مشاهدة النسخة كاملة : كتاب : " هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى "
DirghaM
01-21-2009, 07:50 PM
عنوان الكتاب:
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى
تأليف:
محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
الناشر:
دار ابن زيدون، بيروت، لبنان
الأولى، 1410هـ/1990م
( من موسوعة مؤلفات الإمام ابن القيم الجوزية ، إعداد موفع روح الإسلام )
DirghaM
01-21-2009, 07:56 PM
مقدمة
ص -3- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى
شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رضى لنا الإسلام دينا، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً جسيماً، وذخر لمن وافاه به ثواباً جزيلاً وفوزاً عظيماً، وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه، والتمسك بدعائمه وأركانه، والاعتصام بعراه وأسبابه، فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}.فلا
ص -6- يقبل من أحد ديناً سواه من الأولين والآخرين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
شهد بأنه دينه قبل شهادة الأنام، وأشاد به ورفع ذكره وسمى به أهله وما اشتملت عليه الأرحام، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ}.
وجعل أهله هم الشهداء على الناس يوم يقوم الأشهاد؛ لما فضلهم به من الإصابة في القول والعمل والهدى والنية والاعتقاد، إذ كانوا أحق بذلك وأهله في سابق التقدير، فقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
وحكم سبحانه بأنه أحسن الأديان، ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلاً، فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}.
وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه؛ بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عبادة الرحمن، والعمل بما يحبه ويرضاه، مع الإخلاص في السر والإعلان، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل والإحسان، مع إيثار طاعته عن طاعة الشيطان. وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار، فانهار بصاحبه
ص -7- في النار، أسس على عبادة النيران، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان، وبينه وبين الأوثان.
أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان، والصور المدهونة في السقوف والحيطان، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى وأقام هناك مدة من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعاً يشب شيئاً فشيئاً، ويبكي ويأكل ويشرب ويبول وينام ويتقلب مع الصبيان، ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلق ما ينبغي للإنسان، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان، ثم قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذل والهوان، فعقدوا إلى رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجالم ولا عنان، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان، ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان، ثم شدت بالحبال يداه ومع الرجلان، ثم خالطهما تلك المسامير التي تكسر العظام وتمزق اللحمان، وهو يستغيث: يا قوم ارحموني!، فلا يرحمه منهم إنسان.
هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي، الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن، ثم مات ودني في التراب تحت صم الجنادل والصوان، ثم قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان.
فما ظنك بفروع هذا أصلها الذي قام عليه البنيان، أو دين أسس بنيانه
ص -8- ومرسله عما قال فيه المثلثة عباد الصليب، ونسبوه إليه من النقص والعيب والذم.
أما بعد:
فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، وتبارك اسمه، تعالى جده، ولا إله غيره؛ جعل الإسلام عصمة لمن لجأ إليه، وجنة لمن استمسك به وعض بالنواجذ عليه، فهو حَرَمه الذي من دخله كان من الآمنين، وحصنه الذي من لجأ إليه كان من الفائزين، ومن انقطع دونه كان من الهالكين، وأبى أن يقبل من أحد ديناً سواه، ولو بذلك في المسير إليه جهده واستفرغ قواه، فأظهره على الدين كله، حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها، وسار مسير الشمس في الأقطار، وبلغ إلى حيث انتهى الليل والنهار، وعلت الدعوة الإسلامية وارتفعت غاية الارتفاع والاعتلاء، بحيث صار أصلها ثابت وفرعها في السماء، فتضاءلت لها جميع الأديان، وجرت تحتها الأمم منقادة بالخضوع والذل والإذعان، ونادى المنادي بشعارها في جو السماء بين الخافقين: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صارخاً بالشهادتين، حتى بطلت دعوة الشيطان، وتلاشت عبادة الأوثان، واضمحلت عبادة النيران، وذلك المثلثة عباد الصلبان، وتقطعت الأمة الغضبية في الأرض كتقطع السراب في القيعان، وصارت كلمة الإسلام العليا، وصار له في قلوب الخلائق المثل الأعلى، وقامت براهينه وحججه على سائر الأمم في الآخرة والولى، وبلغت منزلته في العلى والرفعة الغاية القصوى، وأقام لدولته ومصطفيه أعواناً وأنصاراً
ص -9- نشروا ألويته وأعلامه، وحفظوا من التغير والتبديل حدوده وأحكامه، وبلغوا إلى نظرائهم كما بلغ إليهم من قلبهم، حلاله وحرامه، فعظموا شعائره، وعلموا شرائعه، وجاهدوا أعدائه بالحجة والبيان حتى {اسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، وعلا بنيانه المؤسس على تقوى من الله ورضوان أذكى بناء، غيره مؤسساً على شفا جرف هار.
فتبارك الذي رفع منزلته، وأعلى كلمته، وفخم شأنه، وأشاد بنيانه، وأذل مخالفيه ومعانديه، وكبت من يبغضه ويعاديه، ووسمهم بأنهم شر الدواب، وأعد لهم إذا قدموا عليه اليم العقاب، وحكم لهم بأنهم أضل سبيلاً من الأنعام؛ إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد، والضلال بالهدى، والكفر بالإسلام.
وحكم سبحانه لعلماء الكفر وعباده حكماً يشهد ذووا العقول بصحته، ويرونه شيئاً حسناً، فقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً}.
ص -11- على عبادة الإله المنحوت بالأيدي، بعد نحت الأفكار من سائر أجناس الأرض على اختلاف الأنواع والأصناف والألوان، والخضوع له والتذلل والخرور سجوداً على الأذقان، لا يؤمن من يدين به بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه يوم يجزي المسيء بإسائته والمحسن بالإحسان.
أو دين الأمة الغضبية الذين انسلخوا من رضوان الله كانسلاخ الحية من قشرها، وباؤوا بالغضب والخزي والهوان، وفارقوا أحكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها القليل من الأثمان، فترحل عنهم التوفيق، وقارنهم الخذلان، واستبدلوا بولاية الله وملائكته ورسله وأوليائه ولاية الشيطان.
أو دين أسس بنيانه على أن رب العالمين له وجود مطلق في الأذهان، لا حقيقة له في الأعيان، ليس بداخل في العالم ولا خارج عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا محاذي ولا مباين له، لا يسمع، ولا يرى، ولا يعلم شيئاً من الموجودات، ولا يفعل ما يشاء، لا حياة له، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار، ولم يخلق السموات والأرض في ستة أيام، بل لم تزل السموات والأرض معه وجودها مقارن لوجوده، لم يحدثها بعد عدمها، ولا له قدرة على إفنائها بعد وجودها، ما أنزل على بشر كتاباً، ولا أرسل إلى الناس رسولاً، فلا شرع يُتبع، ولا رسول يُطاع، ولا دار بعد هذه الدار، ولا مبدأ للعالم ولا معاد، ولا بعث ولا نشور، ولا جنة ولا نار، إن هي إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول، وأربعة أركان وأفلاك تدور، ونجوم تسير، وأرحام تدفع، وأرض تبلع و{َقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ}.
ص -12- وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد له، ولا ند له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا كفؤ له.
تعالى عن إفك المبطلين، وخرص الكاذبين، وتقدس عن شرك المشركين، وأباطيل الملحدين.
كذب العادلون به سواه، وضلّوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً؛ {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، وخيرته من بريته، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده. ابتعثه بخير ملة وأحسن شرعة، وأظهر دلالة، وأوضح حجة، وأبين برهان إلى جميع العالمين: إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، حاضرهم وباديهم، الذي بشرت به الكتب السالفة، وأخبرت به الرسل الماضية، وجرى ذكره في الأعصار في القرى والأمصار والأمم الخالية، ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر إلى عهد المسيح ابن البشر، كلما قام رسول أخذ عليه الميثاق بالإيمان به والبشارة بنبوته، حتى انتهت النبوة إلى كليم الرحمن؛ موسى بن عمران، فأذن بنبوته على رؤس الأشهاد بين بني إسرائيل، معلناً بالأذان: "جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران"، إلى أن ظهر المسيح ابن مريم؛ عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم، فأذن بنبوته أذاناً لم يؤذنه أحد مثله قبله، فقام في بني إسرائيل مقام الصادق الناصح، وكانوا
ص -13- لا يحبون الناصحين فقال: {إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} .
تالله لقد أذن المسيح آذاناً أسمعه البادي والحاضر، فأجابه المؤمن المصدق وقامت حجة الله على الجاحد الكافر.
الله أكبر، الله أكبر عما يقول فه المبطلون ويصفه به الكاذبون، وينسبه إليه المفترون والجاحدون، ثم قال : أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له ولا كفؤ له، ولا صاحبة له ولا ولد له، بل هو الأحد الصمد الذي {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}، ثم رفع صوته بالشهادة لأخيه وأولى الناس به بأنه عبد الله ورسوله، وانه أركون العالم، وانه روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول ما يقال له وانه يخبر الناس بكل ما اعد الله لهم ، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالغيوب ويجيئهم بالتأويل، ويوبخ العالم على الخطيئة، ويخلصهم من يد الشيطان، وتستمر شريعته وسلطانه إلى آخر الدهر وصرح في آذانه باسمه ونعته وصفته وسيرته حتى كأنهم ينظرون إليه عياناً، ثم قال حي على الصلاة خلف إمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين، حي على الفرح بإتباع من السادة في إتباعه، والفلاح في الدخول في زمرة أشياعه، فأذن وأقام وتولى وقال: لست ادعكم كالأيتام، وسأعود واصلي وراء هذا الإمام، هذا عهدي إليكم إن حفظتموه دام لكم الملك إلى آخر الأيام.
