الوليد بن مصعب
01-24-2009, 06:56 PM
يقال في أصل كلمة (( السياسة )) أنها مشتقة من (( ساس الحصان )) بمعنى (( قاده إلى موقع الماء )) . و هي اشتقاق حسن , إذا كان الحصان يريد أن يشرب . أما إذا كان السايس , هو الذي يرغب في نقل بعض براميل الماء , فإن كلمة (( السياسة )) تصبح مشتقة من (( الويل للحصان )) رغم الأختلاف الظاهر بين الحروف . إنها نقطة ضعف قديمة في طبيعة كل الكلام ؛ فاللغة وحدها – مثل عكاز وحده – أداة تتوكأ عليها عبر جميع الطرق , و تطرق لك كل البواب , لكنها لا تستطيع أن تقودك إلى البيت الذي تقصده , حتى تعرف أنت طريق البيت , وتقصده , و تطرق بابه ... إن اللغة لا تقول شيئا من دون شريعة .
بموجب هذا القانون , ترتبط لغتنا العربية بمصطلحات الشرع السلامي , ارتباطا يجعلها غير صالحة للتعبير عن شرع سواه . فكلمة عسكري مثلا , تعني في لغتنا , رجلا يحمل بندقية , لكن كلمة مجاهد هي التي تحدد شرعا , أين يوجه هذا السيد سلاحه , و كلمة بنك تعني – فقط – مكان النقد , لكن بيت مال المسلمين تعني أن النقود ملك للناس , و أن أحدا لا ينفق منها فلسا , إلا بإذن شرعي من جميع الناس ( 1 ) . و كلمة رئيس تعني أن الأدارة , لها راس واحدة , لكن كلمة أولي الأمر تعني أن الأدارة لها مجالس مكلفة بها , تضم كثيرا من الرؤوس ( 2 ) . و كلمة مواطن لا تقول شيئا عن دستور الوطن , لكن كلمة مسلم تقول إن الوطن دستوره الشورى بين جميع المسلمين .
و الفرق الظاهر , بين كل كلمة و أخرى , أن إحداهما ترجمة لمصطلح إداري , ليست له شريعة في واقع العرب , و الأخرى هي المصطلح الأداري نفسه , كما يعرفه العرب في صياغته الشرعية .
فإذا عمد المرء , إلى استبدال كلمة بكلمة , بحجة أن روح التجديد , تحتم استخدام مصطلحات جديدة , فإن ذلك لا يضيف شيئا إلى لغتنا العربية , و لا يجعلها لغة معاصرة , بل يفرغها من محتواها , و يجعلها لغة عمياء من دون شريعة , كما كانت ذات مرة , في عصر أبي جهل .
إن استبدال مصطلحات الأدارة الأسلامية بمصطلحات مترجمة عن نظم إدارية أخرى , هو أقصر الطرق , و أقلها مشقة , لأنهاء الحل الأسلامي من أساسه , و إعادة العرب , أربعة عشر قرنا إلى الوراء , بحيلة كلامية , سهلة , ممكنة , سلمية , عصرية , مميتة , واحدة . لكن ثمة ملاك حارس على عتبة هذا الباب .
فاللغة العربية , منذ نزول القرآن , لغة محررة شرعا من أهواء السياسيين , و أصحاب الرأي . إنها لم تعد عكازا لأحد , و لم يعد من الممكن استخدامها للتعبير في نظام إداري آخر , سوى نظام الأدارة الجماعية في السلام . و إذا خطر لأحد ما , أن يتجاهل هذا الخندق , و يسخر اللغة العربية لاحتواء شرائع سياسية من الشرق أو الغرب , فإن العرب – من جانبهم – لا يتخلون عن مصطلحاتهم القرآنية , و لا ينسونها بمرور الزمن , و لا يستبدلون منها كلمة , و لا يضيفون إليها كلمة , مقابل أية مكافأة , أو تحت أي تهديد . و قد مر حتى الآن , أربعة عشر قرنا على نزول القرآن , تفرق العرب خلالها بين الشرائع السياسية إلى شيعة و سنة و خوارج و شعوبيين و رأسماليين و شيوعيين . و اختار كل حزب لنفسه هوية . لكن النسخة الأولى من بطاقة الهوية الأصلية , لا تزال حية , في صياغتها الصحيحة , على شفاههم جميعا , و لا تزال قادرة على جمعهم من جديد تحت إدارة واحدة , باسم صحيح واحد , في أي وقت يختارونه , و في وجه أي مقاومة . إن البطاقة لا تزال محفوظة , بمصطلحاتها الأصلية , داخل صدور العرب , في سورة الفاتحة .. و هي سورة ذات مكانة خاصة جدا , اختار لها الرسول موضع الصدارة بين سور القرآن . و مصنفة تحت عنوان ( من مقول العباد ) باعتبارها أنشودة جماعية تبدأ بصيغة أمر تقديره (قولوا) .
الحمد لله رب العالمين : فلا شيء عن الشيعة أو السنة أو النصارى أو اليهود أو الشيوعيين ؛ لأن المواطن العربي الذي رباه الأسلام , مواطن عالمي , لا ينتمي إلى غير هذه العقيدة الأنسانية الشاملة , و لا يمكن تسخيره برضاه لخدمة عقائد حزبية أو جدلية , و ليس مجهزا لخدمتها شرعا .
الرحمن الرحيم : فالمواطن العالمي , عقيدته الرحمة , لأنها العقيدة الوحيدة الموجهة إلى الناس , و ليس إلى مؤسساتهم . و كل شعار – عدا شعار الرحمة – يمكن تسخيره بوسائل الجدل , لخدمة مصالح المؤسسات , على حساب الناس أنفسهم .
مالك يوم الدين : و الدين ليس هو السياسة , و لا يخاطب الدولة , بل يخاطب الناس .
إياك نعبد , و إياك نستعين : هذه جماعة , تتكلم علنا بضمير الجماعة , و ليست مجرد مواطن مسلم وحيد .
اهدنا الصراط المستقيم : و الذي يطلب الهداية , يعرف أنه صاحب القرار الأول و الأخير , و أن ما يحدث له في حياته – و حياة عياله من بعده – ليست مسؤولة عنه , جهة إدارية أو عقائدية , بل مسؤول عنه هو شخصيا , و بالذات , عن كل مثقال ذرة منه .
صراط الذين أنعمت عليهم : و هو صراط علامته الفارقة , أنه طريق إلى الخير و النعمة , في مجتمع يضمن حق الجماعة , و يحتوي خلافاتها الشكلية , و يجمعها في نظام إداري فعال , قائم على الرحمة و التراحم .
غير المغضوب عليهم : فثمة شرائع كثيرة أخرى – غير الشرع الجماعي – تستطيع أن تجمع الناس أيضا , لكنها لا ترحمهم , لأنها لا تستطيع أن تحميهم من بطش الأقوياء .
و لا الضالين : و علامة الضال أنه إنسان وحيد , و مغترب عن عالمه . فالناس دون شرع الجماعة , أسرى في المدن تحت رحمة الأقطاع , و من دون إدارة على الأطلاق , قبائل تهيم على وجهها في الصحراء .
إن مواطننا يعرف ما يقوله , و يقوله علنا , و بإصرار. و إذا نسي أحيانا – أو جعله الشيطان ينسى – فإن التعاليم , قد فرضت عليه قراءة سورة الفاتحة بالذات , دون غيرها من السور , قبل كل ركعة , في كل صلاة , في كل يوم , من كل اسبوع , من كل شهر , من كل سنة , في أمر مستديم من الرسول شخصيا . و وراء هذا الحصن الذي يصعب اختراقه , تعيش هوية المواطن العربي , في مامن من كل تزوير , تمليه أهواء السياسة , مثل روح في صدر طائر , و الطائر في قفص , و القفص في جزيرة , و الجزيرة بعيدة في ملكوت الله ... إنها أمانة في لغته نفسها .
لهذا السبب , تختلف اللغة العربية عن كل لغة سواها , في الشرق و الغرب , و في جميع العصور , لأنها ليست وسيلة للتعبير فقط , بل و سيلة للتفاهم أولا , على معنى كل مواطن , و نوع نظام الحكم , و طريقة سير الأدارة , في مصطلحات محددة , محررة من أهواء المؤسسات , مألوفة على السنة الناس , حية , شرعية , متفق عليها بالأجماع .
