المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحكمة في مخلوقات الله



زاد المعاد
01-20-2009, 08:26 AM
الحكمة في مخلوقات الله
للإمام أبى حَامِد الغزالي
تحقــيــق
الدكتور محمَّد رشيد قبّاني





مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي جعل نعمته في رياض جنان المقربين ، وخص بهذه الفضيلة من عباده المتفكرين .. وجعل التفكر في مصنوعاته وسيلة لرسوخ اليقين في قلوب عباده المستبصرين .. استدلوا عليه سُبحانه بصفته فعلِموه .. وتحققوا أن لا إله إلا هو فوحَّدوه .. وشاهدوا عظمته وجلاله فنزَّهوه .. فهو القائم بالقسط في جميع الأحوال .. وهم الشهداء على ذلك بالنظر والإستدلال .. فعلموا أنه الحكيم القادر العليم كما قال في كتابه الكريم " شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { 18} "آل عمران .
والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وإمام المُتقين ، محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه وشرَّف وكرَّم إلى يوم الدين .
أما بعد ،،،
فاعلم يا أخي وفقك الله توفيق العارفين ، وجمع لك خير الدنيا والدين ، أنه لما كان الطريق إلى معرفة الله سبحانه التعظيم له في مخلوقاته ، والتفكر فى عجائب مصنوعاته ، وفهم الحكمة في أنواع مبتدعاته ، وكان ذلك هو السبب لرسوخ اليقين ، وفيه تفاوت درجات المُـتَّقين ، وضعت هذا الكتاب لعقول أرباب الألباب ، بتعريف وجوه من الحِكم والنعم التي يشير إليها معظم آي الكتاب ، فإن الله تعالى خلق العقول ، وكــمَّــل هُـداها بالوحي ، وأمر أربابها بالنظر في مخلوقاته ، والتفكر والاعتبار بما أودعه من العجائب في مصنوعاته ، لقوله سُبحانه " قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ {101}" يونس وقوله " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {30}" الأنبياء .. إلى غير ذلك من الآيات البينات ، والدلالات الواضحات ، التي يفهمها كل ذي عقل سليم .. والترقي في اختلاف معانيها يعــظَّـــم المعرفة بالله سبحانه .. التي هي سبب السعادة .. والفوز بما وعد به عباده من الحُسنى وزيادة .
وقد بوّبته أبواباً يشتمل كل باب منها على ذكر وجه الحكمة من النوع المذكور فيه الخلق وذلك حسب ما تنبهت له عقولنا فيما أشرنا إليه ، مع أنه لو اجتمع جميع الخلائق على أن يذكروا جميع ما خلق الله سبحانه وتعالى وما وضع من الحكم في مخلوق واحد من مخلوقاته لعجزوا عن ذلك .
وما ادركته الخلائق من ذلك هو ما وهب الله سبحانه لكل منهم ، وما سبق له من ربه سبحانه ، والله المسئول أن ينفعنا به برحمته وجوده ..


الإمام الغزالي

زاد المعاد
01-20-2009, 08:31 AM
الباب الأول

" التفكر في خلق السماء وفي هذا العالم "


قال تعالى " أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ {6} " ق ، وقال سبحانه " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {12 } " الطلاق .

إعلم رحمك الله

إنك إذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبني .. الـمُعَـدَّ فيه جميع ما يُحتاج إليه .. فالسماء مرفوعة كالسقف .. والأرض ممدودة كالبساط .. والنجوم منصوبة كالمصابيح .. والجواهر مخزونة كالذخائر .. وكل شيء من ذلك مُعد مُهيأ لِشأنهِ .. والإنسان كالملك للبيت .. المخول لما فيه .. فضروب النبات لمآربه .. وأصناف الحيوانات مصرّفة في مصالحة .. فخلق سبحانه السماء .. وجعل سبحانه لونها أشد الألوان موافقة للأبصار وتقوية لها .. ولو كانت أشعة وأنواراً لأضرت الناظر إليها .. فإن النظر إلى الخضرة والزرقة موافق للأبصار .. وتجد النفوس عند رؤية السماء فى سعتها نعيماً وراحة .. لا سيما إذا انفطرت نجومها وظهر نور قمرها .

والملوك تجعل في سقوف مجالسها من النقش والزينة ما يجد الناظر إليه به راحة وانشراحاً .. لكن إذا داوم الناظر إليه نظره وكرره مــلـَّـه .. وزال عنه ما كان يجده من البهجة والانشراح .. بخلاف النظر إلى السماء وزينتها .. فإن الناظر إليها من الملوك فمن دونهم إذا ضجروا من الأسباب المضجرة لهم يلجأون إلى ما يشرحهم من النظر إلى السماء وسعة الفضاء ..
وقد قالت الحكماء : يحذوك عندك من الراحة والنعيم في دارك بمقدار ما عندك فيها من السماء والله عزوجل يقول " إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {6 } " الصافات ، وقوله تعالى " وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ {16} "سورة الحجر.
وفيها أنها حاملة لنجومها المرصعة ولقمرها .. وبحركتها سير الكواكب فيهتدي بها أهل الأفاق .. وفيها طرق لا تزال توجد آثارها من المغرب والمشرق .
ولا توجد مجردة ولا مقبلة في صورة نور .. وقيل إنها " الكواكب " أنجم صغار متكاثفة مجتمعة .. يهتدي بها على السير من ضل .. وينظر في أي جهة كانت فيقصدها .. وقيل انها المشار إليها في قوله تعالى " وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ {7} " الذاريات ، قيل : " الْحُبُكِ " الطرق ، وقيل : ذات الزينة .
فهي دلائل واضحة تدل على فاعلها .. وصنعته محكمة صَمديَّة تدل على سعة علم بارئها .. وأمور ترتيبها تدل على إرادة منشئها .. فسبحان القادر العالـِم المريد .
وقيل في النظر إلى السماء عشر فوائد .." تُنقص الهم ، وتُقلــَّل الوسواس ، وتزيل وهم الخوف ، وتــذكر بالله ، وتنشر فى القلب التعظيم لله ، وتزيــل الفكر الرديئة ، وتنفع لمرض السوداء ، وتسلــَّي المشتاق ، وتؤنِس المحبين ، وهي قبلة دعاء الداعين ".

زاد المعاد
01-20-2009, 08:37 AM
الباب الثاني

" حكمة خلق الشمس "


قال سبحانه وتعالى " وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا {16} " نوح
إعلم

أن الله سبحانه وتعالى خلق الشمس لأمور لا يستكمل علمها إلا الله وحده .. فالذي ظهر من حكمته فيها .. أن جعل حركاتها لإقامة الليل والنهار في جميع أقاليم الأرض .. ولولا ذلك البطل أمر الدنيا والدين .. أو لولاه كيف كان الناس يسعَون في معايشهم ..؟
ويتصرفون في أمور لهم والدنيا مظلمة عليهم ..؟
وكيف كانوا يتهنـَّون بالعيش مع فقدهم لذة النور ومنفعته ..؟
ولولا ضياء نورها ما انتُـفــِع بالأبصار ولم تظهر الألوان .
وتأمل غروبها وغيبتها عمن طلعت عليهم وما في ذلك من الحكمة .. ولولاه لم يكن للخلق هدوء ولا قرار مع شدة حاجتهم إلى الهدوء .. وراحة أبدانهم .. وخمود حواسهم .. وانبعاث القوة الهاضمة لهضم طعامهم .. وتفنيد الغذاء .
ثم كان به الحرص لحملهم على مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم مكانته في أبدانهم .. فإن أكثر الحيوانات لولا دخول الليل ما هدءوا ولا قرّوا .. من حرصهم على نَيل ما ينتفعون به .
ثم كانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس واتصاله حتى يحترق كل ما عليها من الحيوانات والنباتات .. فهي بطلوعها في وقت وغروبها في وقت .. بمنزلة سراج لأهل بيت .. يستضاء به ليهتدوا ويقروا .
وهي في حرها بمنزلة نار يطبخ بها أهل الدار .. حتى إذا كمل طبخهم واستغنوا عنها .. أخذها من جاورهم وهو يحتاج إليها فينتفع بها .. حتى إذا قضى حاجته منها سلمها لآخرين .. فهي أبداً منصرفة في منافع أهل الأرض بتضاد النور والظلمة .. وهما على تضادهما متعاونين على ما فيه صلاح العالم وقوامه .. وإلى هذه القضية الإشارة بقوله تعالى " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ {71} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {72} " القصص .
ثم بتقدمها وتأخرها تستقيم الفصول .. فيستقيم أمر النبات والحيوان .. ثم انظر إلى مسيرها في فلكها في مدة سنة .. وهى تطلع كل يوم وتغرب بسير آخر سُخَّـر لها بتقدير خالقها .. فلولا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار .. ولما عُرفـِت المواقيت .
ولو انطبق الظلام على الدوام لكان فيه الهلاك لجميع الخلق .. فانظر كيف جعل الله الليل سكناً ولباساً .. والنهار معاشاً .. وفي ذلك يقول الله تعالى " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا {10} وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا {11} وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا {12} " النبأ .
وانظر إلى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل .. وادخاله الزيادة والنقصان عليهما على الترتيب المخصوص وفي ذلك يقول الله تعالى " يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ {13} سورة فاطر " ويقول سبحانه " إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ {6}" يونس .
.. فإذا انخفضت من وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء .. وإذا استوت وسط السماء اشتد القيظ .. وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان .. فيستقيم بذلك أمر النبات والحيوان بإقامه هذه الأزمنة الأربعة من السنة .
وأما في ذلك من المصلحة
ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر والنبات .. فتتولد فيه مواد الثمار .. ويستكشف الهواء فينشأ منه السحاب والمطر .. وتشتد أبدان الحيوان .. وتقوى أفعال الطبيعة .
وفي الربيع تتحرك الطبائع في المواد المتولدة في الشتاء .. فيطلع النبات بإذن الله .. وينوَّر الشجر .. وتهيج أكثر الحيوانات للتناسل .
وفي الصيف يخمر الهواء فينضج الثمار .. وتنحلَّ فضول الأبدان .. ويجف وجه الأرض .. فتتهيأ لما يصلح لذلك من الأعمال .
وفي الخريف يصفوا الهواء .. فترتفع الأمراض .. ويمتد الليل فيعمل فيه بعض الأعمال .. وتحسن فيه الزراعة .. وكل ذلك يأتي على تدريج وبقدر .. حتى لا يكون الأنتقال دفعة واحدة .. إلى غير ذلك مما يطول لو ذكر .
فهذا مما يدل على تدبيره الحكيم العليم وسعة علمه .. ثم تفكر في تنقل الشمس في هذه البروج لإقامة دورة السنة .. وهذا الدور هو الذي يجمع الأزمنة الأربعة " الشتاء ، والصيف ، والربيع ، والخريف " .. وتسير على التمام .
وفي القدر من دوران الشمس تدرك الغلات والثمار وتنتهي غاياتها .. ثم تعود فتستأنف وقت السير .. وبمسيرها تكمل السنة .. ويقوم حساب السنة .. على الصحة على التاريخ بتقدير الحكيم العليم .
تأمل إشراق الشمس على العالم كيف دبره تبارك وتعالى .. فإنها لو بزغت في موضع واحد لا تعدوه لما وصل شعاعها إلى جهة واحدة .. وخلت عنها جميع الجهات .. فكانت الجبال والجدران تحجبها عنها .. فجعلها سبحانه تشرق بطلوعها أول النهار من المشرق .. فيعم شروقها ما يقابلها من جهة المغرب .. ثم لا تزال تدور وتغشي جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغرب على ما أستتر عنها أول النهار .. فلا يبقى موضع حتى يأخذ بقسطه منها .
ثم انظر إلى مقدار الليل والنهار .. كيف وقتهما سبحانه على ما فيه صلاح العالم .. فصار بمقدارٍ لو تجاوزاه لأضــرَّ بكل ما على وجه الأرض من حيوان ونبات .. أما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر ما دام يجد ضوء النهار .. وكانت البهائم لا تمسك عن الرعي فيئول أمرها إلى تلفها .. وأما النبات فتدوم عليه حرارة الشمس وتوهجها فيجف ويحترق .. وكذلك الليل لو امتد مقداره أيضاً لكان معوقاً لأصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش .. وتجمدت الحرارة الطبيعية من النبات فيعفن ويفسد .. كالذي يحدث إذا كان الموضع لا تقع الشمس عليه .

زاد المعاد
01-20-2009, 08:41 AM
الباب الثالث
"في حكمة خلق القمر والكواكب "


قال الله سبحانه وتعالى " تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا {61} " الفرقان.
إعلم أن الله سبحانه وتعالى لما جعل الليل لبرد الهواء .. وهدوء الحيوان وسكونه .. لم يجعله سبحانه ظلمة داجية لا ضياء فيها البتة .. إذ لا يمكن أن يعمل عملاً فيه .. وربما احتاج الناس إلى بعض أعمالهم في الليل .. إما لضرورة أو لضيق وقت عليهم من النهار .. وقد يقع ذلك لشدة حرارة .. أو لغيره من الأسباب .
فكان ضوء القمر في الليل من جملة ما نحتاج إليه في المعونة على ذلك .. فجعل طلوعه في بعض الليالي .. وينقص نوره عن نور الشمس وحرها .. لئلا ينشط الناس في العمل نشاطهم في النهار .. فينعدم ما به ينعمون من الهدوء والقرار .. فيضر ذلك بهم .
وجعل في الكواكب جزءاً من النور يُستعان به إذا لم يكن ضوء القمر .. وجعل الكواكب زينة السماء .. وأُنساً وانشراحاً لأهل الأرض .. فما ألطف هذا التدبير .
وجعل للظلمة دولةً ومدةً للحاجة إليها .. وجعل خلالها النجوم .. فأنظر من النور ليكمل به ما أحتيج إليه .
ثم في القمر علم الشهور والسنين .. وهو صلاح ونعمة من الله " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {5} " يونس وقوله تعالى " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً {12} "الإسراء.
ثم في النجوم مآرب أخرى .. فإن فيها دلائل وعلامات على أوقات كثيرة لعمل من الأعمال .. كالزراعة والغراسة .. والإهتداء بها في السفر في البر والبحر .. وأشياء مما تحدث الأنواء والحر والبرد .. وبها يهتدى السَّيارون في ظلمة الليل .. وقطع القفار الموحشة .. واللــُّجَـج السائلة .. كما قال الله تعالى " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {97} "الأنعام ..
مع ما في ترددها في السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من البهجة والنضارة .
وفي تعريف القمر .. خاصة استهلاله ومحاقه .. وزيادته ونقصانه .. واستنارته وكسوفه ..كل ذلك دلالات على قدرة خالقها المصرف لها هذا التصرف لإصلاح العالم لقوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ {189} "البقرة .
ثم انظر دوران الفلك بهذه الكواكب في كل يوم وليلة دوراناً سريعاً .. وسيرها معلوم مشاهد .. فإنا نشاهدها طالعة وغاربة .. ولولا سرعة سيرها لما قطعت هذه المسافة البعيدة في أربع وعشرين ساعة .. فلولا تدبير الباري سبحانه بارتفاعها حتى خفي عنا شدة مسيرها في فلكها .. لكانت تتخطــَّف بتوهجها الأبصار لسرعة حركتها .. كالذي يحدث أحياناً من البروق إذا توالت في الجو .. ( فانظر لطف الباري سبحانه فى تقدير سيرها في البعيد البعيد كيلا يحدث من سيرها حادث لا يحتمل مقدرة في جميع الأحوال على قدر الحاجة ).
وانظر في هذه التي تظهر في بعض السنة .. وتحتجب في بعضها .. مثل الثريا والجوزاء والشعرى .. فإنها لو كانت كلها تظهر في وقت واحد لم يكن لشيء منها دلالة على جهالة تعرفها الناس ويهتدون بها .. فكان في طلوع بعضها في وقت واحد دون الآخر ما يدل على ما ينتفع به الناس عند طلوعه مما يصلحهم فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس للطرق المجهولة في البر والبحر .. فإنها لا تغيب ولا تتوارى .
ثم انظر لو كانت واقفة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقلات المتنقلة منها ومصيرها في كل واحد من البروج .. كما يستدل على أشياء تحدث في العالم بتنقل الشمس والقمر في منازلهما .. ولو كانت متنقلة كلها لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه .. لأنه إنما يعرف مسير المتنقلة منها بتنقلها في البروج الدانية .. كما يعرف سير السائر في الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها فقد صار هذا الفلك شمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على هذا العالم بهذا دوراناً دائماً في الفصول الأربعة من السنة لصلاح ما فيه من حيوان ونبات وغير ذلك بتقدير العزيز العليم .
ومن عظيم الحكمة خلق الأفلاك التي بها ثبات هذا العالم على نهاية الإتقان لطول البقاء وعدم التغير .. فقد كـُفِـيَ الناس التغير في هذا الأمر الجليل.. الذي ليس قدره ولا حيلة في إصلاحه .. ولو نزل به تغيُّر أمراً في الأرض .. إذ قوام الأرض مرتبط بالسماء .. فالأمر في جميع ذلك ماض على قدرة الباري سبحانه لا يختل ولا يعتل ولا يتخلف منه شيء عن ميقاته لصلاح العالم فسبحان العليم القدير .

