المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثقافة النحل



الوليد بن مصعب
01-25-2009, 09:06 PM
وجه الشبه بين النحلة , و الأنسان , أن كليهما يعيش في مجتمع , يحتاج أن يخاطبه , لكن النحلة الحكيمة لا تتكلم , بل ترقص . و عن طريق هذا الرقص , و اختلاف إيقاعه , و مكانه من مسقط شعاع الشمس , تستطيع النحلة أن (( تقول )) لبقية النحل , أين وجدت الزهور , و مسافة الطريق إليها , و الأنواع المتوافرة منها , و كمياتها , و مقدار نموها . أكثر من ذلك , لا تستطيع النحلة أن تقول شيئا ؛ لأنها أصلا , لا تملك شيئا لآخر تقوله .

فلغة الرقص مقيدة بقاموس محدد جدا , لأن حاجات النحل نفسه محدودة من أساسها . و إذا خطر لنحلة ما , أن تخرج على هذا القاموس , و تورط نفسها في رقصة مؤداها - مثلا - أنها نحلة مثقفة , تطالب بحرية النحل , فإن جمهورها قد يستمتع بالرقصة كثيرا , لكنه لا يستطيع أن يفهمها لأنه جمهور محصن غريزيا , ضد فكرة الحرية بالذات . في لغة الكلام , تنفتح ثغرة طارئة في جدار هذا الحصن .

فالأنسان يقف عاري الصدر , أمام حراب لغته المتطورة , إنه يفهم كل ما يقال له , و تدخل دماغه أفكار لا علاقة لها بحاجاته الحقيقية . و يستطيع أن يتداول كلمات مميتة جدا , مثل :
(( الصنم الأله , و الشعب المختار , و البابا المعصوم من الخطأ , و تفوق الجنس الجرماني )) دون أن يعرف أنها مميتة , إلا بعد فوات الأوان .

من هذه الثغرة المفتوحة , تتسلل إلى لغات الأمم , مصطلحات خيالية محض , لا تعني شيئا في أرض الواقع , لأنها بديل (( سحري )) عن الواقع نفسه . و كلمة الثقافة العربية المعاصرة كلمة سحرية من هذا النوع .
إنها تسمية سياسية , مثل تسمية الوطن العربي جاءت من العدم , للتعويض عن واقع معدوم . فلا الوطن العربي , حقيقة إدارية , و لا الثقافة المعاصرة لها علاقة بجميع العرب . إننا نملك التسمية , لكننا لا نملك ما تعنيه في أرض الواقع . و هي محنة عقلية قاسية , لها جذور في عالم الطفل , الذي يستعيض عن ركوب الحصان , بركوب كرسي اسمه (( الحصان )) . إن كلمة الثقافة العربية المعاصرة , مصطلح طفولي إلى هذا الحد :

مصطلح يفترض سلفا , أننا نملك تراثا عربيا مشتركا . و الواقع أننا نملك أيضا تراثا عربيا غير مشترك , يقسمنا شرعيا إلى طوائف دينية لا حصر لها , منها الشيعة و السنة و الأباضية و العلوية و عشرات الطوائف الأخرى , التي لا يجمعها تراثنا الأسلامي . بقدر ما تفرق بينها مذاهب الفقه .

مصطلح يفترض , أننا نملك تاريخا عربيا مشتركا . و الواقع أننا عرب مقسمون بين خمسة تواريخ على الأقل . الأول : تاريخ ديني يبدأ من آدم و حواء . و الثاني : تاريخ طبيعي , لا يعترف بهذه البداية . و الثالث : تاريخ سني , يعتبر معاوية خليفة شرعيا . و الرابع : تاريخ شيعي , يعتبر معاوية , مجرد دجال . و الخامس : تاريخ حديث , يقسمنا حاليا إلى اثنين و عشرين دولة , كل دولة منها , لها تاريخ منفصل عن الأخرى , ببوابات حديدية , تحت حراسة رجال الحدود .

مصطلح يفترض , أننا نتكلم لغة واحدة , و الواقع أن ما نقوله فعلا , يختلف من دولة إلى أخرى , بقدر ما تختلف لغة عن لغة . فالذي يدعو مثلا إلى السلام مع اسرائيل , لا يفهم الذي يدعو إلى مواصلة الحرب ضدها , حتى إذا كانا يتكلمان لغة مشتركة .