و النتيجة الأولى : لاستبدال هذه المصطلحات , بمصطلحات رأسمالية أو ماركسية , هي أن يصبح العرب فجأة , شعبا من الأميين , حتى يعاد تعليمهم من جديد , فمخاطبة الناس بمصطلحات لا يعرفون لها شريعة في واقعهم , مثل مخاطبتهم بلغة أجنبية , فكرة تحتاج إلى إعادة تأهيلهم من الصفر ( 3 )
و النتيجة الثانية : أن يتعلم العرب , جميع المصطلحات الأجنبية , لكنهم يبقون عربا , عند نقطة الصفر . فلغتهم نفسها مقيدة عضويا إلى لغة القرآن , و ليس بوسعهم أن يفصلوا هذه اللغة عن الأدارة , كما فعلت بقية شعوب العالم , و يجتمعوا في نظام تشريعي قائم على وحدة الأرض أو اللون أو الحزب . إنهم – إذ ذاك – يتورطون تلقائيا , في حالة مميتة من حالات انعدام الوزن , بين إدارة من دون شريعة , و شريعة من دون إدارة . فمثلا :
كلمة ديموقراطية التي تعني حكم الشعب كلمة تقدمية براقة , بالنسبة لكل مواطن في العالم , ما عدا مواطننا العربي الذي لا يعترف شرعا بغير حكم الله , و لا يستطيع أن يتنازل عن هذا هذا المصطلح بالذات , أو يقبل استبداله , أو ينساه . و مثلا :
كلمة وطن تعني في لغة السياسة أرض الميعاد . و لهذا السبب , يقول السياسيون إن (( الوطن مقدس )) . و تتفق الشرائع السياسية , على إباحة التضحية بالناس , دفاعا عن تراب الوطن . و رغم أن أحدا , في وطننا العربي , لا يعارض علنا في إقرار هذه الصياغة , فإن العرب في لغتهم الشرعية , لا يعترفون بقدسية الوطن , و لا يموتون طائعين في سبيله , بل يموتون في سبيل الله , و هي فكرة مختلفة جدا , لأنها قد تعني أن يرفع المواطن سلاحه باسم الشرع , في وجه ما يدعى بوطنه المقدس . و مثلا :
كلمة الحرية تعني في دستورها الرأسمالي حرية البيع و الشراء , و هي كلمة عصرية , خلبت لب الشعراء في كل اللغات , بما في ذلك لغتنا العربية . لكن مواطننا العربي شخصيا , لا يزال اسمه عبد الله و احيانا عبيد الله , و عادة عبد المعين ( 4 ) . و مثلا :
كلمة اشتراكية تعني في لغة التطبيق , عدم دستورية الملكية الخاصة لوسائل الأنتاج , و هو تشريع عمالي , يستحيل إقراره سلميا في مجتمع لا يحكمه العمال , و يتوقف اصداره على إشعال حرب طبقية , تتولى القضاء على الملكيات الكبيرة و الصغيرة , مما يجعل الدعوة إلى الأشتراكية , ترتبط بالدعوة إلى الثورة المسلحة في جميع اللغات , و منها لغتنا العربية . رغم أن مواطننا العربي شخصيا – دون ثورة مسلحة – يردد في دستوره منذ أربعة عشر قرنا , أن الملك لله وحده لا شريك له , و أن ذلك يشمل شرعا ملكية وسائل الأنتاج . و مثلا :
كلمة دولة تعني أن تكون للدولة حدود , و تكون لها هوية و نشيد قومي , و علم مرفوع فوق سارية , و قائد يبايعه الناس على القيادة , و هي شروط تتوافر لكل دولة في العالم , ما عدا الدول العربية بالذات , التي ترتفع فيها أصوات المؤذنين , خمس مرات كل يوم , من أعلى موقع في المدن و القرى , معلنة ولاءها لدولة خفية , لا تعترف بحدود , أو نشيد قومي , أو علم , أو قيادة :
الله أكبر, الله أكبر : وهذه صيحة الجهاد , لكي يسمع من يريد أن يسمع , و الحاضر يعلم الغائب , بأن دولة المسلمين ليس فيها أرباب أو أنصاف أرباب .
أشهد أن لا إله إلا الله : و كل شهادة غيرها تعتبر مزورة , مهما قيل في نشرات الأخبار , و تعليق الأذاعة , فالمواطن المسلم لا يدين بالولاء لمواطن مثله , أو لحكومة , أو لحزب , أو لطائفة .. إنه لا يعترف شرعا , بغير حكم الجماعة .
حي على الصلاة : في وقت لاحق , سوف يضاف إلى نص الأذان , مقطع يقول أشهد أن محمدا رسول الله . و يضيف إليه الشيعة قولهم ( و أن عليا بالحق ولي الله ) . لكن ذلك سوف يحدث في وقت لاحق , بعد أن ينهار نظام الأدارة الجماعية , في الأسلام , وينتهي عصر الخلفاء الراشدين , و ينجح معاوية في الستيلاء على الحكم . أما في عصر الرسول نفسه ... فإن الأذان – الذي يعني الأعلام – كان دعوة إلى لقاء كل الأديان و الملل في يوم الجمعة بالذات . و لهذا السبب قال المالكية { إن الأذان (( واجب كفاية )) في كل بلد تقام به الجمعة . و إذا ترك أهله الأذان , قوتلوا على ذلك } , لأنهم يكونون قد أغفلوا الغرض من الأجتماع , و هو حضور الناس . أما اتباع أبي حنيفة و ألأمامية فقد اشترطوا حضور المسؤول السياسي أو نائبه , معلنين عدم جدوى اللقاء من دون هذا الشرط , في إشارة واضحة إلى أن اجتماع يوم الجمعة , لقاء سياسي إداري و ليس دينيا .
أكثر من ذلك , فإن جميع مذاهب الفقه – ما عدا المالكية – قد اتفقت على أن صلاة الجمعة , لا تقام بالضرورة في المساجد , بل في أي مكان يلتقي فيه الناس ؛ لأنه لقاء يخص ( المؤمنين ) عامة , بموجب نص الآية : [ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ] .
حي على الفلاح : ثم يبدأ الأجتماع الأداري بعد الصلاة , و يلتقي الناس على مصلحة الناس , في مؤتمر جماعي محرر من سلطة المؤسسات الدينية و الأقتصادية و العسكرية , محرر من مظاهر التحايل السياسي الموجه لأفساد جدية النقاش , من الغمز و اللمز و الغيبة و النميمة , إلى الصراخ بصوت عال , و التنابز بالألقاب .
الله أكبر , الله أكبر . لا إله إلا الله : في أول النداء و آخره . فهذه دعوة إلى اجتماع لا يعترف بسلطة حزب , أو كنيسة , أو إمام , و لا يساوم في بند واحد من دستوره الجماعي , و لا يدخر جهدا في الأعلان عن هويته جهارا , من أعلى بقعة في المدينة , كل يوم من أيام السنة , منذ الفجر إلى العشاء .
إن أجراس الكنائس , تدعو الناس إلى الصلاة , لكن أصوات المؤذنين , تدعوهم إلى الصلاة , و تغيير نظام الحكم . و إذا كانت أجهزة الرقابة السياسية في وطننا , لم تصادر المآذن حتى الآن , فذلك أمر مرده إلى أنها – أولا – لا تعرف لغة الأسلام الأدارية . و لأنها – ثانيا – أقصر قامة من أقصر مئذنة .
فمشكلة الأدارة العربية - من دون غيرها من الأدارات في الشرق و الغرب , و في جميع العصور - أنها ملزمة بالتعايش مع نص القرآن . و هي مشكلة تشبه أن يضطر لص سيء الحظ إلى أن يسرق ناقوسا . فلغة القرآن , لغة لأدارة اسلامية ضائعة , سرقتها الأدارة , لكنها لم تعرف أبدا أين تخفيها , لأنها تعيش حية في لغة الناس .
و عند هذا الزقاق المسدود , و في حالة مروعة من انعدام الوزن , و قفت الأدارة العربية , و المواطن العربي معا , مشلولين عن الحراك منذ إنهاء نظام الأدارة الجماعية , و لا يزالان مشلولين حتى الآن , تفصل بينهما لغتان عربيتان (5 ) إحداهما لغة حكومية , تتحدث عن جهاز إداري من دون شريعة مثل [حكم الشعب – و انتخابات – و اشتراكية – و برلمان – و حرية الصحافة – و الجيش العامل – و بنك الدولة .. . ] و الأخرى لغة إسلامية , تتحدث عن شريعة من دون جهاز إداري مثل [ الحكم لله – و بيت مال المسلمين – و كتب عليكم القتال – و هذا ما كسبت إيديكم – و كلكم راع – و كلكم مسؤول عن رعيته – و الأمر بالمعروف – و النهي عن المنكر .. ] .
كل لغة منهما , تقول شيئا مختلفا , و تتحدث عن نظام إداري مختلف , لكنهما تعيشان معا , في سلام مفتعل , جنبا إلى جنب , في كل بيت , و في كل شارع , على امتداد وطننا العربي , خلال مباراة أبدية لشد الحبل , بين إدارة لا تعترف بالناس , و ناس لا يعترفون بالأدارة .
------------------------------
هوامش المقال :
----- ( 1 ) : كلمة بنك , مشتقة من Bancum بمعنى المنضدة الطويلة التي يجلس وراءها رجل يدعى Bancherius , مهمته أن يحفظ الودائع , و يقدم القروض .
مشكلة هذا التعريف , أنه لا يشرح وظيفة البنك السياسية , و لا يحدد العلاقة الوطيدة – و الخطيرة – بين نظام البنك , و نظام الحكم نفسه . و لعل تجاهل هذه العلاقة , هو أبرز صفات الفكر السياسي المتخلف , في بلدان العالم الثالث عامة , و في الوطن العربي بالذات .
لقد بدأ نظام البنك في مصر القديمة بمثابة خزانة آمنة لحفظ الودائع , و بقي على هذه الصيغة البسيطة حتى مطلع القرن السادس عشر , الذي شهد غارة الأوربيين على قارات المحيط . و رغم ظهور طبقة جديدة من الصيارفة المحترفين قبل عصر الغارة , فإن فريضة تحريم الربا في السلام و المسيحية , حدت من قدرة البنوك على الأستثمار الحر , فيما عدا بعض مصارف المرابين اليهود , الذين سمحت لهم عقيدتهم العنصرية , بقبول التعامل بالربا . و كسبوا لليهود سمعة سيئة جدا في بلدان المسلمين و المسيحيين معا .
خلال هذه الفترة , كان البنك مجرد مصرف صغير , تملكه أسرة واحدة . و تقوم بتمويله من مالها الخاص , بالأضافة إلى ما لديها من الودائع , و كان ربحها – أو خسارتها – يتوقفان على نفوذها في بلاط أصحاب الأقطاعيات , الذين كانوا – بالأضافة إلى البابا – انشط الزبائن , و أكثرهم حاجة إلى القروض . ففي سنة 1340مثلا , أفلس أكبر مصرفين في فلورنسا , هما مصرفا (( باروي )) و (( بيرازي )) , بسبب رفض امراء الأسرة الحاكمة , أن يدفعوا ديونهم , فيما كان بنك آل ميديتشي يمول بناء كنيسة القديس بطرس , ببيع صكوك غفران موقعة من البابا , مقابل عمولة قدرها 15في المائة من ثمن الصك .
