دره قول فلاديسلاف
01-29-2009, 03:42 PM
الفرق بين معنى ( الخطأ ) و معنى (الباطل) , أن أحدهما ظاهرة عابرة , تنجم عن نقص عابر في المعلومات . أما الآخر , فأنه تحريف عقائدي موجه عمدا ضد الأنسان و مجتمعه معا . فإذا زعم أحد ما أن الأرض هي مركز الكون , فإن ذلك خطأ , يمكن إصلاحه بقليل من الحساب و الصبر . أما إذا زعم , أن اليهود هم شعب الله المختار , فإن ذلك باطل لا هدف له سوى اغراق مجتمع الأنسان في حمام من الدم . إن تغييب هذه الحقيقة عن مناهج الدراسات الدينية , قد أدى إلى كارثة في عالم الكتاب المقدس .
فمنذ عصر التأسيس .. كانت الكنيسة الكاثوليكية قد اعتمدت قول إنجيل متى على لسان السيد المسيح : [ إلى أن تزول السماء و الأرض , لا يزول حرف واحد , أو نقطة واحدة من الناموس ] , و كان هذا المبدا قد تطور على أيدي المفسرين إلى ركنين من أركان الشريعة :
الأول : إن كلمة ( الناموس ) تعني جميع كتب العهدين القديم و الجديد( التوراة والإنجيل و الزبور) , من سفر التكوين إلى رؤيا يوحنا اللاهوتي , و هو تفسير يخرج كثيرا عما عناه السيد المسيح , الذي كان يشير بكلمة ( الناموس ) إلى شريعة موسى فقط , و ليس إلى تراث اليهود كله .
الثاني : إن كتب العهدين القديم و الجديد , تندرج تحت اسم ( الكتاب المقدس ) , لأنها وحي معصوم من الخطأ , و معصوم من الباطل , و غير قابل للنقد أو للتصحيح أو للمناقشة .
و هنا , في هذه النقطة بالذات , ورطت الكنيسة نفسها في منطقة الرمال الناعمة , التي ظلت تجاهد للخروج منها عبثا منذ ألف سنة على الأقل ؛ فالقول بأن شريعة موسى معصومة من الباطل , فكرة صحيحة بالضرورة , ما دامت هذه الشريعة تدعو إلى خير الأنسان و مجتمعه معا . أما الزعم بأن معلومات اليهود عن التاريخ و الطب و الفلك , علم إلهي معصوم من الخطأ , فهو ادعاء من شأنه أن يغلق الباب أمام مسيرة الحضارة إلى الأبد , أو ينسف الكتاب المقدس من داخله .. إن الكنيسة تضع رأسها حيث تلتقي جميع السيوف , فتنهال عليها الضربات من كل جانب :
الضربة الأولى جاءت من الأصوليين الذين فوجئوا بوباء الطاعون يحصد ربع سكان أوربا , عند منتصف القرن الرابع عشر . و لم يجدوا تعليلا لهذه الكارثة , سوى أن (( الرب ساخط على الساحرات اللائي يخرجن على هيئة قطط , أو يمتطين عصي المكانس , لكي يزنين مع الشيطان في حفلات ليلية صاخبة )) .
في البداية رفضت الكنيسة أن تشارك في هذا الهراء , مبدية شكوكا عميقة تجاه جدية موضوع السحر . لكن الأصوليين ما لبثوا أن أرغموها على الأنحياز إلى جانبهم , بموجب نصوص الكتاب المقدس نفسه , في استعراض واضح لمدى الخطأ الذي تورطت فيه الكنيسة عندما اعتبرت حرفية النص , هي المرجع الوحيد لمعرفة الحق .
