علي أبو عبد الله
05-03-2005, 05:17 AM
الضوابط المنهجية لدى علماء السلف في الرد على المخالفين
الضوابط جمع ضابط، وهو في اللغة مأخوذ من الضبط الذي هو لزوم الشيء وحبسه، وللضبط عدة معانٍ في اللغة في أغلبها لا تعدو الحصر والحبس والقوة.
أما في الاصطلاح :
فمن العلماء من لم يفرق بين القاعدة والضابط، ومنهم من فرق فجعل القاعدة لا تختص بباب من أبواب العلم بعينه، وأما ما يختص بباب بعينه فهو الضابط.
وبعبارة أخرى: القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى، والضابط يجمعها من باب واحد.( )
ومن الضوابط لدى علماء السلف في الرد على المخالف ما يلي:-
أولاً: الاعتماد على الدليل الشرعي والبرهان العقلي والفطري السليم.
قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء: 59]
وقال سبحانه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما . [النساء: 65]
وقال – - "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه".( )
من الأمثلة:-
1- عن عبدالله بن مسعود ـ ـ قال: "سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي ـ ـ يقرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي ـ ـ فذكرت ذلك له. فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".( )
2- وقع مثل ذلك لعمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم –رضي الله عنهما– ( )
3- قصة موت الرسول ـ ـ وقول عمر: والله ما مات رسول الله ـ ـ، وخروج أبي بكر للناس وقوله: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقرأ إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر: 30] وغيرها من الآيات فنشج الناس يبكون". ( )
4- موقف ابن عباس من الخوارج وجدالهم حيث قال لهم: "أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم، أترجعون؟ ... " ( ).
5- ما ثبت عن الأئمة الأربعة جميعاً من قولهم: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بها، ودعوا ما قلته ( ) .
6- مناظرة الإمام عبدالعزيز المكي – رحمه الله – مع بشر عند الخليفة المأمون في مسألة خلق القرآن وفيها قوله للمأمون: "وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين فنحن نؤصل بيننا كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة نبيه ـ ـ كما أمرنا فإن اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله ـ عز وجل ـ، فإن وجدناه فيه وإلا رددناه إلى سنة نبيه فإن وجدناه فيها وإلا ضربنا به الحائط ولم نلتفت إليه ... إلى أخر كلامه"( ).
إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة عن السلف. ( )
أما الأمثلة على البرهان العقلي فمنها: -
1- الاحتجاج العقلي الذي أورده الإمام أحمد على الجهمية الذين ينفون استواء الله على عرشه فقال: "ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلاً كان في يده قدح من قوارير صافٍ وفيه شراب صاف، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح, فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه....." ( ) .
وعلق ابن تيمية على هذا بقوله: "ذكر الإمام أحمد حجة عقلية اعتبارية عقلية قياسية هي من باب أولى فضرب رحمه الله مثالاً وذكر قياساً وهو: أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلاً فيه ولا محمايثاً له، فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به، وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعاً في حقه، وذكر أحمد في ضمن هذا القياس قول الله تعالى: وله المثل الأعلى مطابقاً لما ذكرناه من أن له تعالى قياس الأولى والأحرى، وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال ..." ( )
2- احتجاج أبو عبيد القاسم بن سلام على المرجئة بعدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان وأنه يزيد وينقص بقوله: "لو أن قوماً أُمروا بدخول دار، فدخلها أحدهم فلما تعتب الباب أقام مكانه وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها، قيل لهم جميعاً داخلون وبعضهم فيها أكثر مدخلاً من بعض، فهذا هو الكلام المعقول عند العرب السائر فيهم، فكذلك المذهب في الإيمان. ( )
3- مناظرة أبي حنيفة للدهرية حين أرادوا مناظرته في الربوبية فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة, تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها, وتعود بنفسها, فترسي بنفسها, وتفرغ وترجع, كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟ فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً, فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة, فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله. ( )
ومن الأمثلة على الاستدلال بالفطرة:
- قصة أبي جعفر الهمذاني مع أبي المعالي الجويني حين قال أبو المعالي في درسه كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر: "أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يالله ، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسر، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل وقال: وبكى وقال حيرني الهمذاني حيرني" ( ) .
فروع تدخل تحت هذا الضابط ومنها إجمالاً: ( )
1- إن كنت ناقلاً فالصحة أو مدّعيا فالدليل.
2- موافقة النصوص الشرعية لفظا ومعنى، أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ.
3- لا ينبغي بتر الدليل والاستدلال بجزئه.
4- الحق ما وافق الدليل بغض النظر عمن قاله أو أعرض عنه.
5- السكوت عما سكت الله عنه ورسوله ـ ـ.
6- الدليل المقدم هو الدليل القطعي.
7- الاستدلال على المسألة المتنازع فيها إنما يكون بالدليل المتفق عليه.
8- الباطل لا يُرد بالباطل، بل بالحق.
9- الامتناع عن مناظرة أهل السفسطة.
10- العقل الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع العقل الصريح والفطرة السليمة.
11- درء التعارض بين نصوص الكتاب والسنة.
