الكثير من المعجزات الحسية للعديد من الأنبياء، وذكر من الدلائل الحسية لصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم الكثير أيضا، وأما الذي اشتبه على كاتب المقالة فيما يبدو فهو رد القرآن الكريم على اقتراحات المشركين للمعجزات والآيات، فإن هناك فرقا بين ما يؤيد الله به أنبيائه من المعجزات الحسية والمعنوية، وبين ما يقترحه المشركون على الله ورسوله من الآيات والمعجزات، إذ اقتراحات المشركين ليست إلا استهزاء وعنادا للحق، وإعراضا عن المعجزات البينة التي شاهدوها وقامت عليهم الحجة بها.



ولكي تثبت هذه المعجزات لدى من يحتاج لأدلة أخرى، فإن ذلك يتطلب العلم الضروري بحدوثها. إن العلم الضروري بحصول المعجزات ثابت من طرق أعظم من ثبوت حوادث التاريخ الأخرى، فقد توافر على نقلها الصادقون الثقات دون حصر لأعدادهم، أعظم مما نقلت أحداث الدول والشعوب الأخرى.
كما أن الاستدلال على ثبوت القرآن الكريم الذي هو معجزة معنوية خالدة يفيدنا علما ضروريا بصحة وقوع تلك المعجزات، وكذلك الأمر في المعجزات الحسية المتواترة عن نبينا صلى الله عليه وسلم.


وكأنه بذلك يؤكد الطابع الاستدلالي للآيات الحسية القابلة للجدل، ويصرف الذهن عنها إلى الآيات الكونية الدالة على وجود الخالق.يبدو أن الكاتب كما سبق يذهب إلى إنكار المعجزات الحسية، وهذا قول باطل مخالف للقرآن الكريم والسنة النبوية، أو هو على أقل تقدير يشكك في صحة الاحتجاج بها، وهذا تشكيك باطل سبق الكلام عليه.


ولكن ما سر كل هذا التأكيد على اليقينية والنصاعة المطلقة لأدلة صدق الدين، ونفي المخالف والمنكر؟ هل يراد من ذلك أن يجعل العلم بالدين علما ضروريا لا يمكن لأحد جحده أو إنكاره. إذن لكان كل جاحد أو منكر له معدودا في إطار المجانين. ولارتفع بذلك التكليف أساسا ولم يبق له من مبرر!يخلط الكاتب هنا بين ضرورية المعرفة الناشئة عن الاستدلال النظري، وبين الإنكار المجرد عن الاستدلال، وهذا ما سبق التنبيه عليه آنفا.


ثم هناك تصور لا أصل له يقوم في أذهان بعض الناس وهو أن الله قد ترصد من لم يصل إلى الحقيقة بعذاب شديد في الآخرة. وهذه فكرة لا أساس لها من الصحة: بل عكسها هو الصحيح. فكل من أخلص في نفسه البحث عن الحقيقة، وبذل في ذلك جهده فإنه لا بد مثاب من عند الله. بغض النظر عن وصوله إلى الحقيقة من عدمها حتى ولو كانت هذه الحقيقة هي الإسلام نفسه.
هنا تقصير واضح في عرض الفكرة، أو أنه خطأ في فهم الكاتب لهذه المسألة الدقيقة، ذلك أن الباحث عن الحقيقة إذا توفر فيه شرطان هما الإخلاص وبذل الجهد لمعرفة الحقيقة فإنه سيصل إليها، إلا إذا تخرمته المنية أو عرض له عارض منعه من معرفة الحق، فإنه يكون حينئذ معذورا لا يعذب بمجرد حاله في الدنيا. ويصير حكمه كحكم أهل الفترة الذين يمتحنون في عرصات القيامة فيظهر فيهم علم الله بحالهم لو كانوا عرفوا الحق في الدنيا أكانوا سيؤمنون أم لا.
وقول كاتب المقالة أنهم يثابون بمجرد سعيهم في معرفة الحق غير صحيح، لأن المثوبة مشروطة بالإيمان، والكلام هنا عن من لم يؤمن رغم بحثه عنه، فكيف يقال بإثابته مع عدم القول بإيمانه؟!!
وهذا يدل على خلط الكاتب بين المسائل وعدم تحقيقه لها تحقيقا يوثق به، وهذه مشكلة الكتابات الصحفية التي يكتبها غير المتخصصين، وإن كان بعضهم قد يكون على ثقافة واسعة بأمور أخرى متنوعة.