فالتوراه تعترف - نصا - بحقيقة السحر , و تورد في شأنه مقاطع مطولة و صريحة و غير قابلة للتأويل , منها مباراة موسى مع سحرة فرعون التي شملت مسخ العصي إلى حيات , و إغراق مصر في الدم و الظلام و الضفادع , بالأضافة إلى فلق البحر الأحمر في أكبر عملية سحرية في التاريخ . و منها عجائب النبي إيليا الذي سخر الغربان لكي (( تأتيه بخبز و لحم صباحا , و بخبز و لحم مساء )) ( سفر الملوك الأول 17) . ثم أنزل صاعقة من السماء , احرقت جميع كهنة بعل ملكارت, و حبس المطر على مملكة آخاب بن عمري , ثم أحرق مائة من جنوده بإشارة من اصبعه , بعد أن أعاد الحياة إلى ابن امرأة من صيدا , بأن نفخ في فمه (( قوة خفية )) . و في النهاية صعد إيليا إلى السماء على متن عربة من نار , تجرها خيول من نار , متعمدا أن يترك عباءته لتلميذه اليشع الذي برع براعة خاصة في إحياء الموتى , حتى و هو ميت . فقد جاء في سفر الملوك الثاني أن الأسرائيليين طرحوا (( رجلا ميتا في قبر اليشع , فلما مس عظامه , عاش و قام على رجليه )) . و بالطبع .. فإن الكنيسة لم تأل جهدا في تفسير هذه الخوارق , باعتبارها (( معجزات إلهية )) و ليس سحرا . لكن أحدا لم يكن في وسعه أن يتجاهل مدى السذاجة المتعمدة في اختيار مثل هذا التفسير . فالمعجزات الألهية لا يشاهدها فرد واحد أو جماعة , بل يشهدها جميع الناس في جميع العصور . هكذا مثل طلوع الشمس و سقوط المطر و خلق الأنسان و دوي البراكين و نمو الزرع و دوران الكواكب ؛ لأن شرط (( الآية )) هي أن تكون ظاهرة للعيان , فلا يقتصر وقوعها على زمن دون زمن , و لا تتوجه لخدمة شخص ضد آخر , و لا تكون مسخرة لشل العقل , بل لحفزه على امعان النظر (1) . اما الخوارق التي تنسبها التوراه إلى الأنبياء اليهود , فهي مجرد أساطير ملفقة , لا يمكن أن تولد أصلا , إلا في ثقافة تؤمن بحقيقة السحر , و تعتقد أن الساحر لديه (( قوة خفية )) يستمدها بموجب حلف سري مع مخلوق شرير اسمه الشيطان .
لهذا السبب .. فإن التوراه - رغم ولعها الشديد بقصص السحر - عادت فحرمت السحر نفسه , و جعلته جريمة عقوبتها الأعدام , في نصوص صريحة أخرى , منها قولها في سفر الخروج (( لا تدع ساحرة تعيش )) ( سفر الخروج 22-19 ) , و هو النص الذي شهره الأصوليون في وجه الكنيسة , مطالبين بتطبيقه تحت شعارات دينية منها : ( هكذا قال الله ) , و منها ( لا اجتهاد في النص ) . و قد اضطرت الكنيسة بالفعل إلى الرضوخ لمشيئة الأصوليين , فاعتمدت المبدأ القائل بأن السحر هرطقة , فيما أعلن القديس توماس الأكويني أن (( الشيطان لديه القدرة على منح الساحر قوة خفية , تتيح له أن ينقلب إلى حيوان , و يطير في الهواء , و يجلب الأعاصير , و ينشر الأوبئة ))
خلال القرون الثلاثة التالية , كانت الكنيسة و الكتاب المقدس مجرد سلاحين قاتلين في يد الأصوليين , الذين افتتحوا حملة الأبادة ضد السحر , بحرق عشرات الآلاف من السيدات الطاعنات في السن , بحجة أن ضعفهن يجعلهن صيدا سهلا للشيطان . و بعد ذلك امتدت عريضة الأتهام لكي تشمل كل مواطن , يرغب الأصوليون في قتله أو حبسه , لسبب أو لآخر .. فتم القبض على قضاة و عمداء بلديات و ذوي أملاك و حواة و قسس و رهبان , جرى اعدامهم غرقا أو حرقا , بأعداد تجاوزت مئات الألاف , في منطقة امتدت من شرق أوربا إلى أراضي العالم الجديد في امريكا . و عندما انتهت المذبحة , و انحسرت موجة الرعب , كان الخراب ينشر جناحه على العالم المسيحي بأكمله . و كان الأصوليون قد شوهوا سمعة الدين إلى الأبد , و ألحقوا بالكنيسة من الضرر , ما لم يكن في وسع الشيطان شخصيا أن يحققه . إن المبدأ القائل بأن (( النص المقدس معصوم من الخطأ )) يثبت منذ أول تجربة , أنه مبدأ خاطيء و خاسر إلى ما لانهاية , لكن الكنيسة لا تتعلم كثيرا من أول تجربة .