بسبب هذه العلاقة الوطيدة بين نظام البنك الخاص , و نظام الأقطاع , كان البنك الخاص فكرة محكوما عليها بالموت , مثل الأقطاع نفسه .و كانت قد بدأت تموت فعلا , و تفلس في فلورنسا مثلا , بمعدل ثلاثة بنوك من كل أربعة , عندما وصل كولمبس فجأة إلى أمريكا , و فتحت ((كنوز العالم الجديد )) طريقا معبدا بالذهب , أمام نظام مصرفي طاريء , لم يكن تاريخ المصارف قد عرفه حتى ذلك الوقت .
الميزة الأولى , لهذا المصرف الرأسمالي الجديد , أنه لا يحرم الربا , لأنه نشأ في نظام إداري تحت إشراف التجار , يقوم على حرية الكسب , و ليس على تعاليم الدين .
و الميزة الثانية , إنه لا يقدم قروضا لحاكم إقطاعي , بل يقدمها لحاكم منتخب في اقتراع عام , مما يعني أن الناس أنفسهم , هم المسؤولون عن سداد القروض .
و قد تكفلت مناجم الذهب الجديدة في كاليفورنيا و كندا و نيوزيلندا و جنوب أفريقيا , بتوفير غطاء ذهبي , لبلايين الدولارات و الجنيهات و الماركات و الفرنكات التي اصدرتها بنوك الأستثمار الرأسمالية , حتى بلغ مجموع الأستثمار العالمي في بناء السكك الحديدية مثلا , أكثر من مائة مليار دولار , قبل بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
هذا البنك الجديد نظام رأسمالي بحت , لا يمكن تقليده خارج البلدان الرأسمالية , و لا يشبه شيئا من أنظمة البنوك القائمة في الدول السوفياتية و العالم الثالث , و لا توجد منه صيغتان متشابهتان في أي مكان . فالولايات المتحدة تتبنى صيغة خاصة في ( البنك الفيدرالي ) . و بريطانيا لها صيغة أخرى , كذلك سويسرا و بلجيكا و السويد . لكن جميع الصيغ تتفق على ثلاثة مباديء أساسية :
المبدأ الأول : أن البنك الرأسمالي , لا وطن له . فهو يعمل في الداخل و الخارج , و يقبل ودائع مالية من المواطنين و الأجانب , لأنه لا يتبع الأدارة السياسية .
المبدأ الثاني : أن البنك الرأسمالي , لا يمول المشروعات , بل (( يستثمر )) أمواله فيها , مما يجعل عنصر الربح , أهم من نوع المشروعات نفسها . و قد دأبت البنوك الرأسمالية على تمويل مشروعات موجهة ضد مصلحة الناس عمدا . مثل مصانع السلاح عندما كان الناس في حاجة ملحة إلى الخبز .
المبدأ الثالث , أن البنك الرأسمالي , لا يمكن فصله عن نظام تعدد الأحزاب و السوق الحرة . فهو مؤسسة تجارية , في نظام قائم على سلطة التجار . و كل محاولة لأستعارة هذا النظام , من دون سلطة التجار , فكرة من شأنها أن تقود إلى كارثة مالية محققة .
بعد ظهور النفط , عرف العالم نظاما مصرفيا جديدا , تمثل في مصارف الدول المنتجة للنفط . و هي مصارف تغطي عملاتها بما تسميه ( الذهب الأسود ) , و تقلد المصارف الرأسمالية في إدارتها و قوانينها , و تشبهها من الخارج في أدق التفاصيل , لكنها تختلف عنها في الواقع , بقدر ما يختلف مصرف عائلي من القرون الوسطى , عن بنك أمريكي حديث .
فهذه الصيغة الطارئة , لا يحميها نظام تعدد الأحزاب , و لا تحرسها صحافة حرة , و لا يضمن الناس قروضها للدولة , و لا يستطيع الموظف الذي يتولى إدارتها , أن يرفض أمرا صادرا إليه من الأدارة السياسية , دون أن يخسر وظيفته فورا , إذا لم يلقوا به في السجن .
و في هذه الصيغة الخطرة , كان من الواضح أن مبنى البنك , ليس مكانا آمنا لودائع الناس , بل مجرد حيلة لسرقتها , و إن الشعوب ذات الفكر السياسي المتخلف التي فشلت في فهم الخدعة , عليها أن تدفع ثمنا باهظا من قوت عيالها . فقد أصبحت سرقة البنوك فنا سياسيا جديدا , في أكثر بلدان العالم حاجة إلى القرش .
في هايتي مثلا , كان الرئيس دوفالييه , يقبض دولارا عن كل كيس من الدقيق , تنتجه الدولة , دون أن يعرف وزير الأقتصاد نفسه بأمر هذا الخوة , لأن الرئيس المذكور , كان يقبضها خارج هايتي , بمساعدة من بنك هايتي .
و في الفلبين , بلغ حجم مسروقات الرئيس ماركوس و امرأته حوالي ثلاثة مليارات دولار , قام بتحويلها بنك الفلبين , باعتبارها عوائد لشركات أجنبية .
و في إيران , تكفل بنك الدولة بتهريب 25مليار دولار لحساب الشاه و عياله . و هو مبلغ يزيد عن ميزانية إيران نفسها , جمعه الشاه , من عمولاته على النفط , بعد إسقاط مصدق , و سخر البنك المركزي في تحويله شهريا إلى مصارف سويسرا و الولايات المتحدة . و عندما قامت الثورة , و جاء الأيرانيون الفقراء لأسترداد أموالهم من سويسرا , طلبت هذه الدولة (( المحايدة )) أن يثبتوا أولا ( أن الشاه لم يكسب أمواله بعرق جبينه ) .
إن نظام البنك – دون نظام الأدارة الجماعية – فكرة لا علاقة لها بالأصل , و لا تمثل بنكا حقيقيا , و لا تضمن حق أصحاب الودائع , و لا تؤمن القروض , حيث يجب تأمينها , و لا تمنع تبذير المال العام على أهواء السياسيين بل تكون وسيلة شرعية لتبذيره , و تصبح مكتبا لأنفاق مال الناس , من دون علم الناس أنفسهم .
في عصر الرئيس عبد الناصر , وقعت المواجهة بين نظام هذا البنك الراسمالي و الثورة العربية , لأول مرة في تاريخ العرب . لكن افتقار ثقافتنا العربية إلى صيغة الشرع الجماعي , لم يتح لعبد الناصر أن يكتشف علاجا آخر لنظام البنك , سوى أن يؤممه كما فعل لينين , مرتكبا خطأ بديهيا جدا .
فتأميم البنك , مرتبط بوجود حزب عمالي حاكم , يتولى الأشراف على ميادين الأنتاج نفسها من الصناعة و الزراعة معا . و هو في الواقع (( جمعية عمومية )) لها سلطة أعلى من سلطة الأدارة السياسية , مما يؤهلها لحماية المال العام من أهواء الأفراد و الأسر , و يمنحها القدرة على الردع الفوري , و تأمين المحاكم العلنية للمخالفين . أما من دون نظام الحزب اللينيني , فقد كان تأميم البنوك الذي اختاره عبد الناصر , مجرد دليل آخر , على مدى تخلف فكرنا السياسي , في غياب شرع الجماعة في الأسلام . و بدلا من أن تصبح القاهرة , مركزا ماليا للعرب , كما أصبحت مركزا سياسيا لهم .
و بدلا من أن يولد مصرف عربي حقيقي , قادر على تجميع قوى الثورة المادية , وراء شعاراتها السياسية , اختار (( الخبراء )) المحيطون بعبد الناصر , أن يؤمموا البنك المركزي , و يسدوا الطريق أمام كل قرش يصلهم من الخارج , و يحرموا مصر من أموال النفط , و يحرقوها على نار هادئة من البؤس و الحاجة و يهيئوها لمجيء المنقذ أنور السادات , الذي عاد ففتح كل شيء على مصراعيه , دون أن ينفتح أمام مصر باب حقيقي واحد .
إن نظام البنك ليس فكرة , بل قنبلة مميتة , قادرة على قتل أمم بأكملها , لكي يعيش رجل سارق واحد . و إذا شاءت ظروف الفكر السياسي المتخلف , أن تحجب هذه الحقيقة , وراء مصطلحات مستوردة من حضارة راسمالية ذات واقع آخر . فإن الثمن لا يدفعه (( المفكرون )) , بل يدفعه الناس يوميا , من لقمة خبزهم اليومي , مثل رسوم أبدية على الشمس و الهواء .
-----------------------------------
---- (2 ) : لقب رئيس في القاموس الرأسمالي , ليس مستمدا من لغة السياسة , بل من لغة الأقتصاد , فالرئيس President كلمة مشتقة من Presideبمعنى يترأس مجلسا ( و ليس يحكم مجلسا ) مثل رئيس شركة مساهمة . و هو نظام لا يعطي الرئيس , سوى صوت واحد في مجلس الأدارة . و يشترط اختيار أعضاء المجلس نفسه , في اقتراع عام أمام جمعية عمومية .
إن استعمال هذا اللقب , خارج محتواه الرأسمالي , جعله مجرد بديل جديد من لقب الملك في بلدان العالم الثالث , ينتحله الحاكم مدى الحياة , و يورثه أحيانا لأولاده , كما حدث في هايتي و كوريا الشمالية و سوريا .