فصلى الله عليه من ناصح بشر برسالة أخيه عليهما افضل الصلاة والسلام، وصدق به أخوه ونزهه عما قال فيه وفي أمه أعداؤه المغضوب عليهم من الإفك والباطل وزور الكلام، كما نزه ربه وخالقه
DirghaM
01-21-2009, 08:00 PM
ص -17- فصل: التهديد لمن حاد عن الإسلام
فأين يذهب من تولى عن توحيد ربه وطاعته، ولم يرفع رأساً بأمره ودعوته، وكذب رسوله، وأعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته، واتبع غير سنته، ولم يستمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والعناد من قلبه، والجهود والكفر من صدره، والعصيان والمخالفة من جوارحه.
فقد قابل خبر الله بالتكذيب، وأمره بالعصيان، ونهيه بالارتكاب، يغضب الرب وهو راض، ويرضي وهو غضبان، يحب ما يبغض، ويبغض ما يحب، ويوالي من يعاديه، ويعادي من يواليه، يدعو إلى خلاف ما يرضى، وينهى عبداً إذا صلى قد {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}، فأصمه وأبكمه وأعماه، فهو ميت الدارين، فاقد السعادتين، قد رضي بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وباع التجارة الرابحة بالصفقة الخاسرة، فقلبه عن ربه مصدود، وسبيل الوصول إلى جنته ورضاه وقربه عنه مسدود، فهو ولي الشيطان وعدو الرحمن، وحليف الكفر والفسوق والعصيان.
رضي المسلمون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، ورضي المخذول بالصليب والوثن إلهاً، والتثليث والكفر ديناً، وبسبيل الضلال
ص -18- والغضب سبيلاً.
أعصى الناس للخالق الذي لا سعادة له إلا في طاعته، وأطوعهم للمخلوق الذي ذهاب دنياه وأخراه في طاعته، فإذا سئل في قبره: من ربك؟، وما دينك؟، ومن نبيك؟. قال: هاه هاه، لا أدري. فيقال: لا دريت، ولا تليت، وعلى ذلك حييت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يضرم عليه قبره ناراً، ويضيق عليه كالزج في الرمح إلى قيام الساعة. وإذا بُعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وقام الناس لرب العالمين، ونادى المنادي: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}، ثم رفع لكل عابد معبوده الذي كان يعبده ويهواه، وقال الرب تعالى وقد أنصت له الخلائق: أليس عدلاً مني أن أولي كل إنسان منكم ما كان في الدنيا يتولاه؟. فهناك يعلم المشرك حقيقة ماكان عليه، ويتبين له سوء منقلبه وماصار إليه، ويعلم الكفار أنهم لم يكونوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
ص -19- فصل: الأمم قبل البعثة
ولما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان أهل الأرض صنفين: أهل الكتاب، وزنادقة لا كتاب لهم. وكان أهل الكتاب أفضل الصنفين، وهم نوعان: مغضوب عليهم، وضالون.
فالأمة الغضبية هم "اليهود"، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل؛ قَتَلة الأنبياء، وأَكَلَة السحت وهو الربا والرشا.
أخبث الأمم طوية، وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة
ص -20- عادتهم البغضاء، ودينهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حُرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، وسليم الناصية وحاشاه أن يوجد بينهم ليس بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم سجية، تحيتهم لعنة ولقاؤهم طيرة، شعارهم الغضب، ودثارهم المقت.
فصل:
والصنف الثاني: "المثلثة"، أمة الضلال، وعباد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبّة ما سبّه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي {لم يلده ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد}، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء، بل قالوا فيه ما {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}، فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها: إن
ص -21- الله ثالث ثلاثة، وإن مريم صاحبته، وإن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى، إلى أن قتل ومات ودفن، فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا!.
فدينهم: شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجيهم من عذاب السعير.
فصل: فهذا حال من له كتاب.
وأما من لا كتاب له؛ فهو بين عابد أو ثان، وعابد نيران، وعابد شيطان، وصابئ حيران. يجمعهم: الشرك، وتكذيب الرسل، وتعطيل الشرائع، وإنكار المعاد، وحشر الأجساد، لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحدونه مع الموحدي.
وأمة "المجوس" منهم، تستفرش الأمهات والبنات والأخوات، دع العمات والخالات، دينهم الزمر، وطعامهم الميتة، وشرابهم الخمر، ومعبودهم النار، ووليهم الشيطان، فهم أخبث بني آدم نحلة، وارداهم مذهباً، وأسوأهم اعتقاداً.
ص -22- وأما "زنادقة الصابئة، وملاحدة الفلاسفة"، فلا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه، ولا يؤمنون بمبدء ولا معاد، وليس للعالم عندهم رب فعّال بالاختيار لما يريد، قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، آمر، ناه، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، ومثيب المحسن، ومعاقب المسيء، وليس عند نظارهم إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول وأربعة أركان، وسلسلة ترتبت فيها الموجودات، هي بسلسلة المجانين أشبه منها بمجوزات العقول.
وبالجملة: فدين الحنيفية الذي لا دين لله غيره بين هذه الأديان الباطلة التي لادين في الأرض غيرها أخفى من السهاب تحت السحاب، وقد "نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".
فاطلع الله شمس الرسالة في حنادس تلك الظلم سراجاً منيراً، وأنعم بها على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكوراً، وأشرقت الأرض بنورها أكمل الأشراق، وفاض ذلك النور حتى عمَّ النواحي والآفاق، واتسق قمر الهدى أَتَمَّ الاتساق، وقام دين الله الحنيف على ساق.
فلله الحمد الذي أنقذنا بمحمد صلى الله عليه وسلم من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدي فلا يغلق إلى يوم الميقات، وأرانا في نوره أهل الضلال، وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون، وفي جهالتهم يتقلبون، وفي ريبهم يترددون، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، يؤمنون ولكن بربهم يعدلون، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون، ويمكرون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}،
ص -23- {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فاذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون}.
الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي.
فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة.
فأحب الوسائل إلى المحسن: التوسل إليه بإحسانه، والاعتراف له بأن الأمر كله محض فضله وامتنانه، فله علينا النعمة السابغة، كما له علينا الحجة البالغة، نبوء له بنعمه علينا، ونبوء بذنوبنا وخطايانا وجهلنا وظلمنا وإسرافنا في أمرنا، فهذه بضاعتنا التي لدينا، لم تبق لنا نعمه وحقوقها وذنوبنا حسنة نرجو بها الفوز بالثواب، والتخلص من أليم العقاب، بل بعض ذلك يستنفد جميع حسناتنا، ويستوعب كل طاعة، هذا لو خلصت من الشوائب، وكانت خالصة لوجهه، واقعة على وفق أمره، وما هو والله إلا التعلق بأذيال عفوه، وحسن الظن به، واللجأ منه إليه، والاستعاذة به منه، والاستكانة والتذلل بين يديه، ومد يد الفاقة والمسكنة إليه؛ بالسؤال والافتقار إليه في جميع الأحوال.
فمن أصابته نفحة من نفحات رحمته، أو وقعت عليه نظرة من نظرات رأفته؛ انتعش من بين الأموات، وأناخت بفنائه وفود الخيرات، وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات.
ص -24- وإذا نظرت إلى نظرة راحم في الدهر يوماً إنني لسعيد
فصل: من حقوق الله: رد الطاعنين على الرسول
ومن بعض حقوق الله على عبده: رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه، ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان.
وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين، فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه بداويه فسطا به ضرباً، وقال: هذا هو الجواب، فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب. فتفرقا، وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب؛ فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد، وقام لله قيام مستعين به، مفوض إليه، متوكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال. وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف، وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم؛ إقامة للحجة وإزاحة للعذر: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، والسيف إنما جاء منفذاً للحجة، مقوماً للمعاند، وحداً للجاحد، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي، ونفذه السيف الماضي.
ص -25- فما هو إلا الوحي أوحد مرهف يقيم ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل
[مسائل الكتاب]
وإلى الله الرغبة في التوفيق، فإنه الفاتح من الخير أبوابه، والميسر له أسبابه وسميته: "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى". وقسمته قسمين:
القسم الأول: في أجوبة المسائل.
القسم الثاني: في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بجميع أنواع الدلائل.
فجاء بحمد الله ومنه وتوفيقه كتاباً ممتعاً معجباً، لا يسأم قاريه، ولا يمل الناظر فيه، فهو كتاب يصلح للدنيا والآخرة، ولزيادة الإيمان، ولذة الإنسان، يعطيك ما شئت من أعلام النبوة وبراهين الرسالة، وبشارات الأنبياء بخاتمهم، واستخراج اسمه الصريح من كتبهم، وذكر نعته وصفته وسيرته من كتبهم، والتمييز بين صحيح الأديان وفاسدها، وكيفية فسادها بعد استقامتها، وجملة من فضائح أهل الكتابيين وما هم عليه، وأنهم أعظم الناس براءة من أنبيائهم، وأن نصوص انبيائهم تشهد بكفرهم وضلالهم، وغير ذلك من نكت بديعة لا توجد في سواه.