الضربة الثانية جاءت من علماء الفلك خلال القرن السادس عشر , عندما نشر كوبرنيكوس كتابه الشهير (( حركة الأجرام السماوية )) سنة 1543 , ففي هذا الكتاب أعلن كوبرنيكوس أن الشمس - و ليس الأرض - هي مركز الكون الثابت الذي تدور حوله كل الكواكب في مسارات , تبدأ بعطارد ثم الزهرة و الأرض و المريخ و المشتري , و تنتهي بزحل , و هو آخر الكواكب المعروفة حتى ذلك الوقت . و لم يكن من شأن النظرية أن تزعج الكنيسة في شيء , لولا مبدأ (( عصمة النص المقدس من الخطأ )) الذي كان قد ورطها في حرب أبدية ضد كل فكرة جديدة , حتى إذا لم تكن ذات علاقة بالدين أصلا .
فالقول بأن الشمس ثابتة , لا يخالف فرائض الدين , بل يخالف نظرية بطليموس , التي تبناها مؤلفوا التوراه (2) في نصوص منها سفر يشوع حيث يعلن الأصحاح العاشر , في سياق المعركة بين الأسرائيليين و الأموريين حول مدينة جبعون : أن الشمس كادت أن تغرب قبل انتهاء المعركة , فقام يشوع و أمرها بالأنتظار قائلا : (( ياشمس دومي على جبعون , و يا قمر دم على وادي إيلون , فدامت الشمس , ووقف القمر , حتى انتقم الشعب من اعدائه )) ( سفر يوشع 10-13 )
دفاعا عن مثل هذه النصوص المريبة , اضطرت الكنيسة أن تقف ضد رواد علم الفلك الحديث من كوبرنيكوس الى جاليليو و كبلر . و في هذه المرة أيضا خسرت الكنيسة و الكتاب المقدس , و أثبت مبدأ (( عصمة النص )) في ثاني تجربة , أنه مبدأ خاطيء , و لا طائل من ورائه سوى الزج بالدين في الموقع الخاسر إلى الأبد , ولكن الكنيسة لم تستوعب الدرس في هذه المرة أيضا .
الضربة الثالثة جاءت مفاجئة , و في موقع حساس جدا . فقد تقدم العالم البريطاني تشارلس داروين , عند منتصف القرن التاسع عشر , بتفسير جديد لمسيرة الخلق , لا يختلف عن رواية الكتاب المقدس فحسب , بل يناقضها نصا و روحا :
فالكتاب المقدس يقول إن الأحياء خلقت اجناسا منفصلة (( فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها , و البهائم كأجناسها , و جميع دبابات الأرض كأجناسها )) (تكوين 1-25) , و داروين يقول إن الأحياء تطورت عن أصل واحد , بموجب قانون الأنتخاب الطبيعي .
و الكتاب المقدس يفسح للأنسان موقع الصدارة في سلم الخلق معلنة أن الله خلق (( الأنسان على صورته - على صورة الله خلقه - ذكرا و أنثى خلقهم )) (تكوين 1-28) و داروين ينكر هذا الموقع الخاص , و يؤكد أن الأنسان ليس على صورة الله , بل يشترك مع القرود في أصل واحد .
و الكتاب المقدس يقول إن عملية الخلق بأسرها قد تمت في ستة أيام فقط (( فأكملت السموات و الأرض و كل جندها . و فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ))( تكوين 2-2) .. أما داروين فيعلن أن تطور المخلوقات قد استغرق ملايين السنين , و أن بعض فصائل الأنسان المنتصب القامة كانت تجوب الأرض منذ مليون سنة على الأقل .
أمام هذا التناقض الحاد , لم يكن في وسع الكنيسة سوى أن تختار بين موقعين ؛ فإما أن تتعلم لغة العصر , و تعترف بضرورة الفصل بين الشريعة و التراث , معلنة التوبة عن مبدأ ((عصمة النص من الخطأ )) ؛ و إما أن تنحاز إلى الجبهة الخاسرة , و تضع ثقتها في أساطير قبيلة من البدو العبرانيين , الذين لم يعرفوا اصلا سوى لغة الأساطير . و للأسف , فقد اتخذت الكنيسة القرار الخاطيء , و عمدت إلى تفسير النص بوسائل الرمز و التورية, , آملة أن تجد حلا وسطا , بتسخير ألاعيب اللغة في التحايل على حقائق العلم . فأصبح ( آدم ) مجرد رمز إلى الجنس البشري , و تحولت قصة الخلق في التوراه إلى نص شعري , يعمل المفسرون عبثا على تطويعه لكي يطابق مبدأ التطور . و قبل أن يكتشف أحد أبعاد هذا التدبير , كان الكتاب المقدس قد تحول إلى رموز قابلة للتأويل إلى ما لا نهاية , و كانت الكنيسة قد تلقت من الضربات الموجعة , ما جعلها في حاجة إلى رصاصة الرحمة .