زاد المعاد
01-20-2009, 09:05 AM
الباب الرابع
" في حكمة خلق الأرض "


قال الله تعالى "وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ {48} "الذاريات .
وقال تعالى " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ {16} "الأنبياء .
فانظر كيف جعل الله الأرض مهاداً ليستقر عليها الحيوان .. فإنه لا بد له من مستقر .. ولا غنى له عن قوت .. فجميع الأرض محل للنبات لقوته .. ومسكن يكنـّه من الحر والبر .. ومدفن يدفن فيه ما تؤذي رائحَـتُـهُ والجِــيَـف والأقذار من أجسام بني آدم وغيرها .. كما قال سبحانه " أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا {25} أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا {26} " المرسلات ،
وقيل في تفسير هذه الآية ( الكفات من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه ، والمعنى في هذه الآية أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها ) لابن كثير .
ثم ذلل طرقها لينتقل فيها الخلقُ لطلب مآربهم .. فهي موضوعة لبقاء النسل من جميع أصناف الحيوان ، والحرث ، والنبات .
وجعل فيها الإستقرار والثبات كما نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا {31} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {32} مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {33}" النازعات..
فأمكن الخلائق بهذا .. السفر فيها في مــآربهم .. والجلوس لراحتهم .. والنوم لهدوئهم .. والإنتقال لأعمالهم .. فإنها لو كانت رجراجة لم يستطيعوا أن يتقنوا شيئاً من النبات وجميع الصناعات .. وكانوا لا يتهنـّون بالعيش والأرض ترتجّ بهم من تحتهم .. واعتبر ذلك بما يصيب الناس في الزلازل .. ترهيباً للخلق .. وتخويفاً لهم .. لعلهم يتقون الله وينزعون عن الظلم والعصيان .. فهذا أيضاً من الحكمة البالغة ..
ثم إن الأرض طبعها الله باردة يابسة بقدر مخصوص .. أرأيت لو أفرط اليبس عليها حتى تكون بجملتها حجراً صلداً لما كانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوانات ولا كان فيها حرث ولا بناء .. فجعل لينها لتتهيأ لهذه الأعمال .
ومن الحكمة في خلقها ووضعها أن جعل مهب الشمال أرفع من الجنوب .. لينحدر الماء على وجه الأرض فيسقيها ويرويها ثم يصير إلى البحر في آخر الأمر .. فاشتبه ذلك ما إذا رفع أحد جانبي السطح وخفض الآخر لينحدر الماء عنه .. ولولا ذلك لبقي الماء مستبحراً على وجه الأرض .. فيمتنع الناس من أعمالهم .. وتنقطع الطرق والمسالك بسبب ذلك .
أنظر إلى ما خلق الله من المعادن .. وما يخرج منها من أنواع الجواهر المختلفة في منافعها وألوانها .. مثل الذهب والفضة والياقوت والزمرد وأشياء كثيرة من هذه الأحجار الشفافة المختلفة في ألوانها .. وأنواع أخرى مما يصلح للأعمال والجمال .. كالحديد والنحاس والقزدير والرصاص والكبريت والزرنيخ والتوتيا والرخام والجبس والنفط .. وأنواع لو عددت لطال ذكرها .
وهو ما ينتفع به الناس وينصرف فيما يصلحهم .. فهذه نعم يسَّرها سبحانه وتعالى لهم لعمارة هذه الدار .
ثم انظر إلى إرادة إجادة عمارتها وانتفاع العباد فيها .. يجعلها هــشّة سهلة .. بخلاف ما لو كانت على نحو خلق الجبال .. فلو يبست كذلك لتعذرت .. فإن الحرث لا يستقيم إلا مع رخو الأرض لزراعة الأقوات والثمر .. وإلا فلا يتعدى الماء إذا صلبت إلى الحب.. مع أن الحب لا يمكن دفنه إلا بعد أن تلين الأرض بالندواة .. ويمكن إذ ذاك عملها وتحريكها حتى تشرب ما ينزل عليها من الماء .. فيخلق الله سبحانه عند ذلك العروق متلبسة بالثرى .. حتى يقف الشجر والنبات على ساقه .. وقد جعل ما يخلق من العروق يوازن ما يخلق من الفروع .
ومن رحمته في لينها أن يسَّر للناس حفر الآبار في المواضع المحتاجة إلى ذلك .. إذ لو حفرت في الجبال لصعب الأمر وشق .
ومن الحكمة فى لينها تيسير السير للــسُّعاة فيها .. إذ لو صلبت لعسر السير ولم تظهر الطرق .. وقد نبه الله تبارك وتعالى على ذلك بقوله "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ {15} "الملك ، وقال تعالى "وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ {31} " الأنبياء.
ومن ذلك ما يستعين به العباد من ترابها ولينها في البناء .. وعمل اللــَّبــِن وأواني الفخار وغير ذلك .
والمواضع التي ينبت فيها الملح والشب ، والبورق والكبريت .. أكثرها تربة رخوة .. وأيضاً أجناس من النبات لا يوجد إلا في التراب والرمل دون الأرض المَحـِلة ( يقال أرض محلة أي مجدبة ليس فيها مرعى ولا كلأ ).
ويخلق فيها كثير من الحيوان لسهولة صغرها فيتخذون فيها مسارب ( أي طريق ) ، وبيوتاً يأوون إليها .
ومن الحكمة فيها خلق المعادن كما ذكرنا ، فقد امتنَّ الله سبحانه على سليمان عليه السلام بقوله " وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ {12} " سبأ.. أي سهلت له الإنتفاع بالنحاس .. وأطلعناه على معدنه ، وقال امتناناً على عباده " وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ { 25 }" الحديد ، والنزول بمعنى الخلق كما قال سبحانه " وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ {6 }" الزمر أي وخلق .
وقد ألهمهم استخراج ما فيها من ذهب وفضة وغير ذلك ، لمنافعهم وما يحتاجون إليه في معاشهم ، وفي اتخاذ أوانيهم ، وفي ضبطها ما يحتاجون إلى ضبطه وتقويته ، واتخاذ أنواع الحجارة النفيسة لتبقى فيها كالزجاج ، ويتخذون منها أواني لحفظ ما يحصل فيها من الأمور النفيسة لتبقى فيها سليمة لوقت الإحتياج إليها ، إذ لا غنى لهم عنها ، وكذلك يستخرج من المعادن الأكحال ، مثل >> الدهبنج والمرفنعنا << والسادن>> والتوتيا << ، وغير ذلك من أصناف ينتفعون بها ، فسبحان المنعم الكريم .
ومن الحكمة البالغة فيها خلق الجبال .. قال الله تعالى " وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {32}" النازعات وقال تعالى "وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا " النحل وقال جل وعلا " وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ {18} " المؤمنون .
فقد خلق سبحانه فيها الجبال لمنافع متعددة ، لا يحيط بجميعها إلا الله .
فمن ذلك .. أن الله تعالى أنزل من السماء المياه لـُيحي بها العباد والبلاد .. فلو كانت الأرض عارية عن الجبال لحكم عليها الهواء وحر الشمس مع رخو الأرض .. فكانوا لا يجدون المياه إلا بعد حفر وتعب ومشقة .. فجعل سبحانه الجبال لتستقر في بطونها المياه.. وتخرج منها أولاً بأول .. فتكون منها عيون وانهار وبحار .. يرتوي بها العباد في أيام القيظ إلى أوان نزول غيث السماء .
وفي الجبال ما ليس في باطنها محل للمياه .. فجعل سبحانه الثلج محفوظاً على ظاهرها إلى أن يحله حر الشمس .. فيكون منه أنهار وسواقٍ يـُنتفَع بها إلى أوان نزول الغيث أيضاً .
ومنها ما يكون فيه برك يستقر فيها الماء .. فيؤخذ منها وينتفع به .
ومن منافع الجبال ما ينبت فيها من أنواع الأشجار والعقاقير التي لا توجد إلا فيها .. وما ينبت فيها من أنواع الأخشاب العظيمة .. فيعمل منها السفن ، وتعمر منها المساكن ، وفيها الشَّعار ( تعنى كثرة الشجر بالأرض ) التي لا يوجد ما يعظم من الأخشاب إلا فيها .. وكذلك العقاقير أكثرها لا يوجد إلا بها .
وفيها وهاد تنبت مزارع للأنعام ، ومزارع لبني آدم ، ومساكن للوحوش ، ومواضع لأجل النحل .
ويتخذون مدافن لحفظ جثث الموتى .. وقد ذكر الله تعالى ذلك فقال " وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ {82} " الحجر.
ومن فوائد الجبال أنها جـُعلت أعلاماً يستدل بها المسافرون على الطرقات في نواحي الأرض .. ويستدل بها المسافرون في البحار على الموانيء والسواحل ..
ومن فوائدها أن الفئة القليلة الخائفة من عدوان من تطيقه تتخذ عليها ما يحصنهم ويؤمنهم ، ويمنعها ممن تخافه فتطمئن لذلك .
ثم انظر كيف خلق الله فيها الذهب والفضة ، وقدرهما بتقدير مخصوص ، ولم يجعل ذلك ميسراً في الوجود والقدر مع سعة قدرته وشمول نعمته ، كما جعل هذه السعة في المياه .
وما ذلك إلا لما سبق في علمه لخلائقه مما هو الأصلح كما أشار إلى ذلك بقوله سبحانه " وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ {21} " الحجر . فسبحان العليم الحكيم


يتبع بمشيئة العليم

زاد المعاد
01-21-2009, 03:59 AM
الباب الخامس

" في حكمة خلق البحر "



قال الله تبارك وتعالى " وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {14} " النحل .


إعلم رحمك الله ..

أن الله سبحانه وتعالى خلق البحار وأوسع فيها لعظم نفعها .. فجعلها مكتنفةً لأقطار الأرض التي هي قطعة من الأرض المستورة بالبحر الأعظم المحيط بجميع الأرض .. حتى أن المكشوف من البراري .. والجبال عن الماء بالإضافة إلى الماء كربوة صغيرة في بحر عظيم .
فاعلم أن ما يخلق فى الأرض من الحيوان بالإضافة إلى ما خلق في البحر كإضافة الأرض إلى البحر .. وقد شاهدت عجائب ما هو مكشوف منها .. فتأمل عجائب البحر .. فإن فيه من الحيوان والجواهر والطيب أضعاف ما تشاهده على وجه الأرض .. كما أن سعته أضعاف سعة الأرض .. ولعظم سعته كان فيه من الحيوانات والدواب العظيمة ما إذا أبدت ظهورها على وجه البحر ظن من يراها أنها حشاف ( الحشف هو تمر الذي يجف وييبس من غير نضج فلا يكون له لحم ).. وجبال أو جزائر .
وما من صنف من أصناف حيوان البر من إنسان ، وطائر ، وفرس ، وبقر .. وغير ذلك إلا وفي البحر أمثالها وأضعافها .
وفيه أجناس من الحيوانات لم تعهد أمثالها في البر .. وكل منها قد دبره الباريء سبحانه.. وخلق فيه ما يحتاجه ويصلحه .. ولو استقصى ذكر ما يحتويه بعضه لاحتاج إلى وضع مجلدات .
ثم انظر كيف الله اللؤلؤ مدوراً في صدف تحت الماء .. وأثبت المرجان في جنح صخور في البحر .. فقال سبحانه " يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ {22} " الرحمن ،.. وذلك في معرض الإمتنان وقيل المرجان المذكور في القرءان هو الرقيق من اللؤلؤ .. ثم قال " فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ {23} " الرحمن ، وآلاؤه : تفضله ونعمه .
ثم انظر ما يقذفه من العنبر وغيره من المنفوع ، ثم انظر إلى عجائب السفن ، وكيف مسكها على وجه الماء تسير فيها العباد لطلب الأموال ، وتحصيل ما لهم من الأغراض ، وجعلها من ءاياته ونعمته ، فقال جل وعلا " وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ " البقرة.
فجعلها بتسخيره تحملهم وتحمل أثقالهم .. وينتقلون بها من أقاليم إلى أقاليم لا يمكن وصولهم إليها إلا بالسفن .. ولوا راموا التوصل بغيرها لأدى إلى أعظم المشقات .. وعجزوا عن نقل ما يُنقل من المنقولات إلى بَعـُد من البلاد والجهات .
فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يلطف بعباده ويهون ذلك عليهم .. خلق الأخشاب متخلخلة الأجزاء بالهواء ليحملها الماء .. ويبقى فيها من الفضاء عن نفسها ما يحمل به الأثقال .. وألـهم العباد اتخاذها سفناً .. ثم أرسل الرياح بمقادير .. في أوقات تسوق السفن وتسيـَّرها من موضع إلى موضع آخر .. ثم ألـهم أربابها معرفة أوقات هبوبها وفترتها .. حتى يسيروا بالرياح التي تحمل شراعها .
وانظر إلى ما يسَّـره سبحانه في خلقه الماء .. إذ هو جسم لطيف رقيق سيـّال متصل الأجزاء كأنه شيء واحد .. لطيف التركيب .. سريع القبول للتقطيع .. حتى كأنه منفصل مسخـَّر للتصرف .. قابل للإتصال والإنفصال حتى يمكن سير السفن فيه ..
فالعجب ممن يغفل عن نعمة الله في هذا كله .. وفي بعضه متسع للفكر ..وكل ذلك شواهد متظاهرة ودلائل متضافرة وآيات ناطقة بلسان حالها .. مفصحة عن جلال بارءها ..
مُعربة عن كمال قدرته وعجائب حكمته قائلة : أما ترى تصويري وتركيبي وصفاتي واختلاف حالي وكثرة فوائدي ..؟
أيظن ذو لـب سليم .. وعقل رصين أني تلونت بنفسي ..؟
أو أبعدني أحد من جنسي ..؟

بل صنع القادر القهار .. العزيز الجبار





يتبع بمشيئة اللطيف الخبير

زاد المعاد
01-21-2009, 04:07 AM
الباب السادس

" في حكمة خلق الماء "


قال الله تعالى " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ " الأنبياء..؟ وقال سبحانه " وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ {60} " النمل .

أنظر وفقك الله ..

إلى ما مـنَّ به سبحانه وتعالى على عباده بوجود الماء العذب ، الذي به حياة كل من على وجه الأرض من حيوان ونبات ، فلو اضطر الإنسان إلى شربة منه ومنع منها لهان عليه أن يبذل فيها جميع ما يمكنه من خزائن الدنيا ، والعجب من غفلة العباد عن هذه النعمة العظيمة .
وانظر مع شدة الحاجة إليها كيف وسع سبحانه على العباد فيها .. ولو جعلها بقدر لضاق الأمر فيها .. وعظم الحرج على كل من سكن الدنيا .. ثم انظر لطافة الماء ورقته حتى ينزل من الأرض .. ويخلخل أجزاءها .. فتتغذى عروق الشجر .. ويصعد بلطافته بواسطة حرارة الشمس إلى أعالي الشجر والنبات .. وهو من طبعه الهبوط .
ولما كانت الضرورة تدعوا إلى شربة لإماعة الأغذية في أجواف الحيوان، لينصرف إلى موضعه ، جعل لشاربه في شربه لذة عند حاجته إليه ، وقبوله به ، ويجد شاربه فيه نعيماً وراحة .
وجعله مزيلاً للأدران عن الأبدان ، والأوساخ عن الثياب وغيرها .
وبالماء يبل التراب فيصلح للبناء والأعمال .. وبه يرطب كل ما يبس مما لا يمكن استعماله يابساً .. وبه ترق الأشربة فيسوغ شربها .. وبه تطفأ عاذبة النار .. وإذا وقع فيها فلا تلتهب فيه إذا ما أشرف الناس منها على ما يكرهون .. وبه تزول الغصـَّة إذا أشرف صاحبها على الموت .. وبه يُـغــْْْتَـسَـل التعب فيجد صاحبه الراحة لوقته .. وبه تستقيم المطبوخات .. وجميع الأشياء التي لا تستعمل ولا تصلح إلا رطبة .. إلى غير ذلك من مآرب العباد التي لا غنى لهم عنها .
فانظر في عموم هذه النعمة .. وسهولة تناولها مع الغفلة عد قدرها .. ومع شدة الحاجة إليها .. فلو ضاقت لكدرت الحياة في الدنيا .. فعلم بهذا أن الله تبارك وتعالى أراد بإنزاله وتيسيره عمارة الدنيا بما فيها من حيوان ونبات ومعدن .. إلى غير ذلك من المنافع التي يقصر عنها لمن يروم حصرها >> فسبحان المتفضل العظيم .



يتبع بمشيئة العزيز الرحيم

زاد المعاد
01-21-2009, 04:18 AM
الباب السابع

" في حكمة خلق الهواء "


قال الله تعالى " وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ {22}" الحجر.

إعلم رحمك الله ..

أن الهواء في خلقه تتخلله الرياح ، ولولا ذلك لهلك جميع حيوان البر ، وبإستنشاقه تعتدل الحرارة في أجسام جميع الحيوانات ، لأنه لهم مثل الماء لحيوان البحر ، فلو انقطع عن الحيوان استنشاقه لانصرفت الحرارة التي في الحيوانات إلى قلبها ، فكان هلاكها بسبب ذلك .
ثم انظر إلى الحكمة فى سَوْْق السحاب به ، فيقطع المطر بانتقال المطر بانتقال السحاب إلى موضع يُحتاج إلى المطر فيه للزراعة ، فلولا لطف الباري بخلق الرياح لثقلت السحاب وبقيت راكدة في أماكنها ، وامتنع انتفاع الأرض بها .
ثم انظر كيف تسير السفن بها .. وتنتقل بحدوثها وهبوبها .. فتحمل ما فيها من أقاليم إلى أقاليم مما لم يخلق تلك الأشياء فيها .. فينتفع أهلها بها .. فلولا تنقلها بالهواء لم تكن تلك الأشياء بمواضعها التي خلقت فيها خاصة .. ولعـسـُـر نقلها بالدواب إلى غيرها من الأقاليم .. وللعباد ضرورات تدعوا إلى ما ينقل إليهم مما ليس عندهم .. ومنافع يكثر تعدادها من طلب أرباح لمن يجلبها ويعلم فوائدها .
ثم انظر إلى ما في الهواء من اللطافة والحركة التي تتخلل أجزاء العالم فيـُنـَـقــَّي بحركته عفن الأرض ، فلولاه لعفنت المساكن ، وهلك الحيوان بالوباء والعلل .
ثم انظر إلى ما يحصل منه من النفع في نقل السوافي والرمال إلى البساتين .. وتقوية أشجارها بما ينتقل إليها من التراب بسبب حركة الهواء .. وتستر وجوه جبال بالسافى .. فيمكن الزراعة فيه وما فضل إلى السواحل مما ينتفع الناس بسببه .. وكل ذلك بحركه هواء .. فيقذف البحر العنبر وغيره .. مما ينتفع به العباد في أمورهم .
ثم انظر كيف يتفرق المطر بسبب حركة الهواء ، فيقع على الأرض قطرات ، فلولا حركة الهواء لكان الماء عند نزوله ينزل انصبابة واحدة فيهلك ما يقع عليه ، ثم يجتمع بلل القطرات فيجتمع أنهاراً وبحاراً على وجه الأرض من غير تضرر ، ويحصل بذلك مقصودهم على أحسن وجه ، فانظر إلى أثر رحمة الله ، فسبحان اللطيف بخلقه ، المدبـَّر لملـكـه .
ثم انظر إلى عموم هذه الرحمة وعظيم نفعها .. وشمول هذه النعمة وجليل قدرها .. كما نبه العقول عليها بقوله تعالى " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ {10} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {11} " النحل.
ثم من تمام النعمة وعظيم الحكمة >> أن جعل سبحانه الصحو يتخلل نزول الغيث ، فصارا يتعاقبان لما فيه صلاح هذا العالم ، فلو دام واحد منهما عليه لكان فساداً .
ألا ترى إلى الأمطار إذا توالت وكثرت عفنت البقول والخضروات ، وهدمت المساكن والبيوت ، وقطعت السبل ومنعت من الأسفار ، وكثير من الحرف والصناعات ، ولو دام الصحو لجفت الأبدان والنبات وعفن الماء الذي فى العيون والأودية ، فأضر ذلك بالعباد ، وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضرراً آخر من الأمراض وغلت بسببه الأقوات ، وبطل المرعى ، وتعذر على النحل ما يجدونه من الرطوبة التي يرعاها على الأزهار .
وإذا تعاقبا ــ للصحو والمطر ــ على العالم اعتدل الهواء .. ودفع كل منهما ضرر الآخر .. فصلحت الأشياء واستقامت .. وهذا هو الغالب من مشيئة الله .
فإن قيل قد يقع من أحدهما ضرر في بعض الأوقات .. قلنا قد يكون ذلك لتنبيه الإنسان بتضاد الأشياء على نعمة الله وفضله ورحمته وأنه هو الغالب .
فيتحصل لهم بذلك انزجار عن الظلم والعصيان .. ألا ترى من سقم جسمه احتاج إلى ما يُلائمه من الأدوية الـبَـشـِعَـة الكريهة ليصلح جسمه .. ويصح ما يفسد منه .. قال الله تعالى " وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ {27} " الشورى


يتبع بإذن القدير البصير

زاد المعاد
01-21-2009, 04:48 PM
الباب الثامن
" في حكمة خلق النار "



قال الله تعالى " أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ {71} أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ {72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ {73} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {74}" الواقعة
.
إعلم وفقنا الله وإياك ..

