المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عزل أصحاب الديانة والعلم والعدل عن مجريات الأمور،



memainzin
02-01-2009, 09:49 AM
أخطاء المقدمات وخطايا النتائج


إن المشهد العربي الحالي الشاذ الذي شهدناه وشهده العالم منذ بدء الحصار، والمستمر إلى الآن على أهل غزة؛ هو نهاية مشوار طويل تراكمت فيه التراجعات والتنازلات التي تحولت إلى مؤامرات مُرَسمة وخيانات مقننة، وكلها جرت في ظروف عزل قصري وأحيانًا اختياري، لأكثر علماء الأمة ومفكريها عن مسار التأثير في أحداث تلك القضية، التي جسدت فصولها مثالًا صارخًا يعكس مدى الخطر الداهم للفكر العلماني، حين يتحول أصحابه من المنافقين والمتميعين وفاقدي الهوية إلى أهل حل وعقد، بل إلى أهل تقرير للمصير في عظائم الأمور المتعلقة بمستقبل أمتنا الإسلامية، وقد أبانت حرب غزة وما قبلها وما بعدها، أن هناك إصرارًا معاندًا ومستمرًا على استبعاد كلمة الدين في أهم الأمور التي تخص قضية فلسطين!!


لقد كانت أخطر تجليات العلمانية في بلادنا الإسلامية هي فصل السياسة عن الدين، وكان أخطر تطبيقات ذلك الفصل هو عزل أصحاب الديانة والعلم والعدل عن مجريات الأمور، استبعادًا عن مواطن القرار، أو استعبادًا في أغلال المناصب والرسميات والانتماءات الحزبية والنظامية، وبإشغالهم في معامع المسائل الشكلية بمساربها الفرعية، حتى تخلو الساحة للئام الساسة وحدهم كي يحلوا ويعقدوا، ويبرموا وينقضوا في أمور الأمة كما يشتهون، لا بل كما يشتهي أعداء الأمة من كل صنف ولون.


وقد نجح الساسة ـ بكل أسف ـ في حصر الولاية "الشرعية" في ولاياتهم "السياسية" دون اكتراث بأهل العلم الذين يمثلون الولاية الأصلية، وهي "الولاية العلمية"، حتى لم يعد الناس يعرفون إلا ولاية "الأمراء"من الساسة على اختلاف مسمياتهم، دون ولاية العلماء مهما كانت منزلتهم، مع أن الولاية العلمية هي الأصل الذي لا تعرف للولاية السياسية مشروعية في الإسلام إلا بها، ولا يجب السمع والطاعة إلا بإقرارها، وذلك بمقتضى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، مع قوله {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، حيث ربطت الآية الولاية بالقدرة على استنباط العلم، وهذا لا يكون إلا بسبق ولاية العلماء، التي هي الأصل قبل ولاية الأمراء، والتي تمدها بالمشروعية أو تحجبها عنها كليًّا أو جزئيًّا.


لقد كان هذا الضبط الشرعي لتسيير أمور المسلمين وفق سياسة شرعية؛ هدفًا يتربص به كل أعداء الملة، لينفك هذا الترابط، ويخرج ولاة الأمر العلميون من دائرة الفعل التي يحتكرها السياسيون، وكان هذا هو جوهر تطبيق العلمانية، التي بدأت بعزل العلماء، إلى أن انتهت إلى عزل الشريعة نفسها، بتأجيلها أو تغييرها أو تبعيضها أو تبديلها.


وكان من نتائج هذا الوضع الشاذ أن أصبح كلام العلماء في شئون السياسة يُنظر إليه على أنه تطفل غير مقبول، ربما يقود إلى تصرف غير مسئول!وقد ساعد على استقرار ذلك المفهوم ـ غير المفهوم ـ ترك أكثر أصحاب الولاية العلمية الأصلية مهمات الحل والعقد لأهل الأهواء طوعًا، حتى قبل أن يرغموا عليها قسرًا!


وكان من نتائج ذلك أيضًا ـ أعني تفرد الساسة على علمانيتهم بالحل والعقد في شئون المسلمين، دون أهل العلم والدين ـ أن استقرت أوضاع أكثر شذوذًا ونشوزًا، حتى كاد فصل السياسة عن الدين يبدو في نظر عوام الناس وكأنه من قواعد العقيدة وأصول الدين، بل سمعنا من بعض أدعياء العلم، بل بعض المتسمين بالسلفية، أن تلك الأوضاع المنكرة هي من صلب العقيدة السلفية السنية المقررة، هذه العقيدة التي آلت على يد بعضهم إلى ما تدعو له قولة الإنجيل المحرف:(دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)!!


حيث جرى تسويق عزل العلم الشرعي عن الفعل السياسي بدعوات من البدع المعاصرة، التي كادت تجعل العلاقة بين السلفية والعلمانية شبه مباشرة، مرة باسم تنزيه الدين عن لوثات الساسة وتلوث السياسة، ومرة باسم تفويض كل الأمر إلى ولاة الأمر، ومرة باسم عدم جواز إسداء النصيحة بصيغة علنية صريحة، ومرة باسم تحريم الخروج "اللفظي"أسوة بالخروج العملي، ومرات ومرات في أصناف من "القواعد"المحدثة، التي تتلفع باسم السلفية لتكتسي مسوحًا علمية، مع أنها مجرد مسوغات تخاذل وتنازل، وقلة أمانة علمية قد تقود إلى خيانات، خاصةً عندما يكون أصحابها في غاية "الشجاعة"ضد المستضعفين الموحدين، وفي غاية الخور والضعف مع الطواغيت المنافقين.


