د. أحمد إدريس الطعان
01-26-2009, 01:33 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
دروس غزّاوية
د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة – جامعة دمشق
Ahmad_altan@maktoob.com
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد :
] وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ [ سورة آل عمران آية : 166 – 173 ] .
فهذه جملة من العبر والعظات التي استخلصتها من حرب الفرقان التي دارت رحاها بين المقاومة الإسلامية والعدو الصهيوني في أرض غزة الطاهرة .
ولقد كانت متابعة الأحداث والأخبار التي تطل علينا بها الفضائيات ملهمة للشعراء والأدباء والكتاب ومن باب أولى أن تكون ملهمة للباحثين، فقد جادت نفسي بهذه الدروس التي لم أشأ أن تظل حبيسة النفس والورق وإنما أردت أن أبث إخواني مكنون قلبي وعقلي، فإن أكن مخطئاً فمن نفسي ومن الشيطان، وإن أكن مصيباً فبتوفيق من الله عز وجل .
"" من كان يدري أنه من قلب المحنة تخرج المنحة ؟ ومن كان يدري أن عذابات إخواننا في غزة تصنع الانتصارات العِذاب ؟ ومن كان يدري أن جرح غزة ضمد جراحات كثيرة في جسم الأمة استعصت على العلاج، وحار أطباؤها ويئسوا من دوائها .
لقد استطاعت كتائب المقاومة أن تحشد الشعب الغزاوي وراء خيار المقاومة ويسطر الشعب بطولات وأمجاد جمعت في أيام ما تفرق في عقود من السنين، جماهير العرب والمسلمين من الخليج إلى المحيط تهتف بهتاف واحد، وتجأر إلى الله بدعاء واحد، وتُسمع صوتها المبحوح إلى المتخاذلين بتقريع واحد . من كان يظن أن إخواننا في تركيا يخرجون بالملايين في عاصمة الخلافة الغاربة، وهتافهم يشق عنان السماء ؟
شكرا كتائب المقاومة فقد فضحتم بصمودكم الأنظمة العميلة، وكشفتم عنها غطاء العمالة والتبعية، وهي تلهث وراء الحلول التي ترضي أسيادها .
شكرا كتائب المقاومة، فقد انجلى عن العيون وهم المنظمات الدولية التي تنعق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فلا ديمقراطية بعد اليوم، وهي اليوم تساوي بين الجلاد والضحية، ويتصامم سمعها عن صرخات المستغيثين، وأنين الهلكى تحت الحديد و النار ! وأيقنت الأمة بعد اليوم أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها، وأن كل أمة ضائع حقها سدى، إذا لم يؤيد حقها بالمدفع والصاروخ !! "" ([1]).
الدرس الأول
اللعب على المكشوف
يتحدث الكثيرون أن حرب غزة كشفت كثيراً من العمالة التي كانت متسترة بالوطنية أو السلام أو غير ذلك، وأنا أستغرب ذلك لأن العمالات والخيانات مكشوفة منذ عقود وعقود عديدة، وإذا كنا لم نكتشف ذلك إلى الآن فهذه مصيبة أخرى . مشكلتنا أننا ننسى فحرب لبنان، وحروب الخليج العديدة، ومن ثم غزو أفغانستان والعراق، ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية في أوسلوا ، ومسلسل التنازلات المستمر، كل ذلك نسيناه، إن مسلسل الخيانات والمؤامرات مكشوف ومفضوح ولا يحتاج إلى حرب غزة الحالية فقد مرت على هذه الأمة غزات وهزات .
الشيء الذي يمكن أن يقال هنا هو أن الخيانة سابقا كانت بطريقة دبلوماسية أكثر، أما في هذه الأزمة فقد أصبح "اللعب على المكشوف " على حد تعبير الأستاذ فهمي هويدي . فلم يعد حسني باراك - لا بارك الله فيه - يشعر بالخجل وهو يظهر على الشاشة على أنه الحليف الأول لإسرائيل في هذه الحرب، فهو يتحكم بمعبر رفح لمنع الإمدادات عن الفلسطينين، بينما إسرائيل تستخدم أعنى ما لديها من أسلحة .
أصبح أولمرت يعلن أمام جنوده أن بعض العرب يصلون من أجل أن ننتصر على حماس، وأصبحت الجولات المكوكية بين القاهرة وتل أبيب متسارعة جداً تسابق أرتال الطائرات التي تقصف، والقنابل التي تتساقط، والصواريخ والدبابات التي تقصف، والهدف هو سرعة القضاء على المقاومة، سرعة إنجاز المهمة قبل أن تتحرك الشعوب . وليست حماس هي الهدف، وإنما الهدف أكبر من حماس، إنه القضاء على المقاومة، وإركاع الشعب الفلسطيني كله، واقتلاع القضية من جذورها .
في خطاب هذا الزمان أصبحت المقاومة هي المشكلة وليست الحل، لذلك فإن السباب والشتائم التي توجه إلى دعاة الممانعة أفراداً كانوا أو جماعات، لا يقصد بها سوى الموقف الرافض للتسليم، وكما مُنح ياسر عرفات جائزة نوبل لأنه اتفق مع اسحاق رابين، ثم جرى حصاره وتسميمه وقتله لأنه لم يسلم بطلبات باراك، فإن الأسلوب ذاته جرى تعميمه على العالم العربي، فمن استسلم فاز بالرضا، ومن امتنع حلت عليه اللعنة. ذلك شديد الوضوح في الساحة الفلسطينية الآن، فالسلطة في رام الله مشمولة بالرضا والهبات والمساعدات، لأنهم قبلوا بقواعد اللعبة، والمقاومون في غزة محاصرون ويراد لهم أن يلقوا مصير عرفات، حيث لا فرق بين القتل بالسم أو القتل أثناء المذبحة بالصواريخ والطائرات .
ولكن من كان يتصور أن يشارك الطرف العربي في حصار غزة وتجويعها؟ ومن كان يصدق أن يهب بعض الناشطين الأوروبيين لإغاثة المحاصرين عبر البحر، في حين يغلق «الإخوة العرب» طريق البر، ولا يفتحون المعبر إلا بعد أن يتحول الأمر إلى فضيحة عالمية؟ من كان يصدق أن تتحرك القوافل من قلب القاهرة لإغاثة المحاصرين في غزة، ثم تفاجأ بأرتال الشرطة تقطع عليها الطريق، وتجبرها على العودة من حيث أتت ! ([2]) .
كل البشر يطالبون بفتح معبر رفح - البشر فقط - لكن مبارك دمه بارد وثقيل، ووجهه سميك، وجلده صفيق فهو لا يرى دماء الأطفال، والأشلاء المنثورة في كل مكان، وآهات وصرخات الأمهات، وإذا رآها فهي لا تعني له شيئاً. "" حتى الأعداء يعالجون الجرحى في الحروب، وحتى الأعداء يسمحون بدخول قوافل الأدوية والغذاء ، هذا ليس عملا تضامنيا، ولا هو حتى أضعف الإيمان " ([3])
لقد كُتبت في هذا الرجل - إن كان رجلاً - في الصحف والمجلات والإنترنت آلاف الصفحات ولو قام قائم بجمعها وتبويبها لصنع خيراً، وذلك لتكون سيرة ذاتية بحق لهذا الممسوخ، ولتكون لعنة التاريخ والأجيال والأمم لصيقة به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن ماذا يضيره ذلك وهل تهمه صورته في التاريخ وهل يأبه لما ستتحدث به الأجيال المقبلة.
إن كثيراً من الحكام العرب يتوارثون فيروسات الخيانة والغدر، ولقد حقنهم الاستعمار بلقاحات ضد الكرامة، وضد الشهامة، وضد النخوة، فلا تؤثر فيهم المناظر المؤلمة، ولا تجرح لهم إحساساً، ولا تلامس لهم شعوراً، ولعلهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم بمشاهدة هذه المناظر، إن منظر أشلاء الأطفال ودمائهم وصرخاتهم وآهات النساء مقرفة بالنسبة لهم، إنهم يعكفون على أفلامهم الإباحية وسهراتهم المجونية فهم في واد والشعب في واد آخر ، إنهم كالدمى المتحركة ، شخصيات كرتونية تتحكم بها اليد الأمريكية والصهيونية على مبدأ : إفعل ولا تفعل ، فنجد كل واحد منهم مشغول بكبح شعبه، وليس لديه أي وقت ليتفرغ لغزة، وماله ولغزة، إن عينه ساهرة على الكرسي، وزبانيته مشغولون بالقمع والاعتقالات والتجويع والسلب والنهب، ولذلك من العبث أن ننتظر من هؤلاء المتخاذلين شيئاً يخدم الأمة إن على المستوى القريب أو البعيد، إن على المستوى الواقع أو الأمل . فإذا كان قريباً من ستة آلاف جريح وأكثر من ألف وثلاثمائة شهيد، وآلاف المشردين والمُعدمين لا تستحق منهم أن يجتمعوا ليتداولوا وليتحاوروا فماذا يُنتظر منهم إن اجتمعوا .
إن شهداء فلسطين يخاطبوننا أن نسير على دربهم فلا يكفي أن نبكيهم ونرثيهم، ثم نمضي في طريق آخر .
الدرس الثاني
الاستعمار : من الباب إلى الشباك
حين خرج الاستعمار تحت ضربات الشعوب العربية والإسلامية، واضطر أن يغادر بلادنا مهزوماً مدحوراً، فكّر بطريقة أخرى للاستعمار، وبينما كنا نحن مشغولين بفرحة الاستقلال والتحرير كان الاستعمار قد أحكم خطة جديدة ليظل جاثماً على صدورنا فترة أطول دون أن نشعر، ونجحت الخطة .
وتتمثل الخطة في مقولة أحد قادة الاستعمار الفرنسي للجزائريين حين خرجت فرنسا من الجزائر: أيها الجزائريون تريدون الاستقلال حسناً ؟! تريدون منا الخروج حسناً ؟! سنخرج من الباب وندخل من النافذة .
وحين خرجت جحافل المستعمرين من بلادنا واحتفلنا بالجلاء والاستقلال حقق ذلك لدينا كثيراً من الرضا النفسي، والشعور بالنصر، فوضعت الشعوب سلاحها، وما كان لها أن تضعه، لأن عدو الداخل أشد خطراً وفتكاً من العدو الخارجي، ألم يقل جبريل عليه السلام للنبي r بعد هزيمة الأحزاب : هل وضعتم السلاح ؟ قال : نعم قال جبريل : فإنا لم نضعه اذهب إلى هؤلاء وأشار إلى بني قريظة . فأوعز النبي r لصحابته : " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة " . وكان عقاب بني قريظة قاسياً أزعج إخوانهم العلمانيين المعاصرين اليوم، ولطالما تباكوا عليهم وندبوا مصيبتهم، ولكن عقاب بني قريظة كان مجدياً وناجحاً فقد خرس اليهود بعد ذلك قروناً طويلة – كما يقر أحد المستشرقين اليهود - ولم تقم لهم قائمة، حتى استنعجتنا الأمم فتجرؤوا علينا اليوم .
لقد نجح الاستعمار إذن في إيجاد البديل في بعض بلادنا العربية والإسلامية ""من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا "" ([4]) "" مسوحهم مسوح الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب " ([5]). وأشعرنا عدونا بالاستقلال، فرضينا نحن بذلك، وقد حصّل هو مصالح عديدة :
الأولى : أخرج جنوده عن ساحة الخطر وأعادهم إلى بلادهم .
والثانية : أوهمنا بالتحرر والاستقلال وأرضانا بالصورة الظاهرة لذلك، فوضعنا السلاح قانعين مطمئنين .
الثالثة : تصله مكاسبه وثرواته، وحصته كاملة غير منقوصة، من النفط وغيره دون أن يقدم بإزائها خسارة تذكر، أي : مغانم بلا مغارم !! .
الرابعة : جعل بلادنا أسواقاً لمنتجاته وبضائعه، وأفواهنا مستهلكة لمأكولاته ومشروباته .
الخامسة : جعل بلادنا دائماً متوترة ومتنافرة بسبب الانفصام الحاصل بين الحكام والمحكومين . فقد خضع هؤلاء الحكامُ المتخاذلون خضوع الرقيق لسيده، فهم مجرد ولاة، ومنفذين ومطيعين ومخلصين لأسيادهم المستعمرين، إلا أن أسماءهم فقط مختلفة فبدلاً من الأسماء الأجنبية نجد حسني مبارك ، وعبد الله ، وزين العابدين .
الدرس الثالث
المراوغة المكيافللية
ومن هنا لا بد من حمل السلاح من جديد لكي نتخلص من هؤلاء الذين يخدمون الاستعمار أكثر من الاستعمار المباشر نفسه، إنهم يكبحون الشعوب باسم الوطنية أو القومية أو غير ذلك من الشعارات الجوفاء، إن ولاءهم كاملٌ لأعداء هذه الأمة، وهم حريصون كل الحرص على إزهاق روح التحرر فيها، فلا يسمحون بأي بصيص من نور أو أمل للحرية أو النهضة، وقد أعدّهم أسيادُهم الأوربيون لذلك إعداداً جيداً ثقافياً وتكتيكياً ومادياً فهم إذا كانوا متخلفين في كل شيء إلا أنهم متقدون في عدة فنون :
- فن المراوغة المكيافللية فهم يبتسمون على الشاشات، ويضربون شعوبهم في معتقلاتها بأيدي من حديد .
- وهم يتظاهرون بالقومية والوطنية ، وتُرفع لذلك الشعارات الطنانة، ولكنهم يبعثون بثروات الشعوب لأعداء هذه الأمة .
- وهم يتظاهرون بحماية تاريخ الأمة وتراثها ودينها ، ويرفعون الشعارات الدينية، ويحضرون الحفلات الدينية ويصلون ، ويبنون المساجد ، ويرفعون شعارات حماية الدين والوطن، ولكن في الخفاء يسخرون من كل ذلك ، بل إنهم يدنسون مقدساتها ويدمرون مناهجها ، ويسدون منافذ الإصلاح ويفتحون بوابات للفساد ، والجهل والمرض ، والجوع والقمع والكبت .
- وطبعاً يوظفون لذلك كل الفاسدين، ويجعلون منهم رموزاً ، ويلبسونهم ألبسة النخبة ، ويدهنونهم بألوان من مراهم التلميع، ومساحيق التجميل، لكل الشرائح الاجتماعية ، فللمتدينين شيوخ السلطان بعمائهم الضخمة ، وجببهم العريضة ، وللمثقفين نُخبٌ من المتفلسفين العملاء المدربين على حبك الإشكالات، وسفطة الحقائق، وتحليلها بأشكال تخدم التوجهات السلطانية وتقدم بعض التسكين للشباب الذي يُخشى أن يكون طموحاً . أما لعموم الناس فيقدمون النجوم الإعلامية المختلفة من فنانين وفنانات، وممثلين وممثلات، وكثيراً ما يُفتح المجال لهؤلاء للنقد غير المحدود ، لأنه في النهاية مجرد تمثيل، لا يضر بأمن السلطان ، ويساعد المشاهدين على تبديد الشحنات المكبوتة ، واستفراغ الغصات المحزونة .
ولذلك فالحكام العرب اليوم هم مجرد ولاة وخدم ينفذون الأوامر بمجرد الإشارة ولا حاجة للتصريح، وهم لا يفكرون بشعوبهم، ولا يعيشون معهم، ولا يهمهم إن كنت هذه الشعوب جائعة أم جاهلة أم مُضطهدة، أو لها مستقبل أو لها تاريخ، لأن الهم الأكبر بالنسبة للحكام المتخاذلين - وأرى أن هذه الكلمة قليلة بحقهم لأنهم، لم يكونوا في أي يوم حريصين على مصالحها ومستقبلها - الهم الأكبر هو الحفاظ على الكرسي والكراسي الوريثة، له ولذريته ولحاشيته وزبانيته المقربين .
ولذلك تجد أن الإبداع الوحيد في بلادنا العربية والذي يتميز به الحكام العرب عن بقية حكام العالم هو قدراتهم الفائقة في اختراع وسائل الكبت والتعذيب والترويع والاستبداد والتجهيل، ولو كانت هناك جوائز تُعطى لمثل هذا اللون من الإبداع فأعتقد أن حكامنا هم أحق الناس به .
ولا شك أن من لوازم هذه التميز هو قدراتهم النادرة على الخداع والتضليل والكذب، فيعكسون الصورة الجهنمية الحقيقية لهم إلى صورة فردوسية مزيفة، إنها في الحقيقة وصية مكيافللي لتلاميذه النخلصين ، "" يجب على الحاكم أن يكون ماكراً مكر الذئب ، ضارياً ضراوة الأسد ،غادراً غدر الثعلب ، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ، وأن يرتكب الشر والفظائع أحياناً- ، ويقترف الإساءات ويسير على مبدأ " فرق تسد " ، من أجل المحافظة على سلطانه "" . ([6]) ويضيف الأستاذ مكيافللي "" ولكن على الحاكم في نفس الوقت أن يُخفي هذه الصفات المرذولة ، ويكون دَعِيّاً ماهراً ومرائياً كبيراً وأن يحسن التظاهر بالأوصاف الحميدة والتدين الشديد "" ( [7]) .
ولذلك نجد الحكام يحضرون المناسبات الدينية وإلى جوارهم أصحاب العمامات السلطانية يسبحون بحمدهم ويباركون جهودهم ، ويدعمون جبروتهم ، إن فلسفة مكيافللي وكتابه الأمير قد وجد صداه في حكامنا " الميامين " فقد حفظوه عن ظهر قلب، لأنه كتابهم المقدس ، وقد نفذوا تعاليمه بإحكام وأمانة .