مصطلح يفترض أننا عرب , يجمعنا مصير واحد , و هي فكرة عاطفية , لها علاقة بحب المواساة , و ليس بحب الواقع . و قد أثبت ظهور النفط , إلى أي مدى , تستطيع مصائرنا أن تختلف , رغم (( مصيرنا )) الخرافي المشترك , حتى أن مواطنا عربيا مفلسا و جائعا , و حافي القدمين , يستطيع أن يعيش على بعد مرمى حجر , من مواطن عربي آخر , يبذر ثروات لا تحصى , في القمار و الدعارة و شراء الخدم , دون أن يردعه بموجب قانون عادل واحد , أو حتى أن يقذفه بحجر . و إذا كان هذا اسمه المصير المشترك , فذلك مرده إلى أننا مشتركون عمدا , في تزوير الأسماء . إن ثقافتنا العربية المعاصرة , لا تملك الحصان . و ليس لديها لغة مشتركة , و ليس لديها تاريخ مشترك , و لا تخاطب كل العرب , و لا تستطيع أن تغير واقعهم , لأنها ثقافة مترجمة في غياب العرب أنفسهم .

رأس المشكلة , أن الثقافة - دون شرع الجماعة - مجرد سلاح سياسي لضرب الجماعة نفسها . إنها ليست أفكارا ((ثقافية )) في الكتب , بل قوانين , و محاكم , و مدارس , و أعياد , و أناشيد , و خطب , و جرائد , و إذاعات , و أموال طائلة تنفق علنا , و كل عام . و إذا خرجت الأدارة من يد الناس , فإن الثقافة أيضا تخرج من يدهم , و تصبح سلاحا رهيبا في خدمة من يدفع الثمن . و منذ عصر الأهرام , كان المواطن المثقف , قد اكتشف مكانه تحت مظلة فرعون , و كان المثقفون المصريون , يشرحون للناس , كيف يشيدون اهرامات خالدة , لطاغية ميت , و كيف يلقون بناتهم سنويا في النيل .

و طوال الفترة الواقعة بين عصر سومر , و بين ظهور الأسلام , كانت الثقافة سلاحا مهمته تجهيل الناس , و ليس تثقيفهم , تستخدمه الدولة و الكنيسة علنا , في مؤامرة أدت إلى توطيد فواحش أخلاقية رهيبة في تاريخ الثقافات , منها تزوير الشرائع الأنسانية , الذي تكفل بتحويل الثقافة إلى عالم السحرة و المعجزات , و أخرج الدين من واقع الناس , و أفقده مهمته و معناه معا .

لهذا السبب سكتت جميع الثقافات القديمة عن قضايا الأنسان , و فشلت في اكتشاف حقوقه , و فشلت في تطوير مجتمعات حقيقية محررة من الرق و الربا و عبادة الأصنام الحية و الميتة .

إن شرع الجماعة في الأسلام , هو الذي صحح هذا المسار , لأنه حرر المثقف من حاجته إلى لغة السحرة , و حماه من سلطة الأقطاع , و كفل له حرية الفكر , و جعلها حقا دستوريا من حقوقه . و في ظل هذا الدستور الجديد , أصبحت الثقافة لأول مرة في تاريخها , سلاحا في يد الناس حقا , لا يدعوهم إلى بناء أهرامات خالدة , و لا يوصيهم بإلقاء بناتهم في النيل , و لا يفرقهم بين المؤسسات الدينية و العنصرية , بل يدعوهم إلى بناء عالم الأنسان السعيد الواحد , و تحرير أيديهم من قيود الأقطاع , و الجهاد دفاعا عن مصالح الأغلبية . و هي الثقافة الفعالة الوحيدة , التي تكلمت فعلا بلغة الناس , و استطاعت أن تخاطب عقولهم , و تعرفهم بأعدائهم الحقيقيين و تعلمهم أن يحرروا مجتمعهم من الرق و الربا والأرهاب و عبادة الأقوياء . و أعادت كل مواطن منهم على حدة إلى الحضيرة , محررا من الشك و الخوف , إلى حد أنه يذهب إلى الموت طائعا , دفاعا عن شرع الناس , فتستقبل أمه نبأ موته بالزغاريد .دون الشرع الجماعي , يقع انحراف هائل في هذا المسار :

تغيب ضمانةالجماعة لحرية الفكر . و تغيب حرية الجدل . و تعود الثقافة حيث كانت ذات مرة في إدارة فرعون . و يكتشف المثقف مكانه المريح القديم , و يصبح - مرة أخرى - ساحرا في البلاط الملكي , لا يهمه ما يحدث للناس , بل يهمه أن ينطلي عليهم سحره . و هي حرفة تتطلب تلقائيا , أن يتكلم المثقف لغة لا علاقة لها بالواقع , و يرتكب الخطأ المميت , الذي لا يليق أن ترتكبه , حتى حشرة صغيرة مثل النحلة . إنه يورط نفسه , في موقف مستحيل , و حافل بالأحراج .