هذه الرصاصة أطلقها علماء التاريخ القديم , بعد أن نجحوا في فك رموز اللغات القديمة , و تفرغوا لقراءة تاريخ الشرق الوسط , كما سجلته النقوش و الألواح في مصر و بابل و آشور , خلال سلسلة من المنجزات العلمية الباهرة , التي كانت قد بدأت منذ مطلع القرن التاسع عشر على يد العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبيليون .
قبل ذلك - و طوال ألفي سنة على الأقل - كانت التوراه هي المصدر الوحيد لتاريخ الحضارات في الشرق القديم , و كان اليهود قد كتبوا هذا التاريخ من منظورهم الخاص , بحيث بدت مسيرة الحضارة بأسرها , مجرد حدث جانبي على هامش ملحمة الشعب المختار , فلم يكن ثمة من يعرف شيئا عن أحداث الفترة الواقعة بين بناء الأهرامات و غارة الأسكندر على الشرق , سوى ما رواه مؤلفو التوراه , الذين منحوا انفسهم حقا إلهيا لكتابة تاريخ العالم من وجهة نظر قبيلة . و في هذه الصيغة الخاصة , اكتشف علماء التاريخ القديم , أن التوراه التي تعتبرها الكنيسة كتابا سماويا يبشر بعقيدة التوحيد , ليست في الواقع سوى مجموعات من النصوص المنقولة حرفيا عن الحضارات الوثنية في مصر , و بابل , ابتداء من قصص الخلق و الطوفان , إلى قصة موسى , و الوصايا العشر المترجمة بالعبرية عن أصول مصرية وعن شريعة حمورابي .
في أعقاب هذا الكشف الفاضح , لم يعد أمام الكنيسة ثمة خيار آخر , سوى أن تنسحب من المعركة , مبدية زهدا طارئا في شؤون الحياة العامة , بحجة أن مهمتها ليست دنيوية . أما مشكلة التناقض الظاهر بين أقوال الكتاب المقدس و نتائج العلم الحديث , فقد اهتدت الكنيسة إلى حلها , بموجب مبدأ جديد مؤداه : (( إن النص الديني لا يمكن أن يتعارض مع النص العلمي , لأن كليهما لديه ما يقوله بطريقته الخاصة )) . و هو كلام كبير يليق بالمناسبة , لكنه لا يعني شيئا ؛ لأن الكنيسة في الواقع لم تعد تملك شيئا تقوله : لق كانت الخسارة شاملة , و غير قابلة للتعويض .
فالزعم بأن معلومات النص المقدس هي علم إلهي معصوم من الخطأ , هو ادعاء لا يقول به النص المقدس نفسه , و لا طائل من ورائه سوى الزج بالدين في معركة أبدية ضد مسيرة العلم التجريبي , التي انطلقت اساسا من قاعدتين موجهتين ضد قدسية المعرف بالذات :
القاعدة الأولى : إن المعرفة ليست أبدية , بل خاضعة للنقد و التنقيح و التبديل , دائما , و من دون انقطاع .
القاعدة الثانية : إن المعرفة الصحيحة , هي التي يمكن تكرارها بالتجربة , في أي وقت , و تحت جميع الظروف .
و بموجب هاتين القاعدتين , لم يعد ثمة شيء اسمه (( علم إلهي معصوم من الخطأ )) , و لم تعد المعرفة النظرية نفسها سوى اقتراح معروض للنظر فيه , لا يرقى إلى مستوى اليقين , و لا يدخل سجل المعارف العامة , إلا إذا ثبت بالمشاهدة أو التجربة . فإذا أعلن النص المقدس مثلا (( أن الرب خلق السموات و الأرض في ستة أيام , أو أن الشهب ترجم الشياطين , أو أن موسى فلق البحر بضربة من عصاه )) , فإن ذلك لا يعني أن هذه المقولات معارف مقدسة , و لا يمنحها صفة العلم , و لا يجعلها فوق مستوى النقد و التصحيح , إلا في ثقافة شفوية لم تدخل عصر العلم التجريبي , و لا تستحق بالتالي لقب ((ثقافة )) أصلا ... لقد تلقى مفسرو التوراه درسا صعبا , قبل أن يدركوا هذه الحقيقة .
