المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخلاق المسلمين مع الغربيين بين الجحود والغلو



مصطفى الفاسي
02-03-2009, 04:11 PM
هذا الكتاب هدية مني إلى أحبتي في هذا الملتقى الفريد، أرجو أن ترقى إلى تلطعاتكم، وسمو علمكم،

كما أنني أنتظر تعليقاتكم الطيبة، وحنى تصحيحاتكم ونقدكم البناء


بسم الله الرحمن الرحيم

استهلال

الحمد لله الذي لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله عاقل عن علة فعله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاء رحمة للعالمين بهديه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على طريقته ونهجه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يجزى فيه كل واحد عن سعيه. وبعد:

لقد شاء الله تعالى أن تكون عناصر مخلوقاته ومُشخّصات كونه الواسع مليئة بالمثاني من المتقابلات: الجميل والقبيح، القوي والضعيف، الخير والشر، الموجب والسالب، الإبليس والقديس، المؤمن والكافر، الشقي والسعيد، الذكر والأنثى، النجم والكوكب، الظلام والضياء... ليحافظ هذا الكون على تساوق وتوازي وتوازن مقوماته؛ وهو الأمر ذاته بالنسبة لكتاب الله المنزل، فهو مليء بذكر هذه المتقابلات، من ذِكر الجنة والنار، وأخبار الأنبياء والأشقياء، والملائكة والشياطين....إلخ. فهذا الكون المديد من خَلقه وفِعله، وهذا القرآن المجيد من كلامه وقولِه، فدعانا سبحانه إلى الاعتناء بقرآنه الكريم تدبرا، بمقدار ما دعانا للاعتناء بكونه العظيم تفكرا، هذا كون منظور، وهذا كتاب مسطور، فأخبرنا سبحانه عن مشيئته الكونية التي ينبغي الإيمان بها، ومنها تقديره أن نكون مختلفين في ديننا، في ألسنتنا، في طبائعنا، في أعرافنا، في ثقافاتنا، وأخبرنا عن مشيئته الشرعية التي ينبغي العمل بها، من إيمان به سبحانه وامتثال لأوامره، ولسنة نبيه (ص)

يقول الحق سبحانه "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (1)

ويقول سبحانه: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"(2)

ويقول سبحانه: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (3) ،

ويقول سبحانه: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ "(4)

ولهذا باءت بالفشل كل محاولات تنميط العالم، وتوحيد طابعه، وطمس فسيفسائه، وجعل الناس على فكر ودين ولسان ولون واحد، لأنه مخالف لسنة الله في خلقه ومشيئته لهذا التنوع والاختلاف، فالخير والشر والجميل والقبيح.. عناصر موجودة إلى يوم القيامة، فكيف يكون الفكر واحدا والعقول متعددة، فالفكر الواحد يقتضي وجود العقل الواحد، والعقل الواحد لا يكون إلا عند الإنسان الواحد، وهذا ممتنع مستحيل مخالف للواقع فنحن شعوب وقبائل، والدليل على بقاء هذا الاختلاف إلى يوم القيامة قول النبي (ص) "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" (5) ، بل إنه (ص) لما أرسل كتابا إلى قيصر قرأه وطواه ثم رفعه، فلما بلغ ذلك رسولَ الله (ص) قال فيه:(ثَبّت الله ملكه) (6) ، وعندما كان بعض الصحابة بالحبشة ورأوا من حماية النجاشي لهم وإنصافه، ثم ظهر رجل ينازعه الملك، ما كان منهم إلا أن تعاطفوا معه و دعوا له، تقول أم سلمة: فدعَونا للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين في بلاده) (7)

ولقد انتبه ابن القيم رحمه الله إلى ضرورة الاختلاف والتباين في الآراء فقال: (وقوعُ الاختلافِ بين الناس أمرٌ ضروري لا بُد منه لتفاوتِ أغراضِهم وأفهامِهم وقوى إدراكهم؛ ولكنَّ المذمومَ بغيُ بعضِهم على بعضِ وعدوانُه)(8)

فلما كان الناس - رغم كونهم مختلفين – اجتماعيين، يكتسبون طباعهم وثقافاتهم من محيطهم وبيئتهم، احتاجوا إلى قانون وشريعة تنظم لهم مقومات التعايش مع بني أجناسهم، لكي يُدفع التصارع والتصادم عند تماس وتقاطع المصالح والنوازع المادية والمعنوية، فأرسل الله سبحانه الرسل بالشرائع لتربط علاقة الإنسان بخالقه سبحانه ولتنظم له علاقاته داخل المجتمع الذي يعيش فيه. وبهذا كانت حاجتنا في بلاد الغربة – كما في بلداننا الإسلامية - إلى التواصل والتثاقف مع الآخر، من أوجب الواجبات وآكد المسؤوليات التي ينبغي أن نستجيب لـها، فلا يمكن للمغترب أن يعيش بمعزل عن أقرانه من بني البشر، دون أن يتفاعل معهم ولا أن ينفعل لحاجياته إلى هذا الاجتماع.

قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (9)

فالشهادة على الناس في قوله تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (10) تقتضي بل وتحتم المخالطة والمعاينة والمشاهدة وتطرد وتـمُج الانعزال والانغلاق والانكماش، حتى لا نكون شهداء زور نُـدلي بشهادات عن غير علم. وخصوصا وسط هذا الانفتاح الحضاري الكبير بجميع منتوجاته الفكرية والمعرفية والثقافية والتقنية التي خرّجت حياة الإنسان من بسيط الماضي إلي مركَّب الحاضر، حيث تعقدت اختيارات الإنسان في كل مناحي الحياة الدنيوية غاية التعقيد.

وبعد أن نجح المسلمون منذ الجيل الأول بامتياز في البرهنة على قدرتهم على التعايش مع الآخر، والقبول بالآخر، فعاش في ظلهم الأقليات من النصارى واليهود بل والمجوس وغيرهم متمتعين بكل أنواع مقومات حركة حيواتـهم الدنيوية والأخروية، يقف المسلمون الآن وهم أقلية في بلاد الغرب أمام نفس التحدي، وعلى نفس القدر من المسؤولية، فعليهم أن يبرهنوا على الشيء ذاته، على القدرة على التعايش مع الآخرين والتعاطي معهم بكل إيجابية؛ وتمهيد وتعبيد الطريق لأجيال المسلمين القادمة. وخصوصا أن الجيل الأول الذي قدم إلى أوربا وأمريكا هم حاملو طينة الدين والثقافة والتقاليد من بلداننا الإسلامية، وهم الشهداء، بل والمسؤولون على نقل مشعل ما أتوا به إلى أجيالهم من بعدهم وإلى جيرانهم من غير المسلمين.

وعليه، فإن الشيء الممكن والمقدور على حمله إلى الآخرين، وكذلك المشترك بين الرجل والمرأة والكبير والصغير والمثقف والعامي والمتعلم والأمي هو الجانب الأخلاقي الذي هو بابنا الموجود ومدخلنا الوحيد في هذه الأيام إلى عقول وقلوب الغربيين ليتعرفوا على ما نحمله من قيم دينية وثقافية ومعرفية وتاريخية.. بل إن الأخلاق عنوان ودليل على ما نحمله من ثقافات جيدة أو رديئة، نفيسة أو رخيصة، فبأخلاقنا يتعرفون على تضاريس ومُشخصات حضارتنا، فإن ساءت أخلاقنا ساءت سمعتنا، وإن ساءت سمعتنا، نكون قد برهنّا على فشلنا في الدخول إلى قلوبهم، ونجحنا في صدهم عن سبيل الله، وصرْفهم عن سبل التواصل.
--------------------------------------------------------