ثانياً: الإفادة من مقررات العلوم والمعارف الصحيحة:
- يقول ابن تيمية في الرد على من ضل في الأسباب: "فالنار التي جعل الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحل يقبل الاحتراق, فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما, وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه, والشمس التي يكون عنها الشعاع لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه, وإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته. ( )
- وقد استدل أهل العلم في إثبات صفة النزول والرد على من قال أنه يلزم أن يكون النزول من علو إلى سفل بقوله تعالى {وأنزلنا الحديد} ثم قالوا: وهذا النزول أيضاً باق على حقيقته التي يعرفها العرب فالحديد إنما يكون في المعادن التي في الجبال, وهي عالية على الأرض, وقد قيل: إن كل ما كان معدنه أعلى كان حديده أجود, فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال لينتفع به بنو آدم.
وقد نشرت صحيفة المسلمون في عدد (525) بتاريخ 2/9/1415هـ, خبراً علميًّا مفاده: أن الحديد أنزله الله في باطن الأرض لعمل الاستقرار للأرض فينتفع بذلك الناس وذَكَرتْ أن هذا من الإعجاز لقوله تعالى {وأنزلنا الحديد}.( )
- وقال ابن تيمية في الرد على بعض الخوارق والحيل الشيطانية:
"وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها, وقال إنكم تفعلون هذا بطريقة الحيلة كمن يدخل النار بحجر الطلق, وقشور النارنج ودهن الضفادع وغير ذلك من الحيل الطبيعة". ( )
- الأدلة العلمية الحديثة على أن أقوال العبد وأفعاله تحفظ:
"أثبت العلم الحديث إمكانية استرجاع ما يصدر عن الإنسان من الأصوات, ذلك أن كلام الإنسان يتحول إلى موجات هوائية وأن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير إلى الأبد بعد حدوثها, ومن الممكن سماعه مرة أخرى, ولكن علم البشر الآن قاصر عن إعادة هذه الأصوات أو حفظ تلك الموجات مرة أخرى, ولكن من ناحية علمية نظرية من الممكن التقاط هذه الأصوات مرة أخرى وسماع الأصوات القديمة إذا ما نجح الإنسان في اختراع آلة تقوم بذلك, وهذا يجعل ما أخبر به القرآن من تسجيل ما ينطق به الإنسان أمرًا سهلاً ميسوراً". ( )
ثالثاً: التزام الآداب الشرعية في إقامة الحجج والرد على المخالف كالعدل والإنصاف والصدق وترك المراء والابتعاد عما ينافيها.
والأدلة الشرعية التي تؤصل هذا الضابط كثيرة جداً منها على سبيل المثال:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجز منكم شينئآن قوم على ألا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى, واتقوا الله, إن الله خبير بما تعلمون} [المائدة: 8]. والآيات والأحاديث كما أشرت كثيرة في هذا المعنى.
وأبدأ الحديث عن هذا الضابط بسؤال هو: لماذا الأدب مع المخالف؟
والإجابة على هذا السؤال تظهر إذا عُرف الهدف من الرد على المخالف ابتداءاً, وقد بيّن أهل العلم جملة من الأهداف للرد على المخالف أكتفي هنا بالإشارة إلى اثنين منها وهي:
1- دلالة المخالف إلى الصراط المستقيم, والعمل على كسب أوبته إلى الحق والإذعان له, ولا يخفى دور الأدب معه في تحقيق هذا الهدف العظيم.
2- كف بأس بدعته عن المسلمين بقطعه وكف عدوانه. ( )
والشواهد على التزام الآداب الشرعية في الرد على المخالف كثيرة جداً وذلك من سيرة الرسول ـ ـ ثم صحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وسأكتفي هنا بذكر نتفٍ منها حسب ما يسع له المقام:
- أن حبراً من الأحبار أتى رسول الله ـ ـ فقال: يا محمد, نعم القوم أنتم, لولا أنكم تشركون, فقال رسول الله ـ ـ: "سبحان الله وما ذاك" قال: تقولون إذا حلفتم والكعبة, فأمهل رسول الله ـ ـ شيئاً ثم قال: إنه قد قال, فمن حلف فليحلف برب الكعبة". قال يا محمد, نعم القوم أنتم, لولا أنكم تجعلون لله نداً, قال: سبحان الله وما ذاك" قال تقولون: ما شاء الله وشئت, قأمهل رسول الله شيئاً ثم قال: إنه قد قال, فمن قال: ما شاء الله فليفصل بينهما ثم شئت". ( ) فقبل رسول الله الحق هنا مع أنه من يهودي.