أن الله خلق النار .. وهي من أعظم النعم على عباده .. ولما علم سبحانه وتعالى أن كثرتها وبثـّها في العالم مفسدة .. جعلها الله بحكمته محصورة .. حتى إذا حتيج إليها وُجـِدَت واستعملت في كل أمر يُحتاج إليها فيها .
فهي مخزونة في الأجسام .. ومنافعها كثيرة لا تحصي .. فمنها ما تصلحه من الطبائخ والأشربة التي لولاها لم يحصل فيها نضج ، ولا تركيب، ولا اختلاط ، ولا صحة هضم لمن لا يستعملها في أكل وشرب ، فانظر لطف الباري سبحانه في هذا الأمر المهم .
ثم انظر فيما يحتاج الناس إليه .. من الذهب والفضة والنحاس والحديد .. والرصاص والقزدير ، وغير ذلك .
فلولاها لم يكن شيء من الإنتفاع من هذه الأشياء .. فبها يُـذاب النحاس فتُصنع منه الأواني وغيرها .
وقد نبه الله تعالى على مثل ذلك بأنها نعمة توجب الشكر فقال جل وعلا " إعْمَلوا آلَ دَاوُدَ شُكراً * وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشـَّكور " سبأ
وبها يلين الحديد .. فيعملون به أنواعاً من المنافع والآلات للحروب .. مثل الدروع والسيوف .. إلى غير ذلك مما يطول مقداره .. وقد نبه الله تعالى على مثل هذا فقال " وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ " الحديد وقال تعالى " لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ {80} " الأنبياء .
ومن الحديد يعمل آلات للحرث والحصاد.. وآلات لا تتأثر بالنار ..وآلات يطرق بها .. وآلات لقطع الجبال الصماء .. وآلات لنجارة الأخشاب مما يكثر تعدادها .. فلولا لطف الله سبحانه وتعالى بخلق النار لم يحصل من ذلك شيء من المنافع .. ولولاها لما كان يتهيأ للخلق من الذهب والفضة ونقود ولا زينة ولا منفعة .. ولكانت هذه الجواهر معدودة من جملة الأتربة .
ثم انظر إلى ما جعل الله تعالى في النار من الفرح والترُّوح عندما تغشى ظلمة الليل .. فيستضيئون بها .. ويهتدون بنورها في جميع أحوالهم من أكل وشرب .. وتمهيد مراقد .. ورؤية ما يؤذيهم .. ومؤانسة مرضاهم .. والعمل عليها براً وبحراً .. فيجدون بوجودها أنساً .. حتى كأن الشمس لم تغب عن أفقهم .. ويدفعون بها ضرر الثلوج .. والرياح الباردة .. ويستعينون بها في الحروب .. ومقاومة حصون لا تُملك إلا بها .
فانظر ما أعظم قدر هذه النعمة التي جعل سبحانه حكمها بأيديهم .. إن شاءوا خزنوها .. وإن شاءوا أبرزوها .


يتبع بإذن البصير الحكيم

زاد المعاد
01-21-2009, 08:55 PM
الباب التاسع
" في حكمة خلق الإنسان "


قال تعالى " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14} ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ {15} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ {16}" المؤمنون

إعلم وفقك الله تعالى ..

أن الله عزوجل لمّا سبق في علمه خلق بني آدم .. وبثَـُّهم في هذه الدار وتكليفهم فيها للبلوى والإختبار .. خلقهم سبحانه متناسلين بعضهم من بعض .. فخلق سبحانه الذكر والأنثى .. وألقى في قلوبهم المحبة والدواعي .. حتى عجزوا عن الصبر .. وعُدِموا الحيلة في اجتناب الشهوة .. فساقتهم الشهوة المفطورة في خلقهم إلى الاجتماع .. وجعل الفكرة تحرك عضواً مخصوصاً به إلى إيداع الماء في القرار المكين .. الذي يخلق فيه الجنين .. فاجتمعت النطفة من سائر البدن .. وخرجت ماءاً دافقاً مندفعاً بين الصلب والترائب بحركة مخصوصة .. فانتقلت بسبب الافلاج من باطن إلى باطن .. فكانت مع انتقالها باقية على أصلها .. لأنها ماء مهين .. أدنى شيء يباشرها يفسدها .. ويغير أصلها ومزاجها .. فهي ماء يختلط جميعه بنسب تستوي فيه أجزاؤه .. لا تفاوت فيها بحال .. فخلق سبحانه منه الذكر والأنثى بعد تقلبه من النطفة إلى العلقة .. إلى المضغة إلى العظام .. ثم كساها اللحم .. وشدها بالأعصاب والأوتار .. ونسجها بالعروق .. وخلق الأعضاء وركـبّها .. فدورّ سبحانه الرأس .. وشق فيها السمع والبصر والأنف والفم .. وسائر المنافذ ..

فجعل للعين البصر ..ومن العجائب سِرُّ كَـوْنها .. مبصرة للأشياء .. وهو أمر يُعجز عن شرح سره .. وركبها من سبع طبقات .. لكل طبقة صفة وهيئة مخصوصة بها .. فلو فقدت طبقة منها أو زالت لتعطلت عن الأبصار.

وانظر إلى هيئة الأشفار التي تحيط بها .. وما خلق فيها .. من سرعة الحركة لتقي العين مما يصل إليها مما يؤذيها من غبار وغيره.. فكانت الأشفار بمنزلة باب يفتح وقت الحاجة .. ويغلق في غير وقتها .. ولما كان المقصود من الأشفار جمال العين والوجه .. جعل شعرها على قدر لا يزيد زيادة تضر بالعين .. ولا ينقص نقصاً يضرّ بها .

وخلق في مائها ملوحة لتقطيع مما يقع فيها .. وجعل طرفيهما منخفضين عن وسطهما قليلاً .. لينصرف ما يقع في العين لأحد الجانبين .. وجعل الحاجبين جمالاً للوجه .. وستراً للعينين .. وشعرهما يشبه الأهداب في عدم زيادة المشوهة .

وجعل شعر الرأس واللحية .. قابلاً للزيادة والنقص .. فيفعل فيهما ما يقصد به الجمال من غير تشويه .

ثم انظر إلى الفم واللسان .. وما في ذلك من الحـِكَـم .. فجعل الشفتين ستراً للفم .. كأنها باب يغلق وقت ارتفاع الحاجة إلى فتحه .. وهو ستر على اللثة والأسنان .. مفيد للجمال .. فلولاهما لتشوهت الخلقة .. وهما معنيان على الكلام .. واللسان للنطق والتعبير عما في ضمير الإنسان .. وتقليب الطعام .. وإلقائه تحت الأضراس حتى يستحكم مضغه .. ويسهل ابتلاعه .

ثم جعل الأسنان .. أعداداً مفترقة .. ولم تكن عظماً واحداً .. فإن أصاب بعضها ثلـْم انتفع بالباقي .. وجمع فيهما النفع والجمال .. وجعل ما كان منها معكوساً زائد الشُّـعَـب حتى تطول مدته مع الصنف الذي تحته .. وجعلها صلبة ليست كعظام البدن لدعاء الحاجة إليها على الدوام .. وفي الأضراس كبر وتسريف لأجل الحاجة إلى درس الغذاء .. فإن المضغ هو الهضم الأول .. وجعلت الثنايا والأنياب لتقطيع الطعام .. وجمالاً للفم .. فأحكم أصولها .. وحدد ضروسها .. وبيَّض لونها مع حمرة ما حولها .. متساوية الرءوس .. متناسبة التركيب .. كأنها الدر المنظوم .

ثم انظر كيف خلق في الفم نداوة محبوسة .. لا تظهر إلا في وقت الحاجة إليها .. فلو ظهرت وسالت قبل ذلك لكان تشويهاً للإنسان .. فجعلت ليبل بها ما يمضغ من الطعام حتى يسهل تسويفه من غير عنت ولا ألم .. فإذا فقد الأكل عدمت تلك النداوة الزائدة التي خلقت للترطيب .. وبقي منها ما يبل اللهاة والحلق .. لتصوير الكلام .. ولئلا يجف الفم .. فإن جفافه مُهلك للإنسان .

ثم انظر إلى رحمة الله ولطفه .. إذ جعل للآكل لذة الأكل .. فجعل التذوق في اللسان وغيره من أجزاء الفم .. ليعرف بالذوق ما يوافقه ويلائمه من الملذوذ .. فيجد في ذلك راحة في الطعام والشراب إذا دعت حاجة إلى تناوله .. وليجتنب الشيء الذي لا يوافقه .. ويعرف بذلك حد ما تصل الأشياء إليه في الحرارة والبرودة .

ثم أن الله تعالى شقَّ السمع .. وأودعه رطوبة مرة .. يحتفظ بها السمع من ضرر الدود .. ويقتل أكثر الهوام الذين يلجون السمع .. وحفظ الأذن بصدفة لتجمع الصوت فترده إلى صماخها .. وجعل فيها زيادة حسّ .. لتحسّ بما يصل إليها مما يؤذيها من هوام وغيرها .. وجعل فيها تعويجات ليطرد فيها الصوت .. ولتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه .. فيتأثر وينتبه صاحبها من النوم .

ثم انظر إلى ادراك المشمومات .. بواسطة ولوج الهواء .. وذلك سر لا يعلم حقيقته إلا الباري سبحانه.. إلى غير ذلك .

ثم انظر كيف رفع الأنف .. فأحسن شكله .. وفتح منخريه .. وجعل فيهما حاسة الشم .. ليستدل باستنشاقه على روائح مطاعمه ومشاربه .. وليتنعَّم بالروائح العطرة .. ويتجنب الخبائث القذرة .. وليستنشق أيضاً روح الحياة غذاءً لقلبه .. وترويحاً لحرارة باطنه .

ثم خلق الحنجرة .. وهيأها لخروج الأصوات ودوّر اللسان في الحركات والتقطيعات .. فيقطع الصوت في مجاري مختلفة .. تختلف بها الحروف لتسع طرق النطق .

وجعل الحنجرة مختلفة الأشكال في الضيق والسعة .. والخشونة والملاسة .. وصلابة الجوهر ورخاوته .. والطول والقصر .. حتى اختلفت بذلك بسبب ذلك الأصوات .. فلم يتشابه صوتان .. كما خلق بين كل صورتين اختلافاً .. فلم تشتبه صورتان .. بل يظهر بين كل صورتين فرقان .. حتى يميز السامع بعض عن بعض بمجرد الصوت .. وكذلك يظهر بين كل شخصين فرقان .. وذلك لسر التعارف .. فإن الله تعالى لما خلق آدم وحواء خالف بين صورتيهما .. فخلق منهما خلقاً جعله مخالفاً لخلق أبيه وأمه .. ثم توالى الخلق كذلك لسر التعارف .

ثم انظر لخـَلق اليدين .. يهدين إلى جلب المقاصد ودفع المضار .. وكيف عــرَّض الكف وقسَّم الأصابع بأنامل .. وجعل الأربعة في جانب واحد والإبهام في واحد .. فيدور الإبهام على الجميع .

فلو اجتمع الأولون والآخـِرون على أن يستطيعوا بدفيق الفكر وجهاً آخر عن وضع الأصابع .. سـِوى ما وُضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربعة .. وتفاوت الأربعة في الطول .. وترتيبها في صف واحد .. لم يقدروا على ذلك .. وبهذا الوضع صلح القبض والإعطاء .. فإن بَسـَطـَها كانت طَبَقاً يضع عليه ما يريد .. وإن جَمـَعَـها كانت آلة يضرب بها .. وإن ضمّها ضماً غير تام كانت مغرفة له .. وإن بسطها وضم أصابعه كانت مجرفة .

ثم خلق الأظفار على رؤوسها زينة للأنامل .. وعماداً لها من وراءها حتى لا تضعف .. ويلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل لولاها .. وليحك بها جسمه عند الحاجة إلى ذلك .

فانظر أقل الأشياء في جسمه لو عُـدِمها وظهرت به حكـّة لكان أضعف الخلق .. وأعجزهم عم دفع ما يؤلمه .. وجلب ما ينتفع به في ذلك .. ولم يقم له غير الظفر مقامه في حك جسده .. لأنه مخلوق لذلك ولغيره .. فهو لا صلب كصلابة العظام .. ولا رخو كرخاوة الجلد .. يطول ويخلَق ويُـقصّ .. ويقصر لمثل ذلك .. ثم جعله يهتدي به إلى الحك في حالة نومه ويقظته .. ويقصد المواقع إلى جهتها من جسده .. ولو احتاج إلى غيره .. واستعان به في حكمها لم يعثر الغير على مواضع الحاجة إلا بعد طول وتعب .
ثم انظر كيف مـَدّّّّ منـهُ الفخذ والساقين .. وبـَسط القدمين .. ليتمكن بذلك من السعي .. وزيّـن القدمين بالأصابع .. وجعلها زينة وقوة على السعي .. وزيـَن الأصابع بالأظفار .. وقوّاها بها .

ثم انظر كيف خلق الله هذا كله من نطفة مهينة .. ثم خلق منها عظام جسده .. فجعلها أجساماً قوية صلبة .. لتكون قواماً للبدن وعماداً له .. وقدرها تبارك وتعالى بمقادير مختلفة وأشكال متناسبة .. فمنها صغير وطويل .. ومستدير ومجـوَّف .. ومصمت وعريض ودقيق .

ثم أودع في أنابيب هذه العظام المخ الرقيق .. مصاناً لمصلحتها وتقويتها .. ولما كان الإنسان محتاجاً إلى جملة جسمه وبعض أعضائه لتردده في حاجاته .. لم يجعل الله سبحانه عظامه عظماً واحداً .. بل عظاماً كثيرة وبينها مفاصل .. حتى تتيسر بها الحركة .. فقدَّر شكل كل واحدة منها على قدر .. وفـق الحركة المطلوبة بها .. ثم وصل مفاصلها .. وربط بعضها ببعض .. بأوتار أثبتها بأحد طرفي العظم .. وألصق الطرف الآخر كالرباط .. ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منها .. ومن الآخر نقراً غائصة فيها .. توافق لأشكال الزوائد لتدخل فيها وتنطبق .. فصار الإنسان إذا أراد أن يحرك شيئاً من جسده دون غيره لم يمتنع عليه .. فلولا حكمة خلق المفاصل لتعذر عليه ذلك .

ثم انظر كيف جعل خلق الرأس مركباً من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال والصور .. وألف بعضها إلى بعض .. بحيث استوت كرة الرأس كما ترى .. فمنها ستة تختص بالقحف ( أعلى الدماغ ) .. وأربعة وعشرون لِـلَّـحْيِ الأعلى ( عظم الحنك ) .. واثنان للحي الأسفل .. والبقية من الأسنان بعضها عريض يصلح للطحن .. وبعضها حاد يصلح للقطع .

ثم جعل الرقبة مركز الرأس فركـَّبها من سبع خرزات محوقات مستديرات .. وزيادات ونقصان .. لينطبق بعضها على بعض .. ويطول ذكر الحكمة فيها .

ثم ركـَّب الرقبة على الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربعة وعشرين خرزة .. وعظم العجز ثلاثة أخرى مختلفة .. ووصل به عن أسفله العصعوص .. وهو مؤلف من ثلاثة أخرى .. ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف .. وعظام اليدين .. وعظام العانة .. وعظام العجز .. وعظام الفخذين والساقين .. وأصابع الرجلين .

فجعل جملة عدد العظام في بدن الإنسان مائتي عظم وثمانية وأربعين عظماً .. سوى العظام الصغيرة التي حشى بها خلل المفاصل .

فانظر كيف خلق الباري سبحانة وتعالى ذلك كله من نطفة رقيقة سخيفة .. والمقصود من ذكر أعدادها تعظيم مدبرها وخالقها .. وكيف خلقها وخالف بني أشكالها .. وخصَّـها بهذا القدر المخصوص .. بحيث لو ازداد فيها عظم واحد لكان وبالاً .. واحتاج الإنسان إلى قلعه .. ولو نقص منها واحد لاحتاج الإنسان إلى جبره .. وجعل سبحانه وتعالى في هذا الخلق عبرة لأولي الأبصار .. وآيات بينات على عظمته وجلاله بتقديرها وتصويرها .

ثم انظر كيف خلق سبحانه آلات لتحريك العظام .. وهي العضلات .. فخلق في بدن الإنسان خمسمائة وتسعة وعشرين عضلة .. والعضلة مركبة من لحم وعصب .. ورباط وأغشية .. وهي مختلفة المقادير والأشكال .. بحسب اختلاف مواضعها وحاجاتها .. فأربعة وعشرون منها لحركة العين وأجفانها .. بحيث لو نقصت منها واحدة اختل أمر العين .. وهكذا لكل عضو عضلات بعدد يخصـَّه وَقـَدرٍ يوافقه .
وأما أمر الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين .. ومنافعها وسعتها فأعجب من هذا ..وشرحه يطول .
ثم عجائب ما فيه من المعاني التي لا تـُدرَك بالحواس أعظم .

ثم انظر إلى ما شـُرَّف به الإنسان وخـُصـَّص في خلقه .. بأنه خـُلـِق ينتصب قائماً .. ويستوي جالساً .. ويستقبل الأمور بيديه وجوارحه .. ويمكنه العلاج والعمل .. ولم يخلق مكبوباً على وجهه كعدة من الحيوانات .. إذ لو كان كذلك لما استطاع هذه الأعمال .

ثم انظر من حيث الجملة إلى ظاهر الإنسان وباطنه .. فتجده مصنوعاً صنعة بحكمة تقضي منها العجب .. وقد جعل سبحانه أعضاءه تامة بالغذاء .. والغذاء متوال عليها .. لكـنه تبارك وتعالى قـدَّرها بمقادير لا يتعدّاها .. بل يقف عندها ولا يزيد عليها .. فإنها لو تزايدت بتوالي الغذاء عليها لعظمت أبدان بني آدم .. وثقلت عن الحركة .. وعـُطـَّـلـَت عن الصناعات اللطيفة .. ولا تناولت من الغذاء ما يناسبها .. ومن اللباس كذلك .. ومن المساكن مثل ذلك .

وكان من بليغ الحكمة وحسن التدبير وقوفها على هذا الحد المقدر .. رحمة من الله عزوجل ورفقاً بخلقه .. فإذا وجدت هذا كله صنعه الله من قطرة ماء .. فما ظنك بصنعته في ملكوت السموات والأرض .. وشمسها وقمرها وكواكبها ..؟

وما حكمته في أقدارها وأشكالها ..؟ وأعدادها وأوضاعها ..؟ واجتماع بعضها وافتراق بعضها واختلاف صورها .. وتفاوت مشارقها ومغاربها ..؟

فلا تظن أن ذرَّة في السموات والأرض .. وسائر عالم الله عزوجل ينفكّ عن حـِكـَم .. بل ذلك مشتمل على عجائب وحـِكـَم لا يحيط بجميعها إلا الله سبحانه وتعالى .
ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى ..؟ " أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا {27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا {28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا {29} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا {31} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {32} مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {33}" النازعات .

وتأمل لو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا للنطفة سمعاً وبصراً وحياة لم يقدروا على ذلك .
فانظر كيف خلقها سبحانه في الأرحام .. وشكلها فأحسن تشكيلها .. وقدرها فأحسن تقديرها .. وصورها فأحسن تصويرها .. وقسـَّم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة .. فأحكم العظام في أرجائها .. وحسن أشكال أعضائها .. ورتب عروقها وأعصابها .. ودبر ظاهرها وباطنها .. وجعل فيها مجرى لغذائها .. ليكون ذلك سبباً لبقائها مدة حياتها .. ثم كيف رتب الأعضاء الباطنة .. من القلب والكبد .. والمعدة والطحال .. والرئة والرحم .. والمثانة والأمعاء .. وكل عضو بشكل مخصوص .. ومقدار مخصوص لعمل مخصوص .

فجعل المعدة لنضج الغذاء عصباً متيناً شديداً لحاجتها إلى ذلك ..وبذلك يمكن تقطيعه وطحنه .. وجعل طحن الأضراس أولاً معيناً للمعدة على جودة طحنه وهضمه .

وجعل الكبد لإحالة الغذاء إلى الدم .. فيجذب منه إلى كل عضو من الغذاء ما يناسبه .. فغذاء العظم خلاف عظام اللحم .. وغذاء العروق خلاف غذاء الأعصاب .. وغذاء الشعر خلاف غذاء غيره .

وجعل الطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد .. فالطحال لجذب السوداء .. والمرارة لجذب الصفراء .. والكلية لجذب الماء عنه .. والمثانة لقبول الماء عن الكلية .. ثم يخرجه في مجرى الأحليل.. والعروق لإتصال الدم منها إلى سائر أطراف البدن .. وجعل جوهرها أتقن من جوهر اللحم .. لتصون الدم وتحصره .. فهي بمنزلة الظروف والأوعية .

ثم انظر كيف دبـّره في اللحم .. ولطف به ألطافاً يطول شرحها .. ولا يستكمل العلم بجملتها إلا خالقها .. ويعجز الواصف عن وصف ما وصل إليه نظره من ذلك .. فمن ذلك جعله فيه لا يحتاج إلى استدعاء .. ولا يحتاج المولود إلى ما يبيَّـن له ذلك .. لا بوعظ ولا تنبيه .. بل ذلك في الطباع إلى وقت حاجة المولود إلى الإغاثة في غذائه .. ولولا ذلك لنفرت الأمهات عنه من شدة التعب .. وكلفة التربية .. حتى إذا اشتد جسمه وقويت أعضاؤه الظاهرة والباطنة لهضم الغذاء .. فحينئذ أنبت له الأسنان عند الحاجة إليها لا قبل ذلك ولا بعده .