(1) سورة يونس ، الآية 99
(2) سورة التغابن، الآية 2
(3) سورة هود 117-118
(4) سورة الحج، الآية 40
(5) رواه مسلم (شرح النووي 18/18)، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس عن المستورد بن شداد القرشي.
(6) رواه البيهقي في الكبرى (9/177)، وفي معرفة السنن والآثار 7/106، والشافعي في الأم (4/171) بلفظ "يثبُت ملكه"، وابن الأثير في أسد الغابة (1/335)، والذهبي في تاريخه (2/511) ط دار الكتاب العربي ط 1987. ورواه أبو عبيد في الأموال (1/54) من مرسل عمير ابن إسحاق بلفظ: كتب رسول الله  إلى كسرى وقيصر ، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم وضعه ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال : « أما هؤلاء - يعني : كسرى - فيمزقون ، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية »
(7) رواه أحمد (1/201-202) عن يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن اسحق حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة رضي الله عنها، وقال الهيثمي في المجمع: (6/24) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، وابن هشام في سيرته (2/182).
(8) الصواعق المرسلة 2/512 دار العاصمة 1998
(9) سورة الحجرات، الآية 13
(10) سورة البقرة، الآية 143

ناصر الناصر
02-04-2009, 06:15 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

أخي في الإسلام مصطفى الفاسي،

أثابك الله على ما كتبت و جعله في حساب حسناتك، و أرجوا من الله عز و جل أن يطفئ نار الفتنة و الجاهلية و الغلو في قلوب الناس........

أخي أود أن أزيد على كلامك قول الله تعالى في كتابه الكريم: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ".(أل عمران 159).

لقد انتشر الإسلام في السابق باللسان و السمعة الطيبة في داخل الجزيرة العربية و في خارجها، و قد أخذت الشعوب و الحضارات الشرقية و الغربية من الإسلام في السابق الكثير من الدروس و الحكم و العلوم و طبقتها لتصبح شعوب يسعى لها الجميع.............

و لعل الزمن يرشد ضعاف القلوب لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

مصطفى الفاسي
02-05-2009, 01:01 AM
شكر الله لك مرورك على هذا الموضوع أخي ناصر الناصر وجزاك الله خيرا على هذه المداخلة الطيبة




مقدمة

نلاحظ في هذه البلاد عن طريق المعايشة، أن هناك تنكراً غير مسبوق لثوابتنا الدينية والأخلاقية، وإعراضا مصحوبا بكثير من التعالي على قيمنا التاريخية والفكرية والثقافية... من قبل فريقين على طرفي نقيض، حادا بالمرة عن الطريق السليم:

فريق يشغب حول ثوباتنا الدينية الإيمانية والأخلاقية إنكارا، فيدعو إلى نبذ الدين والعقيدة والتاريخ، والعيش بكل انسيابية مع كل موجة وريح تريد أن تقتلعنا من جذورنا وتتركنا بلا هوية ولا انتماء ولا تاريخ ولا حضارة ولا لسان ولا تقاليد ولا لون ولا طعم ولا رائحة، يريدوننا أن نمحو كل مخزون من أقراص عقولنا الصلبة، وأن نعيش ونتمتع، ونلعب ونرتع، وأن نعيش بلا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا فطر ولا أضحى، بل أن نعيش بلا إله ولا نبي، ولا كتاب ولا سنة، متمتعين كل أيامنا بمنتهى الـمُتع، دون تفكير ولا مراجعة ولا توقف.

وفريق ثانٍ يشغب حول المكارم والقيم الأخلاقية، من رحمةٍ بالخلق وعدل بين الناس، ولين ورفق بالآخر، ووفاء بالعهود، ومقابلة للإحسان بالإحسان..وغيرها، فنادوا باستباحة مال ودم كل إنسان غربي، محاولين بذلك تضييع بَوْصلة التفكير عند بعض الشباب الذين كان حظهم من العلم قليلا، ونصيبهم من الفكر ضئيلا؛ مستغلين عواطفهم الجياشة، وحماستهم الحادة. فأوقعوهم في حبال التعيير والتكفير والتفجير، دون برهان من الدين صريح. ولا فهم للواقع صحيح، ناسين قول النبي (ص): "أول ما يقضى بين الناس في الدماء" (1) ، وقوله (ص) "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما"(2) .

ونسي الفريقان أن سلامة الطريق من سلامة الهدف، وأن السعادة تكون في نجاح الوسيلة كما تكون في نجاح الهدف، وأن البحث عن السعادة في الدنيا والآخرة لا يوصلهما إلى شيء، لأن السعادة ليست هدفا يوصل إليه، أو يبحث عنه، وإنما السعادة هي نمط متبع ومنهج حياة مسلوك، وإحساس يومي معيشٌ بسَكينة وفرح في القلب، وسلوك أخلاقي وثقافي وحضاري، يفرح به الإنسان، ومن حول الإنسان، ورب الإنسان.

الشيء الذي جعلني أنادي إلى رُّقي أخلاقي وإلى نهضة قيمية أذَكّر المسلم الذي يعيش في الغرب من خلالها برسالته ومكامن وملامح سعادته، وما ينبغي أن يكون عليه من سلوك مع من حوله من غير المسلمين في أوربا وأمريكا وغيرها، باعتبار أن الأخلاق الحميدة هي المُتـَسيِّدة والمتربعة على عرش الأعمال الصالحة، وهي المقياس والمعيار لحضارات الأمم على مدى العصور.

وقبل أن أدخل في ذكر عناصر القيم الأخلاقية التي ينبغي أن يتمسك بها المغتربُ غيرَ مضيّع، أود أن أعرض في المقام الأول إلى أهم أصناف المغتربين عموما في هذه البلاد، باعتبار توجهاتهم، وطرق تفكيرهم، لتكون عناصر هذه الرسالة مبنية على أرضية واقعية معيشة:



----------------------------------------------
(1) رواه البخاري (فتح الباري 12/230)، كتاب الديات، باب ، ومسلم (شرح النووي 11/138) كتاب القسامة، باب المجازاة بالدماء في الآخرة، عن عبد الله بن مسعود
(2) رواه البخاري (فتح الباري 12/229)، كتاب الديات، باب (دون ترجمة)

مصطفى الفاسي
02-06-2009, 02:09 AM
• الباب الأول: أصناف المغتربين، ويشتمل على أربعة فصول



1. الفصل الأول: الصنف الأول: الغافلون

2. الفصل الثاني: الصنف الثاني: الجاحدون

3. الفصل الثالث: الصنف الثالث: الغالون

4. الفصل الرابع: الصنف الرابع: المترددون

مصطفى الفاسي
02-06-2009, 02:12 AM
:emrose: الفصل الأول: الصنف الأول: الغافلون: :emrose:

صنف جاء إلى بلاد الغرب بدايةً لإيجاد لقمة العيش، وتحسين مستواه الاجتماعي، على سبيل العجالة والعبور، وبالتالي الرجوع إلى بلده حيث مسقط رأسه، وترعرُعِ صباه، فخلّف أجيالا متكاثرة لا تشاطره نفس الشعور. فضلا عن أن المغترب نفسه يعيش في حرب نفسية وانفصام بين قرار بالرجعة إلى بلاده من جهة، والتمكن من تنفيذه من جهة ثانية، بل حتى القرار بدأ يتآكل من أوصاله ويُنقص من أطرافه، ويعيش بين بدن مفصول عن روحه هنا، وبين روح مفصولة عن بدنها هناك، فلا رجع بعد طول عناء إلى بلده، ولا بقي صافي الذهن فاستفاد من المجتمع. فلم يكتف بالاهتمام ولكن تعدى به الحال إلى الاغتمام، فلا عاش يومه بانسيابية، ولا خطط لغده بإحكام.

فالماضي لا يرجع أبدا والغد ليس ملكا له، واليوم يوم نشاط وحزم أو يوم هم وغم، فإن شاء جعله مشمسا باسما، وإن شاء جعله مغيما قاتما.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما:" أن رسول الله (ص) دخل على أعرابي يعوده، فقال: (لا بأس عليك، طهور إن شاء الله). قال: قال الأعرابي: طهور؟ بل هي حمَّى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، قال النبي (ص): (فنعم إذاً)" (1). وفي رواية الطبراني في آخره "أما إذا أبيت فهي كما تقول قضاء الله كائن، فما أمسى من الغد إلا ميتا " (2) ، فانظروا إلى هذا الأعرابي الذي لو شاء لقبل بدعاء النبي (ص) له، ولكنه آثر البلاء على الشفاء.

