الجندى
05-08-2005, 05:17 PM
دلالة المثلية في آيات التحدي دراسة بيانية ناقدة
دكتور/ سعيد جمعة
الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر
كلية اللغة العربية
شبين الكوم
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ، والتابعين لهم بإحسان ، إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإنني لا أكاد أعلم قضية نالت من العناية والاهتمام ، وتنوعت فيها الكتب والدراسات مثل قضية الإعجاز في القرآن الكريم .
فكل من تناول القرآن الكريم على أي مستوى من مستويات التناول وقف بلا شك أمام الإعجاز ، سواء كان التناول بالشرح والتحليل ، أو النظر والتدبر واستخلاص الدروس ، أو حتى بالنقد والهجوم .
كل هؤلاء وغيرهم ( ممن تناول قضية الإعجاز ) وقف أمام عدة آيات يقال لها : ( آيات التحدى ).
وهذه الآيات - على قلتها – تمثل لب الإعجاز ، لأنها تطلب من الخلق كافة ومن المكذبين خاصة الإتيان بمثل القرآن ، أو ببعض من القرآن.
ومع كثرة المؤلفات إلا أنك لاتجد مايروي الغلة ، ويريح الفؤاد ، في توضيح معنى ( من مثله ) مع أن هذا هو المتحدى به ، وهو بيت القصيد وجوهر المراد.
فالتحدي في : ( حديث مثله ) ، أو في ( مثل هذا القرآن ) ، أو ( عشر سور مثله ) ، ( أو سورة من مثله ).
ذاك هو مناط التحدي.
ليس التحدي في المجيء بأعلى كلام في البلاغة ولا المجيء بأسهل لفظ وأحسن سبك وأجمل أسلوب 0 ، ولا المجيء بكتاب أو بعض كتاب يشمل تنبؤات عن الزراعة والفلك والطب ، وغير ذلك .
الإعجاز يكمن في هذا اللفظ ( المثل ).
فما المراد بكلمة المثل ؟
ذاك هو الموضوع.
وحقيقة لقد دفعني إلى ولوج هذا الخضمّ ماظهر في عصرنا من كتابات كانت في الماضي تختمر بخمار الخجل ، وتتقنع بقناع الحياء ، وكانت تغمز حينا وتلمز أحيانا أخرى وتدعى إمكان المجيء بمثل القرآن 0
وظل هذا يبدو ساعة ويختفي أخرى حتى فتحت علينا الأبواب كما تفتح يأجوج ومأجوج ، فامتلأت الأسماع والأبصار بكتابات وأصوات يصرخ أهلها ليل نهار ، بكلام زعموا أنه ( مثل القرآن ) ، وبهذا يسقط ( في زعمهم ) التحدي 0
لقد كتبوا كلاما ً على هيئة آيات القرآن الكريم ، وحوروا ، وبدلوا ، لكنهم جاءوا بالهيئة والنسق وتقسيم العبارات ونغماتها وفواصلها ، وصارت حربا ثقافية يريدون من ورائها سلخ الأمة من دينها وتشويه الكتاب المقدس الذي يحفظ لها هويتها ، ووحدتها ،حتى أن الأمر وصل إلى درجة أن يؤلف كتاب سموه ( الفرقان الحق ) وأرادوا تقريره على العالم الإسلامي والعربي ليكون بديلا عن القرآن الكريم !!!!
لقد وصل الأمر إلى هذا المدى وأكثر ، ناهيك عن مطبوعاتهم التي تقذف بها وسائل الإعلام صباح مساء0
ولكي أضع القارئ أمام هذا الذي يسمونه سورا تتحدى القرآن الكريم أنقل لكم سورة واحدة سماها صاحبها سورة الشجرة وقال إن عندي سبعين سورة على غرارها ويستطيع القارئ أن يرجع إلى مثل هذا فى مواقع الأنترنت مثل موقع منتدى نادي الفكر العربي والذي نقلت منه هذه الجمل التي يسميها صاحبها سورة الشجرة ، وهاهي تي :
سُورَةُ الشَّجَرَةِ
سُبْحَانَ الّذِي خَلَقَ فَقَدَّرَ (1) وَ جَعَلَ الْقَلَمَ سُنَّةً لِلْعَالَمِينَ (2) وَ أَوْحَى إِلَى فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ لِيُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ (3) وَ فَرِيقاً صَدَّ عَنْ الهُدَى فَأَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ تِلْكَ مَشِيئَةُ اللهِ رَبِّ العَالَمِينِ (4) فَمَنْ شَاءَ الهُدَى هَدَيْنَاهُ إِلَيْهِ وَ يَسَّرْنَا أَمْرَهُ وَ مَنْ رَغِبَ عَنْهُ فَالزَّيْغُ طَرِيقُهُ وَ مَا نَحْنُ بِظَالِمِينَ (5) سُنَّةُ اللهِ مُذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ فَرِيقٌ إِلَى جَهَنَّمَ وَ فَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ مُكْرَمِينَ (6) وَ اذْكُرْ فِي الكِتَابِ ذَا الهِمَّةِ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلى بَني إِسْرَائيِلَ وَ أَيَّدْناهُ بِذِكْرٍ مُبِينٍ (7) فَكَذّبُوُهُ وَ قَالُوا إِنْ أَنْتَ إِلاَّ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ (8) أَلاَ إِنَّهُم فِي ضَلالِهِم يُوغِلُونَ (9) فَفَجَّرْنَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم مَاءًا حَتّى بَلَغَ الْحَنَاجِرَ فَقَالوُا هذا سِحْرٌ مَكِينٌ (10) وَ غَرِقُوُا فِي اليَمِّ أَوْ كَادُوا يَغْرَقُونَ (11) فَقَالُوا ادْعُ لَنَا الْلّهَ يَرْحَمنَا فَنَكُونُ مِنَ التَّابِعِين (12) فَغِيضَ الْمَاءُ إِلَى بَطْنِ الأَرْضِ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ (13) فَقَالَ لَهُمْ هَذِهِ آَيةُ اللّهِ فَهَلْ أَنْتُم مُهْتَدُون (14) فَقَالُوا إِنَّا قَوْمٌ نَجُوعُ فَأَشْبِعْنَا أَبَدَ الدَّهْرِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين (15) فَأَنْبَتْنَا لَهُمْ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ شَجَرَةً مُبَارَكَةً تَسْقِيهَا المَلاَئِكَةُ بُكْرَةً وَ عَشِيّةً مِنْ مَاءٍ طَهُورٍ (16) وَ قُلْنَا لَهُمْ هَذِهِ شَجَرَةٌ مُبَارَكَةٌ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا لاَ يَجُوعُ أَبَداً عَلَّكُمْ تَشْكُرُونِ (17) فَأَكَلُوا مِنْهَا وَ لَمْ يَجُوعُوا أَبَداً وَ مَا كَانُوا مِن الشَّاكِرِينَ (18) فَقَالُوا يَا ذَا الْهِمَّةِ إِنَّا نَشْتَاقُ إِلَى الطَّعَامِ كَمَا يَشْتَاقُ الْعَاقِرُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ فَانْزَعْ عَنَّا الْشَّبَعَ نُعُودُ نَأْكُلُ فَكِهِينَ (19) فَنَزَعْنَا عَنْهُمُ الْشَّبَعَ عَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (20) فَاتَّبَعُوهُ حِيناً مِنَ الْدَّهْرِ وَ أَقَامُوا الْصَّلاةَ وَ آتُوا الْزَّكَاةَ وَ رَكَعُوا مَعَ الْرَّاكِعِينَ (21) فَكَتَبْنَا عَلَيْهِم الْجِهَادَ سُنَّة اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (22) فَقَالُوا كَيْفَ نُجَاهِدُ مَعَكَ وَ فِينَا الْشُّيُوخُ وَ الْغِلْمَانُ وَ الْمَرْضَى وَ الْنِّسَاءُ (23) قُلْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنْ قَرُّوا فِي بُيُوتِهِمْ هَذا وَعْدُهُمْ مِنَ اللهِ الْغَفُورِ الْرَّحِيمِ (24) لَيْسَ عَلَى الْشُّيُوخِ وَ لاَ الْغِلْمَانِ وَ لاَ الْمَرْضَى وَ لاَ الْنِّسَاءِ قِتَالٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ مَنْ جَاهَدَ عَنْ نَفْسِهِ بِالمَالِ فَقَدْ حَقَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْدِّينِ (25) قَالُوا وَ إِنْ تَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءُ اللهِ مِنْ خَلْفِ ظُهُورِنَا فَمَاذَا نَحْنُ فَاعِلُونَ (26) فَأَنْزَلْنَا مَلاَئِكَةً مُسَوَّمِينَ يَحْرُسُونَهُمْ فِي الْلَّيْلِ وَ الْنَّهَارِ فَلاَ تَخَافُوا عَلَيْهِمْ وَ أَطِيعُونِِ (27) فَقَالَ قَائِلُهُمْ يَا ذَا الْهِمَّةِ كَيْفَ نُقَاتِلُ مَعَكَ وَ نَحْنُ قَوْمٌ نَجُوعُ حِيناً وَ نَشْبَعُ حِيناً فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُشْبِعْنَا أَبَدَ الْدَّهْرِ فَنَكُونُ لَكَ بِإِذْنِ اللهِ مِنَ الْنَّاصِرِينَ (28) فَارْبَدَّ وَجْهُ الْنَّبِيِّ وَ قَالَ بِئْسَ مَا أَنْتُمْ طَالِبُونَ (29) قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ وَ رَفَعَكُمْ دَرَجَاتٍ وَ أَمَدَّكُمْ بِالْخَيْرَاتِ وَ أَنْتُمْ أَخْزَيْتُمُونِ (30) هَذَا فِرَاق ٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ (31) وَ مَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (32) وَ تَرَبَّصُوا بِهِ عِنْدَ الْشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ وَ قَالُوا جِئْنَاكَ طَائِعِينَ (33) وَ أَحَاطُوا بِهِ وَ مَنْ تَبِعَهُ مِن الْمُؤْمِنِينَ (34) وَ انْدَفَعَ أَشْقَاهُمْ مِن خَلْفِهِ وَ طَعَنَهُ فَارْتَجَّت الأَرْضُ وَ كَادَتْ تَنْفَطِرُ الْسَّمَاءُ فَقُلْنَا لَهَا اعْقِلِي مَوْعِدُهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ المَآَلِ (35) وَ أَحَاطَهُمْ غَضَبٌ مِن اللهِ فَكَتَبْنَا عَلَيْهِم الْتِّيهَ فِي الأَرْضِ وَ كَتَمْنَا عَلَى أَفْوَاهِهِم وَ عُيُونِهِم وَ قَطَعْنَا نَسْلَهُم إِلاَّ فِئَةً قَلِيلَةً لِتَكُونَ شَاهِدَةً عَلَى سَخَطِ اللهَ وَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِكُلِّ جَاحِدٍ أَثِيمٍ (36) يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اذْكُرُوا يَوْمَ تَقُومُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ تَجُرُّونَ خَطَايَاكُمْ لاَ يَخْفَى مِنْكُمْ قَوْلٌ وَ لاَ فِعْلٌ وَ لاَ خَاطِرٌ وَعَلَيْنَا تُعْرَضُونَ (37) فَمَنْ نَجَا مِنْكُمْ فَقَدْ آَبَ إِلَى دَارِ الْسَّكِينَةِ أَنْهَارُهَا طِيِبٌ وَ نِسَاؤُهَا أَبْكَارٌ لاَ تُشَارَكُونَ بِهِنَّ وَ إِلَيْهِنَّ تَخْلُدُونَ (38) وَ أَمَّا مَنْ سَقَطَ السَّقْطَةَ الْكُبْرَى فَأُولَئِكَ يُجَرُّونَ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَ آَذَانِهِمْ وَ عُيُونِهِمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلِهِمْ وَ فُرُوجِهِمْ عَلَى بَلاَطِ جَهَنَّمَ يَغْلِي رُؤُوسَهُمْ وَ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَهْزِئُونَ (39) كَفَرُوا بِاللهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ قَلَمِهِ وَ قَالُوا مَا لَنَا مِنْ مَآَبٍ بَعْدَ مَوْتِنَا وَ هَاؤُمُ الآَنَ يَبْكُونَ (40) وَ أَشْرَكُوا مَعَ اللهِ أَرْبَابَ الْجِنِّ وَ الإِنْسِ وَ مَا لاَ يَضُرُّ وَ لاَ يَنْفَعُ يَدْعُونَهُمْ جَهْلاً وَ لاَ يُعْذَرُونَ (41) وَ لَمْ يَقُومُوا إِلَى الْصَّلاَةِ وَلَمْ يُؤْتُوا الْزَّكَاةَ وَ قَتَلُوا الْنَّفْسَ الْغَافِلَةََ أَلاَ بِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (42) وَ اجْتَمَعُوا عَلَى الْفَاحِشَةِ كَمَا يَجْتَمِعُ الْذُّبَابُ عَلَى جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ أُولَئِكَ حَطَبُ جَهَنَّمَ وَ أُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (43) يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اذْكُرُوا يَوْمَ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ عَدَمٍ وَ هَيَّئْنَا لّكُمْ الأَرْضَ لِتَعْمُرُوهَا وَ تَأْكُلُوا مِنْهَا أَنْتُمْ وَ أَنْعَامُكُمْ وَ تُوَارِي أَمْوَاتَكُمْ وَ سَوْآتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً وَ طَهَارَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (44) وَ سَخَّرْنَا لَكُمْ الْهَوَاءَ يَحْمِلُكُمْ فِي الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الأَرْضِ لِتَعْمُرُوهَا بِإِذْنِ اللهِ وَ يَحْمِلُكُمْ فِي الْسَّمَاءِ لِتَرَوْا آَيَاتِنَا رَأْيَ الْعَيْنِ وَ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ تَرْكَعُوا مَعَ الْرَّاكِعِينَ (45) وَ أَسْقَيْنَاكُمْ مَاءَاً عَذْبَاً جَارِيَاً يُذْهُبُ الظَّمَأَ قُلْ لَوْ كَانَ مِلْحَاً أُجَاجَاً أَوْ عَذْبَاً آَسِناً فَكَيْفَ مِنْهُ تَشْرَبُونَ (46) وَ جَعَلْنَا إِخْوَاناً لَكُمْ مِنْ آَبَائِكُمْ وَ مِنْ غَيْرِ آَبَائِكُمْ وَ أَبْنَاءً لَكُمْ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَ مِنْ غَيْرِ أصْلاَبِكُمْ يُؤْنِسُونَكُمْ وَ يُظَاهِرُونَكُمْ أَفَلاَ تَشْكُرُونَ (47) مَا ضَرَّ اللهَ لَوْ حَبَسَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ أَسْقَطَكُمْ مُضْغَةً فِإِذَا أَنْشَأَكُمْ وَ اشْتَدَّ بَأْسُكُمْ افْتَرَيْتُمْ عَلَى اللهِ وَ قُلْتُمْ مَا خَلَقَنَا غَيْرُ أُمَّهَاتِنَا قُلْ فَمَنْ خَلَقَ لَكُمْ أُمَّهَاتِكُمْ مِنْ قَبْلُ قَلِيلاً مَا تَعْقِلُونَ (48) وَ لَوْ شِئْنَا لَحَبَسْنَا عَنْكُمْ الْمَاءَ وَ الْهَوَاءَ وَ فَجَّرْنَا نَاراً مِنْ تَحْتِكُمْ وَ أَظْلَمْنَا الْسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ وَ نَشَرْنَا فِيكُمْ الْمَرَضَ كَمَا فَعَلْنَا بالْكَافِرِينَ مِنْ قَبْلُ لَكِنَّا عَلِمْنَا أَنَّ فِيكُمْ مُؤْمِنِينَ فَانْتَظِرُوا يَوْمَ الْمَآَبِ (49) مِنَ الْنَّاسِ مَنْ يَقُولُ سَمِعْنَا وَ أطَعْنَا وَ مِنَ الْنَّاسِ مَنْ يَقُولُ سَمِعْنَا وَ عَقِلْنَا وَ مِنَ الْنَّاسِ مَنْ يُجَادِلْ وَ هُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (50) فَإِنْ جَادَلُوكَ أَقِمْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةََ بِالْحَقِّ تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى أَسْيَادِهِمْ أُسْقِطَ في أيديهِم وَ بَاتُوا بُكْماً كَأَهْلِ الْقُبُورِ (51) فَيقولُونَ شَاعِرٌ قُلْ هَاتُوا شُعَرَاءَكُمْ وَ مَنْ يَفْتَرِي فَلَهُ الْخِزْيُ أَبَداً لاَ يَسْتَطِيعُونَ لِهَذَا الْكِتَابِ رَدّاً وَلاَ شَبَهاً مَشِيئَةَ اللهِ الْقَدِيرِ الْحَكِيمِ (52) وَ يَقُولُونَ شَاعِرٌ قُلْ هَاتُوا شُعَرَاءَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ (53) وَ إِنْ قَالُوا ائْتِنَا بِالسَّحَابِ مُسَيَّراً أَوْ اجْعَلْ لَنَا الْجِبَالَ ذَهَباً أَوْ طِرْ إِلَى الْقَمَرِ قُلْ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ اللهِ وَ مَا كُنْتُ سَاحِراً وَ لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَكُونَ(54) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْتَرِي عَلَيْنَا آَيَاتٍ خَدَاجٍ وَ يَقُولُ أُوتِيتُ كَمَا أُوتِيَ هَذَا الرَّجُلُ قُلْ هَلْ لَكَ أَنْ تَهْدِي بِهِ أَقْوَاماً إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (55) أُولَئِكَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ الذِّلَّةَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا زَيَّنَتْ لَهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ وَ فِي الآَخِرَةِ لَهُمْ شَرُّ الْعَذَابِ (56) هَذَا كِتَابُ اللهِ آَيَةً أَبَداً فَمَنْ شَاءَ الإِيمَانَ فَلَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ وَ مَنْ شَاءَ الْكُفْرَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ مَا لَهُ مِنْ حُجَّةٍ عَلَى اللهِ قَدَراً قَضَيْنَاهُ عَلَى الْعَالَمِينِ (57)
وهذه نقطة من طوفان غمر المواقع المختلفة على الانترنت وراح بعضهم يشجع بعضا ويمدحه على هذه السورة العظيمة مما يؤكد أن هؤلاء يرمون عن قوس واحدة ، وأن لهم غاية لن ينفكوا عنها ، وهي إسقاط قدسية القرآن الكريم من عيون الشباب 0
وحقيقة لقد خرج جمع من طلبة العلم وشمروا سواعدهم ليكشفوا زيف هؤلاء ، ويردوا عن القرآن ، ويزودوا عن حماه ، ويفندوا هذه الأباطيل ويوضحوا للناس تهافت هذا الكلام الذي لايخلو من الخطأ النحوي فضلا عن غيره 0
وراح آخرون ينافحون عن القرآن الكريم من خلال الدعوة إلى النظر إلى إعجازه العلمي ، و العددي ، ورأوا أن ذاك هو المخرج من هذا الجدل حول بلاغة القرآن وبلاغة العرب ، وحتى لا تبدوا لغتنا متخلفة عن الركب ، هكذا زعموا !!
ومن هنا كان لابد على طلاب العلم ، والمشتغلين بالبلاغة العربية خاصة من الوقوف في الميدان ، فالقضية تعنيهم في المقام الأول قبل غيرهم ، ليبينوا للناس ما نزل على رسول الله والفارق بين كلام البشر وكلام رب البشر ويفضحوا سمادير هؤلاء وترهاتهم التي أغرقت الساحات الثقافية المختلفة 0
وكان هذا البحث ضوءا على الطريق يكشف صاحبه من خلاله موطن التحدي ومناط الإعجاز كما تبين له0
فما معنى المثلية المنصوص عليها في آيات التحدي ؟
وهل كل معجز في القرآن الكريم يقع التحدي به ؟
وإذا كان علماؤنا الأوائل _ ولأسباب مفهومة _ قد وجهوا جل اهتمامهم إلى الإعجاز البلاغي ، وربطوا ذلك بفصاحة العرب وبراعتهم في اللغة وقدرتهم على صوغ الكلام وحبكه ، فهل هذا التوجه يناسب عصرنا الحاضر ؟ أم أن الأمر يحتاج إلى مراجعة لإظهار موطن الإعجاز البلاغى أو لتحويله إلى ما هو أولى منه ؟
وبخاصة أنه لا يوجد في صريح القرآن الكريم ولا صريح السنة الشريفة – على حد معرفتي – ما ينص على أن التحدي في بلاغة القرآن الكريم ونظمه 0
ولا يظن القارئ أنني اتخذت قبل البحث موقفاً أنافح عنه ، فالواقع أنني ظللت أياما طويله أرجح رأيا من الآراء ، ثم بعد فترة أراه يتهاوى أمام النظر ، فأرجح غيره وظللت هكذا ما يقرب من العام افترض شيئا ثم أراه يتهاوى عند التأمل حتى وصل البحث إلى النتيجة التي أرتضيها والتي أدين بها لربي سبحانه وتعالى 0
أقول هذا وأنا أدرك ، بل أنا على يقين من أن كتاب الله تعالى لا يبخل على ناظر فيه 0
كيف وهو الكريم ؟
أقول هذا وأنا أعي مراد هؤلاء الطاعنين في كلام الله تعالى الزاعمين أنهم جاءوا بشيء ؟
أقول هذا وأنا أستحضر قول الله تعالى ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ) (النساء:89)
هذا وقد سلك البحث منهجا نقديا أحاول من ورائه تحليل ما قاله علماؤنا ووضعه أمام النظر من خلال توافق أو اختلاف النصوص بعضها مع بعض وربط ذلك بنصوص القرآن الكريم وما يموج به عصرنا من توجهات والوصول من وراء ذلك كله إلى ما أرتضيه لكتاب الله تعالى 0
وغايتي بعد رضا الله تعالى النصح لكتابه الكريم فالدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وقد اختط هذا البحث لنفسه خطة يتبدى من خلالها للقارئ الكريم وهي على النحو التالي :
( مقدمة ، وستة مباحث ، وخلاصة ، ثم فهرس للعناوين وآخر للكتب ) .
في المقدمة :
طرحت فكرة البحث ، والدافع إليه ، وغايته ، وخطته .
وفي التمهيد :
تناولت كثرة الحديث حول الإعجاز إثباتاً أو نفياً ، وعرجت على من سبقني إلى هذا المضمار الخاص وهو دلالة المثلية .