فالفرق الذي لا يمكن تعويضه , بين رئيس في بلد رأسمالي , و رئيس في بلد فقير مثل هايتي , أن أحدهما راع بعصاه و كلابه , يقود قطيعا من الفقراء الخائفين . و الآخر مدير مجلس إدارة , يتم انتخابه من قبل جمعية عمومية , لها مصالح راسمالية عملاقة , و اتحادات عمالية منظمة . و هو فرق قد يسهل إلغؤه في صحافة هايتي , لكن ذلك لا يلغيه من واقع هايتي نفسها .
---- ( 3 ) : كلمة انتخابات نموذج من نماذج مخاطبة العرب , بمصطلحات لا يعرفون لها شريعة في واقعهم . فالأنتخابات في البيئة الراسمالية تجري بين خصمين , لهما مصالح متعارضة , أحدهما تسانده قوة رأس المال , و الآخر تسانده الأتحادات العمالية . و هما خصمان قد يختلفان حول مسائل جانبية كثيرة , لكنهما ملتزمان دائما بدستور رأسمالي واحد , يضمن حرية رأس المال , و حرية الكسب , و حرية الأعلان , و حرية القضاء . و إذا جرب أحدهما أن يعبث بهذه الحريات , أو بواحدة منها , فإن تكافؤ القوى , يتيح لخصمه قوة قادرة على ردعه , فورا , و دون إبطاء .
إجراء هذه الأنتخابات في بلد متخلف , لم يدخل العصر الصناعي , و لا يملك رأس المال و الأتحادات العمالية , يجعل المعركة الأنتخابية , مجرد تمثيلية لمعركة أخرى دون دماء – مثل مباراة الشطرنج – بين فلاح فقير , يمثل رأسماليين وهميين , و فلاح فقير آخر , يمثل عمالا وهميين , يتنافسان للوصول إلى برلمان لا سلطة له . و عندما يصلان إلى البرلمان يكتشفان , ما تكتشفه البيادق على رقعة الشطرنج , و يعرفان أنهما ليسا طرفا حقيقيا في المعركة , و لا علاقة لهما بأمر الربح و الخسارة , مما يجعل النائب البرلماني في دول العالم الثالث نموذجا مشهورا من نماذج الفساد الأداري و الخلقي معا .
إن القول , بأن الدولة تتبرع طائعة لكل مواطن بحق التصويت , فكرة مريبة لا علاقة لها بنظام الأنتخابات . فحق الأقتراع العام الذي ظهر لأول مرة في بريطانيا بعد منتصف القرن الثامن عشر , لم تتبرع به الدولة للمواطنين , بل انتزعه المواطنون لأنفسهم خلال معارك طويلة , تحت قيادة زعماء راديكاليين من طراز جون ويلكز , الذي كانت أجهزة الأعلام الرسمي تدعوه باسم (( زعيم الغوغائيين )) . و عندما قدم مشروع قانون الأقتراع إلى مجلس اللوردات سنة 1831 – بعد مائة سنة من عصر ويلكز – لم يزد عدد المواطنين الذين أبيح لهم حق التصويت عن 625ألف مواطن , و هي نسبة تعادل 5 في المائة فقط من عدد الناخبين . و قد دامت المعركة نصف قرن آخر , قبل ن تعترف حكومة بنجامين دزرائيلي بحق التصويت لخمسة ملايين من العمال و الفلاحين سنة 1884. أما النساء البريطانيات , فإنهن لم ينلن هذا الحق , إلا بعد سبع و ثلاثين سنة أخرى , عندما أثبتت ظروف الحرب العالمية الأولى , حاجة جهاز الدولة إلى الأستعانة بالنساء في مصانع الذخيرة و المجهود الحربي .
و الواقع أن التاريخ لا يعرف دولة واحدة , تبرعت لمواطنيها بحق التصويت سوى دول العالم الثالث التي الهمها الله الزهد في السلطة , إ لى حد دعاها أن توزع الأدارة مجانا على مواطنين , لا يطالبون بحصة الأدارة , و لا تجمعهم أحزاب حقيقية , و لا تنطق باسمهم إذاعة , و لا يسمح لهم بالخروج في المظاهرات , إلا بإذن من الأدارة .
--------------------------
---- ( 4 ) : الفرق بين كلمة عبد و كلمة رقيق أن علاقة الرقيق بسيده علاقة استعباد , و العبد علاقة عبادة . فالرقيق ليس حرا في اختيار سيده , لأنه لا يملك حق الحرية نفسه . أما العبادة فإن شرطها الأساسي أن تتم بالقبول و حرية الأختيار .
لهذا السبب , لا يستعمل القرآن كلمة عبد بمعنى رقيق , بل بمعنى مخلوق كما في قوله ( عبيد الله ) أي مخلوقاته , و هو المعنى الأصلي لكلمة ( عبد ) في اللغات السامية . أما استعمال كلمة عبد بمعنى ( رقيق ) , فهو استعمال جاهلي مترسب في لغتنا العربية منذ أن كانت لغة قبائل من الوثنيين الأميين في الجاهلية , وقد تعمد القرآن أن يصححه , بتحرير كلمة ( العبد ) من العبودية , و قصرها على معنى العبادة , في مصطلحات مثل ( عباد الله , و عبد الله و رسوله ) { و ما ربك بظلام للعبيد } ؛ لأن العبد الذي لا يظلم , ليس مستعبدا أصلا .
إن اسم عبد الله الذي لا يعجب الشعراء المحبين للحرية , رمز من أقوى رموز المعارضة الجماعية في الأسلام لنظام الأقطاع و حكم الفرد . فالمواطن الذي اسمه ( عبد الله ) لا يستعبده مواطن مثله . و إذا شاءت ظروف الأدارة أن تسمح بوقوع مثل هذه الكارثة , فإن اسم عبد الله , يصبح منشورا سياسيا معارضا , يوزع يوميا على جميع البيوت .
-------------------------------------------
---- ( 5 ) : اللغة ليست وسيلة للتخاطب فقط , بل هي أيضا ذاكرة الناس . و من دون اللغة , يتوه الأنسان عن موقعه في الماضي و الحاضر , كما يتوه المريض فاقد الذاكرة , عن اسمه و عنوانه . و قد نجم عن ارتباط اللغة العربية بنص القرآن , أن أصبح القرآن هو ذاكرة العرب نفسها , مما جعل استبعاد لغته , من شؤون الحكم و الأدارة , بالنسبة للعرب , لطمة مميتة أضاعت صوابهم إلى حد فقدان الوعي . فمثلا :
كلمة مجاهد تعيش في ذاكرة المواطن العربي بمعنى جندي الله الذي يتطوع للدفاع عن شرع الجماعة , بقلبه و لسانه و يده و ماله . و قد نجم عن استبدال هذا المصطلح بكلمة عسكري منذ عصر معاوية , أن فقد الجندي العربي ذاكرته , و نسي مهمته في الدفاع عن شرع الجماعة , و سخر سلاحه لخدمة الأقطاع , و أحل لنفسه أن يستأثر بالسلطة , على غرار ما فعل الجندي الروماني , الذي لم يسمع أصلا بكلمة مجاهد . و مثلا :
كلمة الحكم لله ترتبط في ذاكرة المواطن العربي , بمعنى الحكم الوحيد العادل . و هو حكم له شريعة و قوانين , منها أن الناس مسؤولون شخصيا عما كسبت أيديهم , و أنهم مسؤولون دائما , و في جميع الأوقات . و قد نجم عن استبدال هذا المصطلح بكلمة حكم الشعب , أن فقد المواطن العربي ذاكرته , و نسي مسؤوليته الشخصية , و نسي أن يحصد ما زرعته يداه , و صار بوسعه أن يقرأ آيات قرآنية , مثل { و ما ربك بظلام للعبيد } , و يهز رأسه خشوعا , من دون أن يكتشف , أنه شخصيا , مظلوم و مستعبد , في شهادة واضحة , على مدى ما يعانيه هذا المواطن من فقدان الوعي . و مثلا :
كلمة الجامع تعيش في ذاكرة المواطن العربي بمعنى بيت الله , و هو بيت له حرمة و قوانين , منها المجادلة بالحسنى , و التأدب في الخطاب , و خفض الصوت , و تجنب سوء الظن , و الغيبة و النميمة و التنابز بالألقاب .
أما كلمة مؤتمر فإنها لا تعني في ذاكرة المواطن العربي شيئا له حرمة أو قانون , و لا يعرف سببا شرعيا , يدعوه إلى حضور المؤتمر , و لا يعرف دستوره , و لا يعترف بشعاراته , و ليس بوسعه أن يعتبره بديلا من الجامع , من دون أن يلاحظ فداحة هذه الخطيئة بالذات .
أن استبدال مصطلحات القرآن , بمصطلحات مترجمة عن شرائع أخرى , خطأ سياسي مميت جدا , لأنه يجعل العرب يفقدون ذاكرتهم سرا , دون أن يفقدوا لغتهم العربية . فكلمة الديموقراطية مثلا , لا تلغي كلمة الشورى , بل تلغي ما يتذكره العرب , عن معنى الديموقراطية . و كلمة الدستور لا تلغي كلمة كتاب الله فحسب , بل تلغي كل ما يعرفه العرب , عن معنى الدستور . و كلمة برلمان لا تصبح بديلا من كلمة الجامع فحسب , بل تلغي من ذاكرة العرب معنى البرلمان .