فالثقافة - دون حرية الفكر - لا تستطيع أن تكون ثقافة إنسانية حقا , و ليس بوسعها أن تلتزم بالدفاع عن عالم الناس . لكنها - من جهة أخرى - لا تعرف كيف تسد هذا العيب الظاهر , و ليس لديها خيار آخر سوى أن تدبر لنفسها قناعا إنسانيا مزورا , و تندس وراءه في محاولة طفولية لافتعال عاصفة داخل فنجان . إنها تقول كلاما كبيرا جدا , على لسان مثقف في حجم فأر .

مثقف لا يملك حق الكلام , في مجتمع لا يملك حق النشر , تحت سلطة لا تحبذ تبادل الأفكار .

مثقف وحيد , لا يضمن الناس حقه في إبداء الرأي , مهمته أن يضمن حقوق الناس , و أن يدافع عنهم بقلم رصاص , في وجه أنظمة بوليسية عاتية , تقاتل بالرصاص , و أن يقول لهم جهارا , ما لا يطيق أحدهم سماعه سرا .

و في ظروف خرافية من هذا الطراز , يصبح السحر ثقافة , و تقوم عاصفة داخل فنجان , و يولد للناس , و اقع ثقافي , لا علاقة له بواقعهم , و تصبح لغتهم بديلا باطلا من الحق نفسه , و هو ما حدث - حرفيا - في ثقافتنا العربية المعاصرة .

لقد ولدت هذه الثقافة في بيت نابليون , و تربت في مدارس الأوربيين الأغنياء ( 1 ) , و تعلمت نظمهم و شرائعهم الرأسمالية , كما يتعلم الخادم عادات سيده الثري , و عندما تراجع الأوربيون عن الوطن العربي , تركوا هذه الثقافة المغتربة في رعاية إدارة عربية مسخرة لخدمة رأس المال , مما فرض (( تعريب)) ثقافتنا المعاصرة لغويا , و أعطوها قناعا عربيا , تخفي وراءه تفسيراتها المستوردة , و غربتها الهائلة عن واقع العرب , و عجزها عن تغيير هذا الواقع , حتى بتقليد الأوربيين . إن ثقافتنا الجديدة المعربة تصبح كرسيا عربيا مريحا , لكنها لا تصبح هي الحصان .

في رعاية هذه الثقافة البراقة المعاصرة , تصاعدت المعركة الصليبية ضد العرب , من حرب بعيدة في شمال اسبانيا , إلى حرب تجري حاليا في شوارعهم , من بيت إلى بيت , و تورط العرب فجأة , في وصفة سحرية مميتة , تعالج جميع الأمراض , لكنها لا تشفي المرضى أنفسهم . فمثلا :

كلمة الديموقراطية في ثقافتنا الجديدة المعربة , تعني تطبيق نظام تعدد الأحزاب . و خارج هذا التعريف , لا تملك ثقافتنا , صيغة شرعية أخرى للديموقراطية .

رأس المشكلة بالطبع , أن نظام تعدد الأحزاب , دون رأس المال , لا يستطيع أن يحمي نفسه من العسكر , و أن العرب المحبوسين , داخل البحر المتوسط , منذ عصر كولمبس , لم يجمعوا رأس المال أصلا , و ليس بوسعهم أن يتجمعوا في أحزاب , لا تملك ما يدعوها إلى التحزب .

إن النتيجة الأولى لهذا التفسير (( المعاصر )) , هو أن يفقد العرب كل أمل ممكن في تحقيق الديموقراطية , و النتيجة الثانية , أن تصبح الديموقراطية نفسها وصفة سحرية , تعيش في ثقافة العرب , دون أن تتحقق في واقعهم . و مثلا :

كلمة الأشتراكية في ثقافتنا الجديدة المعربة , تعني تأميم الملكية الخاصة لوسائل الأنتاج , و التحول إلى نظام القطاع العام . و هو تفسير صحيح فقط , في بلد يحكمه حزب لينيني منظم ( 2 ) , قادر على إدارة المرافق المؤممة . أما من دون الحزب اللينيني , فإن التأميم لا يلغي الملكية الخاصة , بل يجمعها في يد مالك كبير واحد يجلس وحيدا فوق القمة , و يسلم أملاكه لجيش من الموظفين الذين يتولون إدارتها , طبقا لروتين حكومي مفتعل , لا تهمه قوانين الأنتاج , بل قوانين الضبط و الربط .