فمنذ عصر التأسيس .. كانت الكنيسة الكاثوليكية قد اعتمدت قول إنجيل متى على لسان السيد المسيح : [ إلى أن تزول السماء و الأرض , لا يزول حرف واحد , أو نقطة واحدة من الناموس ] , و كان هذا المبدا قد تطور على أيدي المفسرين إلى ركنين من أركان الشريعة :
الأول : إن كلمة ( الناموس ) تعني جميع كتب العهدين القديم و الجديد( التوراة والإنجيل و الزبور) , من سفر التكوين إلى رؤيا يوحنا اللاهوتي , و هو تفسير يخرج كثيرا عما عناه السيد المسيح , الذي كان يشير بكلمة ( الناموس ) إلى شريعة موسى فقط , و ليس إلى تراث اليهود كله .
الثاني : إن كتب العهدين القديم و الجديد , تندرج تحت اسم ( الكتاب المقدس ) , لأنها وحي معصوم من الخطأ , و معصوم من الباطل , و غير قابل للنقد أو للتصحيح أو للمناقشة .
و هنا , في هذه النقطة بالذات , ورطت الكنيسة نفسها في منطقة الرمال الناعمة , التي ظلت تجاهد للخروج منها عبثا منذ ألف سنة على الأقل ؛ فالقول بأن شريعة موسى معصومة من الباطل , فكرة صحيحة بالضرورة , ما دامت هذه الشريعة تدعو إلى خير الأنسان و مجتمعه معا . أما الزعم بأن معلومات اليهود عن التاريخ و الطب و الفلك , علم إلهي معصوم من الخطأ , فهو ادعاء من شأنه أن يغلق الباب أمام مسيرة الحضارة إلى الأبد , أو ينسف الكتاب المقدس من داخله .. إن الكنيسة تضع رأسها حيث تلتقي جميع السيوف , فتنهال عليها الضربات من كل جانب :
الضربة الأولى جاءت من الأصوليين الذين فوجئوا بوباء الطاعون يحصد ربع سكان أوربا , عند منتصف القرن الرابع عشر . و لم يجدوا تعليلا لهذه الكارثة , سوى أن (( الرب ساخط على الساحرات اللائي يخرجن على هيئة قطط , أو يمتطين عصي المكانس , لكي يزنين مع الشيطان في حفلات ليلية صاخبة )) .
في البداية رفضت الكنيسة أن تشارك في هذا الهراء , مبدية شكوكا عميقة تجاه جدية موضوع السحر . لكن الأصوليين ما لبثوا أن أرغموها على الأنحياز إلى جانبهم , بموجب نصوص الكتاب المقدس نفسه , في استعراض واضح لمدى الخطأ الذي تورطت فيه الكنيسة عندما اعتبرت حرفية النص , هي المرجع الوحيد لمعرفة الحق .