الدرس الرابع
كلمة حق عند سلطان جائر
ومن هنا فالحديث الدائر منذ زمن عن مشروعية الخروج على الحكام، وهل هم كفرة أم مسلمين أم منافقين أم شياطين أم سعادين ؟! لا أرى أنه سار في الطريق الصحيح، لأن حكامنا يجب الخروج عليهم حتى لو أقاموا الصلاة، وأدّوا الزكاة، وحجوا إلى بيت الله الحرام، لأن هذه المظاهر الدينية لا تشكل خطراً على مصالحهم، ولا مصالح أسيادهم، بل لعلها تعزز أهدافهم وغاياتهم حين تتحول إلى شكليات وحركات خالية من المضامين الجوهرية.
إن الحكام العملاء والمتآمرين على واقع الأمة ومستقبلها يجب الخروج عليهم، ورفع السيف في وجوههم، لأنهم خانوا أمتهم، وسرقوا خيراتها، ونهبوا ثرواتها، ودمروا شعوبهم، وحطموا مبدعيها، وكبحوا طموحاتها، وانحازوا إلى أعدائها وتعاونوا معهم في القتل والتجويع والتجهيل والقمع والاضطهاد، لكي تظل الأمة ضعيفة خانعة مُستذَلّة لا تجد أي نافذة للنهوض والتقدم .
وكم هم مخطئون أولئك الذين يستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أُمِّ المؤمنين أم سلمة هند بنت أَبي أمية حذيفة رضي الله عنها ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قَالَ : (( إنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعرِفُونَ وتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ )) قَالوا : يَا رَسُول اللهِ ، ألا نُقَاتِلهم ؟ قَالَ : (( لا ، مَا أَقَامُوا فيكُمُ الصَّلاةَ )) ( [8]) .
لأن إقامة الصلاة تعني : شيوع العدالة ، والأمانة والوحدة ، والاعتصام بحبل الله المتين ، والنهي عن الفحشاء والمنكر ، وتعزيز الأخلاق الفاضلة ، وكبح المفسدين ، وصدّ المعتدين ، وحراسة الثغور ، وحماية البلاد ، وتوثيق عرى الإيمان ، وعمارة الأرض بالخير، والعقل بالعلم، والمجتمع بالفضيلة، وليس المقصود بإقامة الصلاة هو شكلها الظاهر ، وحركاتها الرياضية، فهذه يفعلها المنافقون وغيرهم ما دام ذلك يعود عليهم ببعض المكاسب والمصالح، وقد يسأل هنا سائل أو يعترض معترض بأن السياق في نص الحديث يُفهم منه أن طاعة الحكام واجبة حتى وإن كانوا ظلمة وعصاة وفساقاً وغير ذلك، وقد يَستدل المعترِض لذلك بحديث "" تسمع و تطيع للأمير، فإن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع"" ([9]). فأقول هنا لكل هؤلاء الذين يستخدمون الدين لإسكات الثائرين، ويوظفون النصوص لكم الأفواه وتثبيط الهمم، إن الإسلام برئ ومن هذا الفهم السقيم، والتوظيف اللئيم، لأن مقصد الحديث هنا هو الحث على التضحية بالمصالح الشخصية والفردية، لأجل مصالح العامة الجماعية، وذلك حين يكون الحكام فساقاً ومنحرفين في سلوكهم الشخصي وذواتهم كأفراد، فهذا لا يضيرنا ما داموا يقيمون الصلاة ، ويحكمون بالعدل، ويقمعون الظلم، ويدافعون عن مصالح الأمة ويسهرون على تحقيق أمنها، ويحرصون على خيرها وبرها، وتحقيق رسالتها في التقدم والحضارة والخيرية، عندئذ ما لنا ولهم إذا كان فسقهم في داخل قصورهم فحسابهم عند ربهم.
كذلك بالنسبة لحديث وإن أخذ مالك وضرب ظهرك، فهو لمن يظلمه الحاكم بشكل شخصي وفردي لسبب من الأسباب، أو لظنٍّ من الظنون، أو لتوهمٍ أو وشاية، ينصحه النبي r أن يصبر ويتجاوز ويتنازل عن حقه درءاً للفتنة العامة، ويضحي بمصالحه الشخصية في سبيل المصلحة العامة، وذلك حين تكون الأمة رخيّة هنيّة مزدهرة آمنة مطمئنة في عمومها، وحكامها حراس أمناء لمصالحها، وحماة أشداء لأمنها ودينها وحضارتها .
أما والأمة اليوم يُنكِّل بها حكامُها، فالشعوب مضطهدة جائعة، والمعتقلات غاصّة ممتلئة، والخيرات منهوبة، والثروات مسروقة، وأعداؤنا يقاسموننا على رغيف الخبز، وحفنة البرغل، والطاقات مهدرة بل مقموعة، وأهل الفساد والانحراف يمرحون، وأهل الصلاح والهدى مُستذلّون، ودماء المسلمين تسيل في كل مكان، وأشلاء أبنائهم ونسائهم تُدفن تحت أطنان من القنابل والدمار، أما والأمة كذلك : واقعٌ مظلم ، ومستقبلٌ مجهول، وإبداعٌ مقتول، وعقولٌ بائسة، وأرواحٌ يائسة، فكيف لنا أن نسكت ؟! على أصحاب العمائم السلطانية أن يخرسوا ويكفوا عن التصفيق والتمجيد ليحصلوا على بعض الفُتات، وكفاهم كذباً ونفاقاً وتحريفاً للدين فالنبي r الذي حرر العرب من ترهات الجاهلية والوثنية والذلة والاستكانة والفرقة، وأخرجهم من الظلمات إلى النور لا يشرّع للخنوع، ولا ينصح بالخضوع للجبابرة والعتاة لأنه ([10]) هو القائل r : " وقد سُئل أيُّ الجِهادِ أفضلُ ؟ قَالَ : "" كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ .
الدرس الخامس
حرب الكلمات والصور
لقد شاهدنا مظاهر القتل والدمار في غزة، وشاهدنا الجروح المفتوحة ، والأجساد الممزقة، والدماء النازفة، شاهدنا دموع الأمهات، وسمعنا صرخات الأطفال، وكثيرون منهم لم تكن لهم صرخات لأنهم ماتوا، ومزقتهم القنابل، وأحرقهم الفوسفور، لاشك أيها السادة أنه منظر مريع، وحادث جلل، ذرفت له عيوننا، وتقطعت لهم أكبادنا، بل إن العالم كله وقف مذهولاً لهول ما يرى ويشاهد، وخرجت الجماهير في مختلف أنحاء العالم تعبر عن تضامنها مع أهل غزة، وتندد بالمجازر المروعة، ولا شك أن خروج العالم عن صمته، وصيحات الشعوب والأمم المختلفة، ونداءاتها لإيقاف المحرقة الصهيونية كان السببُ الرئيسُ فيه هو مشاهدتهم الصور المروعة للجريمة، والدمار الهائل، والدماء النازفة، وإن نقلَ صورة المأساة، وإبراز الشكل الوحشي للعدوان، وكشف مسرح الجريمة بكل فظاعتها كان عاملاً أساسياً في تحريك الشعور العالمي، وإيقاظ الضمائر النائمة، وبهذا الصدد فقد قامت قناة الجزيرة بجهود جبارة لنقل الأحداث كما هي للناس رغم وحشيتها، وما قامت به هذه القناة هو شكل من أشكال الجهاد العظيم في هذا العصر، الذي أصبح الإعلام فيه يمارس ألواناً من التضليل والخداع، ويكفي أن تُطل على بعض العناوين والمصطلحات في قناة الجزيرة ، وقناتي " العربية " العبرية ، و" الحرة " لترى الفارق الكبير في تغطية الأحداث في العدوان على غزة :
ففي الجزيرة : الحرب على غزة ، بينما في الحرة : الحرب في غزة . قناة الجزيرة تعرض مظاهر الوحشية والهمجية، بينما قناة الحرة تعرض صوراً لأطفال يلعبون في الأراجيح وحولهم جنود صهاينة يلاعبونهم .
أما قناة العربية " العبرية " فقد لعبت بالوعي العربي إلى أبعد الحدود، وعبثت بالحقائق دون خجل وضربت بالقواعد المهنية للعمل الإعلامي عرض الحائط ، وذلك من خلال العناوين الرئيسة للأخبار، وشريط الأخبار العاجلة حتى أن المراسلين يُكذّبون أحياناً ما يتكلم به المذيعون : وقد ثار أحد موظفيهم على هذه السياسة المتحالفة مع العدو فكتب يبين محاور هذه السياسة :
- فالشهداء كلهم قتلى، ولا تذكر كلمة شهداء نهائياً، وقد حذفت هذه الكلمة من قاموسها نهائياً سواء كانوا أطفالاً أم رجالاً أم نساءً .
- كل ما حدث من قتل وعدوان لم يوصف في العربية بأنه مجازر أو عدوان، فلا يُسمح للمذيعين أو المراسلين بوصف ما يجري بهذه الكلمات أبداً، وإنما يتم تخيُّر الكلمات المناسبة مثل هجوم واشتباكات . وكلمة هجوم تجعل المستمع يتعاطف مع البطل المهاجم ويتحالف معه كما يحصل في الأفلام .
- كل القنوات تصف ما يجري بأنه مقاومة وأن المقاومة تتصدى، بينما العربية تقول : مسلحي حماس يشتبكون .! وكما تعلمون فإن كلمة مسلح تطلق على المجرم الذي يسطو على منزل أو بنك أو غير ذلك .
- وأيضاً قناة العربية منذ الأيام الأولى حسمت المعركة فأظهرت صوراً للجنود الإسرائيليين يتقدمون باتجاه غزة دون مقاومة تُذكر وتظهر مجموعة من الجنود المستريحين، وآخرون راجلين، وآخرون يتقدمون بالدبابات، وقد افتضحت هذه التقارير فيما بعد لأنه تبين أنهم ليسوا في غزة، وإنما في قطاع غزة، وبين الأمرين فرق كبير، فهم في ضواحي قطاع غزة، والمقاومة رابضة في خنادقها تنتظرهم لتذيقهم الويلات، وقد كان ذلك بحمد الله عز وجل . وقد قامت مراسلة العربية حنان المصري بتكذيب المذيعين على الهواء، فقد ظهر خبر عاجل يقول بأن الدبابات الإسرائيلية تتقدم باتجاه داخل غزة، وقد خرجت المراسلة حنان المصري عن صمتها وقالت في رسالتها بأن هذا الخبر " غير دقيق " و " مخالف للواقع " وقالت إن هذا يتسبب في إثاره هلع الناس علينا أن ننتبه إلى هذا .
- وقد استضافت قناة العربية نايف حواتمة، وسلام فياض، ومحمد دحلان المعروف بسجله الإجرامي والتآمري وأطالت اللقاء معه وهو شخص غير مرغوب فيه عند الفلسطينيين، ولكنها رسالة توجهها قناة العربية لللمشاهدين بأن دحلان سيدخل غزة على ظهر الدبابة الإسرائيلية وستنتهي المقاومة .
- كما أن الأخبار والتحليلات كلها منحازة لصالح العدو الصهيوني، ويراد منها الفتّ في عضد المقاومة، وكسر شوكتها، وقطع أمل المشاهد العربي، وإحباط شعوره، وتثبيط همته وعزيمته . حتى أن العربية أصبحت مرجعاً للقنوات الصهيونية : فتنقل عنها بعض الأخبار التي تسثمرها في كسب التأييد الشعبي للحرب في إسرائيل .
- أما المظاهرات فقد ظلت القناة ثلاثة أيام صابرة لا تظهر أي مظاهرات، ويبدو الحدث في غزة وكأنه حدث عادي لا يثير الاهتمام عند الناس، ثم تحت ضغط الواقع اضطرت القناة إلى إظهار المظاهرات، ولكن بشكل انتقائي، لا يتم فيها التركيز على المشاهد المؤثرة والمتعاطفة مع المقاومة، بل يتم اختيار التركيز على نقمة الناس على المجازر، كما يتم لفت النظر على أن هذه المجازر تسببت فيها المقاومة أعني مسلحي حماس .
فقد قرر مديرو المعركة مع غزة في قناة العربية أن يكون الهدف هو إحباط المشاهد العربي وتثبيطه، ويتم ذلك من خلال ثلاثة محاور : المحور الأول : الصور والمشاهد المنقولة . المحور الثاني : الكتابات النصية التي تظهر على الشاشة، وشريط الأخبار العاجلة . المحور الثالث : التعليقات التي تجري على الأخبار من قبل المحللين والشخصيات التي يتم انتقاؤها واستضافتها بخبرة شديدة وبحذر بالغ .
بينما القنوات المستقلة تكشف الصورة على حقيقتها وتُبرز المأساة على مرارتها، وتُنوّع في اختيار الأنماط المؤثّرة، والنّماذج المعبّرة عن واقع مؤلم وجريمة بشعة . فمن الكلمات المؤثرة التي سمعناها في المظاهرات التي نقلتها لنا قناة الجزيرة :
مظاهرة في فرنسا عبر المراسل في نهاية رسالته بكلمة ختامية قال فيها : وهكذا نجد أن هناك من يتظاهر لدعم غزة، وأن هناك من يتظاهر بدعم غزة، والمعنى واضح فهو يقصد بعض الأنظمة العربية التي تتظاهر بدعم المقاومة، ولكنها في حقيقة الأمر طرف في المؤامرة الداعمة للحرب، والحريصة على مسح المقاومة من الخريطة، وهذا كان واضحاً في موقف الحكومة المصرية والسعودية . ولسان حال الشهداء يقول لهؤلاء :
لا ألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادا
مظاهرة أخرى في السودان تحدثت فيها امرأتان قالت إحداهما افتحوا لنا المعابر مش عايزين كراسيكو، نريد أن نموت في غزة ، وصورتها وهي تبكي في مخيلتي، أما انفعالاتها المرافقة لصرختها فلا يمكنني نقلها لكم . أما المرأة الثانية فقالت كلمة لم أملك إلا أن أصيح بأعلى صوتي : الله أكبر : قالت وهي تلوح بخمارها : أقول للحكام العرب خذوا خماراتنا، إلبسوها واتركونا نحارب، وخليكوا على كراسيكوا، إنكم تجلسون على عظام الأطفال، وفي مظاهرة أخرى في القدس صاح أحد العلماء : وامعتصماه، وإسلاماه ! ولكن صرخاته وصيحاته التي أوصلتها لنا قناة الجزيرة لم تجد ذلك المعتصم الذي يرد عليه بالفعل لا بالقول: لبيك يا أخيّاه أو لبيك يا أختاه !.
فشكراً وألف شكر، وتحية وألف تحية لقناة الجزيرة .
إنها حرب أخرى تجري بين الشاشات، والجيوش الإعلامية، فالقنوات المشبوهة والمُموّلة من قبل أعداء هذه الأمة تبذل قصارى جهدها لتشويه الحقيقة، وتزييف الوعي، وتثبيط الهمم، وتخوير العزائم، وتحطيم الآمال، وطمس الجرائم، وإخفاء الوقائع، وتزوير الأرقام . وهنا أحب أن ألفت النظر إلى ضرورة مقاطعة قناة العربية لأنها قناة عميلة، فإذا كانت فرنسا حجبت قناة الأقصى أثناء الحرب الأخيرة، وحجبت قناة المنار أيام حرب لبنان تحت ضغط اللوبي اليهودي، وتنكرت لكل مبادئها في الديمقراطية والحرية، فنحن أيها الإخوة والأخوات نستطيع أن نحقق هذا الهدف من خلال إرادتنا القوية، فنحذف قناة العربية من تلفازنا نهائياً، والواقع أن هذه المقاطعة ضرورية ليس فقط لقناة العربية، بل ولغيرها من القنوات العميلة، كذلك فإني أدعو إلى تفعيل سلاح المقاطعة لكل البضائع الأمريكية واليهودية التي نسهم نحن بشرائها في دعم إسرائيل دون أن نشعر، ولتكن هذه المقاطعة استراتيجية ثابتة وليس مجرد نزوة عاطفية عابرة .
الدرس السادس
المعتصم المنتَظر !
والحقيقة أن الإنسان يستغرب أيها السادة لماذا لا يوجد هذا المعتصم الذي يلبي هذه النداءات، ويستجيب لهذه الصرخات ؟! وإن الظرف موائم جداً لكي يبرز قائد مظفر يُخلّد ذكره في التاريخ كقائد أسطوري، وستقف الأمة كلها معه، فالأمة حيّة ومشاعرها متدفقة، وطموحاتها عظيمة، وقدراتها جبّارة، وهي بحاجة ماسة اليوم لمن يستثمرها في الوحدة، والاعتصام، والبناء، والنهوض، وعندئذ لن يجرؤ أحد على النيل منها أو العدوان عليها، وهذا معنى قوله تعالى :
]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [ [ سورة الأنفال آية 60 ] .
إن أهم ما تحتاجه الأمة اليوم أيها السادة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة هو القائد الحكيم والشجاع، القائد الذي يجمع شتاتها ويداوي جراحها، ويستنهض طاقاتها ويستثمر مقوماتها، القائد الذي يحرص على حاضرها ويفكر بمستقبلها، ويدرك التحديات التي تواجهها، القائد الذي يجمع بين الشجاعة والحكمة والأمانة والقوة .
كما في قوله تعالى : ] قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [ [ سورة القصص آية : 26 ] .
لقد وقف سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في يوم شديد الحر يعدُّ إبل الصدقة فنظر إليه سيدنا علي كرم الله وجهه وقرأ هذه الآية السابقة، ثم قال لسيدنا عثمان وهو يقف إلى جواره : هذا والله هو القوي الأمين، ويشير بيده إلى عمر رضي الله عنه .