وفي المبحث الأول :
تناولت دلالة المثلية في لغة العرب وفي كتاب الله تعالى ، بحيث يستطيع القارئ أن يرسم شخصية لهذه الكلمة تميزها عن جاراتها في المعني .
وفي المبحث الثاني :
علقت على المقصودين بالتحدي وهل هم الإنس والجن أم طائفة أخرى ؟ .
وفي المبحث الثالث :
كان حديثي عن ترتيب آيات التحدي التي وردت فيها لفظة ( المثل ) من حيث النزول ومن حيث الكتابة في المصحف والمعاني الكامنة خلف كل ترتيب .
وفي المبحث الرابع :
تحدثت عن مفهوم الإعجاز في تراث العلماء والفرق بين مناط الإعجاز ومناط التحدي ، ثم اختلاف وجوه الإعجاز في القرآن الكريم وتعددها .
وفي المبحث الخامس :
وقفت مع أشهر وجوه الإعجاز ـ أو وجوه التحدي ـ وهي الإعجاز العلمي ـ ثم التأثيري ـ ثم الإخبار عن الغيب ، وبينت مدى الصلة بينها وبين القرآن الكريم .
ثم المبحث السادس :
وفيه وقفت مع الإعجاز البلاغي ، وبينت علاقته بآيات التحدي وهل المثلية المتحدي بها مثلية بلاغة أم شيء آخر ؟
ثم كانت خلاصة هذه البحث وفيها سطرت وجهة نظري في المقصود بقوله ( من مثله ) عند التحدي وأردفت ذلك ببعض الأدلة .
ثم جاء في النهاية فهرس العناوين وتلاه فهرس الكتب والمراجع .
تمهيدإذا كانت قضايا اللغة يصعب حصرها ، فإن الحديث حول القرآن الكريم ، وبخاصة إعجازه لا يكاد يحصيه المحصي ولم أر قضية أخذت من الدراسة قديماً وحديثاً مثل قضية الإعجاز ، ووجوهه المتنوعة ، فلقد شغل العلماء ولا يزال على اختلاف توجهاتهم وفي مقدمتهم علماء اللغة .
بل إن علم البلاغة كان ثمرة من ثمار الحديث عن إعجاز القرآن الكريم ، وفصاحته ، وكان نبتاً في الأرض الطيبة التي وقف عليها أهل اللغة ليفرقوا بين الحقيقة والمجاز ، وبين لغة البشر وكلام رب البشر.
وفي وسط هذه الدراسات القرآنية ، واجتماع العقول والقلوب حول هذا الكتاب ظهرت قضية الإعجاز ، وتحدي القرآن للناس حيث قال القرآن الكريم .
(وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ )(العنكبوت: الآية51) فالقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى الباقية إلى يوم القيامة ، وهو المعجزة العامة التي جاءت لتتحدى الناس جميعاً .
ومن هذا المنطلق أهتم العلماء بقضية الإعجاز - المسلم منهم وغير المسلم - .
أما المسلم فلأنه يرى في الإعجاز برهاناً على أن هذا الكتاب حق وأن الرسول حق ، وفي النهاية فهو متمسك بالدين الحق ، ومن هنا أيضاً كان دفاعه عن الإعجاز دفاعاً عن دينه ومعتقداته .
وأما غير المسلم فراح يلقى سهامه إلى الإعجاز لينقضه ويدحضه ليخلص من وراء ذلك إلى إبطال نسبة هذا الكتاب إلى الله تعالى ، وبهذا يتداعى هذا الدين ، وينسلخ منه أتباعه ، وهذا ما يريدونه .
ومن هنا نالت قضية الإعجاز هذه الأهمية ووضعت لها المؤلفات ودرست في الجامعات .
لكن المتابع لحركة العلم في العصر الحديث يرى تطوراً أذهل الجميع ، مما حدا بالكثيرين إلى مسايرة هذه التطورات وأخذ قضية الإعجاز إلى هذا المعترك فوجدوا القرآن الكريم لا يبخل عليهم ، فراحوا يؤسسون لميدان جديد يعتمد على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم .
وقد ظهر في شبكة المعلومات العالمية مواقع كاملة تتحدث عن الإعجاز في القرآن الكريم وبأكثر من لغة ، ويكفي أن تزور موقعاً واحداً لنرى إلى أي مدى وصل الحديث عن الإعجاز في القرآن الكريم إثباتاً تارة ، ونفياً تارة أخرى .
ومن يثبتون راحوا يقلبون في كل شيء ويستخرجون له أصولاً من القرآن الكريم فهذا في الإعجاز الاقتصادي ، وهذا في الإعجاز في طبقات الأرض ، وهذا في الطب ، وذاك في البحار ، وهذا في الزراعة ... إلى آخره .
ومن الجهة المقابلة ترى أمواجاً هادرة من الطعن في القرآن الكريم ومحاولة إبطال الإعجاز فيه ، ولقد اجتمع على ذلك اليهود والنصارى والملحدون والعلمانيون ، والحداثيون ، وضربوا جميعاً عن قوس واحدة ، وهو إبطال معجزة القرآن ، لهدم هذا الدين .
وفي وسط هذا المحيط الهادر والأمواج العالية لا يستطيع المسلم إلا أنه يقف ليبحث عن الأسس من خلال الاطلاع على كلام كل فريق ووضع بعضها بإزاء بعض .
كما أنه لابد من وضع اجتهاد السابقين من علمائنا الأجلاء أمام البحث لإبراز وجه التحدي في هذا الكتاب الكريم ، وهو المقصود من قوله : (من مثله )
وبخاصة وأن طعن الطاعنين بات يهجم على الناس هجوماً بعد خروج عالم الكمبيوتر وشبكة النت إلى سطح الثقافة الإنسانية فغدت المعين الأول لتبادل الثقافات بين أهل الكرة الأرضية ، وأصبحت بسببها جميع الآراء مطروحة في الطريق ، وانتشر من يروجون لما يزعمونه أنه سور تعارض القرآن الكريم .
ولقد تنبه الأزهر الشريف إلى ذلك ، ونشرت الصحف في هذا الأسبوع الأول من شهر محرم 1425هـ مطالبة علماء الأزهر لجميع المسلمين بأن يدافعوا عن الإسلام ضد هذه الهجمات الشرسة على مواقع الإنترنت .
ومن هنا كان من حق كتاب الله على طلبة العلم ، ومن باب النصح لهذا الكتاب أن شرعت في هذا البحث لأبين المراد من المثلية في آيات التحدي ، ليكون ذلك أبلغ رد على هذه السمادير وتلك الترهات التي ملأت العيون .
ولقد كان شغفي بهذا البحث كبيراً وبخاصة وأنا أنظر إلى قراء هذه المواقع فأجد طائفة من الشباب المسلم ما زالوا حديثي عهد بالثقافة الإسلامية ولكنهم يقرؤن ويدافعون على قدر ثقافتهم 0
إنهم شباب ليسو على علم الشيخ الشعراوي ـ رحمه الله ـ ولا فقه الدكتور القرضاوي – حفظه الله – ولا فطنة ولقانية واستيعاب الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ .
إن الذين يقرؤن وتفتح لهم هذه النوافذ شباب علاقتهم بالإسلام ضعيفة فمبلغ جهدهم أن يصلوا ويصوموا ، ومن هنا يكمن الخطر ، .
المبحث الأول
دلالة المثلية بين لغة العرب والقرآن الكريم
إن أول ما يبتدأ به في هذا البحث هو الوقوف على معني ( المثل ) في لغة العرب وفي كلام الله تعالى ، يقول ابن فارس في مقاييس اللغة :
[ الميم والتاء واللام أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء ، وهذا مثل هذا ، أي : نظيره ، والمثل والمثال في معنى واحد ، وربما قالوا : مثيل كشبيه ، تقول العرب : أمثل السلطان فلاناً : قتله قوداً ، والمعني : أنه فعل به مثل ما كان فعله ... والمَثَل المضروب مأخوذ من هذا أيضاً ؛ لأن المعنى فيه إذا نكل به جعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه ... والمَثُلات من هذا أيضاً ، قال الله تعالى (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ)(الرعد: من الآية6)
أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله .. ويحتمل أنها التي تنزل بالإنسان فتُجعل مثالاً ينزجر به ويرتدع غيره ،
ومثل الرجل قائماً : أنتصب ، والمعني ذاك لأنه مثال نُصب . ]
ويقول ابن منظور :
[ مثل : كلمة تسوية ، يقال : هذا مِثلُه ومَثَله كما يقال : شِبهُه وشََبَهه 0
قال ابن بري : الفرق بين المماثلة والمساواة ، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين ، لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص وأما المماثلة فلا تكون إلا بين المتفقين ، تقول : نحوُه كنحِوه ، وفقهه كفقهه ولونه كلونه ، وطعمه كطعمه .
فإذا قيل : هو مثله على الإطلاق فمعناه أنه يسد مسده .
وإذا قيل : هو مثله في كذا فهو مساوٍ له في جهة دون جهة .
ومثل الشيء أيضاً صفته . ]
ويقول العسكري في الفروق :
[ الفرق بين المِثل والمَثَل :
المِثلان : ما تكافآ في الذات ، والمَثَل بالتحريك : الصفة ، قال الله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ )(الرعد: من الآية35) أي : صفة الجنة .
وقولك : ضربت لفلان مثلاً ، معناه : أنك وصفت له شيئاً ، وقولك مِثل هذا كمثل هذا ، أي : صفته كصفته وقال الله تعالى (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً )(الجمعة: الآية5) وحاملوا التوراة لا يماثلون الحمار ، ولكن جَمَعَهم وإياه صفة فاشتركوا فيها . ]
ويقول أيضاً في الفروق .
[ الفرق بين المثل والند :
إن الند هو المثل المناد ، من قولك : نادّ فلان فلاناً ، إذا عاداه وباعده ، ولهذا سمى الضد نداً ، وقال صاحب العين : الند ما كان مثل الشيء يضاده في أموره ، والنديد : مثله ، والندود : الشرود ، والتناد : التنافر ، ونددت بالرجل : سمعت بعيوبه ....
الفرق بين المثل والشكل :
أن الشكل هو الذي يشبه الشيء في أكثر صفاته حتى يشكل الفرق بينهما ولا يستعمل الشكل إلا في الصور ، فيقال : هذا الطائر شكل هذا الطائر ، ولا يقال : الحلاوة شكل الحلاوة ، ومثل الشيء ما يماثله في ذاته .
الفرق بين المثل والنظير :
أن المثلين ما تكافآ في الذات ، والنظير ما قابل نظيره في جنس أفعاله وهو متمكن منها ، كالنحوى نظير النحوي ، وإن لم يكن له مثل كلامه في النحو أو كتبه فيه .
ولا يقال : النحوي مثل النحوي ، لأن التماثل يكون حقيقة في أخص الأوصاف وهو الذات .....
الفرق بين المثلين والمتفقين :
أن التماثل يكون بين الذوات ، والاتفاق يكون في الحكم والفعل ، تقول : وافق فلان فلاناً في الأمر ولا تقول : ماثله فيه ...
الفرق بين المثل والعديل :
أن العديل ما عادل أحكامه أحكام غيره وإن لم يكن مثلاً له في ذاته ولهذا سمي العدلان عدلين وإن لم يكونا مثلين في ذاتهما ، ولكن لاستوائهما في الوزن فقط .
الفرق بين الشبة والمثل :
أن الشبه يستعمل فيما يشاهد ، فيقال : السواد شبه السواء ... وليس في الكلام شيء يصلح في المماثلة إلا الكاف فأما الشبه والنظير فهما من جنس المثل ....
الفرق بين المساواة والمماثلة :
أن المساواة تكون في المقدارين اللذين يزيد أحدهما على الآخر ، ولا ينقص عنه ، والتساوي والتكافؤ في المقدار ، والمماثلة هي أن يسد أحد الشيئين مسد الآخر كالسوادين .
الفرق بين كاف التشبيه وبين المثل :
أن التشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض ، وبالمثل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض .
تقول : ليس كزيد رجل ، أي بعض صفاته لأن كل أحد مثله في الذات وفلان كالأسد ، أي : في الشجاعة دون الهيئة وغيرها من صفاته . ] .
ومن خلال هذه الإطلالة على الكلمة عند أهل اللغة نستطيع أن نرسم لها شخصية ذات ملامح فارقه بينها وبين غيرها .
فالكلمة تدل على المناظرة والتساوي والاتفاق ، وكون الشيء يسد مسد الآخر لأن الذات متكافئة في الحقيقة وفي أخص الأوصاف .....
وبعد ، هل للكلمة ملامح أخرى في القرآن الكريم ؟
لننظر :
دلالة الكلمة في القرآن الكريم
يقول الراغب في المفردات :
[ مثل : أصل المثول : الانتصاب ، والممثل : المصور على مثال غيره ، يقال : مَثُل الشيءُ أي : انتصب وتصور ، ومنه قول صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار ) .
والتماثل : الشيء المصور : وتمثل كذا : تصور ، قال تعلى (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً)(مريم: من الآية17)
والمَثَل : عبارة عن قولٍ في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، قال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر: من الآية21) وفي أخرى (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(العنكبوت: من الآية43)
والمثل يقال على وجهين :
أحدهما : بمعنى المثل نحو شبيه وشبه ..
والثاني : عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني ، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط ، والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط .
والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط .
والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط .
والمثل عام في جميع ذلك .
ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: من الآية11)
وعلى هذا فالمثلية عند الاصفهاني لفظ وضع لعموم المشابهة ويشمل معنى
[ الند ـ الشبه ـ المساوي ـ الشكل ] .
وتلك عمومية لا أميل إليها ، ولا يرتضيها منهج البحث وهذا يقتضي الرجوع إلى تراث العلماء للوقوف على دلالة المثلية في كتبهم .
والناظر في تراث العلماء يجد هذه المثلية قد حامت حول عدة معان ولم تقف عند دلالة واحدة .
وهذه المعاني وتلك الدلالات تتلاقي في بعض الأحايين وتتباين في أحايين أخرى 0
ودعنا نقف على ذلك :
أول هذه المعاني التشابه في بعض الصفات :
يقول ابن كثير عند قول الله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً )(النور: من الآية17) [ أي : ينهاكم الله متوعداً أن يقع منكم ما يشبه هذا أبداً ، أي : فيما يستقبل ، والمثلية هنا هي تلقى الإفك الذي روي عن أم المؤمنين بالألسنة والأفواه وهذا شيء ليس لهم به علم . ]
[ فالمماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم ظاهر من المماثلة ]
فالمماثلة هنا تشابه ، والتشابه هو أقل درجات المثلية .
ثم يأتي رأي آخر يخلع ثوب الشكل ويتغلغل إلى الداخل فيجعل المثلية تطابقاً في أغلب الأوجه .
ففي قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)(آل عمران: من الآية140)
يقول أهل التفسير : [ فالمعنى أن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر ]
[ فالمثلية هنا باعتبار كثرة القتلى في الجملة ، فلا يَرِد أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين ، وأسروا سبعين ، وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد خمسة وسبعين ، وجرحوا سبعين ، والتزام بعضهم تفسير القرح بمجرد الانهزام دون تكثير القتلى فراراً من هذا الإيراد ]
وعلى هذا فليس المقصود المطابقة الكاملة بين المثل والمثل ، بل الأمر على الغالب الأعم والظاهر الواضح .
[ إن المماثلة بين الذوات المتنائية إنما تكون باعتبار الصفات الجامعة بينهما إذ هي أسباب في ثبوت المماثلة بينهما .
وتقوى المماثلة بقوة أسبابها ، وتضعف بضعفها ، فإذا سلب وصف ثابت لإحدى الذاتين عن الأخرى انتفي وجه من المماثلة ، ثم لا يزال يسلب أسباب المماثلة أقواها فأقواها حتى تنتفي المماثلة كلها بهذا التدرج . ]
وعليه فالمثل هو الذي يكون مساوياً للمثل في بعض الصفات أوفي أغلب الصفات ، أو قل :
[ المثلية لا تستلزم التساوي من كل جهة . ]
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له مثله في الجنة )
[ حمل العلماء ذلك على المبالغة لأن المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها ، وترقد عليه لا يكفى مقداره للصلاة .
وقيل : هي على ظاهرها ، والمعنى : أنه يزيد في مسجدٍ قدراً يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر ، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم على ذلك القدر ....
وقد اختلف العلماء في معنى المماثلة ، فقال ابن العربي : مثله في القدر والمساحة ... وقيل : مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء .... وقيل : هذه المثلية ليست على ظاهرها ، وإنما يعنى أنه يبنى له بثوابه بيتاً اشرف وأرفع وأعظم .
وقيل : يحتمل أن يكون (مثله) معناه : بنى الله له مثله في مسمى البيت ، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها ، فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ...
قال الحافظ : لفظ المثل له استعمالان :
أحدهما : الإفراد مطلقاً كقوله تعالى : (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا)(المؤمنون: من الآية47) .
والآخر : المطابقة كقوله تعالى : (أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)(الأنعام: من الآية38)
فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة ، فيحصل جواب من استشكل تقييده بقوله (مثله) مع أن الحسنة بعشر أمثالها ، لاحتمال أن يكون المراد بنى الله له عشرة أبنية مثله ...
ومن الأجوبة المرضية :
أن المثلية هنا ، بحسب الكمية والزيادة حاصلة بحسب الكيفية ، فكم من بيت خير من عشرة ، بل من مائة ...
وقيل : إن المثلية هي أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره . ]
--------------------
وهذه التخريجات المتنوعة تثبت أن المثلية لا تعنى التطابق في كل شيء إنما في بعض الصفات سواء كثرت هذه الصفات أم قلت ..
حتى أن البعض يلمح صفة واحدة بين المثلين ، ومن ذلك .
[ في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ )(الكهف: من الآية110) أي في البشرية والمعنى : أنسى كما تنسون . ]
وفي الحديث : ( نهى النبي عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل )
[ فالمماثلة المعتبره هنا هي المماثلة في الكيل والوزن ]
وفي حديث آخر :
( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ... )
[ فلفظة المثل هنا لا تقتضي المساواة من كل وجه ولا يراد المماثلة في كل الأوصاف كالجهر برفع الصوت مثلاً . ]
وهذه الأحاديث ، وتلك الآيات التي ورد فيها لفظ المثل تدل بجلاء على أن المثلية تكون في بعض الصفات ، أو في الكثير منها .
-----------------------------
لكن على جانب آخر :
هناك في تراث العلماء ما يدل على أن المثلية تعنى التطابق في الأصل ، والتوحّد في الماهية والتناظر في الحقيقة ، وعلى هذا وردت قراءة ابن مسعود ( فإن آمنوا بما آمنتم به ... )
وقال : [ لا تقولوا : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فإن الله ليس له مثل ولكن قولوا بالذي آمنتم به ... ]
وكأنه جعل محل الإيمان هنا ومتعلق المثلية هنا هو الله تعالى .
وخرج الطبري الأمر على محمل آخر حيث قال : [ إنما وقع التمثيل بين الإيمانين لا بين المؤمن به . ]
وعلى آية حال فالآيات القرآنية العديدة تدل على أن المثلية تعنى الأصل والحقيقة والتطابق بين المثل ومثيله ، واقرأ معي هذا
قال الله تعالى :
v (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ )(البقرة: من الآية228)
v (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا )(البقرة: من الآية275)
v (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )(البقرة: من الآية194)
v (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ )(البقرة: من الآية233)
فالمثلية تعني التطابق حتى لا يعرف هذا من هذا ، وقد لفت البيضاوي إلى هذا بجملة عجيبة حيث قال عند عرضه لقول الله تعالى حكاية عن السحرة (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ )(طـه: الآية58)
قال :[ مثله سحرك]
فجعل ما رآه السحرة في بادئ الأمر هو المثل ، وجعل الأصل هو السحر عند السحرة .
لكن التعبير القرآني ( بسحر مثله ) يشير إلى أن ما رآه السحرة في البداية شيء جديد فتعاهدوا على أن يأتوا بمثل هذا السحر ولذلك جاءوا بالحبال والعصى لما رأوه من إلقاء موسى للعصي قبل ذلك ، فأرادوا أن يصنعوا سحراً مثل الذي جاء به موسى ، وأحضروا أدوات مثل أدواته ولذلك قال :(بسحر مثله)
لكن اللفتة التي لفت إليها البيضاوي ـ رحمه الله ـ أراد بها أنهم أرادوا أن يأتوا بشيء لا يختلف عما جاء به حتى في الصورة .
-------------------------------------------------------
[ فالمثل المطلق في الكتاب والسنة وإجماع الأمة والمعقول يراد به :
v إما المثل صورة ومعنى .
v وإما المثل صورة بلا معنى .
وإن لم يكن إرادة الأول إجماعاً تعينت إرادة الثاني لكونه معهوداً في الشرح كما في حقـوق العبادة. ]
وأزيدكم توضيحاً هنا :
في سورة المؤمنون قال الله تعالى : (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ) (المؤمنون:81)
فماذا قال الأولون ؟
ولنحاول أن نتبين ذلك من خلال السورة نفسها فقوم نوح مثلاً في الآية رقم 24 حكي عنهم أنهم قالوا :
(مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)
وفي الآية 33 قيل
(ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ .... وقال الملأ ... ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ..)
وأنا هنا أقتصر على العبارة حتى لا يضيع منك الخيط .
ثم توالي السورة فتحدثك عن موسى ..
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون 45 :47)
ثم قيل في شأن كفار مكة ( بل قالوا مثل ما قال الأولون ) .
فالنص الذي قيل على لسان كل من كذبوا الرسل هو إثبات بشرية الرسل 0
ولكنه قيل مرة ( انؤمن لبشرين مثلنا )
وقيل مرة ( ما هذا إلا بشر مثلكم )
ولا شك أن المضمون واحد ، واللفظ متنوع حتى وإن كان التنوع في ضمير التكلم أو الغيبة لأن [ المثلية إنما هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ ]
فالمثلية تكون في الأصل كما يقول الزرقاني - -
أو في الذات كما يقول أبو السعود - -
ولا تكون إلا بين المتفقين وفي أخص الأوصاف .