يقول سبحانه وتعالى: "ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر، عليهم دآئرة السوء والله سميع عليم، من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم" (3)

فأشارت الآية الأولى إلى أن النفقة مغرم وخسارة عند الأعرابي الأول، وفي الآية الثانية كانت النفقة قربة يُرتجى ثوابها عند الأعرابي الثاني، فبنِـِيَّة الأول كانت قربة، وبنية الثاني كانت حسرة وندامة، فمن شاء جعلها قربة من القربات، ومن شاء جعلها حسرة من الحسرات.

وفي مثل ذاكم قال ديل كارنيجي: (فإذا نحن ساورتنا أفكار سعيدة كنا سعداء، وإذا تملكتنا أفكار شقية غدونا أشقياء، وإذا خامرتنا أفكار مزعجة تحولنا خائفين جبناء، وإذا تغلبت علينا هواجس السقم والمرض فالأغلب أن نبيت مرضى سقماء، وهكذا) (4) وقال ماركوس أورليوس (حياتك من صنع أفكارك) (5)

فأنجب هذا المغترب الحائر وأنجب أولادُه، وتواصلت الذرية مع الذرية، وتلاقحوا اللغات والعادات والتطلعات والتشَوُّفات، اختلاط لا ينفك وامتزاج من غير حبك. حقيقة مسلمة لا شية فيها. حقيقة تحتاج إلى اعتقاد لا إلى انتقاد.

فلم يُدركْ المتغيرات والمؤثرات في بلاد الغرب على أبنائنا، فتعامل بكل انسيابية، بل وبكل لامبالاة أحيانا، والجارف من سيل الإلحاد واللادين إن لم يجرف هذا الصنف يُصِبه ببلل، ويظن أنه بالغربال قد يمنع السيل.


------------------------------------

(1) رواه البخاري (فتح الباري 10/146) كتاب المرضى، باب عيادة الأعراب
(2) مجمع الزوائد 3/27 وقال رواه الطبراني في وفيه من لم أعرفه.
(3) سورة التوبة 98-99
(4) كتاب جدد حياتك، للشيخ محمد الغزالي ص91
(5) نفس المرجع والصفحة

مصطفى الفاسي
02-08-2009, 09:40 PM
:emrose: الفصل الثاني: الصنف الثاني: الجاحدون :emrose:

وصنف ثانٍ أبعدَ النجعة، وحادَ بالمرة، فأعجبه سيل اللادين، واستلذ بوقتية مذاقه وببرودة بَلَـله، وأيُ برودة يفرح بها؟. إنها برودة الموت، موت عقيدة التوحيد البيضاء وانسلال روحها من قلبه، فماذا يقول لربه يوم يجد حر مقته وعذابه؟ لا مناص! لا محيد! وجد اللهَ عنده فوفاه حسابه.

"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" (1) ،

"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " (2)

فارتمى في أحضان الرذيلة منسلخا من دفئ الإيمان، متسخطا على الدين والعادات والتقاليد والشعوب والحكام والماء والهواء والأرض والسماء، وارتد على عقبيه، كل هذا لأنه عاش حينا من الدهر في الفقر أو الجور، وربما كان من المسْهمين بقسط ملموس في كل أو بعض هذه التَّعِلات. فآثر الآجلة على العاجلة. والنقد على النسيئة، والفانية على الباقية، ففتح الله عليه أبواب كل شيء.

"فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ" (3)

فتحسرنا على كفرانه، وشيعنا جنازة إيمانه. فتلقاه أهل الكفران بابتسامة الثعلب وقلب الشيطان. فبثوا له زرابي المتعة، زرابي ظاهرها السعادة وباطنها من قبله العذاب. قال تعالى: "وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء" (4)

أيام معدودة ، بل هي ساعة سوف يقسم عليها بنفسه:

"وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ" (5)

فتقنع بكل قناع ليهرب من اسمه ولونه وعقيدته ولغته، فيفتضح في كل مرة، ويتعرى عند كل موقف، وينجلي زيفه في كل محك. فيضحك منه الغرب، وهو يظن أنه يضحك معه. فلا رضي به نبلاء الغرب لتنصله من ثقافته وهويته. ولا كف أهل الغيرة على دين الإسلام ألسنتهم عنه، ولا رضي عن نفسه، فيظل يعيش وسط ثلاث نِبال، إن أخطأه الأول لم يخطئه الثاني، وإن أخطأه الثاني لم يخطئه الثالث. ولا أظن أن نبلة من هذه النبال تُخطئه بل كلها تصيبه في مقتله، وستظل مغموسة مغطوسة مغروسة تمزق راحته وطمأنينته، وتريه الموت قبل أوانه، فيطرق الموت يأسه وسواد مستقبله، وتعتريه الكآبة في غالب أحيانه، ويجتويه جوع الإيمان في أخص لحظاته وهو لا يدري.



-------------------------------------------------------

(1) سورة الأعراف، الآية 175.
(2) سورة الحج، الآية 11.
(3) سورة الأنعام، الآية 44.
(4) سورة النساء، الآية89
(5) سورة الروم، الآية 55

ناصر الشريعة
02-09-2009, 11:06 PM
جزاك الله خيرا وبارك فيك

موضوع جدير بالأهمية، وهو يكشف عن خطورة الهزيمة الفكرية التي يعاني منها الضعفاء لجهلهم وضعف إيمانهم أمام فتنة المال والقوة الغربية، وهي فتنة إلى زوال، ولكن أين الحكماء؟!

مصطفى الفاسي
02-10-2009, 09:22 PM
:emrose: الفصل الثالث: الصنف الثالث: الغالون :emrose:

وصنف من الناس ثالثٌ، يمشي في الأرض مرحا، وكأنه ليس في الطريق إشارة مرور، ولا على الطريق مُشاة، سلامه على الناس قليل، عبوس الوجه، كثير الحوقلة (1) ، قليل الحمدلة، يذم ولا يمدح، يعيش في أوربا وأمريكا وهو ساخط على كل شعوبها، ومن هذه الشعوب الطبيب الذي يتابع الحالة الصحية لعائلته، ومنهم الممرضة والقابلة التي تساعد زوجته على الإنجاب، ومنهم المعلم الذي يعلم أبناءه، بل كثير من المغتربين تأتيهم مساعداتهم المالية وهم على فرشهم الدافئة.

فلا يعجبه شيء، يرى نفسَه المسلمَ الوحيد، استغفرُ الله.. بل هو وأصحابه، وأما المسلمون الآخرون فهم سَقَط المتاع في نظره، وأوغاب البيوت (2)، فعلى الجميع أن يراجع عقيدته إلا هو وأصحابه، وأن يراجع فكره وقناعاته إلا هو وأصحابه، فقد قطعوا القنطرة واجتازوا إلى بر الأمان ورضا الرحمن، - زعموا -.

يعيش في معزل عن المساجد، بدعوَى ضَلال أئمتها، وفي معزل عن تجمعات المسلمين بدعوى فسق أصحابها، يعيش وأصحابه في جُحر مظلم، ويبيتون أفكارهم في ظلام مُدْلَهِمّ (3)، فتبيَضّ وجوههم بكل فُـتيا تعسر على الناس أمر معاشهم، وتسوَدّ وجوههم من كل فتيا تيسر على الناس أمر معاشهم، ولو كان دليلها قائما، أو له حظ من النظر، ولو كان ضعيفا دعت إليه الضرورة الفقهية، ولو كان مخرجه من عالم مشهود له قديما أو حديثا، ولو كان عليه العمل عند أهل العلم في مكان معين، أو في زمن ذي واقع مشابه...