ثم انظر كيف خلق الله فيه التمييز والعقل على التدريج إلى حين كماله وبلوغه .. وانظر وفـكـَّر في سـرّ كونه يولد جاهلاً غير ذي عقل وفهم .. فإنه لو كان ولد عاقلاً فـَهـِيماً لأنكر الوجود عند خروجه إليه .. حتى يبقى حيراناً تائه العقل .. إذ رأى ما لا يعرف .. وورد عليه ما لم يره ولم يعهد مثله .
ثم كان يجد غضاضة أن يرى نفسه محمولاً وموضوعاً معصباً بالخرق .. ومسجّى في المهد .. مع كونه لا يستغنى عن هذا كله .. لرقة بدنه ورطوبته حتى يولد .. ثم كان لا يوجد له من الرقة والحلاوة والمحبة في القلوب ما يوجد للصغير .. لكثرة اعتراضه بـِعـَقلـِه .. واختياره لنفسه .. فتبيـَّن أن زيادة العقل والفهم فيه على التدريج أصلح .. قال الله تعالى " وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {78}" النحل .

أفلا يرى كيف أقام الله كل شيء فيه من الخلقة على غاية الحكمة وطريق الصواب ..؟ وأعلمه تقلب الخطأ في دَقيقـِة وَجليلـِة ..؟

ثم انظر فيما إذا اشتد .. خلق فيها طريقاً وسبباً للتناسل .. وخلق في وجهه شعراً ليميزه عن شبه الصبيان والنسوان .. ويجمله ويستر به غضون وجهه عند شيخوخته .. وإن كانت أنثى وجهها نقياً من الشعر .. لتبقى لها بهجة ونضارة تحرك الرجال .. لما في ذلك من بقاء النسل .
فـكـَّر الآن فيما ذكرناه .. ودبـَّره سبحانه في هذه الأحوال المختلفة .. هل ترى مثل هذا يمكن أن يكون مُهملاً ..؟

أرأيت لو لم يجر له الدم غذاءً وهو في الرحم ..؟ ألم يكن يذوي ويهلك ويجف النبات إذا انقطع عن الماء..؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استكماله .. ألم يكن يهلك ببقائه في الرحم هو وأمه ..؟
ولو لم يوافقه اللبن عند ولادته ألم يكن يموت جوعاً وعطشاً ..؟ أو يغذي بما لا يوافق ولا يصلح عليد بدنه ..؟ ولو لم يخلق له الأسنان في وقتها ألم يكن يمتنع عليه مضغ الطعام وازدراده ..؟
ويقيم على الرضاع ولا يشتد جسمه ..؟ ولو لم يخرج له شعر الوجه لبقي في هيئة النساء والصبيان ..؟ فلا ترى له هيبة ولا جلالاً ولا وقاراً ..؟ ومن ذا الذي يرصده حتى يوفيه بكل هذه المآرب في وقتها إلا الذي أنشأه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً ..؟

قال الله تعالى " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا {1} إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا {2} إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا {3} " الإنسان ،

وتفضل عليه .. ومَـنَّ عليه بكل هذه النعم ..؟

فـكَّر في شهوة الجماع الداعية لإحيائه .. والآلة الموصلة إلى الرحم النطفة .. والحركة الموجبة لإستخراج النطفة .. وما في ذلك من التدبير المحكم .

ثم فكر في جملة أعضاء البدن .. وتهيئة كل عضو فيها للأرِب ( الحاجة ) الذي أريد منها .. فالعينان للإهتداء بالنظر .. واليدان للعلاج والحذف والدفع .. والرجلان للسعي .. والمعدة لهضم الطعام .. والكبد للتخليص والتمييز .. والفم للكلام ودخول الغذاء .. والمنافذ لدفع الفضلات .. وإذا تأملت كذلك مع سائر ما في الإنسان وجدته قد وضع على غاية الحكمة والصواب .

فكـَّر في وصول الغذاء إلى المعدة حتى تنضجه .. وتبعث صفوه إلى الكبد في عروق دقاق قد جعلت كالمصفاة للغذاء .. ولكيلا يصل إلى الكبد منه شيء غليظ خشن فـَيـَنـْكؤها .. فإنها خلقت دقيقة لا تحمل الغـثّ .. فتقلبـُه بإذن الله دماً .. وتنفذ به إلى سائر البدن .. في مجارٍ مهيأة لذلك .. فيصل إلى كل شيء من ذلك ما يناسبه .. من يابس ورخو وغير ذلك " فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " غافر .

ثم ينفذ ما يكون من خَـبـَثٍ وفضول إلى أوعية .. وأعضاء أُعِـدّت لذلك كما ذكرنا قبل هذا .. فكوَّنها كالأوعية لتحمل هذه الفضلات .. لكيلا تنتشر في البدن فتـُسقـِمه .

ثم انظر هل تجد في خلق البدن شيئاً لا معنى له ..؟ هل خـُلِق البصر إلَّا ليدرك الأشياء والألوان ..؟
فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها .. هل كان في الألوان منفعة ..؟
ولو لم يكن لخلق الأبصار نور خارج عن نورها ما كان يُنتفع بالبصر .
وهل خُلِق السمع إلَّا ليدرك الأصوات ..؟

فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم يكن في الأصوات منفعة ، وكذلك سائر الحواس .
فكـَّر في أشياء جعلت بين الحواس والمحسوسات لا يتم الحس إلا بها .. منها ( الضياء والهواء ) .. فلو لم يكن ضياء تظهر فيه المبصرات لم يدركها البصر .. ولو لم يكن هواء يوصل الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت .

فكـَّر فيمن عـُدِم البصر والسمع وما يناله من الخلل .. فإنه لا ينظر أين يضع قدمه .. ولا يدري ما بين يديه .. ولا يفرق ما بين الألوان .. ولا يدري بهجوم آفة أو عدو .. ولا سبيل له أن يتعلم أكثر الصناعات .
وأما من عـُدِم السمع فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة .. ويعدم لذة الأصوات المستحسنة .. والألحان المطربة .. وتعظيم المئونة على من يخاطبه حتى ينصرم منه .. ولا يسمع شيئاً من أخبار الناس وأحاديثهم .. حتى يصير كالغائب وهو شاهد .. وكالميت وهو حيّ .

وأما من عدم العقل .. فهو أشرّ من البهائم .

فانظر كيف صارت هذه الجوارح .. وهذه الأوصاف التي بها صلاح الإنسان محصـَّلة ومبلـَّغة لجميع مآربه .. ومتمَّمة لجميع مقاصده .

وإذا فقد شيئاً اختل أمره وعظم مصابه .. ومن بُلىّ بفقد شيء منها فهو تأديب وموعظة .. وتعريف بقدر نعمة الله في حقه وحق أمثاله .. وينال بصبره على ذلك حظاً في الآخرة >> فانظر إلى رحمة الله كيف توجد في العطاء والمنع .

ثم فكـَّر في الأعضاء التي خلقت أفراداً وأزواجاً .. وما في ذلك من الحكمة والصواب .. فالرأس مما خلق فرداً .. وإن كثيراً من الحواس قد حوتها رأس واحدة .. ولو زاد عليه شيء كان ثقيلاً لا يحتاج إليه .. فإن كان قسمين .. فإن تكلم واحدهما بقي الآخر معطلاً لا حاجة إليه .. وإن تكلم منهما جميعاً بكلام واحد كان أحدهما فضله لا يحتاج إليها .. وإن تكلم من أحدهما بخلاف ما يتكلم به من الآخر لم يدر للسامع مراده من ذلك.. وأما الذي يأخذ به السامع فهو ما كان واضحاً .

واليدان خُلقتا أزواجاً .. ولو لم يكن للإنسان خير في أن يكون يلم بيد واحدة .. لاختلّ ما يُعالجه من الأمور .. فإنك ترى من شُلـَّت إحدى يديه ما يكون عنده من النقص .. وإن يُكلف بشيء لم يُحكِمه .. ولا يبلغ فيه ما يبلغ صاحب اليدين .. وحكمة الرجلين ظاهرة .

فكـَّر في تهيئة الآت الصوت .. فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت واللسان والشفتان والأسنان لإصاغة الحروف ..والفم ....؟
آلا ترى أن من سقطت أسنانه أو أكثرها كيف يحصل الخلل في كلامه ..؟
ثم انظر إلى ما في الحنجرة من المنفعة لسلوك النسيم منها إلى الرئة .. فتروح على الفؤاد بهذا النفس المتتابع .

وما في اللسان من تقليب الطعام .. وأعانته على تسويغ الطعام والشراب.. وما في الأسنان من المعونة أيضاً .. ثم هي كالمسند للشفتين .. تمسكهما وَتـَدعَمـُهـُما داخل الفم .. وبالشفتين يُرتشف الشراب حتى يكون ما يدخله إلى الجوف بقصد .. وبقدر ما يخشاه الإنسان .. ثم هما على الفم كـ الباب.

فقد تبين لك أن كل عضو من هذه الأعضاء ينصرف إلى وجوه من المآرب .. وضروب من المصالح .. وإن زاد أفسد .. وإن نقص أفسد .. فذلك تقدير العزيز العليم .

فكـَّر في الدماغ .. إذا كـُشف عنه فإنك تجده قد لـَفّ بعضه فوق بعض .. ليصونه من الأعراض .. وأطبقت عليه الجمجمة .. والشعر ستر لها وجمال .. ويبعد عنها ما يؤذيها من حر وبرد وغير ذلك .

فحصَّن سبحانه وتعالى الدماغ هذا التحصين لعلمه بأنه مهم وأنه مستحق لذلك لكونه ينبوع الحس .
ثم انظر كيف غـَيَّبَ الفؤاد في جوف الصدر .. وكساه المدرعة التي هي غشاؤها وأتقنها .. وحصّنه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لشرفه .. وإن ذلك هو اللائق به.

ثم انظر كيف جعل في الحلق منفذَيْن : أحدهما للصوت ، وهو الحلقوم الواصل إلى الرئة .. والآخر للغذاء ، وهو المريء الواصل إلى المعدة .. وجعل على الحلقوم طبقاً ( أي لهاة على باب الحلقوم تمنع الماء والطعام من الوصول إلى مجرى التنفس ) يمنع الطعام أن يصل إليه .

ثم جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تُغيّر ولا تُخـَلّ .. تأخذ وترد بغير كلفة .. لئلا تنحصر الحرارة في القلب فتؤدي إلى التلف .. ثم ملأ الجو هواء لهذه المصلحة ولغيرها .

ثم انظر كيف جعل لمنافذ البول والغائط سراحاً يضبطها .. لكي لا يجري جرياناً دائماً فيفسد على الإنسان عيشه .

ثم انظر كيف جعل لحم الفخذين كثيراً كثيفاً .. ليقي الإنسان من ألم الجلوس على الأرض .. كما يألم من الجلوس من نحل جسمه وقل لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل .

انظر لو كان ذكر الرجل مسترخياً أبداً .. كيف يصل الماء إلى موضع الخلق .. ولو كان مُنعظاً أبداً كيف يكون حاله في تصرفاته وهو كذلك .. بل جعله مستوراً كأن لم تخلق له شهوة .

ثم انظر أليس أنه من حسن البناء والتدبير في البناء أن يكون الخلاء في أستر موضع في الدار ..؟
فلهذا اتـُخـِذَ المنفذ المهيأ لقضاء حاجة الإنسان في استر موضع من جسده .. مغيَّب فيه .. تلتقي عليه فخذاه بما عليهما من اللحم فتواريه به .. ويخفى ذكره .. وذلك مخصوص بالإنسان لشرفه.

ثم انظر في خلق الشعر والأظفار لما كانا يطولان .. وفي تقصيرهما مصلحة .. جعلا عديمي الحس حتى لا ينال الإنسان ألم عند التزيُّـن بقصّهما .. ولولا هذه الحكمة لكان بين أمرين { إما أن يدعهما على حالهما فيتشوّه خلقه ،أو يزيل ذلك فيتألم بإزالته } .

ثم تفكر في الشعور لو نبتت في الأعين لأعمت البصر .. أو في الفم لنغّصت الأكل والشرب .. أو في راحة الكف لنفدت لذة اللمس وبعض الأعمال .. أو في الفرج لكدرت لذة الجماع .. مع قبول هذه المواضع لنباتها فيها .. فسبحان المُدبَّر المُنعِم بهذه النَّعَم .

فانظر كيف قُصِد بهذا الخلق طريق الصواب وتجنب الخطأ والضرر .. ثم فيما جبل عليه الإنسان من الإحتياج إلى المطعم والنوم والجماع .. وما في ذلك من التدبير المحكم .

فقد جعل في طبعه محركاً يقتضيه ويستحثه .. فالجوع والعطش يقتضي طلب الطعام الذي به حياته .. وكذلك الشراب الذي به قوامه .. والنوم فيه راحة للبدن وعموم القوى .. والشبق يقتضي الجماع الذي به دوام النسل وبقاؤه .

فلو كان الإنسان إنما يتناول الطعام والشراب لمعرفته بالحاجة إليه .. ولم يجد من طباعه ما يلجئه إليه .. لاشتغل بأسباب ضرورته .. فتنحل قواه ويهلك .. كما أنه قد يحتاج إلى دواء يكرهه وفيه صلاحه .. وليس في جبلته داعية له فيدافع عن تناوله .. فيمرض أو يموت .

فكذلك لو كان يفعل بالنوم ويدخله على جسمه باختياره .. لتشاغل عنه ببعض مهماته فيهلك جسمه بالتعب والنَّصَب .

وكذلك لو كان إقدامه على الجماع إنما هو لرغبة حصول الولد لانقطع النسل .. لما يُعارضه من الأسباب المشغلة .. فانظر كيف جعل فيه بالطبع ما يضطره إلى حصول الفوائد.

ثم انظر كيف رُتبت هذه القوى بهذا الترتيب المحكم العجيب .. فصار البدن بما فيه بمنزلة دار لملك فيها حشم .. وقوم موكلون بالدار .. فواحد لإمضاء حوائج الحشم وإيراد ماء لهم .. وأخر لِكَسْح ما في الدار من الأقذار وإخراجه ,,

فالملك في هذا المثل هو الخالق العليم سبحانه .. والدار هي البدن .. والحشم هي الأعضاء .. والقوم في هذه القوى الأربع هي النفس .. وموقعها من الإنسان بمعنى الفكر والوهم .. والعقل والحفظ .. والغضب وغير ذلك .

أرأيت لو نقص من الإنسان من هذه الصفات الحفظ وحده .. كيف سيكون حاله ..؟
وكان لا يحفظ حينئذٍ ماله وما عليه .. وما أصدر وما أورد .. وما أعطي وما أخذ .. وما رأى وما سمع .. وما قال وما قيل له .. ولم يذكر من أحسن إليه ولا من أساء له .. ولا من نفعه ممن ضَرّه .. وكان لا يهتدي الطريق لو سلكه .. ولا لعلم ولو درسه .. ولا ينتفع بتحريره .. ولا يستطيع أن يعتبر بمن مضى.
فانظر إلى هذه النعم .. كيف موقع الواحدة منها ..؟ فكيف جميعها ..؟

وأعجب من نعمة الحفظ نعمة النسيان .. فلولا النسيان ما سَلا الإنسان عن مصيبته .. فكان لا ينقص له حسرة .. ولا يذهب عنه حقد .. ولا يستمتع بشيء من لذات الشهوات الدنيوية مع تذكر الآفات والفجائع المغضبات .. وكان لا يمكن أن يتوقع غفلة من ظالم .. ولا فترة ولا ذهولاً من حاسد أو قاصد مضره .. فانظر كيف جعل الله فيه سبحانه الحفظ والنسيان وهما متضادان .. وجعل للإنسان في كل منهما ضروباً من المصالح .

ثم انظر إلى ما خصه به دون غيره من الحيوان من الحياء .. فلولاه لم تقبل العثرات .. ولم تقض الحاجات .. ولم يُقرَ الضيف .. ولم يثمر الجميل فيفعله .. ولا يتجافى عن القبح فيتركه .. حتى إن كثيراً من الأمور الواجبة إنما تفعل لسبب الحياء من الناس .. فترد الأمانات .. وتراعي حقوق الوالدين وغيرهما.. ويعف عن فعل الفواحش .. إلى غير ذلك من أجل الحياء >> فانظر ما أعظم موقع هذه النعمة في هذه الصفة .

وانظر إلى ما أنعم الله به من النطق الذي يميز به عنه البهائم .. فيعبر بما في ضميره .. ويفهم عن غيره ما في نفسه .

وكذلك نعمة الكتابة التي تفيد أخبار الماضين للباقين .. وأخبار الباقين للآتـِينَ .. وبها تخلد في الكتب العلوم والآداب .. ويعلم الناس ذكر ما يجري بينهم في الحساب والمعاملات .. ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض .. ودراسة العلوم .. وضاعت الفضائل والآداب .. وعظم الخلل الداخل على الناس في أمرهم بسبب عدمها .

فإن قلت : إن الكلام والكتابة مكتسبة للإنسان وليست بأمر طبيعي .. ولذلك تختلف الخطوط بين عربي وهندي ورومي إلى غير ذلك .. وكذلك الكلام هو شيء تصطلح عليه فلذلك اختلف .
قلنا : ما به تحصل الكتابة من اليد والأصابع والكف المهيأ للكتابة .. والذهن والفكر الذي يهتدي به ليس بفعل الإنسان .. ولولا ذلك لم يكن ليكتب أبداً .. فسبحان المنعم عليه بذلك.

وكذلك لولا اللسان والنطق الطبيعي فيه والذهن المركب فيه لم يكن ليتكلم أبداً.. فسبحان المنعم عليه بذلك.
ثم انظر إلى حكمة الغضب المخلوق فيه .. يدفع عن نفسه به ما يؤذيها .. وما خلق فيه من الحسد .. فبه يسعى في جلب ما ينتفع به .. غير أنه مأمور بالإعتدال في هذين الأمرين ( أي مأمور بالإعتدال في الغضب والحسد .. أما الإعتدال في الغضب ، فالمراد به ضبط النفس عند الغضب كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ’’ ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ‘‘ رواه البخاري ، وأما الإعتدال في الحسد فالمراد به هنا الغبطة ، وهي تمني مثل ما ناله الغير أو كان عنده من غير أن تتمنى زواله عنه لما أعجبك منه وعظم عندك فهذا جائز وليس بحسد ، فإن تمنيت زواله عن الغير وكرهته لغيرك ليكون لك فهو الحسد ).. فإن جاوز الحد فيهما التحق برتبة الشياطين .. بل يجب أن يقتصر في حالة الغضب على دفع الضرر .. وفي الحسد على الغبطة .. وهي إرادة ما ينفعه من غير مضرة تلحق غيره .

ثم انظر ما أعطى وما منع .. مما فيه أيضاً صلاحه .. فمن ذلك الأمل .. فبسببه تعمر الدنيا ويدوم النسل .. ليرث الضعفاء عن الأقوياء .. منافع العمارة .
فإن الإنسان أول ما يخلق ضعيف .. فلولا أنه يجد آثار قوم أحلوا وعمروا لم يكن له محل يأوي إليه .. ولا آلة ينتفع بها .. فكان الأمل سبباً لعمل الحاضرين ما يقع به انتفاع الآتين .. وهكذا يتوارث إلى يوم الدين.

ومنعَ الإنسان من عِلـْمِ أجله ومبلـَغ عمره لمصلحة .. فإنه لو علم مدة حياته وكانت قصيرة لم تهنأ حياته .. ولم ينشرح لوجود نسل .. ولا لعمارة أرض .. ولا غير ذلك

ولو علمها وكانت طويلة لانهمك في الشهوات وتعدى الحدود واقتحم المهلكات .. ولعجز الوعاظ عن إيقافه وزجره عما يؤدي إلى إتلافه ..