فإذا طالت القائمة – و هي في الواقع طويلة جدا – فمن المتوقع أن تتضاعف كلمات اللغة العربية , بمقدار ما ينشط المترجمون , و يتعلم العرب , مصطلحا جديدا , مقابل كل مصطلح يعرفونه في لغة القرآن . لكن ذلك لن يجعلهم عربا فصحاء , بل سوف يجعلهم عربا من دون ذاكرة , لهم لغة عمرها أربعة عشر قرنا , تنقل مصطلحاتها من لغات أوربية عمرها أربعة قرون فقط , في شهادة معلنة , على أن أمة بأسرها , تستطيع أن تفقد ذاكرتها , و تضيع زمانها و مكانها معا , بحيلة شفهية محضة .
بموجب هذا القانون , ترتبط لغتنا العربية بمصطلحات الشرع السلامي , ارتباطا يجعلها غير صالحة للتعبير عن شرع سواه . فكلمة عسكري مثلا , تعني في لغتنا , رجلا يحمل بندقية , لكن كلمة مجاهد هي التي تحدد شرعا , أين يوجه هذا السيد سلاحه , و كلمة بنك تعني – فقط – مكان النقد , لكن بيت مال المسلمين تعني أن النقود ملك للناس , و أن أحدا لا ينفق منها فلسا , إلا بإذن شرعي من جميع الناس ( 1 ) . و كلمة رئيس تعني أن الأدارة , لها راس واحدة , لكن كلمة أولي الأمر تعني أن الأدارة لها مجالس مكلفة بها , تضم كثيرا من الرؤوس ( 2 ) . و كلمة مواطن لا تقول شيئا عن دستور الوطن , لكن كلمة مسلم تقول إن الوطن دستوره الشورى بين جميع المسلمين .
و الفرق الظاهر , بين كل كلمة و أخرى , أن إحداهما ترجمة لمصطلح إداري , ليست له شريعة في واقع العرب , و الأخرى هي المصطلح الأداري نفسه , كما يعرفه العرب في صياغته الشرعية .
فإذا عمد المرء , إلى استبدال كلمة بكلمة , بحجة أن روح التجديد , تحتم استخدام مصطلحات جديدة , فإن ذلك لا يضيف شيئا إلى لغتنا العربية , و لا يجعلها لغة معاصرة , بل يفرغها من محتواها , و يجعلها لغة عمياء من دون شريعة , كما كانت ذات مرة , في عصر أبي جهل .
إن استبدال مصطلحات الأدارة الأسلامية بمصطلحات مترجمة عن نظم إدارية أخرى , هو أقصر الطرق , و أقلها مشقة , لأنهاء الحل الأسلامي من أساسه , و إعادة العرب , أربعة عشر قرنا إلى الوراء , بحيلة كلامية , سهلة , ممكنة , سلمية , عصرية , مميتة , واحدة . لكن ثمة ملاك حارس على عتبة هذا الباب .
فاللغة العربية , منذ نزول القرآن , لغة محررة شرعا من أهواء السياسيين , و أصحاب الرأي . إنها لم تعد عكازا لأحد , و لم يعد من الممكن استخدامها للتعبير في نظام إداري آخر , سوى نظام الأدارة الجماعية في السلام . و إذا خطر لأحد ما , أن يتجاهل هذا الخندق , و يسخر اللغة العربية لاحتواء شرائع سياسية من الشرق أو الغرب , فإن العرب – من جانبهم – لا يتخلون عن مصطلحاتهم القرآنية , و لا ينسونها بمرور الزمن , و لا يستبدلون منها كلمة , و لا يضيفون إليها كلمة , مقابل أية مكافأة , أو تحت أي تهديد . و قد مر حتى الآن , أربعة عشر قرنا على نزول القرآن , تفرق العرب خلالها بين الشرائع السياسية إلى شيعة و سنة و خوارج و شعوبيين و رأسماليين و شيوعيين . و اختار كل حزب لنفسه هوية . لكن النسخة الأولى من بطاقة الهوية الأصلية , لا تزال حية , في صياغتها الصحيحة , على شفاههم جميعا , و لا تزال قادرة على جمعهم من جديد تحت إدارة واحدة , باسم صحيح واحد , في أي وقت يختارونه , و في وجه أي مقاومة . إن البطاقة لا تزال محفوظة , بمصطلحاتها الأصلية , داخل صدور العرب , في سورة الفاتحة .. و هي سورة ذات مكانة خاصة جدا , اختار لها الرسول موضع الصدارة بين سور القرآن . و مصنفة تحت عنوان ( من مقول العباد ) باعتبارها أنشودة جماعية تبدأ بصيغة أمر تقديره (قولوا) .
الحمد لله رب العالمين : فلا شيء عن الشيعة أو السنة أو النصارى أو اليهود أو الشيوعيين ؛ لأن المواطن العربي الذي رباه الأسلام , مواطن عالمي , لا ينتمي إلى غير هذه العقيدة الأنسانية الشاملة , و لا يمكن تسخيره برضاه لخدمة عقائد حزبية أو جدلية , و ليس مجهزا لخدمتها شرعا .
الرحمن الرحيم : فالمواطن العالمي , عقيدته الرحمة , لأنها العقيدة الوحيدة الموجهة إلى الناس , و ليس إلى مؤسساتهم . و كل شعار – عدا شعار الرحمة – يمكن تسخيره بوسائل الجدل , لخدمة مصالح المؤسسات , على حساب الناس أنفسهم .
مالك يوم الدين : و الدين ليس هو السياسة , و لا يخاطب الدولة , بل يخاطب الناس .
إياك نعبد , و إياك نستعين : هذه جماعة , تتكلم علنا بضمير الجماعة , و ليست مجرد مواطن مسلم وحيد .
اهدنا الصراط المستقيم : و الذي يطلب الهداية , يعرف أنه صاحب القرار الأول و الأخير , و أن ما يحدث له في حياته – و حياة عياله من بعده – ليست مسؤولة عنه , جهة إدارية أو عقائدية , بل مسؤول عنه هو شخصيا , و بالذات , عن كل مثقال ذرة منه .
صراط الذين أنعمت عليهم : و هو صراط علامته الفارقة , أنه طريق إلى الخير و النعمة , في مجتمع يضمن حق الجماعة , و يحتوي خلافاتها الشكلية , و يجمعها في نظام إداري فعال , قائم على الرحمة و التراحم .
غير المغضوب عليهم : فثمة شرائع كثيرة أخرى – غير الشرع الجماعي – تستطيع أن تجمع الناس أيضا , لكنها لا ترحمهم , لأنها لا تستطيع أن تحميهم من بطش الأقوياء .
و لا الضالين : و علامة الضال أنه إنسان وحيد , و مغترب عن عالمه . فالناس دون شرع الجماعة , أسرى في المدن تحت رحمة الأقطاع , و من دون إدارة على الأطلاق , قبائل تهيم على وجهها في الصحراء .
إن مواطننا يعرف ما يقوله , و يقوله علنا , و بإصرار. و إذا نسي أحيانا – أو جعله الشيطان ينسى – فإن التعاليم , قد فرضت عليه قراءة سورة الفاتحة بالذات , دون غيرها من السور , قبل كل ركعة , في كل صلاة , في كل يوم , من كل اسبوع , من كل شهر , من كل سنة , في أمر مستديم من الرسول شخصيا . و وراء هذا الحصن الذي يصعب اختراقه , تعيش هوية المواطن العربي , في مامن من كل تزوير , تمليه أهواء السياسة , مثل روح في صدر طائر , و الطائر في قفص , و القفص في جزيرة , و الجزيرة بعيدة في ملكوت الله ... إنها أمانة في لغته نفسها .
لهذا السبب , تختلف اللغة العربية عن كل لغة سواها , في الشرق و الغرب , و في جميع العصور , لأنها ليست وسيلة للتعبير فقط , بل و سيلة للتفاهم أولا , على معنى كل مواطن , و نوع نظام الحكم , و طريقة سير الأدارة , في مصطلحات محددة , محررة من أهواء المؤسسات , مألوفة على السنة الناس , حية , شرعية , متفق عليها بالأجماع .