مع أن الصحابة رضوان الله عليهم، وهم خير الخلق بعد رسول الله، تفاوتت فهومهم، وفهوم تابعيهم بإحسان، والعلماء إلى يومنا هذا، فيستدرك بعضهم على بعض، ويرد بعضهم على بعض، ولا تتجاوز معظم المسائل عن كونها مترددة بين الصواب والخطأ، أو الراجح والمرجوح، أو الأَولى وخلافِه، أو بين اختيارات متوازية في الصحة والصراحة، وقلما تكون مترددة بين الحق والباطل، أو بين إيمان القائل بها وكفره.

فيرى هذا الفريق أنفسهم الطائفة المنصورة وغيرهم من حولهم الطوائف المخذولة، مع أن الإمام النووي قد بين في شرحه لمعنى الطائفة المنصورة في الحديث: (قلت ويحتمل أن هذه الطائفة مفرَّقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض)(4)

فلِمَ لا يُوسعون مداركهم، ويكثرون من السفر لتوسعة آفاقهم، لا لِلُـقْيا أصحابهم؛ ولِم لا يعددون مراجعهم، بل ويغيرونها كما غيرها من سبقهم، ويأخذون الحكمة حيث كانت، مهما كان انتماء قائلها، ألا ترى معي أن أبا هريرة أخذ الصدق من شيطان كذوب بإقرار النبي (ص) لهذا الصدق: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تَعلمُ من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ ). قال لا قال: ( ذاك شيطان)" (5) ، فأخذ ما كان صدقا من شيطان رجيم، ولكنه قال الحق في هذه.

ويبـيّن ابن تيمية رحمه الله أن الحق يُؤخذ مِن الذي قاله بِغض النظر عن القائل فقال: (وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله) (6)

فإذا كان الأمر كذلك، فلِم لا يأخذون الحق أو الصواب من المسلمين أمثالِهم، وهو أولى. ممن يستسقي رأيه من كتاب ربنا الكريم وسنة نبينا المطهرة على فهم علماء أمتنا الأثبات وخصوصا العاملين منهم الذين جالوا الآفاق وعرفوا عادات وأعراف الناس، مهما كان مرا مذاقُ هذا الحق أو متغيرا طعمه، فالقراءة من الكتب فقط دون علمٍ بالواقع تجعل فقهَ هذا الصنف بتنقيح مناطات الأحكام قليلا، وتجعل عِلمَهم بتحقيقها عديما.

قال ابن القيم رحمه الله: (ومن أفتى الناس بمجرّد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظمَ من جناية من طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل اضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان) (7)

هيّا ....اتركها – إن كنت منهم - فإنها مُنـتنة فما كان الرسول (ص) طعانا ولا لعانا ولا مكفرا، بل كان داعيا إلى الله بالحسنى، حريصا على إسلام الناس لا على إخراج الناس منه، حريصا على هدي الناس إلى الجنان، ودلالتهم على سبل النجاة والغفران.


----------------------------------
(1) الحوقلة: قولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله
(2) أوغاب البيت هو رديء متاعه كالقصعة والبرمة ونحوها
(3) شديد الظلام
(4) شرح النووي على مسلم 13/57
(5) رواه البخاري (فتح الباري 4/613) كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا..
(6) منهاج السنة النبوية 2/199 مؤسسة قرطبة الطبعة الأولى
(7) إعلام الموقعين 3/78

مصطفى الفاسي
02-14-2009, 01:59 PM
:emrose: الفصل الرابع: الصنف الرابع: المترددون :emrose:

وصنف رابع متردد، عرف الحق فلم يلزمه. يجيد الاستماع له ويطرَب لعلُوّه، ولكنه ضعيف لا يستطيع إظهاره في سلوكه، وإن أظهره على لسانه، فلا ينفعل للفضيلة مطاوعةً والتزاما. وتفنى جوارحه في إطاعة هواه ونزواته؛ فتعصي جوارحه بأمْرٍ منه، وتنحرف بأمر منه. فتظل هذه الجوارح معبَّدة لنفسه الأمارة.

هذه النفس التي عقلَـتْه بحبل سُرّي تغذيه وسوسةً ونفثا بالباطل، فتطوِّعه حيث ما استقر بها العزم على المعصية، فتجده ذليلا سائلا لُعابه منطاعا، يُسَوّف ويسوف، وكأنه يعلم وقت موته، وكأنه على موعد متأخر مع ملك الموت، لا يسمع أثناء ارتكاب المعاصي من كلام الدالّين على الخير إلا دعاء ونداء، كمن يجد نفسه بعد انقطاع خط الهاتف يكلم نفسه !؟

فهذا الصنف كلما أُخرج من فتنة أُركِس في أخرى، تزوج فلم يستمر، أو ربما لم يتزوج، فتجد أبناءه متفرقين بين نساء أجنبيات عَرفهن في نزواته، فربما تذكر بعضهم، وأما أصحابه فهم أكثر تورطا منه في عنكبوت المعصية، الليل عندهم كالنهار، الثابت عندهم كالهباء.

لكن هذا الصنف مع كل ما ذكرنا، وجدتُه يحب الله ورسوله، ويذرف الدموع لسماع كلام الله وكلام رسوله، وكلما ذكرته بالله تذكّر، ولكنه بدلا من أن يتوجه إلى المسجد، يتوجه إلى الحانة لِـيُنـِيم الضمير الذي استيقظ، هروبا من الذكرى، وهروبا من مواجهة نفسه، والقيامِ بواجبه ومسؤولياته. وربما صلى في رمضان، فتفرح به ملائكة الرحمن، وتستبشر بحضوره قلوب أهل الإيمان، وإذا ما انتهى رمضان، سبق ظله إلى ظلم نفسه، وأصبح لا يُرى في المسجد إلا مكانُه، ورجع إلى ماضٍ ليس له فيه نور يسعي بين يديه.

أقول لك أيها القارئ إن كنت من هذا الصنف أو متأثرا به: لا يعلم أحد من يموت على الإيمان إلا الله، ولعلك أفضل من كثير ممن تراه راكعا ساجدا عُجْبا ورياء، فقد يصير الناسك عاصيا وقد يصير العاصي ناسكا، فما بينك وبين أن تكون في زُمرة المتقين، ولا بينك وبين أن تكون في زمرة المصطفين إلا خطوة واحدة ثابتة، فاسمع بإمعان إلى الرحمن الرحيم وهو يقول: " وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون" (1)

فجعل الله سبحانه المتقين فريقين، فريق ينفق في السراء والضراء ويكظم الغيظ ويعفو عن الناس، وفريق إذا فعل فاحشة، أو ظلم نفسه ذكر الله واستغفر لذنبه، وندم على ما فعل؛ فكلاهما من المتقين، فلا تحقرن أيها الأخ الفاضل من المعروف شيئا، فكم تصدقت، وكم ساعدت من الناس، وكم بررت بوالديك، وكم أكرمت الضيوف، وكم، وكم...فلا تظنـّنّ أن الوقت قد رحل، وأن اللحوق بزمرة المتقين الأولى صار ضربا من الخيال، أو أن أبواب بيوتها أوصدت فلا تفتح أبدا..

قال سبحانه "وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً" (2)

وقال سبحانه "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (3)

وكذلك استمع بإمعان إلى قول الرحمن تعالى وهو يقول في هذه الآية العظيمة:

" ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ" (4).

لقد جعل الله سبحانه الظالم لنفسه، من المصطفَين الأخيار إذا ما تاب وأناب، وأصلح علاقته مع الله سبحانه، فاستغفر لذنوبه، ورجع إلى فطرته التي فطره الله عليها، فإن الله أرحم به من أمّه التي ولدته، وما عليه إلا أن ينْـثَـنِـيَ راجعا بنيّة لوجه الله خالصة، وعزم على طريق الفضيلة أكيد.