وقال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه ذات يومٍ لأصحابه تمنوا، فتمنى بعضهم مالاً ينفقه في سبيل الله، وتمنى آخر أن يجاهد ويستشهد في سبيل الله، أما عمر فقال : أتمنى أن يكون هذا البيت مملوءاً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح . إن سيدنا عمر في كلمته هذه يدرك أهمية القائد في صنع التاريخ، وصنع النصر، وصنع الحضارة . وهو يريد من هؤلاء عدداً كبيراً يصنع تاريخاً مجيداً .
وقد كان أبو عبيدة بحق كذلك، وهو أهل لهذه الثقة من أمير المؤمنين الفاروق، فقد زاره في رحلته إلى فلسطين، فلم يجد في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فبكى عمر وشهق، وقال له : لو اتخذت متاعاً أو شيئاً ؟ فرد أبو عبيدة : إن هذا سيبلغنا المقيل ! .
الأمة بحاجة إلى قائد يلاحق أمراءه وموظفيه وولاته بالمحاسبة والمراقبة والحزم يقول الفاروق رضي الله عنه : أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما عليّ ؟ قالوا : نعم ، قال : لا ، حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لا ؟ .
فلا يكفي أن يتم تعيين بعض من يُظن فيهم الصلاح، بل لا بد من متابعة سلوكهم، والنظر في معاملتهم للناس، لأن المنصب يغير النفوس والأخلاق، وكم من إنسان كان طيباً صالحاً ثم إن المنصب غيّره .
ولذلك كان رضي الله عنه يتابع الولاة ويعدُّ أموالهم قبل التولية وبعدها، وكان إذا بلغه أن أميراً لا يعود المريض، ولا يدخل عليه الضعيف عزله . ولذلك كان له مكتب خاص مرتبط به مباشرة من " المخبرين " يبلغونه بأحوال الرعية، فكان علمه بمن نأى عنه من عُمّاله كعلمه بمن قَرُب، فكان على كل أمير أو وال عينٌ ينقل الأخبار لعمر رضي الله، حتى كان الأمراء يتهمون أقرب الناس إليهم .
ومن المناسب هنا أن نشير إلى كلمة أبي جعفر المنصور فقد كان يقول : ما أحوجني إلى أربعة نفر على بابي لا يكون هناك أعفُّ منهم، قيل من هم يا أمير المؤمنين ؟ قال هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت واحدة تداعى ووهى، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، فإني عن ظلمها لغني، والرابع ثم عضّ على إصبعه المسبّحة ثلاث مرات يقول في كل مرة : آه ، قيل له : من هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة . وهكذا نجد أن أبا جعفر يتحسر ونحن معه على أربعة مجالات :
الأول : القضاء لأنه لازم لإقامة العدل، والحكم بالحق .
الثاني : الشرطة أو بالأحرى السلطة التنفيذية، لأن الحكم بالحق لا فائدة منه إذا لم يتم تنفيذه، فلا خير في حق لا نفاذ له، فلا بد من إيصال الحق لأهله، وكثيرون هم الذين يتركون المطالبة بحقوقهم وإقامة الدعاوى لذلك بسبب التباطؤ الشديد في التنفيذ، وأيضاً بسبب ما تكلفهم هذه الدعاوى من خسائر تتجاوز الحق الذي لهم .
الثالث : الجباية أو الضرائب : وهذه مفيدة للدولة، وتقوي نفوذها وسلطانها، ولكن من أجل الناس، ولإقامة العدل والحق والإنصاف، دون ظلم أو إرهاق، وكذلك أن يكون ذلك لخزانة الدولة لتعود على الأمة بالخير والنماء . أما أن تكون الجباية لملء الجيوب والأرصدة فهذا هو الخطر العظيم، والبلاء الجسيم .
الرابع : ثم الجهات الأمنية في هذا العصر وهي التي تنقل أخبار الوطن والناس لرئيس الدولة، وهذه الجهات يجب أن تحرص على الحق والصدق حتى لا يُظلم الناس، وحتى لا يؤخذ البريء بجريرة غيره . كما أن الهدف الأول في النهاية هو راحة المواطن، وأمانه وطمأنينته، وأنتم تلاحظون أيها السادة أن مصطلح الأمن اليوم مراده على عكس حقيقته، فالأمن يعني الخوف، يعني السجون، يعني التعذيب، يعني الظلم، وهذا المفهوم هو الذي نريد أن يتم إصلاحه بدرجة أولى في العلاقة اليوم بين رجل الأمن والمواطن .
الدرس السابع
أين تكمن القوة الحقيقية ؟
لو تأمل القادة العرب لأدركوا أن المقاومة الإسلامية، والجهاد الإسلامي قوة لهم، يمكنهم توظيفه لخدمة مصالح الأمة في الحاضر والمستقبل، كما يمكن توظيفه حتى لمصالحهم الشخصية، فالمقاومة الإسلامية ليست ضد الحكام، ولا تهدف إلى السيطرة على الكراسي وإنما هدفها دحر العدوان، وإقامة الإسلام، والإسلام يعني العدالة، والأمان، والحرية، والمساواة، ولذلك فالمقاومة الإسلامية هي قوة أمنية موثوقة لا تخون، ولا تخذل الحاكم في اللحظات الحرجة، وتبقى وفيّة له إذا ما أحسن استثمارها والتعاون معها لتحقيق الأهداف العليا لهذه الأمة .
إن الجيوش النظامية والمدربة – في الحالة الراهنة - لا تحمي أحداً ولا وطناً ولا شعباً ولا حاكماً، لأنها تعصف بها الأهواء، وتتشتت بها الآراء، وتتوازعها المصالح الشخصية، وتتناهشها الكراهيات والأحقاد والأمراض المزمنة، فهي لا يُعوّل عليها، لأن الجندي يكره قائده، والقادة يكرهون جنودهم، كما يكرهون بعضهم، وفي أي فرصةٍ تسنح لهم من فرص الحروب فإنها ستكون مناسبة منتَظرة لتصفية الحسابات، فالقائد في ميدان المعركة لا يخشى على نفسه من جنود العدو، بل يخشى على نفسه من جنده، وكم من جندي أسنانه تصطك حقداً على قائده، ويتحين الفرصة لينتقم منه، ويشفي غليل حقده، لأنه طالما نكّل به واحتقره وابتزّه وأهانه واعتدى عليه، وإن أقرب مثال لذلك أيها السادة حالة الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي أدرك أن جيشه لا يمكن الثقة به، ولا يُعتمَد عليه، وأن الخيانة والغدر كائنة لا محالة، لأنه يعرف أمراض جيشه وأسبابها وأبعادها، ولذلك آثر الاختباء والاختفاء حتى تم القبض عليه وحيداً فريداً، وربما بسبب خيانةٍ من أقرب الناس إليه .
أيها السادة لا أدري ما الذي يمنع الزعيم العربي من أن يربّي جيشه على الإيمان بالله عز وجل، والإيمان باليوم الآخر، ويكرّس في مدارسه ثقافة الجهاد والشهادة، والهداية والتقوى والصلاح، وايم الله إن في ذلك قوة ومنعة شخصية له، وثباتاً لقيادته وسلطته، وخدمة لأمته وتاريخه، وارتقاء بشعبه وحضارته، وتخليداً لذكره وزعامته.
وإن انحياز بعض الزعماء العرب – كما رأينا في حرب الفرقان - لمعسكر العدو لتحقيق مكاسب شخصية ومنافع فردية غباءٌ وحماقةٌ، فضلاً عن كونها ذلةٌ وخسةٌ وخيانةٌ، والعدو أنصف وأذكى من أن يُكرّم شخصاً خان وطنه وشعبه وأمته، إنه يستخدمه بلا شك، ويمتدحه بلا ريب، وبالتأكيد يشيد به، ويكرمه ويمنحه المكافآت، ولكن ما إن ينتهي دوره حتى يرمي به في سلة القمامة، ثم يرمي به في زبالة التاريخ .
إن هذا ما لمسناه في تعامل إسرائيل مع الحكومة المصرية في الحرب الأخيرة، فمبارك الذي تآمر مع باراك وأولمرت وليفني وتدبّر معهم مهمة القضاء على حماس والمقاومة الإسلامية، هذه المؤمرة التي لم تتم بحمد الله عز وجل، على خطورتها في الحصار الطويل، وإغلاق المعابر والأنفاق، ومنع الجهود الدولية في الإغاثة. وكل ذلك كان منه رفضاً لصيحات شعبه، وتنكراً لاستغاثات أمته، وتجاهلاً لآهات الثكالى، وصرخات الأطفال، لأنه كان يُعوّل على القوة الإسرائيلية في حسم المعركة بشكل سريع وخاطف وينتهي الأمر، ويُسدل الستار على المقاومة إلى الأبد، وعندئذ يفرح مبارك ويمرح، ويخلو له الجو ليبيض ويصفر.
ولكن المقاومة الصامدة، والأسود البواسل بصمودهم النادر، وشجاعتهم الفريدة، وإيمانهم العظيم قد خيبوا آمال العدو الصهيوني وحلفائه المتآمرين معه، وأسقطوا أحلام مبارك وليفني وأولمرت وباراك وبوش، عندئذ لم يبق لمبارك ذلك الدور المنتَظر منه فقد عجز عن فعل أي شيء، لأنه كان بلا لاشك أعجز من العدو الصهيوني، عندئذ جاءته صفعة قوية من إسرائيل حين تجاهلوه، واتجهوا إلى أمريكا ليبرموا معها اتفاقاتهم الأمنية دون أن يكون شريكاً أو طرفاً في ذلك، وضُرب به وبمبادرته المصرية عرض الحائط، ثم ظهر مبارك يُجعجع في خطابه، قلنا لهم : أوقفوا الحرب، قلنا لهم : إن الحرب لن تقضي على المقاومة .
آلآن وقد عصيت الله، آلآن وقد عصيت أمتك وشعبك، آلآن وقد خُنت دينك وأمانتك فعليك من الله ما تستحق . إن صمود المقاومة الإسلامية في غزة أيها السادة أفسدت خطط العدو، ومؤامراته وأحزابه، وأبطلت تحالفاته، كما حصل في صمود صحابة رسول الله r معه أثناء غزوة الخندق فقد كان ذلك سبباً في فك الحصار، وهزيمة الأحزاب، وانفضاض التحالف اليهودي الشركي، وانخذال المنافقين، واندحار المرجفين .
ولا بد من الإشارة هنا إلى ما قاله الدكتور عزمي بشارة :"" أن إدانة العدوان من قبل هؤلاء كانت باتفاق مسبق مع العدو، فلا تناقض بين تنسيق العدوان مع بعض العرب وبين إدانة العدوان الصادرة عنهم، بل قد تكون الإدانة نفسها منسقة. ويجري هذا فعلا بالصيغة التالية "نحن نتفهم العدوان ونُحمّل حركة حماس المسؤولية، وعليكم أيضا أن تتفهموا اضطرارنا للإدانة، قد نطالبكم بوقف إطلاق النار، ولكن لا تأخذوا مطلبنا بجدية، ولكن حاولوا أن تنهوا الموضوع بسرعة وإلا فسنضطر إلى مطالبتكم بجدية " ([11])..
لقد أثبتت حرب لبنان، وحرب الفرقان أن القوة العسكرية والترسانة الجنونية للقتل والدمار لا تحسم المعركة، وإنما الذي يحسمها قوة الإيمان وقوة الصمود، وقوة الصبر والمصابرة . إن الذي يحسم المعركة أيها السادة هو الإنسان :
- إنسان مؤمن بعقيدته وحقه يرى أن حياته بالنصر هي الحياة ، وأن موته بالشهادة هو الحياة فهو بين الحسنيين : نصره حياة، وموته حياة، فهو لا يبالي بكل أطنان القنابل المتساقطة، والصواريخ المتفجرة، والطائرات المزمجرة، وقد سقط على غزة مليون كيلو من المتفجرات من الطائرات فقط، فإذا أضفنا إليه ما استخدم على الأرض فيزيد على مليوني كيلو في رقعة أرض صغيرة ، إن كل هذه المعركة الملتهبة يقابلها المؤمن بقلب من حديد، وعزم شديد، وتصميم لا يحيد .
- هذا الإنسان المؤمن يقابله إنسان مهزوز العقيدة، خائر العزيمة، قد أهلكته المخدرات، ودمرته العاهرات، ليس له هدف واضح، ولا غاية محددة، يلاحقه الموت كشبح مخيف، والقتل كنهاية مرعبة، إن المعركة بالنسبة له جحيم لابد منه، والموت جهنم تنتظره، فهو مغتصب للأرض، ومعتد على العِرض، يعلم أنه ظالم في قتاله، ومجرم في عدوانه، ولذلك فهم جبناء في ساحة المعركة، مع كل ما هم فيه من الحصانة والدروع والدبابات والمدافع، تجدهم يفرون أمام الأطفال الذين يحملون الحجارة، ورغم كل هذه التجهيزات فقد أذاقتهم المقاومة الإسلامية الويلات، وسقتهم كؤوس الموت والرعب والهلع .
إن الدرس الأهم الذي يجب علينا أن نأخذه كحكومات وكمقاومة من هذه الحرب هو : المزيد من الصمود، والمزيد من التصميم، والبحث عن منافذ جديدة ومتنوعة لأسباب القوة، وبناء الداخل بشكل متين، وتهيئة وسائل التحصين، وبناء التحالفات الجديدة ، وتحصيل مختلف أنواع السلاح والعتاد بشتى الوسائل والطرق، والتواصل مع حركات المقاومة في بلادنا العربية والإسلامية وغيرها من البلدان، والتعاون معها لبناء ترسانة القوة والأسلحة على قاعدة الإيمان بالله عز وجل، واليقين المطلق بوعد الله سبحانه وتعالى، والثقة الكاملة بنصره وتأييده، وعلى الحكومات العربية والإسلامية الممانِعة أن تعلم شيئاً مهما هو أن حصنها الوحيد هو الإسلام، وملاذها المتين هو الإيمان بالله عز وجل، وسلاحها الوحيد هو الجهاد في سبيل الله .
ولا بد أن نعلم أن الشرعية الدولية وحقوق الإنسان والأمم المتحدة هذه كلها مصطلحات وهمية لا قيمة لها على أرض الواقع، وأن الذي يفرض نفسه على أرض الواقع هو القوة والصمود، ولذلك حصدت المقاومة بل الأمة كلها نتائج هذا الصمود ، وأحرجت العالم كله، وجعلته يقف معها مناصراً ومؤيداً، إن العالم مع القوي، فالقوة هي الحق أيها السادة في عالم اليوم سواء في القمة العربية أم في أروقة الأمم المتحدة .
إن البعد الإيماني كما علمنا تاريخنا الإسلامي هو العنصر الفعال في تحقيق النصر، وتحرير الأرض والإنسان، وإن الاستعمار لم يخرج من بلادنا إلا تحت ضربات المقاومة الإسلامية ورايات الجهاد، وصيحات الله أكبر، فلماذا لا نسعى جاهدين حكومات وشعوباً إلى تحويل هذا البعد الإيماني إلى ثقافة وطنية وقومية مقدسة، لتكون جذوة وقادة في بث روح العمل والعلم، والصحوة والنهضة والتقدم، ولتحرق أيضاً كل مظاهر التخلف والجهل والتواكلية والفساد والانحلال والنفاق والرياء .
حين تبني الدولة مؤسساتها الإدارية والعلمية والعسكرية على الإيمان الحقيقي بالله عز وجل، والثقة المطلقة بدينه، وحين يكون هذا الإيمان ثقافة وقناعة في كل مجالات الحياة الأسرية والاجتماعية بين القادة وجنودهم، والحكام ومواطنيهم، وفي كل الشرائح والأطياف الاجتماعية والسياسية والشعبية والعسكرية فإن هذا بلا شك سيعود على الوطن كله قائداً وشعباً وأرضاً بالقوة والمنعة والحصانة، وسيتحول هذا الوطن إلى كتلة متراصة، ولبنات متماسكة يشد بعضها بعضاً، وعندئذ لابد أن يتشكّل منها بناء قوي مكين، عصيٌّ على كل أنواع الأسلحة مهما كانت فتاكة ومدمرة .
إن الثقافة الإسلامية والوعي الإيماني، والأبعاد الجهادية لو تم استثمارها وتوظيفها بشكل فعّال وحقيقي في عملية البناء الحضاري، والنهوض الشامل لأثمر ذلك أشجاراً باسقة، وثماراً يانعة من الحياة الكريمة، والتنمية الشاملة في كل مجالات الحياة ومن أبرزها تحرير الأرض والوطن والإنسان : تحرير الأرض من الاستعمار، وتحرير الوطن من المفسدين، وتحرير الإنسان من كل أشكال الإكراه والابتزاز، والظلم والعدوان على حريته وكرامته وحقوقه وإنسانيته .
أيها السادة : "" إن ما حققته هذه المقاومة المتواضعة أمام أعتى الجيوش يُعد معجزة لا مثيل لها، ولست أشك لحظة أن هذه المقاومة ستنتصر نفسيا ومعنويا وروحيا وشعبيا واجتماعيا إن شاء الله عز وجل، وهو الأهم الآن أمام هذه الغطرسة الغاشمة التي ترى أنها لا تقهر. إن استمرار المقاومة لثلاثة أسابيع أمام هذا الكم الهائل من القوة والإبادة والنار بهذا النفس، وهذا الدعم والاحتضان الشعبي سيزلزل عرش الكيان الصهيوني، ويقض مضاجع من يساندونه في أميركيا وفي أوربا، وفي بلادنا ، ويفتح حفرا نفسية في نفسية الإنسان الإسرائيلي المتحصن وراء الطائرات والبوارج البحرية والأسلحة الفتاكة، وهذا هو النصر العظيم الذي يبقى ""([12]) .