- قصة أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مع الشيطان الذي أراد أن يسرق من طعام الزكاة, وفيها قوله ـ ـ: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب". ( )
ومما ذكره ابن حجر في فوائد هذا الحديث: أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها, وأن الكافر قد يَصْدُق ببعض ما يُصدّق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمناً, وبأن الكذاب قد يصدق". ( )
- بين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن من إنصاف القرآن مع المخالفين من أهل الكتاب أنه نزل بالتصديق بما جاءت به الرسل, والإشارة إلى ما في كتبهم من البشارة بمبعث النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ, وما فيها من تبديل وتحريف" حتى إذا سمع ذلك الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان, والمناظرة والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف". ( )
- يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسير "وإذا قلتم فاعدلوا" مبيناً معنى العدل في القول: "بمراعاة الصدق فيمن تحبون, ومن تكرهون, والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه, فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم, بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع: فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه, وأن يبين ما فيها من الحق والباطل, ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه". ( )
- ذكر عن حاتم الأصم أنه قال: "معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي. أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن إذا أخطأ, وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه" فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما كان أعقله من رجل. ( )
- يقول بكر أبوزيد: "التزام الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل, وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه, ولا تتخذ الوقائع العارضة مُنهية لحال الشخص, وباتخاذها رصيداً ينفق منه الجرّاح في الثلب, والطعن وأن تدعو له بالهداية, أما التزيد عليه وأما البحث عن هفواته, وتصيدها فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين". ( )
- يقول ابن القيم: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح, وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان, قد تكون منه الهفوة والزلة, هو فيها معذور, بل ومأجور لاجتهاده, فلا يجوز أن يتبع فيها, ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين". ( )
- ويقول ـ أيضاً ـ في وصف المنصف: "يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر بها, ولا يشمت به". ( )
- يقول ابن تيمية: "ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج أعظم من شر الظالم, وأما إذا لم يكونوا ـ أي المبتدعون أو غيرهم ـ يظلمون المسلمين, والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم فهذا عدوان منه فلا يعاون على عدوان". ( )
- ويبين القرافي وجوب إبراز مفاسد كتب المبتدعة فيقول: "ويُنفر عن تلك المفاسد ما أمكن بشرط ألا يتعدى فيها الصدق, ولا يفتري على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم يفعلوه بل يقتصر على ما فيهم من المنفرات خاصة فلا يقال على المبتدع: إنه يشرب الخمر, ولا أنه يزني, ولا غير ذلك مما ليس فيه". ( )
- يقول الشوكاني: "دع عنك ما يقع من الاختلاف في المذاهب والمعتقدات, فإنه يبلغ الأمر إلى عداوة فوق عداوة أهل الملل المختلفة, فطالب الإنصاف لا يلتفت إلى شيء مما يقع من الجرح والتعديل بالمذاهب والنحل". ( )
- يقول ابن تيمية: " كثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة, ولم يعلموا أنه بدعة, إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة, وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها, وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم". ( )
- ويقول ابن تيمية ردّاً على بعض أهل الكلام حين ذم أهل الحديث بقلة الفهم وعدم التمييز بين صحيح الحديث من ضعيفه: لا ريب أن هذا موجود في بعضهم, يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول, وآثار مفتعلة, وحكايات غير صحيحة, ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه وقد رأيت من هذا عجائب, لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل, فكل شر في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر, وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم, وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم.
وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأخطر. ( )
- ويقول السعدي في تفسير قوله تعالى: {إذا اكتالوا علىالناس يستوفون, وإذا كالوهم أووزنوهم يخسرون} [المطففين: 2, 3]: "يدخل في عموم هذا: الحجج والمقالات فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج, فيجب عليه أيضاً أن يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها, وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو, وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه وتواضعه من كبره وعقله من سفهه".
والنقول والآثار في هذا الضابط ـ كما سبق ـ كثيرة جداً, ولعل فيما ذكرته الكفاية وأختم الحديث بذكر بعض الفروع التي تندرج تحت هذا الضابط:
- لا يرد الحق لمجرد أن قائله مبطل, فالعبرة بالقول لا بالقائل.
- الإقرار بفضل المخالف لا ينقص قدر مخالفه.
- الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
- العبرة بغلبة المحاسن وكثرة الصواب لا بالهفوة والزلة لأن المحسن غير معصوم.
- خطأ المخالف لا يبيح ظلمه ولا يهدر حقه ولا يبيح الافتراء عليه.
- نأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر.
- الباطل لا يرد بالباطل بل بالحق.
رابعاً ـ الرد على شبهات المخالفين عند الحاجة إجمالاً, أو تفصيلاً عند الضرورة:
كان للسلف ـ رحمهم الله ـ منهج واضح في ذكر الشبهات أذكر هنا أبرز ضوابط وملامح ذلك المنهج ومنها: ( )
1 ـ الأصل ترك الجدل والخصومات ومناقشة الشبهات:
يقول ابن المبارك: "لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب إلي من أن أحكي كلام الجهمية". ( )
2 ـ تذكر الشبهة ويرد عليها عند اشتهارها وظهورها بين عامة الناس.
يقول ابن قتيبة: "ولم أر في هذه الفرق أقل عذراً ممن أمر بالسكوت والتجاهل بعد هذه الفتنة, وإنما يجوز أن يؤمر بهذا قبل تفاقم الأمر ووقوع الشحناء, وليس في غرائز الناس احتمال الإمساك عن أمر في الدين قد انتشر هذا الانتشار, وظهر هذا الظهور... وإنما يقوى الباطل أن تبصره وتمسك عنه". ( )
3 ـ تذكر الشبهة ويرد عليها عند حصول الضرر والافتتان بها:
يقول الإمام أحمد: "... فأضل بكلامه بشراً كثيراً, وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية..". ( )
4 ـ يجتنب ذكر ما يؤدي إلى الشك والحيرة ومالا تحتمله عقول عامة الناس:
يقول الإمام الدارمي: "... ولكنا نتخوف من هذه الأحاديث, ونخاف أن لا تحتمله قلوب ضعفاء الناس, فنوقع فيها بعض الشك والريبة". ( )
5 ـ إذا أعلن بالشبهة فيجب إعلان الرد عليها, وإن كانت مستترة فلا يسوغ ذكرها ونشرها:
يقول الإمام الدارمي في الكلام على الشبه التي أثيرت في عهد المأمون وغيره ".... فكره القوم الخوض فيه, إذ لم يكن يخاض فيه علانية, وقد أصابوا في ترك الخوض فيه إذ لم يعلن, فلما أعلنوه بقوة السلطان... وكذلك قال ابن حنبل: "كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء, فلما أظهروه لم نجد بداً من مخالفتهم والرد عليهم".( )
6 ـ الأصل عدم تكلف الرد على شبهات لم يقل بها أحد ولم تنتشر بين الناس:
يقول الإمام الدارمي: "فلما لم يجترأ كافر أو متعوذ بالإسلام أن يظهر شيئاً من هذا وما أشبهه في عصرهم لم يجب عليهم أن يتكلفوا لنقض كفر لم يحدث بين أظهرهم فيكونوا سبباً لإظهاره". ( )
7 ـ قد تذكر الشبهة التي لم يعلن بها أهل البدع تبعاً أثناء نقض الشبهة الأصلية ـ لا ابتداءً واستقلالاً ـ لاستكمال نقضها:
وهذا الضابط يعد استثناء على الضابط السابق.