"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (5)


------------------------------------------


(1) سورة آل عمران، الآيات 133-135
(2) سورة النساء، الآية 110
(3) سورة الأعراف، الآية 201
(4) سورة فاطر، الآية 32
(5) سورة الزمر، الآية 53

مصطفى الفاسي
04-26-2009, 10:10 PM
الباب الثاني: الأخلاق العليّة، ويشتمل على تمهيد، و خمسة فصول


الفصل الأول: رسول الأخلاق، ويشتمل على أربعة مباحث
الفصل الثاني: اللين والرفق، ويشتمل على أربعة مباحث
الفصل الثالث: الرحمة، ويشتمل على أربعة مباحث
الفصل الرابع: العدل، ويشتمل على ستة مباحث
الفصل الخامس: خلق العفو والتسامح، ويشتمل على سبعة مباحث



الفصل الأول: رسول الأخلاق، ويشتمل على أربعة مباحث


المبحث الأول: إسلامنا ومكارم الأخلاق
المبحث الثاني: شهادة بعض المستشرقين
المبحث الثالث: حسن الخلق مع غير المسلمين سمة الأنبياء جميعا
المبحث الرابع: إيقاظ ونصيحة

مصطفى الفاسي
04-26-2009, 10:12 PM
الفصل الأول: رسول الأخلاق، ويشتمل على أربعة مباحث

المبحث الأول: إسلامنا ومكارم الأخلاق


لقد عُلم ضرورةً أن رسول الله ( ص ) بُعث متمّما للأخلاق، وكان ( ص ) أحسن الناس خلقا، بشهادة رب العالمين بذلك فقال سبحانه " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (35) وضرب ( ص ) للعالمين أروع الأمثلة في مكارم الأخلاق التي شهد له بها العدو قبل الصديق، فكان e كما حدَّث عنه علي بن أبي طالب وهو يجيب على سؤال ولده الحسن فقال: (كان رسول الله ( ص ) دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يوئس منه، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار ومما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث كان لا يذم أحدا ولا يعيره ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة من منطقه ومسألته حتى إذا كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول : إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها أرشدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه فيقطعه بنهي أو قيام) (36)

نعم كان رسول الله كذلك وأكثر، وأمر أمته بحسن الخلق فقال ( ص ) (37) : (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا)

وقال (38) ( ص ): (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس)،

وانظر إلى أخلاقه ( ص ) مع الغير عندما دخل مكة فاتحا ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟ قال أبو بكر، يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، قال قالت : فأجلسه بين يديه ثم مسح صدرَه، ثم قال له أسلمْ، فأسلمَ...القصة (39). وهو النبي الذي يُؤتَى، أراد أن يقوم ويأتي رجلا كافرا حينئذ لطعنه في السن، ويُعلم أمته محاسن الأخلاق من تواضع ولين وخفضِ للجناح، وكيف لا وهو الذي بعث متمِّما للأخلاق.

يقول الإمام القرافي (40) وهو يشرح معنى البر بالكافرين: الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وإكساء عاريهم ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم لا خوفا وتعظيما، والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، ومن العدو أن يفعله مع عدوه فإن ذلك من مكارم الأخلاق، فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل لا على وجه العزة والجلالة منا، ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم: اهـ

هذه كلمات ربانية من عالم رباني تسفر عن مدى العمق في فهم الإسلام وسماحته، بل وقد قال ذلك في أيام العز والتمكين حيث كان الكافر يعيش تحت أحضاننا، ولم نكن بحاجة إلى محاباتهم ولا إلى مداراتهم، فكيف بنا ونحن مستضعفون في بلادهم وتحت إمرتهم. فطوبى لمن وفقه الله لفقه هذا الدين، فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.

مصطفى الفاسي
04-28-2009, 11:33 AM
المبحث الثاني: شهادة بعض المستشرقين:

وحتى المنصفون من المستشرقين لم يجدوا أدنى حريـجة من الشهادة لرسول الله ( ص ) بحسن الخلق:

يقول المستشرق آرثر جيلمان : "لقد اتفق المؤرخون على أن محمداً( ص ) كان ممتازاً بين قومه بأخلاق جميلة؛ من صدق الحديث، والأمانة، والكرم، وحسن الشمائل، والتواضع.. وكان لا يشرب الأشربة المسكرة، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً" (41).

و يقول كارل بروكلمان: "لم تشبْ محمدا ( ص ) شائبة من قريب أو بعيد؛ فعندما كان صبياً وشاباً عاش فوق مستوى الشبهات التي كان يعيشها أقرانه من بني جنسه وقومه" (42)

أما توماس كارلايل فقال عن نبينا محمد ( ص ): "لوحظ على محمد r( ص )منذ صباه أنه كان شابًا مفكرًا وقد سمّاه رفقاؤه الأمين – رجل الصدق والوفاء – الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره. وقد لاحظوا أنه ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة. . وإني لأعرف عنه( ص ) أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فما شئت من لبّ ! وقد رأيناه ( ص ) طول حياته رجلاً راسخ المبدأ، صارم العزم، بعيد الهم، كريما برّا رؤوفا تقيا فاضلا حرا، رجلاً شديد الجدّ مخلصا، وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة، جمّ الِبشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق.. وكان ذكي اللب، شهم الفؤاد.. عظيمًا بفطرته، لم تثقفه مدرسة، ولا هذبه معلم، وهو غني عن ذلك.. فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء" (43).

تقول "أنـِي بِيسَانت" في كتاب: (حياة وتعاليم محمد): ( من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم، ويعرف كيف تربَّى وكيف عاش، إلا ويشعر بالتبجيل لهذا النبي العظيم، الذي هو أحد الرسل العظام، ورغم أن ما سوف أقوله معلوم للكثيرين، إلا أنني كلما أعدت قراءته شعرتُ بإعجاب جديد وبمعنى جديد للتبجيل لهذا المعلم العربي العظيم) (44).


وقال الباحث ألفرد الفانز: عن أخلاق محمد ( ص ) فيقول: (شب محمد ( ص ) حتى بلغ، فكان أعظم الناس مروءة وحلماً وأمانة، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم عن الفحش حتى عرف في قومه بالأمين، وبلغت أمانته وأخلاقه المرضية خديجة بنت خويلد القرشية، وكانت ذات مال ، فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة، فخرج وربح كثيراً، وعاد إلى مكة وأخبرها ميسرة بكراماته ، فعرضت نفسها عليه وهي أيم، ولها أربعون سنة، فأصدقها عشرين بكرة، وتزوجها وله خمسة وعشرون سنة، ثم بقيت معه حتى ماتت. ) (45).

ويتحدث الباحث الروسي آرلونوف، عن نبي الرحمة، ويقول: "اشتهر ( ص ) بدماثة الأخلاق، ولين العريكة، والتواضع وحسن المعاملة مع الناس، قضى محمد r أربعين سنة مع الناس بسلام وطمأنينة، وكان جميع أقاربه يحبونه حباً جماً، وأهل مدينته يحترمونه احتراماً عظيماً، لما عليه من المبادئ القويمة، والأخلاق الكريمة، وشرف النفس، والنزاهة ." (46).

أما إميل درمنغم فيدلل على نبوة محمد ( ص )، من خلال حادث وفاة ابراهيم بن رسول الله، فيقول : ".. ولد لمحمد ( ص ) من مارية القبطية ابنه إبراهيم فمات طفلاً، فحزن عليه ( ص ) كثيرًا ولحّده بيده وبكاه، ووافق موته كسوف الشمس، فقال المسلمون: إنها انكسفت لموته، ولكن محمدًا rكان من سموّ النفس ما رأى به ردّ ذلك فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد..". فقول مثل هذا مما لا يصدر عن كاذب دجال.." (47).

