قتيبة
11-17-2008, 05:48 AM
الدعوة إلى الله - تعالى - بين الاحتساب والاكتساب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع الدعوة إلى الله بين الاحتساب والاكتساب الدعاة فيه بين طرفين ووسط، فمنهم من جعل الدعوة وسيلة للاكتساب وقد لا يهتم بالاحتساب أو يضعف في الدعوة أو يهمل في حين قل المكتسب من قبل الجهة المسئولة عن دعوته، وطرف في المقابل يطالب نفسه أو غيره من الدعاة ليحمل نفسه ما لا تطيق، فينهى عن الاكتساب أو أن يأخذ مالاً، ويرغب من الآخرين ألا يلتفتوا إلى المال ويوصيهم بالاحتساب مهما كانت الظروف والأحوال.
والوسط بين ذلك في أن يجعل الداعية دعوته في كل حركاتها وسكناتها وفي توجهاته لله - سبحانه وتعالى -، ولا مانع لديه في أن يأخذ شيئاً من المال ليصلح به حياته وحتى لا يضيع من يعول وحتى لا يمد يده إلى الناس، فالداعية ينبغي أن يكون معطياً لا آخذاً باذلاً لا ممسكاً، حتى سئل بعض سلفنا لماذا يعمل بالتجارة -ولعله ابن المبارك- فقال: من أجلكم عملت بالتجارة. وسئل آخر فقال: لولا التجارة وإلا لتمندل بنا هؤلاء يعني الحكام.
إذن: هناك احتساب وهناك اكتساب وهناك التقاء وافتراق بينهما، وهذا ما أحب أن أضعه بين يدي إخواني الدعاة كنصيحة وإثارة للموضوع لأهميته في نظري.
وسنتناول هذا الموضوع في ثلاثة جوانب:
* أهمية الاحتساب في الدعوة إلى الله - تعالى - وأثره في الدعوة.
* أهمية الاكتساب والزهد في الدنيا.
* بيان العلاقة بين الاكتساب والاحتساب في الدعوة إلى الله - تعالى -.
1) أهمية الاحتساب في الدعوة إلى الله - تعالى - وأثره في الدعوة:
الدعوة إلى الله - تعالى - من القرب العظيمة والموصلة إلى رضوان الله - تعالى -، فبها يُعرف الناس بالله وبدينهم وبالمهمة التي خلقوا من أجلها، وبها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتم إصلاح المجتمعات؛ ولهذا لا بد من إخلاص النية.
والمقصود بالإخلاص: تخليص العمل من كل شوائب الشرك والرياء، وأن يراد بالعمل وجه الله - سبحانه وتعالى - والأجر عنده، ولا يلتفت إلى أي مخلوق كائناً من كان، ولا إلى حب المحمدة أو المال أو الجاه عند الناس.
الإخلاص به ترتفع الهمم إلى المعالي والتفكير بكل ما يجعل الداعية مسارعاً في الخيرات، وهو قاعدة التغيير وبه يبدأ.
قال الحسن البصري: "ما سبق أبو بكر من سبقهم بكثرة العمل وإنما بشيء وقر في قلبه"، والإخلاص به يصح العمل عند الله وبه تزداد الأجور.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا: « فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة » [البخاري: (5/2380) (6126)، مسلم: (1/118) (131) عن ابن عباس]، قال ابن حجر في الآية: "[مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {الأنعام: 160}. يقتضي اختصاصه بالعامل لقوله - تعالى -: [مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ]. والمجيء بها هو العمل، وأما الناوي فإنما ورد أنه يكتب له حسنة، ومعناه يكتب له مثل ثواب الحسنة، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة، والعلم عند الله تعالى".
والنية والإخلاص تجعل الداعية في عمل دائب لا يهن ولا يحزن، بل يحدو به في الترقي في المعالي ولو لم يكن قادراً على أدائها، فالنية مكان رحب للتنافس سواء قدر أم لا، فيفتح بالنوايا الحسنة على نفسه باب الرجاء من رب رحيم، ثم يعينه ويفتح عليه من خزائنه.
وبالإخلاص يفتح القبول في قلوب الناس، وتفتح آفاق جديدة في الدعوة، وبالإخلاص تزداد الابتكارات والإبداعات في مجال الدعوة، فالذي يريد الآخرة لا يقف عند وسيلة دعوية محددة.
وبصدق النية تفرج الشدائد، وتزول الكروب، وتصرف عن الداعية قوارع الدهر وتقلب الأيام وتسلط الأعداء كما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم صخرة وهم في الغار.