فالتوراه تعترف - نصا - بحقيقة السحر , و تورد في شأنه مقاطع مطولة و صريحة و غير قابلة للتأويل , منها مباراة موسى مع سحرة فرعون التي شملت مسخ العصي إلى حيات , و إغراق مصر في الدم و الظلام و الضفادع , بالأضافة إلى فلق البحر الأحمر في أكبر عملية سحرية في التاريخ . و منها عجائب النبي إيليا الذي سخر الغربان لكي (( تأتيه بخبز و لحم صباحا , و بخبز و لحم مساء )) ( سفر الملوك الأول 17) . ثم أنزل صاعقة من السماء , احرقت جميع كهنة بعل ملكارت, و حبس المطر على مملكة آخاب بن عمري , ثم أحرق مائة من جنوده بإشارة من اصبعه , بعد أن أعاد الحياة إلى ابن امرأة من صيدا , بأن نفخ في فمه (( قوة خفية )) . و في النهاية صعد إيليا إلى السماء على متن عربة من نار , تجرها خيول من نار , متعمدا أن يترك عباءته لتلميذه اليشع الذي برع براعة خاصة في إحياء الموتى , حتى و هو ميت . فقد جاء في سفر الملوك الثاني أن الأسرائيليين طرحوا (( رجلا ميتا في قبر اليشع , فلما مس عظامه , عاش و قام على رجليه )) . و بالطبع .. فإن الكنيسة لم تأل جهدا في تفسير هذه الخوارق , باعتبارها (( معجزات إلهية )) و ليس سحرا . لكن أحدا لم يكن في وسعه أن يتجاهل مدى السذاجة المتعمدة في اختيار مثل هذا التفسير . فالمعجزات الألهية لا يشاهدها فرد واحد أو جماعة , بل يشهدها جميع الناس في جميع العصور . هكذا مثل طلوع الشمس و سقوط المطر و خلق الأنسان و دوي البراكين و نمو الزرع و دوران الكواكب ؛ لأن شرط (( الآية )) هي أن تكون ظاهرة للعيان , فلا يقتصر وقوعها على زمن دون زمن , و لا تتوجه لخدمة شخص ضد آخر , و لا تكون مسخرة لشل العقل , بل لحفزه على امعان النظر (1) . اما الخوارق التي تنسبها التوراه إلى الأنبياء اليهود , فهي مجرد أساطير ملفقة , لا يمكن أن تولد أصلا , إلا في ثقافة تؤمن بحقيقة السحر , و تعتقد أن الساحر لديه (( قوة خفية )) يستمدها بموجب حلف سري مع مخلوق شرير اسمه الشيطان .
لهذا السبب .. فإن التوراه - رغم ولعها الشديد بقصص السحر - عادت فحرمت السحر نفسه , و جعلته جريمة عقوبتها الأعدام , في نصوص صريحة أخرى , منها قولها في سفر الخروج (( لا تدع ساحرة تعيش )) ( سفر الخروج 22-19 ) , و هو النص الذي شهره الأصوليون في وجه الكنيسة , مطالبين بتطبيقه تحت شعارات دينية منها : ( هكذا قال الله ) , و منها ( لا اجتهاد في النص ) . و قد اضطرت الكنيسة بالفعل إلى الرضوخ لمشيئة الأصوليين , فاعتمدت المبدأ القائل بأن السحر هرطقة , فيما أعلن القديس توماس الأكويني أن (( الشيطان لديه القدرة على منح الساحر قوة خفية , تتيح له أن ينقلب إلى حيوان , و يطير في الهواء , و يجلب الأعاصير , و ينشر الأوبئة ))
خلال القرون الثلاثة التالية , كانت الكنيسة و الكتاب المقدس مجرد سلاحين قاتلين في يد الأصوليين , الذين افتتحوا حملة الأبادة ضد السحر , بحرق عشرات الآلاف من السيدات الطاعنات في السن , بحجة أن ضعفهن يجعلهن صيدا سهلا للشيطان . و بعد ذلك امتدت عريضة الأتهام لكي تشمل كل مواطن , يرغب الأصوليون في قتله أو حبسه , لسبب أو لآخر .. فتم القبض على قضاة و عمداء بلديات و ذوي أملاك و حواة و قسس و رهبان , جرى اعدامهم غرقا أو حرقا , بأعداد تجاوزت مئات الألاف , في منطقة امتدت من شرق أوربا إلى أراضي العالم الجديد في امريكا . و عندما انتهت المذبحة , و انحسرت موجة الرعب , كان الخراب ينشر جناحه على العالم المسيحي بأكمله . و كان الأصوليون قد شوهوا سمعة الدين إلى الأبد , و ألحقوا بالكنيسة من الضرر , ما لم يكن في وسع الشيطان شخصيا أن يحققه . إن المبدأ القائل بأن (( النص المقدس معصوم من الخطأ )) يثبت منذ أول تجربة , أنه مبدأ خاطيء و خاسر إلى ما لانهاية , لكن الكنيسة لا تتعلم كثيرا من أول تجربة .