يقول الدكتور جان ليك في كتابه ( العرب) : "وحياة محمد ( ص ) التاريخية لا يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها الله .. بألفاظ قليلة ، بين بها سبب بعث النبي محمد( ص ) "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (48) وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف، ولكل محتاج إلى المساعدة، كان محمد ( ص ) رحمة حقيقة لليتامى، والفقراء، وابن السبيل، والمنكوبين، والضعفاء، والعمال، وأصحاب الكد والعناء، وإني بلهفة وشوق.. أصلى عليه وعلى أتباعه ! " (49).

ويقول جوستاف لوبون في كتابه (الدين والحياة)، عن علو أخلاق النبي محمد ( ص ) لاسيما رحمته ورقة قلبه، فيقول : "لقد كان محمد ( ص ) ذا أخلاق عالية، وحكمة، ورقة قلب، ورأفة، ورحمة، وصدق وأمانة" (50).

يقول العلامة الإنجليزي دُرّاني مشيراً إلى خلق الرحمة في النبي ( ص ) : "أستطيع أن أقول بكل قوة أنه لا يوجد مسلم جديد واحد لا يحمل في نفسه العرفان بالجميل لسيدنا محمد ( ص ) لما غمره به من حب وعون وهداية وإلهام.. فهو القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحبًا بنا حتى نقتفي أثره( ص )!" (51) ..

متروي
05-01-2009, 12:44 AM
السلام عليكم ورحمة الله تعالى و بركاته
و بعد
فلي عدة ملاحظات على كتابك لكن سأتركها حتى تكمل أما في هذه العجالة فعنوان كتابك هو (أخلاق المسلمين مع الغربيين بين الجحود والغلو ) و في الشريعة الاسلامية لا يوجد غربيون و شرقيون و شماليون و جنوبيون إنما يوجد كفار بأنواعهم الاربعة حربي و مستأمن و ذمي ومعاهد و لكل منهم حكم خاص به .
و الأمر الثاني و هو حكم الاقامة بين الكفار فله شروط و ضوابط فليس الباب مفتوحا هكذا كما هو الآن .

مصطفى الفاسي
05-02-2009, 03:50 PM
المبحث الثالث: حسن الخلق مع غير المسلمين سمة الأنبياء جميعا


كما أن حسن الخلق سمة الأنبياء جميعا حتى مع غير المسلمين، فانظر إلى سيدنا يوسف وهو مستضعف في السجن في حكومة لا تحكم بشريعة الإسلام، جاءه فتيان يسألانه عن تأويل الرؤيا، قال الله سبحانه على لسانيهما " وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " (52) فلو لم يكن من المحسنين ما سألاه عن التأويل. ولا كان على رأيه التعويل.

فحسن خلقه وطيب كلامه، وصبره على الأذى، وتقواه التي بلغت درجة الإحسان هي التي جعلته سبيلا إلى الهداية والرشاد، ومرجعا عند الحاجة، ولو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله، ولمَا كان سببا لتبليغ رسالة التوحيد.

بل استمِع إليه وهو يمزج مسألة الرؤيا وتأويلها بالدعوة إلى الله، فالداعية لا يترك موقفا إلا استغله للدعوة إلى الله، فقال الله سبحانه على لسانه: " قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ"(53)، إلى أن قال " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ " (54)، فلو كان سيئ الخلق ما استمعا لكل هذا وهما ينتظران الجواب على سؤالهما. فهذه رسالة لنا جميعا كي نتأسى بالأنبياء في مثل هذه المواقف.


المبحث الرابع: إيقاظ ونصيحة


فأَرِ القومَ من أخلاقك أيها المغترب وكن مثالا للرفعة والسمو والارتقاء، محطةً للإغراء والإعجاب ، نورا وصوى للهداية، مثارا للألفة لا للنفور، فإن أصحاب الأخلاق الحميدة هم الأقربون إلى النفوس، المحبوبون إلى القلوب، في تعداد أولي الأحلام، فما ارتفع الناس إلا بأخلاقهم، وما وزنوا إلا بميزان الأخلاق، التي صارت عملة نادرة في هذه الأيام...عندما انغمس الناس في أحضان المادة، وأخلدوا إلى الأرض، وقطعوا ممدود حبال السماء، ورضوا بالمكانة الدنيا دون العليا.

فكم من قوم بلغوا عُليا الدرجات في العلوم لكن اسأل التاريخ عن أخلاقهم..منبوذون حيث ما حلّوا، مَعِيـبون حيث ما ذكروا، فلا تكنْ كَهُم، واترك الإساءة لَهُم، وليكن لون أخلاقك أبيض يققاً ناصعا لا شية فيه، وليكن لقلبك ريحا كريح المسك، يستطيـبه كل ذي فطرة سليمة.

يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين (55) رحمه الله: ثم إن المسلمين لم يفتحوا البلدان إلا بعد أن فتحوا القلوب أولاً بالدعوة إلى الإسلام، وبيان محاسنه بالقول وبالفعل، وليس كزمننا اليوم نبيّن محاسن الإسلام بالقول إن بيّناه، أما بالفعل فنسأل الله أن يوفق المسلمين للقيام بالإسلام، فإذا رأى الإنسان الأجنبي البلاد الإسلامية، ورأى ما عليه بعض المسلمين من الأخلاق التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، من شيوع الكذب فيهم، وكثرة الغش، وتفشي الظلم والجور استغرب ذلك، ويقول: أين الإسلام؟. اهـ

وفي هذا يقول ابن القيم (56) رحمه الله: الدين كله خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين. اهـ

مصطفى الفاسي
05-05-2009, 11:01 PM
الفصل الثاني: اللين والرفق، ويشتمل على أربعة مباحث

المبحث الأول: إسلامنا وخلقا الرفق واللين
المبحث الثاني: شهادات بعض المستشرقين
المبحث الثالث: نماذج من رفقه بالمخلوقات
المبحث الرابع: إيقاظ ونصيحة

مصطفى الفاسي
05-05-2009, 11:02 PM
الفصل الثاني: اللين والرفق، ويشتمل على أربعة مباحث


المبحث الأول: إسلامنا وخُلقَـا الرفق واللين

إن الله سبحانه أمرنا أن ندعو إليه بالتي هي أحسن وليس بالتي هي أخشن، فاللين في الخطاب والرحمة بالخَلق خلق الأنبياء، كما أن الفظاظة وغلظة القلب خلق الأعمياء، قال سبحانه مخاطباً موسى عندما بعثـه إلى فـرعــون: "اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى" (57) وقال سبحانه: "اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (58) وبيّن القرآن الكريم أن هذا الخلق الذي أمر به موسى (ص) هو ذات خلق النبي (ص) وفطرته فقال سبحانه "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (59).

ودعا النبي (ص) إلى الرفق في أحاديث كثيرة منها: ما رواه خالد بن معدان عن النبي (ص): "إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف" (60) ، وعن جرير بن عبد الله عن النبي e: " من يحرم الرفق يحرم الخير" (61).

وكان يأمر (ص) أصحابه رضوان الله عليهم به، فعندما بعث النبي (ص) معاذََ بن جبل إلى اليمن قال له (إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ...الحديث (62))

فأمره أن يدعوهم إلى رسالة التوحيد بكل حِلم وتأنٍّ، وقال لمعاذ وأبي موسى الأشعري: حين أرسلهم إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تُنفرا ) (63)، وها هو ذا النبي (ص) حتى في غزوة خيبر وهم يريدون فتح آخر حصن، يسأله عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ما اختاره لحمل الراية: (يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال "انفذ على رسلك. حتى تنـزل بساحتهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه. فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" (64)..

نعم هي خيبر التي كانت آخر معقل لليهود، وبعد كل ما فعلوا برسول الله (ص) وبالمسلمين، وفيهم وسلام بن مشكم؛ وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع وغيرهم، يقول رسول الله (ص) ادعُهم إلى الإسلام أولا !!، إنها قمة في الرجاء والأمل بأن يهتدي أحدهم إلى الحق بإذنه سبحانه، فيسلم، فيفوز بخيري الدنيا والآخرة.