ولكن لا بد هنا من همسة في أذن المقاومة : "" إن ضرورات المستقبل الإستراتيجية تتطلب أن تنمي المقاومة روح الشورى مع القادة السياسيين، ومع المجتمع الفلسطيني والعربي والعالمي، وأن تتجاوز منطق الحسابات السياسية ومنطق البحث عن المواقع والسلطة، وأن تتحول إلى تيار شعبي حيّ يرفد المجتمع بالرجال والأفكار والوعي المطلوب لاستمرار الكفاح من أجل الاستقلال، على المقاومة أن تتجاوز حظوظ نفسها لتكون في خدمة الشعب والمجتمع، وأن لا تكون حجر عثرة في مسيرة المجتمع نحو استقلاله بسبب أفعال أو ردود أفعال ضيقة هنا وهناك، إن المقاومة التي لا تتحول إلى تيار وعي، وحالة توثّب وثبات والتزام بالمبادئ الكبرى التي يموت من أجلها الرجال والنساء والأطفال والشيوخ لن تستمر مهما حققت من إنجازات عسكرية وسياسية "" ([13]) .
الدرس الثامن
القتل الصامت
لقد روعتنا أيها السادة مظاهر القتل والإجرام في غزة الأبيّة، ولا يوجد إنسان فيه ذرّة إنسانية إلا وشده عقله، واحترق قلبه لفظاعة ما رأى وشاهد، هناك أناس ماتوا لشدة الصدمة لم تحتمل نفوسهم هذه المناظر، وهناك أناس تفاقمت بهم الأمراض وثارت فيهم الجروح، ويتحدثون عن خمسة آلاف جريح : لكن الحقيقة كما قال الدكتور عزمي بشارة أن هناك ثلاثمائة مليون جريح، لأن كل إنسان عربي جُرحت كرامته، بل لعلي أضيف إلى ما قاله بشارة إن هناك مليار جريح من المسلمين في العالم، ولكن المقاومة بحمد الله عز وجل بانتصارها قد ضمدت الجراح، وداوت القلوب .
ولكن أيها السادة والسيدات لو أننا لم نر ما رأيناه لما خرجنا إلى الشوارع، بمعنى لو أن الجريمة لم يكن هناك إعلام ينقل لنا صورها ومشاهدها المروعة لما رأينا الناس يخرجون بالملايين ينددون بالحرب، ويطالبون بوقفها، إذن فقد كان للصورة المرئية الأثر الأكبر في تحريك الضمير العالمي الإنساني .
فما رأيكم إذن أن هناك قتلاً صامتاً ليس له صور فظيعة تستثير الرحمة، وليس له مشاهد مروّعة تستدر الشفقة، إنه قتل النفوس الأبيّة، ودهس الكرامات النبيلة، وتحطيم المشاعر الإنسانية، وتدمير إنسانية الإنسان في داخل قفصه الجسدي، إنه قتل بلا دماءٍ مسكوبة، وتقطيع بلا أشلاء ممزقة، وتحطيم بلا عظام مكسّرة، نزيف في الداخل لا يراه أحد، وجروح غائرة في القلب لا يشعر بها أحد، وآلام وأحزان لا يلاحظها البشر :
فقاتل الجسم مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر .
ما هو أيها السادة ؟
- إنه الفقر الشديد الذي يلفّ شرائح واسعة في مجتمعنا، إنه الحاجة والعوز، إنه الظلم الذي يتعرض له الناس في حقوقهم وشؤونهم .
- إنه الإهانة التي تتعرض لها من موظف تافه يتحكم بك ذهاباً وإياباً، ويعرقل شؤونك، ويعطل مصالحك، ويدمر وقتك، ويأكل مالك ظلماً وعدواناً .
- إنه المريض الذي يبتزّه الأطباء المجرمون، فلا يتركون جسده فريسة للموت، إلا بعد أن يفترسوا جيبه وماله .
- إنه الاستبداد والتخلف الذي تكتوي به مجتمعاتنا ظاهراً وباطناً في كل جوانب الحياة .
- إنه القهر والقمع الفكري والديني والاجتماعي والإداري الذي نصطلي بناره ليل نهار . وأقصد بالقمع الفكري بعض المفكرين الذين يتلاعبون بفكر الأمة ويعبثون بمقدساتها مدعومين بالإمبريالية والصهيونية العالمية . وأقصد بالقمع الديني أصحاب العمائم السلطانية الذين يحلون الحرام، ويحرمون الحلال مثل شيخ الأزهر سيد طنطاوي وأمثاله. وأقصد بالقمع الاجتماعي : النفاق الاجتماعي الذي يرفع الوضيع، ويضع الرفيع، ويعز الذليل، ويذل العزيز، ويقدّم الرويبضة، ويؤخر الشريف .
أيها السادة والسيدات : نريد الكرامة للإنسان، لأنه إنسان فقط، لأنه ابن آدم، وآدم من تراب، ولأننا جميعاً كذلك . نريد له الكرامة والعزة لأنه عبد لله عز وجل - أياً كان- حتى لو كان ملِك ملوك الدنيا، فهو في النهاية يتساوى مع أدنى البشر مكانة في العبودية لله عز وجل، نريد الكرامة والمساواة للإنسان ليس لأنه وزير أو مدير أو عضو في مجلس الشعب، أو عالم شهير، أو شيخ كبير، أو وجيه جليل، أو دكتور أو مهندس أو محامي أو غني يترهل ثراء، أو لأنه فلان أو ابن فلان، أو يعرف فلان، نريد الكرامة للإنسان فقط لأنه إنسان، هذه الكلمة التي لا يقيم لها أحد وزناً، وقد قال ربنا عز وجل :
] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [ [ سورة الإسراء آية : 70 ] .
الدرس التاسع
التفاؤل والأمل
ومع كل ذلك فالأمة بخير أيها السادة - بحمد الله عز وجل - وهي تدرك قضاياها بشكل كبير، وتعي المؤامرات التي تحاك ضدها، وأخذت تتفاعل وتتملل من هذه الكوابيس الجاثمة على صدورها، ولا بد أن تنتفض لتزيح هذا الركام العفن من التخلف والاستبداد الذي طال حبسه لأنفاسها، وخنقه لطاقاتها، وتعطيله لتقدمها .
وهنا لا بد أن ألفت النظر إلى خطأ يقع فيه البعض حين يعتقدون أن الأمة يجب أن تكون ملائكية، وأن النصر لن يحالفها حتى تتحول كلها إلى المساجد، وأن الناس جميعاً، أو بصفةٍ ساحقة يجب أن يصبحوا عبّاداً تقاة صالحين من الدرجة الأولى، وإلا فإن البلاء سيظل يحيق بنا، والعدو سيبقى متحكماً متغطرساً متسلطاً مسَلَّطاً علينا، وهذا بتصوري نظر قاصر، ورؤية مجانبة للصواب، لأن ذلك لم يحصل حتى في العهد النبوي، فقد كان هناك المنافقون، وضعفاء الإيمان، والمذبذبون، ومع ذلك كان النصر يحالف المؤمنين في كثير من الأحيان، وكانت الخسائر تصيبهم أحياناً، فهذه سنة من سنن الله الكونية، فلا بد من البلاء والابتلاء :
]إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ [ سورة التوبة آية :111 ]
] ألم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [ [ سورة العنكبوت آية : 1 – 3 ] .
ولقد خرج مع النبي r في غزوة أحد ثلث الجيش وكانوا من المنافقين، ولم يردهم النبي r بل انسحبوا من المعركة خذلاناً للمسلمين، ورغبة في هزيمتهم، وقد خسر المسلمون المعركة رغم أنه لم يبق مع النبي r إلا خلصاء الإيمان، وعظماء الرجال، فلماذا ؟
إن السبب هو أن بعض المسلمين لم يأخذوا بأسباب النصر، وخالفوا أوامر النبي r وتعليماته لهم، فكان ذلك درساً لهم، إن الإيمان لا يغني عن الأسباب، كما أن الأسباب لا تغني عن الإيمان، وفي غزوة حنين كان هناك عددٌ كبيرٌ من المذبذبين والطلقاء، ومع ذلك كانت النتيجة هي النصر المحقّق بعد خسارة قصيرة مؤقتة . إن الإيمان والتقوى والعبادة والدعاء عناصر جوهرية في كل المعارك مع العدو الخارجي والداخلي، ولكن الشيء المهم أيضاً والذي يجب أن ندركه جيداً هو أن للنصر والهزيمة أسباباً وسبُلاً وسنناً يجب أن نعرفها جيداً، ونأخذ بها دون تردد، ودون تقاعس، وهذا الدرس قرأناه في بدر وأحد، وحنين، والخندق، واليرموك، والقادسية ومعركة الجسر، وعين جالوت، وبلاط الشهداء وفي نكبة 48 ونكسة 67 وفي أفغانستان، والعراق، وأخيراً قرأناه جيداً في صمود المقاومة اللبنانية، ثم المقاومة الفلسطينية المشرفة في الأيام الأخيرة في حرب الفرقان .
أقول هذا الكلام أيها الإخوة لأن كثيراً من المغفلين أثناء الحرب أخذوا يراهنون على خسارة المقاومة، وليس هؤلاء الذين يراهنون على خسارتها هم من الأعداء، فهؤلاء لا غرابة في ما يذهبون إليه، بل من الأصحاب، ولكنهم أصحابٌ حمقى، وذلك لأن الأمة بنظرهم لا تنتصر ما دام فيها عصاة وخَطَئَةٌ ومذنبون، وهذا أمر عجيب فإذا كان ذلك صحيحاً فكيف انتصرت الأمة في تاريخها ولم يخل زمان من كثير الفساق وأهل الفجور، بل لعلهم دائماً كانوا أكثر من أهل الصلاح والهداية .
إن أهم مشهد يبعث على التفاؤل والأمل أيها الإخوة هو مشهد القادة العظماء الذين سقوا بدمائهم تراب غزة، إنه مشهد رائع يذكرنا بالرعيل الأول فحين نذكر الشهيد المقدام مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين رحمه الله وكيف قضى حياته بالشهادة والصلاة، وفي أي وقت ؟ وهو خارج من صلاة الفجر ! وهو على كرسيه المتحرك، وهو يذكر الله عز وجل، ويسبح بحمد ربه سبحانه وتعالى، ثم نذكر الشيخ القائد المقدام الشهيد البطل الشيخ عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله ، ثم نذكر الشيخ المحدث العالم الداعية الشهيد الشيخ نزار ريان، ثم المجاهد البطل وزير الداخلية الشهيد سعيد صيام وغيرهم من القادة الميامين، فإن هؤلاء القادة الأبطال يذكروننا والله بسيدنا حمزة أسد الله وأسد رسوله، ومصعب بن عمير، وعمير بن الحمام، يذكروننا بأبي عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وأبي دجانة، والقعقاع بن عمرو، وشرحبيل بن حسنة، والمثنى بن حارثة الشيباني .
يذكروننا بالنعمان بن مقرن قائد معركة نهاوند سنة إحدى وعشرين هجرية، وذلك حين بلغ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن الفرس قد جمعوا جموعاً كثيرة بلغت مائة وخمسين ألف مقاتل، فاستشار الناس لقائد يوليه ذلك الثغر ولهذه المهمة ؟ وبعد تداول قال : والله لأولين أمرهم رجلاً ليكونن أول الأسنة إذا لقيها غداً، فقيل : من يا أمير المؤمنين ؟ قال النعمان بن مقرن المزني، قالوا : هو لها !.
وكانت القوات الفارسية بقيادة الفيرزان، وقبيل بدء المعركة قال النعمان : إني مكبر ثلاثاً، فإذا كبرت الأولى، فليتهيأ من لم يتهيأ، ويشد الرجل نعله، ويصلح من شأنه، فإذا كبرت الثانية فليشدّ الرجل إزاره وليتهيأ لوجهته، وليتأهب لوجه حملته، فإذا كبرت الثالثة ، فإني حامل إن شاء الله، فاحملوا معي، وإن قُتلت فالأمير حذيفة، وعد سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة . ثم قال : "" الله اعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك، اللهم إني أسألك أن تُقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عزُّ الإسلام ""، أمّنوا يرحمكم الله .
قال المغيرة : والله ما علمت من المسلمين أحداً يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله حتى يُقتل أو يظفر . وأثناء المعركة أُصيب النعمان فرآه أخوه نعيم، فسجاه بثوب وأخذ الراية قبل أن تقع، وناولها حذيفة بن اليمان، وقال المغيرة : اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يَهِن الناس، ثم هزم الله عز وجل الفرس، وهرب الفيرزان فتبعه القعقاع فأدركه مع نعيم بن مقرن في ثنية همدان، وغسل معقل بن يسار وجه النعمان بن مقرن، فقال النعمان وهو بين الموت والحياة : من أنت ؟ قال : أنا معقل بن يسار، قال ما فعل الناس ؟ قال : فتح الله عليهم، قال النعمان : الحمد لله اكتبوا بذلك لعمر، وفاضت روحه، فقال معقل للجند : هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح، وختم له بالشهادة .
ثم أسرع طريف بن سهم بشيراً بالنصر، وقال لعمر : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعز الله به الإسلام، وأذل الكفر وأهله، فحمد عمر الله عز وجل، ثم قال : النعمان بعثك ؟ قال طريف : احتسب النعمان يا أمير المؤمنين، فبكى عمر واسترجع، وقال : ومن بعثك ويحك ؟ قال طريف : فلان وفلان حتى عد له ناساً كثيراً، ثم قال له وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فبكى عمر وقال : لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم .
وسُمّيت وقعة نهاوند فتح الفتوح وفُتح بعدها : الري، وطبرستان، وأذربيجان، وكرمان، ومكران، وخراسان . ونحن نرجو من الله عز وجل أن يكون انتصار غزة فتح الفتوح في هذا العصر أيضاً ، تفتح بعده القدس وغيرها من بلاد المسلمين إن شاء الله عز وجل . إن القادة أيها السادة الكرام حين يكونوا بمثل هذا المستوى من الشجاعة والإقدام، والحرص على النصر أو الشهادة، واقتحام الموت والأخطار فإنهم أهل للنصر ويستحقون ذلك الفتح، وبإذن الله عز وجل سيكون ذلك نواة لفتوح قادمة قريبة بعونه تعالى .
والأمل معقود بهمة السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد حفظه الله، فقد وقف وقفة صامدة مشرفة دائماً مع المقاومة، بالأمس في لبنان، واليوم في غزة المباركة، وعُقدت قمة الدوحة بجهوده وجهود أمير قطر لتكون سداً أمام المستسلمين، وتكلم السيد الرئيس بكلام يملأ العقل والسمع، وفي الوقت الذي كان مبارك يمنع جهود الإغاثة الدولية من الدخول إلى غزة، ويحبس الأطباء والمتطوعين والطائرات القطرية وغيرها على معبر رفح، وفي الوقت الذي كان محمود عباس يمتنع عن حضور القمة خوفاً من أن يُذبح من الوريد إلى الوريد، أين هذا الجبن من قول أبي ذر رضي الله عنه : " لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إلى رقبته – ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي r قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها "" وفي الوقت الذي كانت المبادة المصرية تُطبخ في تل أبيب كان السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد هو الرجل الذي يصول ويجول لإنجاح قمة الدوحة، ويبذل كل جهوده لإيقاف العدوان، ويقول بملء فيه : لا، لا للعدوان، لا للجرائم والمجازر، نعم وألف نعم للمقاومة ، وهذا الموقف من السيد الرئيس يذكرنا بقول سيدنا عمر بن الخطاب "" يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول : لا ، بملء فيه "" . وقد قالها رئيسنا دائماً، وكان شجاعاً وحكيماً في موقفه عندما أعلن أن المقاومة والجهاد فرض عين على الرجال والنساء والشيوخ والأطفال كلٌ يؤديه بقدر وسعه، وكأنه يهتف بلسان قطري بن الفجاءة :
أقول لهـا وقـد طارت شعاعا من الأبطـال ويحك لن تراعي
فإنـك لـو سألـت بقـاء يومٍ على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبراً في مجال الحـق صبراً فــما نيـل الخلود بمستطاع
وأختم بقوله تعالى :
] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [ [ سورة آل عمران آية:137 – 140 ]
وقال عز وجل : ] وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [ [ سورة النساء آية : 104 ] .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
الهوامش :
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) شكراً كتائب المقاومة – د. نجيب بن خيرة – موقع الشهاب .
([2]) اللعب على المكشوف للأستاذ فهمي هويدي – موقع الشهاب .
([3]) لقاء مع الدكتور عزمي بشارة – موقع الجزيرة نت .
([4]) جزء من حديث ورد في البخاري باب علامات النبوة رقم : 3411 . ومسلم باب الأمر بلزوم الجماعة رقم : 4890 .
([5]) جزء من حديث ورد في الترمذي رقم : 2404 وانظر جامع الأصول رقم : 2650 .
([6]) : انظر لمكيافللي – الأمير ص 136 ، 159 ، 169 ، 94 ، 101 ، 103 ، 147 ، 148 وبرتراندرسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 29 والغرب والعالم – كافين رايلي ص 13 .
([7]) انظر : مكيافللي _ الأمير ص 147 ، 140 ، 149 وبرتراندرسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 30 .
([8]) صحيح مسلم رقم : 4906.
([9]) شعب الإيمان للبيهقي (ج 6 / ص 62) .
([10]) سنن الترمذي رقم : 2174 والنسائي رقم : 4209 قال عنه الألباني صحيح .
([11]) الدكتور عزمي بشارة – موقع الجزيرة نت .
([12]) لحظة غزة – الخلل وآفاق المستقبل على خط المقاومة الرادعة – الحاج قرزا العيوني – موقع الشهاب .