و النتيجة الأولى : لاستبدال هذه المصطلحات , بمصطلحات رأسمالية أو ماركسية , هي أن يصبح العرب فجأة , شعبا من الأميين , حتى يعاد تعليمهم من جديد , فمخاطبة الناس بمصطلحات لا يعرفون لها شريعة في واقعهم , مثل مخاطبتهم بلغة أجنبية , فكرة تحتاج إلى إعادة تأهيلهم من الصفر ( 3 )
و النتيجة الثانية : أن يتعلم العرب , جميع المصطلحات الأجنبية , لكنهم يبقون عربا , عند نقطة الصفر . فلغتهم نفسها مقيدة عضويا إلى لغة القرآن , و ليس بوسعهم أن يفصلوا هذه اللغة عن الأدارة , كما فعلت بقية شعوب العالم , و يجتمعوا في نظام تشريعي قائم على وحدة الأرض أو اللون أو الحزب . إنهم – إذ ذاك – يتورطون تلقائيا , في حالة مميتة من حالات انعدام الوزن , بين إدارة من دون شريعة , و شريعة من دون إدارة . فمثلا :
كلمة ديموقراطية التي تعني حكم الشعب كلمة تقدمية براقة , بالنسبة لكل مواطن في العالم , ما عدا مواطننا العربي الذي لا يعترف شرعا بغير حكم الله , و لا يستطيع أن يتنازل عن هذا هذا المصطلح بالذات , أو يقبل استبداله , أو ينساه . و مثلا :
كلمة وطن تعني في لغة السياسة أرض الميعاد . و لهذا السبب , يقول السياسيون إن (( الوطن مقدس )) . و تتفق الشرائع السياسية , على إباحة التضحية بالناس , دفاعا عن تراب الوطن . و رغم أن أحدا , في وطننا العربي , لا يعارض علنا في إقرار هذه الصياغة , فإن العرب في لغتهم الشرعية , لا يعترفون بقدسية الوطن , و لا يموتون طائعين في سبيله , بل يموتون في سبيل الله , و هي فكرة مختلفة جدا , لأنها قد تعني أن يرفع المواطن سلاحه باسم الشرع , في وجه ما يدعى بوطنه المقدس . و مثلا :
كلمة الحرية تعني في دستورها الرأسمالي حرية البيع و الشراء , و هي كلمة عصرية , خلبت لب الشعراء في كل اللغات , بما في ذلك لغتنا العربية . لكن مواطننا العربي شخصيا , لا يزال اسمه عبد الله و احيانا عبيد الله , و عادة عبد المعين ( 4 ) . و مثلا :
كلمة اشتراكية تعني في لغة التطبيق , عدم دستورية الملكية الخاصة لوسائل الأنتاج , و هو تشريع عمالي , يستحيل إقراره سلميا في مجتمع لا يحكمه العمال , و يتوقف اصداره على إشعال حرب طبقية , تتولى القضاء على الملكيات الكبيرة و الصغيرة , مما يجعل الدعوة إلى الأشتراكية , ترتبط بالدعوة إلى الثورة المسلحة في جميع اللغات , و منها لغتنا العربية . رغم أن مواطننا العربي شخصيا – دون ثورة مسلحة – يردد في دستوره منذ أربعة عشر قرنا , أن الملك لله وحده لا شريك له , و أن ذلك يشمل شرعا ملكية وسائل الأنتاج . و مثلا :
كلمة دولة تعني أن تكون للدولة حدود , و تكون لها هوية و نشيد قومي , و علم مرفوع فوق سارية , و قائد يبايعه الناس على القيادة , و هي شروط تتوافر لكل دولة في العالم , ما عدا الدول العربية بالذات , التي ترتفع فيها أصوات المؤذنين , خمس مرات كل يوم , من أعلى موقع في المدن و القرى , معلنة ولاءها لدولة خفية , لا تعترف بحدود , أو نشيد قومي , أو علم , أو قيادة :
الله أكبر, الله أكبر : وهذه صيحة الجهاد , لكي يسمع من يريد أن يسمع , و الحاضر يعلم الغائب , بأن دولة المسلمين ليس فيها أرباب أو أنصاف أرباب .
أشهد أن لا إله إلا الله : و كل شهادة غيرها تعتبر مزورة , مهما قيل في نشرات الأخبار , و تعليق الأذاعة , فالمواطن المسلم لا يدين بالولاء لمواطن مثله , أو لحكومة , أو لحزب , أو لطائفة .. إنه لا يعترف شرعا , بغير حكم الجماعة .
حي على الصلاة : في وقت لاحق , سوف يضاف إلى نص الأذان , مقطع يقول أشهد أن محمدا رسول الله . و يضيف إليه الشيعة قولهم ( و أن عليا بالحق ولي الله ) . لكن ذلك سوف يحدث في وقت لاحق , بعد أن ينهار نظام الأدارة الجماعية , في الأسلام , وينتهي عصر الخلفاء الراشدين , و ينجح معاوية في الستيلاء على الحكم . أما في عصر الرسول نفسه ... فإن الأذان – الذي يعني الأعلام – كان دعوة إلى لقاء كل الأديان و الملل في يوم الجمعة بالذات . و لهذا السبب قال المالكية { إن الأذان (( واجب كفاية )) في كل بلد تقام به الجمعة . و إذا ترك أهله الأذان , قوتلوا على ذلك } , لأنهم يكونون قد أغفلوا الغرض من الأجتماع , و هو حضور الناس . أما اتباع أبي حنيفة و ألأمامية فقد اشترطوا حضور المسؤول السياسي أو نائبه , معلنين عدم جدوى اللقاء من دون هذا الشرط , في إشارة واضحة إلى أن اجتماع يوم الجمعة , لقاء سياسي إداري و ليس دينيا .
أكثر من ذلك , فإن جميع مذاهب الفقه – ما عدا المالكية – قد اتفقت على أن صلاة الجمعة , لا تقام بالضرورة في المساجد , بل في أي مكان يلتقي فيه الناس ؛ لأنه لقاء يخص ( المؤمنين ) عامة , بموجب نص الآية : [ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ] .
حي على الفلاح : ثم يبدأ الأجتماع الأداري بعد الصلاة , و يلتقي الناس على مصلحة الناس , في مؤتمر جماعي محرر من سلطة المؤسسات الدينية و الأقتصادية و العسكرية , محرر من مظاهر التحايل السياسي الموجه لأفساد جدية النقاش , من الغمز و اللمز و الغيبة و النميمة , إلى الصراخ بصوت عال , و التنابز بالألقاب .
الله أكبر , الله أكبر . لا إله إلا الله : في أول النداء و آخره . فهذه دعوة إلى اجتماع لا يعترف بسلطة حزب , أو كنيسة , أو إمام , و لا يساوم في بند واحد من دستوره الجماعي , و لا يدخر جهدا في الأعلان عن هويته جهارا , من أعلى بقعة في المدينة , كل يوم من أيام السنة , منذ الفجر إلى العشاء .
إن أجراس الكنائس , تدعو الناس إلى الصلاة , لكن أصوات المؤذنين , تدعوهم إلى الصلاة , و تغيير نظام الحكم . و إذا كانت أجهزة الرقابة السياسية في وطننا , لم تصادر المآذن حتى الآن , فذلك أمر مرده إلى أنها – أولا – لا تعرف لغة الأسلام الأدارية . و لأنها – ثانيا – أقصر قامة من أقصر مئذنة .
فمشكلة الأدارة العربية - من دون غيرها من الأدارات في الشرق و الغرب , و في جميع العصور - أنها ملزمة بالتعايش مع نص القرآن . و هي مشكلة تشبه أن يضطر لص سيء الحظ إلى أن يسرق ناقوسا . فلغة القرآن , لغة لأدارة اسلامية ضائعة , سرقتها الأدارة , لكنها لم تعرف أبدا أين تخفيها , لأنها تعيش حية في لغة الناس .
و عند هذا الزقاق المسدود , و في حالة مروعة من انعدام الوزن , و قفت الأدارة العربية , و المواطن العربي معا , مشلولين عن الحراك منذ إنهاء نظام الأدارة الجماعية , و لا يزالان مشلولين حتى الآن , تفصل بينهما لغتان عربيتان (5 ) إحداهما لغة حكومية , تتحدث عن جهاز إداري من دون شريعة مثل [حكم الشعب – و انتخابات – و اشتراكية – و برلمان – و حرية الصحافة – و الجيش العامل – و بنك الدولة .. . ] و الأخرى لغة إسلامية , تتحدث عن شريعة من دون جهاز إداري مثل [ الحكم لله – و بيت مال المسلمين – و كتب عليكم القتال – و هذا ما كسبت إيديكم – و كلكم راع – و كلكم مسؤول عن رعيته – و الأمر بالمعروف – و النهي عن المنكر .. ] .
كل لغة منهما , تقول شيئا مختلفا , و تتحدث عن نظام إداري مختلف , لكنهما تعيشان معا , في سلام مفتعل , جنبا إلى جنب , في كل بيت , و في كل شارع , على امتداد وطننا العربي , خلال مباراة أبدية لشد الحبل , بين إدارة لا تعترف بالناس , و ناس لا يعترفون بالأدارة .
------------------------------
هوامش المقال :
----- ( 1 ) : كلمة بنك , مشتقة من Bancum بمعنى المنضدة الطويلة التي يجلس وراءها رجل يدعى Bancherius , مهمته أن يحفظ الودائع , و يقدم القروض .
مشكلة هذا التعريف , أنه لا يشرح وظيفة البنك السياسية , و لا يحدد العلاقة الوطيدة – و الخطيرة – بين نظام البنك , و نظام الحكم نفسه . و لعل تجاهل هذه العلاقة , هو أبرز صفات الفكر السياسي المتخلف , في بلدان العالم الثالث عامة , و في الوطن العربي بالذات .
لقد بدأ نظام البنك في مصر القديمة بمثابة خزانة آمنة لحفظ الودائع , و بقي على هذه الصيغة البسيطة حتى مطلع القرن السادس عشر , الذي شهد غارة الأوربيين على قارات المحيط . و رغم ظهور طبقة جديدة من الصيارفة المحترفين قبل عصر الغارة , فإن فريضة تحريم الربا في السلام و المسيحية , حدت من قدرة البنوك على الأستثمار الحر , فيما عدا بعض مصارف المرابين اليهود , الذين سمحت لهم عقيدتهم العنصرية , بقبول التعامل بالربا . و كسبوا لليهود سمعة سيئة جدا في بلدان المسلمين و المسيحيين معا .
خلال هذه الفترة , كان البنك مجرد مصرف صغير , تملكه أسرة واحدة . و تقوم بتمويله من مالها الخاص , بالأضافة إلى ما لديها من الودائع , و كان ربحها – أو خسارتها – يتوقفان على نفوذها في بلاط أصحاب الأقطاعيات , الذين كانوا – بالأضافة إلى البابا – انشط الزبائن , و أكثرهم حاجة إلى القروض . ففي سنة 1340مثلا , أفلس أكبر مصرفين في فلورنسا , هما مصرفا (( باروي )) و (( بيرازي )) , بسبب رفض امراء الأسرة الحاكمة , أن يدفعوا ديونهم , فيما كان بنك آل ميديتشي يمول بناء كنيسة القديس بطرس , ببيع صكوك غفران موقعة من البابا , مقابل عمولة قدرها 15في المائة من ثمن الصك .