مصطفى الفاسي
05-05-2009, 11:04 PM
المبحث الثاني: شهادات بعض المستشرقين

يقول لويس سيديو: " كان (ص) يستقبل بلطف ورفق جميع من يودّون سؤاله، فيسحر كلماءه بما يعلو وجهه الرزين الزاهر من البشاشة، وكان لا يضج من طول الحديث، وكان لا يتكلم إلا قليلاً فلا ينمّ ما يقول على كبرياء أو استعلاء، وكان يوحي في كل مرة باحترام القوم له.. " (65).

قال عالم الفلسفة اللاهوتية أوليفروس من كولونيا في رسالته إلى السلطان الكامل سنة 1221 (منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن تكون أسراك، لم نعرفك مستبدا طاغية، ولا سيدا داهية، وإنما عرفناك أبا رحيما شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذا في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله.. إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقانهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم خصاصة، وأسدَوا إلينا كل ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان) (66)

وقال هنري دي كاستري: هكذا جذب الإسلام قسمًا عظيمًا من العالم... بما اشتمل عليه من الترفق بطبيعة البشر حيث أتاح للناس شيئًا مما يشتهون. (67).

ويقول "هربرت ولز : هذا الإلحاح على الرفق والرعاية في الحياة اليومية إنما هو واحد من فضائل الإسلام الكبرى بيد أنه ليس الفضيلة الوحيدة فيه (68).

فارس الكلمة
05-06-2009, 02:54 PM
جزاك الله خير

مصطفى الفاسي
06-02-2009, 09:21 PM
المبحث الثالث: نماذج من رفقه بالمخلوقات
المطلب الأول: رفقه بغير المسلمين


وانظر أيها القارئ الكريم إلى رسول الله (ص) يوم الفتح وقد أمر بقتل بعض المشركين ممن عثا في الأرض فسادا، وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة، فجاءت أم هانئ وقالت ( زعم ابن أمي (69) أنه قاتلٌ رجلا قد أجَرْتـُه، فلان ابن هبيرة. فقال رسول الله (ص) : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) (70) رجل مشرك أمر النبي (ص) القائد ورئيس الدولة بقتله بعينه، يعفو عنه ويتركه لامرأة أًجَرَته بكل سماحة ورحمة.

بل إن رفق نبينا (ص) تعدى حتى إلى من دعا عليه (ص) من الكافرين، فاستمِع إليه وهو يرشد أمنا عائشة رضي الله عنها إلى أحسن القول وقد غاظها ما سمعته من رهط من اليهود استأذنوا على رسول اللَّه e فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال (ص): "مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف" (71) - أو الفحش - قالت: ألم تسمع ما قالوا ؟ قال: "قال ألم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ" (72)

المطلب الثاني: أمره للأمراء بالرفق بالرعية


وأمر الأمراء بالرفق بالناس، وعدم الشق على الرعية، فعن عبد الرحمن بن شماسة قال أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت ممن أنت فقلت رجل من أهل مصر. فقالت كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه فقال ما نقمنا منه شيئا إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير والعبد فيعطيه العبد ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة فقالت أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبى بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله (ص) يقول في بيتي هذا "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" (73) اهـ

المطلب الثالث: أمره بالرفق بالحيوانات


نهى أن تصبر البهائم (74) ،

ولعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا (75) ،

وأخبر بأن امرأة عذبت في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أعمتها وسقتها، إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" (76)

وعن مجاهد مرسلا : "نهى رسول الله (ص) عن التحريش بين البهائم" (77)

وعن جابر قال نهى رسول الله (ص) عن الضرب فى الوجه وعن الوسم فى الوجه (78).

وأخبرنا (ص) بأن رجلا دخل الجنة في كلب سقاه شربة ماء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله (ص) قال (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له) . قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا ؟ قال (في كل كبد رطبة أجر) (79)

المبحث الرابع: إيقاظ ونصيحة

فاعلم رحمك الله أن الخير كله في اللين، فما كان في شيء إلا زانه، فهو حلية الأتقياء، وزينة الأولياء، وحِلم العظماء، ووقار العلماء، وما دل على شيء دلالته على فقه صاحبه، وعقل حامله، وأدب لابسه، فإياك ثم إياك من غلظة السفهاء، وتسرع الأغبياء، وحماقة الضعفاء، وتخبط عشواء، وما ذكرناه نماذج تحتذى، ومهايع تنـتجع، ومسالك تنـتهج، فعُضَّ عليها بالنواجذ.

اخت مسلمة
06-03-2009, 01:44 AM
تسجيل متابعه
بارك الله فيك

مصطفى الفاسي
06-05-2009, 10:15 PM
الفصل الثالث: الرحمة، ويشتمل على أربعة مباحث

المبحث الأول: إسلامنا وخلق الرحمة بالخلق
المبحث الثاني: شهادة بعض المستشرقين
المبحث الثالث: نماذج من رحمته ( ص )
المبحث الثالث: إيقاظ ونصيحة

مصطفى الفاسي
06-05-2009, 10:19 PM
الفصل الثالث: الرحمة، ويشتمل على أربعة مباحث

إن الرحمة بالخَلق لهي أعظم صفة خلقية على الإطلاق، وهي أس النظام الأخلاقي وعموده الذي لا يستقيم شيء في حياة البشر إلا به، وما أُرسل رسول الله (ص) إلا رحمة للعالمين، فلِمَ لا نقتبس من نور رحمته، ونغترف من بحر رقته، الشيء الذي شهد له بها الأعاجم قبل الأعاريب، الأكابر قبل الأصاغر، الأوربيون قبل المسلمين

المبحث الأول: إسلامنا وخلق الرحمة بالخلق:

لقد أكد القرآن على أن الرحمة مبدأ وقيمة خالدة وحميدة كتبها الله سبحانه على نفسه "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ"(80) ، ويرجوها الناس منه سبحانه، يقول تعالى: "أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"(81) ، ويقول تعالى " وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" (82).

كما أنه تعالى يأمر بها ويثيب عليها، يقول تعالى:" أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"(83) ، ويقول تعالى:" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا" (84) ،

كما يتفضل تعالى على خلقه بكل أنواع الخير رحمة منه :" فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ" (85) ، وقال تعالى "وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا" (86).


كما يذم سبحانه غلاظ القلوب، وكل من نزعت الرحمة من قلبه، يقول تعالى" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (87) ، ويقول تعالى: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " (88) وقال تعالى: "فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ" (89)، ويقول تعالى: "لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" (90)

بل وإن الله تعالى يعاقب ناقضي العهود من العصاة بقسوة القلب، يقول سبحانه: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا "(91).

أما رسوله (ص) فقد أمر بالرحمة وكانت خلقَه:

فعن أنس بن مالك، قال رسول الله (ص): "والذي نفسي بيده، لا يضع الله رحمته إلا على رحيم قالوا: يا رسول الله، كلنا يرحم، قال: ليس برحمة أحدكم في خاصة صاحبه حتى يرحم الناس كافة" (92).

كما تجلت مظاهر رحمته (ص) في كل تصرفاته (ص) مع الكبير والصغير، مع الأحياء والأموات، مع الإنسان والحيوان والجماد.

مصطفى الفاسي
06-07-2009, 11:36 PM
المبحث الثاني: شهادة بعض المستشرقين:

• يقول وليم موير في كتابه (حياة محمد) ما نصه: "ومن صفات محمد (ص) الجليلة الجديرة بالذكر، والحَرية بالتنويه : الرقة و الاحترام، اللذان كان يعامل بهما أصحابه، حتى أقلهم شأناً ، فالسماحة والتواضع والرأفة والرقة تغلغلت في نفسه، ورسخت محبته عند كل من حوله، وكان يكره أن يقول لا ، فإن لم يمكنه أن يجيب الطالب على سؤاله ، فضل السكوت على الجواب ، ولقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها ، وقالت عائشة رضي الله عنها، :وكان إذا ساءه شيء تبينا ذلك في أسارير وجهه، ولم يمس أحدا بسوء الا في سبيل الله، ويُؤثر عنه أنه كان لا يمتنع عن إجابة الدعوة من أحد مهما كان حقيرا، ولا يرفض هدية مهداة إليه مهما كانت صغيره، وإذا جلس مع أحد أيا كان لم يرفع نحوه ركبته تشامخا وكِبرا"(93).