ومثاله ما ذكره أبو عبيد في رده على القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وبعد ذكر الأدلة عقب بذكر ما يمكن أن يطرأ في الذهن من الشبه المتصلة بشبهتهم الأصلية فقال: "فإن قال لك قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟" يعني حديث الشعب فذكر ما يتصل بهذا الأمر من شبهات محتملة قد ترد ونقضها وهي تابعة للشبهة الأصلية. ( )
8 ـ قد يذكر الرد دون الإشارة للشبهة:
مثاله: كتاب السنة لابن أبي عاصم سرد فيه الأدلة التي تقرر منهج أهل السنة وترد على أهل البدع دون ذكر شبههم.
وبعد ذكر أبرز ملامح منهجهم في ذكر الشبه أبين هنا منهجهم في ذكر الشبه أبين هنا منهجهم في عرض الشبه والرد عليها ومنها باختصار:
أ ـ ذكر الشبهة مع قائلها إذا كان ممن اشتهر وعرف ـ وكان له اتباع:
مثاله الإمام الدارمي في عنوان كتابه حيث قرنه بصاحب البدعة: "نقض الإمام عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد". وغيره من الأئمة كثير.
ب ـ الإشارة إلى أصل الشبهة وسببها:
مثاله الإمام أحمد حين بين أن سبب وأصل ضلال الجهم مناظرته للسمنية. ( )
جـ ـ الرد على الشبه العقلية والنقلية على حدٍ سواء.
وذلك لثقة السلف بمنهجهم وعمق فهمه له.
د ـ إتباع الشبهة بالرد مباشرة وعدم تأخير الرد أو السكوت عنه.
وذلك حتى لا تعلق الشبه في ذهن القاري أو حتى لا يمل من قراءة الشبه قبل أن يصل إلى الرد, ولأن الجواب بعد الشبهة مباشرة أقرب للفهم والاستيعاب.
هـ ـ القوة في رد ونقض الشبهة وإقناع القاري بفساد بطلان الشبهة:
يقول شيخ الإسلام: "ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناءً على ظهور دلائل النبوة... يزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة, قد أوردوا من الشبهات والشكوك والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالاً, وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جواباً في المسائل الظنية بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين...". ( )
و ـ الاهتمام بالشبهات الكبرى والتي تعتبر أصلاً يعتمدون عليه:
يقول الدارمي: "وقد كان رأس حجج المريسي وأصحابه من الجهمية وأوثقها في أنفسهم حتى تأولوا فيها على الله خلاف ما أراد". ( )
ز ـ البدء بالرد على الشبه الأقرب إلى العقول فيندفع ما هو أبعد من باب أولى:
يقول شيخ الإسلام: "ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان, وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا, لأن العقول تنفر عن التعطيل أعظم من نفرتها عن الحلول.. فكان السلف يردّون خير قوليهم وأقربها إلى المعقول, وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطريق الأولى". ( )
خامساً: رد الاستدلال بما خالف المعقول:
يقول تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} [المؤمنون: 91].
يقول ابن حزم بعد ذكره أقوال النصارى الكفرية وساق بعض الآيات التي كفرتهم:
"ولولا أن الله وصف قولهم في كتابه... لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع, السمج السخيف, وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون ونعوذ بالله من الخذلان". ( )
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن النصارى: "وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة لا من جهة العقل.... وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول, فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية, التي قد يسمونها ناموساً عقلياً طبيعياً يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه". ( )
وللسلف منهج عام في التعامل مع العقل خلاصته أن العقل الصريح لا يمكن أن يعارض النقل الصحيح. وأن الشرع يأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول.
وعليه فكل مخالف للنقل الصحيح مخالف للعقل الصريح.
وأختم ببعض ردود السلف بالعقل على المخالفين:
فهذا أبو حنيفة يرد على من أنكر استواء الله على عرشه بقوله: "بأنه كافر لإنكاره علو الله تعالى وأنه في السماء وذلك: لأن الله في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل.
وهذا الإمام أحمد يرد على الجهمية في نفيهم صفة العلو بردٍ عقلي وهو "قياس الأولى" فيقل: "وجدنا كل شيء أسفل منه مذموماً" .... إلخ.
وهذا ابن عبد البر يبين عدم إدراك العقل لكيفية الصفات فيقول:
"وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحاً في أبداننا, ولا نعلم كيفية ذلك, وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أنه ليس لنا أرواح, وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه.