بسبب هذه العلاقة الوطيدة بين نظام البنك الخاص , و نظام الأقطاع , كان البنك الخاص فكرة محكوما عليها بالموت , مثل الأقطاع نفسه .و كانت قد بدأت تموت فعلا , و تفلس في فلورنسا مثلا , بمعدل ثلاثة بنوك من كل أربعة , عندما وصل كولمبس فجأة إلى أمريكا , و فتحت ((كنوز العالم الجديد )) طريقا معبدا بالذهب , أمام نظام مصرفي طاريء , لم يكن تاريخ المصارف قد عرفه حتى ذلك الوقت .
الميزة الأولى , لهذا المصرف الرأسمالي الجديد , أنه لا يحرم الربا , لأنه نشأ في نظام إداري تحت إشراف التجار , يقوم على حرية الكسب , و ليس على تعاليم الدين .
و الميزة الثانية , إنه لا يقدم قروضا لحاكم إقطاعي , بل يقدمها لحاكم منتخب في اقتراع عام , مما يعني أن الناس أنفسهم , هم المسؤولون عن سداد القروض .
و قد تكفلت مناجم الذهب الجديدة في كاليفورنيا و كندا و نيوزيلندا و جنوب أفريقيا , بتوفير غطاء ذهبي , لبلايين الدولارات و الجنيهات و الماركات و الفرنكات التي اصدرتها بنوك الأستثمار الرأسمالية , حتى بلغ مجموع الأستثمار العالمي في بناء السكك الحديدية مثلا , أكثر من مائة مليار دولار , قبل بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
هذا البنك الجديد نظام رأسمالي بحت , لا يمكن تقليده خارج البلدان الرأسمالية , و لا يشبه شيئا من أنظمة البنوك القائمة في الدول السوفياتية و العالم الثالث , و لا توجد منه صيغتان متشابهتان في أي مكان . فالولايات المتحدة تتبنى صيغة خاصة في ( البنك الفيدرالي ) . و بريطانيا لها صيغة أخرى , كذلك سويسرا و بلجيكا و السويد . لكن جميع الصيغ تتفق على ثلاثة مباديء أساسية :
المبدأ الأول : أن البنك الرأسمالي , لا وطن له . فهو يعمل في الداخل و الخارج , و يقبل ودائع مالية من المواطنين و الأجانب , لأنه لا يتبع الأدارة السياسية .
المبدأ الثاني : أن البنك الرأسمالي , لا يمول المشروعات , بل (( يستثمر )) أمواله فيها , مما يجعل عنصر الربح , أهم من نوع المشروعات نفسها . و قد دأبت البنوك الرأسمالية على تمويل مشروعات موجهة ضد مصلحة الناس عمدا . مثل مصانع السلاح عندما كان الناس في حاجة ملحة إلى الخبز .
المبدأ الثالث , أن البنك الرأسمالي , لا يمكن فصله عن نظام تعدد الأحزاب و السوق الحرة . فهو مؤسسة تجارية , في نظام قائم على سلطة التجار . و كل محاولة لأستعارة هذا النظام , من دون سلطة التجار , فكرة من شأنها أن تقود إلى كارثة مالية محققة .
بعد ظهور النفط , عرف العالم نظاما مصرفيا جديدا , تمثل في مصارف الدول المنتجة للنفط . و هي مصارف تغطي عملاتها بما تسميه ( الذهب الأسود ) , و تقلد المصارف الرأسمالية في إدارتها و قوانينها , و تشبهها من الخارج في أدق التفاصيل , لكنها تختلف عنها في الواقع , بقدر ما يختلف مصرف عائلي من القرون الوسطى , عن بنك أمريكي حديث .
فهذه الصيغة الطارئة , لا يحميها نظام تعدد الأحزاب , و لا تحرسها صحافة حرة , و لا يضمن الناس قروضها للدولة , و لا يستطيع الموظف الذي يتولى إدارتها , أن يرفض أمرا صادرا إليه من الأدارة السياسية , دون أن يخسر وظيفته فورا , إذا لم يلقوا به في السجن .
و في هذه الصيغة الخطرة , كان من الواضح أن مبنى البنك , ليس مكانا آمنا لودائع الناس , بل مجرد حيلة لسرقتها , و إن الشعوب ذات الفكر السياسي المتخلف التي فشلت في فهم الخدعة , عليها أن تدفع ثمنا باهظا من قوت عيالها . فقد أصبحت سرقة البنوك فنا سياسيا جديدا , في أكثر بلدان العالم حاجة إلى القرش .
في هايتي مثلا , كان الرئيس دوفالييه , يقبض دولارا عن كل كيس من الدقيق , تنتجه الدولة , دون أن يعرف وزير الأقتصاد نفسه بأمر هذا الخوة , لأن الرئيس المذكور , كان يقبضها خارج هايتي , بمساعدة من بنك هايتي .
و في الفلبين , بلغ حجم مسروقات الرئيس ماركوس و امرأته حوالي ثلاثة مليارات دولار , قام بتحويلها بنك الفلبين , باعتبارها عوائد لشركات أجنبية .
و في إيران , تكفل بنك الدولة بتهريب 25مليار دولار لحساب الشاه و عياله . و هو مبلغ يزيد عن ميزانية إيران نفسها , جمعه الشاه , من عمولاته على النفط , بعد إسقاط مصدق , و سخر البنك المركزي في تحويله شهريا إلى مصارف سويسرا و الولايات المتحدة . و عندما قامت الثورة , و جاء الأيرانيون الفقراء لأسترداد أموالهم من سويسرا , طلبت هذه الدولة (( المحايدة )) أن يثبتوا أولا ( أن الشاه لم يكسب أمواله بعرق جبينه ) .
إن نظام البنك – دون نظام الأدارة الجماعية – فكرة لا علاقة لها بالأصل , و لا تمثل بنكا حقيقيا , و لا تضمن حق أصحاب الودائع , و لا تؤمن القروض , حيث يجب تأمينها , و لا تمنع تبذير المال العام على أهواء السياسيين بل تكون وسيلة شرعية لتبذيره , و تصبح مكتبا لأنفاق مال الناس , من دون علم الناس أنفسهم .
في عصر الرئيس عبد الناصر , وقعت المواجهة بين نظام هذا البنك الراسمالي و الثورة العربية , لأول مرة في تاريخ العرب . لكن افتقار ثقافتنا العربية إلى صيغة الشرع الجماعي , لم يتح لعبد الناصر أن يكتشف علاجا آخر لنظام البنك , سوى أن يؤممه كما فعل لينين , مرتكبا خطأ بديهيا جدا .
فتأميم البنك , مرتبط بوجود حزب عمالي حاكم , يتولى الأشراف على ميادين الأنتاج نفسها من الصناعة و الزراعة معا . و هو في الواقع (( جمعية عمومية )) لها سلطة أعلى من سلطة الأدارة السياسية , مما يؤهلها لحماية المال العام من أهواء الأفراد و الأسر , و يمنحها القدرة على الردع الفوري , و تأمين المحاكم العلنية للمخالفين . أما من دون نظام الحزب اللينيني , فقد كان تأميم البنوك الذي اختاره عبد الناصر , مجرد دليل آخر , على مدى تخلف فكرنا السياسي , في غياب شرع الجماعة في الأسلام . و بدلا من أن تصبح القاهرة , مركزا ماليا للعرب , كما أصبحت مركزا سياسيا لهم .
و بدلا من أن يولد مصرف عربي حقيقي , قادر على تجميع قوى الثورة المادية , وراء شعاراتها السياسية , اختار (( الخبراء )) المحيطون بعبد الناصر , أن يؤمموا البنك المركزي , و يسدوا الطريق أمام كل قرش يصلهم من الخارج , و يحرموا مصر من أموال النفط , و يحرقوها على نار هادئة من البؤس و الحاجة و يهيئوها لمجيء المنقذ أنور السادات , الذي عاد ففتح كل شيء على مصراعيه , دون أن ينفتح أمام مصر باب حقيقي واحد .
إن نظام البنك ليس فكرة , بل قنبلة مميتة , قادرة على قتل أمم بأكملها , لكي يعيش رجل سارق واحد . و إذا شاءت ظروف الفكر السياسي المتخلف , أن تحجب هذه الحقيقة , وراء مصطلحات مستوردة من حضارة راسمالية ذات واقع آخر . فإن الثمن لا يدفعه (( المفكرون )) , بل يدفعه الناس يوميا , من لقمة خبزهم اليومي , مثل رسوم أبدية على الشمس و الهواء .
-----------------------------------
---- (2 ) : لقب رئيس في القاموس الرأسمالي , ليس مستمدا من لغة السياسة , بل من لغة الأقتصاد , فالرئيس President كلمة مشتقة من Presideبمعنى يترأس مجلسا ( و ليس يحكم مجلسا ) مثل رئيس شركة مساهمة . و هو نظام لا يعطي الرئيس , سوى صوت واحد في مجلس الأدارة . و يشترط اختيار أعضاء المجلس نفسه , في اقتراع عام أمام جمعية عمومية .
إن استعمال هذا اللقب , خارج محتواه الرأسمالي , جعله مجرد بديل جديد من لقب الملك في بلدان العالم الثالث , ينتحله الحاكم مدى الحياة , و يورثه أحيانا لأولاده , كما حدث في هايتي و كوريا الشمالية و سوريا .
فالفرق الذي لا يمكن تعويضه , بين رئيس في بلد رأسمالي , و رئيس في بلد فقير مثل هايتي , أن أحدهما راع بعصاه و كلابه , يقود قطيعا من الفقراء الخائفين . و الآخر مدير مجلس إدارة , يتم انتخابه من قبل جمعية عمومية , لها مصالح راسمالية عملاقة , و اتحادات عمالية منظمة . و هو فرق قد يسهل إلغؤه في صحافة هايتي , لكن ذلك لا يلغيه من واقع هايتي نفسها .