لكنها في النهاية تكون بين شيئين ولذلك قيل
[ المثل المطلق لا يتصور . ]
لماذا ؟
لأن المثل المطلق يعني أن الشيئين شيء واحد ، وعليه حين يقال :( فأتوا بسورة مثله يراد فقط : [ التعجيز ، كما في قوله ( فأت بها من المغرب )
المبحث الثاني
لمن التحدي ؟
تعددت رؤى العلماء في تحديد المتحدي بالقرآن الكريم ، ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أن القرآن [ تحدى الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثله لقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)
حيث أفاد بذلك عجز الجميع عنه في حال الاجتماع والانفراد . ]
يرى آخرون أن [ التحدي وقع للإنس دون الجن لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه ، وإنما ذكروا في قوله ( قل لئن اجتمعت ..... ) تعظيماً لإعجازه لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد فإذا فرض اجتماع جميع الإنس والجن وظاهَرَ بعضهم بعضاً وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز . ]
فالجن ـ على هذا ـ ليسوا ممن تحداهم القرآن ، ودخولهم في الآية دخول افترض بناء على هذا الرأي .
وفي جانب آخر قال البعض [ بل وقع للجن والملائكة أيضاً فهم منويّون في الآية لأنهم لا يقدرون أيضاً على الإيتان بمثل هذا القرآن ، واقتُصِر على الإنس والجن لأنه كان مبعوثاً إلى الثقلين دون الملائكة.]
ودعنا نقتصر على الإنس الآن ، حيث من العجيب أن يدخل البعض الملائكة مع الإنس والجن ، ثم نرى من يقول إن القرآن تحدى العرب دون العجم ، أو تحدي العرب ثم كان تحدي العجم تالياً لتحدي العرب
والسؤال لم ؟
- إن العلة في ذلك : أن الإعجاز عندهم قائم في اللغة أو البلاغة أو النظم يقول الجصاص :
- [ معلوم أن العجم لا يتحدون من طريق النظم ، فوجب أن يكون التحدي لهم من جهة المعاني وترتيبها على هذا النظام ..
ويجوز أن يكون التحدي واقعاً للعجم بأن يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة بلغتهم التي يتكلمون بها . ]
والذي يظهر أن تحدي القرآن للعجم لا يتصور أن يكون من جهة الفصاحة والبلاغة فهو لا يعرف لغة العرب ، وإن تعلم فكلمات يقيم بها أوده .
ولا يكفي ـ كما أري ـ أن يكون التحدي له كامناً في علمه بعجز العرب عنه كما يقول الباقلاني أنه [ إذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم وجرى مجراهم في توجيه الحجة عليه . ] لأن ذلك يعني أن معجزة القرآن وتحديه كانت للعرب وحدهم ، بل للفصحاء منهم ، وأن العجم خارجون عن هذه الدائرة ، والمعلوم بداهة أن العجمي مهما بلغ في تعلم اللغة فلن يكون مثل العرب الأقحاح الذين علكوا اللغة وشربوا من عيونها ، وتمرسوا في دروبها ، وعايشوها وخادنوها ، فأحبتهم وأحبوها ... وما دام الأمر كذلك فأين الأعجمي منه ؟!
أقول :
لا يكفي أن يثبت عجز الأعجمي بعجز العرب ، فليس العرب حجة عليهم إلا إذا كان الإعجاز بلاغياً ، وأنت تلاحظ أن حصر الإعجاز في هذا الخندق تجعلنا نفترض أموراً ونقرها وندافع عنها ونجعلها من المسلمات وحي بلا شك تحتاج إلى النظر .
يقول الباقلاني مثلاً :
[ لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك ، فإذا عرفوا هذا بأن علموا أنهم تحدوا إلى أن يأتوا بمثله ، وقرِّعوا على ترك الإتيان بمثله ولم يأتوا به تبينوا أنهم عاجزون عنه .
وإذا عجز أهل ذلك اللسان فهم عنه أعجز ..
وكذلك نقول : ـ والكلام له ـ
إن من كان من أهل اللسان العربي إلا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تصرف اللغة وما يعدونه فصيحاً بليغاً من غيره فهو كالأعجمي في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الناس الذي بدأنا بذكره وهو ومن ليس من أهل اللسان سواء . ]
هل رأيت هذا ؟ !
هل رأيت إلى أي مدى حصرنا الإعجاز والتحدي في طائفة قليلة ؟!
والسبب :
[ أن البلاغة إذا لم تكن هي مجال المعاجزة لكن اختيار العرب للمعاجزة لا مقتضى له . ]
وليت شعري ، إذا كان هذا القياس صحيحاً فعلينا أن نقول للأعاجم جميعاً ، بل ولأغلب العرب أيضاً : إن القرآن لا يتحدى أحداً الآن ، لأنكم مهما بذلتم من جهد ومهما توصلتم من فهم للغة فلن تستطيعوا التحدي فلقد عجز العرب الأوائل ، ومن منكم مثلهم ؟! .
أليس عجيباً أن يقول القرآن الكريم
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ )(الإسراء: من الآية88)
ثم نقول فمن :
إذا عجز أهل اللسان الأوائل فغيرهم أعجز .
ونغلق الباب لأن القوم الذين تحداهم القرآن قد ذهبوا !!!!
إن القرآن الكريم حين قال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38) .
لم يكن يقصد العرب وحدهم ، وإلا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالرسائل إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وفي كل رسالة كلام الله يتلى عليهم .
إن الذي دفعنا إلى هذا السبيل ، وألجأنا إلى هذا الملجأ هو حصر التحدي في البلاغة ، وتلك قضية جعلت بعض أهل الكلام يقول :
[ إن التحدي قد انقطع بانقطاع زمن البعثة والوحي ..... مع أن جمهور أهل الإسلام على أن التحدي باق إلى يوم القيامة وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره . ]
نعم :
الحكمة تقتضي نزول الكتاب بلغة النبي وقومه ، لكن من قال إن التحدي في هذه اللغة ، وهل نزول القرآن عربياً يعني التسليم بأن التحدي في البلاغة لأن القوم كانوا فصحاء .
لقد افترضنا هذا وجعلناه حقيقة مسلمة مع أنه اجتهاد وليس نصاً في قرآن أو سنة ، فلماذا جعلناه قاعدة ورحنا ندافع عنه .
المبحث الثالث
آيات التحدي بين الترتيب النزولي
والترتيب المصحفي
[ القرآن الكريم عندنا معاشر المسلمين كلام دال على معانيه دلالة مأخوذة بالطريق الواضح العادي لدلالة الكلام العربي ، فليس هو على ذلك بمحتاج إلى التفسير احتياجاً أصلياً ، ولكن الحاجة إلى تفسير القرآن إنما هي حاجة عارضة نشأت من سببين :
السبب الأول : هو أن القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة ، وإنما كان نزوله وتبليغه في ظرف زمني متسع جداً ، قدرهُ أكثر من عشرين عاماً ، فكان ينزل منجماً على أجزاء مع فواصل زمنية متراخية بين تلك الأجزاء .
وكان نزوله في تقدم بعض أجزائه وتأخر البعض الآخر على ترتيب معروف يختلف عن ترتيبه التعبدي ، لأن ترتيب تاريخ النزول كان منظوراً فيه إلى مناسبة الظروف والوقائع ، مناسبةً ترجع إلى ركن من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال .
وترتيب التلاوة ، أو الترتيب التعبدي كان منظوراً فيه إلى تسلسل المعاني وتناسب أجزاء الكلام بعضها مع بعض ، وذلك يرجع إلى ركن آخر من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال .
وكلا الترتيبين راجع إلى الوحى ، وكلاهما وقع به التحدي الإعجازي إلا أن أولهما مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة ، والترتيب الآخر ، وهو ترتيب التلاوة التعبدي باق لأنه في ذات الكلام يدركه كل واقف عليه وتالٍ له من الأجيال المتعاقبة بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات ، من الجيل الذي كان معاصراً لنزول القرآن جملة ممن كانت لهم تلك الملابسات دلائل وقرائن على ما أريد من المعاني التي استفادوها من التراكيب القرآنية . ]
وآيات التحدي التي هي مدار البحث خمسة ، مذكورة في السور التالية :
[ البقرة ـ يونس ـ هود ـ الإسراء ـ الطور ] .
هكذا رتبت الآيات في المصحف حسب ترتيب السور ، وليس هذا ترتيب نزولها ، ولابد من معرفة ترتيب النزول حتى نقف على مراحل التحدي ، كيف بدأ ؟ وكيف تنامي ؟ ومن خلال النظرتين يمكن استخلاص بعض الدلالات التي تعين على فهم المراد من المثلية المتحدي بها .
وترتيب النزول كان على النحو التالي :
1) سورة الإسراء وفيها :
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)
2) سورة يونس وفيها :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38)
3) سورة هود وفيها :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود:13)
4) سورة الطور وفيها :
(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ*فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور33 :34)
5) سورة البقرة وفيها :
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23) .
---------------
وأول ما يلفت النظر في هذا الترتيب أن التحدي بني على جذر واحد واضح يبين أن الضمير في قوله (مثله ) لا يعود إلى على القرآن الكريم 0
فالبداية هي ( يأتوا بمثل هذا القرآن )
ولا يتصور بعد هذا عود الضمير على الرسول
هذا أولاً
ثانياً :
أن الآيات بدأت بافتراض اجتماع الإنس والجن ( لئن اجتمعت الإنس والجن ) وهذا الافتراض لا يتصور عقلاً ، مما يعني أن نتيجة هذا الافتراض ـ وهو المجيء بمثل القرآن ـ لا يتصور عقلاً .
ثالثاً :
أن المدعوين أولاً للتحدي هم الإنس والجن ، ثم تدني الأمر فطلب منهم دعوة من يستطيعون من دون الله ، ثم تدني الأمر إلى دعوة الشهداء وهم المناصرون لفكرة إمكانية المجيء بمثله وهؤلاء قلة .
رابعاً :
كانت الآية الأولى إعلاناً من الله تعالى على لسان نبيه بعجز الخلق جميعاً عن المجيء بمثله ، فقيل ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن .......
هذا بلاغ من الله تعالى للخلق جميعاً ، ثم جاءت باقي الآيات لترد على دعوى افتراء القرآن من عند الرسول فقيل ( أم يقولون افتراه .... قل فأتوا بسورة
أم يقولون افتراه .... قل فأتوا بعشرة سور
أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ....
كل ذلك في الآيات المكية الأولى : أما آية المدينة وهي آية البقرة فليست رداً على هؤلاء بل هي رد على من دخل قلبه الشك ولذا قيل ( وإن كنت في ريب ... )0
إن السور المكية خطاب لجميع الناس .
أما السورة المدنية فأغلبها [ خطاب لمن أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنون . ]
خامساً :
الملاحظ في الآيات الخمس أن كل وجه من التحدي يغاير الآخر ولا يوجد وجهان متماثلان في التحدي ، وها هي أوجه التحدي حسب نزولها :
[ مثل هذا القرآن ] [ سورة مثله ] [ عشرة سور مثله ] [ حديث مثله ] [ سورة من مثله ] .
سادساً :
إن هذا الترتيب من الممكن فهمه على أنه تدلٍ في التحدي من الأكثر إلى الأقل من حيث العدد ، ولكن بضرب من التأويل ، فماذا يفهم من الترتيب المصحفي ؟
لننظر ....
الترتيب المصحفي :
جاء ترتيب الآيات في المصحف كما هو معلوم : [سورة البقرة ثم يونس فهود ثم الإسراء ثم الطور . ] .
وهذا الترتيب سألخصه لك على النحو التالي حيث كان التحدي في [ سورة من مثله – ثم سورة مثله – فعشر سور من مثله – ثم مثل هذا القرآن – ثم حديث مثله . ]
ولقد وقف العلماء أمام هذا التدرج وحاولوا تأويله على غير ترتيبه فقالوا : [ إن التحدي بعشر سور وقع أولاً ، فلما عجزوا تحداهم بسورة من مثله ، كما نطقت به سورة البقرة ويونس ، وهو إن تأخر تلاوة إلا أنه متقدم نزولاً ، وأنه لا يجوز العكس إذا لا معنى للتحدي بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة ، وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشرٍ معينة من القرآن .
وذهب ابن عطية إلى أن التحدي بعشر سور وقع بعد التحدي بسورة وأنكر تقدم نزول هذه السورة ... وقال .. :
إن ما وقع أولاً هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام ، فلما عجزوا عن ذلك أمر بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه ...
وقيل إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن
وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه ، ولا ينافي تقدم السورة . ]
هكذا قالوا ..
وأنا أسأل هنا :
هل نزول بعض الآيات قبل بعض مسألة اجتهادية ؟ !
أليس عجيباً أن يقال : إن التحدي وقع أولاً بكذا حتى وإن تأخر في النزول ؟!
لقد قلت : إن الترتيب النزولي يُثبت ضرباً من التدلي ، أعني أن التحدي في الأكثر ثم في الأقل .
وهنا أقول أن الترتيب المصحفي يعكس ذلك 000 أي أنه يتدرج في التحدي من سورة إلى عشر سور إلى القرآن الكريم كله .
وكأن القرآن ـ كما أفهم ـ يعرض قضية التحدي من الوجهتين صعوداً ونزولاً ، وعلى من يريد المعارضة والتحدي أن يختار لنفسه ، ومن هنا يثبت العجز من كل وجه .
المبحث الرابع
مفهوم الإعجاز في كتب العلماء
يقول ابن فارس في المقاييس إن [ العين والجيم والزاء أصلان صحيحان ، يدل أحدهما على الضعف ، والآخر على مؤخر الشيء .
فالأول : عَجَزَ عن الشيء يعجز عجزاً فهو عاجز ، أي ضعيف ، وقولهم : إن العجز نقيض الحزم ، لأنه يضعف رأيه .
ويقولون : " المرء يعجز لا محالة " ويقال : أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه ، ولن يعجز الله شيء ، أي : لا يعجز الله تعالى عنه متى شاء .
وفي القرآن الكريم : (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً)(الجـن: من الآية12)
وقال تعالى : (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ )(الشورى: من الآية31)
ويقولون : عَجَز ، بفتح الجيم ، ولا يقال : عجِز إلا إذا عظمت عجيزته ، ومن الباب : العجوز : المرأة الشيخة .
وأما الأصل الآخر :
فالعجز : مؤخر الشيء ، والجمع : أعجاز ، حتى أنهم يقولون عجُزُ الأمر ، وأعجاز الأمور ..]
-------------------
وهذه الدلالة لم تتغير في كتاب الله تعالى ، فقد جاءت بمعنى مؤخرة الشيء ، كما في قوله سبحانه: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)(القمر: من الآية20) .
وأيضاً بمعنى عدم القدرة كما في قوله سبحانه (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ)(المائدة: من الآية31) .
وقد يظن القارئ أن الأصلين لا رحم بينهما [ ولكن الرحم بينهما موصولة فإن الضعف من ولائد التأخر ، فالذي يعجز عن الأمر ، أي يضعف عنه إنما هو آتيه في آخر ذلك الأمر ، فلا يستقيم له الاقتدار عليه ... وكل من تأخر عن القيام بالأمر في عجزه : ضعف عنه .
وأيضاً من حاول في آخر أمره شيئاً لم يقتدر عليه في أوله ، فسواء أكان التأخير من شأن الفاعل أو من شأن المفعول فإنه يترتب على ذلك ضعف . ]
ومن الممكن ( في رأيي ) أن يقال : عجز عن كذا مع أنه لم يحاوله ولم يرغب في المحاولة ذلك لأنه يعلم علم اليقين أن هذه المعجزة خارجة عن طوقه ، ولذا قالت الجن : (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً)(الجـن: من الآية12) .
فهم لم يحاولوا : ولم يدر بخلدهم أن يحاولوا .
أما أن يقال : [ إن علمه بحال نفسه : وحال ما يريد محاولته بمنزلة من أراد ، وحاول فثبت له ضعفه عما حاوله ] فهذا لا أميل إليه لأن المعجزات ظهرت للناس ومن الوهلة الأولى وهي خارجة عن طوقهم ، وبعيدة عن مقدورهم ، وإذا رجعت مثلاً إلى إحياء الموتى لسيدنا عيسى وإخراج الناقة لسيدنا صالح وشق البحر لسيدنا موسى تجد أن القوم لم يحاولوا ذلك ولم يدر بخلدهم أن يحاولوا .
والعجيب أننا وضعنا كل ذلك في دائرة المعجزات ، مع أن الناس لم يفكروا في تحدي ذلك لعلمهم اليقين أنه ليس في مقدورهم .
ومن هنا أرى أن تسمية هذه الآيات معجزات يحتاج إلى مراجعة حيث لم تطلب الرسل من أقوامهم المجيء بمثلها ، وعلى الجانب الآخر لم يحاول الناس المجيء بمثلها .
إنها آيات وليست معجزات ، إنها براهين على صدق الأنبياء وحين أطلقنا على هذه الآيات معجزات وضعنا الناس موضع المتحدي مع أنهم لم يفعلوا .
أضف إلى ذلك أن هذه الكلمة لم ترد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعنى المفهوم به التحدي مما يعني أن لفظ (معجزة) نتاج عقلي فلسفي وليس نتاجاً شرعياً ، لأن العلماء ربطوا بين آيات التحدي الخمسة وبين عدم مجيئهم بقرآن مثل القرآن ، ولما لم يأتوا بذلك كان ذلك عجزاً منهم فسميت المسألة : الإعجاز القرآني .
وحين نربط بين القرآن الكريم والإعجاز نربط بين أشياء كثيرة وهذه اللفظة ، فهناك ألفاظ وأساليب ، ومعان ، ونظم وترتيب ... كما أن هناك الغيب والعلم التجريبي ، فهل الإعجاز في كل ذلك أما في شيء واحد ؟
إن القرآن الكريم حمل وجهتين :
فهو من جهة برهان وآية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، تماماً مثل الآيات التي جاء بها الأنبياء .
ومن الجهة الأخرى : يتحدى الجميع بأن يأتوا بمثل هذه الآية ، وتلك إضافة لم تكن في آيات الأنبياء السابقين .
والثابت ـ عندي ـ أن الآية والبرهان الدال على صدق النبي لا يمكن للعباد أن يأتوا بمثلها ، لأن من بدهيات الآيات كونها خارجة عن طوق البشر ولو كانت في مقدورهم لما كانت آية خارقة ، ولقد فطن الناس إلى هذا فلم يحاولوا .
ويبقي السؤال :
ما الوجه الذي وجدوه في هذا القرآن وعلموا
أنهم عنه عاجزون فسكتوا رغم التحدي ؟
ذاك ما يجيب عنه هذا البحث ، وذاك لب الإعجاز وجوهره أو أن شئت قل : لب التحدي وجوهره وذاك معنى ( من مثله ) 0
ولكن ما الفرق بين وجه التحدي ووجه الإعجاز ؟
إن هناك فرقاً كبيراً بين وجوه الإعجاز ووجه التحدي ، ولعل أول من لفت النظر إلى هذه القضية هو ابن عطية حين قال : [ وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه .
ووجه إعجازه أن الله قد أحاط بكل شيء علماً 0000’ وأحاط بالكلام كله علما فعلم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعني بعد المعني ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره . ]
ويقول شيخي محمود توفيق ـ أعزه الله ـ [ علينا أن نفرق بين أمرين : مناط التحدي ومناط الإعجاز ...
ثم يقول : أذهب إلى أن كل شيء في القرآن هو مناط إعجاز ، وأن مناط التحدي هو نظمه ... أي صورة المعني وليس المعني نفسه ، فالمعني القرآني نفسه معجز ولكنه ليس هو مناط التحدي .
والنظم القرآني معجز ومناط تحدٍ .]
وسواء اتفقنا مع هذا أو اختلفنا معه إلا أن الإشارة إلى وجود مناط للإعجاز ومناط للتحدي أمر بالغ الأهمية ، فعلماؤنا خلطوا بين الأمرين ، وحدثونا عن الإعجاز وهم يقصدون التحدي تارة ولا يقصدونه أخرى ، ولهذا تباين كلامهم ، وتعددت اتجاهاتهم .
لا لشيء إلا لأنهم أدخلوا هذا في ذلك ، وأصبح كـل عالم يتناول ما في القـرآن الكريم من قضايا – كل بحسب تخصصه – ولكنها جميعاً في عرفهم معجزة .
يقول شيخي ـ أعزه الله ـ :
[ إن هناك ثلاث جهات كلية تناولت قضية الإعجاز :
الأولي : جهة الكلام في العقيدة .
والثانية : جهة تأويل القرآن وعلومه .
والثالثة : جهة علماء البلاغة .
.. أما علماء العقيدة فمعنيون بما يعرف بوجوه دلالته على صدق النبوة المحمدية ... فإذا ما تقرر من بيان علماء العقيدة إعجاز القرآن الكريم بأي وجه من وجوه الإعجاز فقد قاموا برسالتهم ، فإذا امتد القول بهم إلى جهات إعجازه فنافلة .
فخطاب علماء العقيدة مرمي به إلى الكافرين .
أما علماء التأويل فكلامهم ينصب في باب وجوه الإعجاز ، وتعديد هذه الوجوه وبيان منازلها وكلام هؤلاء مبني على تحقيقات علماء العقيدة ... ويكون مع من آمن بإعجاز القرآن الكريم ...
أما علماء البلاغة ... ففريضتهم النظر في جهة واحدة من جهات إعجاز القرآن الكريم : بلاغته وفصاحته . ]
وكلام شيخي ـ أعزه الله ـ يجعل الباحث في دلالة المثلية لا يخرج عن إطار البلاغة وكأنها آيات محكمات مما يجعلني أضع نفسي في إطار لا أخرج منه لأنني أدرس القرآن من جهة البلاغة .
ولكن : لم أضع نفسي في هذا القالب ، وماذا سأضيفه للبحث إن كنت سأقيد نفسي بهذا القيد ؟
إنني معنيٌ هنا بالكشف عن مراد كلمة ( المثل ) في قوله ( من مثله ) ليس من باب العقيدة ، ولا من باب التأويل ولكن من باب البلاغة ، فالبحث يتخذ من علم البلاغة ميداناً للنظر للوصول إلى مقصودهذه الكلمة وبعد الوصول إلى مقصودها يستطيع البحث أن يبني على هذا المراد عقيدة توضح مفهوم التحدي ومقصوده فالعفيدة لابد أن تكون مبنية على فهم صحيح للكلام والفهم الصحيح لاينشأ إلا من عند أهل اللغة وفي طليعتهم علماء البلاغة
ومن هنا نحن في صدد البحث عن دلالة ( المثل ) المتحى به وهل هو مثلية في البلاغة أم في غيرها ؟
وأول ما يلفت النظر هنا أن العلماء لم يتفقوا على وجه واحد من الإعجاز ليكون هو مناط التحدي بل تعددت آراؤهم مع أنهم جميعا وهم يعرضون أوجه الإعجاز يستدلون بآيات المثلية 0
وإليك بعضا من ذلك :
اختلاف وجوه الإعجاز في تراث العلماء
تزخر مكتبة الإعجاز القرآني بآراء علمائنا في وجوه الإعجاز ، ولا تكاد ترى عالماً ينفرد بوجه واحد ويقول : هذا هو وجه الإعجاز ، وما عداه فلا ، ذلك لأنهم جميعاً يرون الإعجاز في وجوه شتى وإن كان البعض يميل إلى رأي دون آخر .