الضربة الثانية جاءت من علماء الفلك خلال القرن السادس عشر , عندما نشر كوبرنيكوس كتابه الشهير (( حركة الأجرام السماوية )) سنة 1543 , ففي هذا الكتاب أعلن كوبرنيكوس أن الشمس - و ليس الأرض - هي مركز الكون الثابت الذي تدور حوله كل الكواكب في مسارات , تبدأ بعطارد ثم الزهرة و الأرض و المريخ و المشتري , و تنتهي بزحل , و هو آخر الكواكب المعروفة حتى ذلك الوقت . و لم يكن من شأن النظرية أن تزعج الكنيسة في شيء , لولا مبدأ (( عصمة النص المقدس من الخطأ )) الذي كان قد ورطها في حرب أبدية ضد كل فكرة جديدة , حتى إذا لم تكن ذات علاقة بالدين أصلا .
فالقول بأن الشمس ثابتة , لا يخالف فرائض الدين , بل يخالف نظرية بطليموس , التي تبناها مؤلفوا التوراه (2) في نصوص منها سفر يشوع حيث يعلن الأصحاح العاشر , في سياق المعركة بين الأسرائيليين و الأموريين حول مدينة جبعون : أن الشمس كادت أن تغرب قبل انتهاء المعركة , فقام يشوع و أمرها بالأنتظار قائلا : (( ياشمس دومي على جبعون , و يا قمر دم على وادي إيلون , فدامت الشمس , ووقف القمر , حتى انتقم الشعب من اعدائه )) ( سفر يوشع 10-13 )
دفاعا عن مثل هذه النصوص المريبة , اضطرت الكنيسة أن تقف ضد رواد علم الفلك الحديث من كوبرنيكوس الى جاليليو و كبلر . و في هذه المرة أيضا خسرت الكنيسة و الكتاب المقدس , و أثبت مبدأ (( عصمة النص )) في ثاني تجربة , أنه مبدأ خاطيء , و لا طائل من ورائه سوى الزج بالدين في الموقع الخاسر إلى الأبد , ولكن الكنيسة لم تستوعب الدرس في هذه المرة أيضا .
الضربة الثالثة جاءت مفاجئة , و في موقع حساس جدا . فقد تقدم العالم البريطاني تشارلس داروين , عند منتصف القرن التاسع عشر , بتفسير جديد لمسيرة الخلق , لا يختلف عن رواية الكتاب المقدس فحسب , بل يناقضها نصا و روحا :
فالكتاب المقدس يقول إن الأحياء خلقت اجناسا منفصلة (( فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها , و البهائم كأجناسها , و جميع دبابات الأرض كأجناسها )) (تكوين 1-25) , و داروين يقول إن الأحياء تطورت عن أصل واحد , بموجب قانون الأنتخاب الطبيعي .
و الكتاب المقدس يفسح للأنسان موقع الصدارة في سلم الخلق معلنة أن الله خلق (( الأنسان على صورته - على صورة الله خلقه - ذكرا و أنثى خلقهم )) (تكوين 1-28) و داروين ينكر هذا الموقع الخاص , و يؤكد أن الأنسان ليس على صورة الله , بل يشترك مع القرود في أصل واحد .
و الكتاب المقدس يقول إن عملية الخلق بأسرها قد تمت في ستة أيام فقط (( فأكملت السموات و الأرض و كل جندها . و فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ))( تكوين 2-2) .. أما داروين فيعلن أن تطور المخلوقات قد استغرق ملايين السنين , و أن بعض فصائل الأنسان المنتصب القامة كانت تجوب الأرض منذ مليون سنة على الأقل .
أمام هذا التناقض الحاد , لم يكن في وسع الكنيسة سوى أن تختار بين موقعين ؛ فإما أن تتعلم لغة العصر , و تعترف بضرورة الفصل بين الشريعة و التراث , معلنة التوبة عن مبدأ ((عصمة النص من الخطأ )) ؛ و إما أن تنحاز إلى الجبهة الخاسرة , و تضع ثقتها في أساطير قبيلة من البدو العبرانيين , الذين لم يعرفوا اصلا سوى لغة الأساطير . و للأسف , فقد اتخذت الكنيسة القرار الخاطيء , و عمدت إلى تفسير النص بوسائل الرمز و التورية, , آملة أن تجد حلا وسطا , بتسخير ألاعيب اللغة في التحايل على حقائق العلم . فأصبح ( آدم ) مجرد رمز إلى الجنس البشري , و تحولت قصة الخلق في التوراه إلى نص شعري , يعمل المفسرون عبثا على تطويعه لكي يطابق مبدأ التطور . و قبل أن يكتشف أحد أبعاد هذا التدبير , كان الكتاب المقدس قد تحول إلى رموز قابلة للتأويل إلى ما لا نهاية , و كانت الكنيسة قد تلقت من الضربات الموجعة , ما جعلها في حاجة إلى رصاصة الرحمة .