فكان في جهله بمدة عمره حصول الخوف بتوقيع هجوم الموت .. ومبادرة صالح الأعمال قبل الفوات.

ثم انظر إلى ما ينتفع به مما فيه مصالحه وملاذه من أصناف الأطعمة على اختلاف طـعومها .. وأصناف الفواكه مع إختلاف أنواعها وبهجتها .. وأصناف المراكب ليركبها ويحصّل منافعها .. وطيور يلتـَذ بسماعها .. ونقود وجواهر يقتنيها .. ويصل بها إلى أغراضه .. ويجدها في مهماته .. وعقاقير يستعملها لحفظ صحته ، وبهائم لمأكله ولغير ذلك من أموره من حرث وحمل وغير ذلك .. وأزهار وغيرها من العـِطـْريّات يتنعّم بروائحها وينتفع بها .. وأصناف من الملابس على إختلاف أجناسها >> وكل ذلك ثمرة ما خلق فيه من العقل والفهم .. فانظر ماذا ركـّب الله فيه من العجائب .

ومن الحكمة البالغة اختلاف العباد في تملـُّك ما ينتفع به بنو آدم .. ليتميز منهم الفقير من الغني .. فيكون ذلك سبباً لعمارة هذه الدار .. ويشتغل الناس بسبب ذلك عما يضرهم في غالب الأحوال فمثلهم فيما اشتغلوا به مثل الصبي .. فإنه يشتغل لنقص عقله فيما يضرّ به نفسه ولا يتفرغ فيكون فراغه وبالاً عليه .

وكم عسى أن يعـُدّ العادُّ الحـِكـَم واللطائف التي يقصد بها قوام العالم وعمارته إلى الأجل المعلوم .. وهي مما لا تدخل تحت حد ، ولا يحصرها عد .. ولا يعلم منتهى حقائقها .. وإحصاء جملتها إلا الحكيم العليم .. الذي وَسـِعَت رحمتـِهِ وعلمـِهِ كل شيء وأحصى كل شيء عدداً .


يتبع بإذن من أتقن صنعه في كل شيء

زاد المعاد
01-21-2009, 09:07 PM
خــاتمـــة لـهـــذا البــاب

" في تكريم الإنسان "



إعلم ،،،

إن الباري سبحانه وتعالى شرّف هذا الآدميّ وكرّمه فقال جل جلاله " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70}" الإسراء.
فكان من أعظم ما شرّفه به وكرّمه العقل .. الذي تنبـَّه به على البهجة .. وألحقه بسببه بعالم الملائكة .. حتى تأهـّل به لمعرفة بارِئه ومـُبدِعه بالنظر في مخلوقاته .. واستدلاله على مخلوقاته .. واستدلاله على معرفة صفاته .. بما أودعه في نفسه من حكمة وأمانة .. قال العليم البديع " وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {21} " الذاريات .

فكان نظر الإنسان في نفسه .. وفيما أودع البارىء سبحانه فيه من العقل .. الذي يقطع بوجوده فيه .. ويعجز عن وصفه .

@@ من أعظم الدلالات عنده على وجود بارئه ومدبره وخالقه ومصوره ،،،

فإنه ينظر في العقل كيف فيه التدبير .. وفنون العلم ومُستقر المعرفة .. وبصائر الحكمة .. والتمييز بين النفع والضرر .. وهو مع القطع بوجوده ( أي العقل ) .. لا يرى له شخصاً .. ولا يسمع له حساً .. ولا يجسّ له مجسّاً .. ولا يشم له ريحاً .. ولا يدرك له صورة ولا طعماً .. وهو مع ذلك آمـِرُ ومـُطاع.. وراجٍ زيادة .. ومفكر ومشاهد للغيوب .. ومتوهم للأمور .. اتسع له ما ضاق عن الأبصار .. ووسع له ما ضاقت عنه الأوعية .. يؤمن بما غيبته حجب الله سبحانه مما بين سمواته وما فوقها .. وأرضه وما تحتها .. حتى كأنه يشاهده أبيَن من رأى العين .. فهو العقل موضع الحكمة .. ومعدن العلم .. كلما ازداد علماً ازداد سعة وقوة .. يأمر الجوارح بالتحرك .. فلا يكاد أن يميز بين الهمّ بالحركة .. وبين التحرك بسرعة الطاعة .. أيهما أسبق وإن كان الهم قبل .

وهو مع تدبيره وعلمه وحكمته عاجز عن معرفة نفسه .. إذ لا يمكنه أن يصف نفسه بصفة وهيئة أكثر من الإقرار بأنه مُسلـَّم للذي وصفه العليم به .. ومقر بالجهل بنفسه .. وهو مع جهله بنفسه عالم حكيم .. يميز بين لطائف التدبير .. ويفرق بين دقائق الصنع .. وتجري الأمور وقد تدبّرها .. ويتوهم العواقب وقد تمثـَّلها .. ويدل الأمور على اختلافها .

فدلّ جهله بنفسه .. وعلمه بما يدبَّر ويميّز أنه مركََّب مصنوع .. مصوَّر مقهور .. لأنه مع حكمته واتقاد بصيرته .. عاجز مَهين .. يريد أن يذكر الشيء فينساه .. ويريد أن ينساه فيذكره .. ويريد أن يُسَرّ فيحزن .. ويريد أن يغفل فيذكر .. ويريد أن ينتبه ويتيقـّظ فيسهو ويغفل .. دلالة على أنه مغلوب مقهور جاهل بحقائق ما علم .. وهو مع ما دبّر لا يدري كم مدى مبلغ صوته .. ولا كيف خروجه .. ولا كيف اتسَّاق حروف كلامه .. ولا كم مدى مبلغ نظره .. ولا كيف رُكـَّب نوره .. ولا كيف أدرك الأشخاص .. ولا كم قدر قوته .. ولا كيف تركـَّبت إرادته وهـِمـَّته ..؟

فاستدل بعلمه ـــ عن حقيقة ما علم ـــ أنه مصنوع بصنعة مـُتقنة، وحكم بالغة ، تدل على الصانع الخالق .. المريد العليم عز وجل .

ثم إنه خلق في الإنسان الهوى موافقاً لطباعه .. فإن استعمل نور العقل فيما أمر به وَرَدَ مَوْرِدَ السلامة .. وفاز غداً بدار الكرامة .. وإن استعمله في أغراض نفسه وهواها حـُجـِب عن معرفة أمور لا يدركها غيره .. مع ما هو متوقع له في الدار الأخرة مـِنَ الثواب والعقاب والحجاب إشارة لما قاله الله عزوجل " كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} " المطففون .

وهو أي العقل الآلة في عمل الصنائع .. وتقديرها على نحو ما قدرها ودبرها في ذهنه وتخيله .. واستنباط ما يستنبط بدقيق الفكر .. ومعرفة مكارم الأخلاق الموجودة في كل أمة وزمان .. واستحسان ما يحسن في عوائد العقلاء والفضلاء .. وتقبيح ما يقبح عندهم بحكم الإعتياد.

فانظر إلى ما شرّف الله به هذا الإنسان .. أن خلق فيه ما يفيده هذه المعارف .. فإن الأواني تشرُف بشرف ما يوضع فيها .. ولما كانت قلوب العباد هي محل للمعرفة بالله عزوجل شرفت بذلك .

ولما سبق في علم البارىء سبحانه وإرادته وحكمته .. بمصير الخلق إلى دار غير هذه الدار .. ولم يجعل في قوة عقولهم ما يطـَّلعون به على أحكام تلك الدار .. كمـّل سبحانه هذا النور الذي وهبهم إياه ( العقل ) بنور الرسالة إليهم .. فأرسل الأنبياء صلوات الله عليهم مبشرين لأهل طاعته .. ومنذرين لأهل معصيته .. فمدهم بالوحي وهيأهم لقبوله وتلقيه .. فكانت أنوار ما جاء بالوحي من عند الله .. بالنسبة إلى نور العقل كالشمس بالإضافة إلى نور النجم .. فدلـّوا العباد على مصالح دنياهم فيما لا تستقل بإدراكه عقولهم .. وأرشدوهم إلى مصالح أخراهم .. التي لا سبيل للعباد أن يعرفوها إلا بواسطتهم .. وأظهر لهم سبحانه من الدلائل على صدق ما جاءوا به ما أوجب الإذعان والإنقياد لصدق أخبارهم .. فتمت بذلك نعمة الله على عباده .. وظهرت كرامته .. وثبتت حجته عليهم.

فانظر ما أشرف الآدمي ونسله .. الذين ظهر منهم هؤلاء الفضلاء .. الذين هم قابلون لهذه الزيادات الفاضلة .. ثم تضافرت أنوار الشرائع التي هي كالشمس .. وأنوار العقول التي هي كالنجم .. فتمت سعادة من سبق له الله الحسنى .. وشقاوة من كذب ولم يُرِد إلا الحياة الدنيا .. قال تعالى " فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {29} ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى {30} " النجم

ثم إن الله تبارك وتعالى منَّ على الإنسان بأن خصه برؤيا يراها في منامه .. إو في عينه كشبه المنام .. يمثل له فيها بأمثلة معهودة من جنس ما يعرفه .. وهي مبشـَّره أو منذرة له لما يتوقعه بين يديه .. وكل ذلك مواهب وكرامات من وجود الله سبحانه وتعالى .. وجعل الله استقامته على الطاعة في قلبه وجوارحه سبباً لصدقها في غالب الأمر .. ليتـَّعـِظ أو يقدم على الأمور أو يحجم عنها .. وهي الأمور التي انفرد الله تعالى بعلم العاقبة فيها .. وأطـْلـَـعَ على بعض الأمور منها من شاء من عباده .







يتبع بإذن الحليم الودود

زاد المعاد
01-22-2009, 07:51 PM
الباب العاشر


" في حكمة خلق الطير "



قال الله تعالى " أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {79} " النحل .
وقال تعالى " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ {19} " الملك .

إعلم رحمك الله ..

أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفـَّة للطيران .. ولم يخلق فيه ما يُثقله .. وخلق فيه ما يحتاج إليه .. وما فيه قوامه .. وصرَّف غذائه .. فقسّم لكل عضو ما يُناسبه .. فإن كان رخواً أو يابساً .. أو بين ذلك .. انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به .. فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله .. وإعانة له في إرتفاعه عن الأرض وقت طيرانه .. واسعة الأسفل لتثبت في موطن على الأرض .. وجعل جلد ساقيه غليظاً متقناً جداً .. ليستغني عن الريش في الحر والبرد .

وكان من الحكمة خلقه على هذه الصنعة .. لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء .. فلو كسيت ساقاه بريش لتضَرَّر بـِبلـَلـِه وتلويثه .. فأغناه سبحانه وتعالى عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصاً للطيران .. وما خـُلـِق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذائه من غير حرج بها .. إذ لو طالت رجلاه .. وقَصـُرَ عنقه لم يمكنه الرعي لا في البراري ولا في البحار حتى ينكب على صدره .. وكثيراً ما يُعان بطول المنقار أيضاً مع طول العنق .. ليزداد مطلبه عليه سهولة .. ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه .. واختل رعيه .

وخلق صدره ودائرة ملفوفة مَرْبيّاً على عظم كهيئة نصف دائرة .. حتى يخرق في الهواء بغير كلفة .. وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران .

وجعل لكل جنس من الطير منقاراً يُناسب رعيَه .. ويصلح لما يتغذى به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك فمنه مخلب للتقطيع خصَّ به الكواسر وما قوته اللحم .. ومنه عريض مُشَرشَر .. جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقاً محكماً .. ومنه معتدل اللقط هو آكل الخضر .. ومنه طويل المنقار للحصر .. وجعله صلباً شديداً شبه العظم .. وفيه ليونة ما هي في العظم .. لكثرة الحاجة إلى استعماله .. وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان .

وقوّى سبحانه وتعالى أصل الريش وجعله قصباً منسوجاً فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة لأجل كثرة الطيران .. ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأصل الريش .. وجعل ريشه وقاية مما يضره من حرّ أو برد .. ومعونة متخللة الهواء للطيران .. وخص الأجنحة بأقوى الريش .. وأثبته وأتقنه لكثرة دعاء الحاجة إليه .

وجعل في سائر بدنه ريشاً غيره .. كسوة ووقاية وجمالاً له .. وثبَّت أصل جميعه .. وجعل في ريشه من الحكمة أن البلل لا يفسده .. والأدران لا توسخه .. فإن إصابة ماء كان أيسر انتفاضٍ يطرد عنه بلله فيعود إلى خفته .

وجعل له منفذاً واحداً للولادة .. وخروج فضلاته لأجل خفـَّته .. وخلق ريش ذنبه ( ذيله ) معونة له على استقامته في طيرانه .. فلولاه لمالت به الأجنحة في حال الطيران يميناً وشمالاً .. فكان له بمنزلة رجل السفينة الذي يعتدل بها سيرها.. وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته .. ولما كان طعامه يبتلعه بلعاً بلا مضغ جعل لبعضه منقاراً صلباً يقطع به اللحم .. ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية .. وصار يزدرد ما يأكله صحيحاً .

وأُعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحناً يستغني به عن المضغ وثقل الأسنان .. واعتبر ذلك وغيره .. فإنه يخرج من يطون الحيوان صحيحاً وينسحق في أجواف الطير .. ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد لئلا يثقل عن الطيران .. فإنه لو خُلـِقـَت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وعـُوَّق عن النهوض للطيران .

أفلا ترى كيف دبَّر الله كل شيء من خلقه بما يليق من الحكمة ..؟

أنظر إلى من أنزله وألهمه الرقاد على بيضه فيحضنه مدة الحضانة .. من ألهمه أن يلتقط الحب ..؟

فإذا ماع في باطنه غذّى به أفراخه وهذا نوع من الطير .

ثم انظر مع هذا كيف احتمل هذه المشقة وليست له روية ولا فكر في عاقبه ..ولا له أمل يأمله في أفراخه .. كما يأمل الإنسان في ولده من العزّ والرَّفد وبقاء الذكر .. فهل هذا الإلهام إلهي من فعل الله سبحانه ..؟

انظر كيف أُلهم معرفة حمل الأنثى منه بالبيض .. فألهم حينئذ حمل الحشيش وتوطئته في موضع التحضين والولادة .. لتقوم الرطوبة والتوطئة بحفظ البيض .. ويكون البيض محفوظاً في المِهاد يمهدونه ويستحسنونه في حال تحضينه

ثم انظر إلى الحمام كيف ألهم معرفة كمال الفرخ وإنتهاء تحضينه للبيض .. حتى يكشف عن الفرخ ويخرجه .. وإن اتفق في البيض فساد بسبب عَرق قام وتركه .

ثم انظر إلهامه بما يزقَّ به فرخه .. فإنه أولاً يزقـّه بالريح لتستعد حوصلته لقبول ما يوضع فيها .. ثم بعد ذلك يزقـّه من أول هضم .. ثم إذا ماع الغذاء في حوصلته يزقـّه به .. ويفعل ذلك مراراً حتى يملي حوصلته .. فإنه لو أرسله إليه حباً صحيحاً لعجز عن هضمه لضعف جسده .

فانظر إن كان هذا من فعل الطير وحكمته .. ثم انظر عند خروج الفرخ من البيضة كيف يسنده إلى جنبه لئلا يفقد الحرارة دفعة واحدة فيضر ذلك به .

ومن الطير مما يُخلق على هيئة أخرى لحكمة أخرى .. ولتعلم أن قدرة الله لا تنحصر في نوع واحد .. بل كل حال له حكم يقوم بمصلحة ذلك الشيء .. وذلك أن الدجاج ليس فيهم أهلية الزقّ .. بل جعلت أفراخهم يلتقطون غذاءهم عند خروجهم من البيضة .

ثم انظر في الحمام الذكر والأنثى كيف يتداولان على التسخين خوف أن يفسد بيضهم .. فيعقب هذا صاحبه كأنه أُلـْهـِم علماً بأن عدم هذا التدبير يفسد به بيضهم .

ثم انظر إلى خلق البيضة وما فيها من الحـِكَم لله .. ففيها المـُح ( صفرة البيض ) الأصفر الحابر .. والماء الأبيض الرقيق .. فبعضه لينشأ منه جسده وبعضه يتغذى به إلى أن تنشق عنه .. وما في ذلك من التدبير المحكم العجيب .. وكيف جعل معه غذاءه في بيضه مغلقة تلتقي به إلى الجنان كمالـِه خروجه منها.

ثم انظر في حوصلة الطائر .. وما في خلقها من التدبير .. فإن مسلك طعامه إلى القانصة ( الحبوب التي يتناولها الطير تدخل أولاً إلى الحوصلة وتتجمع فيها ثم تتسرب إلى القانصة على مهل تمهيداً لهضمها ) ضيق .. لا ينفذ إليه إلا قليلاً قليلا .. فلو كان لا يلتقط حبته حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال الأمر عليه .. مع ما فيه من شدة الحذر وتجنبه ما يؤذيه .. فصار ما يحتكره احتراساً لشدة حذره .. فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه .. ليودع فيها ما أدرك من الطعام بسرعة .. ثم ينفذه إلى القانصة على مهل .

وفيها حكمة أخرى .. فإن الطير الذي يزقّ أفراخه يكون رده الطعام من قرب أي من الحويصلة أسهل عليه .

ثم تأمل ريش الطائر .. فإنك تجده منسوجاً نسج الثوب من سلوك رقاق .. فيها من اليبس ما يُمسـِك حولها .. ومن اللين لا ينكسر معه عودها .. وهي خاوية .. وقد تألـَّف بعضها إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط .. والشعر إلى الشعر .. ثم إذا فتحته .. أعني نسيج الريش ينفتح قليلاً .. ولا ينشق لتدخله الريح فتثقله عن طيرانه .. وتجد في وسط الريشة عموداً غليظاً يابساً مثبتاً .. قد نسج عليه كهيئة الشعر ليمسكه بصلابته .. فلو عدم ذلك وعرضت الريشة دونه لفسخها ما يقابلها من الهواء وهو أي عمود الريشة مجوف ليخف على الطير طيرانه .