وتتعدد أوجه الإعجاز في كتاب الله تعالى بتعدد جوانب النظر فيه ، فكل آياته فيها إعجاز لفظي ، وبياني ودلالي ، وكل مجموعة من الآيات وكل سورة من السور طالت أما قصرت بما فيها من قواعد عقدية أو أوامر تعبدية ، أو قيم أخلاقية أو ضوابط سلوكية ، أو إشارات علمية ، وكل شيء من أشياء هذا الكون الفسيح وما فيه من ظواهر وكائنات وكل تشريع وكل قصة وكل واقعة تاريخية وكل وسيلة تربوية وكل نبوءة مستقبلية كل ذلك يفيض بجلال الربوبية ويتميز عن كل صياغة إنسانية ويشهد للقرآن بالتفرد كما يشهد بعجز الإنسان عن أن يأتي بشيء من مثله )
ولأجل كل هذا عقد العلماء في كتبهم فصولاً وعنونوها بـ ( وجوه الإعجاز ) مثل الباقلاني ، والزركشي وقالوا : [ لا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز واختلفوا في إعجازه ] فهذا قال بالصرفة ، وهذا قال الإعجاز في حديثه عن الغيب ، وهذا في إخباره عن قصص الأولين ، وهذا في تأثيره على القلوب وذاك في كشفه لما في الضمائر ، وآخر في غرابة الأسلوب والسلامة من العيوب لكن الغالبية منهم أعلت من شأن النظم وقالوا [ إنه الذي عليه الجمهور والحذاق . ]
وهناك من تحير في وجه الإعجاز حين سئل عنه فقال :
[ هذه مسألة فيها حيف على المفتي ، وذلك أنه شبيه بقولك : ما موضع الإنسان من الإنسان ؟
فليس للإنسان موضع من الإنسان ، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته .
كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعني آيه في نفسه ومعجزة لمحاولة وهدي لقائله ، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله من كلامه ، وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده . ]
وإذا كانت هذه التوجهات قد قيل بها في زمان اشتغل الناس فيه بالقرآن الكريم كلغة وبيان ونظم وبرهان ، فلقد جاء زمان امتاز بنمط آخر من الاهتمام وهو الاهتمام بالعلم التجريبي ، ولم يبخل القرآن عليهم بما يمدهم من وجوه أخرى غابت عن أسلافهم .
وسواء اتفقنا مع هؤلاء أو اختلفنا معهم فإنه يجدر بنا الوقوف على جهدهم وعدم إغفاله عند الحديث عن إعجاز القرآن الكريم أو تحدي القرآن الكريم للناس .
ذلك لأنه هؤلاء ينطلقون من قاعدة لا يعتريها شك وهي أنه : إذا كان القرآن الكريم معجزاً في نظمه فإن فيه أيضاً حقائق أخرى متعلقة بالغيب ، وموصولة بالتشريع ومربوطة بأسرار الكون .
وكل ذلك لا يعقل أن يكون العرب قد طولبوا به ، لأنه لا علم لهم به .
أضف إلى ذلك : أن ابتعاد الناس عن اللغة الفصيحة اليوم يقلل من الأضواء التي ألقيت في السابق على الإعجاز البلاغي ، ولا تنس أيضاً أن الإعجاز للإنس والجن كما صرح القرآن الكريم وهو تحد مستمر إلى يوم الدين ، مما يعني أن تحجيم الإعجاز وقصر التحدي على اللغة وبلاغتها تغييب لعصٍر يحياه الناس الآن ، أو تغييب للقرآن الكريم ، وكلا الأمرين خطأ في ظل هذا الصراع القائم بين الإسلام وغيره من العقائد المختلفة .
فدعونا نقف قليلاً على هذا الوارد الجديد ، وهو الإعجاز العلمي أولاً :
المبحث الخامس
أشهر وجوه الإعجاز
[ الإعجاز العلمي ـ الإعجاز التأثيري ـ الإعجاز الغيبي ]
أولاً : الإعجاز العلمي :
على الرغم من وجود طائفة من العلماء الآن تجد أن اللغة التي تناسب العصر هي لغة الإعجاز العلمي ، وأنه ينبغي إغلاق الباب الآن حول الوجوه الأخرى لأنها لا تتساوق مع حديث الناس اليومي واهتماماتهم ، فلغة الناس اليوم هي لغة الكمبيوتر والذرة وغزو الفضاء وعلم الجينات ... إلى آخر هذا الفيض من المكتشفات ، 000 أقول على الرغم من هذا إلا أن هناك من يرى أن الأولى أن نجنب القرآن كل هذا ، لأن اللفتات العلمية فيه ليست مقصودة لذاتها بل هي داخلة في إطار الهداية ، ودلالة الخلق على الخالق.
وأنا هنا أسجل الموقفين ثم أدلف إلى مراد البحث :
فالفريق الأول يرى أن القرآن الكريم يفيض بالآيات العلمية عن الكون ومراحل تكونه وظواهره المختلفة ، والسنن التي تحكم هذه الظواهر ووصل عدد هذه الآيات في الإحصاء إلى ألف آية صريحة عدا الآيات الأخرى التي تدنو أو تبعد .
وعمدتهم في كل هذا قول الله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ)(فصلت: من الآية53)
حتى نادي صاحب كتاب جواهر القرآن على الناس قائلاً :
[ يا أمة الإسلام آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعاً في علم الرياضيات فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها .... هذا زمان العلوم ، وهذا زمان ظهور الإسلام ....
يا ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في علوم الميراث ؟ ....
إن نظام التعليم الإسلامي لابد من ارتقائه ، فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن ، بل هي علوم لفظه .... ]
فهذا الوجه يعتمد أهله على أن القرآن الكريم كتاب علم بجانب كونه كتاب هداية ، وأن طلاب العلم ينبغي أن يولوا وجوههم تجاه هذه القبلة ، قبلة العلوم فهي لغة العصر ، وميزان التقدم ، كما كانت البلاغة والفصاحة هي لغة العصر وميزان التقدم في العصر الجاهلي .
ومن هنا تعددت المؤلفات التي تتناول القرآن الكريم من وجهات أخرى مثل الفلك ، والطب والهندسة ، وعلوم النبات ، وطبقات الأرض ، إلى آخر ذلك ووصل الأمر إلى إنشاء المجامع العلمية ، ودور البحث المتخصصة في الإعجاز العلمي وانتشر في شبكة المعلومات العديد ، بل الذي لا حصر له من هذه المواقع التي تتحدث بهذا اللسان وتنطق هذه اللغة ، لغة العلوم وتقدم العلوم التجريبية حتى وصل الأمر إلى إنشاء المجامع العلمية ودور البحث المتخصصة في الإعجاز العلمي فالعصر عصر العلوم التجريبية وليس عصر اللغة وظهرت بعض التفاسير المهتمة بالإعجاز العلمي مثل تفسير ( المنتخب ) وهو معنى بدلالة الآيات على نواميس الكون وأسراره العلمية .
--------------------
وعلى الجانب الآخر ، وفي خضم هذا الجانب ـ المحمود عندي ـ ظهر ما يعارض هذا التوجه ، بل ويجرحه في بعض الأحايين ، ذلك لأن القرآن لا يقصد إلا إنقاذ الإنسانية العاثرة وهداية الثقلين إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فالقرآن الكريم كتاب هداية وإعجاز بلاغي .
وعليه فلا يليق أن نتجاوز به حدودهما حتى وإن ذكر فيه شيء من الكونيات فهو لا يقصد مطلقاً أن يشرح حقيقة علمية في الفلك أو الكيمياء ، ولا أن يحل مسألة حسابية أو معادلة جبرية ، أو نظرية هندسية ولا أن يزيد في علم الطب باباً ولا في علم التشريع فصلاً ، ولا أن يتحدث عن علم الحيوان .. إلى غير ذلك .
ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون .
وهم في ذلك مخطئون ومسرفون وإن كانت نيتهم حسنة وشعورهم نبيلاً ، ولكن النية والشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكي الإنسان غير الواقع ويحمل كتاب الله ما ليس من وظيفته خصوصاً بعد أن أعلن كتاب الله عن نفسه هذه الوظيفة وحددها مرات كثيرة منها قوله تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه هدى للمتقين ِ)(البقرة: من الآية2)
ومما يجب التفطن له أن عظمة القرآن لا تتوقف على أن تنتحل له وظيفة جديدة ولا أن نحمله مهمة ما أنزل الله بها من سلطان فإن وظيفته في هداية العالم أسمي وظيفة في الوجود ، ومهمته في إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة في الحياة ....
إن القرآن حين يعرض لآية كونية .... يتحدث عنها حديث المحيط بعلوم الكون الخبير بأسرار السماوات والأرض الذي لا تخفي عليه خافية 0
إن هناك مؤلفات جمة تموج وتضطرب باستنباط علوم الكون من القرآن الكريم ، ولقد تبين أن علوم الكون خاضعة لطبيعة الجزر والمد وأن أبحاثاً كثيرة منها لا تزال قلقة حائرة بين إثبات ونفي ... مما زعزع ثقتنا بما يسمونه العلم ، وجعلنا لا نطمئن إلى كل ما قرروه باسم هذا العلم ، فهل يليق أن نبقي مخدوعين مغرورين بعلمهم الذي اصطلحوا عليه ، وتحاكموا إليه وقد سجنوه وسجنوا أنفسهم معه في سجن ضيق هو دائرة المادة ، تلك الدائرة المسجونة هي أيضاً في حدود ما تفهم عقولهم وتصل تجاربهم ، وقد تكون عقولهم خاطئة ، وتجاربهم فاشلة .
ثم هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن الكريم إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة ، بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية القارة الثابتة المتنزلة من أفق الحق الأعلى الذي يعلم السر وأخفي.
ألا إن القرآن لا يفر من وجه العلم ولكنه يهفو إلى العلم ويدعوا إليه ويقيم بناءه عليه فأثبتوا العلم أولاً ووفروا له الثقة وحققوه ثم اطلبوه في القرآن فإنكم لا شك يومئذ واجدوه . ]
وبعد هذا العرض لوجهتي النظر يحسن أن أسأل هنا :
ألا يعد الإعجاز العلمي أيسر الطرق لجذب عقول الغربيين إلى الإسلام ؟
ألا يعد أفضل الوسائل لإقناع الماديين والملحدين والعلمانيين بعظمته وبخاصة في عصرنا الحاضر؟
وإذا كان علماؤنا قد استفرغوا جهدهم في العناية بالإعجاز البلاغي في وقت كان العلم فيه لغة ، وكانت اللغة هي مدار العلوم أفلا يحق لأهل العلم الآن أن يستفرغوا جهدهم في إعجازه العلمي ويكون هو المنطلق والباعث وليس كما يقال : حققوا العلم ثم اطلبوه في القرآن فإنكم واجدوه ؟
إنني لا أري عيباً في أن ننظر إلى القرآن الكريم على أنه معجزة علمية شريطة أن يتناول ذلك أهل الاختصاص .
فالقرآن الكريم رسالة متجددة لكل العصور وحين يكون العصر عصراً لغوياً فهو معجزة بلاغية ، وحين يكون العصر يموج بالعلوم التجريبية فهو معجزة علمية ولا ننكر الأخرى ، وكلما تقدم علم الإنسان وتقدمت اهتماماته فتح القرآن من خزائنه ما يبرهن على أنه كلام الله تعالى 0
ولم أجد أحداً قديماً أو حديثاً من علمائنا الأجلاء توقف عند وجه واحد من وجوه الإعجاز وأنكر الباقي ، بداية من الأوائل مثل الرماني والخطابي وعبد القاهر وانتهاء بأساتذتنا مثل محمود شاكر ورجب البيومي وأبي موسى ومحمود توفيق وغيرهم 0
ولا عجب في أن يروا هم أن المقدم من الوجوه هو الإعجاز البلاغي ويري البحث غير ذلك .
ثانياً : الإعجاز التأثيري :
تأثير القرآن في الناس أمر بدهي لكل ذي عينين ، حتى سماه المشركون سحراً ، والذي ينبغي التوكيد عليه هنا أن القرآن الكريم كتاب هداية .
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9)
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2)
( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138)
ذاك هو الهدف من القرآن الكريم ، بل هو الهدف من وراء كل معجزة أتي بها الأنبياء .
ولقد كان العرب قديماً يعرفون له هذا الأثر فقالوا : ( هذا سحر مبين ) وقالوا ( إن له لحلاوة ) وقالوا لبعضهم ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) .
لأنهم إن سمعوه بقلب فارغ من العداء أسرهم وأحاط بهم وأخذ بمقاليدهم فلا يجدون مفراً من التسليم له واتباع ما فيه .
والقصة التي أوردها ابن خلكان في شأن أبي عبيدة معمر بن المثني وهو يدافع عن القرآن الكريم ، والتي قيل إنها سبب نشأة علم البلاغة هذه القصة تبين بجلاء أن قضية القرآن ، ليست قضية لغوية ، وأن التحدي فيه لم يكن في اللغة وفصاحتها وسموها .. إنما في شيء آخر ، والقصة ملخصها :
أن إبراهيم بن إسماعيل الكتب سأل عن قول الله تعالى (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) (الصافات:65) .
وكان العجب أن يقع الوعيد بمثل هذا حيث لم ير أحد رءوس الشياطين ، وكانت إجابة أبي عبيدة مضيئة لكثير مما غمض علينا ، فماذا قال ؟ لقد قال : إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم .
ثم ذكر من شعر أمرئ القيس ما يؤيد هنا وذلك قوله :
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوالوالعرب لم تر الغول ، ولكن لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به .]
المهم هنا قوله : إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم .
وهذا يؤيد أن أغلب تعليقات العرب على القرآن الكريم لم تكن على بلاغته بل على هديه وأثره في نفوسهم .
ولقد بعث أكثم بن صيفي ـ وهو من حكماء العرب المعدودين ـ ولده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع منه ...
فاستمع الولد إلى رسول الله ، ولا يخفي أن رسول الله كان يُسمِع كل وافد القرآن الكريم ..
فلما جاء الولد أباه وأخبره بما سمعه من رسول الله جمع أكثم قومه ثم قال لهم :
إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة وأتاني بخبره وكتابه يأمر فيه بالمعروف وينهي عن المنكر ويأخذ بمحاسن الأخلاق ويدعو إلى توحيد الله .... الخ وهذا الكلام لا ذكر فيه لبلاغة أو فصاحته .
[ ولقد كان كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة أول كتاب يبحث في أسلوب القرآن الكريم ويوازن بينه وبين كلام العرب لينتهي من الموازنة إلى أنه نمط من ذلك الكلام ... وكلمات من كلام الناس ولكن يفعلن هذا الأمر العجيب في النفوس ويقمن هذا السلطان القاهر على القلوب ...
وهذا الوجه من وجوه الإعجاز هو المعجزة القائمة في القرآن الكريم أبداً الحاضرة في كل حين ، وهي التي تسع الناس جميعاً ، عالمهم وجاهلهم ، عربيهم وأعجميهم ، إنسهم وجنهم .
إن هذا الوجه عمدة وجوه الإعجاز في القرآن ، فالروعة التي كانت تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته هي مثال إعجازه ، وهي المعجزة القائمة أبد الدهر وهو الوجه الذي من حقه في رأينا ، أن يكون وجه الإعجاز وحده . ]
وهكذا نظر العلماء إلى الإعجاز التأثيري ، وعدوه الوجه الذي من حقه أن يكون وجه الإعجاز وحده .
وكأنهم يؤكدون عدة أمور ، من خلال كلامهم ، منها :
إن الإعجاز البلاغي والتحدي في البلاغة يتصادم مع وجود العالم والجاهل والعرب والعجم ، والإنس والجن ، وقيام المعجزة على طول الزمان والمكان .
لذا راحوا يضعون هذا عن عاتقهم ويحملون هذا الوجه البديل الذي لا مطعن فيه ولا خلاف عليه حتى قال الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ [ ما أظن امرءاً سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم يزعم أنه لم يتأثر به . ]
ولا يغرنك عدم تأثر أهل الإلحاد والشرك [ فأثر القرآن مختلف حسب نوع المتلقي ، وما لديه من استعدادات لاستقبال المؤثرات القرآنية أو موانع من أمراض القلوب المتنوعة ، فأثر هذا القرآن ومظاهر هذا التأثير واضحة في الفريقين :
في المؤمنين : زيادة في الإيمان واستبشار في الوجوه
وفي المنافقين : زيادة في الرجس والشر والدنس وخاتمة
سيئة هي الموت على الكفر . ]
وإذا كنت أتفق في أثر القرآن على القلوب لكن هل المثلية المتحدى بها مثلية تأثير على الناس ، بمعنى هل طلب منهم المجيء بكلام مؤثر في القلوب ؟ إن أهل الشرك والإلحاد لا يزالون يجادلون ويقولون ولم لم نتأثر نحن فإن قلت إنه يزيدهم رجساً إلى رجسهم اتهموك بالهروب والمماطلة لأنهم يريدون التأثير بمعنى الهداية ، وأري أن لهم وجهاً ، ولذا أود أن نمضي إلى وجه آخر قد يكون محل اتفاق وهو :
-----------------------
ثالثاً : الإخبار عن الغيب
أغلب المتحدثين عن الإعجاز اهتموا بذكر هذا الوجه ، وجعلوه في بعض الآراء الوجه الأهم ، يقول البيهقي :
[ في القرآن وجهان من الإعجاز :
أحدهما : ما فيه من الخبر عن الغيب ، وذلك في قوله عز وجل : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(التوبة: من الآية33) وقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ )(النور: من الآية55) وقوله في أول الروم (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)(الروم: من الآية3) وغير ذلك من وعده إياه بالفتوح في زمانه ، وبعد زمانه ، ثم كان كما أخبر ... والآخر : ما فيه من الخبر عن قصص الأولين ... ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ كتاباً ولا يخطه ، ولا يجالس أهل الكتاب للأخذ عنهم وحين زعم بعضهم أنه يعلمه بشر رد الله ذلك عليه فقال : (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(النحل: من الآية103) .
وفي كلتا الحالتين فالإعجاز إعجاز غيبي ، فالخبر عن المستقبل غيب ، والحديث عن السابقين غيب ، وكأن البيهقي ـ رحمه الله ـ يحصر الإعجاز والتحدي في الغيب لكن هذا الوجه لم يسلم من النقض فضلاً عن النقد ، حيث يقول شيخي محمود توفيق ـ حفظه الله ـ [ إن القول بأن الإخبار بالغيوب هو وحده مناط للإعجاز ، متعاند مع ما جاءت به آية التحدي في سورة هود(13) وهي قوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .
فقوله ( مفتريات ) قاطع بأن مناط التحدي ليس ما تضمنه من معاني الحق سواء ما كان منها ، من باب الإخبار بغيب مضى أو غيب قائم أو غيب قادم . ]
وأري أن الإخبار بالغيب وجه من وجوه الإعجاز الظـاهرة التي يُستـند إليها لكنها ـ كما قـال شيخي ـ لا يكتفي بها [ ولقد كان كفار مكة أحرص الناس على إبطال قوله صلى الله عليه وسلم مجتهدين بكل طريق يمكن ، فتارة يذهبون إلى أهل الكتاب يسألونهم عن أمور من الغيب حتى يسألوه عنها ، كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين ... ]
وحين قالوا ( لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا)(لأنفال: من الآية31) كان تعريفهم له أنه (أساطير الأولين ) فقالوا (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .
والقرآن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ )(يوسف: من الآية3) .
ولكن هناك أمر ينبغي الإشارة إليه وهو أن الغيب ليس مقصوراً على القصص أو التنبؤ بما سيكون
إن الغيب هو القرآن الكريم ، هو الحديث عن الله وملائكته ورسله وعن الكون بما فيه وعن القيامة بما فيها ، وعن الماضي كله والمستقبل كله ، ولو تصفحت كتاب الله تعالى لن تعدم شيئاً من هذه الأمور ، حتى في السور القصيرة ، وأقرأ من أول سورة الناس وهي تحدثك عن إله واحد مالك للجميع يعيذك من شر الشيطان الذي يوسوس في الصدور ... وكل ذلك كما تلحظ غيب .
ثم انتقل إلى سورة العلق وهي تحدثك عن [ ثلاثة أنواع من الشرور :
أحدهما : وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل .
والثاني : صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير .
والثالث : صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به.]
وكل هؤلاء غيب :
حتى في أقصر صورة في القرآن وهي سورة الكوثر حديثان عن الغيب
الأول : الكوثر وهو نهر في الجنة .
والآخر : الإخبار بأن مبغض النبي هو الأبتر بقطع ذكره الطيب إلى يوم القيامة 0
والذي أريد أن أقرره هنا أن الغيب وجه من وجوه الإعجاز ، لكن هل وقع التحدي به ؟ وهل المثلية المرادة هنا مثلية غيب ؟
وهل المطلوب من الجن والإنس أن يأتوا بكلام يحدث الناس عما وقع في الماضي أو ما سيقع في المستقبل؟
إن القرآن يقول :
1- (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب ...ِ)(البقرة 2 :3)
2- (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ )(آل عمران: من الآية44)
3- (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)(الجـن 26 : 27)
إن الغيب والإطلاع عليه وجه من وجوه التحدي ، أتي به النبي من عند ربه ولكنه ليس كل التحدي ، وحين يقول القرآن ( فأتوا بسورة من مثله ) قد يعني الغيب وقد يعني غيره ، وبخاصة أن البشر لا إطلاع لهم على الغيب .
إن الأمر قد يكون ، وقد لا يكون ، في كل ما سبق .