هذه الرصاصة أطلقها علماء التاريخ القديم , بعد أن نجحوا في فك رموز اللغات القديمة , و تفرغوا لقراءة تاريخ الشرق الوسط , كما سجلته النقوش و الألواح في مصر و بابل و آشور , خلال سلسلة من المنجزات العلمية الباهرة , التي كانت قد بدأت منذ مطلع القرن التاسع عشر على يد العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبيليون .
قبل ذلك - و طوال ألفي سنة على الأقل - كانت التوراه هي المصدر الوحيد لتاريخ الحضارات في الشرق القديم , و كان اليهود قد كتبوا هذا التاريخ من منظورهم الخاص , بحيث بدت مسيرة الحضارة بأسرها , مجرد حدث جانبي على هامش ملحمة الشعب المختار , فلم يكن ثمة من يعرف شيئا عن أحداث الفترة الواقعة بين بناء الأهرامات و غارة الأسكندر على الشرق , سوى ما رواه مؤلفو التوراه , الذين منحوا انفسهم حقا إلهيا لكتابة تاريخ العالم من وجهة نظر قبيلة . و في هذه الصيغة الخاصة , اكتشف علماء التاريخ القديم , أن التوراه التي تعتبرها الكنيسة كتابا سماويا يبشر بعقيدة التوحيد , ليست في الواقع سوى مجموعات من النصوص المنقولة حرفيا عن الحضارات الوثنية في مصر , و بابل , ابتداء من قصص الخلق و الطوفان , إلى قصة موسى , و الوصايا العشر المترجمة بالعبرية عن أصول مصرية وعن شريعة حمورابي .
في أعقاب هذا الكشف الفاضح , لم يعد أمام الكنيسة ثمة خيار آخر , سوى أن تنسحب من المعركة , مبدية زهدا طارئا في شؤون الحياة العامة , بحجة أن مهمتها ليست دنيوية . أما مشكلة التناقض الظاهر بين أقوال الكتاب المقدس و نتائج العلم الحديث , فقد اهتدت الكنيسة إلى حلها , بموجب مبدأ جديد مؤداه : (( إن النص الديني لا يمكن أن يتعارض مع النص العلمي , لأن كليهما لديه ما يقوله بطريقته الخاصة )) . و هو كلام كبير يليق بالمناسبة , لكنه لا يعني شيئا ؛ لأن الكنيسة في الواقع لم تعد تملك شيئا تقوله : لق كانت الخسارة شاملة , و غير قابلة للتعويض .
فالزعم بأن معلومات النص المقدس هي علم إلهي معصوم من الخطأ , هو ادعاء لا يقول به النص المقدس نفسه , و لا طائل من ورائه سوى الزج بالدين في معركة أبدية ضد مسيرة العلم التجريبي , التي انطلقت اساسا من قاعدتين موجهتين ضد قدسية المعرف بالذات :
القاعدة الأولى : إن المعرفة ليست أبدية , بل خاضعة للنقد و التنقيح و التبديل , دائما , و من دون انقطاع .
القاعدة الثانية : إن المعرفة الصحيحة , هي التي يمكن تكرارها بالتجربة , في أي وقت , و تحت جميع الظروف .
و بموجب هاتين القاعدتين , لم يعد ثمة شيء اسمه (( علم إلهي معصوم من الخطأ )) , و لم تعد المعرفة النظرية نفسها سوى اقتراح معروض للنظر فيه , لا يرقى إلى مستوى اليقين , و لا يدخل سجل المعارف العامة , إلا إذا ثبت بالمشاهدة أو التجربة . فإذا أعلن النص المقدس مثلا (( أن الرب خلق السموات و الأرض في ستة أيام , أو أن الشهب ترجم الشياطين , أو أن موسى فلق البحر بضربة من عصاه )) , فإن ذلك لا يعني أن هذه المقولات معارف مقدسة , و لا يمنحها صفة العلم , و لا يجعلها فوق مستوى النقد و التصحيح , إلا في ثقافة شفوية لم تدخل عصر العلم التجريبي , و لا تستحق بالتالي لقب ((ثقافة )) أصلا ... لقد تلقى مفسرو التوراه درسا صعبا , قبل أن يدركوا هذه الحقيقة .