والله المستعان وعليه التكلان، فهو حسبنا ونعم الوكيل
DirghaM
01-21-2009, 08:03 PM
[موانع دخول أهل الكتاب في الإسلام]
ليست الرياسة منع وحدها أهل الكتاب عن قبول الإسلام
فنقول:
أما المسألة الأولى: وهي قول السائل: "لقد اشتهر عندكم بأن أهل الكتابيين ما منعهم من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير" فكلام جاهل بما عند المسلمين، وبما عند الكفار.
أما المسلمون: فلم يقولوا: إنه لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير، وإن قال هذا بعض عوامهم فلا يلزم جماعتهم، والممتنعون من الدخول في الإسلام من أهل الكتابين وغيرهم جزء يسير جداً بالإضافة إلى الداخلين فيه
ص -26- منهم، بل أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعاً ورغبةً واختياراً، لا كُرهاً ولا اضطراراً، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً رسولاً إلى أهل الأرض، وهم خمسة أصناف، قد طبقوا الأرض: يهود، ونصارى، ومجوس، وصابئة، ومشركون.
وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها.
فأما "اليهود" فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها، وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض فارس فرقة مستذلة مع المجوس، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أمماً، وسلبهم الملك والعز.
وأما "النصارى" فكانوا طبق الأرض، فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والنوبة والجزيرة والموصل، وأرض نجران وغيرها من البلاد.
وأما "المجوس" فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها.
وأما "الصابئة" فأهل حران، وكثير من بلاد الروم.
وأما "المشركون" فجزيرة العرب جميعها، وبلاد الهند، وبلاد الترك وما جاورها.
وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة.
ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة.
وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: "الأديان ستة، واحد للرحمن، وخمسة للشيطان".
وهذه الأديان الستة مذكورة في آية الفصل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه
ص -27- بعده أكثر الأديان طوعاً واختياراً، ولم يكره أحداً قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه؛ امتثالاً لأمر ربه سبحانه، حيث يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ}، وهذا نفي في معنى النهي، أي: لا تكرهوا أحداً على الدين.
نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام.
والصحيح: أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوّز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية، كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان.
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبَيّن له أنه لم يكره أحداً على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}.
ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرّهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل
ص -28- بعضهم.
وكذلك لَمَّا هادن قريشاً عشر سنين لم يبدءهم بقتال، حتى بدءوا هم بقتاله، ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانو هم يغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم أحد، ويوم الخندق، ويوم بدر أيضاً هم جاءوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.
والمقصود: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحداً على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختياراً وطوعاً، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى، وأنه رسول الله حقاً.
فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية أو أكثرهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله" وذكر الحديث، ثم دخلوا في الإسلام من غير رغبة ولا رهبة.
وكذلك من أسلم من يهود المدينة، وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام، مذكورون في كتب السير والمغازي، لم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف، بل أسلموا في حال حاجة المسلمين، وكثرة أعدائهم، ومحاربة أهل الأرض لهم، من غير سوط ولا نوط، بل تحمّلوا معاداة أقربائهم، وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن، مع ضعف شوكة المسلمين، وقِلَّة ذات أيديهم، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته
ص -29- وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الإسلام لا لرياسة ولا مال، بل ينخلع من الرياسة والمال، ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم، ولا يصرفه ذلك عن دينه.
فإن كان كثير من الأحبار والرهبان والقسيسين، ومن ذكره هذا السائل؛ قد اختاروا الكفر فقد أسلم جمهور أهل الأرض من فرق الكفار، ولم يبق إلا الأقل بالنسبة إلى من أسلم.
فهؤلاء نصارى الشام، كانوا ملء الشام، ثم صاروا مسلمين إلا النادر، فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء في الثور الأبيض.
وكذلك المجوس، كانت أمة لا يحصى عددهم إلا الله، فأطبقوا على الإسلام، لم يتخلف منهم إلا النادر، وصارت بلادهم بلاد إسلام، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذِّلَّة.
وكذلك اليهود، أسلم أكثرهم، ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة، مقطعة في البلاد.
فقول هذا الجاهل: "إن هاتين الأمتين لا يحصى عددهم إلا الله كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم"؛ كذب ظاهر، وبهت مبين، حتى لو كانوا كلهم قد أجمعوا على اختيار الكفر لكانوا في ذلك أسوة قوم نوح، وقد أقام فيهم ألف سنة إلا خمسين
ص -30- عاماً يدعوهم إلى الله، ويريهم من الآيات ما يقيم حجة الله عليهم، وقد أطبقوا على الكفر إلا قليلاً منهم، كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ}، وهم كانوا أضعاف أضعاف هاتين الأمتين الكافرتين؛ أهل الغضب وأهل الضلال.
وعاد أطبقوا على الكفر وهم أمة عظيمة عقلاء حتى استؤصلوا بالعذاب.
وثمود أطبقوا جميعهم على الكفر، وهم أمة عظيمة عقلاء، حتى استؤصلوا بالعذاب.
وثمود أطبقوا جميعهم على الكفر بعد رؤية الآية العظيمة التي يؤمن على مثلها البشر، ومع هذا اختاروا الكفر على الإيمان، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}، وقال تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}، فهاتان أمتان عظيمتان من أكبر الأمم، قد أطبقتا على الكفر مع البصيرة.
فأمة الغضب والضلال إذا أطبقتا على الكفر فليس ذلك ببدع.
وهؤلاء قوم فرعون مع كثرتهم قد أطبقوا على جحد نبوة موسى، مع تظاهر الآيات الباهرة آية بعد آية، فلم يؤمن منهم إلا رجل واحد كان يكتم إيمانه.
ص -31- وأيضاً فيقال للنصارى: هؤلاء اليهود مع كثرتهم في زمن المسيح، حتى كانوا ملأ بلاد الشام، كما قال تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، وكانوا قد أطبقوا على تكذيب المسيح، وجحدوا نبوته، وفيهم الجبار والعبّاد والعلماء، حتى آمن به الحواريون.
فإذا جاز على اليهود وفيهم الأحبار والعبّاد والزهّاد وغيرهم لأطباق على جحد نبوة المسيح والكفر به مع ظهور آيات صدقه كالشمس؛ جاز عليهم إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن جواز ذلك على أمة الضلال الذين هم أضل من الأنعام، وهم النصارى أولى وأحرى.
فهذا السؤال الذي أورده هذا السائل وارد بعينه في حق كل نبي كذبته أمة من الأمم، فإن صوّب هذا السائل رأي تلك الأمم كلها فقد كفر بجميع الرسل، وإن قال: إن الأنبياء كانوا على الحق، وكانت تلك الأمم مع كثرتها ووفور عقولها على الباطل، فلأن يكون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم الأقلون الأذلون الأرذلون من هذه الطوائف على الباطل؛ أولى وأحرى، وأي أمة من الأمم اعتبرتها وجحدت المصدقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم جمهورها وأقلها وأراذلها هم الجاحدون لنبوته، فرقعة الإسلام قد اتسعت في مشارق الأرض ومغاربها غاية الاتساع بدخول هذه الأمم في دينه وتصديقهم برسالته، وبقي من لم يدخل منهم في دينه، وهم من كل أمة أقلها. وأين يقع النصارى المكذبون برسالته اليوم من أمة النصرانية الذين كانوا قبله؟!. وكذلك اليهود والمجوس والصابئة، لا نسبة للمكذبين برسالته بعد بعثه إلى جملة تلك الأمة قبل بعثه.
وقد أخبر تعالى عن الأمم التي أطبقت على تكذيب الرسل، ودمرها الله
ص -32- تعالى، فقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}، فأخبر عن هؤلاء الأمم أنهم تطابقوا على تكذيب رسلهم، وأنه عمّهم بالإهلاك، وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، ومعلوم قطعاً أن الله تعالى لم يهلك هذه الأمم الكثيرة إلا بعدما تبين لهم الهدى، فاختاروا عليه الكفر، ولو لم يتبين لهم الهدى لم يهلكهم، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}، وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، أي: فلم يكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، ومعلوم قطعاً أنه لم يصدق نبي من الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، ولم يتبعه من الأمم ما صدق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والذين اتبعوه من الأمم أضعاف هاتين الأمتين المكذبتين مما لا يحصيهم إلا الله.
ولا يستريب من له مسكة من عقل أن الضلال والجهل والغي، وفساد العقل إلى من خالفه وجحد نبوته؛ أقرب منه إلى اتباعه، ومن أقر بنبوته.
ص -33- وحينئذ فيقال: كيف جاز على هؤلاء الأمم التي لا يحصيهم إلا الله، الذين قد بلغوا مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف طبائعهم وأغراضهم، وتباين مقاصدهم الإطباق على اتباع من يكذب على الله وعلى رسله وعلى العقل، ويحل ما حرم الله ورسله، ويحرم ما أحله الله ورسله. ومعلوم أن الكاذب على الله في دعوى الرسالة، وهو شر خلق الله وأفجرهم، وأظلمهم، وأكذبهم. ولا يشك من له أدنى عقل أن إطباق أكثر الأمم على متابعة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وخروجهم عن ديارهم وأموالهم، ومعاداتهم أباءهم وأبناءهم وعشائرهم في متابعته، وبذلهم نفوسهم بين يديه؛ من أمحل المحال، فتجويز اختيارهم الكفر بعد تبين الهدى على شرذمة قليلة حقيرة لها أغراض عديدة من هاتين الأمتين؛ أولى من تجويز ذلك على المسلمين الذين طبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وهم أعقل الأمم وأكملها في جميع خصال الفضل.