قد تكون المثلية المطلوبة مثلية علم ، أو مثلية هداية ، أو مثلية غيب وقد تكون المثلية غير ذلك ، وقد تكون في مجموع ذلك .
ولقد عرضت لك حديث العلماء عن الإعجاز العلمي والتأثيري ، والغيبي وفي كل مرة نرى أنه من الممكن حمل المثلية على هذا الوجه ، ومن الممكن لا .
لكن الشائع في ميدان البلاغة حتى صار هو الأصل في كتبهم أن المثلية المطلوبة في آيات التحدي هي مثلية أسلوب ونظم وبلاغة ، ... وغير ذلك من أوصاف تعود على لغة القرآن .
وأقف بك على هذا بعض الوقت .
دكتور/ سعيد جمعة
الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر
كلية اللغة العربية
شبين الكوم
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ، والتابعين لهم بإحسان ، إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإنني لا أكاد أعلم قضية نالت من العناية والاهتمام ، وتنوعت فيها الكتب والدراسات مثل قضية الإعجاز في القرآن الكريم .
فكل من تناول القرآن الكريم على أي مستوى من مستويات التناول وقف بلا شك أمام الإعجاز ، سواء كان التناول بالشرح والتحليل ، أو النظر والتدبر واستخلاص الدروس ، أو حتى بالنقد والهجوم .
كل هؤلاء وغيرهم ( ممن تناول قضية الإعجاز ) وقف أمام عدة آيات يقال لها : ( آيات التحدى ).
وهذه الآيات - على قلتها – تمثل لب الإعجاز ، لأنها تطلب من الخلق كافة ومن المكذبين خاصة الإتيان بمثل القرآن ، أو ببعض من القرآن.
ومع كثرة المؤلفات إلا أنك لاتجد مايروي الغلة ، ويريح الفؤاد ، في توضيح معنى ( من مثله ) مع أن هذا هو المتحدى به ، وهو بيت القصيد وجوهر المراد.
فالتحدي في : ( حديث مثله ) ، أو في ( مثل هذا القرآن ) ، أو ( عشر سور مثله ) ، ( أو سورة من مثله ).
ذاك هو مناط التحدي.
ليس التحدي في المجيء بأعلى كلام في البلاغة ولا المجيء بأسهل لفظ وأحسن سبك وأجمل أسلوب 0 ، ولا المجيء بكتاب أو بعض كتاب يشمل تنبؤات عن الزراعة والفلك والطب ، وغير ذلك .
الإعجاز يكمن في هذا اللفظ ( المثل ).
فما المراد بكلمة المثل ؟
ذاك هو الموضوع.
وحقيقة لقد دفعني إلى ولوج هذا الخضمّ ماظهر في عصرنا من كتابات كانت في الماضي تختمر بخمار الخجل ، وتتقنع بقناع الحياء ، وكانت تغمز حينا وتلمز أحيانا أخرى وتدعى إمكان المجيء بمثل القرآن 0
وظل هذا يبدو ساعة ويختفي أخرى حتى فتحت علينا الأبواب كما تفتح يأجوج ومأجوج ، فامتلأت الأسماع والأبصار بكتابات وأصوات يصرخ أهلها ليل نهار ، بكلام زعموا أنه ( مثل القرآن ) ، وبهذا يسقط ( في زعمهم ) التحدي 0
لقد كتبوا كلاما ً على هيئة آيات القرآن الكريم ، وحوروا ، وبدلوا ، لكنهم جاءوا بالهيئة والنسق وتقسيم العبارات ونغماتها وفواصلها ، وصارت حربا ثقافية يريدون من ورائها سلخ الأمة من دينها وتشويه الكتاب المقدس الذي يحفظ لها هويتها ، ووحدتها ،حتى أن الأمر وصل إلى درجة أن يؤلف كتاب سموه ( الفرقان الحق ) وأرادوا تقريره على العالم الإسلامي والعربي ليكون بديلا عن القرآن الكريم !!!!
لقد وصل الأمر إلى هذا المدى وأكثر ، ناهيك عن مطبوعاتهم التي تقذف بها وسائل الإعلام صباح مساء0
ولكي أضع القارئ أمام هذا الذي يسمونه سورا تتحدى القرآن الكريم أنقل لكم سورة واحدة سماها صاحبها سورة الشجرة وقال إن عندي سبعين سورة على غرارها ويستطيع القارئ أن يرجع إلى مثل هذا فى مواقع الأنترنت مثل موقع منتدى نادي الفكر العربي والذي نقلت منه هذه الجمل التي يسميها صاحبها سورة الشجرة ، وهاهي تي :
سُورَةُ الشَّجَرَةِ
سُبْحَانَ الّذِي خَلَقَ فَقَدَّرَ (1) وَ جَعَلَ الْقَلَمَ سُنَّةً لِلْعَالَمِينَ (2) وَ أَوْحَى إِلَى فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ لِيُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ (3) وَ فَرِيقاً صَدَّ عَنْ الهُدَى فَأَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ تِلْكَ مَشِيئَةُ اللهِ رَبِّ العَالَمِينِ (4) فَمَنْ شَاءَ الهُدَى هَدَيْنَاهُ إِلَيْهِ وَ يَسَّرْنَا أَمْرَهُ وَ مَنْ رَغِبَ عَنْهُ فَالزَّيْغُ طَرِيقُهُ وَ مَا نَحْنُ بِظَالِمِينَ (5) سُنَّةُ اللهِ مُذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ فَرِيقٌ إِلَى جَهَنَّمَ وَ فَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ مُكْرَمِينَ (6) وَ اذْكُرْ فِي الكِتَابِ ذَا الهِمَّةِ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلى بَني إِسْرَائيِلَ وَ أَيَّدْناهُ بِذِكْرٍ مُبِينٍ (7) فَكَذّبُوُهُ وَ قَالُوا إِنْ أَنْتَ إِلاَّ كَاهِنٌ مَجْنُونٌ (8) أَلاَ إِنَّهُم فِي ضَلالِهِم يُوغِلُونَ (9) فَفَجَّرْنَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم مَاءًا حَتّى بَلَغَ الْحَنَاجِرَ فَقَالوُا هذا سِحْرٌ مَكِينٌ (10) وَ غَرِقُوُا فِي اليَمِّ أَوْ كَادُوا يَغْرَقُونَ (11) فَقَالُوا ادْعُ لَنَا الْلّهَ يَرْحَمنَا فَنَكُونُ مِنَ التَّابِعِين (12) فَغِيضَ الْمَاءُ إِلَى بَطْنِ الأَرْضِ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ (13) فَقَالَ لَهُمْ هَذِهِ آَيةُ اللّهِ فَهَلْ أَنْتُم مُهْتَدُون (14) فَقَالُوا إِنَّا قَوْمٌ نَجُوعُ فَأَشْبِعْنَا أَبَدَ الدَّهْرِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين (15) فَأَنْبَتْنَا لَهُمْ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ شَجَرَةً مُبَارَكَةً تَسْقِيهَا المَلاَئِكَةُ بُكْرَةً وَ عَشِيّةً مِنْ مَاءٍ طَهُورٍ (16) وَ قُلْنَا لَهُمْ هَذِهِ شَجَرَةٌ مُبَارَكَةٌ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا لاَ يَجُوعُ أَبَداً عَلَّكُمْ تَشْكُرُونِ (17) فَأَكَلُوا مِنْهَا وَ لَمْ يَجُوعُوا أَبَداً وَ مَا كَانُوا مِن الشَّاكِرِينَ (18) فَقَالُوا يَا ذَا الْهِمَّةِ إِنَّا نَشْتَاقُ إِلَى الطَّعَامِ كَمَا يَشْتَاقُ الْعَاقِرُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ فَانْزَعْ عَنَّا الْشَّبَعَ نُعُودُ نَأْكُلُ فَكِهِينَ (19) فَنَزَعْنَا عَنْهُمُ الْشَّبَعَ عَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (20) فَاتَّبَعُوهُ حِيناً مِنَ الْدَّهْرِ وَ أَقَامُوا الْصَّلاةَ وَ آتُوا الْزَّكَاةَ وَ رَكَعُوا مَعَ الْرَّاكِعِينَ (21) فَكَتَبْنَا عَلَيْهِم الْجِهَادَ سُنَّة اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (22) فَقَالُوا كَيْفَ نُجَاهِدُ مَعَكَ وَ فِينَا الْشُّيُوخُ وَ الْغِلْمَانُ وَ الْمَرْضَى وَ الْنِّسَاءُ (23) قُلْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنْ قَرُّوا فِي بُيُوتِهِمْ هَذا وَعْدُهُمْ مِنَ اللهِ الْغَفُورِ الْرَّحِيمِ (24) لَيْسَ عَلَى الْشُّيُوخِ وَ لاَ الْغِلْمَانِ وَ لاَ الْمَرْضَى وَ لاَ الْنِّسَاءِ قِتَالٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ مَنْ جَاهَدَ عَنْ نَفْسِهِ بِالمَالِ فَقَدْ حَقَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْدِّينِ (25) قَالُوا وَ إِنْ تَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءُ اللهِ مِنْ خَلْفِ ظُهُورِنَا فَمَاذَا نَحْنُ فَاعِلُونَ (26) فَأَنْزَلْنَا مَلاَئِكَةً مُسَوَّمِينَ يَحْرُسُونَهُمْ فِي الْلَّيْلِ وَ الْنَّهَارِ فَلاَ تَخَافُوا عَلَيْهِمْ وَ أَطِيعُونِِ (27) فَقَالَ قَائِلُهُمْ يَا ذَا الْهِمَّةِ كَيْفَ نُقَاتِلُ مَعَكَ وَ نَحْنُ قَوْمٌ نَجُوعُ حِيناً وَ نَشْبَعُ حِيناً فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُشْبِعْنَا أَبَدَ الْدَّهْرِ فَنَكُونُ لَكَ بِإِذْنِ اللهِ مِنَ الْنَّاصِرِينَ (28) فَارْبَدَّ وَجْهُ الْنَّبِيِّ وَ قَالَ بِئْسَ مَا أَنْتُمْ طَالِبُونَ (29) قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكُمْ وَ رَفَعَكُمْ دَرَجَاتٍ وَ أَمَدَّكُمْ بِالْخَيْرَاتِ وَ أَنْتُمْ أَخْزَيْتُمُونِ (30) هَذَا فِرَاق ٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ (31) وَ مَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (32) وَ تَرَبَّصُوا بِهِ عِنْدَ الْشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ وَ قَالُوا جِئْنَاكَ طَائِعِينَ (33) وَ أَحَاطُوا بِهِ وَ مَنْ تَبِعَهُ مِن الْمُؤْمِنِينَ (34) وَ انْدَفَعَ أَشْقَاهُمْ مِن خَلْفِهِ وَ طَعَنَهُ فَارْتَجَّت الأَرْضُ وَ كَادَتْ تَنْفَطِرُ الْسَّمَاءُ فَقُلْنَا لَهَا اعْقِلِي مَوْعِدُهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ المَآَلِ (35) وَ أَحَاطَهُمْ غَضَبٌ مِن اللهِ فَكَتَبْنَا عَلَيْهِم الْتِّيهَ فِي الأَرْضِ وَ كَتَمْنَا عَلَى أَفْوَاهِهِم وَ عُيُونِهِم وَ قَطَعْنَا نَسْلَهُم إِلاَّ فِئَةً قَلِيلَةً لِتَكُونَ شَاهِدَةً عَلَى سَخَطِ اللهَ وَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِكُلِّ جَاحِدٍ أَثِيمٍ (36) يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اذْكُرُوا يَوْمَ تَقُومُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ تَجُرُّونَ خَطَايَاكُمْ لاَ يَخْفَى مِنْكُمْ قَوْلٌ وَ لاَ فِعْلٌ وَ لاَ خَاطِرٌ وَعَلَيْنَا تُعْرَضُونَ (37) فَمَنْ نَجَا مِنْكُمْ فَقَدْ آَبَ إِلَى دَارِ الْسَّكِينَةِ أَنْهَارُهَا طِيِبٌ وَ نِسَاؤُهَا أَبْكَارٌ لاَ تُشَارَكُونَ بِهِنَّ وَ إِلَيْهِنَّ تَخْلُدُونَ (38) وَ أَمَّا مَنْ سَقَطَ السَّقْطَةَ الْكُبْرَى فَأُولَئِكَ يُجَرُّونَ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَ آَذَانِهِمْ وَ عُيُونِهِمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلِهِمْ وَ فُرُوجِهِمْ عَلَى بَلاَطِ جَهَنَّمَ يَغْلِي رُؤُوسَهُمْ وَ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَهْزِئُونَ (39) كَفَرُوا بِاللهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ قَلَمِهِ وَ قَالُوا مَا لَنَا مِنْ مَآَبٍ بَعْدَ مَوْتِنَا وَ هَاؤُمُ الآَنَ يَبْكُونَ (40) وَ أَشْرَكُوا مَعَ اللهِ أَرْبَابَ الْجِنِّ وَ الإِنْسِ وَ مَا لاَ يَضُرُّ وَ لاَ يَنْفَعُ يَدْعُونَهُمْ جَهْلاً وَ لاَ يُعْذَرُونَ (41) وَ لَمْ يَقُومُوا إِلَى الْصَّلاَةِ وَلَمْ يُؤْتُوا الْزَّكَاةَ وَ قَتَلُوا الْنَّفْسَ الْغَافِلَةََ أَلاَ بِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (42) وَ اجْتَمَعُوا عَلَى الْفَاحِشَةِ كَمَا يَجْتَمِعُ الْذُّبَابُ عَلَى جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ أُولَئِكَ حَطَبُ جَهَنَّمَ وَ أُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (43) يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اذْكُرُوا يَوْمَ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ عَدَمٍ وَ هَيَّئْنَا لّكُمْ الأَرْضَ لِتَعْمُرُوهَا وَ تَأْكُلُوا مِنْهَا أَنْتُمْ وَ أَنْعَامُكُمْ وَ تُوَارِي أَمْوَاتَكُمْ وَ سَوْآتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً وَ طَهَارَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (44) وَ سَخَّرْنَا لَكُمْ الْهَوَاءَ يَحْمِلُكُمْ فِي الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الأَرْضِ لِتَعْمُرُوهَا بِإِذْنِ اللهِ وَ يَحْمِلُكُمْ فِي الْسَّمَاءِ لِتَرَوْا آَيَاتِنَا رَأْيَ الْعَيْنِ وَ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ تَرْكَعُوا مَعَ الْرَّاكِعِينَ (45) وَ أَسْقَيْنَاكُمْ مَاءَاً عَذْبَاً جَارِيَاً يُذْهُبُ الظَّمَأَ قُلْ لَوْ كَانَ مِلْحَاً أُجَاجَاً أَوْ عَذْبَاً آَسِناً فَكَيْفَ مِنْهُ تَشْرَبُونَ (46) وَ جَعَلْنَا إِخْوَاناً لَكُمْ مِنْ آَبَائِكُمْ وَ مِنْ غَيْرِ آَبَائِكُمْ وَ أَبْنَاءً لَكُمْ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَ مِنْ غَيْرِ أصْلاَبِكُمْ يُؤْنِسُونَكُمْ وَ يُظَاهِرُونَكُمْ أَفَلاَ تَشْكُرُونَ (47) مَا ضَرَّ اللهَ لَوْ حَبَسَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ أَسْقَطَكُمْ مُضْغَةً فِإِذَا أَنْشَأَكُمْ وَ اشْتَدَّ بَأْسُكُمْ افْتَرَيْتُمْ عَلَى اللهِ وَ قُلْتُمْ مَا خَلَقَنَا غَيْرُ أُمَّهَاتِنَا قُلْ فَمَنْ خَلَقَ لَكُمْ أُمَّهَاتِكُمْ مِنْ قَبْلُ قَلِيلاً مَا تَعْقِلُونَ (48) وَ لَوْ شِئْنَا لَحَبَسْنَا عَنْكُمْ الْمَاءَ وَ الْهَوَاءَ وَ فَجَّرْنَا نَاراً مِنْ تَحْتِكُمْ وَ أَظْلَمْنَا الْسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ وَ نَشَرْنَا فِيكُمْ الْمَرَضَ كَمَا فَعَلْنَا بالْكَافِرِينَ مِنْ قَبْلُ لَكِنَّا عَلِمْنَا أَنَّ فِيكُمْ مُؤْمِنِينَ فَانْتَظِرُوا يَوْمَ الْمَآَبِ (49) مِنَ الْنَّاسِ مَنْ يَقُولُ سَمِعْنَا وَ أطَعْنَا وَ مِنَ الْنَّاسِ مَنْ يَقُولُ سَمِعْنَا وَ عَقِلْنَا وَ مِنَ الْنَّاسِ مَنْ يُجَادِلْ وَ هُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (50) فَإِنْ جَادَلُوكَ أَقِمْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةََ بِالْحَقِّ تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى أَسْيَادِهِمْ أُسْقِطَ في أيديهِم وَ بَاتُوا بُكْماً كَأَهْلِ الْقُبُورِ (51) فَيقولُونَ شَاعِرٌ قُلْ هَاتُوا شُعَرَاءَكُمْ وَ مَنْ يَفْتَرِي فَلَهُ الْخِزْيُ أَبَداً لاَ يَسْتَطِيعُونَ لِهَذَا الْكِتَابِ رَدّاً وَلاَ شَبَهاً مَشِيئَةَ اللهِ الْقَدِيرِ الْحَكِيمِ (52) وَ يَقُولُونَ شَاعِرٌ قُلْ هَاتُوا شُعَرَاءَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ (53) وَ إِنْ قَالُوا ائْتِنَا بِالسَّحَابِ مُسَيَّراً أَوْ اجْعَلْ لَنَا الْجِبَالَ ذَهَباً أَوْ طِرْ إِلَى الْقَمَرِ قُلْ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ اللهِ وَ مَا كُنْتُ سَاحِراً وَ لاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَكُونَ(54) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْتَرِي عَلَيْنَا آَيَاتٍ خَدَاجٍ وَ يَقُولُ أُوتِيتُ كَمَا أُوتِيَ هَذَا الرَّجُلُ قُلْ هَلْ لَكَ أَنْ تَهْدِي بِهِ أَقْوَاماً إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (55) أُولَئِكَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ الذِّلَّةَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا زَيَّنَتْ لَهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ وَ فِي الآَخِرَةِ لَهُمْ شَرُّ الْعَذَابِ (56) هَذَا كِتَابُ اللهِ آَيَةً أَبَداً فَمَنْ شَاءَ الإِيمَانَ فَلَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ وَ مَنْ شَاءَ الْكُفْرَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ مَا لَهُ مِنْ حُجَّةٍ عَلَى اللهِ قَدَراً قَضَيْنَاهُ عَلَى الْعَالَمِينِ (57)
وهذه نقطة من طوفان غمر المواقع المختلفة على الانترنت وراح بعضهم يشجع بعضا ويمدحه على هذه السورة العظيمة مما يؤكد أن هؤلاء يرمون عن قوس واحدة ، وأن لهم غاية لن ينفكوا عنها ، وهي إسقاط قدسية القرآن الكريم من عيون الشباب 0
وحقيقة لقد خرج جمع من طلبة العلم وشمروا سواعدهم ليكشفوا زيف هؤلاء ، ويردوا عن القرآن ، ويزودوا عن حماه ، ويفندوا هذه الأباطيل ويوضحوا للناس تهافت هذا الكلام الذي لايخلو من الخطأ النحوي فضلا عن غيره 0
وراح آخرون ينافحون عن القرآن الكريم من خلال الدعوة إلى النظر إلى إعجازه العلمي ، و العددي ، ورأوا أن ذاك هو المخرج من هذا الجدل حول بلاغة القرآن وبلاغة العرب ، وحتى لا تبدوا لغتنا متخلفة عن الركب ، هكذا زعموا !!
ومن هنا كان لابد على طلاب العلم ، والمشتغلين بالبلاغة العربية خاصة من الوقوف في الميدان ، فالقضية تعنيهم في المقام الأول قبل غيرهم ، ليبينوا للناس ما نزل على رسول الله والفارق بين كلام البشر وكلام رب البشر ويفضحوا سمادير هؤلاء وترهاتهم التي أغرقت الساحات الثقافية المختلفة 0
وكان هذا البحث ضوءا على الطريق يكشف صاحبه من خلاله موطن التحدي ومناط الإعجاز كما تبين له0
فما معنى المثلية المنصوص عليها في آيات التحدي ؟
وهل كل معجز في القرآن الكريم يقع التحدي به ؟
وإذا كان علماؤنا الأوائل _ ولأسباب مفهومة _ قد وجهوا جل اهتمامهم إلى الإعجاز البلاغي ، وربطوا ذلك بفصاحة العرب وبراعتهم في اللغة وقدرتهم على صوغ الكلام وحبكه ، فهل هذا التوجه يناسب عصرنا الحاضر ؟ أم أن الأمر يحتاج إلى مراجعة لإظهار موطن الإعجاز البلاغى أو لتحويله إلى ما هو أولى منه ؟
وبخاصة أنه لا يوجد في صريح القرآن الكريم ولا صريح السنة الشريفة – على حد معرفتي – ما ينص على أن التحدي في بلاغة القرآن الكريم ونظمه 0
ولا يظن القارئ أنني اتخذت قبل البحث موقفاً أنافح عنه ، فالواقع أنني ظللت أياما طويله أرجح رأيا من الآراء ، ثم بعد فترة أراه يتهاوى أمام النظر ، فأرجح غيره وظللت هكذا ما يقرب من العام افترض شيئا ثم أراه يتهاوى عند التأمل حتى وصل البحث إلى النتيجة التي أرتضيها والتي أدين بها لربي سبحانه وتعالى 0
أقول هذا وأنا أدرك ، بل أنا على يقين من أن كتاب الله تعالى لا يبخل على ناظر فيه 0
كيف وهو الكريم ؟
أقول هذا وأنا أعي مراد هؤلاء الطاعنين في كلام الله تعالى الزاعمين أنهم جاءوا بشيء ؟
أقول هذا وأنا أستحضر قول الله تعالى ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ) (النساء:89)
هذا وقد سلك البحث منهجا نقديا أحاول من ورائه تحليل ما قاله علماؤنا ووضعه أمام النظر من خلال توافق أو اختلاف النصوص بعضها مع بعض وربط ذلك بنصوص القرآن الكريم وما يموج به عصرنا من توجهات والوصول من وراء ذلك كله إلى ما أرتضيه لكتاب الله تعالى 0
وغايتي بعد رضا الله تعالى النصح لكتابه الكريم فالدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وقد اختط هذا البحث لنفسه خطة يتبدى من خلالها للقارئ الكريم وهي على النحو التالي :
( مقدمة ، وستة مباحث ، وخلاصة ، ثم فهرس للعناوين وآخر للكتب ) .