ولا يمثل واقع المؤمنين أي دليل على أحقية دين ما أو بطلانه. فليس تقدم مجتمع ما دليلا على أن الدين الذي يعتنقه صحيح وحق، والعكس بالعكس. فليس هناك أي رابط تفسيري أو عقدي بين الأمرين. بل إن القرآن يربط ذلك باتباع سنن الله في عمارة الكون: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}. ولا يعد التقدم والتفوق المادي خصيصة أو مزية من مزايا الأمة المؤمنة على سواها.
هذا الكلام إنما يصح عندما لا يكون المجتمع متمثلا لدينه ومعتقده ومذهبه، أما إذا كان المجتمع متمثلا لدينه ومعتقده ومذهبه على أتم ما يكون فإنه يمكننا حينها أن نربط بين تقدم المجتمع وتأخره وأثر الدين والمعتقد والمذهب في ذلك.
ولهذا يصح أن نحتج على صحة الإسلام برقي الحضارة الإسلامية حين كان الدين يقودها ويوجهها ويحكمها.
ويصح أن نحتج على بطلان الشيوعية بتدهور المجتمعات التي طبقتها حين كانت الشيوعية قائدة لها وموجهة وحاكمه.
ويصح أن نحتج على بطلان المادية الغربية بتدهور المجتمعات أخلاقيا حين كانت المادية هي القائدة الموجهة الحاكمة لها.
ولا يصح أن يحتج أحد على الإسلام بتخلف بعض المسلمين اليوم نتيجة لابتعادهم عن الإسلام وعدم امتثالهم أحكامه، بل العكس هو الصحيح.
وبهذا نعلم أن ما ذكره الكاتب لا يصح إلا في حالات مخالفة المجتمع لمعتقده ودينه، ورغم ذلك فقد نستنبط من هذه الحالة أيضا علاقة صحيحة كما هو في حالة ضعف المسلمين كلما ابتعدوا عن الإسلام.



إن معظم الشبهات التي تقوم في مواجهة الإسلام، والتي جاءت الرسالة على ذكر طرف منها، تقوم على قاعدة أو تصور جاء ذكره فيها وهو: "أن النظريات والحقائق العلمية دائما يكفي لإبطالها نقيض واحد، وكذلك الدين". ولكن هذا التصور غير صحيح لأمرين:ما ذكره الكاتب هنا لا يصح الاعتراض به على تلك القاعدة المذكورة، فإن إثبات النقيض كاف لإبطال الشيء، إذا كان إثبات النقيض إثباتا صحيحا، ولو استعمل الكاتب لفظ (الضد) في القاعدة، لكان لكلامه وجه من الصواب، فإنه لا يلزم من إثبات الضد نفي الشيء ولا إبطاله، والتفريق بين النقيض والضد مهم جدا في هذه المسالة.