وأين عقول عبّاد العجل وعبّاد الصليب الذين أضحكوا سائر العقلاء على عقولهم، ودلّوهم على مبلغها بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟!!.
وإذا جاز اتفاق أمة فيها من قد ذكره هذا السائل على أن رب العالمين وخالق السموات والأرضين نزل عن عرشه وكرسي عظمته، ودخل في بطن امرأة في محل الحيض والطمث عدة شهور، ثم خرج من فرجها طفلاً يمص الثدي ويبكي، ويكبر شيئاً فشيئاً، ويأكل ويشرب ويبول، ويصح ويمرض، ويفرح ويحزن، ويلذ ويألم، ثم دبّر حيلة على عدوه إبليس بأن مكّن أعداءه اليهود من
ص -34- نفسه، فأمسكوه وساقوه إلى خشبتين يصلبونه عليهما، وهم يجرونه إلى الصلب، والأوباش والأراذل قدامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، وهو يستغيث ويبكي، فقربوه من الخشبتين، ثم توجوه بتاج من الشوك، وأوجعوه صفعاً، ثم حملوه على الصليب، وسمروا يديه ورجليه، وجعلوه بين لصين، وهو الذي اختار هذا كله لتتم له الحيلة على إبليس، ليخلص آدم وسائر الأنبياء من سجنه، ففداهم بنفسه حتى خلصوا من سجن إبليس.
وإذا جاز اتفاق هذه الأمة، وفيهم الأحبار والرهبان والقسيسون والزهاد والعبّاد والفقهاء، ومن ذكرتم؛ على هذا القول في معبودهم وإلههم، حتى قال قائل منهم وهو من أكابرهم عندهم: "اليد التي خلقت آدم هي التي باشرت المسامير، ونالت الصلب"، فكيف لا يجوز علهيم الاتفاق على تكذيب من جاء بتكفيرهم وتضليلهم، ونادى سراً وجهراً بكذبهم على الله، وشتمهم له أقبح شتم، وكذبهم على المسيح، وتبديلهم دينه. وعاداهم وقاتلهم، وبرّأهم من المسيح وبرأه منهم، وأخبر أنهم وقود النار، وحصب جهنم.
فهذا أحد الأسباب التي اختاروا لأجلها الكفر على الإيمان، وهو من أعظم الأسباب.
فقولكم: "إن المسلمين يقولون: إنهم لم يمنعهم من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير"؛ كذب على المسلمين، بل الرياسة والمأكلة من جملة الأساب المانعة لهم من الدخول في الدين.
وقد ناظرنا نحن وغيرنا جماعة منهم، فلمّا تبين لبعضهم فساد ما هم عليه قالوا: لو دخلنا في الإسلام لكنا من أقل المسلمين، لا يُأبه لنا، ونحن متحكمون في أهل ملتنا في أموالهم ومناصبهم، ولنا بينهم أعظم الجاه، وهل منع فرعون وقومه من اتباع موسى إلا ذلك؟!.
ص -35- إعتراف أبي جهل بنبوة محمد
الأسباب المانعة من قبول الحق
والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جداً: فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئاً عاداه وعادى أهله. فإن انضاف إلى هذا السبب بُغض من أمره بالحق، ومعاداته له، وحسده؛ كان المانع من القبول أقوى. فإن انضاف إلى ذلك أِلْفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه، ومن يحبه ويعظمه قويَ المانع. فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه قوى المانع من القبول جداً. فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه، كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهَمَّ بالدخول في الإسلام، فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه فاختار الفرى على الإسلام بعد ما تبين له الهدى، كما سيأتي ذكر قصته إن شاء الله تعالى.
ومن أعظم هذه الأسباب: الحسد. فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه وأوتي مالم يؤت نظيره، فلا يدعه الحسد إن ينقاد له ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟!، فإنه لما رآه قد فضل عليه ورفع فوقه؛ غص بريقه، واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة.
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علماً
ص -36- لا شك فيه أنه رسول الله، جاء بالبينات والهدى، فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان، وأطبقوا عليه، وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهّاد والقضاة والملوك والأمراء. هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة، ولم يأت بشريعة يخالفها، ولم يقاتلهم، وإنما أتي بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفاً ورحمة وإحساناً، وجاء مكملاً لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان. فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع، مبكتاً لهم بقبائحهم، ومنادياً على فضائحهم، ومخرجاً لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه، وهو في ذلك كله يُنصر عليهم، ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه، وهم معه دائماً في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟!، وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح، وقد أطبقوا على الكفر به من بعدما تبين لهم الهدى.
وهذا السبب وحده كاف في رَدَّ الحق، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمآكل كما تقدم.
وقد قال المسور بن مخرمة وهو ابن أخت أبي جهل لأبي جهل: "يا خالي، هل كنتم تتهمون محمداً بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، فقال: يا ابن أختي، والله لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم فينا وهو شاب يُدعى الأمين، فما جربنا عليه كذباً
ص -37- قط. قال: يا خال، فما لكم لا تتبعونه؟!، قال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنوا هاشم الشرف، فأطمعوا وأطمعنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، فمتى ندرك مثل هذه!!".
وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: "يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا؟، فقال أبوجهل: ويحك، والله إن محمداً لصادق، وماكذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟!".
علماء اليهود يعرفون النبي كما يعرفون أبنائهم
وأما "اليهود" فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة، قال: "هل تدري عما كان إسلام أسد وثعلبة ابني شعبة، وأسد بن عبيد، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير كانوا فوق ذلك؟، فقلت: لا، قال فإنه قدم علينا رجل من الشام من اليهود، يقال له: ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلاً يصلي خيراً منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكنا إذا قحطنا وقَلَّ علينا المطر نقول: يا أبن الهيبان، أخرج فاستسق لنا، فيقول: لا والله، حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟، فيقول صاع من تمر، أو مُدَّين من شعير، فنخرجه، ثم
ص -38- يخرج إلى ظاهر حرّتنا ونحن معه نستسقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمطر ويمر بالشعاب، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثه، فحضرته الوفاة واجتمعنا إليه، فقال: يا معشر يهود، أترون ما أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟، قالوا: أنت أعلم، قال: فإني إنما خرجت أتوقع خروج نبي، قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجرة، فاتبعوه ولا يسبقن إليه غيركم إذا خرج، يا معشر اليهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبى الذراري والنساء ممن يخالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات.
فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شباناً أحداثاً: يا معشر اليهود، والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان، فقالوا: ما هو به، قالوا: بلى والله إنه لصفته، ثم نزلوا وأسلموا وخلوا أموالهم وأهليهم".
قال ابن إسحاق: "وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين، فلما فتح ردت عليهم".
وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، قال: كان بين أبياتنا يهودي، فخرج على نادي قومه بنى عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن، لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، وذلك قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ويحك يا فلان، وهذا كائن؟، إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون بأعمالهم؟!، قال: نعم، والذي يحلف به لوددت أن حظّي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم، فتحمونه ثم تقذفوني فيه، ثم تطبقون علي، وإني أنجو من النار غداً، فقيل: يا فلان ما علامة ذلك؟، قال: نبي يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: فمتى
ص -39- نراه؟، فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي وأنا أحدث القوم، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه.
فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنه لحي بين أظهرنا، فآمنا به وصدقناه، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا: يا فلان ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا به؟!، قال: ليس به.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني أشياخ منا، قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منّا، كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب، وكنا أصحاب وثن، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن نبياً مبعوثاً الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم. فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به، ففينا وفيهم أنزل الله عز وجل: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وذكر الحاكم وغيره عن ابن أبي نجيح عن على الأزدي، قال: "كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس".
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء، فقالت: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان
ص -40- فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله عز وجل: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: بك يا محمد، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، {يسْتَفْتِحُونَ} أي: يستنصرون.
وذكر الحاكم وغيره: أن بني النضير لَمَّا أُجلوا من المدينة أقبل عمرو بن سعد، فأطاف بمنازلهم، فرأى خرابها، ففكر ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة، فنفخ في بوقهم فاجتمعوا، فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد، أين كنت منذ اليوم فلم نرك؟، وكان لا يفارق الكنيسة، وكان يتأله في اليهودية، قال: رأيت اليوم عبراً اعتبرنا بها، رأيت إخواننا قد جلوا بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل، والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل، ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة، وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف في عزة بنيانه في بيته آمناً، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم، وهم جل اليهود وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم النبي عليه السلام، فلم يخرج إنسان منهم رأسه حى سباهم، فكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب، يا قوم: قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمداً، فوالله أنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان، وأبو عمرو بن حواس، وهما أعلم اليهود، جاءا من بيت المقدس يتوكفان قدومه، وأمرانا باتباعه، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا. فسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم، فأعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء الجلاء، فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب التوراة التي أنزلت على موسى ليس في المثاني التي أحدثنا، فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟، قال: أنت، قال: ولم، فوالتوراة ماحلت بينك وبينه قط؟، قال الزبير: بل أنت صاحب عهدنا
ص -41- وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا، فأقبل عمرو بن سعد علىكعب، فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال كعب: ما عندي في ذلك إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصير تابعاً.