انظر إلى الطائر طويل الساقين .. والحكمة في طولهما أنه يرعى أكثر رعيه في صحصاح كأنه فوقه مراقب .. يتأمل ما يدب في الماء .. فإذا رأى شيئاً من الحاجة خطى خطاً رقيقاً حتى يتناوله .. فلو كان قصير الساقين لكان حين يخطو إلى الصيد يصل بطنه إلى الماء فيهزّه فيذعر منه الصيد فيبعد عنه .
انظر إلى العصافير وغيرها .. فإنها لا تطلب رزقها في طول نهاره .. فلا هي تفقده ولا هي تجده مجموعاً محله .. وهو أمر جار على سنة الله في خلقه .. فإن صلاحهم في السعي في طلب الرزق .
فإن الطير لو وجده ميسراً لأكبّ عليه .. ولا يقلع عنه حتى يمتلىء فيثقل عن الطيران ولا يستطيع ردة .. أعني قذفه من بطنه .. مثل طير الماء الكبير .. فإنه يأكل السمك .. فإذا امتلأ منه وأزعجه تقيأه حتى يخف للطيران .. وكذلك الناس أيضاً .. لو وجدوه بلا سعي لتفرغوا فراغاً يوقعهم في غاية الفساد.
انظر إلى هذه الأصناف من الطير .. التي لا تخرج إلا ليلاً مثل البوم والهام " الثعبان " والخفاش .. فإن عيشها يتيسر في الجو .. بالبعوض والفراش وشبهه .. فإنها مـُبَثـَّة في هذا الجو .. فجعل عيشه في موضع أقرب إليه من الأرض .. ولعل النور لا يعينه أن يلتقط من الأرض .. بدليل أنه لا يظهر في نور الشمس .. إلا مختفياً .. فألهم أن يعيش في الجو من الفراش وغيره.
انظر إلى الخفاش .. لما خلق بغير ريش كيف خلق له ما يقوم مقامه .. وجعل له فم وأسنان .. وكل ما في البهائم الأرضية من الولادة وغيرها .. وأقدره على الطيران .. فأظهر سبحانه أن قدرته على الطيران لا تقتصر على ما خلق له من الريش .. ولا ينحصر ذلك في نوع واحد .. لأنه خلق من الطير هذا النوع .. وخلق من السمك جنساً يطير على البحر مسافة طويلة ثم ينزل الماء .. فسبحان القاضي العليم
انظر إلى الذكر والأنثى من الحمام كيف يتعاونان على الحضانة .. فإذا احتاج أحدهما إلى قوته ناب الآخر .. إلى وقت الحضانة .. ثم ألهمها الحرص على الحضانة .. فلا يطيلان الغيبة على البيض إذا خرجا لنيل القوت .. حتى أنهما يجتمع في أجوافهما البراز للحرص على الرقاد .. فإذا اضطر لخروج البراز أخرجه دفعة واحدة .
ثم انظر إلى حرص الذكر حين تحمل الأنثى بالبيض ويقرب أوان وضعها .. كيف يطردها وينقرها .. ولا يدعها تستقرّ خارجاً عن الوكر خشية أن تضع البيض في غير الموضع المهيأ لوضعه .. انظر كيف يَـزُقّ أفراخه ويعطف عليها ما دامت محتاجة إلى الزق .. حتى إذا كبرت واشتدت .. ولقطت واستغنت عن أبويها .. صارت إذا تعرضت له لنيل ما اعتادت عليه .. من الزق .. ضربها وصرفها عن نفسه واشتغل بغيرها .
ثم انظر إلى ما خلق الله تعالى في الكواسر من شدة الطيران حتى لا يُسبق لما يطلبه .. ومن قوة المخلب وحـِدَّته في المنقار والأظفار .. فكأن مخلبها مدية للقطع .. وكأن مخلب أرجلها خطاطيف يعلق فيها اللحم حتى تحصل ما تحتاجه من قوتها .
ثم انظر إلى طير الماء .. لما جعل قوته في الماء كيف جعل فيه من القوة السباحة والغطس .. ليأخذ من جوف الماء رزقه .. فجعل سبحانه وتعالى لكل صنف من الطيور ما يليق به في تحصيل قوته ..سبحان الله

يتبع بمشيئة الوهاب

زاد المعاد
01-24-2009, 10:27 AM
الباب الحادى عشر

" في حكمة خلق البهائم "


قال الله تعالى " وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {5} وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ {6} وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {7} وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {8} " النحل.

إعلم وفقك الله وإيانا ..

أن الله خلق البهائم لمنافع العباد ..وامتناناً عليهم .. كما نبهت على ذلك هذه الآية .. فخلقها الله بلحم مثبت على عظام صلبة تمسكه .. وعصب شديد وعروق شداد .. وضمّ بعضها إلى بعض .. ولم يجعلها رخوة ولا صلبة كصلابة الحجارة .. وجعل لذلك تجلداً اشتمل على أبدانها كلها ليضبطها ويتقنها .. لأنه أريد منها القوة للعمل والحمل .. ثم خلقها سبحانه سميعة بصيرة ليبلغ لإنسان حاجته .. لأنها لو كانت عمياء صماء لم ينتفع بها الإنسان .. ولا وصل بها إلى شيء من مآربه .
ثم مُنعت العقل والذهن حكمة من الله عزوجل لتِذلّ للإنسان .. فلا تمتنع عليه إذا أكدّها عند حاجته إلى إكدادِها في الطحن وحمل الأثقال ..إلى غير ذلك .
وقد علم الله أن بالناس حاجة إلى أعمالها وهم لا يطيقون أعمالها ولا يقدرون عليها .. ولو كلف العباد القيام بأعمالها لأجهدهم ذلك .. واستفرغ قواهم .. فلا يبقى فيهم فضيلة لعمل شيء من الصناعات والمهن التي يخصون بعملها وخلقتهم قابلة لها ولا غنى لهم عنها .. ولا لتحصيل الفضائل من العلوم والآداب .. ولكان ذلك مع أتعابه لأبد أنهم يضيـّق عليهم معايشهم .. فكان قضاؤه على هذا وتسخيرها لهم من النعم العظيمة.
أنظر في خلق أصناف من الحيوان .. وتهيئتها لما فيه صلاح كل صنف منها .. فبنو آدم لما قُدروا أن يكونوا ذوي علاج للصناعات .. واكتساب العلوم وسائر الفضائل .. ولا غنى لهم عن البناء والحياكة والتجارة وغير ذلك .. خـُلِقت لهم العقول والأذهان والفكر .. وخـُلِقت لهم الأكف ذوات الأصابع ليتمكنوا من القبض على الأشياء .. ومحاولات الصناعات.
وآكلات اللحم لما قـُدَّر أن يكون عيشها من الصيد ولا تصلح لغيره .. خلقت لها مخالب وسرعة نهضة وأنياب.
وآكـِِِِِِلات النبات لما قـُدر أن تكون غير ذات صنعة ولا صيد خلقت لبعضها أظلاف كفتها خشونة الأرض إذا جالت في طلب المرعى .. ولبعضها حوافر مستديرة ذات مقر كأخمص القدمين لتنطبق على الأرض وتتهيأ للحمل والركوب.
تأمل التدبير في خلق آكـِلات اللحم من الحيوان .. كيف خلقت ذوات أسنان حداد ، وأضراس شـِداد ، وأفواه واسعة .. وأُعينت بسلاح وأدوات تنال بذلك ما تطلبه .. فإن ذلك كله صالح للصيد.
فلو كانت البهائم التي عيشها النبات ذوات مخالب وأنياب .. كانت أعطيت ما لا تحتاج إليه .. لأنها لا تصطاد ولا تأكل اللحم . ولو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه من السلاح الذي به تصطاد .
فانظر كيف أعطى سبحانه جل وعلا كل واحد من أصناف الحيوان ما يُشاكله وما فيه صلاحه وحياته .
أنظر إلى أولاد ذوات الأربع .. كيف تجدها تتبع الأمهات مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى تربية وحمل كما يحتاج الآدميون .. إذ لم يجعل في أمهاتها ما جعل في أمهات البشر من العقل والعلم .. والرفق في أحوال التربية .. والقوة عليها بالفكر والأكف والأصابع المهيأة لذلك ولغيره .. فلذلك أعطيت النهوض والإستقلال بأنفسها.
ولذلك ترى فراخ بعض الطير مثل الدجاج والدراج يدرج ويلتقط عقيب خروجه من البيضة .. وما كان منها ضعيفاً لا نهوض له مثل فراخ الحمام واليمام جعل في الأمهات عطفاً عليها .. فصارت تعين الطعام في حواصلها .. ثم تمجـُّه في أفواه أفراخها .. ولا تزال كذلك حتى تنهض أفراخها وتستقل .. فكل أعطي من اللطف والحكمة بقسط .. فسبحان المدبر الحكيم .
أنظر إلى قوائم الحيوان كيف تنتقل أزواجاً لتتهيأ للمشي .. فلو كانت أفراداً لم تصلح لذلك ، لأن المائي منها ينقل منها بعضه .. ويعينه على مشيه اعتماده على ما لم ينقله منها .. وذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على الأخرى .. وذو الأربع ينقل اثنين ويعتمد على اثنتين.. وذلك من خلاف لأنه لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كالسرير .. ولو كان يرفع يديه ويتبعها برجليه لفسد مشيه .. فجعل ينقل اليمنى من مقدمة على اليسرى من موخـَّرِه .. ويعتمد الأخريين من خلاف أيضاً.. فتثبت على الأرض ولا تسقط إذا مشىَ .. لسرعة التحاقهما فيما بين المشي والإعتماد.
أما ترى الحمار يذل للحمولة والطحن .. والفرس مُردَع عنها ..؟ والبعير لا تطيقه عدة رجال لو استعصى .. وينقاد لصبي صغير ..؟ والثور الشديد يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه ليستحرثه ..؟ والفرس تركب ويحمل عليها السيوف والأسنة في الحروب وقاية لراكبها ..؟ والقطيع من الغنم يرعاها صبي واحد..؟
فلو تفرقت فأخذت كل شاة منها جهة لنفورها لتعذرت رعايتها .. وربما أعجزت طالبها.. وكذلك جميع الحيوانات المسخرة للإنسان .. وما ذلك إلا لأنها عدمت العقل والتروي .. فكان سبباً لتذليلها .. فلم تلتو على أحد من الناس وإن أكدّها في كثير من الأحوال.
وكذلك السباع لو كانت ذوات عقل ورويه لتواردت على الناس وانكتهم نكاية شديدة عظيمة .. ولعسر زجرها ودفعها .. ولا سيما إذا اشتدت حاجتها في طلب قوتها واشتد خللها.
ألا ترى إذ أحجمت عن الخلق .. وصارت في أماكنها خائفة تهاب مساكن الناس وتحجم عنها .. حتى صارت لا تظهر ولا تنبعث في طلب قوتها في غالب أحوالها إلا ليلاً .. فجعلها مع شدة قوتها وعظم غذاءها كالخائفة من الأنس .. بل هي ممنوعة منهم .. ولولا ذلك لساورتهم في منازلهم وضيقت عليهم مساكنهم .
ألا ترى الكلب .. وهو بعض السـَّباع .. كيف سـُحَّر في حراسة منزل صاحبه ..؟
حتى صار يبذل نفسه ويترك نومه حتى لا يصل إلى صاحبه ما يؤذيه .. ثم إنه أعان صاحبه بقوّة صوته حتى يتنبه من نومه فيدفع عن نفسه .. ويألفه حتى يصبر معه على الجوع والعطش .. والهوان والجفاء .. فطبع على هذه الخلال لمنفعته الإنسان في الحراسة والإصطياد .. ولما جعله البارى سبحانه حارساً أمده بسلاح وهو الأنياب والأظفار واللهث القوي ليذعر به السارق والمريب.. ويجتنب المواضع التي يحميها .
ثم انظر كيف جعل ظهر الدابة سطحاً مثبـَّتاً على قوائم أربع لتمهيد الركوب والحمولة .. وجعل فرجها بارزاً من وراءها ليتمكن الفحل من ضرابها .. إذ لو كان أسفل باطنها كالآدمي لم يتمكن الفحل منها ..آلا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحاً كما يأتي الرجل إمرأته ..؟ فتأمل هذه الحكمة والتدبير .. ولما كان فرج الفيلة تحت بطنها ، فإذا كان وقت الضراب إرتفع وبرز للفحل حتى يتمكن من إتيانها .. فلما لم يخلق في الموضع المخلوق في الأنعام والبهائم خلقت فيه هذه الصفة ليقوم الأمر الذي به دوام التناسل .. وذلك من عظيم العبر.
ثم أنظر كيف كـُسـِيَت أجساد البهائم الشعر والوبر .. ليقيها ذلك الحر والبرد وغيره من الآفات .. وحملت قوائمها على الأظلاف والحوافر ليقيها ذلك من الحفا .. وما كان منها بغير ذلك جعلت له أخفاف تقوم مقام الحافر في غيره .
ولما كانت البهائم لا أذهان لها ولا أكـُف ولا أصابع تتهيأ للأعمال .. كـُفِيـَت مئونة ما يضرُّ بها .. بن جعلت كسوتها في خـَلقِها باقية عليها ما بقيت فلا تحتاج إلى إستبدال بها ولا تجديد بغيرها ..بخلاف الآدمي .. فإنه ذو فهم وتدبير .. وأعضاء مهيأة لإعمال ما يقترحه .. وله في إشغاله بذلك صلاح .. وفيه حكمة .. فإنه خلق على قابلية لفعل الخير والشر .. وهو إلى فعل الشر أميل منه إلى فعل الخير .. فجعلت له الأسباب التي يحصل بها ما هو محتاج إليه .. ليشتغل بها عما فيه فساده وهلاك دينه .. فإنه لو أعطي الكفاية في كل أحواله أهلكه الأشر ( كفر النعمة فلم يشكرها ) والبطر.. وكان من أعظم الحيوانات فساداً في الأرض .. ولتصرف بعقله الذي هو مخلوق ينال به السعادة إلى ما فيه شقاوته.
ثم أن الآدمي مكـّرم كما قال العزيز الغفور " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70}" الإسراء، يتخيّرمن ضروب الملابس ما شاء .. فيلبس منها ما شاء .. ويخلع منها ما شاء .. ويتزين بها ويتجمل ويتلذذ منها بما يشاء .. ويكمل زينته وجماله وبهاءه في عين من يصحبه ويحب قربه .. ويطيب بذلك رائحته وينعش نفسه .. وهذا من باب النعمة عليه والكرامة له .. بخلاف البهائم .. فإنها غنية عن ذلك كله.
أنظر فيما ألهم الله البهائم والوحوش في البراري .. فإنها تواري أنفسها كما يواري الناس موتاهم .. فما أحس منها بالموت توارى بنفسه إلى موضع يحتجب فيه حتى يموت .. وإلا فأين جثث السباع والوحوش وغيرها ..؟
فإنك لو طلبت منها شيئاً لم تجده وليست قليلة .. فيخفي أمرها لقلتها .. بل لو قال قائل : إنها أكثر من الأنس لم يبعد .. لأن الصحاري قد إمتلآت من سباع وضباع وبقر وحمير وإبل وخنزير وذئاب وضروب من الهوام والحشرات وأصناف من الطير وغير ذلك مما لا يحصى عدده .. وهذه الأصناف في كل يوم يخلق منها ويموت منها ولا يـُرى منها رمَـم موجودة ( مفردها رمة والرمة العظام البالية).
والذي أجرى الله سبحانه به عادتها أن تكون في أماكنها .. فإذا أحسّت بالموت أتت إلى مواضع خفية فتموت فيها .
فانظر هذا الأمر الذي ألهمت له هذه الأصناف في دفن جثثها بما فطرت عليه .. وشـُخَّص لبني آدم بالفكر والتروّي.
تأمل الدواب كيف خلق أعينها شاخصة أمامها .. لتنظر ما بين يديها فلا تصدم حائطاً ولا تتردى في حفرة .. وإذا قربت من ذلك نفرت منه وأبعدت نفسها عنه .. وهي جاهلة بعاقبة ما يلحقها منه.
أليس الذي جعلها على ذلك أراد صلاحها وسلامتها ليـُنتـَفع بها ..؟
ثم أنظر إلى فمها مشقوقاً إلى أسفل الخطم .. لتتمكن من نيل العلف والرعي .. ولو جعل كفم الإنسان لم تستطع أن تتناول شيئاً من الأرض .. وأُعينت بالحجفلة لتقضم بها ما قرب منها .. فا لهمت قضم ما فيه صلاحها .. وترك ما لا غذاء لها فيه ولا صلاح .
أنظر ما كان من البهائم كيف يمزُّ الماء مزّاً .. وكيف خلقت فيه شعرات حول فمه .. يدفع بها في شربه ما كان على وجه الماء من القذى والحشيش .. ويحركها تحريكاً يدفع به الكدر عن الماء حتى يشرب صفوه .. فتقوم لها هذه الشعرات مقام فم الأسنان.
ثم أنظر إلى ذنب البهيمة وحكمته .. وكيف خُلق كأنه غطاء في طرفة شعر .. فمن منافعه أنه بمنزلة الغطاء على فرجها ودبرها ليسترها .. ومنها أن ما بين دبرها وطرق بطنها أبداً يكون فيه وَضَر يجتمع بسببه الذباب والبعوض ..ويجتمع أيضاً على مؤخره .. فأعيـِنت على دفع ذلك بتحريك ذنبها .. فصار كأنه مذبة في يدها تذب وتطرد عنها ما يضرّ بها .. ثم إنها تعطف برأسها فتطرد به ما في مقدمها من الذباب أيضاً .
ثم إن الدابة أيضاً أُعينت بحركة مختصة .. وذلك أن الذباب إذا وقع عليها في مواضع بعيدة من رأسها وذنبها حركت ذلك الموضع من جلدها تحريكاً تطرد به الذباب وغيره عنها .. وذلك من عجيب الحكمة فيما لا ينتفع بيدين .
ومن الحكمة فيه أيضاً أن الدابة تستريح بتحريكه يـُمنـَة ً ويـُسرَة .. لأنها لما كان قيامها على أربع اشتغلت يداها أيضاً بالحمل لبدنها .. فجعل لها في تحريك ذنبها منفعة وراحة .. وأعينت بسرعة حركته حتى لا يطول ألمها بما يعرض لها .
ومن الحكمة فيه أن البهيمة إذا وقعت في بركة أو مهواة .. أو وَجـَلـَت في طين أو غيره .. فلا تجد شيئاً أهون على نهوضها وخلاصها منه من الرفع بذنبها .. ومن ذلك إذا خيف على حملها أن ينقلب على رقبتها عند هبوطها من مكان مصبوب .. أو أن يسبقها رأسها فتنكب على وجهها .. فيكون مسكها بذنبها في هذه المواضع يعدلها ويعينها على إعتدال سيرها وسلامتها مما خيف منه عليها .. إلى غير ذلك من مصالح لا يعلمها إلا الحكيم العليم .
انظر إلى مشفر الفيل وما فيه من الحكمة والتدبير .. فإنه يقوم مقام اليدين في تناول العلف وإيصاله إلى فمه فلولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئاً في الأرض .. إذ لم يجعل له عنق كسائر الأنعام .. فلما عدم العنق في هذا الخلق جعل له هذا الخرطوم يمده فيتناول به ما يحتاجه .. فسبحان اللطيف الخبير .
أنظر كيف جعل هذا الخرطوم وعاء يحمل فيه الماء إلى فمه .. ومنخراً يتنفس منه .. وآلة يحمل بها ما أراد على ظهره .. ويناول من هو راكب عليه.
أنظر إلى خلق الزرافة .. لما كان منشؤها في رياض شاهقة .. خلق لها عنقاً طويلاً لتدرك قوتها من تلك الأشجار .
تأمل في خـُلق الثعلب .. فإنه إذا حفر له بيتاً في الأرض جعل له فوهتين : إحداهما ينصرف منها .. والأخرى يهرب منها إن طـُلـِب ويرفق ( هو ما ارتفقت به وانتفعت به ، والمراد هنا أنه يشق طرقاً في الأرض من بيته لينتفع بها ويهرب من إحداهما إذا دوهم من الآخر ) مواضع في الأرض من بيته .. فإن طلب من المواضع المفتوحة ضرب برأسه في المواضع التي رفقها .. فخرج من حيز المنافذ .. وهي المواضع التي تحتها .. فانظر ما خلق الله تبارك وتعالى في جبلته لصيانه نفسه.

@@@وجملة القول في الحيوان أن الله تبارك وتعالى خلقه مختلف الطباع والخلق .. فما كان منه ينتفع الناس بأكله خلق منه الإنقياد والتذلل .. وجعل قوته النبات .. وما جعل منه للحمل جعله هاديء الطبع .. قليل الغضب .. منقاداً ومفصلاً على صور يتهيأ منه الحمل .. وما كان منه ذا غضب وشر إلا أنه قابل للتنظيم إذا نـُظم خلق فيه هذا القبول للتعليم .. ليستعين العباد بصيده وحراسته .. وأعين بألات قد تقدم ذكرها .. ومن جملة ذلك الفيل .. فإنه ذو فهم مخصوص به .. وهو قابل للتأنس والتعليم ..فيـُستعان به في الحمل والحروب .. ومنها ما له غضب وشر إلا أنه متأنس بالإنسان لمنفعته كالهرة .. ومن الطير ما للناس به انتفاع لما فيه من الألفة والتأنـُّس .. فمن ذلك الحمام يألف موضعه .. فسهل بسببه الإخبار بسرعة إذا دعت حاجة إلى ذلك .. وجعله الله سبحانه وتعالى كثير النسل .. فيكون منه طعام ينتفع به .. ومن ذلك البازي فإن طباعه تنتقل إلى التأنس وإن كان في طبعه مبايناً .. إلا أنه لما علم الله أنه ينتفع بصيده جعل فيه القبول للتنظيم .. حتى خرج عن عادته وبقي يعمل ما يوافق أصحابه وقت الصيد ..
وما خـَفـِيَ من الحـِكـَم في خلق الله تعالى أكثر مما عـُلم


يتبع بإذن المنعم الكريم

زاد المعاد
01-24-2009, 05:14 PM
الباب الثاني عشر


" في حكمة خلق النحل، والنمل، والعنكبوت، ودود القز، والذباب ..إلى غير ذلك "


قال الله تعالى " وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ {38} " الأنعام .