([13]) السابق نفسه .
دروس غزّاوية
د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة – جامعة دمشق
Ahmad_altan@maktoob.com
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد :
] وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ [ سورة آل عمران آية : 166 – 173 ] .
فهذه جملة من العبر والعظات التي استخلصتها من حرب الفرقان التي دارت رحاها بين المقاومة الإسلامية والعدو الصهيوني في أرض غزة الطاهرة .
ولقد كانت متابعة الأحداث والأخبار التي تطل علينا بها الفضائيات ملهمة للشعراء والأدباء والكتاب ومن باب أولى أن تكون ملهمة للباحثين، فقد جادت نفسي بهذه الدروس التي لم أشأ أن تظل حبيسة النفس والورق وإنما أردت أن أبث إخواني مكنون قلبي وعقلي، فإن أكن مخطئاً فمن نفسي ومن الشيطان، وإن أكن مصيباً فبتوفيق من الله عز وجل .
"" من كان يدري أنه من قلب المحنة تخرج المنحة ؟ ومن كان يدري أن عذابات إخواننا في غزة تصنع الانتصارات العِذاب ؟ ومن كان يدري أن جرح غزة ضمد جراحات كثيرة في جسم الأمة استعصت على العلاج، وحار أطباؤها ويئسوا من دوائها .
لقد استطاعت كتائب المقاومة أن تحشد الشعب الغزاوي وراء خيار المقاومة ويسطر الشعب بطولات وأمجاد جمعت في أيام ما تفرق في عقود من السنين، جماهير العرب والمسلمين من الخليج إلى المحيط تهتف بهتاف واحد، وتجأر إلى الله بدعاء واحد، وتُسمع صوتها المبحوح إلى المتخاذلين بتقريع واحد . من كان يظن أن إخواننا في تركيا يخرجون بالملايين في عاصمة الخلافة الغاربة، وهتافهم يشق عنان السماء ؟
شكرا كتائب المقاومة فقد فضحتم بصمودكم الأنظمة العميلة، وكشفتم عنها غطاء العمالة والتبعية، وهي تلهث وراء الحلول التي ترضي أسيادها .
شكرا كتائب المقاومة، فقد انجلى عن العيون وهم المنظمات الدولية التي تنعق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فلا ديمقراطية بعد اليوم، وهي اليوم تساوي بين الجلاد والضحية، ويتصامم سمعها عن صرخات المستغيثين، وأنين الهلكى تحت الحديد و النار ! وأيقنت الأمة بعد اليوم أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها، وأن كل أمة ضائع حقها سدى، إذا لم يؤيد حقها بالمدفع والصاروخ !! "" ([1]).
الدرس الأول
اللعب على المكشوف
يتحدث الكثيرون أن حرب غزة كشفت كثيراً من العمالة التي كانت متسترة بالوطنية أو السلام أو غير ذلك، وأنا أستغرب ذلك لأن العمالات والخيانات مكشوفة منذ عقود وعقود عديدة، وإذا كنا لم نكتشف ذلك إلى الآن فهذه مصيبة أخرى . مشكلتنا أننا ننسى فحرب لبنان، وحروب الخليج العديدة، ومن ثم غزو أفغانستان والعراق، ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية في أوسلوا ، ومسلسل التنازلات المستمر، كل ذلك نسيناه، إن مسلسل الخيانات والمؤامرات مكشوف ومفضوح ولا يحتاج إلى حرب غزة الحالية فقد مرت على هذه الأمة غزات وهزات .
الشيء الذي يمكن أن يقال هنا هو أن الخيانة سابقا كانت بطريقة دبلوماسية أكثر، أما في هذه الأزمة فقد أصبح "اللعب على المكشوف " على حد تعبير الأستاذ فهمي هويدي . فلم يعد حسني باراك - لا بارك الله فيه - يشعر بالخجل وهو يظهر على الشاشة على أنه الحليف الأول لإسرائيل في هذه الحرب، فهو يتحكم بمعبر رفح لمنع الإمدادات عن الفلسطينين، بينما إسرائيل تستخدم أعنى ما لديها من أسلحة .
أصبح أولمرت يعلن أمام جنوده أن بعض العرب يصلون من أجل أن ننتصر على حماس، وأصبحت الجولات المكوكية بين القاهرة وتل أبيب متسارعة جداً تسابق أرتال الطائرات التي تقصف، والقنابل التي تتساقط، والصواريخ والدبابات التي تقصف، والهدف هو سرعة القضاء على المقاومة، سرعة إنجاز المهمة قبل أن تتحرك الشعوب . وليست حماس هي الهدف، وإنما الهدف أكبر من حماس، إنه القضاء على المقاومة، وإركاع الشعب الفلسطيني كله، واقتلاع القضية من جذورها .
في خطاب هذا الزمان أصبحت المقاومة هي المشكلة وليست الحل، لذلك فإن السباب والشتائم التي توجه إلى دعاة الممانعة أفراداً كانوا أو جماعات، لا يقصد بها سوى الموقف الرافض للتسليم، وكما مُنح ياسر عرفات جائزة نوبل لأنه اتفق مع اسحاق رابين، ثم جرى حصاره وتسميمه وقتله لأنه لم يسلم بطلبات باراك، فإن الأسلوب ذاته جرى تعميمه على العالم العربي، فمن استسلم فاز بالرضا، ومن امتنع حلت عليه اللعنة. ذلك شديد الوضوح في الساحة الفلسطينية الآن، فالسلطة في رام الله مشمولة بالرضا والهبات والمساعدات، لأنهم قبلوا بقواعد اللعبة، والمقاومون في غزة محاصرون ويراد لهم أن يلقوا مصير عرفات، حيث لا فرق بين القتل بالسم أو القتل أثناء المذبحة بالصواريخ والطائرات .
ولكن من كان يتصور أن يشارك الطرف العربي في حصار غزة وتجويعها؟ ومن كان يصدق أن يهب بعض الناشطين الأوروبيين لإغاثة المحاصرين عبر البحر، في حين يغلق «الإخوة العرب» طريق البر، ولا يفتحون المعبر إلا بعد أن يتحول الأمر إلى فضيحة عالمية؟ من كان يصدق أن تتحرك القوافل من قلب القاهرة لإغاثة المحاصرين في غزة، ثم تفاجأ بأرتال الشرطة تقطع عليها الطريق، وتجبرها على العودة من حيث أتت ! ([2]) .
كل البشر يطالبون بفتح معبر رفح - البشر فقط - لكن مبارك دمه بارد وثقيل، ووجهه سميك، وجلده صفيق فهو لا يرى دماء الأطفال، والأشلاء المنثورة في كل مكان، وآهات وصرخات الأمهات، وإذا رآها فهي لا تعني له شيئاً. "" حتى الأعداء يعالجون الجرحى في الحروب، وحتى الأعداء يسمحون بدخول قوافل الأدوية والغذاء ، هذا ليس عملا تضامنيا، ولا هو حتى أضعف الإيمان " ([3])
لقد كُتبت في هذا الرجل - إن كان رجلاً - في الصحف والمجلات والإنترنت آلاف الصفحات ولو قام قائم بجمعها وتبويبها لصنع خيراً، وذلك لتكون سيرة ذاتية بحق لهذا الممسوخ، ولتكون لعنة التاريخ والأجيال والأمم لصيقة به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن ماذا يضيره ذلك وهل تهمه صورته في التاريخ وهل يأبه لما ستتحدث به الأجيال المقبلة.
إن كثيراً من الحكام العرب يتوارثون فيروسات الخيانة والغدر، ولقد حقنهم الاستعمار بلقاحات ضد الكرامة، وضد الشهامة، وضد النخوة، فلا تؤثر فيهم المناظر المؤلمة، ولا تجرح لهم إحساساً، ولا تلامس لهم شعوراً، ولعلهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم بمشاهدة هذه المناظر، إن منظر أشلاء الأطفال ودمائهم وصرخاتهم وآهات النساء مقرفة بالنسبة لهم، إنهم يعكفون على أفلامهم الإباحية وسهراتهم المجونية فهم في واد والشعب في واد آخر ، إنهم كالدمى المتحركة ، شخصيات كرتونية تتحكم بها اليد الأمريكية والصهيونية على مبدأ : إفعل ولا تفعل ، فنجد كل واحد منهم مشغول بكبح شعبه، وليس لديه أي وقت ليتفرغ لغزة، وماله ولغزة، إن عينه ساهرة على الكرسي، وزبانيته مشغولون بالقمع والاعتقالات والتجويع والسلب والنهب، ولذلك من العبث أن ننتظر من هؤلاء المتخاذلين شيئاً يخدم الأمة إن على المستوى القريب أو البعيد، إن على المستوى الواقع أو الأمل . فإذا كان قريباً من ستة آلاف جريح وأكثر من ألف وثلاثمائة شهيد، وآلاف المشردين والمُعدمين لا تستحق منهم أن يجتمعوا ليتداولوا وليتحاوروا فماذا يُنتظر منهم إن اجتمعوا .
إن شهداء فلسطين يخاطبوننا أن نسير على دربهم فلا يكفي أن نبكيهم ونرثيهم، ثم نمضي في طريق آخر .
الدرس الثاني
الاستعمار : من الباب إلى الشباك
حين خرج الاستعمار تحت ضربات الشعوب العربية والإسلامية، واضطر أن يغادر بلادنا مهزوماً مدحوراً، فكّر بطريقة أخرى للاستعمار، وبينما كنا نحن مشغولين بفرحة الاستقلال والتحرير كان الاستعمار قد أحكم خطة جديدة ليظل جاثماً على صدورنا فترة أطول دون أن نشعر، ونجحت الخطة .
وتتمثل الخطة في مقولة أحد قادة الاستعمار الفرنسي للجزائريين حين خرجت فرنسا من الجزائر: أيها الجزائريون تريدون الاستقلال حسناً ؟! تريدون منا الخروج حسناً ؟! سنخرج من الباب وندخل من النافذة .
وحين خرجت جحافل المستعمرين من بلادنا واحتفلنا بالجلاء والاستقلال حقق ذلك لدينا كثيراً من الرضا النفسي، والشعور بالنصر، فوضعت الشعوب سلاحها، وما كان لها أن تضعه، لأن عدو الداخل أشد خطراً وفتكاً من العدو الخارجي، ألم يقل جبريل عليه السلام للنبي r بعد هزيمة الأحزاب : هل وضعتم السلاح ؟ قال : نعم قال جبريل : فإنا لم نضعه اذهب إلى هؤلاء وأشار إلى بني قريظة . فأوعز النبي r لصحابته : " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة " . وكان عقاب بني قريظة قاسياً أزعج إخوانهم العلمانيين المعاصرين اليوم، ولطالما تباكوا عليهم وندبوا مصيبتهم، ولكن عقاب بني قريظة كان مجدياً وناجحاً فقد خرس اليهود بعد ذلك قروناً طويلة – كما يقر أحد المستشرقين اليهود - ولم تقم لهم قائمة، حتى استنعجتنا الأمم فتجرؤوا علينا اليوم .
لقد نجح الاستعمار إذن في إيجاد البديل في بعض بلادنا العربية والإسلامية ""من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا "" ([4]) "" مسوحهم مسوح الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب " ([5]). وأشعرنا عدونا بالاستقلال، فرضينا نحن بذلك، وقد حصّل هو مصالح عديدة :
الأولى : أخرج جنوده عن ساحة الخطر وأعادهم إلى بلادهم .
والثانية : أوهمنا بالتحرر والاستقلال وأرضانا بالصورة الظاهرة لذلك، فوضعنا السلاح قانعين مطمئنين .
الثالثة : تصله مكاسبه وثرواته، وحصته كاملة غير منقوصة، من النفط وغيره دون أن يقدم بإزائها خسارة تذكر، أي : مغانم بلا مغارم !! .
الرابعة : جعل بلادنا أسواقاً لمنتجاته وبضائعه، وأفواهنا مستهلكة لمأكولاته ومشروباته .
الخامسة : جعل بلادنا دائماً متوترة ومتنافرة بسبب الانفصام الحاصل بين الحكام والمحكومين . فقد خضع هؤلاء الحكامُ المتخاذلون خضوع الرقيق لسيده، فهم مجرد ولاة، ومنفذين ومطيعين ومخلصين لأسيادهم المستعمرين، إلا أن أسماءهم فقط مختلفة فبدلاً من الأسماء الأجنبية نجد حسني مبارك ، وعبد الله ، وزين العابدين .
الدرس الثالث
المراوغة المكيافللية
ومن هنا لا بد من حمل السلاح من جديد لكي نتخلص من هؤلاء الذين يخدمون الاستعمار أكثر من الاستعمار المباشر نفسه، إنهم يكبحون الشعوب باسم الوطنية أو القومية أو غير ذلك من الشعارات الجوفاء، إن ولاءهم كاملٌ لأعداء هذه الأمة، وهم حريصون كل الحرص على إزهاق روح التحرر فيها، فلا يسمحون بأي بصيص من نور أو أمل للحرية أو النهضة، وقد أعدّهم أسيادُهم الأوربيون لذلك إعداداً جيداً ثقافياً وتكتيكياً ومادياً فهم إذا كانوا متخلفين في كل شيء إلا أنهم متقدون في عدة فنون :
- فن المراوغة المكيافللية فهم يبتسمون على الشاشات، ويضربون شعوبهم في معتقلاتها بأيدي من حديد .
- وهم يتظاهرون بالقومية والوطنية ، وتُرفع لذلك الشعارات الطنانة، ولكنهم يبعثون بثروات الشعوب لأعداء هذه الأمة .
- وهم يتظاهرون بحماية تاريخ الأمة وتراثها ودينها ، ويرفعون الشعارات الدينية، ويحضرون الحفلات الدينية ويصلون ، ويبنون المساجد ، ويرفعون شعارات حماية الدين والوطن، ولكن في الخفاء يسخرون من كل ذلك ، بل إنهم يدنسون مقدساتها ويدمرون مناهجها ، ويسدون منافذ الإصلاح ويفتحون بوابات للفساد ، والجهل والمرض ، والجوع والقمع والكبت .
- وطبعاً يوظفون لذلك كل الفاسدين، ويجعلون منهم رموزاً ، ويلبسونهم ألبسة النخبة ، ويدهنونهم بألوان من مراهم التلميع، ومساحيق التجميل، لكل الشرائح الاجتماعية ، فللمتدينين شيوخ السلطان بعمائهم الضخمة ، وجببهم العريضة ، وللمثقفين نُخبٌ من المتفلسفين العملاء المدربين على حبك الإشكالات، وسفطة الحقائق، وتحليلها بأشكال تخدم التوجهات السلطانية وتقدم بعض التسكين للشباب الذي يُخشى أن يكون طموحاً . أما لعموم الناس فيقدمون النجوم الإعلامية المختلفة من فنانين وفنانات، وممثلين وممثلات، وكثيراً ما يُفتح المجال لهؤلاء للنقد غير المحدود ، لأنه في النهاية مجرد تمثيل، لا يضر بأمن السلطان ، ويساعد المشاهدين على تبديد الشحنات المكبوتة ، واستفراغ الغصات المحزونة .
ولذلك فالحكام العرب اليوم هم مجرد ولاة وخدم ينفذون الأوامر بمجرد الإشارة ولا حاجة للتصريح، وهم لا يفكرون بشعوبهم، ولا يعيشون معهم، ولا يهمهم إن كنت هذه الشعوب جائعة أم جاهلة أم مُضطهدة، أو لها مستقبل أو لها تاريخ، لأن الهم الأكبر بالنسبة للحكام المتخاذلين - وأرى أن هذه الكلمة قليلة بحقهم لأنهم، لم يكونوا في أي يوم حريصين على مصالحها ومستقبلها - الهم الأكبر هو الحفاظ على الكرسي والكراسي الوريثة، له ولذريته ولحاشيته وزبانيته المقربين .
ولذلك تجد أن الإبداع الوحيد في بلادنا العربية والذي يتميز به الحكام العرب عن بقية حكام العالم هو قدراتهم الفائقة في اختراع وسائل الكبت والتعذيب والترويع والاستبداد والتجهيل، ولو كانت هناك جوائز تُعطى لمثل هذا اللون من الإبداع فأعتقد أن حكامنا هم أحق الناس به .
ولا شك أن من لوازم هذه التميز هو قدراتهم النادرة على الخداع والتضليل والكذب، فيعكسون الصورة الجهنمية الحقيقية لهم إلى صورة فردوسية مزيفة، إنها في الحقيقة وصية مكيافللي لتلاميذه النخلصين ، "" يجب على الحاكم أن يكون ماكراً مكر الذئب ، ضارياً ضراوة الأسد ،غادراً غدر الثعلب ، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ، وأن يرتكب الشر والفظائع أحياناً- ، ويقترف الإساءات ويسير على مبدأ " فرق تسد " ، من أجل المحافظة على سلطانه "" . ([6]) ويضيف الأستاذ مكيافللي "" ولكن على الحاكم في نفس الوقت أن يُخفي هذه الصفات المرذولة ، ويكون دَعِيّاً ماهراً ومرائياً كبيراً وأن يحسن التظاهر بالأوصاف الحميدة والتدين الشديد "" ( [7]) .
ولذلك نجد الحكام يحضرون المناسبات الدينية وإلى جوارهم أصحاب العمامات السلطانية يسبحون بحمدهم ويباركون جهودهم ، ويدعمون جبروتهم ، إن فلسفة مكيافللي وكتابه الأمير قد وجد صداه في حكامنا " الميامين " فقد حفظوه عن ظهر قلب، لأنه كتابهم المقدس ، وقد نفذوا تعاليمه بإحكام وأمانة .