في المقدمة :
طرحت فكرة البحث ، والدافع إليه ، وغايته ، وخطته .
وفي التمهيد :
تناولت كثرة الحديث حول الإعجاز إثباتاً أو نفياً ، وعرجت على من سبقني إلى هذا المضمار الخاص وهو دلالة المثلية .
وفي المبحث الأول :
تناولت دلالة المثلية في لغة العرب وفي كتاب الله تعالى ، بحيث يستطيع القارئ أن يرسم شخصية لهذه الكلمة تميزها عن جاراتها في المعني .
وفي المبحث الثاني :
علقت على المقصودين بالتحدي وهل هم الإنس والجن أم طائفة أخرى ؟ .
وفي المبحث الثالث :
كان حديثي عن ترتيب آيات التحدي التي وردت فيها لفظة ( المثل ) من حيث النزول ومن حيث الكتابة في المصحف والمعاني الكامنة خلف كل ترتيب .
وفي المبحث الرابع :
تحدثت عن مفهوم الإعجاز في تراث العلماء والفرق بين مناط الإعجاز ومناط التحدي ، ثم اختلاف وجوه الإعجاز في القرآن الكريم وتعددها .
وفي المبحث الخامس :
وقفت مع أشهر وجوه الإعجاز ـ أو وجوه التحدي ـ وهي الإعجاز العلمي ـ ثم التأثيري ـ ثم الإخبار عن الغيب ، وبينت مدى الصلة بينها وبين القرآن الكريم .
ثم المبحث السادس :
وفيه وقفت مع الإعجاز البلاغي ، وبينت علاقته بآيات التحدي وهل المثلية المتحدي بها مثلية بلاغة أم شيء آخر ؟
ثم كانت خلاصة هذه البحث وفيها سطرت وجهة نظري في المقصود بقوله ( من مثله ) عند التحدي وأردفت ذلك ببعض الأدلة .
ثم جاء في النهاية فهرس العناوين وتلاه فهرس الكتب والمراجع .
تمهيدإذا كانت قضايا اللغة يصعب حصرها ، فإن الحديث حول القرآن الكريم ، وبخاصة إعجازه لا يكاد يحصيه المحصي ولم أر قضية أخذت من الدراسة قديماً وحديثاً مثل قضية الإعجاز ، ووجوهه المتنوعة ، فلقد شغل العلماء ولا يزال على اختلاف توجهاتهم وفي مقدمتهم علماء اللغة .
بل إن علم البلاغة كان ثمرة من ثمار الحديث عن إعجاز القرآن الكريم ، وفصاحته ، وكان نبتاً في الأرض الطيبة التي وقف عليها أهل اللغة ليفرقوا بين الحقيقة والمجاز ، وبين لغة البشر وكلام رب البشر.
وفي وسط هذه الدراسات القرآنية ، واجتماع العقول والقلوب حول هذا الكتاب ظهرت قضية الإعجاز ، وتحدي القرآن للناس حيث قال القرآن الكريم .
(وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ )(العنكبوت: الآية51) فالقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى الباقية إلى يوم القيامة ، وهو المعجزة العامة التي جاءت لتتحدى الناس جميعاً .
ومن هذا المنطلق أهتم العلماء بقضية الإعجاز - المسلم منهم وغير المسلم - .
أما المسلم فلأنه يرى في الإعجاز برهاناً على أن هذا الكتاب حق وأن الرسول حق ، وفي النهاية فهو متمسك بالدين الحق ، ومن هنا أيضاً كان دفاعه عن الإعجاز دفاعاً عن دينه ومعتقداته .
وأما غير المسلم فراح يلقى سهامه إلى الإعجاز لينقضه ويدحضه ليخلص من وراء ذلك إلى إبطال نسبة هذا الكتاب إلى الله تعالى ، وبهذا يتداعى هذا الدين ، وينسلخ منه أتباعه ، وهذا ما يريدونه .
ومن هنا نالت قضية الإعجاز هذه الأهمية ووضعت لها المؤلفات ودرست في الجامعات .
لكن المتابع لحركة العلم في العصر الحديث يرى تطوراً أذهل الجميع ، مما حدا بالكثيرين إلى مسايرة هذه التطورات وأخذ قضية الإعجاز إلى هذا المعترك فوجدوا القرآن الكريم لا يبخل عليهم ، فراحوا يؤسسون لميدان جديد يعتمد على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم .
وقد ظهر في شبكة المعلومات العالمية مواقع كاملة تتحدث عن الإعجاز في القرآن الكريم وبأكثر من لغة ، ويكفي أن تزور موقعاً واحداً لنرى إلى أي مدى وصل الحديث عن الإعجاز في القرآن الكريم إثباتاً تارة ، ونفياً تارة أخرى .
ومن يثبتون راحوا يقلبون في كل شيء ويستخرجون له أصولاً من القرآن الكريم فهذا في الإعجاز الاقتصادي ، وهذا في الإعجاز في طبقات الأرض ، وهذا في الطب ، وذاك في البحار ، وهذا في الزراعة ... إلى آخره .
ومن الجهة المقابلة ترى أمواجاً هادرة من الطعن في القرآن الكريم ومحاولة إبطال الإعجاز فيه ، ولقد اجتمع على ذلك اليهود والنصارى والملحدون والعلمانيون ، والحداثيون ، وضربوا جميعاً عن قوس واحدة ، وهو إبطال معجزة القرآن ، لهدم هذا الدين .
وفي وسط هذا المحيط الهادر والأمواج العالية لا يستطيع المسلم إلا أنه يقف ليبحث عن الأسس من خلال الاطلاع على كلام كل فريق ووضع بعضها بإزاء بعض .
كما أنه لابد من وضع اجتهاد السابقين من علمائنا الأجلاء أمام البحث لإبراز وجه التحدي في هذا الكتاب الكريم ، وهو المقصود من قوله : (من مثله )
وبخاصة وأن طعن الطاعنين بات يهجم على الناس هجوماً بعد خروج عالم الكمبيوتر وشبكة النت إلى سطح الثقافة الإنسانية فغدت المعين الأول لتبادل الثقافات بين أهل الكرة الأرضية ، وأصبحت بسببها جميع الآراء مطروحة في الطريق ، وانتشر من يروجون لما يزعمونه أنه سور تعارض القرآن الكريم .
ولقد تنبه الأزهر الشريف إلى ذلك ، ونشرت الصحف في هذا الأسبوع الأول من شهر محرم 1425هـ مطالبة علماء الأزهر لجميع المسلمين بأن يدافعوا عن الإسلام ضد هذه الهجمات الشرسة على مواقع الإنترنت .
ومن هنا كان من حق كتاب الله على طلبة العلم ، ومن باب النصح لهذا الكتاب أن شرعت في هذا البحث لأبين المراد من المثلية في آيات التحدي ، ليكون ذلك أبلغ رد على هذه السمادير وتلك الترهات التي ملأت العيون .
ولقد كان شغفي بهذا البحث كبيراً وبخاصة وأنا أنظر إلى قراء هذه المواقع فأجد طائفة من الشباب المسلم ما زالوا حديثي عهد بالثقافة الإسلامية ولكنهم يقرؤن ويدافعون على قدر ثقافتهم 0
إنهم شباب ليسو على علم الشيخ الشعراوي ـ رحمه الله ـ ولا فقه الدكتور القرضاوي – حفظه الله – ولا فطنة ولقانية واستيعاب الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ .
إن الذين يقرؤن وتفتح لهم هذه النوافذ شباب علاقتهم بالإسلام ضعيفة فمبلغ جهدهم أن يصلوا ويصوموا ، ومن هنا يكمن الخطر ، .
المبحث الأول
دلالة المثلية بين لغة العرب والقرآن الكريم
إن أول ما يبتدأ به في هذا البحث هو الوقوف على معني ( المثل ) في لغة العرب وفي كلام الله تعالى ، يقول ابن فارس في مقاييس اللغة :
[ الميم والتاء واللام أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء ، وهذا مثل هذا ، أي : نظيره ، والمثل والمثال في معنى واحد ، وربما قالوا : مثيل كشبيه ، تقول العرب : أمثل السلطان فلاناً : قتله قوداً ، والمعني : أنه فعل به مثل ما كان فعله ... والمَثَل المضروب مأخوذ من هذا أيضاً ؛ لأن المعنى فيه إذا نكل به جعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه ... والمَثُلات من هذا أيضاً ، قال الله تعالى (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ)(الرعد: من الآية6)
أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله .. ويحتمل أنها التي تنزل بالإنسان فتُجعل مثالاً ينزجر به ويرتدع غيره ،
ومثل الرجل قائماً : أنتصب ، والمعني ذاك لأنه مثال نُصب . ]
ويقول ابن منظور :
[ مثل : كلمة تسوية ، يقال : هذا مِثلُه ومَثَله كما يقال : شِبهُه وشََبَهه 0
قال ابن بري : الفرق بين المماثلة والمساواة ، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين ، لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص وأما المماثلة فلا تكون إلا بين المتفقين ، تقول : نحوُه كنحِوه ، وفقهه كفقهه ولونه كلونه ، وطعمه كطعمه .
فإذا قيل : هو مثله على الإطلاق فمعناه أنه يسد مسده .
وإذا قيل : هو مثله في كذا فهو مساوٍ له في جهة دون جهة .
ومثل الشيء أيضاً صفته . ]
ويقول العسكري في الفروق :
[ الفرق بين المِثل والمَثَل :
المِثلان : ما تكافآ في الذات ، والمَثَل بالتحريك : الصفة ، قال الله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ )(الرعد: من الآية35) أي : صفة الجنة .
وقولك : ضربت لفلان مثلاً ، معناه : أنك وصفت له شيئاً ، وقولك مِثل هذا كمثل هذا ، أي : صفته كصفته وقال الله تعالى (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً )(الجمعة: الآية5) وحاملوا التوراة لا يماثلون الحمار ، ولكن جَمَعَهم وإياه صفة فاشتركوا فيها . ]
ويقول أيضاً في الفروق .
[ الفرق بين المثل والند :
إن الند هو المثل المناد ، من قولك : نادّ فلان فلاناً ، إذا عاداه وباعده ، ولهذا سمى الضد نداً ، وقال صاحب العين : الند ما كان مثل الشيء يضاده في أموره ، والنديد : مثله ، والندود : الشرود ، والتناد : التنافر ، ونددت بالرجل : سمعت بعيوبه ....
الفرق بين المثل والشكل :
أن الشكل هو الذي يشبه الشيء في أكثر صفاته حتى يشكل الفرق بينهما ولا يستعمل الشكل إلا في الصور ، فيقال : هذا الطائر شكل هذا الطائر ، ولا يقال : الحلاوة شكل الحلاوة ، ومثل الشيء ما يماثله في ذاته .
الفرق بين المثل والنظير :
أن المثلين ما تكافآ في الذات ، والنظير ما قابل نظيره في جنس أفعاله وهو متمكن منها ، كالنحوى نظير النحوي ، وإن لم يكن له مثل كلامه في النحو أو كتبه فيه .
ولا يقال : النحوي مثل النحوي ، لأن التماثل يكون حقيقة في أخص الأوصاف وهو الذات .....
الفرق بين المثلين والمتفقين :
أن التماثل يكون بين الذوات ، والاتفاق يكون في الحكم والفعل ، تقول : وافق فلان فلاناً في الأمر ولا تقول : ماثله فيه ...
الفرق بين المثل والعديل :
أن العديل ما عادل أحكامه أحكام غيره وإن لم يكن مثلاً له في ذاته ولهذا سمي العدلان عدلين وإن لم يكونا مثلين في ذاتهما ، ولكن لاستوائهما في الوزن فقط .
الفرق بين الشبة والمثل :
أن الشبه يستعمل فيما يشاهد ، فيقال : السواد شبه السواء ... وليس في الكلام شيء يصلح في المماثلة إلا الكاف فأما الشبه والنظير فهما من جنس المثل ....
الفرق بين المساواة والمماثلة :
أن المساواة تكون في المقدارين اللذين يزيد أحدهما على الآخر ، ولا ينقص عنه ، والتساوي والتكافؤ في المقدار ، والمماثلة هي أن يسد أحد الشيئين مسد الآخر كالسوادين .
الفرق بين كاف التشبيه وبين المثل :
أن التشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض ، وبالمثل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض .
تقول : ليس كزيد رجل ، أي بعض صفاته لأن كل أحد مثله في الذات وفلان كالأسد ، أي : في الشجاعة دون الهيئة وغيرها من صفاته . ] .
ومن خلال هذه الإطلالة على الكلمة عند أهل اللغة نستطيع أن نرسم لها شخصية ذات ملامح فارقه بينها وبين غيرها .
فالكلمة تدل على المناظرة والتساوي والاتفاق ، وكون الشيء يسد مسد الآخر لأن الذات متكافئة في الحقيقة وفي أخص الأوصاف .....
وبعد ، هل للكلمة ملامح أخرى في القرآن الكريم ؟
لننظر :
دلالة الكلمة في القرآن الكريم
يقول الراغب في المفردات :
[ مثل : أصل المثول : الانتصاب ، والممثل : المصور على مثال غيره ، يقال : مَثُل الشيءُ أي : انتصب وتصور ، ومنه قول صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار ) .
والتماثل : الشيء المصور : وتمثل كذا : تصور ، قال تعلى (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً)(مريم: من الآية17)
والمَثَل : عبارة عن قولٍ في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، قال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر: من الآية21) وفي أخرى (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(العنكبوت: من الآية43)
والمثل يقال على وجهين :
أحدهما : بمعنى المثل نحو شبيه وشبه ..
والثاني : عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني ، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط ، والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط .
والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط .
والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط .
والمثل عام في جميع ذلك .
ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: من الآية11)
وعلى هذا فالمثلية عند الاصفهاني لفظ وضع لعموم المشابهة ويشمل معنى
[ الند ـ الشبه ـ المساوي ـ الشكل ] .
وتلك عمومية لا أميل إليها ، ولا يرتضيها منهج البحث وهذا يقتضي الرجوع إلى تراث العلماء للوقوف على دلالة المثلية في كتبهم .
والناظر في تراث العلماء يجد هذه المثلية قد حامت حول عدة معان ولم تقف عند دلالة واحدة .
وهذه المعاني وتلك الدلالات تتلاقي في بعض الأحايين وتتباين في أحايين أخرى 0
ودعنا نقف على ذلك :
أول هذه المعاني التشابه في بعض الصفات :
يقول ابن كثير عند قول الله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً )(النور: من الآية17) [ أي : ينهاكم الله متوعداً أن يقع منكم ما يشبه هذا أبداً ، أي : فيما يستقبل ، والمثلية هنا هي تلقى الإفك الذي روي عن أم المؤمنين بالألسنة والأفواه وهذا شيء ليس لهم به علم . ]
[ فالمماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم ظاهر من المماثلة ]
فالمماثلة هنا تشابه ، والتشابه هو أقل درجات المثلية .
ثم يأتي رأي آخر يخلع ثوب الشكل ويتغلغل إلى الداخل فيجعل المثلية تطابقاً في أغلب الأوجه .
ففي قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)(آل عمران: من الآية140)
يقول أهل التفسير : [ فالمعنى أن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر ]
[ فالمثلية هنا باعتبار كثرة القتلى في الجملة ، فلا يَرِد أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين ، وأسروا سبعين ، وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد خمسة وسبعين ، وجرحوا سبعين ، والتزام بعضهم تفسير القرح بمجرد الانهزام دون تكثير القتلى فراراً من هذا الإيراد ]
وعلى هذا فليس المقصود المطابقة الكاملة بين المثل والمثل ، بل الأمر على الغالب الأعم والظاهر الواضح .
[ إن المماثلة بين الذوات المتنائية إنما تكون باعتبار الصفات الجامعة بينهما إذ هي أسباب في ثبوت المماثلة بينهما .
وتقوى المماثلة بقوة أسبابها ، وتضعف بضعفها ، فإذا سلب وصف ثابت لإحدى الذاتين عن الأخرى انتفي وجه من المماثلة ، ثم لا يزال يسلب أسباب المماثلة أقواها فأقواها حتى تنتفي المماثلة كلها بهذا التدرج . ]
وعليه فالمثل هو الذي يكون مساوياً للمثل في بعض الصفات أوفي أغلب الصفات ، أو قل :
[ المثلية لا تستلزم التساوي من كل جهة . ]
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له مثله في الجنة )
[ حمل العلماء ذلك على المبالغة لأن المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها ، وترقد عليه لا يكفى مقداره للصلاة .
وقيل : هي على ظاهرها ، والمعنى : أنه يزيد في مسجدٍ قدراً يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر ، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم على ذلك القدر ....
وقد اختلف العلماء في معنى المماثلة ، فقال ابن العربي : مثله في القدر والمساحة ... وقيل : مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء .... وقيل : هذه المثلية ليست على ظاهرها ، وإنما يعنى أنه يبنى له بثوابه بيتاً اشرف وأرفع وأعظم .
وقيل : يحتمل أن يكون (مثله) معناه : بنى الله له مثله في مسمى البيت ، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها ، فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ...
قال الحافظ : لفظ المثل له استعمالان :
أحدهما : الإفراد مطلقاً كقوله تعالى : (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا)(المؤمنون: من الآية47) .
والآخر : المطابقة كقوله تعالى : (أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)(الأنعام: من الآية38)
فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة ، فيحصل جواب من استشكل تقييده بقوله (مثله) مع أن الحسنة بعشر أمثالها ، لاحتمال أن يكون المراد بنى الله له عشرة أبنية مثله ...
ومن الأجوبة المرضية :
أن المثلية هنا ، بحسب الكمية والزيادة حاصلة بحسب الكيفية ، فكم من بيت خير من عشرة ، بل من مائة ...
وقيل : إن المثلية هي أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره . ]
--------------------
وهذه التخريجات المتنوعة تثبت أن المثلية لا تعنى التطابق في كل شيء إنما في بعض الصفات سواء كثرت هذه الصفات أم قلت ..
حتى أن البعض يلمح صفة واحدة بين المثلين ، ومن ذلك .
[ في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ )(الكهف: من الآية110) أي في البشرية والمعنى : أنسى كما تنسون . ]
وفي الحديث : ( نهى النبي عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل )
[ فالمماثلة المعتبره هنا هي المماثلة في الكيل والوزن ]
وفي حديث آخر :
( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ... )
[ فلفظة المثل هنا لا تقتضي المساواة من كل وجه ولا يراد المماثلة في كل الأوصاف كالجهر برفع الصوت مثلاً . ]
وهذه الأحاديث ، وتلك الآيات التي ورد فيها لفظ المثل تدل بجلاء على أن المثلية تكون في بعض الصفات ، أو في الكثير منها .
-----------------------------
لكن على جانب آخر :
هناك في تراث العلماء ما يدل على أن المثلية تعنى التطابق في الأصل ، والتوحّد في الماهية والتناظر في الحقيقة ، وعلى هذا وردت قراءة ابن مسعود ( فإن آمنوا بما آمنتم به ... )
وقال : [ لا تقولوا : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فإن الله ليس له مثل ولكن قولوا بالذي آمنتم به ... ]
وكأنه جعل محل الإيمان هنا ومتعلق المثلية هنا هو الله تعالى .
وخرج الطبري الأمر على محمل آخر حيث قال : [ إنما وقع التمثيل بين الإيمانين لا بين المؤمن به . ]
وعلى آية حال فالآيات القرآنية العديدة تدل على أن المثلية تعنى الأصل والحقيقة والتطابق بين المثل ومثيله ، واقرأ معي هذا
قال الله تعالى :
v (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ )(البقرة: من الآية228)
v (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا )(البقرة: من الآية275)
v (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )(البقرة: من الآية194)
v (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ )(البقرة: من الآية233)
فالمثلية تعني التطابق حتى لا يعرف هذا من هذا ، وقد لفت البيضاوي إلى هذا بجملة عجيبة حيث قال عند عرضه لقول الله تعالى حكاية عن السحرة (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ )(طـه: الآية58)
قال :[ مثله سحرك]
فجعل ما رآه السحرة في بادئ الأمر هو المثل ، وجعل الأصل هو السحر عند السحرة .
لكن التعبير القرآني ( بسحر مثله ) يشير إلى أن ما رآه السحرة في البداية شيء جديد فتعاهدوا على أن يأتوا بمثل هذا السحر ولذلك جاءوا بالحبال والعصى لما رأوه من إلقاء موسى للعصي قبل ذلك ، فأرادوا أن يصنعوا سحراً مثل الذي جاء به موسى ، وأحضروا أدوات مثل أدواته ولذلك قال :(بسحر مثله)
لكن اللفتة التي لفت إليها البيضاوي ـ رحمه الله ـ أراد بها أنهم أرادوا أن يأتوا بشيء لا يختلف عما جاء به حتى في الصورة .
-------------------------------------------------------
[ فالمثل المطلق في الكتاب والسنة وإجماع الأمة والمعقول يراد به :
v إما المثل صورة ومعنى .
v وإما المثل صورة بلا معنى .
وإن لم يكن إرادة الأول إجماعاً تعينت إرادة الثاني لكونه معهوداً في الشرح كما في حقـوق العبادة. ]
وأزيدكم توضيحاً هنا :
في سورة المؤمنون قال الله تعالى : (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ) (المؤمنون:81)
فماذا قال الأولون ؟
ولنحاول أن نتبين ذلك من خلال السورة نفسها فقوم نوح مثلاً في الآية رقم 24 حكي عنهم أنهم قالوا :
(مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)
وفي الآية 33 قيل
(ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ .... وقال الملأ ... ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ..)
وأنا هنا أقتصر على العبارة حتى لا يضيع منك الخيط .
ثم توالي السورة فتحدثك عن موسى ..
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون 45 :47)
ثم قيل في شأن كفار مكة ( بل قالوا مثل ما قال الأولون ) .