انظر إلى النمل وما أُلهمت له في إحتشادها في جمع قوتها وتعاونها على ذلك .. وإعدادها لوقت عجزها عن الخروج والتصرف بسبب حر أو برد.
وألهمت في تقلب ذلك من الحزم ما لم يكن عند من يعرف العواقب .. حتى تراها فى ذلك إذا عجز بعضها عن حمل ما حمله أو جهد به .. أعانه آخر منه .. فصارت متعاونة على النقل كما يتعاون الناس على العمل الذي لا يتم إلا بالتعاون .. ثم إنها أُلهمت حفر بيوت في الأرض .. تبتدىء في ذلك بإخراج ترابها .. وتقصد إلى الحب الذي فيه قوتها .. فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض فما خلق هذا في جبلتها إلا الرحمن الرحيم .. ثم إذا أصاب الحب بلل أخرجته فنشرته حتى يجف .. ثم إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض خوفاً من السيل أن يغرقها.
ثم انظر إلى النحل .. وما ألهمت إليه من العجائب والحكم .. فإن الباري سبحانه وتعالى جعل لها رئيساً تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها .. فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه قتل أحدهما الآخر .. وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الإفتراق .. لأنهما إذا كانا أميرين وسلك كل منهما فجـّاً افترق النحل خلفهما .
ثم إنهما ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار .. فيتحول في أجوافها عسلاً .. فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد .. من شراب فيه شفاء للناس كما قال الحنان المنان " وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ {68} ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {69} " النحل .. وفيه غذاء وملاذ للعباد وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها .. وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس .
ثم انظر إلى ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها لتوعي فيه العسل وتحفظه .. فلا تكاد تجد وعاءً أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح.
فانظر في هذه الذبابة .. هل في علمها وقـُدرتها جمع الشمع مع العسل ..؟
أو عندها من المعرفة مثل ما للنحل بحيث ترتب حفظ العسل مدة طويلة بإستقراره في الشمع .. وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها .
ثم انظر لخروج النحلة نهاراً لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها .. وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها .. ولها في ترتيب بيوتها .. ومن الحكمة في بنائها .. حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل .. ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مُباعداً عن مواضع العسل .. وفيها غير هذا مما إنفرد الله بعلمه.

انظر إلى " العنـكبـوت " وما خلق الله فيها من الحكمة .. فإن الله خلق في جسدها رطوبة تنسح منها بيتاً لتسكنه .. وشركاً لصيدها .. فهو مخلوق من جسدها .. وجعل الله غذاءها من أقواتها .. ينصرف إلى تقويم جسدها .. وإلى خلق تلك الرطوبة المذكورة .. فتنصبه أبداً مثل الشرك .. وفي ركن الشرك بيتها .. وتكون سعة بيتها بحيث يغيب شخصها .. والشرك من خيوط رقاق تلتف على أرجل الذباب والناموس وما أشبه ذلك .. فإذا أحست أن شيئاً من ذلك وقع في شركها خرجت إليه بسرعة .. وأخذته محتاطة عليه .. ورجعت إلى بيتها فتقتات بما يتيسر لها من رطوبة تلك الحيوانات .. وإن كانت مستغنية في ذلك الوقت شكلته وتركته إلى وقت حاجتها.
فانظر ما جعل الله فيها من الأسباب لحصول قوتها .. فبلغت في ذلك ما يبلغه الإنسان بالفكرة والحيلة .. كل ذلك لإصلاحها ونيل قوتها .. ولتعلم أن الله هو المدبـَّر لهذا.

ثم انظر من العجائب " دود القز " وما خـُلق فيه من الأشياء التي يتحيـَّر منها .. ويـُذكرُ الله عند رؤيتها .. فإن هذا الدود خلق لمجرد مصلحة الإنسان ومنافعه .. فإن هذا الحيوان يخلق من جسمه الحرير .. وذلك أن صورة البزر تحضن .. حتى إذا احمى عاد دوداً كالذر .. فيوضع هذا الدود على ورق التوت فيتغذى منه .. فلا يزال يرعى منه حتى يكتمل جسمه فينبعث إلى عزل نفسه في جوز الحرير .. فلا يزال كذلك حتى يفنى جسمه ويعود في جوزة الحرير .. ويصير جسماً ميتاً لا حياة فيه.
ثم انظر فإن البارى سبحانه لما أراد حفظ هذا الجنس ببقاء نسله رتب تطوره على أمر عجيب ...
فعند ما ينتهي من غزل الحرير ويعفى ذلك الجسم يقلبه الله إلى صورة طائر صغير قريب من صورة النحل أو الفراشة .. فيجمع على بساط أو غيره .. وهو في رأى العين جنس واحد لا يتميز منه الذكر من الأنثى .. فيعلوا الذكر منه على ظهر الأنثى .. ويقيم لحظة على ظهرها فتحبل لوقتها وتلد لوقتها مثل ذلك البزر الذي حضن أولاً .. ثم يطير فيذهب فلا يبقى بها إنتفاع .. إذ قد حصل منها المقصود وهو ذلك البزر.. فانظر من ألهمها الرعي من ذلك الورق حتى تغتذي به ..؟
ومن ألهمها إلى غزل أجسادها حريراً حتى يفنى جسمها فيما غزلته ..؟
ومن ربى لها أجنحة ..؟
وقلب صورتها حتى صارت على هيئة يمكن فيها اجتماع الذكر والأنثى لتناسلها ..؟
ولو بقيت على صورتها الأولى لم يأت منها تناسل ولا هذا الإجتماع.
ثم انظر ما يسره الباري سبحانه وتعالى من عمل ما غزلته هذه الدودة على من يعمله من بني آدم .. حتى يكون منه أموال كثيرة .. وملابس عظيمة وزينة .. وانظر هذا التسخير العجيب في هذا الحيوان اللطيف .. وما أظهر فيه سبحانه من بارع الصنع وعجيب العقل وعظيم الإعتبار .. وما جعل فيه من البرهان والآيات على بعث الأموات .. وإعادة العظام للرُّفات .. سبحانه لا إله إلا هو العلي العظيم

ثم انظر إلى " الذبابة "
وما أُعينت به لنيل قوتها .. فإنها خـُلقت بأجنحة تسرع بها إلى موضع تنال فيه قوتها .. وتهرب بها عما يهلكها ويضرّ بها .. وخلق لها ستة أرجل تعتمد على أربع .. وتفضل منها اثنتين .. فإن أصابها عثار مسحته بالرجلين اللتين تليهما .. وذلك لرقة أجنحتها .. ولأن عينيها لم يخلق لها أهداب .. لأنهما بارزتان عن رأسها .
وجعل هذا الحيوان وما جرى مجراه مما يتعلق ببني آدم ويقع عليهم دائماً .. ويـُنغص عليهم عيشهم .. ليعرفهم الباري سبحانه هوان الدنيا .. حتى تصغـُر عندهم ويهون أمر فراقها .. وهو وجه من وجوه الحكمة لهم.
تأمـّل كثيراً من الحيوان الصغير عندما تلمسه يعود كأنه جماد لا حراك به .. ويبقى على ذلك ساعة .. ثم يتحرك ويمشي .. وهل ذلك إلا لأن ما يُصطاد إنما يُصطاد إذا دلت هيئته على حياته .. فإذا كان شبيهاً بالجماد تـُرك كما تُترك سائر الحجارة.
تأمل " العقاب " عندما يصطاد السلحفاة يجدها كأنها حجر .. ولا يجد فيها موضعاً لأكله .. فيصعد بها في مخالبه .. حتى إذا ابتعد من الأرض اعتدل بها على جبل أو حجارة وأرسلها .. فتهشمها الوقعة فيسقط عليها فيأكلها .. فانظر كيف أُلهم الطريق في نيل قوته من غير عقل ولا روية .
انظر إلى الغراب لما كان مكروهاً .. خلق في طبعه الحذر لصيانة نفسه .. حتى كأنه يعلم الغيب ممن يقصده .. وألهم الإحتيال في إخفاء عشه لصون فراخه .. وقل احتفاله بالأنثى خشية أن تشغله عن شدة حذره .. ولذلك قل أن يُرى مجتمعاً مع أنثى .. فهذا أبداً دأبه وحاله مع من له عقل وفطنة .. وتراه مع البهائم على خلاف ذلك .. فيقف على ظهورها .. ويأكل من دم البعير .. ومن أوراث الدواب وقت تبرزها .. وإذا وجد شيئاً من قوته وأكل منه وشبع .. دفن باقيه حتى يعاوده وقتاً آخر ...
فما خَلقَ هذا في طبعه .. ودبرَّه بهذا التدبير العجيب إلا الله .. لأن الغراب لا عقل له ولا روِيـَّة .
انظر إلى الحدأة لما كانت مكروهة .. حفظت نفسها بقوة طيرانها وتعاليها .. وحفظت في أمر قوتها بقوة بصرها .. فإنها ترى ما تقتات به في الأرض مع علوها في الجو فتحطـّ نحوه بسرعة .. والهمت معرفة من هو مقبل ومن هو مدبر .. فتخطف ما تخطفه من الناس من ورائهم .. ولا تخطف مما يستقبلها لئلا يمنعها المستقبل بيديه .. واعينت لما كان غذاؤها من هذه الوجوه .. بأن جعلت لها مخالب كأنها السنانير .. فلا يكاد يسقط منها ما ترفعه .. فسبحان المدبر الحكيم
انظر إلى الحيوان المسمى " حرباء " وما فيه من التدبير .. فإنه خلق بطيئاً في نهضته .. وكان لا بد له من قوته .. فخلق على صورة عجيبة .. فخلقت عيناه تدور لكل جهة من الجهات حتى يدرك صيده من غير حركة في جسده ولا قصد إليه .. ويبقى جامداً كأنه ليس من الحيوان .. ثم أُعطي مع السكون .. وهو أنه يتشكل مع لون الشجرة التي يكون عليها .. حتى يكاد يختلط لونه بلونها .. ثم إذا قرب منه ما يصطاده من ذباب أو غيره أخرج لسانه .. فيخطف ذلك بسرعة خفوق البرق .. ثم يعود على حالته كأنه جزء من الشجرة .. وجعل الله لسانه بخلاف المعتاد .. ليلحق به ما بعد عنه بثلاثة أشبار أو نحوه .. فقد سخر له ما يصطاد به على هذه المسافة .. وإذا رأى ما يريعه ويخيفه .. تشكـّل على هيئةٍ وشكل ينفر منه من يصطاد الحيوان ويكرهه .. فانظر هذه الأشياء التي خلقت فيه لأجل قلة نهضته فأعين بها .
انظر إلى الحيوان الذي يسمى " سبع الذباب " وما أعطى من الحيلة والرفق فيما يقتات به .. فإنك تجده يحس بالذباب قد وقع قريباً منه فيركد ملياً حتى كأنه ميت أو جماد لا حراك به .. فإذا أحس أن الذباب قد أطمأن دب دبيباً رقيقاً حتى لا ينفره .. حتى إذا صار قريباً منه .. بحيث يناله بوثبة وثب عليه فأخذه .. فإذا أخذه اشتمل عليه بجسده كله خشية أن يتخلص منه الذباب .. فلا يزال قابضاً عليه حتى يحس ببطلان حركته فيقبل عليه فيتغذى فيه بما يلائمه ...
فانظر إلى هذه الحيلة من فعله .. وهي مخلوقة من أجل رزقه .. فسبحان الباري الحكيم
انظر إلى " الذرّ والبعوض " الذي أوهن الله قوتها وأصغر قدرها .. وضرب بها المثل في كتابه .. هل تجد فيها نقصاً عما فيه صلاحها من جناح ما تطير به .. ورجل تعتمد عليها .. وبصر تقصد به موضعاً تنال فيه قوتها .. وآلة لهضم غذائها وإخراج فضلته ...
وانظر هل يمكن أن تعيش من غير قوت ..؟ وهل يمكن أن يكون القوت في غير محل واحد ..؟ وإخراجه فضلته من غير منفذ ..؟ ثم أنظر كيف دبرها العزيز الحكيم فسواها .. وقدر أعضائها .. واستودعها العلم والمعرفة بمنافعها ومضارها .. وكله دليل على علمه وقدرته وحكمته البالغة .. فهي بعوضة صغرت في النظر .. ومع هذا ...!
فلو أن أهل السموات والأرض ومـِنَ الملائكة .. فمن دونهم من العالمين وسائر الخلق أجمعين .. أرادوا أن يعرفوا كيف قسم الخالق سبحانه أجزاءها .. وحسن اعتدال صورتها في أعضائها .. لما قدروا على ذلك .. إلا تظاهراً لمنظر العجز منهم على عدم علم حقيقة الخبر ...
@@@ولو اجتمعوا ثم تفكروا ،،،
كيف ركبت معرفتها حتى عرفت أن ما بين الجلد واللحم دماً .. وهو الذي فيه غذاؤها .. ولولا معرفتها به لم تدم على مصه حتى تطعمه .. وكيف همتها التي قصدت بها أن تطير إلى الموضع الذي ألهمها ربها أن فيه غذائها .. وكيف خرق سمعها .. وكيف سمعت حسّ من يقصدها ..
فلن يدرك ذلك منها الخلائق أجمعون .. ولو جزءوها ما إزدادوا في أمرها إلا عَمىً وبعداً عن المعرفة ...
@@@ فهذه الحكمة والقدرة في بعوضة .. فما ظنك بجميع مخلوقاته ..؟

قال الله تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ {73} مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {74} " الحج.



يتبع بإذن الحكيم

زاد المعاد
01-24-2009, 05:20 PM
الباب الثالث عشر

" في حكمة خلق السمك وما تضمن خلقها من الحكم "


قال الله تعالى " وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا " النحل

انظر واعتبر بما خلق الله تعالى في البحار والأنهار من الحيوان المختلف الصور والأشكال .. وما فيه من الآيات البينات .. فإنه تعالى لما جعل مسكنه في الماء لم يخلق له قوائم .. ولم يخلق فيه رئة .. لأنه لا يتمشى وهو منغمس في لجة الماء .. وخلق له مكان القوائم اجنحة شداد .. يحركها من جانبه فيسير بها حيث شاء .. وكسىَ جلده كسوة متداخلة صلبة تخالف لحمه .. متراصة كأنها درع .. لتقيه ما يعتدي عليه وما يؤذيه .. وما لم يخلق له من السمك تلك الكسوة .. وهي القشر المتداخل المخلوق على ظاهره .. خلق له جلداً غليظاً متقناً يقوم له مقام تلك الكسوة لغيره .. وخلق له بصراً وسمعاً وشماً .. ليستعين بذلك على نيل قوته والهرب مما يؤذيه .. ثم أنظر كيف أعطـِيَ في قعر البحر ما يناسبه في نيل القوت والهرب مما يضره .
ولما علم الله سبحانه وتعالى أن بعضه غذاء لبعض كثـّره .. وجعل أكثر أصنافه يحمل .. ولم يجعل الحمل منه مخصوصاً بالأنثى دون الذكر كحيوان البرية .. بل جعل الذكر والأنثى جنساً واحداً .. يخلق في بطونها مرة واحدة في وقت معلوم .. ذريعة مجتمعة مشتملة على عدد لا ينحصر .. فيخلق من جوف واحدة عدداً لا يحصى .. وذلك من كل بزرة حوتاً من الجنس.. ومن جنس آخر يخلق في الأنهار وغيرها بغير توالد .. فيخلق منها أعداداً لا تحصى دفعة واحدة .. ومنه صنف يتوالد بالذكر والأنثى .. وهذا الجنس يخلق له يدان ورجلان مثل السلحفاة والتمساح وما شاكلها .. فيتولد منها بيض .. فإذا فقس البيض بحرارة الشمس خرج من كل بيضة واحد من الجنس .
ولما علم سبحانه وتعالى أن السمك في البحر لا يمكن أن يحضن ما يخرج من بزره .. ألقى الروح في البزر جميعه عندما يولد .. فيجد فيه جميع ما يحتاجه من الأعضاء عند إلقاء الروح فيه .. فيستقل ولا يفتقر إلى أحد في كمال خلقه .. فانظر هذه الحكمة واللطف .. حيث لم يمكن حضانته في البحر .. ولا تربيته ولا معونته البتة .. جعله مستقلاً بنفسه .. مستغنياً عن ذلك كله .. ثم إن الله سبحانه وتعالى كثـَّره لأن منه قوت جنسه .. وقوتاً لبني آدم والطير .. فلذلك كان كثيراً...
ثم انظر إلى سرعة حركته .. وإن لم تكن له آلة كغيره من الحيوان .
وانظر إلى حركة ذنبه وانقسامه .. وكيف يعتدل بذلك في سيره كما تعتدل السفينة برجلها في سيرها .. وخلقت أرياشه ألواحاً من جانبيه ليعتدل بهما أيضاً في سيره فهو بمنزلة المركب...
وانظر إلى عظامه كيف خلقت مثل العمد يبني عليها ..ففي كل موضع منه ما يليق به من صورة العظم المشاكل لذلك العضو .. فهو كإنشاء المركب .. يمتد فيه العظم الجافي الذي هو قوَّته .. ويخرج من الأضلاع إلى مراقي البطن والظهر وعظام الرأس مما يحتاج إليه من الأمر وبه قوامه ...
وانظر إلى ما كان منه كاسراً كيف أُعين على نيل قوته .. لصلابة اللحم .. وقوة النهضة .. وكثرة الأسنان .. حتى أنه لكثرة أسنانه تكون العضة الواحدة كافية وتجزيه عن المضغ...
انظر إلى ما خلق الله في البحر ضعيفاً قليل الحركة .. مثل أصناف الصدف والحلزون .. كيف حفظه بأن خلق عليه ذلك الحصن الذي هو صلب كالرخام ليصونه ويحفظه .. وجعل له بيتاً وسكناً .. وجعل ما يوالي جسده ناعماً أنعم ما يكون .. وربما ضيـَّق بيت بعض أصناف الحلزون .. حتى لا يكون فيه مطمع البتة .. وأصناف منه خلقت في محائر مفتوحة لا يمكن صيانتها لنفسها لـِتـَغلـُقـَها .. ولا يضيق مسلكها .. فجعل الله لها من الجبال والحجارة مغطاً .. وجعل لها أسباباً تلتصق بها في الجبل .. فلا يستطاع إخراجها إلا بغاية الجهد .. وجعل لها قوتاً من رطوبة الجبل تأتي حياتها بها.
وأما الحلزون الذي بيته كأنه كوكب فإنه يخرج رأسه ويرعى .. فإذا أحس بما يؤذيه أدخل رأسه في بيته .. وختم عليه بطابع صلب يقرب من صلابة بيته فيغيب أثره بالجملة .
فانظر هذا اللطف وأن الله لم يهمل شيئاً.. واعلم أن الله حافظ لما في البحار وما في الآكام والجبال ..فتبارك الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدى.
وانظر إلى أنواع من السمك يرعى قرب البر الصغير منها .. والكبير في الأعماق وخلق الله في جوفه صبغاً كأنه حبر .. وهو يُخلق له فيه من فضلة غذائه كما يخلق اللبن في الضرع .. فإذا أحس بما يؤذيه أخرج من جوفه ما يعكر موضعه .. ثم يذهب في الماء الذي تغيـّر .. فلا يُعرف كيف ذهب ولا كيف طريقه من تغير الماء .. فعل الله ذلك له وقاية لنفسه .. وجعل فيه مصالح أخرى لا يعلمها إلا خالقها .
انظر إلى نوع آخر من السمك أعين بأجنحة مثل أجنحة الخفاش .. ينتقل بها عند وقوع الأنواء من موضع إلى موضع في الهواء من وجه الماء .. ويظهر لمن لا يعرف ذلك أنه من طيور البر.
انظر إلى نوع آخر من أنواع السمك ضعيف .. وكثيراً ما يكون في الأنهار .. وجعل الله فيه خاصية تصونه إذا اقتربت منه يد من يأخذه .. وفيه الروح تخدر البدن واليد فيعجز قاصده عن أخذه بذلك السبب ..
فلو ملئت الكتب بعجائب حكم الله في خلق واحد لامتلأت الكتب .. وعجز البشر عن استكمالها .. وما هو المذكور في كل نوع إلَّا تنبيه إلى أمر عظيم .