2) أهمية الاكتساب والزهد في الدنيا:
أمر الشرع بطلب الرزق المباح وعده عبادة، ونهى عن سؤال الناس فعن المقدام - رضي الله عنه - مرفوعاً: « ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده » [البخاري: (2/730) (1966)].
وعلى الداعية ألا يتحرج من أي عمل شريف يدر له رزقاً حسناً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً « ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال الصحابة: وأنت؟ قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة » [البخاري: (2/789) (2143)].
والداعية عليه أن يقدر طاقاته وينظر ما هو العمل الذي يسد احتياجاته، وإن تطلب توفير بعض المستلزمات كالترقي في العلم أو القدرة الإدارية أو سعة الأفق في الدعوة، فعليه أن يبادر قبل فوات الأوان وإلا صار في ضائقات مالية لا تحمد عقباها.
والدعوة إلى الله - تعالى -تحتاج إلى المال لنصرتها، وهي اليوم أحوج ما تكون إلى ما يغنيها عن سؤال التبرعات من الناس وكثرة التطواف عليهم.
فالدعاة مطالبون بحمل الدعوة أكثر من أن تحملهم حتى لا نصل جميعاً إلى طريق مسدود، وتربية الشباب على العمل، وإضافة أعضاء جدد يحملون الدعوة لا أن يكونوا عالة عليها.
الداعية له مصادر دخل متعددة ومنها المؤسسة الخيرية التي يتبعها وهي مصدر وفرت الجهد والتعب على الدعاة، وما على الدعاة إلا الالتزام ببرامجها والسعي إلى تطوير أدائها والوقوف معها فهي منه وإليه، ويكفي مرحلة التفرج على القائمين عليها كما هو حاصل عند الكثير؛ لأن الضرر الذي سيكون على المؤسسة إنما يعود على الدعوة وعلى الدعاة على حد سواء.
والداعية مطالب بتنوع المصادر عليه أن يعلم أن الزهد في الدنيا والرضا بالقليل وعدم ازدراء النعم وعدم التطلع لما عليه أصحاب الدنيا هو المعول عليه فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربط الحجر والحجرين على بطنه من شدة الجوع، ومات ودرعه مرهون عند يهودي، وأثر الحصير في جنبه، وما ذلك إلا ليعلمنا كيف نتعامل مع الدنيا وكيف نتأسى به.
3) بيان العلاقة بين الاحتساب والاكتساب في الدعوة إلى الله - تعالى -:
فالاحتساب في الدعوة أن يبتغي الأجر من الله - تعالى - ويخلص في ذلك لله - تعالى -، ولا مانع من أخذ الأجرة مقابل عمله لا لأنه دعا إلى الله - تعالى - من حيث أنه قربة، ولكنه لأنه علم الناس وتفرغ لذلك وحبس وقته واحتاج إلى إنفاق على نفسه وعلى من يعول.
فالأجر ليس منصباً على الدعوة ابتداءً إنما ينصب على الأثر المتعدي لنفع الناس وتعليمهم أمر دينهم.
والشريعة تجيز وتبيح الأجر الدنيوي من غير أن يقصده العامل منفرداً عن الأجر الأخروي الذي يناله من الله - سبحانه وتعالى -.
فالصلاة، قال عنها - صلى الله عليه وسلم -: « أرحنا بها يا بلال » [أبو داود: (2/715) (4985)]، وهو أثر دنيوي.
والزكاة، قال فيها: « ما نقص مال من صدقة » [مسلم: (4/2001) (2588)، الترمذي: (4/376) (2029) عن أبي هريرة]، علامة على زيادته وبركته، وهو أثر دنيوي.
والحج، قال الله فيه: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ..] {البقرة: 198} قال المفسرون: التجارة، وهي أثر دنيوي.
والتقوى، قال الله فيها: [.. وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.. ] {الطَّلاق}، وهو أثر دنيوي.
والداعية حين يقوم بالدعوة ويكتسب من خلال دعوته ينبغي أن يجعل همه دائماً الأجر من الله - تعالى -، ولا يفكر أن دعوته مقابل ما يعطي، فإن زيد زاد وإن انقص نقص، بل عليه أن يجعلها في وتيرة واحدة وفي ازدياد مطرد، وما كان من عسر سيأتي الله بالفرج من بعده.
روى الترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعاً: « من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ».
وعلى الداعية أن يراجع احتسابه إن غلب جانب الاكتساب ومصالحه على حساب دعوته ومنهجه ومبادئه؛ لأنه يفكر في الاكتساب فحسب، فلما علم أنه لا يزيد إلا بذبح مبادئه على مشرحة الدنيا ضحى بها وليكن ما يكون، ومستعد أن يجادل وأن يقطب وجهه في وجه من ينكر عليه، ويبحث عن المسوغات المقبولة لديه، ويمني نفسه أنه على الحق، ولكن: [بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)] {القيامة}. وقلة المال المكتسب أو ضيق الحال لا يحل أبداً للداعية أن يتخلى عن مبادئه إلا إذا ضعف احتسابه وإخلاصه في عمله.