الدرس الرابع
كلمة حق عند سلطان جائر
ومن هنا فالحديث الدائر منذ زمن عن مشروعية الخروج على الحكام، وهل هم كفرة أم مسلمين أم منافقين أم شياطين أم سعادين ؟! لا أرى أنه سار في الطريق الصحيح، لأن حكامنا يجب الخروج عليهم حتى لو أقاموا الصلاة، وأدّوا الزكاة، وحجوا إلى بيت الله الحرام، لأن هذه المظاهر الدينية لا تشكل خطراً على مصالحهم، ولا مصالح أسيادهم، بل لعلها تعزز أهدافهم وغاياتهم حين تتحول إلى شكليات وحركات خالية من المضامين الجوهرية.
إن الحكام العملاء والمتآمرين على واقع الأمة ومستقبلها يجب الخروج عليهم، ورفع السيف في وجوههم، لأنهم خانوا أمتهم، وسرقوا خيراتها، ونهبوا ثرواتها، ودمروا شعوبهم، وحطموا مبدعيها، وكبحوا طموحاتها، وانحازوا إلى أعدائها وتعاونوا معهم في القتل والتجويع والتجهيل والقمع والاضطهاد، لكي تظل الأمة ضعيفة خانعة مُستذَلّة لا تجد أي نافذة للنهوض والتقدم .
وكم هم مخطئون أولئك الذين يستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أُمِّ المؤمنين أم سلمة هند بنت أَبي أمية حذيفة رضي الله عنها ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قَالَ : (( إنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعرِفُونَ وتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ )) قَالوا : يَا رَسُول اللهِ ، ألا نُقَاتِلهم ؟ قَالَ : (( لا ، مَا أَقَامُوا فيكُمُ الصَّلاةَ )) ( [8]) .
لأن إقامة الصلاة تعني : شيوع العدالة ، والأمانة والوحدة ، والاعتصام بحبل الله المتين ، والنهي عن الفحشاء والمنكر ، وتعزيز الأخلاق الفاضلة ، وكبح المفسدين ، وصدّ المعتدين ، وحراسة الثغور ، وحماية البلاد ، وتوثيق عرى الإيمان ، وعمارة الأرض بالخير، والعقل بالعلم، والمجتمع بالفضيلة، وليس المقصود بإقامة الصلاة هو شكلها الظاهر ، وحركاتها الرياضية، فهذه يفعلها المنافقون وغيرهم ما دام ذلك يعود عليهم ببعض المكاسب والمصالح، وقد يسأل هنا سائل أو يعترض معترض بأن السياق في نص الحديث يُفهم منه أن طاعة الحكام واجبة حتى وإن كانوا ظلمة وعصاة وفساقاً وغير ذلك، وقد يَستدل المعترِض لذلك بحديث "" تسمع و تطيع للأمير، فإن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع"" ([9]). فأقول هنا لكل هؤلاء الذين يستخدمون الدين لإسكات الثائرين، ويوظفون النصوص لكم الأفواه وتثبيط الهمم، إن الإسلام برئ ومن هذا الفهم السقيم، والتوظيف اللئيم، لأن مقصد الحديث هنا هو الحث على التضحية بالمصالح الشخصية والفردية، لأجل مصالح العامة الجماعية، وذلك حين يكون الحكام فساقاً ومنحرفين في سلوكهم الشخصي وذواتهم كأفراد، فهذا لا يضيرنا ما داموا يقيمون الصلاة ، ويحكمون بالعدل، ويقمعون الظلم، ويدافعون عن مصالح الأمة ويسهرون على تحقيق أمنها، ويحرصون على خيرها وبرها، وتحقيق رسالتها في التقدم والحضارة والخيرية، عندئذ ما لنا ولهم إذا كان فسقهم في داخل قصورهم فحسابهم عند ربهم.
كذلك بالنسبة لحديث وإن أخذ مالك وضرب ظهرك، فهو لمن يظلمه الحاكم بشكل شخصي وفردي لسبب من الأسباب، أو لظنٍّ من الظنون، أو لتوهمٍ أو وشاية، ينصحه النبي r أن يصبر ويتجاوز ويتنازل عن حقه درءاً للفتنة العامة، ويضحي بمصالحه الشخصية في سبيل المصلحة العامة، وذلك حين تكون الأمة رخيّة هنيّة مزدهرة آمنة مطمئنة في عمومها، وحكامها حراس أمناء لمصالحها، وحماة أشداء لأمنها ودينها وحضارتها .
أما والأمة اليوم يُنكِّل بها حكامُها، فالشعوب مضطهدة جائعة، والمعتقلات غاصّة ممتلئة، والخيرات منهوبة، والثروات مسروقة، وأعداؤنا يقاسموننا على رغيف الخبز، وحفنة البرغل، والطاقات مهدرة بل مقموعة، وأهل الفساد والانحراف يمرحون، وأهل الصلاح والهدى مُستذلّون، ودماء المسلمين تسيل في كل مكان، وأشلاء أبنائهم ونسائهم تُدفن تحت أطنان من القنابل والدمار، أما والأمة كذلك : واقعٌ مظلم ، ومستقبلٌ مجهول، وإبداعٌ مقتول، وعقولٌ بائسة، وأرواحٌ يائسة، فكيف لنا أن نسكت ؟! على أصحاب العمائم السلطانية أن يخرسوا ويكفوا عن التصفيق والتمجيد ليحصلوا على بعض الفُتات، وكفاهم كذباً ونفاقاً وتحريفاً للدين فالنبي r الذي حرر العرب من ترهات الجاهلية والوثنية والذلة والاستكانة والفرقة، وأخرجهم من الظلمات إلى النور لا يشرّع للخنوع، ولا ينصح بالخضوع للجبابرة والعتاة لأنه ([10]) هو القائل r : " وقد سُئل أيُّ الجِهادِ أفضلُ ؟ قَالَ : "" كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ .
الدرس الخامس
حرب الكلمات والصور
لقد شاهدنا مظاهر القتل والدمار في غزة، وشاهدنا الجروح المفتوحة ، والأجساد الممزقة، والدماء النازفة، شاهدنا دموع الأمهات، وسمعنا صرخات الأطفال، وكثيرون منهم لم تكن لهم صرخات لأنهم ماتوا، ومزقتهم القنابل، وأحرقهم الفوسفور، لاشك أيها السادة أنه منظر مريع، وحادث جلل، ذرفت له عيوننا، وتقطعت لهم أكبادنا، بل إن العالم كله وقف مذهولاً لهول ما يرى ويشاهد، وخرجت الجماهير في مختلف أنحاء العالم تعبر عن تضامنها مع أهل غزة، وتندد بالمجازر المروعة، ولا شك أن خروج العالم عن صمته، وصيحات الشعوب والأمم المختلفة، ونداءاتها لإيقاف المحرقة الصهيونية كان السببُ الرئيسُ فيه هو مشاهدتهم الصور المروعة للجريمة، والدمار الهائل، والدماء النازفة، وإن نقلَ صورة المأساة، وإبراز الشكل الوحشي للعدوان، وكشف مسرح الجريمة بكل فظاعتها كان عاملاً أساسياً في تحريك الشعور العالمي، وإيقاظ الضمائر النائمة، وبهذا الصدد فقد قامت قناة الجزيرة بجهود جبارة لنقل الأحداث كما هي للناس رغم وحشيتها، وما قامت به هذه القناة هو شكل من أشكال الجهاد العظيم في هذا العصر، الذي أصبح الإعلام فيه يمارس ألواناً من التضليل والخداع، ويكفي أن تُطل على بعض العناوين والمصطلحات في قناة الجزيرة ، وقناتي " العربية " العبرية ، و" الحرة " لترى الفارق الكبير في تغطية الأحداث في العدوان على غزة :
ففي الجزيرة : الحرب على غزة ، بينما في الحرة : الحرب في غزة . قناة الجزيرة تعرض مظاهر الوحشية والهمجية، بينما قناة الحرة تعرض صوراً لأطفال يلعبون في الأراجيح وحولهم جنود صهاينة يلاعبونهم .
أما قناة العربية " العبرية " فقد لعبت بالوعي العربي إلى أبعد الحدود، وعبثت بالحقائق دون خجل وضربت بالقواعد المهنية للعمل الإعلامي عرض الحائط ، وذلك من خلال العناوين الرئيسة للأخبار، وشريط الأخبار العاجلة حتى أن المراسلين يُكذّبون أحياناً ما يتكلم به المذيعون : وقد ثار أحد موظفيهم على هذه السياسة المتحالفة مع العدو فكتب يبين محاور هذه السياسة :
- فالشهداء كلهم قتلى، ولا تذكر كلمة شهداء نهائياً، وقد حذفت هذه الكلمة من قاموسها نهائياً سواء كانوا أطفالاً أم رجالاً أم نساءً .
- كل ما حدث من قتل وعدوان لم يوصف في العربية بأنه مجازر أو عدوان، فلا يُسمح للمذيعين أو المراسلين بوصف ما يجري بهذه الكلمات أبداً، وإنما يتم تخيُّر الكلمات المناسبة مثل هجوم واشتباكات . وكلمة هجوم تجعل المستمع يتعاطف مع البطل المهاجم ويتحالف معه كما يحصل في الأفلام .
- كل القنوات تصف ما يجري بأنه مقاومة وأن المقاومة تتصدى، بينما العربية تقول : مسلحي حماس يشتبكون .! وكما تعلمون فإن كلمة مسلح تطلق على المجرم الذي يسطو على منزل أو بنك أو غير ذلك .
- وأيضاً قناة العربية منذ الأيام الأولى حسمت المعركة فأظهرت صوراً للجنود الإسرائيليين يتقدمون باتجاه غزة دون مقاومة تُذكر وتظهر مجموعة من الجنود المستريحين، وآخرون راجلين، وآخرون يتقدمون بالدبابات، وقد افتضحت هذه التقارير فيما بعد لأنه تبين أنهم ليسوا في غزة، وإنما في قطاع غزة، وبين الأمرين فرق كبير، فهم في ضواحي قطاع غزة، والمقاومة رابضة في خنادقها تنتظرهم لتذيقهم الويلات، وقد كان ذلك بحمد الله عز وجل . وقد قامت مراسلة العربية حنان المصري بتكذيب المذيعين على الهواء، فقد ظهر خبر عاجل يقول بأن الدبابات الإسرائيلية تتقدم باتجاه داخل غزة، وقد خرجت المراسلة حنان المصري عن صمتها وقالت في رسالتها بأن هذا الخبر " غير دقيق " و " مخالف للواقع " وقالت إن هذا يتسبب في إثاره هلع الناس علينا أن ننتبه إلى هذا .
- وقد استضافت قناة العربية نايف حواتمة، وسلام فياض، ومحمد دحلان المعروف بسجله الإجرامي والتآمري وأطالت اللقاء معه وهو شخص غير مرغوب فيه عند الفلسطينيين، ولكنها رسالة توجهها قناة العربية لللمشاهدين بأن دحلان سيدخل غزة على ظهر الدبابة الإسرائيلية وستنتهي المقاومة .
- كما أن الأخبار والتحليلات كلها منحازة لصالح العدو الصهيوني، ويراد منها الفتّ في عضد المقاومة، وكسر شوكتها، وقطع أمل المشاهد العربي، وإحباط شعوره، وتثبيط همته وعزيمته . حتى أن العربية أصبحت مرجعاً للقنوات الصهيونية : فتنقل عنها بعض الأخبار التي تسثمرها في كسب التأييد الشعبي للحرب في إسرائيل .
- أما المظاهرات فقد ظلت القناة ثلاثة أيام صابرة لا تظهر أي مظاهرات، ويبدو الحدث في غزة وكأنه حدث عادي لا يثير الاهتمام عند الناس، ثم تحت ضغط الواقع اضطرت القناة إلى إظهار المظاهرات، ولكن بشكل انتقائي، لا يتم فيها التركيز على المشاهد المؤثرة والمتعاطفة مع المقاومة، بل يتم اختيار التركيز على نقمة الناس على المجازر، كما يتم لفت النظر على أن هذه المجازر تسببت فيها المقاومة أعني مسلحي حماس .
فقد قرر مديرو المعركة مع غزة في قناة العربية أن يكون الهدف هو إحباط المشاهد العربي وتثبيطه، ويتم ذلك من خلال ثلاثة محاور : المحور الأول : الصور والمشاهد المنقولة . المحور الثاني : الكتابات النصية التي تظهر على الشاشة، وشريط الأخبار العاجلة . المحور الثالث : التعليقات التي تجري على الأخبار من قبل المحللين والشخصيات التي يتم انتقاؤها واستضافتها بخبرة شديدة وبحذر بالغ .
بينما القنوات المستقلة تكشف الصورة على حقيقتها وتُبرز المأساة على مرارتها، وتُنوّع في اختيار الأنماط المؤثّرة، والنّماذج المعبّرة عن واقع مؤلم وجريمة بشعة . فمن الكلمات المؤثرة التي سمعناها في المظاهرات التي نقلتها لنا قناة الجزيرة :
مظاهرة في فرنسا عبر المراسل في نهاية رسالته بكلمة ختامية قال فيها : وهكذا نجد أن هناك من يتظاهر لدعم غزة، وأن هناك من يتظاهر بدعم غزة، والمعنى واضح فهو يقصد بعض الأنظمة العربية التي تتظاهر بدعم المقاومة، ولكنها في حقيقة الأمر طرف في المؤامرة الداعمة للحرب، والحريصة على مسح المقاومة من الخريطة، وهذا كان واضحاً في موقف الحكومة المصرية والسعودية . ولسان حال الشهداء يقول لهؤلاء :
لا ألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادا
مظاهرة أخرى في السودان تحدثت فيها امرأتان قالت إحداهما افتحوا لنا المعابر مش عايزين كراسيكو، نريد أن نموت في غزة ، وصورتها وهي تبكي في مخيلتي، أما انفعالاتها المرافقة لصرختها فلا يمكنني نقلها لكم . أما المرأة الثانية فقالت كلمة لم أملك إلا أن أصيح بأعلى صوتي : الله أكبر : قالت وهي تلوح بخمارها : أقول للحكام العرب خذوا خماراتنا، إلبسوها واتركونا نحارب، وخليكوا على كراسيكوا، إنكم تجلسون على عظام الأطفال، وفي مظاهرة أخرى في القدس صاح أحد العلماء : وامعتصماه، وإسلاماه ! ولكن صرخاته وصيحاته التي أوصلتها لنا قناة الجزيرة لم تجد ذلك المعتصم الذي يرد عليه بالفعل لا بالقول: لبيك يا أخيّاه أو لبيك يا أختاه !.
فشكراً وألف شكر، وتحية وألف تحية لقناة الجزيرة .
إنها حرب أخرى تجري بين الشاشات، والجيوش الإعلامية، فالقنوات المشبوهة والمُموّلة من قبل أعداء هذه الأمة تبذل قصارى جهدها لتشويه الحقيقة، وتزييف الوعي، وتثبيط الهمم، وتخوير العزائم، وتحطيم الآمال، وطمس الجرائم، وإخفاء الوقائع، وتزوير الأرقام . وهنا أحب أن ألفت النظر إلى ضرورة مقاطعة قناة العربية لأنها قناة عميلة، فإذا كانت فرنسا حجبت قناة الأقصى أثناء الحرب الأخيرة، وحجبت قناة المنار أيام حرب لبنان تحت ضغط اللوبي اليهودي، وتنكرت لكل مبادئها في الديمقراطية والحرية، فنحن أيها الإخوة والأخوات نستطيع أن نحقق هذا الهدف من خلال إرادتنا القوية، فنحذف قناة العربية من تلفازنا نهائياً، والواقع أن هذه المقاطعة ضرورية ليس فقط لقناة العربية، بل ولغيرها من القنوات العميلة، كذلك فإني أدعو إلى تفعيل سلاح المقاطعة لكل البضائع الأمريكية واليهودية التي نسهم نحن بشرائها في دعم إسرائيل دون أن نشعر، ولتكن هذه المقاطعة استراتيجية ثابتة وليس مجرد نزوة عاطفية عابرة .
الدرس السادس
المعتصم المنتَظر !
والحقيقة أن الإنسان يستغرب أيها السادة لماذا لا يوجد هذا المعتصم الذي يلبي هذه النداءات، ويستجيب لهذه الصرخات ؟! وإن الظرف موائم جداً لكي يبرز قائد مظفر يُخلّد ذكره في التاريخ كقائد أسطوري، وستقف الأمة كلها معه، فالأمة حيّة ومشاعرها متدفقة، وطموحاتها عظيمة، وقدراتها جبّارة، وهي بحاجة ماسة اليوم لمن يستثمرها في الوحدة، والاعتصام، والبناء، والنهوض، وعندئذ لن يجرؤ أحد على النيل منها أو العدوان عليها، وهذا معنى قوله تعالى :
]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [ [ سورة الأنفال آية 60 ] .
إن أهم ما تحتاجه الأمة اليوم أيها السادة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة هو القائد الحكيم والشجاع، القائد الذي يجمع شتاتها ويداوي جراحها، ويستنهض طاقاتها ويستثمر مقوماتها، القائد الذي يحرص على حاضرها ويفكر بمستقبلها، ويدرك التحديات التي تواجهها، القائد الذي يجمع بين الشجاعة والحكمة والأمانة والقوة .
كما في قوله تعالى : ] قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [ [ سورة القصص آية : 26 ] .
لقد وقف سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في يوم شديد الحر يعدُّ إبل الصدقة فنظر إليه سيدنا علي كرم الله وجهه وقرأ هذه الآية السابقة، ثم قال لسيدنا عثمان وهو يقف إلى جواره : هذا والله هو القوي الأمين، ويشير بيده إلى عمر رضي الله عنه .