إلى غير من الأمثلة, والله تعالى أعلم.
الضوابط جمع ضابط، وهو في اللغة مأخوذ من الضبط الذي هو لزوم الشيء وحبسه، وللضبط عدة معانٍ في اللغة في أغلبها لا تعدو الحصر والحبس والقوة.
أما في الاصطلاح :
فمن العلماء من لم يفرق بين القاعدة والضابط، ومنهم من فرق فجعل القاعدة لا تختص بباب من أبواب العلم بعينه، وأما ما يختص بباب بعينه فهو الضابط.
وبعبارة أخرى: القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى، والضابط يجمعها من باب واحد.( )
ومن الضوابط لدى علماء السلف في الرد على المخالف ما يلي:-
أولاً: الاعتماد على الدليل الشرعي والبرهان العقلي والفطري السليم.
قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء: 59]
وقال سبحانه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما . [النساء: 65]
وقال – - "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه".( )
من الأمثلة:-
1- عن عبدالله بن مسعود ـ ـ قال: "سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي ـ ـ يقرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي ـ ـ فذكرت ذلك له. فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".( )
2- وقع مثل ذلك لعمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم –رضي الله عنهما– ( )
3- قصة موت الرسول ـ ـ وقول عمر: والله ما مات رسول الله ـ ـ، وخروج أبي بكر للناس وقوله: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقرأ إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر: 30] وغيرها من الآيات فنشج الناس يبكون". ( )
4- موقف ابن عباس من الخوارج وجدالهم حيث قال لهم: "أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم، أترجعون؟ ... " ( ).
5- ما ثبت عن الأئمة الأربعة جميعاً من قولهم: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بها، ودعوا ما قلته ( ) .
6- مناظرة الإمام عبدالعزيز المكي – رحمه الله – مع بشر عند الخليفة المأمون في مسألة خلق القرآن وفيها قوله للمأمون: "وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين فنحن نؤصل بيننا كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة نبيه ـ ـ كما أمرنا فإن اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله ـ عز وجل ـ، فإن وجدناه فيه وإلا رددناه إلى سنة نبيه فإن وجدناه فيها وإلا ضربنا به الحائط ولم نلتفت إليه ... إلى أخر كلامه"( ).
إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة عن السلف. ( )
أما الأمثلة على البرهان العقلي فمنها: -
1- الاحتجاج العقلي الذي أورده الإمام أحمد على الجهمية الذين ينفون استواء الله على عرشه فقال: "ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلاً كان في يده قدح من قوارير صافٍ وفيه شراب صاف، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح, فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه....." ( ) .
وعلق ابن تيمية على هذا بقوله: "ذكر الإمام أحمد حجة عقلية اعتبارية عقلية قياسية هي من باب أولى فضرب رحمه الله مثالاً وذكر قياساً وهو: أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلاً فيه ولا محمايثاً له، فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به، وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعاً في حقه، وذكر أحمد في ضمن هذا القياس قول الله تعالى: وله المثل الأعلى مطابقاً لما ذكرناه من أن له تعالى قياس الأولى والأحرى، وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال ..." ( )
2- احتجاج أبو عبيد القاسم بن سلام على المرجئة بعدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان وأنه يزيد وينقص بقوله: "لو أن قوماً أُمروا بدخول دار، فدخلها أحدهم فلما تعتب الباب أقام مكانه وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها، قيل لهم جميعاً داخلون وبعضهم فيها أكثر مدخلاً من بعض، فهذا هو الكلام المعقول عند العرب السائر فيهم، فكذلك المذهب في الإيمان. ( )
3- مناظرة أبي حنيفة للدهرية حين أرادوا مناظرته في الربوبية فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة, تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها, وتعود بنفسها, فترسي بنفسها, وتفرغ وترجع, كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟ فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً, فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة, فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله. ( )
ومن الأمثلة على الاستدلال بالفطرة:
- قصة أبي جعفر الهمذاني مع أبي المعالي الجويني حين قال أبو المعالي في درسه كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر: "أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يالله ، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسر، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل وقال: وبكى وقال حيرني الهمذاني حيرني" ( ) .
فروع تدخل تحت هذا الضابط ومنها إجمالاً: ( )
1- إن كنت ناقلاً فالصحة أو مدّعيا فالدليل.
2- موافقة النصوص الشرعية لفظا ومعنى، أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ.
3- لا ينبغي بتر الدليل والاستدلال بجزئه.
4- الحق ما وافق الدليل بغض النظر عمن قاله أو أعرض عنه.
5- السكوت عما سكت الله عنه ورسوله ـ ـ.
6- الدليل المقدم هو الدليل القطعي.
7- الاستدلال على المسألة المتنازع فيها إنما يكون بالدليل المتفق عليه.
8- الباطل لا يُرد بالباطل، بل بالحق.
9- الامتناع عن مناظرة أهل السفسطة.
10- العقل الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع العقل الصريح والفطرة السليمة.
11- درء التعارض بين نصوص الكتاب والسنة.