يضعف عند بعض الدعاة جانب الإخلاص ويغلب عليه جانب الاكتساب فإذا ما حوسب على عمله أحسن في عمله، وإذا ما ترك أو لم يلتفت إليه وانصرف وراء لهوه وشغله وكسله، وبررت له أعذاره في ترك الدعوة والإهمال فيها، ولو صدقت النية ما كان ذلك ليكون، ولو صدقت المراقبة لله لكان الداعية في دعوته في ترقٍ وفي ابتكار بدلاً من الارتكاس والتواني والكسل نسأل الله السلامة والعافية.
لا تفكر الجهات المسئولة على الدعوة في كثير من برامجها في الارتقاء في حال الدعاة مادياً بتنوع الموارد وبزيادة المكافآت المعقولة، وتعلق على شماعة الاحتساب وأن الدعاة مطالبون بها وهي كلمة حق، ولكن هذا لا يبرر عدم الاهتمام بتنمية الموارد وتوفير حاجات الدعاة حتى يقوموا بالدعوة كما ينبغي.
فعلي - رضي الله عنه - يقول: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".
والرسول - صلى الله عليه وسلم - كقيادة حكيمة وفر للمهاجرين المأوى والمال الكافي حتى يتفرغوا لمهمتهم في أداء الرسالة للناس فآخى بينهم وبين الأنصار، وما ذلك إلا لتحمل القيادة لأعباء المدعوين.
دخل محمد بن الحسن الشيباني بيته فقالت له جاريته: ليس في البيت دقيق، فقال: أطرت من رأسي أربعين مسألة في الفقه.
فالفقر يعطل المواهب ويقتل الإبداع ويشتت الذهن فعلى الجهات المسئولة:
- تنمية الموارد أكثر ومواكبة الظروف وتوفير الاحتياجات.
- وعليها تلمس حاجات الدعاة والاعتناء بذلك وجعلها من أوليات الاحتياجات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
نشر بموقع المختار الإسلامي نقلاً عن
المصدر : olamaa-yemen.net
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع الدعوة إلى الله بين الاحتساب والاكتساب الدعاة فيه بين طرفين ووسط، فمنهم من جعل الدعوة وسيلة للاكتساب وقد لا يهتم بالاحتساب أو يضعف في الدعوة أو يهمل في حين قل المكتسب من قبل الجهة المسئولة عن دعوته، وطرف في المقابل يطالب نفسه أو غيره من الدعاة ليحمل نفسه ما لا تطيق، فينهى عن الاكتساب أو أن يأخذ مالاً، ويرغب من الآخرين ألا يلتفتوا إلى المال ويوصيهم بالاحتساب مهما كانت الظروف والأحوال.
والوسط بين ذلك في أن يجعل الداعية دعوته في كل حركاتها وسكناتها وفي توجهاته لله - سبحانه وتعالى -، ولا مانع لديه في أن يأخذ شيئاً من المال ليصلح به حياته وحتى لا يضيع من يعول وحتى لا يمد يده إلى الناس، فالداعية ينبغي أن يكون معطياً لا آخذاً باذلاً لا ممسكاً، حتى سئل بعض سلفنا لماذا يعمل بالتجارة -ولعله ابن المبارك- فقال: من أجلكم عملت بالتجارة. وسئل آخر فقال: لولا التجارة وإلا لتمندل بنا هؤلاء يعني الحكام.
إذن: هناك احتساب وهناك اكتساب وهناك التقاء وافتراق بينهما، وهذا ما أحب أن أضعه بين يدي إخواني الدعاة كنصيحة وإثارة للموضوع لأهميته في نظري.
وسنتناول هذا الموضوع في ثلاثة جوانب:
* أهمية الاحتساب في الدعوة إلى الله - تعالى - وأثره في الدعوة.
* أهمية الاكتساب والزهد في الدنيا.
* بيان العلاقة بين الاكتساب والاحتساب في الدعوة إلى الله - تعالى -.
1) أهمية الاحتساب في الدعوة إلى الله - تعالى - وأثره في الدعوة:
الدعوة إلى الله - تعالى - من القرب العظيمة والموصلة إلى رضوان الله - تعالى -، فبها يُعرف الناس بالله وبدينهم وبالمهمة التي خلقوا من أجلها، وبها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتم إصلاح المجتمعات؛ ولهذا لا بد من إخلاص النية.