فالنص الذي قيل على لسان كل من كذبوا الرسل هو إثبات بشرية الرسل 0
ولكنه قيل مرة ( انؤمن لبشرين مثلنا )
وقيل مرة ( ما هذا إلا بشر مثلكم )
ولا شك أن المضمون واحد ، واللفظ متنوع حتى وإن كان التنوع في ضمير التكلم أو الغيبة لأن [ المثلية إنما هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ ]
فالمثلية تكون في الأصل كما يقول الزرقاني - -
أو في الذات كما يقول أبو السعود - -
ولا تكون إلا بين المتفقين وفي أخص الأوصاف .
لكنها في النهاية تكون بين شيئين ولذلك قيل
[ المثل المطلق لا يتصور . ]
لماذا ؟
لأن المثل المطلق يعني أن الشيئين شيء واحد ، وعليه حين يقال :( فأتوا بسورة مثله يراد فقط : [ التعجيز ، كما في قوله ( فأت بها من المغرب )
المبحث الثاني
لمن التحدي ؟
تعددت رؤى العلماء في تحديد المتحدي بالقرآن الكريم ، ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أن القرآن [ تحدى الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثله لقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)
حيث أفاد بذلك عجز الجميع عنه في حال الاجتماع والانفراد . ]
يرى آخرون أن [ التحدي وقع للإنس دون الجن لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه ، وإنما ذكروا في قوله ( قل لئن اجتمعت ..... ) تعظيماً لإعجازه لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد فإذا فرض اجتماع جميع الإنس والجن وظاهَرَ بعضهم بعضاً وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز . ]
فالجن ـ على هذا ـ ليسوا ممن تحداهم القرآن ، ودخولهم في الآية دخول افترض بناء على هذا الرأي .
وفي جانب آخر قال البعض [ بل وقع للجن والملائكة أيضاً فهم منويّون في الآية لأنهم لا يقدرون أيضاً على الإيتان بمثل هذا القرآن ، واقتُصِر على الإنس والجن لأنه كان مبعوثاً إلى الثقلين دون الملائكة.]
ودعنا نقتصر على الإنس الآن ، حيث من العجيب أن يدخل البعض الملائكة مع الإنس والجن ، ثم نرى من يقول إن القرآن تحدى العرب دون العجم ، أو تحدي العرب ثم كان تحدي العجم تالياً لتحدي العرب
والسؤال لم ؟
- إن العلة في ذلك : أن الإعجاز عندهم قائم في اللغة أو البلاغة أو النظم يقول الجصاص :
- [ معلوم أن العجم لا يتحدون من طريق النظم ، فوجب أن يكون التحدي لهم من جهة المعاني وترتيبها على هذا النظام ..
ويجوز أن يكون التحدي واقعاً للعجم بأن يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة بلغتهم التي يتكلمون بها . ]
والذي يظهر أن تحدي القرآن للعجم لا يتصور أن يكون من جهة الفصاحة والبلاغة فهو لا يعرف لغة العرب ، وإن تعلم فكلمات يقيم بها أوده .
ولا يكفي ـ كما أري ـ أن يكون التحدي له كامناً في علمه بعجز العرب عنه كما يقول الباقلاني أنه [ إذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم وجرى مجراهم في توجيه الحجة عليه . ] لأن ذلك يعني أن معجزة القرآن وتحديه كانت للعرب وحدهم ، بل للفصحاء منهم ، وأن العجم خارجون عن هذه الدائرة ، والمعلوم بداهة أن العجمي مهما بلغ في تعلم اللغة فلن يكون مثل العرب الأقحاح الذين علكوا اللغة وشربوا من عيونها ، وتمرسوا في دروبها ، وعايشوها وخادنوها ، فأحبتهم وأحبوها ... وما دام الأمر كذلك فأين الأعجمي منه ؟!
أقول :
لا يكفي أن يثبت عجز الأعجمي بعجز العرب ، فليس العرب حجة عليهم إلا إذا كان الإعجاز بلاغياً ، وأنت تلاحظ أن حصر الإعجاز في هذا الخندق تجعلنا نفترض أموراً ونقرها وندافع عنها ونجعلها من المسلمات وحي بلا شك تحتاج إلى النظر .
يقول الباقلاني مثلاً :
[ لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك ، فإذا عرفوا هذا بأن علموا أنهم تحدوا إلى أن يأتوا بمثله ، وقرِّعوا على ترك الإتيان بمثله ولم يأتوا به تبينوا أنهم عاجزون عنه .
وإذا عجز أهل ذلك اللسان فهم عنه أعجز ..
وكذلك نقول : ـ والكلام له ـ
إن من كان من أهل اللسان العربي إلا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تصرف اللغة وما يعدونه فصيحاً بليغاً من غيره فهو كالأعجمي في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الناس الذي بدأنا بذكره وهو ومن ليس من أهل اللسان سواء . ]
هل رأيت هذا ؟ !
هل رأيت إلى أي مدى حصرنا الإعجاز والتحدي في طائفة قليلة ؟!
والسبب :
[ أن البلاغة إذا لم تكن هي مجال المعاجزة لكن اختيار العرب للمعاجزة لا مقتضى له . ]
وليت شعري ، إذا كان هذا القياس صحيحاً فعلينا أن نقول للأعاجم جميعاً ، بل ولأغلب العرب أيضاً : إن القرآن لا يتحدى أحداً الآن ، لأنكم مهما بذلتم من جهد ومهما توصلتم من فهم للغة فلن تستطيعوا التحدي فلقد عجز العرب الأوائل ، ومن منكم مثلهم ؟! .
أليس عجيباً أن يقول القرآن الكريم
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ )(الإسراء: من الآية88)
ثم نقول فمن :
إذا عجز أهل اللسان الأوائل فغيرهم أعجز .
ونغلق الباب لأن القوم الذين تحداهم القرآن قد ذهبوا !!!!
إن القرآن الكريم حين قال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38) .
لم يكن يقصد العرب وحدهم ، وإلا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالرسائل إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وفي كل رسالة كلام الله يتلى عليهم .
إن الذي دفعنا إلى هذا السبيل ، وألجأنا إلى هذا الملجأ هو حصر التحدي في البلاغة ، وتلك قضية جعلت بعض أهل الكلام يقول :
[ إن التحدي قد انقطع بانقطاع زمن البعثة والوحي ..... مع أن جمهور أهل الإسلام على أن التحدي باق إلى يوم القيامة وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره . ]
نعم :
الحكمة تقتضي نزول الكتاب بلغة النبي وقومه ، لكن من قال إن التحدي في هذه اللغة ، وهل نزول القرآن عربياً يعني التسليم بأن التحدي في البلاغة لأن القوم كانوا فصحاء .
لقد افترضنا هذا وجعلناه حقيقة مسلمة مع أنه اجتهاد وليس نصاً في قرآن أو سنة ، فلماذا جعلناه قاعدة ورحنا ندافع عنه .
المبحث الثالث
آيات التحدي بين الترتيب النزولي
والترتيب المصحفي
[ القرآن الكريم عندنا معاشر المسلمين كلام دال على معانيه دلالة مأخوذة بالطريق الواضح العادي لدلالة الكلام العربي ، فليس هو على ذلك بمحتاج إلى التفسير احتياجاً أصلياً ، ولكن الحاجة إلى تفسير القرآن إنما هي حاجة عارضة نشأت من سببين :
السبب الأول : هو أن القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة ، وإنما كان نزوله وتبليغه في ظرف زمني متسع جداً ، قدرهُ أكثر من عشرين عاماً ، فكان ينزل منجماً على أجزاء مع فواصل زمنية متراخية بين تلك الأجزاء .
وكان نزوله في تقدم بعض أجزائه وتأخر البعض الآخر على ترتيب معروف يختلف عن ترتيبه التعبدي ، لأن ترتيب تاريخ النزول كان منظوراً فيه إلى مناسبة الظروف والوقائع ، مناسبةً ترجع إلى ركن من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال .
وترتيب التلاوة ، أو الترتيب التعبدي كان منظوراً فيه إلى تسلسل المعاني وتناسب أجزاء الكلام بعضها مع بعض ، وذلك يرجع إلى ركن آخر من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال .
وكلا الترتيبين راجع إلى الوحى ، وكلاهما وقع به التحدي الإعجازي إلا أن أولهما مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة ، والترتيب الآخر ، وهو ترتيب التلاوة التعبدي باق لأنه في ذات الكلام يدركه كل واقف عليه وتالٍ له من الأجيال المتعاقبة بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات ، من الجيل الذي كان معاصراً لنزول القرآن جملة ممن كانت لهم تلك الملابسات دلائل وقرائن على ما أريد من المعاني التي استفادوها من التراكيب القرآنية . ]
وآيات التحدي التي هي مدار البحث خمسة ، مذكورة في السور التالية :
[ البقرة ـ يونس ـ هود ـ الإسراء ـ الطور ] .
هكذا رتبت الآيات في المصحف حسب ترتيب السور ، وليس هذا ترتيب نزولها ، ولابد من معرفة ترتيب النزول حتى نقف على مراحل التحدي ، كيف بدأ ؟ وكيف تنامي ؟ ومن خلال النظرتين يمكن استخلاص بعض الدلالات التي تعين على فهم المراد من المثلية المتحدي بها .
وترتيب النزول كان على النحو التالي :
1) سورة الإسراء وفيها :
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)
2) سورة يونس وفيها :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38)
3) سورة هود وفيها :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود:13)
4) سورة الطور وفيها :
(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ*فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور33 :34)
5) سورة البقرة وفيها :
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23) .
---------------
وأول ما يلفت النظر في هذا الترتيب أن التحدي بني على جذر واحد واضح يبين أن الضمير في قوله (مثله ) لا يعود إلى على القرآن الكريم 0
فالبداية هي ( يأتوا بمثل هذا القرآن )
ولا يتصور بعد هذا عود الضمير على الرسول
هذا أولاً
ثانياً :
أن الآيات بدأت بافتراض اجتماع الإنس والجن ( لئن اجتمعت الإنس والجن ) وهذا الافتراض لا يتصور عقلاً ، مما يعني أن نتيجة هذا الافتراض ـ وهو المجيء بمثل القرآن ـ لا يتصور عقلاً .
ثالثاً :
أن المدعوين أولاً للتحدي هم الإنس والجن ، ثم تدني الأمر فطلب منهم دعوة من يستطيعون من دون الله ، ثم تدني الأمر إلى دعوة الشهداء وهم المناصرون لفكرة إمكانية المجيء بمثله وهؤلاء قلة .
رابعاً :
كانت الآية الأولى إعلاناً من الله تعالى على لسان نبيه بعجز الخلق جميعاً عن المجيء بمثله ، فقيل ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن .......
هذا بلاغ من الله تعالى للخلق جميعاً ، ثم جاءت باقي الآيات لترد على دعوى افتراء القرآن من عند الرسول فقيل ( أم يقولون افتراه .... قل فأتوا بسورة
أم يقولون افتراه .... قل فأتوا بعشرة سور
أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ....
كل ذلك في الآيات المكية الأولى : أما آية المدينة وهي آية البقرة فليست رداً على هؤلاء بل هي رد على من دخل قلبه الشك ولذا قيل ( وإن كنت في ريب ... )0
إن السور المكية خطاب لجميع الناس .
أما السورة المدنية فأغلبها [ خطاب لمن أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنون . ]
خامساً :
الملاحظ في الآيات الخمس أن كل وجه من التحدي يغاير الآخر ولا يوجد وجهان متماثلان في التحدي ، وها هي أوجه التحدي حسب نزولها :
[ مثل هذا القرآن ] [ سورة مثله ] [ عشرة سور مثله ] [ حديث مثله ] [ سورة من مثله ] .
سادساً :
إن هذا الترتيب من الممكن فهمه على أنه تدلٍ في التحدي من الأكثر إلى الأقل من حيث العدد ، ولكن بضرب من التأويل ، فماذا يفهم من الترتيب المصحفي ؟
لننظر ....
الترتيب المصحفي :
جاء ترتيب الآيات في المصحف كما هو معلوم : [سورة البقرة ثم يونس فهود ثم الإسراء ثم الطور . ] .
وهذا الترتيب سألخصه لك على النحو التالي حيث كان التحدي في [ سورة من مثله – ثم سورة مثله – فعشر سور من مثله – ثم مثل هذا القرآن – ثم حديث مثله . ]
ولقد وقف العلماء أمام هذا التدرج وحاولوا تأويله على غير ترتيبه فقالوا : [ إن التحدي بعشر سور وقع أولاً ، فلما عجزوا تحداهم بسورة من مثله ، كما نطقت به سورة البقرة ويونس ، وهو إن تأخر تلاوة إلا أنه متقدم نزولاً ، وأنه لا يجوز العكس إذا لا معنى للتحدي بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة ، وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشرٍ معينة من القرآن .
وذهب ابن عطية إلى أن التحدي بعشر سور وقع بعد التحدي بسورة وأنكر تقدم نزول هذه السورة ... وقال .. :
إن ما وقع أولاً هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام ، فلما عجزوا عن ذلك أمر بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه ...
وقيل إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن
وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه ، ولا ينافي تقدم السورة . ]
هكذا قالوا ..
وأنا أسأل هنا :
هل نزول بعض الآيات قبل بعض مسألة اجتهادية ؟ !
أليس عجيباً أن يقال : إن التحدي وقع أولاً بكذا حتى وإن تأخر في النزول ؟!
لقد قلت : إن الترتيب النزولي يُثبت ضرباً من التدلي ، أعني أن التحدي في الأكثر ثم في الأقل .
وهنا أقول أن الترتيب المصحفي يعكس ذلك 000 أي أنه يتدرج في التحدي من سورة إلى عشر سور إلى القرآن الكريم كله .
وكأن القرآن ـ كما أفهم ـ يعرض قضية التحدي من الوجهتين صعوداً ونزولاً ، وعلى من يريد المعارضة والتحدي أن يختار لنفسه ، ومن هنا يثبت العجز من كل وجه .
المبحث الرابع
مفهوم الإعجاز في كتب العلماء
يقول ابن فارس في المقاييس إن [ العين والجيم والزاء أصلان صحيحان ، يدل أحدهما على الضعف ، والآخر على مؤخر الشيء .
فالأول : عَجَزَ عن الشيء يعجز عجزاً فهو عاجز ، أي ضعيف ، وقولهم : إن العجز نقيض الحزم ، لأنه يضعف رأيه .
ويقولون : " المرء يعجز لا محالة " ويقال : أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه ، ولن يعجز الله شيء ، أي : لا يعجز الله تعالى عنه متى شاء .
وفي القرآن الكريم : (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً)(الجـن: من الآية12)
وقال تعالى : (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ )(الشورى: من الآية31)
ويقولون : عَجَز ، بفتح الجيم ، ولا يقال : عجِز إلا إذا عظمت عجيزته ، ومن الباب : العجوز : المرأة الشيخة .
وأما الأصل الآخر :
فالعجز : مؤخر الشيء ، والجمع : أعجاز ، حتى أنهم يقولون عجُزُ الأمر ، وأعجاز الأمور ..]
-------------------
وهذه الدلالة لم تتغير في كتاب الله تعالى ، فقد جاءت بمعنى مؤخرة الشيء ، كما في قوله سبحانه: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)(القمر: من الآية20) .
وأيضاً بمعنى عدم القدرة كما في قوله سبحانه (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ)(المائدة: من الآية31) .
وقد يظن القارئ أن الأصلين لا رحم بينهما [ ولكن الرحم بينهما موصولة فإن الضعف من ولائد التأخر ، فالذي يعجز عن الأمر ، أي يضعف عنه إنما هو آتيه في آخر ذلك الأمر ، فلا يستقيم له الاقتدار عليه ... وكل من تأخر عن القيام بالأمر في عجزه : ضعف عنه .
وأيضاً من حاول في آخر أمره شيئاً لم يقتدر عليه في أوله ، فسواء أكان التأخير من شأن الفاعل أو من شأن المفعول فإنه يترتب على ذلك ضعف . ]
ومن الممكن ( في رأيي ) أن يقال : عجز عن كذا مع أنه لم يحاوله ولم يرغب في المحاولة ذلك لأنه يعلم علم اليقين أن هذه المعجزة خارجة عن طوقه ، ولذا قالت الجن : (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً)(الجـن: من الآية12) .
فهم لم يحاولوا : ولم يدر بخلدهم أن يحاولوا .
أما أن يقال : [ إن علمه بحال نفسه : وحال ما يريد محاولته بمنزلة من أراد ، وحاول فثبت له ضعفه عما حاوله ] فهذا لا أميل إليه لأن المعجزات ظهرت للناس ومن الوهلة الأولى وهي خارجة عن طوقهم ، وبعيدة عن مقدورهم ، وإذا رجعت مثلاً إلى إحياء الموتى لسيدنا عيسى وإخراج الناقة لسيدنا صالح وشق البحر لسيدنا موسى تجد أن القوم لم يحاولوا ذلك ولم يدر بخلدهم أن يحاولوا .
والعجيب أننا وضعنا كل ذلك في دائرة المعجزات ، مع أن الناس لم يفكروا في تحدي ذلك لعلمهم اليقين أنه ليس في مقدورهم .
ومن هنا أرى أن تسمية هذه الآيات معجزات يحتاج إلى مراجعة حيث لم تطلب الرسل من أقوامهم المجيء بمثلها ، وعلى الجانب الآخر لم يحاول الناس المجيء بمثلها .
إنها آيات وليست معجزات ، إنها براهين على صدق الأنبياء وحين أطلقنا على هذه الآيات معجزات وضعنا الناس موضع المتحدي مع أنهم لم يفعلوا .
أضف إلى ذلك أن هذه الكلمة لم ترد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعنى المفهوم به التحدي مما يعني أن لفظ (معجزة) نتاج عقلي فلسفي وليس نتاجاً شرعياً ، لأن العلماء ربطوا بين آيات التحدي الخمسة وبين عدم مجيئهم بقرآن مثل القرآن ، ولما لم يأتوا بذلك كان ذلك عجزاً منهم فسميت المسألة : الإعجاز القرآني .
وحين نربط بين القرآن الكريم والإعجاز نربط بين أشياء كثيرة وهذه اللفظة ، فهناك ألفاظ وأساليب ، ومعان ، ونظم وترتيب ... كما أن هناك الغيب والعلم التجريبي ، فهل الإعجاز في كل ذلك أما في شيء واحد ؟
إن القرآن الكريم حمل وجهتين :
فهو من جهة برهان وآية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، تماماً مثل الآيات التي جاء بها الأنبياء .
ومن الجهة الأخرى : يتحدى الجميع بأن يأتوا بمثل هذه الآية ، وتلك إضافة لم تكن في آيات الأنبياء السابقين .
والثابت ـ عندي ـ أن الآية والبرهان الدال على صدق النبي لا يمكن للعباد أن يأتوا بمثلها ، لأن من بدهيات الآيات كونها خارجة عن طوق البشر ولو كانت في مقدورهم لما كانت آية خارقة ، ولقد فطن الناس إلى هذا فلم يحاولوا .
ويبقي السؤال :
ما الوجه الذي وجدوه في هذا القرآن وعلموا
أنهم عنه عاجزون فسكتوا رغم التحدي ؟
ذاك ما يجيب عنه هذا البحث ، وذاك لب الإعجاز وجوهره أو أن شئت قل : لب التحدي وجوهره وذاك معنى ( من مثله ) 0
ولكن ما الفرق بين وجه التحدي ووجه الإعجاز ؟
إن هناك فرقاً كبيراً بين وجوه الإعجاز ووجه التحدي ، ولعل أول من لفت النظر إلى هذه القضية هو ابن عطية حين قال : [ وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه .
ووجه إعجازه أن الله قد أحاط بكل شيء علماً 0000’ وأحاط بالكلام كله علما فعلم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعني بعد المعني ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره . ]
ويقول شيخي محمود توفيق ـ أعزه الله ـ [ علينا أن نفرق بين أمرين : مناط التحدي ومناط الإعجاز ...
ثم يقول : أذهب إلى أن كل شيء في القرآن هو مناط إعجاز ، وأن مناط التحدي هو نظمه ... أي صورة المعني وليس المعني نفسه ، فالمعني القرآني نفسه معجز ولكنه ليس هو مناط التحدي .
والنظم القرآني معجز ومناط تحدٍ .]
وسواء اتفقنا مع هذا أو اختلفنا معه إلا أن الإشارة إلى وجود مناط للإعجاز ومناط للتحدي أمر بالغ الأهمية ، فعلماؤنا خلطوا بين الأمرين ، وحدثونا عن الإعجاز وهم يقصدون التحدي تارة ولا يقصدونه أخرى ، ولهذا تباين كلامهم ، وتعددت اتجاهاتهم .
لا لشيء إلا لأنهم أدخلوا هذا في ذلك ، وأصبح كـل عالم يتناول ما في القـرآن الكريم من قضايا – كل بحسب تخصصه – ولكنها جميعاً في عرفهم معجزة .
يقول شيخي ـ أعزه الله ـ :
[ إن هناك ثلاث جهات كلية تناولت قضية الإعجاز :
الأولي : جهة الكلام في العقيدة .
والثانية : جهة تأويل القرآن وعلومه .
والثالثة : جهة علماء البلاغة .
.. أما علماء العقيدة فمعنيون بما يعرف بوجوه دلالته على صدق النبوة المحمدية ... فإذا ما تقرر من بيان علماء العقيدة إعجاز القرآن الكريم بأي وجه من وجوه الإعجاز فقد قاموا برسالتهم ، فإذا امتد القول بهم إلى جهات إعجازه فنافلة .
فخطاب علماء العقيدة مرمي به إلى الكافرين .
أما علماء التأويل فكلامهم ينصب في باب وجوه الإعجاز ، وتعديد هذه الوجوه وبيان منازلها وكلام هؤلاء مبني على تحقيقات علماء العقيدة ... ويكون مع من آمن بإعجاز القرآن الكريم ...
أما علماء البلاغة ... ففريضتهم النظر في جهة واحدة من جهات إعجاز القرآن الكريم : بلاغته وفصاحته . ]
وكلام شيخي ـ أعزه الله ـ يجعل الباحث في دلالة المثلية لا يخرج عن إطار البلاغة وكأنها آيات محكمات مما يجعلني أضع نفسي في إطار لا أخرج منه لأنني أدرس القرآن من جهة البلاغة .