ثانياً: الإفادة من مقررات العلوم والمعارف الصحيحة:
- يقول ابن تيمية في الرد على من ضل في الأسباب: "فالنار التي جعل الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحل يقبل الاحتراق, فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما, وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه, والشمس التي يكون عنها الشعاع لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه, وإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته. ( )
- وقد استدل أهل العلم في إثبات صفة النزول والرد على من قال أنه يلزم أن يكون النزول من علو إلى سفل بقوله تعالى {وأنزلنا الحديد} ثم قالوا: وهذا النزول أيضاً باق على حقيقته التي يعرفها العرب فالحديد إنما يكون في المعادن التي في الجبال, وهي عالية على الأرض, وقد قيل: إن كل ما كان معدنه أعلى كان حديده أجود, فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال لينتفع به بنو آدم.
وقد نشرت صحيفة المسلمون في عدد (525) بتاريخ 2/9/1415هـ, خبراً علميًّا مفاده: أن الحديد أنزله الله في باطن الأرض لعمل الاستقرار للأرض فينتفع بذلك الناس وذَكَرتْ أن هذا من الإعجاز لقوله تعالى {وأنزلنا الحديد}.( )
- وقال ابن تيمية في الرد على بعض الخوارق والحيل الشيطانية:
"وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها, وقال إنكم تفعلون هذا بطريقة الحيلة كمن يدخل النار بحجر الطلق, وقشور النارنج ودهن الضفادع وغير ذلك من الحيل الطبيعة". ( )
- الأدلة العلمية الحديثة على أن أقوال العبد وأفعاله تحفظ:
"أثبت العلم الحديث إمكانية استرجاع ما يصدر عن الإنسان من الأصوات, ذلك أن كلام الإنسان يتحول إلى موجات هوائية وأن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير إلى الأبد بعد حدوثها, ومن الممكن سماعه مرة أخرى, ولكن علم البشر الآن قاصر عن إعادة هذه الأصوات أو حفظ تلك الموجات مرة أخرى, ولكن من ناحية علمية نظرية من الممكن التقاط هذه الأصوات مرة أخرى وسماع الأصوات القديمة إذا ما نجح الإنسان في اختراع آلة تقوم بذلك, وهذا يجعل ما أخبر به القرآن من تسجيل ما ينطق به الإنسان أمرًا سهلاً ميسوراً". ( )
ثالثاً: التزام الآداب الشرعية في إقامة الحجج والرد على المخالف كالعدل والإنصاف والصدق وترك المراء والابتعاد عما ينافيها.
والأدلة الشرعية التي تؤصل هذا الضابط كثيرة جداً منها على سبيل المثال:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجز منكم شينئآن قوم على ألا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى, واتقوا الله, إن الله خبير بما تعلمون} [المائدة: 8]. والآيات والأحاديث كما أشرت كثيرة في هذا المعنى.
وأبدأ الحديث عن هذا الضابط بسؤال هو: لماذا الأدب مع المخالف؟
والإجابة على هذا السؤال تظهر إذا عُرف الهدف من الرد على المخالف ابتداءاً, وقد بيّن أهل العلم جملة من الأهداف للرد على المخالف أكتفي هنا بالإشارة إلى اثنين منها وهي:
1- دلالة المخالف إلى الصراط المستقيم, والعمل على كسب أوبته إلى الحق والإذعان له, ولا يخفى دور الأدب معه في تحقيق هذا الهدف العظيم.
2- كف بأس بدعته عن المسلمين بقطعه وكف عدوانه. ( )
والشواهد على التزام الآداب الشرعية في الرد على المخالف كثيرة جداً وذلك من سيرة الرسول ـ ـ ثم صحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, وسأكتفي هنا بذكر نتفٍ منها حسب ما يسع له المقام:
- أن حبراً من الأحبار أتى رسول الله ـ ـ فقال: يا محمد, نعم القوم أنتم, لولا أنكم تشركون, فقال رسول الله ـ ـ: "سبحان الله وما ذاك" قال: تقولون إذا حلفتم والكعبة, فأمهل رسول الله ـ ـ شيئاً ثم قال: إنه قد قال, فمن حلف فليحلف برب الكعبة". قال يا محمد, نعم القوم أنتم, لولا أنكم تجعلون لله نداً, قال: سبحان الله وما ذاك" قال تقولون: ما شاء الله وشئت, قأمهل رسول الله شيئاً ثم قال: إنه قد قال, فمن قال: ما شاء الله فليفصل بينهما ثم شئت". ( ) فقبل رسول الله الحق هنا مع أنه من يهودي.