والمقصود بالإخلاص: تخليص العمل من كل شوائب الشرك والرياء، وأن يراد بالعمل وجه الله - سبحانه وتعالى - والأجر عنده، ولا يلتفت إلى أي مخلوق كائناً من كان، ولا إلى حب المحمدة أو المال أو الجاه عند الناس.
الإخلاص به ترتفع الهمم إلى المعالي والتفكير بكل ما يجعل الداعية مسارعاً في الخيرات، وهو قاعدة التغيير وبه يبدأ.
قال الحسن البصري: "ما سبق أبو بكر من سبقهم بكثرة العمل وإنما بشيء وقر في قلبه"، والإخلاص به يصح العمل عند الله وبه تزداد الأجور.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا: « فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة » [البخاري: (5/2380) (6126)، مسلم: (1/118) (131) عن ابن عباس]، قال ابن حجر في الآية: "[مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {الأنعام: 160}. يقتضي اختصاصه بالعامل لقوله - تعالى -: [مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ]. والمجيء بها هو العمل، وأما الناوي فإنما ورد أنه يكتب له حسنة، ومعناه يكتب له مثل ثواب الحسنة، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة، والعلم عند الله تعالى".
والنية والإخلاص تجعل الداعية في عمل دائب لا يهن ولا يحزن، بل يحدو به في الترقي في المعالي ولو لم يكن قادراً على أدائها، فالنية مكان رحب للتنافس سواء قدر أم لا، فيفتح بالنوايا الحسنة على نفسه باب الرجاء من رب رحيم، ثم يعينه ويفتح عليه من خزائنه.
وبالإخلاص يفتح القبول في قلوب الناس، وتفتح آفاق جديدة في الدعوة، وبالإخلاص تزداد الابتكارات والإبداعات في مجال الدعوة، فالذي يريد الآخرة لا يقف عند وسيلة دعوية محددة.
وبصدق النية تفرج الشدائد، وتزول الكروب، وتصرف عن الداعية قوارع الدهر وتقلب الأيام وتسلط الأعداء كما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم صخرة وهم في الغار.
2) أهمية الاكتساب والزهد في الدنيا:
أمر الشرع بطلب الرزق المباح وعده عبادة، ونهى عن سؤال الناس فعن المقدام - رضي الله عنه - مرفوعاً: « ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده » [البخاري: (2/730) (1966)].
وعلى الداعية ألا يتحرج من أي عمل شريف يدر له رزقاً حسناً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً « ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال الصحابة: وأنت؟ قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة » [البخاري: (2/789) (2143)].
والداعية عليه أن يقدر طاقاته وينظر ما هو العمل الذي يسد احتياجاته، وإن تطلب توفير بعض المستلزمات كالترقي في العلم أو القدرة الإدارية أو سعة الأفق في الدعوة، فعليه أن يبادر قبل فوات الأوان وإلا صار في ضائقات مالية لا تحمد عقباها.
والدعوة إلى الله - تعالى -تحتاج إلى المال لنصرتها، وهي اليوم أحوج ما تكون إلى ما يغنيها عن سؤال التبرعات من الناس وكثرة التطواف عليهم.
فالدعاة مطالبون بحمل الدعوة أكثر من أن تحملهم حتى لا نصل جميعاً إلى طريق مسدود، وتربية الشباب على العمل، وإضافة أعضاء جدد يحملون الدعوة لا أن يكونوا عالة عليها.
الداعية له مصادر دخل متعددة ومنها المؤسسة الخيرية التي يتبعها وهي مصدر وفرت الجهد والتعب على الدعاة، وما على الدعاة إلا الالتزام ببرامجها والسعي إلى تطوير أدائها والوقوف معها فهي منه وإليه، ويكفي مرحلة التفرج على القائمين عليها كما هو حاصل عند الكثير؛ لأن الضرر الذي سيكون على المؤسسة إنما يعود على الدعوة وعلى الدعاة على حد سواء.
والداعية مطالب بتنوع المصادر عليه أن يعلم أن الزهد في الدنيا والرضا بالقليل وعدم ازدراء النعم وعدم التطلع لما عليه أصحاب الدنيا هو المعول عليه فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربط الحجر والحجرين على بطنه من شدة الجوع، ومات ودرعه مرهون عند يهودي، وأثر الحصير في جنبه، وما ذلك إلا ليعلمنا كيف نتعامل مع الدنيا وكيف نتأسى به.