و في ظروف إدارية من هذا النوع , يحدث ما حدث في وطننا العربي , و تولد اشتراكية دون حزب عمالي حاكم , كما تولد أرنب من قبعة ساحر , فيتم تأميم مرافق الأنتاج , و تقوم عاصفة داخل فنجان , و ينهار الأقتصاد تحت وطأة الروتين , و يتكلم الخبراء نيابة عن الناس انفسهم , و يذهب الموظف غير المناسب إلى المكان المناسب , و تشيع العمولة , و يعم الفساد , و يقف الناس في طوابير طويلة تحت الشمس , فيما تصدر الصحف يوميا , للأشادة بمنجزات الأشتراكية تحت شمس سحرية أخرى . و مثلا :

كلمة الليبرالية في ثقافتنا الجديدة المعربة , تعني استبعاد الدين من لغة الأدارة . و هو تشريع ناجح في الغرب , حيث كان رأس المال , قد تولى تحرير الأدارة من لغة الأقطاع . أما في الوطن العربي , فإن فصل الدين عن الأدارة , لا يحقق شيئا في الواقع , سوى أن يقطع الجسر الوحيد الذي يربط العرب بشرع جماعي قادر على تحريرهم من قبضة الأقطاع . إن موقف ثقافتنا العربية المعاصرة , تجاه واقع العرب القاسي موقف حرج من جميع الوجوه .

فهي - من جهة - لا تستطيع أن تتحدى الأدارة الأقطاعية ,, على غرار ما حدث في النموذج الراسمالي الذي تنقل عنه . و هي - من جهة أخرى - ثقافة أوربية متطورة , تعادي الأقطاع , و تعادي سلطة رجال الدين . و في ظروف حرجة إلى هذا الحد , لم يكن بوسع ثقافتنا الجديدة المعربة , إلا أن تمسك العصا من وسطها , و تجرب أن تعيش بين العرب , مثل سائح أوربي , لا علاقة له بما يحدث للعرب أنفسهم . إن المثقف العربي المعاصر يرفع قبعته احتراما أمام كل شيء في متحفنا القديم .

يساند رجال الأقطاع . يبرر أخطائهم المميتة . يشيد بمآثرهم في الصحف . يغني لهم . يرقص لهم . يرسم لهم . يخطط لهم . يلعن خصومهم , ذلك كله , و هو يعرف سرا , أن الأدارة الأقطاعية قد خسرت السباق منذ زمن بعيد , و خرجت من قاموس الثقافة إلى الأبد , و أن الحديث عنها بلغة عصرية , لا يجعلها عصرية حقا , بل يجعلها بديلا سحريا , عن اللحاق بثقافة العصر .

يساند رجال الدين , و يشيد بتاريخ الدولة (( الأسلامية )) , مرة من وجهة نظر الشيعة , و مرة من وجهة نظر السنة , و هو يعرف سرا - و دون أدنى شك - أن تطبيق الشريعة معناه أولا , تطبيق الأدارة الجماعية , و أن الأسلام - دون هذه الأدارة - قد خسر معركته قبل أن تبدأ , و خسر السباق على المحيط , و خسر السباق على الفضاء , , . إن المثقف المعاصر , لا يملك أعداء , لأنه ( مثقف ) من دون قضية .

رجل ولد في غياب والديه , يمثل نظريات أوربية , ليس لها جذور في تراث العرب , و يتكلم لغة معربة عن عصر لم يدخله العرب , و يقلد نموذجا أوربيا مختلفا في أدق تفاصيله عن واقع العرب . و في رعاية هذا الساحر الجديد , شهد الوطن العربي أكثر من معجزة , و تم توحيده تحت لواء لغة واحدة و دين واحد و تاريخ واحد و مصير مشترك , و أنشئت جامعة الدول العربية , بمثابة دليل ( ملموس ) على حقيقة هذه الوحدة . و إذا كان ثمة من يريد أن ينكر أن الأرنب يخرج من قبعة الساحر , فعليه أن ينكر أولا وجود الشمس الساطعة على مبنى جامعة الدول العربية
للموضوع بقية................
مع تحياتي

الحجاج بن يوسف
03-15-2009, 11:20 AM
بسم الله الرحمن الرحيم , و به نستعين
الزميل المحترم ؛
السلام عليكم و رحمة الله
نترقب بشوق بالغ بقية هذا المقال الرائع .
تفضل بقبول فائق الإحترام .
و السلام