وقد جرَّأت تلك الشجاعة الجبانة مسوخ العلمانيين على زيادة استهانتهم بكل أهل الدين؛ فصاروا يتحدثون وكأنهم غير موجودين، بل صارت أصول الدين عرضة للتحويرات والحوارات والتغييرات، بحسب "ظروف"كل نظام واجتهاد كل "إمام"!


حتى سمعنا ـ في قضية فلسطين فقط ـ عن "فتاوى" علمانية ساقطة، صدرت عن شخصيات ساخطة على كل طرح موصول بقال الله أو قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لقد سمعنا ـ حتى بعد إحراق غزة ـ من يتحدث عن ضرورة "إحراج" "إسرائيل" بالعودة الفورية إلى عملية السلام!!


وعادت أصوات بعض الناعقين لتكرر ـ ولما تجف دماء الفلسطينيين ـ عن حتمية قيام دولة "إسراطين"، التي تجمع بين الموحدين وأعدى أعداء الدين، في وطن يجمع بين "أحفاد إبراهيم"من الأبرار والفجار، والموحدين والملحدين، من اليهود والمسلمين، ليدمجهم على الأرض المقدسة في مجتمع واحد، لا لشيء إلا لأنهم "أبناء عمومة"!!


ولم يخجل أولئك العلمانيون الفشلة المعاندون، من تكرار الكلام عن "حل الدولتين"، دولة قوية حديثة ونووية، هي الدولة اليهودية الدينية، على معظم أرض فلسطين التاريخية، وأخرى هزيلة ممسوخة علمانية، محبوسة خلف الجدار، ومعزولة عن دول الجوار، ومهددة دائمًا بالحصار العسكري والاقتصادي، وهي دولة "سلطة أمن اليهود الوقائية"الفلسطينية، على أشلاء ما تبقى من ممتلكات المواطنين المحاطين بالمستوطنين!


بل إن المسوخ العلمانية لم تكتف بمحاولات بفرض شروط الكفار على المسلمين الفلسطينيين باسم "شروط اللجنة الرباعية"، المكونة من أمريكا وروسيا والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة، حتى ابتكروا بجوار الرباعية الدولية رباعية عربية، يُراد منها تعريب البنود الغربية الخسيسة الخبيثة التي وُضعت كسيف مشهر على رقاب حركة حماس، حتى تُقبل ضمن المنظومة المحلية أو الإقليمية أو العالمية.


إنها الشروط التي تنص على:ضرورة الاعتراف بحق دولة اليهود في الوجود الآمن على ثلاثة أرباع فلسطين، وحتمية "نبذ العنف"بمعنى ـ إلغاء الجهاد وتجريم الاستشهاد ـ وكذلك تشترط اللجنة الرباعية الدولية الاعتراف والاحترام لكل الاتفاقات الموقعة بين الإسرائيليين وحزب المنافقين/فرع فلسطين!!


أقول: هل عرض ساستنا تلك الشروط الرباعية أو غيرها من الإملاءات الغربية على أي مؤسسة دينية علمية، قبل أن تصبح شرطًا في "الحل النهائي"للقضية الفلسطينية؟ إننا يمكن أن نذكر العشرات من أمثال تلك الاشتراطات التي تحفل بها تلك الاتفاقات، التي يقاتل على فرضها الأعداء، ويربطنا بها أدعياء المصالح القومية والثوابت الوطنية، حتى صرنا أمة مكبلة بمنظومة كاملة من الإملاءات المتعاقد عليها بمعاهدات واتفاقات، تهدف كلها إلى إبقائنا في ذيل الأمم، مذلولين حتى لأذل الأمم، أمة اليهود الغضبية المسنودة والمشدودة ـ في ذلتها ـ بأحبال الصليبيين وأوليائهم المنافقين.


وحتى لا أطيل في تفاصيل ذلك الواقع الأسيف؛ فإني أناشد قادة الأمة الحقيقيين من العلماء الربانيين، أن يبادروا من الآن لاستعادة حقهم ـ بل واجبهم ـ في الإمساك بالزمام من الأمام، على الأقل من ناحية البلاغ والبيان لحكم الشريعة فيما يُبرم ويُعقد باسم الشعوب، وما يُتفق عليه دون علمها وفي معزل عن رأي علمائها وولاة أمرها.


إن أهل العلم مطالبون بانتفاضة مفاهيمية، وهبة منهجية، في صحوة علمية لا تقل حاجة الأمة إليها عن تلك الانتفاضات الجماهيرية، والصحوات الشعبية، التي فجرتها أحداث غزة، والتي أثبتت أن جماهير الأمة حية، وإن كانت قابلة للخداع ومن ثم الرجوع والانصياع إلى الأوضاع التي ثارت لأجلها، وملأت الشوارع صخبًا من أجل تغييرها.


فأنا أكاد أجزم أن غالبية جماهير الأمة المختارة، لا تزال تائهة محتارة، في فهم أبعاد ذلك المكر الكبار، الذي تدور به الأمور في دهاليز الساسة الكبار، عربًا وعجمًا؛ والسبب الأصيل في استمرار ذلك الانخداع، هو ذاك الستار الحديدي الشديد، المفروض على أصحاب القرار الأصليين لعزلهم عن مواطن القرارات المصيرية، وهو ـ في رأيي ـ الحصار الأقدم والأخطر، الذي لا يقل خطورة عن حصار أهل غزة المستضعفين.

جزء من مقال للدكتور عبد العزيز كامل