وهذا المانع هو الذي منع فرعون من اتباع موسى، فإنه لما تبين له الهدي عزم على اتباع موسى عليه السلام، فقال له وزيره هامان: بينا أنت الله تُعبد تصبح تَعبد ربا غيرك؟!، قال: صدقت.
وذكر ابن إسحق عن عبد الله بن أبي بكر، قال: حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا عليه، ثم جاءا من العشى، فسمعت عمى يقول لأبي: أهو هو؟، قال: نعم والله، قال أتعرفه وتثبته؟، قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟، قال: عداوته والله ما بقيت.
فهذه الأمة الغضبية معروفة بعداوة الأنبياء قديماً، وأسلافهم وخيارهم قد أخبرنا الله سبحانه عن أذاهم لموسى، ونهانا عن التشبه بهم في ذلك، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً}.
وأما خلفهم فهم قتلة الأنبياء؛ قتلوا زكريا، وابنه يحي، وخلقاً كثيراً من الأنبياء، حتى قتلوا في يوم سبعين نبياً، وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئاً، واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه، فصانه الله من ذلك، وأكرمه أن يهينه على أيديهم، وألقى شبهه على غيره فقتلوه وصلبوه، وراموا قتل خاتم النبيين مراراً عديدة، والله يعصمه منهم.
ومن هذا شأنهم لا يكبُر عليهم اختيار الكفر على الإيمان لسبب من الأسباب التي ذكرنا بعضها، أو سببين، أو أكثر
DirghaM
01-21-2009, 08:05 PM
ص -42- [قول النصارى في رب الأرض والسماوات]
لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله وقد ذكرنا اتفاق أمة الضلال وعُبّاد الصليب على مسبة رب العالمين أقبح مسبة، على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإن خفى عليهم أن هذا مسبة لله، وأن العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وهلة لم يكثر على تلك العقول السخيفة أن تسب بشراً أرسله الله، وتجحد نبوته، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقة وصحة رسالته، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الأرض والسموات، الذي صاروا به ضحكة بين جميع أصناف بني آدم.
فأمّةٌ أطبقت على أن الإله الحق سبحانه عما يقولون صلب وصفع وسمر، ووضع الشوك على رأسه، ودفن في التراب، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض، لا يكثر عليها أن تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها، ولعنها ومحاربتها، وإبداء معايبها، والنداء على كفرها بالله ورسوله، والشهادة على براءة المسيح منها ومعاداته لها، ثم قاتلها وأذلها، وأخرجها من ديارها، وضرب عليها الجزية، وأخبر أنها من أهل الجحيم، خالدة مخلدة، لا يغفر الله لها، وأنها شر من الحمير، بل هي شر الدواب عند الله.
[ألوان من سخافة النصارى في الصليب]
وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها، ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صيب تقدر على إحراقه، وأن تهينه غاية الإهانة؛ إذ صلب عليه إلهها الذي يقولون تارة: إنه الله، وتارة يقولون: إنه ابنه، وتارة يقولون: ثالث ثلاثة، فجحدت حق خالقها، وكفرت به أعظم كفر، وسبّته أقبح مسبّة، أن تجحد حق عبده ورسوله، وتكفر به.
وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات أنه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته، لئلا يكون لهم حجة عليه، فأراد أن يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته، لترتفع
ص -43- المعاذير عمن ضيع عهده بعدما كلمه بذاته، فهبط بذاته من السماء، والتحم في بطن مريم، فأخذ منها حجاباً، وهو مخلوق من طريق الجسم، وخالق من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه، وأمه كانت من قبله بالناسوت، وهو كان من قبلها باللاهوت، وهو الإله التام، والإنسان التام، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضى بإراقة دمه عندهم على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فأخذوه وصلبوه وصفعوه، وبصقوا في وجهه، وتوجوه بتاج من الشوك على رأسه، وغار دمه في إصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض ليبس كلما كان على وجهها، فثبت في موضع صلبه النوار.
ولما لم يكن في الحكمة الأزلية أن ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه أو استهان بقدره، لاعتلاء منزلة الرب، وسقوط منزلة العبد، أراد سبحانه أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو له في الإلهية، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة التاسعة من يوم الجمعة.
هذه ألفاظهم في كتبهم!!، كيف يكثر عليها أن تقول في عبده ورسوله أنه ساحر، وكاذب، وملك مسلط، ونحو هذا؟!!.
ولهذا قال بعض ملوك الهند: أما النصارى فإن كان أعداؤهم من أهل الملل يجاهدونهم بالشرع، فأنا أرى جهادهم بالعقل، وإن كنا لا نرى قتال أحد، لكني أستثني هؤلاء القوم من جميع العالم، لأنهم قصدوا مضادة العقل، وناصبوه العداوة، وشذوا عن جميع مصالح العالم الشرعية والعقلية الواضحة، واعتقدوا كل مستحيل ممكناً، وبنوا من ذلك شرعاً لا يؤدى إلى صلاح نوع من أنواع العالم، ولكنه يصير العاقل إذا شرع به أخرق، والرشيد سفيهاً، والحسن قبيحاً، والقبيح حسناً، لأن من كان في أصل عقيدته التي
ص -44- جرى نشؤه عليها الإسائة إلى الخلاق والنيل منه، وسبه أقبح مسبة، ووصفه بما يغير صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإسائة إلى مخلوق، وأن يصفه بما يغير صفاته الجميلة، فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى وجوهه، كما يجب قتل الحيوان المؤذي بطبعه؛ لكانوا أهلاً لذلك.
والمقصود: أن الذين اختاروا هذه المقالة في رب العالمين على تعظيمه وتنزيهه وإجلاله، ووصفه بما لا يليق به، هم الذين اختاروا الكفر بعبده ورسوله، وجحد نبوته، والذين اختاروا عبادة صور خطوها بأيديهم في الحيطان، مزوقة بالأحمر والأصفر والزرق، لو دنت منها الكلاب لبالت عليها، فأعطوها غاية الخضوع والذل والخشوع والبكاء، وسألوها المغفرة والرحمة والرزق والنصر، هم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسل على الإيمان به وتصديقه واتباعه، والذين نزهوا بطارقتهم وبتاركتهم عن الصاحبة والولد، ونحلوهما للفرد الصمد، هم الذين أنكروا نبوة عبده وخاتم رسله.
[صلاة النصارى استهزاء بالمعبود]
والذين اختاروا صلاة يقوم أعبدهم وأزهدهم إليها، والبول على ساقه وأفخاذه، فيستقبل الشرق، ثم يصلب على وجهه، ويعبد الإله المصلوب، ويستفتح الصلاة بقوله: يا أبانا أنت الذي في السموات، تقدس اسمك، وليأت ملكك، ولتكن إرادتك في السماء مثلها في الأرض، اعطنا خبزنا الملايم لنا. ثم يحدث من هو إلى جانبه، وربما سال عن سعر الخمر والخنزير، وعما كسب في القمار، وعما طبخ في بيته، وربما أحدث وهو في صلاته، ولو أراد لبال في موضعه إن أمكنه، ثم يدعو تلك الصورة التي هي صنعة يد الإنسان.
فالذين اختاروا هذه الصلاة على صلاة من إذا قام إلى صلاته طهر أطرافه وثيابه وبدنه من النجاسة، واستقبل بيته الحرام، وكبر الله وحمده وسبحه، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم
ص -45- ناجاه بكلامه المتضمن لأفضل الثناء عليه، وتحميده وتمجيده وتوحيده، وإفراه بالعبادة والاستعانة، وسؤاله أجل مسئول، وهو الهداية إلى طريق رضاه، التي خص بها من أنعم الله عليه دون طريق الأمتين المغضوب عليهم؛ وهم اليهود، والضالين وهم النصارى، ثم أعطى كل جارحة من الجوارح حضها من الخشوع والخضوع والعبودية، مع غاية الثناء والتمجيد له رب العالمين، لا يلتفت عن معبوده بوجهه، ولا قلبه، ولا يكلم أحداً كلمة، بل قد فرغ قلبه لمعبوده، وأقبل عليه بقلبه وجهه، ولا يحدث في صلاته، ولا يجعل بين عينيه صورة مصنوعة يدعوها ويتضرع إليها.
فالذين اختاروا تلك الصلاة التي هي في الحقيقة استهزاء بالمعبود، لا يرضاها المخلوق لنفسه، فضلاً أن يرضى بها الخالق على هذه الصلاة، التي لو عرضت على من له أدنى مسكة من عقل لظهر له التفاوت بينهما؛ هم الذين اختاروا تكذيب رسوله وعبده على الإيمان به وتصديقه.
فالعاقل إذا وازن بين ما اختاروه ورغبوا فيه، وبين ما رغبوا عنه؛ تبين له أن القوم اختاروا الضلالة على الهدى، والغى على الرشاد، والقبيح على الحسن، والباطل على الحق، وأنهم اختاروا من العقائد أبطلها، ومن الأعمال أقبحها، وأطبق على ذلك أساقفتهم وبتاركتهم ورهبانهم، فضلاً عن عوامهم وسقطهم.