يتبع بإذن المحيى المميت

زاد المعاد
01-24-2009, 05:26 PM
الباب الرابع عشر

" في حكمة خلق النبات وما فيه من عجائب حكمة الله تعالى "

قال الله تعالى " أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ {60}" النمل
انظر وفقك الله وسددك إلى ما على وجه الأرض من النبات .. وما في منظره من النعم .. في حسن منظره وبهجته ونضارته التي لا يعدلها شيء من مناظر الأرض .
ثم انظر إلى ما جعل الباري فيه من ضروب المنافع والمطاعم والروائح والمآرب التي لا تحصي .. وخلق فيه من الحب والنوى لحفظ أنواع النبات .. وجعل الثمار للغذاء والتفكه .. والأتبان للعلف والرعي والحطب للوقود .. والأخشاب للعمارة وإنشاء للسفن .. ولغير ذلك الأعمال التي يطول تعدادها .
والورق والأزهار والأصول والعروق والفروع والصموغ .. لضروب من المصالح لا تحصى : أرأيت لو وجدت الثمار مجموعة من الأرض .. ولم تكن تنبت على هذه السوق الحاملة لها ..؟
لكان يحصل من الخلل في عدم الأخشاب والحطب والأتبان وسائر المنافع ما لا يـُعد .. وإن وجد الغذاء بالثمرات والتفكه بها .
ثم انظر ما جعل الله فيها من البركات حتى صارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة .. وأكثر من ذلك وأقل .. والحكمة في زيادتها وبركتها حصول الإقتيات .. وما فضل ادخر للأمور المهمة والزراعات .. وذلك في المثال كملك أراد عمارة بلدة .. فأعطى أهلها من البذر ما يبذرونه وفضله يتقوَّتون بها إلى إدراك زرعهم .. فهذه هي الحكمة التي أعمّ الله بها البلاد وأصلح بها العباد.. وكذلك الشجر والنخل يزكو وتتضاعف ثمراتها حتى يكون من الحبة الواحدة الشيء العظيم .. ليكون فيه ما يأكله العباد .. ويصرفونه في مآربهم ويفضل منه ما يدخرو يـُغرس فيدوم جنسه ويؤمن انقطاعه .. ولولا نموه وبقاءها يخلفه لكان ما أصابته جانحة ينقطع فلا يوجد ما يخلفه .
تأمل هذه الحبوب .. فإنها تخرج في أوعية تشبه الخرائط .. لتصونها وتحفظها إلى أن تشتد وتستحكم كما تخلق المشيمة على الجنين .. فأما البذر وما أشبهه من الحبوب فإنه يخرج من قشور صلبة .. على رؤوسها أمثال الأسنة ليمنع من الطير.
فانظر كيف حصنت الحبوب بهذه الحصون .. وحجبت لئلا يتمكن الطير منها فيصيبها .. فهو وإن كان ينال منها قوته .. إلا أن حاجة الآدمي أشد وأولى .
تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات .. فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوانات .. ولم يخلق فيها حركات تنبعث بها ولا آلات توصل إليها غذاءها .. جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتجذب الماء من الأرض .. فتتغذى بها أصولها وما علا منها من الأغصان والأوراق والثمار .. فصارت الأرض كالأم المربية لها .. وصارت أصولها وعروقها كالأفواه اللمتقمة لها .. وكأنها ترضع لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان من أمهاتها .
ألم تر إلى عمد الخيم والفسطاط كيف يمتد بالأطناب من كل جانب ليثبت منصبته فلا يسقط ولا يميل .. فهكذا أمر النبات كله .. له عروق منتشرة في الأرض .. ممتدة إلى كل جانب تمسكه وتقيمه .. ولولا ذلك لم تثبت الأشجار العالية .. لا سيما في الرياح العاصفة .. فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة .. واقتدى الناس في أعمالهم بحكمة الله في مصنوعاته .
تأمل خلق الورق .. فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة .. فمنا غلاظ ممتدة في طولها وعرضها .. ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجاً نسجاً دقيقاً عجيباً .. لو كان مما يضع بأيدي البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة إلا في مدة طويلة .. وكان يحتاج فيه إلى آلات وطول علاج .. فانظر كيف يخرج منه في المدة القليلة ما يملأ السهل والجبال وبقاع الأرض بغير آلة وحركة .. إلا قدرة الباري وإرادته وحكمته.
ثم انظر إلى العجم والنوى والعلة فيه .. فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقامها إذا عدم ما يغرس أو عاقه سبب .. فصار ذلك الشيء النفيس الذي الذي يخزن في مواضع شتى لعظم الحاجة إليه .. فإن حدث لما في بعض المواضع منه حادث وجد منه في موضع آخر .. ثم في صلابته يمسك رخاوة الثمار ورقتها .. ولولاه لسرحت وسرح الفساد إليها قبل إدراكها .. وفي بعضها حب يؤكل وينتفع بدهنه ويستعمل في مصالح شتى .
ثم انظر إلى ما خلق الله تعالى فوق النواة من الرطب .. وفوق العجم من العنبة والهيئة التي تخرج عليها .. وما في ذلك من الطعم واللذة والإستمتاع للعباد .. ثم تأمل خلق الحب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائب .. كالمودع في الماء الذي يخلق منه الحيوان .. وهو سر لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى .. وما علم من ذلك يطول شرحه .
ثم انظر كيف حفظ الحب والنوى بصلابته .. وخلقت في ظاهره قشرة .. حتى أنه بسبب ذلك إن سقط في تراب أو غيره لا يفسده سريعاً .. وإذا ادخر لوقت الزراعة بقي محفوظاً .. فصار قشره الخارج حافظاً لما في باطنه بمنزلة شيء نفيس عمل له صندوق يحفظه .. وعندما يوضع في الأرض ويـُسقى يخرج منه عرق النوى وغصن في الهواء .. وكلما ازداد غصناً ازداد عرقاً يتقوَّى به أصل الشجرة .. وينصرف الغذاء منه إلى الغصن .. فهي كذلك إذ يتم غصنها وقوتها .. فتكون الفروع محفوظة عن السقوط بالهواء .. والإنكسار بالنقل أو بغيره .. ويصعد الماء في جذورها إلى أعالي الشجرة .. فيقسمه الله سبحانه وتعالى بالقسط وميزان الحق .. فينصرف للورق غذاء صالح له وللعروق المشتبكة في الأوراق .. وإلى جوانب الورق ما يليق بغذائها .. وللثمار غذاء صالح لها .. وللأقماع والأزهار غذاء صالح ولكل من ذلك ما يليق به ويصلحه .. فهو كذلك حتى يكمل في الثمار نموها وطعمها ورائحتها وألوانها المختلفة وحلاوتها وطيبها.
ثم انظر كيف جعل الله سبحانه خروج الأوراق سابقاً لخروج الثمار .. لأن الثمرة ضعيفة عند خروجها .. تتضرر بحرّ الشمس وبرد الهواء .. فكانت الأوراق ساترة لها .. وصار ما بينها من الفرج لدخول أجزاء من الشمس والهواء لا غنى عنها .. فيحفظها من المن والعفن وغير ذلك من الفساد.
ثم انظر كيف رتب الباري سبحانه الأشجار والثمار والأزهار وجعلها مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح .. فأشكالها ما بين طويل وقصير وجليل وحقير .. وألوانها ما بين أحمر وأبيض .. وأصفر واخضر ..ثم كل لون منها مختلف إلى شديد وصاف ومتوسط .. وطعومها ما بين حلو حامض ومزّ ومـُرّ .. وروائحها متنوعة إلى عطرات لذيذات مختلفات .. وقد أوضح الكتاب العزيز من ذلك ما ذكرناه بما يشرح الصدور .. ويكشف للمتأمل منه كل مستور.
فانظر ما أودع الباري سبحانه جل جلاله فيها من السر عند النظر إليها .. فإنها تجلي عن القلوب درنها عند مشاهدتها .. وتنشرح الصدور برؤيتها .. وتنتعش النفوس لرونق بهجتها .. وأودع الله فيها منافع لا تحصى مختلفة التأثير .. فمنها ما تقوى به القلوب .. ومنها أغذية تحفظ الحياة.. وجعلها مطعومة لذيذة عند تناولها .. وخلق فيها بذوراً لحفظ نوعها .. تزرع عند جفافها وانفصال وقت نضارتها.
انظر وتأمل في قوله تعالى " وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ {20} " المؤمنون ، فأخرج سبحانه فيما بين الحجر والماء زيتاً صافياً لذيذاً نافعاً .. كما اخرج اللبن من بين فرثٍ ودم .. وأخرج من النحل شراباً عسلاً مختلفاً الوانه فيه شفاء للناس ولو جمعت هذه الأشياء في مستقر لكانت مثل الأنهار ..وكل ذلك لمنافع العباد.
فانظر ما في ذلك من العبرة لذوي الأفكار .. ثم انظر إلى الماء الصاعد من العروق الراسخة الحافظة للأعلى من الشجرة .. وكيف قسم الباري في غذاء النخلة .. فقسم للجذور ما يصلح لها .. وللجريد وما فيه من السل ما يصلح لها ويناسب جريدها .. ويرسل للثمرة ما يليق بها .. وكذلك الليف الحافظ للأصول مع الثمرة.. وجعل الثمرة لما كانت ضعيفة في أول أمرها متراصة متراكمة بعضها فوق بعض .. مجموعة في غلاف متقن يحفظها مما يفسدها ويغيرها .. حتى إذا قويت صلحت أن تبرز للشمس والهواء .. فانشق عنها غلافها على التدريج .. وهو الذي كان حافظاً لها .. فيصير يفترق شيئاً بعد شيء على قدر ما تحتمله الثمرة من الهواء والشمس حتى تكتمل قوتها .. فتظهر جميعها حتى لا يضر بها ما يلقاها من حر وبرد .. ثم تراها في النضج والطيب إلى بلوغ الغاية المقصودة منها .. فيلتذ حينئذ بأكلها ويمكن الإنتفاع بادخارها .. وتصرف في المآرب التي هيئت لها .. واعتبر ذلك في جميع الأشجار .. فإنك ترى فيها من اسباب الحفظ ولطائف الصنع ما يعتبر به كل ذي فهم ولب.
فمن ذلك : خلق الرمانة وما فيها من غرائب التدبير .. فإنك ترى فيها شحماً مركوماً في نواحيها .. غليظ الأسفل رقيق الأعلى .. كأمثال التلال في تلوينه .. أو البناء الذي وسع أسفله للاستقرار ورفق أعلاه حتى صار مرصوفاً رصفاً كأنه منضد بالأيدي .. بل تعجز الأيدي عن ذلك التداخل الذي نظم حبها في الشحم المذكور .. وتراه مقسوماً أقساماً .. وكل قسم منه مقسوم بلفائف رقيقة منسوجة أعجب نسج وألطفه .. لتحجب حبها حتى لا يلتقي بعضه ببعض فيفسد ولا يلحق البلوغ والنهاية .. وعليها قشر غليظ يجمع ذلك كله .
ومن حكمة هذه الصفة : أن حبها لو كان حشوها منه صـِرفاً بغير حواجز لم يمد بعضه بعضاً في الغذاء .
ألّا ترى أصول الحب كيف هي مركوزة في ذلك الشحم ..؟
ممدودة منه بعروق رقاق توصل إلى الحب غذاءها .. ومن رقها وضعفها لا تكدر على الأكل ولا تعرف بها.
ثم انظر ما يصير من الحلاوة في الحب من أصول مـُرّة شديدة المرارة قابضة .. ثم تلك اللفائف على الحب تمسكه عن الاضطراب وتحفظه .. ثم حـفـِظـَ الجميع وغشاه بقشر صلب .. شديد القبض والمرارة .. وقاية له من الآفات .. فإن هذا النوع من النبات للعباد به انتفاعات .. وهو ما بين غذاء ودواء .. وتدعوا الحاجة إليه في غير زمانه الذي يـُجني فيه من شجرة .. فحفظ على هذه الصنعة لذلك.
انظر إلى عود الرمانة التي هي متعلقة به .. كيف خلق مثبتاً متقناً حتى تستكمل خلقها .. فلا تسقط قبل بلوغها الغاية ويـُحتاج إليها .. وهي الثمرة المختصة بالإنسان دون غيره من الحيوان.
انظر إلى النبات الممتد على وجه الأرض مثل البطيخ واليقطين وما أشبه ذلك .. وما فيه من التدبير .. فإنه لما كان عود هذا النبات رقيقاً رياناً ذا احتياج إلى الماء ولا ينبت إلا به .. جعل ما ينبت به منبسطاً على وجه الأرض .. فلو كانت منتصباً قائماً كغيره من الشجر لما استطاع حمل هذه الثمار مع طراوة عودها ولينها .. فكانت تسقط قبل بلوغها وبلوغ غاياتها .. فهي تمتد على وجه الأرض لبلوغ الغاية .. وتحمل الأرض عودها وأصل الشجرة .. والسقي يمدها.
وانظر هذه الأصناف كيف لا تـُخلق إلا في الزمن الصالح لها ولمن تناولها .. فهي له معونة عند الحاجة إليها .. ولو أتت في زمان البرد لنفرت النفوس عنها .. ولأضرّت بأكثر من يأكلها.
ثم انظر إلى النخل لما كانت الأنثى منه تحتاج إلى التلقيح .. خلق فيها الذكر الذي تحتاج إليه لذلك .. حتى صار الذكر في النخل كأنه الذكر في الحيوان .. وذلك ليتم خلق ما بزراعته تحفظ أصول هذا النوع .
ثم انظر ما في النبات من العقاقير النافعة البديعة .. فواحد يدخل في البدن فيستخرج الفضلات الغليظة .. وآخر لإخراج المرة السوداء .. وآخر للبلغم ، وآخر لتصريف الريح ، وآخر لشد البطن في الطبيعة ، وآخر للإسهال ، وآخر للقيء ، وآخر لروائحه ، وآخر للمرضى والضعفاء .. وكل ذلك من الماء ،
فسبحان من دبـّر مـُلكـه بأحسن التدبير .


يتبع بإذن الحي القيوم

زاد المعاد
01-24-2009, 05:42 PM
الباب الخامس عشر

" فيما تستشعر به القلوب من العظمة لعلام الغيوب "


قال الله تعالى " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا {44}" الإسراء ، وقال تعالى " تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {5} " الشورى ، وقال تعالى " وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ " الرعد

إعلم وفقنا الله وإياك ...

أن جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب من بدائع الخلق وعجائب الصنع ، وما ظهر في مخلوقاته من الحكم آيات بينات ، وبراهين واضحة ، ودلائل دالات على جلال باريها وقدرته ، ونفوذ مشيئته وظهور عظمته ، فإنك إذا نظرت إلى ما هو أدنى إليك وهي نفسك .. رأيت فيها من العجائب والآيات ما سبق التنبيه عليه وأعظم منه ، وكذلك إذا نظرت إلى مستقرك وهو الأرض ، وأجلت فكرك فيها ، وأطلت النظر في استرسال ذهنك فيما جعل فيها وعليها من جبال شامخات ، وما أحيط بها من بحار زاخرات ‘ وما جرى فيها من الأنهار ، وما انبث فيها من أصناف النباتات والأشجار ، وما بث فيها من الدواب ، إلى غير ذلك مما يعتبر به أولو الألباب .
ثم إذا نظرت إلى سعتها .. وبعد أكنافها .. وعلمت عجز الخلائق عن الإحاطة بجميع جهاتها وأطرافها .. ثم إذا نظرت فيما ذكرته العلماء من نسبة هذا الخلق العظيم إلى السماء .. وأن الأرض وما فيها بالنسبة إلى السماء .. كحلقة ملقاة في أرض فلاة .. وما ذكره النظار من أن الشمس في قدرها تزيد على قدر الأرض مائة ونيفاً وستين جزءاً .. وأن من الكواكب ما يزيد عن الأرض مائة مرة .
ثم أنك ترى هذه النيرات كلها من سمس وقمر ونجوم قد حوت السموات وهي مركوزة فيها .. ففكر في السماء الحاوية لهذا القدر العظيم كيف يكون قدرها ..؟
ثم انظر كيف ترى الشمس والقمر والنجوم والسماء الجامعة لذلك في حدقة عينك مع صغرها ..وبهذا تعرف بعد هذا كله منك .. وعظم حركتها وأنت لا تحس بها ولا تدركها لبعدها .. ثم إنك لا تشك أن الفلك يسير في لحظة قدر كوكب .. فيكون سيره في لحظة قدر الأرض مائة مرة أو أكثر من ذلك .. وأنت غافل عن ذلك .
ثم فكر في عظم قدر هذه الأشياء .. واسمع قسم الله سبحانه وتعالى بها في مواضع من الكتاب العزيز .. فقال " والسماء ذات البروج " البروج ، وقال " وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ {2} النَّجْمُ الثَّاقِبُ {3} " الطارق ، وقال " فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ {75} وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ {76}" الواقعة ..إلى غير ذلك من الآيات.
ثم ترقّ بنظرك إلى ما حواه العالم العلوي من الملائكة وما فيها من الخلق العظيم .. وما أخبر به جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عن إسرافيل عليه السلام ، يقول جبريل عليه السلام " فكيف لو رأيت اسرافيل ..؟ وإن العرش لعلى كاهله ، وإن رجله لفي تخوم الأرض السفلى " وأعظم من هذا كله .. قوله جل وعلا " وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ " البقرة .
فما ظنك بمخلوق وسع هذا الأمر العظيم ..؟
فارفع نظرك إلى باريء هذا العظيم .. واستدل بهذا الخلق العظيم على قدر هذا الخالق العظيم وعلى جلاله وقدرته وعلمه ونفوذ مشيئته واتقان حكمته في بريـَّته .
وانظر كيف جميع هذا الصنع العظيم ممسوك بغير عمد تـُقـِلـُّه .. ولا علائق من فوقه ترفعه وتثبته ..
@@@ فمن نظر في ملكوت السماوات والأرض ونظر في ذلك بعقله ولبـه .. استفاد بذلك المعرفة بربه .. والتعظيم لأمره .. وليس للمتفكرين إلى غير ذلك سبيل .. وكلما ردد العقل الموفق النظر والتفكر في عجائب الصنع وبدائع الخلق ازداد معرفة ويقيناً وإذعاناً لبارئه وتعظيماً .
ثم الخلق في ذلك متفاوتون .. فكل مثال من ذلك على حسب ما وهبه له من نور العقل ونور الهداية .. واعظم شيء موصل إلى هذه الفوائد المشار إليها تلاوة الكتاب العزيز .. وتفهـّم ما ورد فيه وتدبر آياته .. مع ملازمة تقوى الله سبحانه .
فهذا هو باب المعرفة بالله ، واليقين بما عند الله
ثم انظر وتأمل ما نـُشير إليه .. فإنك علمت على الجملة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أسرى به إلى أن بلغ سدرة المنتهى .. ورآى من آيات ربه الكبرى .. واطــّلعَ على ملكوت ربـّه .. وتحقــّق أمرَ الآخرةِ والأولى .. ثم دنا حتى كان قاب قوسين أو أدنى ..
فما ظنك بـِعـِلم من شرُف بهذا المعنى .. ثم أُمـِرَ بأن يقول " وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا " طه
علــَّمك الله بمعرفته .. ومَــنَّ عليك بنور هدايته .. واستعملـَـنا وإيـّاك بطاعته .. وجعلنا بكرمه أجمعين من أهل ولايته .. بـِمـَنـَّـهِ وكرَمِـه وجوده ..إنه ولي ذلك