ومن جهة أخرى، فإن الدين لا يقاس هنا على الحقائق العلمية. ذلك أن محل المخالفة المفترضة فيه؛ لا توجد إلا في إطار نصي. وهذا الإطار النصي قابل لتفسيرات وتأويلات مختلفة، توافق الأصول العامة للدين، ولا تستدعي الاعتقاد بنقض الدين من أساسه.قوله أن الإطار النصي قابل لتفسيرات وتأويلات مختلفة، من التمييع الفكري واللغوي، فإن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية في غاية البيان والوضوح، وما يذكره أكثر المفسرين ليس من قبيل اختلاف التضاد وإنما التنوع، واختلاف التضاد يتبين فيه الراجح من المرجوح بيسر وسهولة، وما تعسر أمره يكون في مسائل فرعية يسوغ فيها الاختلاف، دون أن يكون هناك أي مصادمة للعقل الراجح والفهم الصائب.
والتفسير والتأويل له ضوابط كثيرة، وقواعد مهمة وليس أمرا مستباحا يتجرأ عليه الجهال، ويخوض فيه من لا علم له ولا بصيرة، ولا بد من التأكيد على هذا المعنى حتى لا يقع بعض الجهلة في مهاوي التأويل الباطل بمجرد التشهي والنظر الفارغ من التدبر الصحيح.


وبناء على هذا إذا ثبت لدى المرء صدق الدين بالأدلة الكافية الوافية؛ فإنه سيجعل ذلك حكما فيما يأتيه عنه من أخبار وأحاديث. أي أن الأصل موافقة تفاصيل الدين لجملته وأصله، وأي تفصيل أو فرع يتصور خلافه له فلابد من النظر فيه:

- برده ونفي وجوده أساسا (تضعيف الخبر).

- بتأويله بما يتوافق مع أصول الدين.لا بد هنا لتجنب كثير من إشكاليات الفهم والتطبيق أن ينبه على أمر مهم وهو المعرفة المتقنة للتعامل مع النصوص المتعارضة، إذ لا يوجد تعارض حقيقي بين نصوص الوحي، وإنما التعارض في فهم الناظر لا في النص، وطرق دفع التعارض كثيرة جدا، ولا بد من دراستها وتعلمها، وأما القفز إلى تضعيف الأخبار أو تأويلها فهي طريقة الضعفاء في العلم أو المخالفين في العقيدة، حيث يضعون أصولا وقواعد يستدلون عليها ببعض الوحي، ثم يضعفون ما يعارضها من الوحي أو يحرفونه بدعوى التأويل.
وهذا من أخطر المناهج المنحرفة في التعامل مع نصوص الوحي في القرآن الكريم والسنة النبوية.
فإن تضعيف الأخبار له علم عظيم مختص به، وهو علم الحديث، فلا يصح التضعيف بمجرد التعارض هكذا دون دراسة الحديث حسب ضوابط وقواعد علم الحديث رواية ودراية.
ولا يصح تأويل الخبر لمجرد توهم التعارض، وإنما لا بد من دراسة جميع النصوص والجمع بينها والنظر في فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم لهذه النصوص، وحينها يستبين المعنى ويتضح المراد.



(1) القاضي عبد الجبار، المغني، مجلد 16.لعل كاتب المقالة تأثر بكتابات القاضي عبد الجبار المعتزلي، فكان من ذلك ما كتبه في هذا المقال، وهذا يفسر إنكاره للمعجزات الحسية أو تشكيكه في صحتها، وعدم إدراكه للمعرفة الضرورية الناشئة عن الاستدلال النظري عند تضافر الأدلة واتضاح صورة المسألة للباحث، وجعله تضعيف الأخبار وتأويلها وسيلة لرد ما يخالف العقل من نصوص الوحي!!

هذه بعض الملاحظات المختصرة حول ما جاء في هذه المقالة، ذكرتها حتى لا يغتر أحد بما جاء في المقالة من المخالفات، وإن كان فيها بعض النقاط الجيدة التي يستفاد منها، ولكن خلط فيها الحق بالباطل والصواب بالخطأ، والله المستعان.

قتيبة
12-07-2008, 11:08 PM
أستاذي الفاضل ناصر الشريعة حفظك الله


جزاك الله خيرا على اثراء الموضوع والتصحيح المفيد

اختي الكريمة فرح شكرا على المرور