[أكثر النصارى مقلدون]
فصل:
ولم يقل أحد من المسلمين: أن ما ذكرتم من صغير وكبير، وذكر وأنثى، وحر وعبد، وراهب وقسيس، كلهم تبين له الهدى، بل أكثرهم جهال بمنزلة الدواب السائمة؛ معرضون عن طلب الهدى فضلاً عن تبيينه لهم، وهم مقلدون لرؤسائهم وكبرائهم وعلمائهم، وهم أقل القليل، وهم الذين اختاروا الكفر على الإيمان بعدما تبين الهدى، ورأى إشكال يقع للعقل في ذلك، فلم يزل في الناس من يختار الباطل، فمنهم من يختاره جهلاً وتقليداً لمن يحسن الظن به، ومنهم من يختاره مع علمه ببطلانه كبراً وعلواً، ومنهم من يختاره طمعاً ورغبة في مأكل أو جاه أو رياء، ومنهم من يختاره حسداً وبغياً، ومنهم من يختاره محبة
ص -46- في صورة وعشقاً، ومنهم من يختاره خشية، ومنهم من يختاره راحة ودعة. لم تنحصر أسباب اختيار الكفر في حب الرياسة والمأكلة.
[من آمن بالنبي من رؤساء النصارى]
فصل:وأما المسألة الثانية، وهي قولكم: هب أنهم اختاروا الكفر لذلك، فهل لا أتبع الحق من لا رياسة له ولا مأكلة إما اختياراً وإما قهراً، فجوابه من وجوه:
أحدها: أنا قد بينا أن أكثر من ذكرتم قد آمن بالرسول وصدقة اختياراً لا اضطراراً، وأكثرهم ألوا العقول والأحلام والعلوم ممن لا يحصيهم إلا الله، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف، فدخلوا في دين الله أفواجاً، حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار، وقد بينا أن الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا، وأنه إنما يبقي منهم أقل القليل، وقد دخل في دين الإسلام من ملوك الطوائف ورؤسائهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق كثير، وهذا ملك النصارى على إقليم الحبشة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لما تبين له أنه رسول الله؛ آمن به، ودخل في دينه، وآوى أصحابه، ومنعهم من أعدائهم، وقصته أشهر من أن تذكر. ولما مات أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالساعة التي توفي فيها، وبينهما مسيرة شهر، ثم خرج بهم إلى المصلى وصلى عليه.
[النجاشي مللك الحبشة]
فروى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار؛ النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذَى، ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا على أن يبعثوا إلى النجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها ألأدم، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد
ص -47- الله بن أبي ربيعة المخزومي، وعمرو بن العاص، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلىكل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جوار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا: نعم. ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعابوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما ليردوهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا والله إذن لا أسلمهم إليهما، ولا كاد أقوام جاوروني ونزلوا ببلادي واختاروني على من سواه، حتى أدعوهم فاسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟، قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوه وقد
ص -48- دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟. قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، قال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟، قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من {كهيعص}، قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقوا فو الله لا أسلمهم إليكم أبداً، ولا أكاد. قالت أم سلمة: فلما خرجنا من عنده، قال عمر بن العاص: والله لآتينه غداً أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم. قالت: فقال عبد الله بن أبي ربيعة وكان أبقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه من الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم
ص -49- يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم فاسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟، قالوا: نقول والله فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟، فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبنيا، هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه، فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم، وإن نخزتم، والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي "والسيوم" الآمنون ، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبر ذهب وأني آذيت رجلاً منكم "والدبر" بلسان الحبشة الجبل ، ردوا إليهما هداياهما، ولا حاجة لي بها، فوا الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهم ما جاءوا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. قالت: فوالله إنا لعلي ذلك إذ نزل به رجل من الحشبشة ينازعه في ملكه، قالت: فوالله ما علمنا حزناً قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك؛ تخوفاً أن يظهر على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، قالت: فسار النجاشي وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم حتى يأتينا بالخبر؟، قالت: فقال الزبير: أنا، وكان من أحدث القوم سِنًا، قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، فاستوسق له أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من الهجرة، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري، فلما قرئ عليه
ص -50- الكتاب أسلم، وقال: لو قدرت على أن آتيه لأتيته، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، ففعل، وأصدق عنه أربعمائة دينار، وكان الذي تولى التزويج خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقى عنده من أصحابه ويحملهم، ففعل.
فقدموا المدينة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فشخصوا إليه فوجدوه قد فتح خيبر، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهامهم، ففعلوا.
فهذا ملك النصارى قد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به واتبعه.
وكم مثله ومن هو دونه ممن هداه الله من النصارى قد دخل في الدين، وهم أكثر بأضعاف مضاعفة ممن أقام على النصرانية.
[وفد من النصارى]
قال ابن إسحاق: "وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريباً من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه، وقبالتهم رجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به
ص -51- وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبوجهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب!، بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال!، ما نعلم ركباً أحمق منكم أو كما قالوا، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل من أنفسنا خيراً.
ويقال: إن النفر من النصارى من أهل نجران، ويقال: فيهم نزلت: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} إلى قوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}.
وقال الزهري: "مازلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه".
وفد نصارى نجران
قال ابن إسحق: "ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم"، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم، وكانوا ستين راكباً، منهم أربعة وعشرن رجلاً من أشرافهم، منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، "العاقب" أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لايصدرون إلا عن رأيه وأمره، واسمه عبد المسيح، " والسيل" عقالهم"1" وصاحب مدارسهم.
وكان أبو حارثة قد شرق فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.
فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حراثة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في نسخة: (مثالهم).
ص -52- على بغلة متوجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز: تعس إلا بعد، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست، فقال: ولم يا أخي؟!، فقال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز: فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا، فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرّفونا وموّلونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأصر عليها أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.
فهذا وأمثاله من الذين منعتهم الرياسة والمأكل من اختيار الهدى، وآثروا دين قومهم تبعاً لهم، وليس بمستنكر أن تمنع الرياسة والمناصب والمآكل للرؤساء، ويمنع الأتباع تقليدهم، بل هذا هو الواقع، والعقل لا يستشكله.
عدي بن حاتم الطائي
فصل:
وكان من رؤساء النصارى الذين دخلوا في الإسلام لما تبين أنه الحق الرئيس المطاع في قومه "عدي بن حاتم الطائي". ونحن نذكر قصته، رواها الإمام أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم.
قال عدي بن حاتم: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما رفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لا أرجوا أن يجعل الله يده في يدي، قال: فقام لي، فلقيته امرأة وصبي معها، فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما يفرك أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله"، قال: قلت: لا، ثم تكلم ساعة، ثم قال: "إنما يفرك أن يقال الله تعالى أكبر، وتعلم أن شيئاً أكبر، من الله"؟!، قال: قلت: لا، قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن
ص -53- النصارى ضلال"، قال: قلت: فإني حنيف مسلم، قال فرأيت وجهه ينبسط فرحاً، قال: ثم أمر بي فأنزلت عند رجل من الأنصار، جعلت أغشاه آتيه طرفي النهار، قال: فبينا أنا عنده عشية إذ جاءه قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار، قال: فصلي وقام، فحث عليهم، ثم قال: "ولو بصاع، ولو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، يقي أحدكم وجهه حر جهنم أو النار، ولو بتمرة، ولو بشق تمرة، فإن أحدكم لاقى الله وقائل له ما أقول لكم، ألم أجعل لك سمعاً وبصراً؟، فيقول: بلى، فيقول: ألم أجعل لك مالا وولدا؟ فيقول: بلى فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟!، فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ثم لا يجد شيئاً يقي وجهه حر جهنم، ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن الله ناصركم ومعطيكم، حتى لتسير الظعينة فيما بين يثرب والحيرة أكثر ما يخاف على مطيتها السراق"، قال: فجعلت أقول في نفسي: فأين لصوص طي؟!، وكان عدي مطاعاً في قومه بحيث يأخذ المرباع من غنائمهم.