وقال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه ذات يومٍ لأصحابه تمنوا، فتمنى بعضهم مالاً ينفقه في سبيل الله، وتمنى آخر أن يجاهد ويستشهد في سبيل الله، أما عمر فقال : أتمنى أن يكون هذا البيت مملوءاً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح . إن سيدنا عمر في كلمته هذه يدرك أهمية القائد في صنع التاريخ، وصنع النصر، وصنع الحضارة . وهو يريد من هؤلاء عدداً كبيراً يصنع تاريخاً مجيداً .
وقد كان أبو عبيدة بحق كذلك، وهو أهل لهذه الثقة من أمير المؤمنين الفاروق، فقد زاره في رحلته إلى فلسطين، فلم يجد في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فبكى عمر وشهق، وقال له : لو اتخذت متاعاً أو شيئاً ؟ فرد أبو عبيدة : إن هذا سيبلغنا المقيل ! .
الأمة بحاجة إلى قائد يلاحق أمراءه وموظفيه وولاته بالمحاسبة والمراقبة والحزم يقول الفاروق رضي الله عنه : أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما عليّ ؟ قالوا : نعم ، قال : لا ، حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لا ؟ .
فلا يكفي أن يتم تعيين بعض من يُظن فيهم الصلاح، بل لا بد من متابعة سلوكهم، والنظر في معاملتهم للناس، لأن المنصب يغير النفوس والأخلاق، وكم من إنسان كان طيباً صالحاً ثم إن المنصب غيّره .
ولذلك كان رضي الله عنه يتابع الولاة ويعدُّ أموالهم قبل التولية وبعدها، وكان إذا بلغه أن أميراً لا يعود المريض، ولا يدخل عليه الضعيف عزله . ولذلك كان له مكتب خاص مرتبط به مباشرة من " المخبرين " يبلغونه بأحوال الرعية، فكان علمه بمن نأى عنه من عُمّاله كعلمه بمن قَرُب، فكان على كل أمير أو وال عينٌ ينقل الأخبار لعمر رضي الله، حتى كان الأمراء يتهمون أقرب الناس إليهم .
ومن المناسب هنا أن نشير إلى كلمة أبي جعفر المنصور فقد كان يقول : ما أحوجني إلى أربعة نفر على بابي لا يكون هناك أعفُّ منهم، قيل من هم يا أمير المؤمنين ؟ قال هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت واحدة تداعى ووهى، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، فإني عن ظلمها لغني، والرابع ثم عضّ على إصبعه المسبّحة ثلاث مرات يقول في كل مرة : آه ، قيل له : من هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة . وهكذا نجد أن أبا جعفر يتحسر ونحن معه على أربعة مجالات :
الأول : القضاء لأنه لازم لإقامة العدل، والحكم بالحق .
الثاني : الشرطة أو بالأحرى السلطة التنفيذية، لأن الحكم بالحق لا فائدة منه إذا لم يتم تنفيذه، فلا خير في حق لا نفاذ له، فلا بد من إيصال الحق لأهله، وكثيرون هم الذين يتركون المطالبة بحقوقهم وإقامة الدعاوى لذلك بسبب التباطؤ الشديد في التنفيذ، وأيضاً بسبب ما تكلفهم هذه الدعاوى من خسائر تتجاوز الحق الذي لهم .
الثالث : الجباية أو الضرائب : وهذه مفيدة للدولة، وتقوي نفوذها وسلطانها، ولكن من أجل الناس، ولإقامة العدل والحق والإنصاف، دون ظلم أو إرهاق، وكذلك أن يكون ذلك لخزانة الدولة لتعود على الأمة بالخير والنماء . أما أن تكون الجباية لملء الجيوب والأرصدة فهذا هو الخطر العظيم، والبلاء الجسيم .
الرابع : ثم الجهات الأمنية في هذا العصر وهي التي تنقل أخبار الوطن والناس لرئيس الدولة، وهذه الجهات يجب أن تحرص على الحق والصدق حتى لا يُظلم الناس، وحتى لا يؤخذ البريء بجريرة غيره . كما أن الهدف الأول في النهاية هو راحة المواطن، وأمانه وطمأنينته، وأنتم تلاحظون أيها السادة أن مصطلح الأمن اليوم مراده على عكس حقيقته، فالأمن يعني الخوف، يعني السجون، يعني التعذيب، يعني الظلم، وهذا المفهوم هو الذي نريد أن يتم إصلاحه بدرجة أولى في العلاقة اليوم بين رجل الأمن والمواطن .
الدرس السابع
أين تكمن القوة الحقيقية ؟
لو تأمل القادة العرب لأدركوا أن المقاومة الإسلامية، والجهاد الإسلامي قوة لهم، يمكنهم توظيفه لخدمة مصالح الأمة في الحاضر والمستقبل، كما يمكن توظيفه حتى لمصالحهم الشخصية، فالمقاومة الإسلامية ليست ضد الحكام، ولا تهدف إلى السيطرة على الكراسي وإنما هدفها دحر العدوان، وإقامة الإسلام، والإسلام يعني العدالة، والأمان، والحرية، والمساواة، ولذلك فالمقاومة الإسلامية هي قوة أمنية موثوقة لا تخون، ولا تخذل الحاكم في اللحظات الحرجة، وتبقى وفيّة له إذا ما أحسن استثمارها والتعاون معها لتحقيق الأهداف العليا لهذه الأمة .
إن الجيوش النظامية والمدربة – في الحالة الراهنة - لا تحمي أحداً ولا وطناً ولا شعباً ولا حاكماً، لأنها تعصف بها الأهواء، وتتشتت بها الآراء، وتتوازعها المصالح الشخصية، وتتناهشها الكراهيات والأحقاد والأمراض المزمنة، فهي لا يُعوّل عليها، لأن الجندي يكره قائده، والقادة يكرهون جنودهم، كما يكرهون بعضهم، وفي أي فرصةٍ تسنح لهم من فرص الحروب فإنها ستكون مناسبة منتَظرة لتصفية الحسابات، فالقائد في ميدان المعركة لا يخشى على نفسه من جنود العدو، بل يخشى على نفسه من جنده، وكم من جندي أسنانه تصطك حقداً على قائده، ويتحين الفرصة لينتقم منه، ويشفي غليل حقده، لأنه طالما نكّل به واحتقره وابتزّه وأهانه واعتدى عليه، وإن أقرب مثال لذلك أيها السادة حالة الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي أدرك أن جيشه لا يمكن الثقة به، ولا يُعتمَد عليه، وأن الخيانة والغدر كائنة لا محالة، لأنه يعرف أمراض جيشه وأسبابها وأبعادها، ولذلك آثر الاختباء والاختفاء حتى تم القبض عليه وحيداً فريداً، وربما بسبب خيانةٍ من أقرب الناس إليه .
أيها السادة لا أدري ما الذي يمنع الزعيم العربي من أن يربّي جيشه على الإيمان بالله عز وجل، والإيمان باليوم الآخر، ويكرّس في مدارسه ثقافة الجهاد والشهادة، والهداية والتقوى والصلاح، وايم الله إن في ذلك قوة ومنعة شخصية له، وثباتاً لقيادته وسلطته، وخدمة لأمته وتاريخه، وارتقاء بشعبه وحضارته، وتخليداً لذكره وزعامته.
وإن انحياز بعض الزعماء العرب – كما رأينا في حرب الفرقان - لمعسكر العدو لتحقيق مكاسب شخصية ومنافع فردية غباءٌ وحماقةٌ، فضلاً عن كونها ذلةٌ وخسةٌ وخيانةٌ، والعدو أنصف وأذكى من أن يُكرّم شخصاً خان وطنه وشعبه وأمته، إنه يستخدمه بلا شك، ويمتدحه بلا ريب، وبالتأكيد يشيد به، ويكرمه ويمنحه المكافآت، ولكن ما إن ينتهي دوره حتى يرمي به في سلة القمامة، ثم يرمي به في زبالة التاريخ .
إن هذا ما لمسناه في تعامل إسرائيل مع الحكومة المصرية في الحرب الأخيرة، فمبارك الذي تآمر مع باراك وأولمرت وليفني وتدبّر معهم مهمة القضاء على حماس والمقاومة الإسلامية، هذه المؤمرة التي لم تتم بحمد الله عز وجل، على خطورتها في الحصار الطويل، وإغلاق المعابر والأنفاق، ومنع الجهود الدولية في الإغاثة. وكل ذلك كان منه رفضاً لصيحات شعبه، وتنكراً لاستغاثات أمته، وتجاهلاً لآهات الثكالى، وصرخات الأطفال، لأنه كان يُعوّل على القوة الإسرائيلية في حسم المعركة بشكل سريع وخاطف وينتهي الأمر، ويُسدل الستار على المقاومة إلى الأبد، وعندئذ يفرح مبارك ويمرح، ويخلو له الجو ليبيض ويصفر.
ولكن المقاومة الصامدة، والأسود البواسل بصمودهم النادر، وشجاعتهم الفريدة، وإيمانهم العظيم قد خيبوا آمال العدو الصهيوني وحلفائه المتآمرين معه، وأسقطوا أحلام مبارك وليفني وأولمرت وباراك وبوش، عندئذ لم يبق لمبارك ذلك الدور المنتَظر منه فقد عجز عن فعل أي شيء، لأنه كان بلا لاشك أعجز من العدو الصهيوني، عندئذ جاءته صفعة قوية من إسرائيل حين تجاهلوه، واتجهوا إلى أمريكا ليبرموا معها اتفاقاتهم الأمنية دون أن يكون شريكاً أو طرفاً في ذلك، وضُرب به وبمبادرته المصرية عرض الحائط، ثم ظهر مبارك يُجعجع في خطابه، قلنا لهم : أوقفوا الحرب، قلنا لهم : إن الحرب لن تقضي على المقاومة .
آلآن وقد عصيت الله، آلآن وقد عصيت أمتك وشعبك، آلآن وقد خُنت دينك وأمانتك فعليك من الله ما تستحق . إن صمود المقاومة الإسلامية في غزة أيها السادة أفسدت خطط العدو، ومؤامراته وأحزابه، وأبطلت تحالفاته، كما حصل في صمود صحابة رسول الله r معه أثناء غزوة الخندق فقد كان ذلك سبباً في فك الحصار، وهزيمة الأحزاب، وانفضاض التحالف اليهودي الشركي، وانخذال المنافقين، واندحار المرجفين .
ولا بد من الإشارة هنا إلى ما قاله الدكتور عزمي بشارة :"" أن إدانة العدوان من قبل هؤلاء كانت باتفاق مسبق مع العدو، فلا تناقض بين تنسيق العدوان مع بعض العرب وبين إدانة العدوان الصادرة عنهم، بل قد تكون الإدانة نفسها منسقة. ويجري هذا فعلا بالصيغة التالية "نحن نتفهم العدوان ونُحمّل حركة حماس المسؤولية، وعليكم أيضا أن تتفهموا اضطرارنا للإدانة، قد نطالبكم بوقف إطلاق النار، ولكن لا تأخذوا مطلبنا بجدية، ولكن حاولوا أن تنهوا الموضوع بسرعة وإلا فسنضطر إلى مطالبتكم بجدية " ([11])..
لقد أثبتت حرب لبنان، وحرب الفرقان أن القوة العسكرية والترسانة الجنونية للقتل والدمار لا تحسم المعركة، وإنما الذي يحسمها قوة الإيمان وقوة الصمود، وقوة الصبر والمصابرة . إن الذي يحسم المعركة أيها السادة هو الإنسان :
- إنسان مؤمن بعقيدته وحقه يرى أن حياته بالنصر هي الحياة ، وأن موته بالشهادة هو الحياة فهو بين الحسنيين : نصره حياة، وموته حياة، فهو لا يبالي بكل أطنان القنابل المتساقطة، والصواريخ المتفجرة، والطائرات المزمجرة، وقد سقط على غزة مليون كيلو من المتفجرات من الطائرات فقط، فإذا أضفنا إليه ما استخدم على الأرض فيزيد على مليوني كيلو في رقعة أرض صغيرة ، إن كل هذه المعركة الملتهبة يقابلها المؤمن بقلب من حديد، وعزم شديد، وتصميم لا يحيد .
- هذا الإنسان المؤمن يقابله إنسان مهزوز العقيدة، خائر العزيمة، قد أهلكته المخدرات، ودمرته العاهرات، ليس له هدف واضح، ولا غاية محددة، يلاحقه الموت كشبح مخيف، والقتل كنهاية مرعبة، إن المعركة بالنسبة له جحيم لابد منه، والموت جهنم تنتظره، فهو مغتصب للأرض، ومعتد على العِرض، يعلم أنه ظالم في قتاله، ومجرم في عدوانه، ولذلك فهم جبناء في ساحة المعركة، مع كل ما هم فيه من الحصانة والدروع والدبابات والمدافع، تجدهم يفرون أمام الأطفال الذين يحملون الحجارة، ورغم كل هذه التجهيزات فقد أذاقتهم المقاومة الإسلامية الويلات، وسقتهم كؤوس الموت والرعب والهلع .
إن الدرس الأهم الذي يجب علينا أن نأخذه كحكومات وكمقاومة من هذه الحرب هو : المزيد من الصمود، والمزيد من التصميم، والبحث عن منافذ جديدة ومتنوعة لأسباب القوة، وبناء الداخل بشكل متين، وتهيئة وسائل التحصين، وبناء التحالفات الجديدة ، وتحصيل مختلف أنواع السلاح والعتاد بشتى الوسائل والطرق، والتواصل مع حركات المقاومة في بلادنا العربية والإسلامية وغيرها من البلدان، والتعاون معها لبناء ترسانة القوة والأسلحة على قاعدة الإيمان بالله عز وجل، واليقين المطلق بوعد الله سبحانه وتعالى، والثقة الكاملة بنصره وتأييده، وعلى الحكومات العربية والإسلامية الممانِعة أن تعلم شيئاً مهما هو أن حصنها الوحيد هو الإسلام، وملاذها المتين هو الإيمان بالله عز وجل، وسلاحها الوحيد هو الجهاد في سبيل الله .
ولا بد أن نعلم أن الشرعية الدولية وحقوق الإنسان والأمم المتحدة هذه كلها مصطلحات وهمية لا قيمة لها على أرض الواقع، وأن الذي يفرض نفسه على أرض الواقع هو القوة والصمود، ولذلك حصدت المقاومة بل الأمة كلها نتائج هذا الصمود ، وأحرجت العالم كله، وجعلته يقف معها مناصراً ومؤيداً، إن العالم مع القوي، فالقوة هي الحق أيها السادة في عالم اليوم سواء في القمة العربية أم في أروقة الأمم المتحدة .
إن البعد الإيماني كما علمنا تاريخنا الإسلامي هو العنصر الفعال في تحقيق النصر، وتحرير الأرض والإنسان، وإن الاستعمار لم يخرج من بلادنا إلا تحت ضربات المقاومة الإسلامية ورايات الجهاد، وصيحات الله أكبر، فلماذا لا نسعى جاهدين حكومات وشعوباً إلى تحويل هذا البعد الإيماني إلى ثقافة وطنية وقومية مقدسة، لتكون جذوة وقادة في بث روح العمل والعلم، والصحوة والنهضة والتقدم، ولتحرق أيضاً كل مظاهر التخلف والجهل والتواكلية والفساد والانحلال والنفاق والرياء .
حين تبني الدولة مؤسساتها الإدارية والعلمية والعسكرية على الإيمان الحقيقي بالله عز وجل، والثقة المطلقة بدينه، وحين يكون هذا الإيمان ثقافة وقناعة في كل مجالات الحياة الأسرية والاجتماعية بين القادة وجنودهم، والحكام ومواطنيهم، وفي كل الشرائح والأطياف الاجتماعية والسياسية والشعبية والعسكرية فإن هذا بلا شك سيعود على الوطن كله قائداً وشعباً وأرضاً بالقوة والمنعة والحصانة، وسيتحول هذا الوطن إلى كتلة متراصة، ولبنات متماسكة يشد بعضها بعضاً، وعندئذ لابد أن يتشكّل منها بناء قوي مكين، عصيٌّ على كل أنواع الأسلحة مهما كانت فتاكة ومدمرة .
إن الثقافة الإسلامية والوعي الإيماني، والأبعاد الجهادية لو تم استثمارها وتوظيفها بشكل فعّال وحقيقي في عملية البناء الحضاري، والنهوض الشامل لأثمر ذلك أشجاراً باسقة، وثماراً يانعة من الحياة الكريمة، والتنمية الشاملة في كل مجالات الحياة ومن أبرزها تحرير الأرض والوطن والإنسان : تحرير الأرض من الاستعمار، وتحرير الوطن من المفسدين، وتحرير الإنسان من كل أشكال الإكراه والابتزاز، والظلم والعدوان على حريته وكرامته وحقوقه وإنسانيته .
أيها السادة : "" إن ما حققته هذه المقاومة المتواضعة أمام أعتى الجيوش يُعد معجزة لا مثيل لها، ولست أشك لحظة أن هذه المقاومة ستنتصر نفسيا ومعنويا وروحيا وشعبيا واجتماعيا إن شاء الله عز وجل، وهو الأهم الآن أمام هذه الغطرسة الغاشمة التي ترى أنها لا تقهر. إن استمرار المقاومة لثلاثة أسابيع أمام هذا الكم الهائل من القوة والإبادة والنار بهذا النفس، وهذا الدعم والاحتضان الشعبي سيزلزل عرش الكيان الصهيوني، ويقض مضاجع من يساندونه في أميركيا وفي أوربا، وفي بلادنا ، ويفتح حفرا نفسية في نفسية الإنسان الإسرائيلي المتحصن وراء الطائرات والبوارج البحرية والأسلحة الفتاكة، وهذا هو النصر العظيم الذي يبقى ""([12]) .