- قصة أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مع الشيطان الذي أراد أن يسرق من طعام الزكاة, وفيها قوله ـ ـ: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب". ( )
ومما ذكره ابن حجر في فوائد هذا الحديث: أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها, وأن الكافر قد يَصْدُق ببعض ما يُصدّق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمناً, وبأن الكذاب قد يصدق". ( )
- بين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن من إنصاف القرآن مع المخالفين من أهل الكتاب أنه نزل بالتصديق بما جاءت به الرسل, والإشارة إلى ما في كتبهم من البشارة بمبعث النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ, وما فيها من تبديل وتحريف" حتى إذا سمع ذلك الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان, والمناظرة والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف". ( )
- يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسير "وإذا قلتم فاعدلوا" مبيناً معنى العدل في القول: "بمراعاة الصدق فيمن تحبون, ومن تكرهون, والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه, فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم, بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع: فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه, وأن يبين ما فيها من الحق والباطل, ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه". ( )
- ذكر عن حاتم الأصم أنه قال: "معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي. أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن إذا أخطأ, وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه" فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما كان أعقله من رجل. ( )
- يقول بكر أبوزيد: "التزام الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل, وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه, ولا تتخذ الوقائع العارضة مُنهية لحال الشخص, وباتخاذها رصيداً ينفق منه الجرّاح في الثلب, والطعن وأن تدعو له بالهداية, أما التزيد عليه وأما البحث عن هفواته, وتصيدها فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين". ( )
- يقول ابن القيم: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح, وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان, قد تكون منه الهفوة والزلة, هو فيها معذور, بل ومأجور لاجتهاده, فلا يجوز أن يتبع فيها, ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين". ( )
- ويقول ـ أيضاً ـ في وصف المنصف: "يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر بها, ولا يشمت به". ( )
- يقول ابن تيمية: "ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج أعظم من شر الظالم, وأما إذا لم يكونوا ـ أي المبتدعون أو غيرهم ـ يظلمون المسلمين, والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم فهذا عدوان منه فلا يعاون على عدوان". ( )
- ويبين القرافي وجوب إبراز مفاسد كتب المبتدعة فيقول: "ويُنفر عن تلك المفاسد ما أمكن بشرط ألا يتعدى فيها الصدق, ولا يفتري على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم يفعلوه بل يقتصر على ما فيهم من المنفرات خاصة فلا يقال على المبتدع: إنه يشرب الخمر, ولا أنه يزني, ولا غير ذلك مما ليس فيه". ( )
- يقول الشوكاني: "دع عنك ما يقع من الاختلاف في المذاهب والمعتقدات, فإنه يبلغ الأمر إلى عداوة فوق عداوة أهل الملل المختلفة, فطالب الإنصاف لا يلتفت إلى شيء مما يقع من الجرح والتعديل بالمذاهب والنحل". ( )
- يقول ابن تيمية: " كثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة, ولم يعلموا أنه بدعة, إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة, وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها, وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم". ( )
- ويقول ابن تيمية ردّاً على بعض أهل الكلام حين ذم أهل الحديث بقلة الفهم وعدم التمييز بين صحيح الحديث من ضعيفه: لا ريب أن هذا موجود في بعضهم, يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول, وآثار مفتعلة, وحكايات غير صحيحة, ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه وقد رأيت من هذا عجائب, لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل, فكل شر في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر, وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم, وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم.
وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأخطر. ( )
- ويقول السعدي في تفسير قوله تعالى: {إذا اكتالوا علىالناس يستوفون, وإذا كالوهم أووزنوهم يخسرون} [المطففين: 2, 3]: "يدخل في عموم هذا: الحجج والمقالات فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج, فيجب عليه أيضاً أن يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها, وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو, وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه وتواضعه من كبره وعقله من سفهه".
والنقول والآثار في هذا الضابط ـ كما سبق ـ كثيرة جداً, ولعل فيما ذكرته الكفاية وأختم الحديث بذكر بعض الفروع التي تندرج تحت هذا الضابط:
- لا يرد الحق لمجرد أن قائله مبطل, فالعبرة بالقول لا بالقائل.
- الإقرار بفضل المخالف لا ينقص قدر مخالفه.
- الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
- العبرة بغلبة المحاسن وكثرة الصواب لا بالهفوة والزلة لأن المحسن غير معصوم.
- خطأ المخالف لا يبيح ظلمه ولا يهدر حقه ولا يبيح الافتراء عليه.
- نأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر.
- الباطل لا يرد بالباطل بل بالحق.
رابعاً ـ الرد على شبهات المخالفين عند الحاجة إجمالاً, أو تفصيلاً عند الضرورة:
كان للسلف ـ رحمهم الله ـ منهج واضح في ذكر الشبهات أذكر هنا أبرز ضوابط وملامح ذلك المنهج ومنها: ( )
1 ـ الأصل ترك الجدل والخصومات ومناقشة الشبهات:
يقول ابن المبارك: "لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب إلي من أن أحكي كلام الجهمية". ( )
2 ـ تذكر الشبهة ويرد عليها عند اشتهارها وظهورها بين عامة الناس.
يقول ابن قتيبة: "ولم أر في هذه الفرق أقل عذراً ممن أمر بالسكوت والتجاهل بعد هذه الفتنة, وإنما يجوز أن يؤمر بهذا قبل تفاقم الأمر ووقوع الشحناء, وليس في غرائز الناس احتمال الإمساك عن أمر في الدين قد انتشر هذا الانتشار, وظهر هذا الظهور... وإنما يقوى الباطل أن تبصره وتمسك عنه". ( )
3 ـ تذكر الشبهة ويرد عليها عند حصول الضرر والافتتان بها:
يقول الإمام أحمد: "... فأضل بكلامه بشراً كثيراً, وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية..". ( )
4 ـ يجتنب ذكر ما يؤدي إلى الشك والحيرة ومالا تحتمله عقول عامة الناس:
يقول الإمام الدارمي: "... ولكنا نتخوف من هذه الأحاديث, ونخاف أن لا تحتمله قلوب ضعفاء الناس, فنوقع فيها بعض الشك والريبة". ( )
5 ـ إذا أعلن بالشبهة فيجب إعلان الرد عليها, وإن كانت مستترة فلا يسوغ ذكرها ونشرها:
يقول الإمام الدارمي في الكلام على الشبه التي أثيرت في عهد المأمون وغيره ".... فكره القوم الخوض فيه, إذ لم يكن يخاض فيه علانية, وقد أصابوا في ترك الخوض فيه إذ لم يعلن, فلما أعلنوه بقوة السلطان... وكذلك قال ابن حنبل: "كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء, فلما أظهروه لم نجد بداً من مخالفتهم والرد عليهم".( )
6 ـ الأصل عدم تكلف الرد على شبهات لم يقل بها أحد ولم تنتشر بين الناس:
يقول الإمام الدارمي: "فلما لم يجترأ كافر أو متعوذ بالإسلام أن يظهر شيئاً من هذا وما أشبهه في عصرهم لم يجب عليهم أن يتكلفوا لنقض كفر لم يحدث بين أظهرهم فيكونوا سبباً لإظهاره". ( )
7 ـ قد تذكر الشبهة التي لم يعلن بها أهل البدع تبعاً أثناء نقض الشبهة الأصلية ـ لا ابتداءً واستقلالاً ـ لاستكمال نقضها:
وهذا الضابط يعد استثناء على الضابط السابق.