• ويقول واشنجتون ايرفنج، في كتابه (حياة محمد)، "كانت تصرفات الرسول (ص) عقب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" (94).

• ويقول جوستاف لوبون في كتابه (الدين والحياة)، عن رحمته فيقول : "لقد كان محمد (ص) ذا أخلاق عالية، وحكمة، ورقة قلب، ورأفة، ورحمة، وصدق وأمانة" (95).

• ويقول توماس كارلايل عن رحمته: ".. لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير (ص) ... العظيم النفس، المملوء رحمة، وخيرًا، وحنانًا، وبرًا، وحكمة، وحجى، ونهى.. أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه" (96).

• يقول المستر جان ليك في كتابه (العرب) : "وحياة محمد (ص) التاريخية لا يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها الله .. بألفاظ قليلة، بين بها سبب بعث النبي محمد (ص)"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (97) وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف، ولكل محتاج إلى المساعدة، كان محمد (ص)رحمة حقيقة لليتامى، والفقراء، وابن السبيل، والمنكوبين، والضعفاء، والعمال، وأصحاب الكد والعناء، وإني بلهفة وشوق.. أصلى عليه وعلى أتباعه " (98).

• يقول ديوان شند شرمة في كتابه (أنبياء الشرق) : (لقد كان محمد روح الرأفة والرحمة وكان الذين حوله يلمسون تأثيره ولم يغب عنهم أبدا) (99).

• قال القس ميشون الألماني في كتابه (سياحة دينية في الشرق): (إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التعامل وفضائل حسن المعاملة، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيهم محمد (ص) (100).


تكفينا هذه الشهادات لنبي الإسلام، وكفى بالرب الرحيم الذي هو بهذه الصفة عليم له شهادةً، فقال: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (101).

مصطفى الفاسي
06-15-2009, 06:43 PM
المبحث الثالث: نماذج من رحمته (ص)


نذكر نزرا يسيرا من مظاهر رحمته من باب التذكير:

المطلب الأول: رحمته (ص) بالضعفاء:

لقد كانت الأمة من إماء المدينة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت (102) وهذا ليس مقتصرا على الإماء والعبيد، أو على الرجال دون النساء، أو على الكبار دون الصغار، بل هذا حاله وديدنه (ص) مع الجميع، فلا يرتاح حتى يقضي حوائج الناس، لا مثل كثير من الدعاة والعلماء في هذه الأيام يحبون أن يخدموا أكثر من محبتهم لخدمة الناس إن هم خدموهم.

المطلب الثاني: رحمته (ص) بالبنات الصغار

فعن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: أتيت رسول الله (ص) مع أبي وعلي قميص أصفر قال رسول الله (ص) "سَنَه سَنَه" - قال عبد الله وهي بالحبشية حسنة - قالت فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني (103) أبي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "دَعْها". ثم قال رسول الله (ص) "أَبْلي وأَخْلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي" (104) .

فعن عائشة زوج النبي (ص) حدثته قالت: جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه و سلم فحدثته فقال: "من يلي من هذه البنات شيئا فأحسن إليهن كُن له سترا من النار" (105) ..

وعن أبي قتادة قال: خرج علينا النبي (ص) وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها (106).

المطلب الثالث: رحمته (ص) باليتامى:


قال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى (107).

وعن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال: "إني أحَرِّج (108) عليكم حق الضعيفين : اليتيم والمرأة" (109)

المطلب الرابع: رحمته (ص) بالأرامل

فعن أنس أن امرأة كان فى عقلها شيء فقالت يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال "يا أم فلان انظري أي السِكك شئت حتى أقضِيَ لك حاجتك ». فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها" (101).

وعن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: "الساعي على الأرملةِ والمسكين كالمجاهدِ في سَبيلِ الله: كالقائم لا يَفتُر، وكالصائم لا يُفطِر" (111).

المطلب الخامس: رحمته (ص) بالمسنين:

وذلك لسنهم مهما كان لونهم ومهما كان دينهم ما رواه أنس بن مالك عن النبي r قال "ما أكرم شابٌ شيخا لسِنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه" (112)

عن أبى موسى الأشعري قال: قال رسول الله (ص) "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط" (113).

المطلب السادس: رحمته (ص) بالجمادات:

أنه كان يربط علاقة حميمة معها فيحبها ويسميها، وكأنني أنظر إليه (ص) وهو يكاد يعانق جبل أحد محبة له فقال حين طلع له "هذا جبل يحبنا ونحبه" (114).

ثم إنه كشف عن ثوبه حين هطل المطر، ليصيب البلل جلده الشريف، قال أنس "أصابنا ونحن مع رسول الله (ص) مطر، قال فحسر رسول الله (ص) ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا يا رسول الله لم صنعتَ هذا قال "لأنه حديث عهد بربه تعالى" (115). قال النووي شارحا: ومعناه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها. اهـ

بل وأبعد من ذلك فكان (ص) يربط علاقات مع آنيته ودوابه ويسميها (116) ، فكانت له قصعة يقال لها الغراء، وكان له قدح من الحجارة يقال له الريان، وكان له سرج يقال له الراج، وكان له بساط يقال له الكج، وركوة (117) يقال لها الصادر، وناقته القصواء...، فقولوا لي أيها الإخوة مَن منا يسمّي سيارته، أو ثلاجته، أو كوبه المعتاد شيئا ؟!

المطلب السابع: رحمته (ص) بالأموات

أنه (ص) مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي فقال ( ألست نفسا) (118)

ومر رسول الله (ص) على قبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما هذا فكان لا يستتر من بوله وأما هذا فكان يمشي بالنميمة" ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين فغرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" (119)

المطلب الثامن: رحمته (ص) بأهل الذمة \

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص: عن النبي (ص) قال: "من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما" (120)

مصطفى الفاسي
06-15-2009, 06:45 PM
المبحث الثالث: إيقاظ ونصيحة


فهذا هو نبيك الرحيم أيها المغترب، وهذه نماذج عن رحمته بالآخر وخصوصا مع الكافرين، فمن حرمه الله من الرحمة، فقد حرم الخير كله، وأي شيء يبقى إن انعدمت الرحمة، فكن رحيما بنفسك، بزوجتك، بأبنائك، بأصحابك، بزملائك، بالخلق كلِّ الخلق، بالناس، كلِّ الناس.

فكن رحيما بحالنا الذي لا يخفى على أحد، فافعل ما يزين، لا ما يشين، وما يحسب لك، لا ما يحسب عليك، كن خير مثال للرحمة، وإن كانت من خصالك فاشكر الله على النعمة، ولا تتأثرْ بقُساة القلوب الذين لا يرقبون إلاًّ ولا ذمة، هؤلاء الذين يثبتون فشلهم في كل حين، هؤلاء المتسخطون على كل شيء، والناقدون لكل شيء، الذين لم يسلم أحد من لسانهم، ولا من أيديهم، هؤلاء الذين يفسدون ولا يصلحون، ويعسرون ولا ييسرون، ويهدمون ولا يبنون، هجروا المسلمين قبل الكافرين، المصلين قبل التاركين، كل واحد منهم يرى نفسه حقا مطلقا يمشي على الأرض، مَن خالفه رماه بالسخط، ومن ناقشه رماه بالغلط، يأخذ من الآراء أسودها لا أسدَدَها، أبعدها لا أجودها. وإلى الله المشتكى.