ولكن لا بد هنا من همسة في أذن المقاومة : "" إن ضرورات المستقبل الإستراتيجية تتطلب أن تنمي المقاومة روح الشورى مع القادة السياسيين، ومع المجتمع الفلسطيني والعربي والعالمي، وأن تتجاوز منطق الحسابات السياسية ومنطق البحث عن المواقع والسلطة، وأن تتحول إلى تيار شعبي حيّ يرفد المجتمع بالرجال والأفكار والوعي المطلوب لاستمرار الكفاح من أجل الاستقلال، على المقاومة أن تتجاوز حظوظ نفسها لتكون في خدمة الشعب والمجتمع، وأن لا تكون حجر عثرة في مسيرة المجتمع نحو استقلاله بسبب أفعال أو ردود أفعال ضيقة هنا وهناك، إن المقاومة التي لا تتحول إلى تيار وعي، وحالة توثّب وثبات والتزام بالمبادئ الكبرى التي يموت من أجلها الرجال والنساء والأطفال والشيوخ لن تستمر مهما حققت من إنجازات عسكرية وسياسية "" ([13]) .
الدرس الثامن
القتل الصامت
لقد روعتنا أيها السادة مظاهر القتل والإجرام في غزة الأبيّة، ولا يوجد إنسان فيه ذرّة إنسانية إلا وشده عقله، واحترق قلبه لفظاعة ما رأى وشاهد، هناك أناس ماتوا لشدة الصدمة لم تحتمل نفوسهم هذه المناظر، وهناك أناس تفاقمت بهم الأمراض وثارت فيهم الجروح، ويتحدثون عن خمسة آلاف جريح : لكن الحقيقة كما قال الدكتور عزمي بشارة أن هناك ثلاثمائة مليون جريح، لأن كل إنسان عربي جُرحت كرامته، بل لعلي أضيف إلى ما قاله بشارة إن هناك مليار جريح من المسلمين في العالم، ولكن المقاومة بحمد الله عز وجل بانتصارها قد ضمدت الجراح، وداوت القلوب .
ولكن أيها السادة والسيدات لو أننا لم نر ما رأيناه لما خرجنا إلى الشوارع، بمعنى لو أن الجريمة لم يكن هناك إعلام ينقل لنا صورها ومشاهدها المروعة لما رأينا الناس يخرجون بالملايين ينددون بالحرب، ويطالبون بوقفها، إذن فقد كان للصورة المرئية الأثر الأكبر في تحريك الضمير العالمي الإنساني .
فما رأيكم إذن أن هناك قتلاً صامتاً ليس له صور فظيعة تستثير الرحمة، وليس له مشاهد مروّعة تستدر الشفقة، إنه قتل النفوس الأبيّة، ودهس الكرامات النبيلة، وتحطيم المشاعر الإنسانية، وتدمير إنسانية الإنسان في داخل قفصه الجسدي، إنه قتل بلا دماءٍ مسكوبة، وتقطيع بلا أشلاء ممزقة، وتحطيم بلا عظام مكسّرة، نزيف في الداخل لا يراه أحد، وجروح غائرة في القلب لا يشعر بها أحد، وآلام وأحزان لا يلاحظها البشر :
فقاتل الجسم مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر .
ما هو أيها السادة ؟
- إنه الفقر الشديد الذي يلفّ شرائح واسعة في مجتمعنا، إنه الحاجة والعوز، إنه الظلم الذي يتعرض له الناس في حقوقهم وشؤونهم .
- إنه الإهانة التي تتعرض لها من موظف تافه يتحكم بك ذهاباً وإياباً، ويعرقل شؤونك، ويعطل مصالحك، ويدمر وقتك، ويأكل مالك ظلماً وعدواناً .
- إنه المريض الذي يبتزّه الأطباء المجرمون، فلا يتركون جسده فريسة للموت، إلا بعد أن يفترسوا جيبه وماله .
- إنه الاستبداد والتخلف الذي تكتوي به مجتمعاتنا ظاهراً وباطناً في كل جوانب الحياة .
- إنه القهر والقمع الفكري والديني والاجتماعي والإداري الذي نصطلي بناره ليل نهار . وأقصد بالقمع الفكري بعض المفكرين الذين يتلاعبون بفكر الأمة ويعبثون بمقدساتها مدعومين بالإمبريالية والصهيونية العالمية . وأقصد بالقمع الديني أصحاب العمائم السلطانية الذين يحلون الحرام، ويحرمون الحلال مثل شيخ الأزهر سيد طنطاوي وأمثاله. وأقصد بالقمع الاجتماعي : النفاق الاجتماعي الذي يرفع الوضيع، ويضع الرفيع، ويعز الذليل، ويذل العزيز، ويقدّم الرويبضة، ويؤخر الشريف .
أيها السادة والسيدات : نريد الكرامة للإنسان، لأنه إنسان فقط، لأنه ابن آدم، وآدم من تراب، ولأننا جميعاً كذلك . نريد له الكرامة والعزة لأنه عبد لله عز وجل - أياً كان- حتى لو كان ملِك ملوك الدنيا، فهو في النهاية يتساوى مع أدنى البشر مكانة في العبودية لله عز وجل، نريد الكرامة والمساواة للإنسان ليس لأنه وزير أو مدير أو عضو في مجلس الشعب، أو عالم شهير، أو شيخ كبير، أو وجيه جليل، أو دكتور أو مهندس أو محامي أو غني يترهل ثراء، أو لأنه فلان أو ابن فلان، أو يعرف فلان، نريد الكرامة للإنسان فقط لأنه إنسان، هذه الكلمة التي لا يقيم لها أحد وزناً، وقد قال ربنا عز وجل :
] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [ [ سورة الإسراء آية : 70 ] .
الدرس التاسع
التفاؤل والأمل
ومع كل ذلك فالأمة بخير أيها السادة - بحمد الله عز وجل - وهي تدرك قضاياها بشكل كبير، وتعي المؤامرات التي تحاك ضدها، وأخذت تتفاعل وتتملل من هذه الكوابيس الجاثمة على صدورها، ولا بد أن تنتفض لتزيح هذا الركام العفن من التخلف والاستبداد الذي طال حبسه لأنفاسها، وخنقه لطاقاتها، وتعطيله لتقدمها .
وهنا لا بد أن ألفت النظر إلى خطأ يقع فيه البعض حين يعتقدون أن الأمة يجب أن تكون ملائكية، وأن النصر لن يحالفها حتى تتحول كلها إلى المساجد، وأن الناس جميعاً، أو بصفةٍ ساحقة يجب أن يصبحوا عبّاداً تقاة صالحين من الدرجة الأولى، وإلا فإن البلاء سيظل يحيق بنا، والعدو سيبقى متحكماً متغطرساً متسلطاً مسَلَّطاً علينا، وهذا بتصوري نظر قاصر، ورؤية مجانبة للصواب، لأن ذلك لم يحصل حتى في العهد النبوي، فقد كان هناك المنافقون، وضعفاء الإيمان، والمذبذبون، ومع ذلك كان النصر يحالف المؤمنين في كثير من الأحيان، وكانت الخسائر تصيبهم أحياناً، فهذه سنة من سنن الله الكونية، فلا بد من البلاء والابتلاء :
]إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ [ سورة التوبة آية :111 ]
] ألم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [ [ سورة العنكبوت آية : 1 – 3 ] .
ولقد خرج مع النبي r في غزوة أحد ثلث الجيش وكانوا من المنافقين، ولم يردهم النبي r بل انسحبوا من المعركة خذلاناً للمسلمين، ورغبة في هزيمتهم، وقد خسر المسلمون المعركة رغم أنه لم يبق مع النبي r إلا خلصاء الإيمان، وعظماء الرجال، فلماذا ؟
إن السبب هو أن بعض المسلمين لم يأخذوا بأسباب النصر، وخالفوا أوامر النبي r وتعليماته لهم، فكان ذلك درساً لهم، إن الإيمان لا يغني عن الأسباب، كما أن الأسباب لا تغني عن الإيمان، وفي غزوة حنين كان هناك عددٌ كبيرٌ من المذبذبين والطلقاء، ومع ذلك كانت النتيجة هي النصر المحقّق بعد خسارة قصيرة مؤقتة . إن الإيمان والتقوى والعبادة والدعاء عناصر جوهرية في كل المعارك مع العدو الخارجي والداخلي، ولكن الشيء المهم أيضاً والذي يجب أن ندركه جيداً هو أن للنصر والهزيمة أسباباً وسبُلاً وسنناً يجب أن نعرفها جيداً، ونأخذ بها دون تردد، ودون تقاعس، وهذا الدرس قرأناه في بدر وأحد، وحنين، والخندق، واليرموك، والقادسية ومعركة الجسر، وعين جالوت، وبلاط الشهداء وفي نكبة 48 ونكسة 67 وفي أفغانستان، والعراق، وأخيراً قرأناه جيداً في صمود المقاومة اللبنانية، ثم المقاومة الفلسطينية المشرفة في الأيام الأخيرة في حرب الفرقان .
أقول هذا الكلام أيها الإخوة لأن كثيراً من المغفلين أثناء الحرب أخذوا يراهنون على خسارة المقاومة، وليس هؤلاء الذين يراهنون على خسارتها هم من الأعداء، فهؤلاء لا غرابة في ما يذهبون إليه، بل من الأصحاب، ولكنهم أصحابٌ حمقى، وذلك لأن الأمة بنظرهم لا تنتصر ما دام فيها عصاة وخَطَئَةٌ ومذنبون، وهذا أمر عجيب فإذا كان ذلك صحيحاً فكيف انتصرت الأمة في تاريخها ولم يخل زمان من كثير الفساق وأهل الفجور، بل لعلهم دائماً كانوا أكثر من أهل الصلاح والهداية .
إن أهم مشهد يبعث على التفاؤل والأمل أيها الإخوة هو مشهد القادة العظماء الذين سقوا بدمائهم تراب غزة، إنه مشهد رائع يذكرنا بالرعيل الأول فحين نذكر الشهيد المقدام مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين رحمه الله وكيف قضى حياته بالشهادة والصلاة، وفي أي وقت ؟ وهو خارج من صلاة الفجر ! وهو على كرسيه المتحرك، وهو يذكر الله عز وجل، ويسبح بحمد ربه سبحانه وتعالى، ثم نذكر الشيخ القائد المقدام الشهيد البطل الشيخ عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله ، ثم نذكر الشيخ المحدث العالم الداعية الشهيد الشيخ نزار ريان، ثم المجاهد البطل وزير الداخلية الشهيد سعيد صيام وغيرهم من القادة الميامين، فإن هؤلاء القادة الأبطال يذكروننا والله بسيدنا حمزة أسد الله وأسد رسوله، ومصعب بن عمير، وعمير بن الحمام، يذكروننا بأبي عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وأبي دجانة، والقعقاع بن عمرو، وشرحبيل بن حسنة، والمثنى بن حارثة الشيباني .
يذكروننا بالنعمان بن مقرن قائد معركة نهاوند سنة إحدى وعشرين هجرية، وذلك حين بلغ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن الفرس قد جمعوا جموعاً كثيرة بلغت مائة وخمسين ألف مقاتل، فاستشار الناس لقائد يوليه ذلك الثغر ولهذه المهمة ؟ وبعد تداول قال : والله لأولين أمرهم رجلاً ليكونن أول الأسنة إذا لقيها غداً، فقيل : من يا أمير المؤمنين ؟ قال النعمان بن مقرن المزني، قالوا : هو لها !.
وكانت القوات الفارسية بقيادة الفيرزان، وقبيل بدء المعركة قال النعمان : إني مكبر ثلاثاً، فإذا كبرت الأولى، فليتهيأ من لم يتهيأ، ويشد الرجل نعله، ويصلح من شأنه، فإذا كبرت الثانية فليشدّ الرجل إزاره وليتهيأ لوجهته، وليتأهب لوجه حملته، فإذا كبرت الثالثة ، فإني حامل إن شاء الله، فاحملوا معي، وإن قُتلت فالأمير حذيفة، وعد سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة . ثم قال : "" الله اعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك، اللهم إني أسألك أن تُقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عزُّ الإسلام ""، أمّنوا يرحمكم الله .
قال المغيرة : والله ما علمت من المسلمين أحداً يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله حتى يُقتل أو يظفر . وأثناء المعركة أُصيب النعمان فرآه أخوه نعيم، فسجاه بثوب وأخذ الراية قبل أن تقع، وناولها حذيفة بن اليمان، وقال المغيرة : اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يَهِن الناس، ثم هزم الله عز وجل الفرس، وهرب الفيرزان فتبعه القعقاع فأدركه مع نعيم بن مقرن في ثنية همدان، وغسل معقل بن يسار وجه النعمان بن مقرن، فقال النعمان وهو بين الموت والحياة : من أنت ؟ قال : أنا معقل بن يسار، قال ما فعل الناس ؟ قال : فتح الله عليهم، قال النعمان : الحمد لله اكتبوا بذلك لعمر، وفاضت روحه، فقال معقل للجند : هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح، وختم له بالشهادة .
ثم أسرع طريف بن سهم بشيراً بالنصر، وقال لعمر : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعز الله به الإسلام، وأذل الكفر وأهله، فحمد عمر الله عز وجل، ثم قال : النعمان بعثك ؟ قال طريف : احتسب النعمان يا أمير المؤمنين، فبكى عمر واسترجع، وقال : ومن بعثك ويحك ؟ قال طريف : فلان وفلان حتى عد له ناساً كثيراً، ثم قال له وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فبكى عمر وقال : لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم .
وسُمّيت وقعة نهاوند فتح الفتوح وفُتح بعدها : الري، وطبرستان، وأذربيجان، وكرمان، ومكران، وخراسان . ونحن نرجو من الله عز وجل أن يكون انتصار غزة فتح الفتوح في هذا العصر أيضاً ، تفتح بعده القدس وغيرها من بلاد المسلمين إن شاء الله عز وجل . إن القادة أيها السادة الكرام حين يكونوا بمثل هذا المستوى من الشجاعة والإقدام، والحرص على النصر أو الشهادة، واقتحام الموت والأخطار فإنهم أهل للنصر ويستحقون ذلك الفتح، وبإذن الله عز وجل سيكون ذلك نواة لفتوح قادمة قريبة بعونه تعالى .
والأمل معقود بهمة السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد حفظه الله، فقد وقف وقفة صامدة مشرفة دائماً مع المقاومة، بالأمس في لبنان، واليوم في غزة المباركة، وعُقدت قمة الدوحة بجهوده وجهود أمير قطر لتكون سداً أمام المستسلمين، وتكلم السيد الرئيس بكلام يملأ العقل والسمع، وفي الوقت الذي كان مبارك يمنع جهود الإغاثة الدولية من الدخول إلى غزة، ويحبس الأطباء والمتطوعين والطائرات القطرية وغيرها على معبر رفح، وفي الوقت الذي كان محمود عباس يمتنع عن حضور القمة خوفاً من أن يُذبح من الوريد إلى الوريد، أين هذا الجبن من قول أبي ذر رضي الله عنه : " لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إلى رقبته – ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي r قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها "" وفي الوقت الذي كانت المبادة المصرية تُطبخ في تل أبيب كان السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد هو الرجل الذي يصول ويجول لإنجاح قمة الدوحة، ويبذل كل جهوده لإيقاف العدوان، ويقول بملء فيه : لا، لا للعدوان، لا للجرائم والمجازر، نعم وألف نعم للمقاومة ، وهذا الموقف من السيد الرئيس يذكرنا بقول سيدنا عمر بن الخطاب "" يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول : لا ، بملء فيه "" . وقد قالها رئيسنا دائماً، وكان شجاعاً وحكيماً في موقفه عندما أعلن أن المقاومة والجهاد فرض عين على الرجال والنساء والشيوخ والأطفال كلٌ يؤديه بقدر وسعه، وكأنه يهتف بلسان قطري بن الفجاءة :
أقول لهـا وقـد طارت شعاعا من الأبطـال ويحك لن تراعي
فإنـك لـو سألـت بقـاء يومٍ على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبراً في مجال الحـق صبراً فــما نيـل الخلود بمستطاع
وأختم بقوله تعالى :
] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [ [ سورة آل عمران آية:137 – 140 ]
وقال عز وجل : ] وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [ [ سورة النساء آية : 104 ] .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
الهوامش :
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) شكراً كتائب المقاومة – د. نجيب بن خيرة – موقع الشهاب .
([2]) اللعب على المكشوف للأستاذ فهمي هويدي – موقع الشهاب .
([3]) لقاء مع الدكتور عزمي بشارة – موقع الجزيرة نت .
([4]) جزء من حديث ورد في البخاري باب علامات النبوة رقم : 3411 . ومسلم باب الأمر بلزوم الجماعة رقم : 4890 .
([5]) جزء من حديث ورد في الترمذي رقم : 2404 وانظر جامع الأصول رقم : 2650 .
([6]) : انظر لمكيافللي – الأمير ص 136 ، 159 ، 169 ، 94 ، 101 ، 103 ، 147 ، 148 وبرتراندرسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 29 والغرب والعالم – كافين رايلي ص 13 .
([7]) انظر : مكيافللي _ الأمير ص 147 ، 140 ، 149 وبرتراندرسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 30 .
([8]) صحيح مسلم رقم : 4906.
([9]) شعب الإيمان للبيهقي (ج 6 / ص 62) .
([10]) سنن الترمذي رقم : 2174 والنسائي رقم : 4209 قال عنه الألباني صحيح .
([11]) الدكتور عزمي بشارة – موقع الجزيرة نت .
([12]) لحظة غزة – الخلل وآفاق المستقبل على خط المقاومة الرادعة – الحاج قرزا العيوني – موقع الشهاب .
([13]) السابق نفسه .