3) بيان العلاقة بين الاحتساب والاكتساب في الدعوة إلى الله - تعالى -:
فالاحتساب في الدعوة أن يبتغي الأجر من الله - تعالى - ويخلص في ذلك لله - تعالى -، ولا مانع من أخذ الأجرة مقابل عمله لا لأنه دعا إلى الله - تعالى - من حيث أنه قربة، ولكنه لأنه علم الناس وتفرغ لذلك وحبس وقته واحتاج إلى إنفاق على نفسه وعلى من يعول.
فالأجر ليس منصباً على الدعوة ابتداءً إنما ينصب على الأثر المتعدي لنفع الناس وتعليمهم أمر دينهم.
والشريعة تجيز وتبيح الأجر الدنيوي من غير أن يقصده العامل منفرداً عن الأجر الأخروي الذي يناله من الله - سبحانه وتعالى -.
فالصلاة، قال عنها - صلى الله عليه وسلم -: « أرحنا بها يا بلال » [أبو داود: (2/715) (4985)]، وهو أثر دنيوي.
والزكاة، قال فيها: « ما نقص مال من صدقة » [مسلم: (4/2001) (2588)، الترمذي: (4/376) (2029) عن أبي هريرة]، علامة على زيادته وبركته، وهو أثر دنيوي.
والحج، قال الله فيه: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ..] {البقرة: 198} قال المفسرون: التجارة، وهي أثر دنيوي.
والتقوى، قال الله فيها: [.. وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.. ] {الطَّلاق}، وهو أثر دنيوي.
والداعية حين يقوم بالدعوة ويكتسب من خلال دعوته ينبغي أن يجعل همه دائماً الأجر من الله - تعالى -، ولا يفكر أن دعوته مقابل ما يعطي، فإن زيد زاد وإن انقص نقص، بل عليه أن يجعلها في وتيرة واحدة وفي ازدياد مطرد، وما كان من عسر سيأتي الله بالفرج من بعده.
روى الترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعاً: « من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ».
وعلى الداعية أن يراجع احتسابه إن غلب جانب الاكتساب ومصالحه على حساب دعوته ومنهجه ومبادئه؛ لأنه يفكر في الاكتساب فحسب، فلما علم أنه لا يزيد إلا بذبح مبادئه على مشرحة الدنيا ضحى بها وليكن ما يكون، ومستعد أن يجادل وأن يقطب وجهه في وجه من ينكر عليه، ويبحث عن المسوغات المقبولة لديه، ويمني نفسه أنه على الحق، ولكن: [بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)] {القيامة}. وقلة المال المكتسب أو ضيق الحال لا يحل أبداً للداعية أن يتخلى عن مبادئه إلا إذا ضعف احتسابه وإخلاصه في عمله.
يضعف عند بعض الدعاة جانب الإخلاص ويغلب عليه جانب الاكتساب فإذا ما حوسب على عمله أحسن في عمله، وإذا ما ترك أو لم يلتفت إليه وانصرف وراء لهوه وشغله وكسله، وبررت له أعذاره في ترك الدعوة والإهمال فيها، ولو صدقت النية ما كان ذلك ليكون، ولو صدقت المراقبة لله لكان الداعية في دعوته في ترقٍ وفي ابتكار بدلاً من الارتكاس والتواني والكسل نسأل الله السلامة والعافية.
لا تفكر الجهات المسئولة على الدعوة في كثير من برامجها في الارتقاء في حال الدعاة مادياً بتنوع الموارد وبزيادة المكافآت المعقولة، وتعلق على شماعة الاحتساب وأن الدعاة مطالبون بها وهي كلمة حق، ولكن هذا لا يبرر عدم الاهتمام بتنمية الموارد وتوفير حاجات الدعاة حتى يقوموا بالدعوة كما ينبغي.
فعلي - رضي الله عنه - يقول: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".
والرسول - صلى الله عليه وسلم - كقيادة حكيمة وفر للمهاجرين المأوى والمال الكافي حتى يتفرغوا لمهمتهم في أداء الرسالة للناس فآخى بينهم وبين الأنصار، وما ذلك إلا لتحمل القيادة لأعباء المدعوين.
دخل محمد بن الحسن الشيباني بيته فقالت له جاريته: ليس في البيت دقيق، فقال: أطرت من رأسي أربعين مسألة في الفقه.
فالفقر يعطل المواهب ويقتل الإبداع ويشتت الذهن فعلى الجهات المسئولة:
- تنمية الموارد أكثر ومواكبة الظروف وتوفير الاحتياجات.
- وعليها تلمس حاجات الدعاة والاعتناء بذلك وجعلها من أوليات الاحتياجات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
نشر بموقع المختار الإسلامي نقلاً عن
المصدر : olamaa-yemen.net