---- ( 3 ) : كلمة انتخابات نموذج من نماذج مخاطبة العرب , بمصطلحات لا يعرفون لها شريعة في واقعهم . فالأنتخابات في البيئة الراسمالية تجري بين خصمين , لهما مصالح متعارضة , أحدهما تسانده قوة رأس المال , و الآخر تسانده الأتحادات العمالية . و هما خصمان قد يختلفان حول مسائل جانبية كثيرة , لكنهما ملتزمان دائما بدستور رأسمالي واحد , يضمن حرية رأس المال , و حرية الكسب , و حرية الأعلان , و حرية القضاء . و إذا جرب أحدهما أن يعبث بهذه الحريات , أو بواحدة منها , فإن تكافؤ القوى , يتيح لخصمه قوة قادرة على ردعه , فورا , و دون إبطاء .
إجراء هذه الأنتخابات في بلد متخلف , لم يدخل العصر الصناعي , و لا يملك رأس المال و الأتحادات العمالية , يجعل المعركة الأنتخابية , مجرد تمثيلية لمعركة أخرى دون دماء – مثل مباراة الشطرنج – بين فلاح فقير , يمثل رأسماليين وهميين , و فلاح فقير آخر , يمثل عمالا وهميين , يتنافسان للوصول إلى برلمان لا سلطة له . و عندما يصلان إلى البرلمان يكتشفان , ما تكتشفه البيادق على رقعة الشطرنج , و يعرفان أنهما ليسا طرفا حقيقيا في المعركة , و لا علاقة لهما بأمر الربح و الخسارة , مما يجعل النائب البرلماني في دول العالم الثالث نموذجا مشهورا من نماذج الفساد الأداري و الخلقي معا .
إن القول , بأن الدولة تتبرع طائعة لكل مواطن بحق التصويت , فكرة مريبة لا علاقة لها بنظام الأنتخابات . فحق الأقتراع العام الذي ظهر لأول مرة في بريطانيا بعد منتصف القرن الثامن عشر , لم تتبرع به الدولة للمواطنين , بل انتزعه المواطنون لأنفسهم خلال معارك طويلة , تحت قيادة زعماء راديكاليين من طراز جون ويلكز , الذي كانت أجهزة الأعلام الرسمي تدعوه باسم (( زعيم الغوغائيين )) . و عندما قدم مشروع قانون الأقتراع إلى مجلس اللوردات سنة 1831 – بعد مائة سنة من عصر ويلكز – لم يزد عدد المواطنين الذين أبيح لهم حق التصويت عن 625ألف مواطن , و هي نسبة تعادل 5 في المائة فقط من عدد الناخبين . و قد دامت المعركة نصف قرن آخر , قبل ن تعترف حكومة بنجامين دزرائيلي بحق التصويت لخمسة ملايين من العمال و الفلاحين سنة 1884. أما النساء البريطانيات , فإنهن لم ينلن هذا الحق , إلا بعد سبع و ثلاثين سنة أخرى , عندما أثبتت ظروف الحرب العالمية الأولى , حاجة جهاز الدولة إلى الأستعانة بالنساء في مصانع الذخيرة و المجهود الحربي .
و الواقع أن التاريخ لا يعرف دولة واحدة , تبرعت لمواطنيها بحق التصويت سوى دول العالم الثالث التي الهمها الله الزهد في السلطة , إ لى حد دعاها أن توزع الأدارة مجانا على مواطنين , لا يطالبون بحصة الأدارة , و لا تجمعهم أحزاب حقيقية , و لا تنطق باسمهم إذاعة , و لا يسمح لهم بالخروج في المظاهرات , إلا بإذن من الأدارة .
--------------------------
---- ( 4 ) : الفرق بين كلمة عبد و كلمة رقيق أن علاقة الرقيق بسيده علاقة استعباد , و العبد علاقة عبادة . فالرقيق ليس حرا في اختيار سيده , لأنه لا يملك حق الحرية نفسه . أما العبادة فإن شرطها الأساسي أن تتم بالقبول و حرية الأختيار .
لهذا السبب , لا يستعمل القرآن كلمة عبد بمعنى رقيق , بل بمعنى مخلوق كما في قوله ( عبيد الله ) أي مخلوقاته , و هو المعنى الأصلي لكلمة ( عبد ) في اللغات السامية . أما استعمال كلمة عبد بمعنى ( رقيق ) , فهو استعمال جاهلي مترسب في لغتنا العربية منذ أن كانت لغة قبائل من الوثنيين الأميين في الجاهلية , وقد تعمد القرآن أن يصححه , بتحرير كلمة ( العبد ) من العبودية , و قصرها على معنى العبادة , في مصطلحات مثل ( عباد الله , و عبد الله و رسوله ) { و ما ربك بظلام للعبيد } ؛ لأن العبد الذي لا يظلم , ليس مستعبدا أصلا .
إن اسم عبد الله الذي لا يعجب الشعراء المحبين للحرية , رمز من أقوى رموز المعارضة الجماعية في الأسلام لنظام الأقطاع و حكم الفرد . فالمواطن الذي اسمه ( عبد الله ) لا يستعبده مواطن مثله . و إذا شاءت ظروف الأدارة أن تسمح بوقوع مثل هذه الكارثة , فإن اسم عبد الله , يصبح منشورا سياسيا معارضا , يوزع يوميا على جميع البيوت .
-------------------------------------------
---- ( 5 ) : اللغة ليست وسيلة للتخاطب فقط , بل هي أيضا ذاكرة الناس . و من دون اللغة , يتوه الأنسان عن موقعه في الماضي و الحاضر , كما يتوه المريض فاقد الذاكرة , عن اسمه و عنوانه . و قد نجم عن ارتباط اللغة العربية بنص القرآن , أن أصبح القرآن هو ذاكرة العرب نفسها , مما جعل استبعاد لغته , من شؤون الحكم و الأدارة , بالنسبة للعرب , لطمة مميتة أضاعت صوابهم إلى حد فقدان الوعي . فمثلا :
كلمة مجاهد تعيش في ذاكرة المواطن العربي بمعنى جندي الله الذي يتطوع للدفاع عن شرع الجماعة , بقلبه و لسانه و يده و ماله . و قد نجم عن استبدال هذا المصطلح بكلمة عسكري منذ عصر معاوية , أن فقد الجندي العربي ذاكرته , و نسي مهمته في الدفاع عن شرع الجماعة , و سخر سلاحه لخدمة الأقطاع , و أحل لنفسه أن يستأثر بالسلطة , على غرار ما فعل الجندي الروماني , الذي لم يسمع أصلا بكلمة مجاهد . و مثلا :
كلمة الحكم لله ترتبط في ذاكرة المواطن العربي , بمعنى الحكم الوحيد العادل . و هو حكم له شريعة و قوانين , منها أن الناس مسؤولون شخصيا عما كسبت أيديهم , و أنهم مسؤولون دائما , و في جميع الأوقات . و قد نجم عن استبدال هذا المصطلح بكلمة حكم الشعب , أن فقد المواطن العربي ذاكرته , و نسي مسؤوليته الشخصية , و نسي أن يحصد ما زرعته يداه , و صار بوسعه أن يقرأ آيات قرآنية , مثل { و ما ربك بظلام للعبيد } , و يهز رأسه خشوعا , من دون أن يكتشف , أنه شخصيا , مظلوم و مستعبد , في شهادة واضحة , على مدى ما يعانيه هذا المواطن من فقدان الوعي . و مثلا :
كلمة الجامع تعيش في ذاكرة المواطن العربي بمعنى بيت الله , و هو بيت له حرمة و قوانين , منها المجادلة بالحسنى , و التأدب في الخطاب , و خفض الصوت , و تجنب سوء الظن , و الغيبة و النميمة و التنابز بالألقاب .
أما كلمة مؤتمر فإنها لا تعني في ذاكرة المواطن العربي شيئا له حرمة أو قانون , و لا يعرف سببا شرعيا , يدعوه إلى حضور المؤتمر , و لا يعرف دستوره , و لا يعترف بشعاراته , و ليس بوسعه أن يعتبره بديلا من الجامع , من دون أن يلاحظ فداحة هذه الخطيئة بالذات .
أن استبدال مصطلحات القرآن , بمصطلحات مترجمة عن شرائع أخرى , خطأ سياسي مميت جدا , لأنه يجعل العرب يفقدون ذاكرتهم سرا , دون أن يفقدوا لغتهم العربية . فكلمة الديموقراطية مثلا , لا تلغي كلمة الشورى , بل تلغي ما يتذكره العرب , عن معنى الديموقراطية . و كلمة الدستور لا تلغي كلمة كتاب الله فحسب , بل تلغي كل ما يعرفه العرب , عن معنى الدستور . و كلمة برلمان لا تصبح بديلا من كلمة الجامع فحسب , بل تلغي من ذاكرة العرب معنى البرلمان .
فإذا طالت القائمة – و هي في الواقع طويلة جدا – فمن المتوقع أن تتضاعف كلمات اللغة العربية , بمقدار ما ينشط المترجمون , و يتعلم العرب , مصطلحا جديدا , مقابل كل مصطلح يعرفونه في لغة القرآن . لكن ذلك لن يجعلهم عربا فصحاء , بل سوف يجعلهم عربا من دون ذاكرة , لهم لغة عمرها أربعة عشر قرنا , تنقل مصطلحاتها من لغات أوربية عمرها أربعة قرون فقط , في شهادة معلنة , على أن أمة بأسرها , تستطيع أن تفقد ذاكرتها , و تضيع زمانها و مكانها معا , بحيلة شفهية محضة .