ومثاله ما ذكره أبو عبيد في رده على القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وبعد ذكر الأدلة عقب بذكر ما يمكن أن يطرأ في الذهن من الشبه المتصلة بشبهتهم الأصلية فقال: "فإن قال لك قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟" يعني حديث الشعب فذكر ما يتصل بهذا الأمر من شبهات محتملة قد ترد ونقضها وهي تابعة للشبهة الأصلية. ( )
8 ـ قد يذكر الرد دون الإشارة للشبهة:
مثاله: كتاب السنة لابن أبي عاصم سرد فيه الأدلة التي تقرر منهج أهل السنة وترد على أهل البدع دون ذكر شبههم.
وبعد ذكر أبرز ملامح منهجهم في ذكر الشبه أبين هنا منهجهم في ذكر الشبه أبين هنا منهجهم في عرض الشبه والرد عليها ومنها باختصار:
أ ـ ذكر الشبهة مع قائلها إذا كان ممن اشتهر وعرف ـ وكان له اتباع:
مثاله الإمام الدارمي في عنوان كتابه حيث قرنه بصاحب البدعة: "نقض الإمام عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد". وغيره من الأئمة كثير.
ب ـ الإشارة إلى أصل الشبهة وسببها:
مثاله الإمام أحمد حين بين أن سبب وأصل ضلال الجهم مناظرته للسمنية. ( )
جـ ـ الرد على الشبه العقلية والنقلية على حدٍ سواء.
وذلك لثقة السلف بمنهجهم وعمق فهمه له.
د ـ إتباع الشبهة بالرد مباشرة وعدم تأخير الرد أو السكوت عنه.
وذلك حتى لا تعلق الشبه في ذهن القاري أو حتى لا يمل من قراءة الشبه قبل أن يصل إلى الرد, ولأن الجواب بعد الشبهة مباشرة أقرب للفهم والاستيعاب.
هـ ـ القوة في رد ونقض الشبهة وإقناع القاري بفساد بطلان الشبهة:
يقول شيخ الإسلام: "ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناءً على ظهور دلائل النبوة... يزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة, قد أوردوا من الشبهات والشكوك والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالاً, وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جواباً في المسائل الظنية بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين...". ( )
و ـ الاهتمام بالشبهات الكبرى والتي تعتبر أصلاً يعتمدون عليه:
يقول الدارمي: "وقد كان رأس حجج المريسي وأصحابه من الجهمية وأوثقها في أنفسهم حتى تأولوا فيها على الله خلاف ما أراد". ( )
ز ـ البدء بالرد على الشبه الأقرب إلى العقول فيندفع ما هو أبعد من باب أولى:
يقول شيخ الإسلام: "ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان, وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا, لأن العقول تنفر عن التعطيل أعظم من نفرتها عن الحلول.. فكان السلف يردّون خير قوليهم وأقربها إلى المعقول, وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطريق الأولى". ( )
خامساً: رد الاستدلال بما خالف المعقول:
يقول تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} [المؤمنون: 91].
يقول ابن حزم بعد ذكره أقوال النصارى الكفرية وساق بعض الآيات التي كفرتهم:
"ولولا أن الله وصف قولهم في كتابه... لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع, السمج السخيف, وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون ونعوذ بالله من الخذلان". ( )
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن النصارى: "وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة لا من جهة العقل.... وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول, فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية, التي قد يسمونها ناموساً عقلياً طبيعياً يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه". ( )
وللسلف منهج عام في التعامل مع العقل خلاصته أن العقل الصريح لا يمكن أن يعارض النقل الصحيح. وأن الشرع يأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول.
وعليه فكل مخالف للنقل الصحيح مخالف للعقل الصريح.
وأختم ببعض ردود السلف بالعقل على المخالفين:
فهذا أبو حنيفة يرد على من أنكر استواء الله على عرشه بقوله: "بأنه كافر لإنكاره علو الله تعالى وأنه في السماء وذلك: لأن الله في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل.
وهذا الإمام أحمد يرد على الجهمية في نفيهم صفة العلو بردٍ عقلي وهو "قياس الأولى" فيقل: "وجدنا كل شيء أسفل منه مذموماً" .... إلخ.
وهذا ابن عبد البر يبين عدم إدراك العقل لكيفية الصفات فيقول:
"وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحاً في أبداننا, ولا نعلم كيفية ذلك, وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أنه ليس لنا أرواح, وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه.
إلى غير من الأمثلة, والله تعالى أعلم.