وقال حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين، قال: قال أبو عبيدة بن حذيفة: قال عدي بن حاتم: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فكرهته أشد ما كرهت شيئاً قط، فخرجت حتى أتيت أقصى أرض العرب مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول، فقلت لو أتيته فسمعت منه، فأتيت المدينة، فاستشرفني الناس، وقالوا: جاء عدي بن حاتم الطائي، جاء عدي ابن حاتم الطائي، فقال: "يا عدي بن حاتم الطائي، أسلم تسلم"، فقلت: إني على دين، قال: "أنا أعلم بدينك منك" قلت: أنت أعلم بديني مني قال: "نعم" قال: هذا ثلاثا قال: "ألست لوسياً"، قلت: بلى، قال: "ألست ترأس قومك"، قلت:
ص -54- بلى، قال: "ألست تأخذ المرباع"، قلت: بلى، قال: "فإن ذلك لا يحل لك في دينك"، قال: فوجدت بها على غضاضة، ثم قال: "لعله أن يمنعك أن تسلم أن ترى عندنا خصاصة، وترى الناس علينا ألباً واحداً، هل رأيت الحيرة؟"، قلت: لم أرها وقد علمت مكانها، قال: "فإن الظعينة سترحل من الحيرة، تطوف بالبيت بغير جوار، وليفتحن الله علينا كنوز كسرى بن هرمز"، قلت: كسرى ابن هرمز؟، قال: "كنوز كسرى ابن هرمز، وليفيض المال حتى يهتم الرجل من يقبل منه صدقته"، قال: فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن، ووالله لتكونن إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سلمان الفارسي
وقد كان سلمان الفارسي من أعلم النصارى بدينهم، وكان قد تيقن خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم المدينة قبل مبعثه، فلما رآه عرف أنه هو النبي الذي بشّر به المسيح، فآمن به واتبعه، ونحن نسوق قصته.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم، عن محمود،عن بن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني سلمان الفارسي مِن فِيه، قال: كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: جي، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلقاً له إليه، لم يزل حبه إياي حتى حبه إياي حبسني في بيت كما تحبس الجارية، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي نوقدها لا نتركها تخبو ساعة، وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فشغل في بنيان له يوماً، فقال: يا بني،إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فأطلعها، وأمرني فيها
ص -55- ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي، وشغلتي عن كل شيء من أمري، فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعته فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟، قالوا: بالشام. ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته، قال: يا بني أين كنت؟، ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟، قلت: يا أبت مررت بأناس يصلون في، بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا والله، إنه لخير من ديننا، فخافني، فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته، وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم، فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، قال: فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل هذا الدين علماً، قالوا: الأسقف في الكنيسة، فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، فأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً، فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه، واستخرجوا سبع قلال مملوءة
ص -56- ذهباً وورقاً، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه ورموه بالحجارة، وجاؤا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً يصلي أرى أنه أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه، فأحببته حباً لم أحبه شيئاً قبله، فأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني قد كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه شيئاً قبلك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلي من توصي بي، وبم تأمرني؟، فقال: أي بني، والله ما أعلم أحداً على ماكنت عليه، ولقد هلك الناس، وبدّلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنت عليه.
فلما مات وغيب، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلما حضرته الوفاة قلت: له يا فلان، إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟، قال: يا بني، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان، فالحق به.
فلما مات وغيب، لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصى بي إلى فلان، ثم
ص -57- أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟، فقال: يا بني، والله ما بقى أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه، إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فإنه.
فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، فاكتسبت حتى كانت لي بقيرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟، قال: يا بني، والله ما أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأخذ الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
ثم مات وغيب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت: لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقيراتي هذه وغنيمتي هذه، قالوا: نعم، فأعطيتموها، فحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى، ظلموني فباعوني من رجل يهودي، فكنت عنده، فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي، فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون معنا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ما تقول؟، فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟، أقبل على عملك!، فقلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال.
وقد كان عندي شيء جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "كلوا"، وأمسك فلم يأكل، فقلت:
ص -58- في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد، قد تبع جنازة رجل من أصحابه، وعليّ شملتان لي وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟، فلما رآني صلى الله عليه وسلم أستدرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي، فألقى الرداء عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكبيت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحول"، فتحولت، فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك كأصحابه.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر واحد، قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كاتب يا سلمان"، فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفقير، وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعينوا أخاكم"، فأعانني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل بعشر، يعينني الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا سلمان، ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي"، ففقرت، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت أتيته فأخبرته، فخرج معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، حتى فرغت، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقى علي المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: "ما فعل الفارسي المكاتب؟"، فدعيت له، فقال: "خذ هذه، فادها مما عليك يا سلمان"، فقلت: وأين تقع يا رسول الله مما علي؟!، قال: "خذها فإن الله سيؤدي بها"، فأخذتها فوزنت
ص -59- منها لهم، والذي نفسي بيده أربعين أوقية، فأوفينهم حقهم، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.
DirghaM
01-21-2009, 08:07 PM
قصة هرقل
فصل:
وكان ملك الشام أحد أكابر علماءهم بالنصرانية "هرقل"، قد عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، وعزم على الإسلام، فأبى عليه عباد الصليب، فخافهم على نفسه، وضن بملكه مع علمه بأنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته. ونحن نسوق قصته:
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس: أن أبا سفيان أخبره من فِيه إلى فِيه، قال: انطلقت في المدة التي كانت بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وقد كان دحية بن خليفة جاء به، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل: هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟، قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، واجلسوا أصحابي خلفي، فدعا بترجمانه، فقال: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر عليَّ الكذب لكذبت.
ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟، قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟، قلت: لا. قال: فهل كنتم
ص -60- تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، قلت: لا. قال: ومن اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟، قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟، قلت: لا، بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟، قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟، قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟، قال: قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالاً، يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟، قلت: لا، ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها، قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟، قلت: لا.
قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تُبعث في أحساب قومها، وسألتك: هل كان في آبائه ملك؟، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟، قلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، فزعمت: أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله عز وجل، وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل سُخطة له؟، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل قاتلتموه؟، فزعمت أنكم قاتلتموه، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تُبتلى، ثم تكون لها العاقبة، وسألتك هل يغدر؟، فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر،وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟، فزعمت أن لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد من قبله قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله.
ثم قال: فبم يأمركم؟، قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، قال: إن يكن ما تقول حقاً إنه لنبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على
ص -61- من اتبع الهدى.
أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسين، و{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}".
فلما قرأه وفرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، ثم أذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم بالفلاح والرشد، وأن تثبت مملكتكم، فتبايعوا هذا النبي؟. فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، فقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسدوا له، ورضوا عنه.
فهذا ملك الروم، كان من علمائهم أيضاً، عرف وأقر أنه نبي، وأنه سيملك ما تحت قدميه، وأحب الدخول في الإسلام، فدعا قومه إليه، فولوا عنه معرضين {كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة}، فمنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورياسته، ومنع أشباه الحمير ما منع الأمم قبلهم.
ولما عرف النجاشي ملك الحبشة أن عبّاد الصليب لا يخرجون عن عبادة الصليب إلى عبادة الله وحده أسلم سراً، وكان يكتم إسلامه بينهم هو وأهل بيته، ولا يمكنه مجاهرتهم.
ذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه مكانه يدعوه إلى الإسلام، فقال له عمرو: يا
ص -62- أصحمة، علي القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا وكانا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز، وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه، لخبر سالف وأجر منتظر، فقال النجاشي: "أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر".
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي
قال الواقدي: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، حملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله إليك، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى".
فكتب إليه النجاشي:
"بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فلقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما
ص -63- بعثت به إلينا، وقد قر بنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين".
والتفروق: علامة تكون بين النواة والتمرة.
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط
فصل:
وكذلك ملك دين النصرانية بمصر، عرف أنه نبي صادق، ولكن منعه من اتباعه ملكه، وأن عبّاد الصليب لا يتركون عبادة الصلب، ونحن نسوق حديثه وقصته:
قال الواقدي: كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوك بداعية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تليت فإن عليك إثم القبط، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}" وختم الكتاب.
فخرج به حاطب حتى قدم عليه الإسكندرية، فانتهى إلى حاجبه، فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال حاطب للمقوقس لما لقيه: إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى}، فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر بك غيرك.
قال: هات، قال: إن لنا ديناً لن ندعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوماً فهم من أمته، فالحق
ص -64- عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به.
فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فرأيته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة من إخراج الخبء، والإخبار بالنجوى، ووصف لحاطب أشياء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: القبط لا يطاوعونني في اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك، وأنا أضن بملكي أن أفارقه، وسيظهر على بلادي، وينزل بساحتي هذه أصحابه من بعده، فارجع إلى صاحبك.
وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط.
سلام عليك، أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك." ولم يزد.
والجاريتان: مارية، وسيرين. والبلغة: دلدل، وبقيت إلى زمن معاوية.
قال حاطب: فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه".
كتاب رسول الله صلى الله عليه إلى حيفر وعبيد ابني الجلندي
فصل:
وكذلك ابنا الجلندي، ملكا عمان وما حولها من ملوك النصارى، أسلما طوعاً واختياراً. ونحن نذكر قصتهما، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، وهذا لفظه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى حيفر وعبيد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بداعية الإسلام،
ص -65- أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وَلَّيتكما مكانكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما". وختم الكتاب، وبعث به مع عمرو بن العاص.
قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها انتهيت إلى عبيد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقاً، فقلت: إني رسول رسول الله إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم عليَّ بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك.
ثم قال لي: وما تدعو إليه؟، قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال: يا عمرو، إنك سيد قومك، فكيف صنع أبوك، فإن لنا فيه قدوة؟، قلت: مات ولم يؤمن بمحمد، ووددت أنه كان أسلم وصدّق به، وكنت أنا على مثل رأيه، حتى هداني الله للإسلام.
قال: فمتى تبعته؟، قلت: قريباً، فسألني أين كان إسلامي؟، فقلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم.
قال: فكيف صنع قومه بملكه؟، قلت: أقروه، قال: والأساقفة والرهبان؟، قلت: نعم.
قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس خصلة في رجل أفضح له من كذب، قلت: ما كذبت، وما نستحله في ذلك.
قلت: كان النجاشي يخرج له خراجاً، فلما أسلم وصدق بمحمد قال: لا والله لو سألني درهماً واحداً ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له نياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خراجاً ويدين ديناً محدثاً؟، قال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه، ما أصنع به، والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع.
قال: انظر ما تقول يا عمرو؟، قلت: والله لقد صدقتك.
قال عبد: فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه؟، قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهي عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهي عن الظلم والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب.
فقال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد، ونصدّق به، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ديناً.
قلت: إنه إن أسلم مَلَّكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على
ص -66- قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم. قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟، فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو ويؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟، فقلت: نعم، فقال: والله ما أرى قومي في بعد دارهم، وكثرة عددهم، يطيعون بهذا.
قال: فمكثت ببابه أياماً وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يوماً فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي، فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبو أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوماً، ففض خاتمه، فقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، ثم قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟، فقلت: اتبعوه إما راغب في الإسلام وإما مقهور بالسيف، قال: ومن معه؟، قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدي الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحداً بقي غيرك في هذه الحرجة، وإن أنت لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، ويبيد خضرائك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال.
قال: دعني يومي هذا وارجع إلى غداً.
فرجعت إلى أخيه، فقال: يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه، حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبي أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملَّكت رجلاً ما في يدي، وهو لا يبلغ خيله هنا، وإن بلغت خيله ألفت قتالاً ليس كقتال من لاقاه.
قلت: وأنا خارج غداً، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال: ما نحن فيما قد ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه. فأصبح فأرسل إليَّ فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعاً، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخليا بيني وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عوناً على من خالفني.
كتاب رسول الله إلى هوذة بن علي
فصل:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوادة بن علي الحنفي، صاحب اليمامة:
"بسم
ص -67- الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، أجعل لك ما تحت يدك".
وكان عنده أركون دمشق عظيم من عظماء النصارى، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قد جائني كتابه يدعوني إلى الإسلام، فقال له الأركون: لم لا تجيبه؟، فقال: ضننت بديني وأنا ملك قومي أن أتبعته لما أملك، قال: بلى والله، لئن اتبعته ليملكنك، وإن الخيرة لك في اتباعه، وإنه للنبي العربي، بشَّر به عيسى بن مريم، والله أنه لمكتوب عندنا في الإنجيل.
[كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر]
فصل:
وذكر الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شجاع بن وهب إلى الحارث ابن أبي شمر، وهو بغوطة دمشق، فكتب إليه مرجعه من الحديبية:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث ابن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك"، وختم الكتاب.
فخرج به شجاع بن وهب، قال: فانتهيت إلى حاجبه فأجده يومئذ وهو مشغول، وهو مشغول بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيليا، حيث كشف الله عنه جنود فارس، شكراً لله عز وجل.
قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه، فقال حاجبه: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه وكان رومياً اسمه مرى يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فكنت أحدثه، فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إني قرأت في الإنجيل، وأجد صفة هذا النبي بعينه، فكنت أراه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض العرب، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث ابن أبي شمر أن
ص -68- يقتلني، قال شجاع: فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي، ويخبرني عن الحارث باليأس منه، ويقول: هو يخاف قيصر.
قال فخرج الحارث يوماً، وجلس، فوضع التاج على رأسه، فأذن لي عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، وقال: من ينتزع مني ملكي؟!، أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، عليَّ بالناس، فلم يزل جالساً يعرض حتى الليل، وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك ما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبري، فصادف قيصر بإيليا وعنده دحية الكلبي، قد بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه: أن لا تسر إليه والهَ عنه، ووافني بإيليا.
قال: ورجع الكتاب وأنا مقيم، فدعاني وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟، قلت: غداً، فأمر لي بمائة مثقال ذهباً، ووصلني مرى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وأخبره أني متبع دينه.
قال شجاع: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "باد ملكه"، وأقرأته من مرى السلام وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق".
فصل:
ونحن إنما ذكرنا بعض ملوك الطوائف الذين آمنوا به، وأكابر علمائهم وعظمائهم، ولا يمكننا حصر من عداهم، وهم جمهور أهل الأرض، ولم يتخلف عن متابعته إلا الأقلّون، وهم: إما مسالم له قد رضي بالذلة والجزية والهوان، وإما خائف منه.
فأهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلمون له، ومسالمون له، وخائفون منه.
ولو لم يسلم من اليهود في زمنه إلا سيدهم على الإطلاق، وابن سيدهم، وعالمهم وابن عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم: عبد الله بن سلام؛ لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض، فكيف وقد تابعه على الإسلام من الأحبار والرهبان من لا يحصى عددهم إلا الله، ونحن نذكر قصة عبد الله بن سلام.
ص -69- فروى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن صحيف، عن أنس بن مالك، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقالوا: جاء نبي الله، فاستشرفوا ينظرون، إذ سمع به عبد الله بن سلام، وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فلما خلا نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك نبي الله حقاً، وأنك جئت بالحق، ولقد علمت اليهود إني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فدخلوا عليه، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر اليهود ويلكم، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحق، أسلموا"، قالوا: ما نعلمه، فأعادها عليهم ثلاثاً، وهم يجيبونه كذلك، قال: "أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟"، قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟"، قالوا: حاش لله ما كان ليسلم، فقال: "يا ابن سلام، أخرج عليهم"، فخرج إليهم فقال: يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقاً، وأنه جاء بالحق. فقالوا: كذبت، فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري أيضاً من حديث حميد عن أنس، قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض له، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟، وما أول طعام أهل الجنة؟، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟، قال: "أخبرني بهن جبريل آنفاً"، قال: جبريل؟ قال: "نعم"، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: ثم قرأ
ص -70- هذه الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، "أما أول اشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد حوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه"، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، فجاءت اليهود إليه، فقال: "أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟"، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟"، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله ابن أبي بكر، عن يحي بن عبد الله، عن رجل من آل عبد الله بن سلام، قال: كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم، وكان حبراً عالماً، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه، وهيأته، والذي كنا نتوكف له، فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما قدم نزل معنا في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، قال: قلت لها: أي عمة، هو والله آخر موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به، فقالت:
ص -71- يا ابن أخي أهو النبي الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟، قال قلت لها: نعم، قالت: فذاك إذاً، قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من اليهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن اليهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك تغيبني عنهم، ثم تسألهم عني، كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني، قال: فأدخلني بعض بيوته، فدخلوا عليه، فكلموه وسألوه، فقال لهم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟"، قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا، قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم: يا معشر اليهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله، وأؤمن به وأصدقه وأعرفه، قالوا: كذبت، ثم وقعوا فيّ، فقلت: يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور، قال: فأظهرت إسلامي وأسلم أهل بيتي، وأسلمت عمتي ابنة الحارث فحسن إسلامها.
وفي مسند الإمام أحمد وغيره عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وانجفل الناس قبله، فقالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجئت في الناس لأنظر إلى وجهه، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته منه أن قال: "يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصَلَّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام".
فعلماء القوم وأحبارهم كلهم كانوا كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، فمنهم من آثر الله ورسوله والدار الآخرة، ومنهم من آثر الدنيا، وأطاع داعي الحسد والكبر.
ص -72- وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري، قال: "كان بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثان تعبدها رجال من أهل المدينة لا يتركونها، فأقبل عليهم قومهم وعلى تلك الأوثان فهدموها، وعمد أبو ياسر بن أخطب أخو حيي بن أخطب وهو أبو صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه، وذلك قبل أن تصرف القبلة نحو المسجد الحرام، فقال أبو ياسر: يا قوم، أطيعوني فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه، فانطلق أخوه حيي حين سمع ذلك وهو سيد اليهود يومئذ وهما من بني النضير ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه، وسمع منه، فرجع إلى قومه وكان فيهم مطاعاً، فقال أتيت من عند رضي الله عنه، والله لا أزال له عدواً أبداً، فقال له أخوه أبو ياسر: يا أبن أمي، أطعني في هذا الأمر ثم اعصني فيما شئت بعده لا تهلك، قال: لا والله، لا أطيعك، واستحوذ عليه الشيطان فاتبعه قومه على رأيه".
وذكر ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر عمن حدثه عن صفية بنت حيي أنها قالت: "لم يكن من ولد أبي وعمي أحد أحب إليهما مني، لم ألقهما في ولد قط إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء نزل في بني عمرو بن عوف، فإذا إليه أبي وعمي أبو ياسر ابن أخطب مغلسين، فوالله ماجاءا إلا مع مغيب الشمس، فجاءا فاترين كسلين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟، قال: نعم والله، قال: تعرفه بنعته وصفته؟، قال: نعم والله، قال فماذا في نفسك منه؟، قال: عداوته والله ما بقيت".
قال ابن إسحاق: "وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن شعبة، وأسد بن شعبة، وأسيد بن عيد، ومن أسلم من اليهود فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام، قال من كفر من اليهود: ما آمن
ص -73- بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عز وجل في ذلك:{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
Powered by vBulletin™ Version 4.2.1 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, ENGAGS © 2010