ولكن : لم أضع نفسي في هذا القالب ، وماذا سأضيفه للبحث إن كنت سأقيد نفسي بهذا القيد ؟
إنني معنيٌ هنا بالكشف عن مراد كلمة ( المثل ) في قوله ( من مثله ) ليس من باب العقيدة ، ولا من باب التأويل ولكن من باب البلاغة ، فالبحث يتخذ من علم البلاغة ميداناً للنظر للوصول إلى مقصودهذه الكلمة وبعد الوصول إلى مقصودها يستطيع البحث أن يبني على هذا المراد عقيدة توضح مفهوم التحدي ومقصوده فالعفيدة لابد أن تكون مبنية على فهم صحيح للكلام والفهم الصحيح لاينشأ إلا من عند أهل اللغة وفي طليعتهم علماء البلاغة
ومن هنا نحن في صدد البحث عن دلالة ( المثل ) المتحى به وهل هو مثلية في البلاغة أم في غيرها ؟
وأول ما يلفت النظر هنا أن العلماء لم يتفقوا على وجه واحد من الإعجاز ليكون هو مناط التحدي بل تعددت آراؤهم مع أنهم جميعا وهم يعرضون أوجه الإعجاز يستدلون بآيات المثلية 0
وإليك بعضا من ذلك :
اختلاف وجوه الإعجاز في تراث العلماء
تزخر مكتبة الإعجاز القرآني بآراء علمائنا في وجوه الإعجاز ، ولا تكاد ترى عالماً ينفرد بوجه واحد ويقول : هذا هو وجه الإعجاز ، وما عداه فلا ، ذلك لأنهم جميعاً يرون الإعجاز في وجوه شتى وإن كان البعض يميل إلى رأي دون آخر .
وتتعدد أوجه الإعجاز في كتاب الله تعالى بتعدد جوانب النظر فيه ، فكل آياته فيها إعجاز لفظي ، وبياني ودلالي ، وكل مجموعة من الآيات وكل سورة من السور طالت أما قصرت بما فيها من قواعد عقدية أو أوامر تعبدية ، أو قيم أخلاقية أو ضوابط سلوكية ، أو إشارات علمية ، وكل شيء من أشياء هذا الكون الفسيح وما فيه من ظواهر وكائنات وكل تشريع وكل قصة وكل واقعة تاريخية وكل وسيلة تربوية وكل نبوءة مستقبلية كل ذلك يفيض بجلال الربوبية ويتميز عن كل صياغة إنسانية ويشهد للقرآن بالتفرد كما يشهد بعجز الإنسان عن أن يأتي بشيء من مثله )
ولأجل كل هذا عقد العلماء في كتبهم فصولاً وعنونوها بـ ( وجوه الإعجاز ) مثل الباقلاني ، والزركشي وقالوا : [ لا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز واختلفوا في إعجازه ] فهذا قال بالصرفة ، وهذا قال الإعجاز في حديثه عن الغيب ، وهذا في إخباره عن قصص الأولين ، وهذا في تأثيره على القلوب وذاك في كشفه لما في الضمائر ، وآخر في غرابة الأسلوب والسلامة من العيوب لكن الغالبية منهم أعلت من شأن النظم وقالوا [ إنه الذي عليه الجمهور والحذاق . ]
وهناك من تحير في وجه الإعجاز حين سئل عنه فقال :
[ هذه مسألة فيها حيف على المفتي ، وذلك أنه شبيه بقولك : ما موضع الإنسان من الإنسان ؟
فليس للإنسان موضع من الإنسان ، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته .
كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعني آيه في نفسه ومعجزة لمحاولة وهدي لقائله ، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله من كلامه ، وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده . ]
وإذا كانت هذه التوجهات قد قيل بها في زمان اشتغل الناس فيه بالقرآن الكريم كلغة وبيان ونظم وبرهان ، فلقد جاء زمان امتاز بنمط آخر من الاهتمام وهو الاهتمام بالعلم التجريبي ، ولم يبخل القرآن عليهم بما يمدهم من وجوه أخرى غابت عن أسلافهم .
وسواء اتفقنا مع هؤلاء أو اختلفنا معهم فإنه يجدر بنا الوقوف على جهدهم وعدم إغفاله عند الحديث عن إعجاز القرآن الكريم أو تحدي القرآن الكريم للناس .
ذلك لأنه هؤلاء ينطلقون من قاعدة لا يعتريها شك وهي أنه : إذا كان القرآن الكريم معجزاً في نظمه فإن فيه أيضاً حقائق أخرى متعلقة بالغيب ، وموصولة بالتشريع ومربوطة بأسرار الكون .
وكل ذلك لا يعقل أن يكون العرب قد طولبوا به ، لأنه لا علم لهم به .
أضف إلى ذلك : أن ابتعاد الناس عن اللغة الفصيحة اليوم يقلل من الأضواء التي ألقيت في السابق على الإعجاز البلاغي ، ولا تنس أيضاً أن الإعجاز للإنس والجن كما صرح القرآن الكريم وهو تحد مستمر إلى يوم الدين ، مما يعني أن تحجيم الإعجاز وقصر التحدي على اللغة وبلاغتها تغييب لعصٍر يحياه الناس الآن ، أو تغييب للقرآن الكريم ، وكلا الأمرين خطأ في ظل هذا الصراع القائم بين الإسلام وغيره من العقائد المختلفة .
فدعونا نقف قليلاً على هذا الوارد الجديد ، وهو الإعجاز العلمي أولاً :
المبحث الخامس
أشهر وجوه الإعجاز
[ الإعجاز العلمي ـ الإعجاز التأثيري ـ الإعجاز الغيبي ]
أولاً : الإعجاز العلمي :
على الرغم من وجود طائفة من العلماء الآن تجد أن اللغة التي تناسب العصر هي لغة الإعجاز العلمي ، وأنه ينبغي إغلاق الباب الآن حول الوجوه الأخرى لأنها لا تتساوق مع حديث الناس اليومي واهتماماتهم ، فلغة الناس اليوم هي لغة الكمبيوتر والذرة وغزو الفضاء وعلم الجينات ... إلى آخر هذا الفيض من المكتشفات ، 000 أقول على الرغم من هذا إلا أن هناك من يرى أن الأولى أن نجنب القرآن كل هذا ، لأن اللفتات العلمية فيه ليست مقصودة لذاتها بل هي داخلة في إطار الهداية ، ودلالة الخلق على الخالق.
وأنا هنا أسجل الموقفين ثم أدلف إلى مراد البحث :
فالفريق الأول يرى أن القرآن الكريم يفيض بالآيات العلمية عن الكون ومراحل تكونه وظواهره المختلفة ، والسنن التي تحكم هذه الظواهر ووصل عدد هذه الآيات في الإحصاء إلى ألف آية صريحة عدا الآيات الأخرى التي تدنو أو تبعد .
وعمدتهم في كل هذا قول الله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ)(فصلت: من الآية53)
حتى نادي صاحب كتاب جواهر القرآن على الناس قائلاً :
[ يا أمة الإسلام آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعاً في علم الرياضيات فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها .... هذا زمان العلوم ، وهذا زمان ظهور الإسلام ....
يا ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في علوم الميراث ؟ ....
إن نظام التعليم الإسلامي لابد من ارتقائه ، فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن ، بل هي علوم لفظه .... ]
فهذا الوجه يعتمد أهله على أن القرآن الكريم كتاب علم بجانب كونه كتاب هداية ، وأن طلاب العلم ينبغي أن يولوا وجوههم تجاه هذه القبلة ، قبلة العلوم فهي لغة العصر ، وميزان التقدم ، كما كانت البلاغة والفصاحة هي لغة العصر وميزان التقدم في العصر الجاهلي .
ومن هنا تعددت المؤلفات التي تتناول القرآن الكريم من وجهات أخرى مثل الفلك ، والطب والهندسة ، وعلوم النبات ، وطبقات الأرض ، إلى آخر ذلك ووصل الأمر إلى إنشاء المجامع العلمية ، ودور البحث المتخصصة في الإعجاز العلمي وانتشر في شبكة المعلومات العديد ، بل الذي لا حصر له من هذه المواقع التي تتحدث بهذا اللسان وتنطق هذه اللغة ، لغة العلوم وتقدم العلوم التجريبية حتى وصل الأمر إلى إنشاء المجامع العلمية ودور البحث المتخصصة في الإعجاز العلمي فالعصر عصر العلوم التجريبية وليس عصر اللغة وظهرت بعض التفاسير المهتمة بالإعجاز العلمي مثل تفسير ( المنتخب ) وهو معنى بدلالة الآيات على نواميس الكون وأسراره العلمية .
--------------------
وعلى الجانب الآخر ، وفي خضم هذا الجانب ـ المحمود عندي ـ ظهر ما يعارض هذا التوجه ، بل ويجرحه في بعض الأحايين ، ذلك لأن القرآن لا يقصد إلا إنقاذ الإنسانية العاثرة وهداية الثقلين إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فالقرآن الكريم كتاب هداية وإعجاز بلاغي .
وعليه فلا يليق أن نتجاوز به حدودهما حتى وإن ذكر فيه شيء من الكونيات فهو لا يقصد مطلقاً أن يشرح حقيقة علمية في الفلك أو الكيمياء ، ولا أن يحل مسألة حسابية أو معادلة جبرية ، أو نظرية هندسية ولا أن يزيد في علم الطب باباً ولا في علم التشريع فصلاً ، ولا أن يتحدث عن علم الحيوان .. إلى غير ذلك .
ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون .
وهم في ذلك مخطئون ومسرفون وإن كانت نيتهم حسنة وشعورهم نبيلاً ، ولكن النية والشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكي الإنسان غير الواقع ويحمل كتاب الله ما ليس من وظيفته خصوصاً بعد أن أعلن كتاب الله عن نفسه هذه الوظيفة وحددها مرات كثيرة منها قوله تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه هدى للمتقين ِ)(البقرة: من الآية2)
ومما يجب التفطن له أن عظمة القرآن لا تتوقف على أن تنتحل له وظيفة جديدة ولا أن نحمله مهمة ما أنزل الله بها من سلطان فإن وظيفته في هداية العالم أسمي وظيفة في الوجود ، ومهمته في إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة في الحياة ....
إن القرآن حين يعرض لآية كونية .... يتحدث عنها حديث المحيط بعلوم الكون الخبير بأسرار السماوات والأرض الذي لا تخفي عليه خافية 0
إن هناك مؤلفات جمة تموج وتضطرب باستنباط علوم الكون من القرآن الكريم ، ولقد تبين أن علوم الكون خاضعة لطبيعة الجزر والمد وأن أبحاثاً كثيرة منها لا تزال قلقة حائرة بين إثبات ونفي ... مما زعزع ثقتنا بما يسمونه العلم ، وجعلنا لا نطمئن إلى كل ما قرروه باسم هذا العلم ، فهل يليق أن نبقي مخدوعين مغرورين بعلمهم الذي اصطلحوا عليه ، وتحاكموا إليه وقد سجنوه وسجنوا أنفسهم معه في سجن ضيق هو دائرة المادة ، تلك الدائرة المسجونة هي أيضاً في حدود ما تفهم عقولهم وتصل تجاربهم ، وقد تكون عقولهم خاطئة ، وتجاربهم فاشلة .
ثم هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن الكريم إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة ، بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية القارة الثابتة المتنزلة من أفق الحق الأعلى الذي يعلم السر وأخفي.
ألا إن القرآن لا يفر من وجه العلم ولكنه يهفو إلى العلم ويدعوا إليه ويقيم بناءه عليه فأثبتوا العلم أولاً ووفروا له الثقة وحققوه ثم اطلبوه في القرآن فإنكم لا شك يومئذ واجدوه . ]
وبعد هذا العرض لوجهتي النظر يحسن أن أسأل هنا :
ألا يعد الإعجاز العلمي أيسر الطرق لجذب عقول الغربيين إلى الإسلام ؟
ألا يعد أفضل الوسائل لإقناع الماديين والملحدين والعلمانيين بعظمته وبخاصة في عصرنا الحاضر؟
وإذا كان علماؤنا قد استفرغوا جهدهم في العناية بالإعجاز البلاغي في وقت كان العلم فيه لغة ، وكانت اللغة هي مدار العلوم أفلا يحق لأهل العلم الآن أن يستفرغوا جهدهم في إعجازه العلمي ويكون هو المنطلق والباعث وليس كما يقال : حققوا العلم ثم اطلبوه في القرآن فإنكم واجدوه ؟
إنني لا أري عيباً في أن ننظر إلى القرآن الكريم على أنه معجزة علمية شريطة أن يتناول ذلك أهل الاختصاص .
فالقرآن الكريم رسالة متجددة لكل العصور وحين يكون العصر عصراً لغوياً فهو معجزة بلاغية ، وحين يكون العصر يموج بالعلوم التجريبية فهو معجزة علمية ولا ننكر الأخرى ، وكلما تقدم علم الإنسان وتقدمت اهتماماته فتح القرآن من خزائنه ما يبرهن على أنه كلام الله تعالى 0
ولم أجد أحداً قديماً أو حديثاً من علمائنا الأجلاء توقف عند وجه واحد من وجوه الإعجاز وأنكر الباقي ، بداية من الأوائل مثل الرماني والخطابي وعبد القاهر وانتهاء بأساتذتنا مثل محمود شاكر ورجب البيومي وأبي موسى ومحمود توفيق وغيرهم 0
ولا عجب في أن يروا هم أن المقدم من الوجوه هو الإعجاز البلاغي ويري البحث غير ذلك .
ثانياً : الإعجاز التأثيري :
تأثير القرآن في الناس أمر بدهي لكل ذي عينين ، حتى سماه المشركون سحراً ، والذي ينبغي التوكيد عليه هنا أن القرآن الكريم كتاب هداية .
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9)
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2)
( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138)
ذاك هو الهدف من القرآن الكريم ، بل هو الهدف من وراء كل معجزة أتي بها الأنبياء .
ولقد كان العرب قديماً يعرفون له هذا الأثر فقالوا : ( هذا سحر مبين ) وقالوا ( إن له لحلاوة ) وقالوا لبعضهم ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) .
لأنهم إن سمعوه بقلب فارغ من العداء أسرهم وأحاط بهم وأخذ بمقاليدهم فلا يجدون مفراً من التسليم له واتباع ما فيه .
والقصة التي أوردها ابن خلكان في شأن أبي عبيدة معمر بن المثني وهو يدافع عن القرآن الكريم ، والتي قيل إنها سبب نشأة علم البلاغة هذه القصة تبين بجلاء أن قضية القرآن ، ليست قضية لغوية ، وأن التحدي فيه لم يكن في اللغة وفصاحتها وسموها .. إنما في شيء آخر ، والقصة ملخصها :
أن إبراهيم بن إسماعيل الكتب سأل عن قول الله تعالى (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) (الصافات:65) .
وكان العجب أن يقع الوعيد بمثل هذا حيث لم ير أحد رءوس الشياطين ، وكانت إجابة أبي عبيدة مضيئة لكثير مما غمض علينا ، فماذا قال ؟ لقد قال : إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم .
ثم ذكر من شعر أمرئ القيس ما يؤيد هنا وذلك قوله :
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوالوالعرب لم تر الغول ، ولكن لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به .]
المهم هنا قوله : إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم .
وهذا يؤيد أن أغلب تعليقات العرب على القرآن الكريم لم تكن على بلاغته بل على هديه وأثره في نفوسهم .
ولقد بعث أكثم بن صيفي ـ وهو من حكماء العرب المعدودين ـ ولده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع منه ...
فاستمع الولد إلى رسول الله ، ولا يخفي أن رسول الله كان يُسمِع كل وافد القرآن الكريم ..
فلما جاء الولد أباه وأخبره بما سمعه من رسول الله جمع أكثم قومه ثم قال لهم :
إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة وأتاني بخبره وكتابه يأمر فيه بالمعروف وينهي عن المنكر ويأخذ بمحاسن الأخلاق ويدعو إلى توحيد الله .... الخ وهذا الكلام لا ذكر فيه لبلاغة أو فصاحته .
[ ولقد كان كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة أول كتاب يبحث في أسلوب القرآن الكريم ويوازن بينه وبين كلام العرب لينتهي من الموازنة إلى أنه نمط من ذلك الكلام ... وكلمات من كلام الناس ولكن يفعلن هذا الأمر العجيب في النفوس ويقمن هذا السلطان القاهر على القلوب ...
وهذا الوجه من وجوه الإعجاز هو المعجزة القائمة في القرآن الكريم أبداً الحاضرة في كل حين ، وهي التي تسع الناس جميعاً ، عالمهم وجاهلهم ، عربيهم وأعجميهم ، إنسهم وجنهم .
إن هذا الوجه عمدة وجوه الإعجاز في القرآن ، فالروعة التي كانت تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته هي مثال إعجازه ، وهي المعجزة القائمة أبد الدهر وهو الوجه الذي من حقه في رأينا ، أن يكون وجه الإعجاز وحده . ]
وهكذا نظر العلماء إلى الإعجاز التأثيري ، وعدوه الوجه الذي من حقه أن يكون وجه الإعجاز وحده .
وكأنهم يؤكدون عدة أمور ، من خلال كلامهم ، منها :
إن الإعجاز البلاغي والتحدي في البلاغة يتصادم مع وجود العالم والجاهل والعرب والعجم ، والإنس والجن ، وقيام المعجزة على طول الزمان والمكان .
لذا راحوا يضعون هذا عن عاتقهم ويحملون هذا الوجه البديل الذي لا مطعن فيه ولا خلاف عليه حتى قال الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ [ ما أظن امرءاً سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم يزعم أنه لم يتأثر به . ]
ولا يغرنك عدم تأثر أهل الإلحاد والشرك [ فأثر القرآن مختلف حسب نوع المتلقي ، وما لديه من استعدادات لاستقبال المؤثرات القرآنية أو موانع من أمراض القلوب المتنوعة ، فأثر هذا القرآن ومظاهر هذا التأثير واضحة في الفريقين :
في المؤمنين : زيادة في الإيمان واستبشار في الوجوه
وفي المنافقين : زيادة في الرجس والشر والدنس وخاتمة
سيئة هي الموت على الكفر . ]
وإذا كنت أتفق في أثر القرآن على القلوب لكن هل المثلية المتحدى بها مثلية تأثير على الناس ، بمعنى هل طلب منهم المجيء بكلام مؤثر في القلوب ؟ إن أهل الشرك والإلحاد لا يزالون يجادلون ويقولون ولم لم نتأثر نحن فإن قلت إنه يزيدهم رجساً إلى رجسهم اتهموك بالهروب والمماطلة لأنهم يريدون التأثير بمعنى الهداية ، وأري أن لهم وجهاً ، ولذا أود أن نمضي إلى وجه آخر قد يكون محل اتفاق وهو :
-----------------------
ثالثاً : الإخبار عن الغيب
أغلب المتحدثين عن الإعجاز اهتموا بذكر هذا الوجه ، وجعلوه في بعض الآراء الوجه الأهم ، يقول البيهقي :
[ في القرآن وجهان من الإعجاز :
أحدهما : ما فيه من الخبر عن الغيب ، وذلك في قوله عز وجل : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(التوبة: من الآية33) وقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ )(النور: من الآية55) وقوله في أول الروم (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)(الروم: من الآية3) وغير ذلك من وعده إياه بالفتوح في زمانه ، وبعد زمانه ، ثم كان كما أخبر ... والآخر : ما فيه من الخبر عن قصص الأولين ... ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ كتاباً ولا يخطه ، ولا يجالس أهل الكتاب للأخذ عنهم وحين زعم بعضهم أنه يعلمه بشر رد الله ذلك عليه فقال : (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(النحل: من الآية103) .
وفي كلتا الحالتين فالإعجاز إعجاز غيبي ، فالخبر عن المستقبل غيب ، والحديث عن السابقين غيب ، وكأن البيهقي ـ رحمه الله ـ يحصر الإعجاز والتحدي في الغيب لكن هذا الوجه لم يسلم من النقض فضلاً عن النقد ، حيث يقول شيخي محمود توفيق ـ حفظه الله ـ [ إن القول بأن الإخبار بالغيوب هو وحده مناط للإعجاز ، متعاند مع ما جاءت به آية التحدي في سورة هود(13) وهي قوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .
فقوله ( مفتريات ) قاطع بأن مناط التحدي ليس ما تضمنه من معاني الحق سواء ما كان منها ، من باب الإخبار بغيب مضى أو غيب قائم أو غيب قادم . ]
وأري أن الإخبار بالغيب وجه من وجوه الإعجاز الظـاهرة التي يُستـند إليها لكنها ـ كما قـال شيخي ـ لا يكتفي بها [ ولقد كان كفار مكة أحرص الناس على إبطال قوله صلى الله عليه وسلم مجتهدين بكل طريق يمكن ، فتارة يذهبون إلى أهل الكتاب يسألونهم عن أمور من الغيب حتى يسألوه عنها ، كما سألوه عن قصة يوسف وأهل الكهف وذي القرنين ... ]
وحين قالوا ( لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا)(لأنفال: من الآية31) كان تعريفهم له أنه (أساطير الأولين ) فقالوا (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .
والقرآن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ )(يوسف: من الآية3) .
ولكن هناك أمر ينبغي الإشارة إليه وهو أن الغيب ليس مقصوراً على القصص أو التنبؤ بما سيكون
إن الغيب هو القرآن الكريم ، هو الحديث عن الله وملائكته ورسله وعن الكون بما فيه وعن القيامة بما فيها ، وعن الماضي كله والمستقبل كله ، ولو تصفحت كتاب الله تعالى لن تعدم شيئاً من هذه الأمور ، حتى في السور القصيرة ، وأقرأ من أول سورة الناس وهي تحدثك عن إله واحد مالك للجميع يعيذك من شر الشيطان الذي يوسوس في الصدور ... وكل ذلك كما تلحظ غيب .
ثم انتقل إلى سورة العلق وهي تحدثك عن [ ثلاثة أنواع من الشرور :
أحدهما : وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل .
والثاني : صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير .
والثالث : صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به.]
وكل هؤلاء غيب :
حتى في أقصر صورة في القرآن وهي سورة الكوثر حديثان عن الغيب
الأول : الكوثر وهو نهر في الجنة .
والآخر : الإخبار بأن مبغض النبي هو الأبتر بقطع ذكره الطيب إلى يوم القيامة 0
والذي أريد أن أقرره هنا أن الغيب وجه من وجوه الإعجاز ، لكن هل وقع التحدي به ؟ وهل المثلية المرادة هنا مثلية غيب ؟
وهل المطلوب من الجن والإنس أن يأتوا بكلام يحدث الناس عما وقع في الماضي أو ما سيقع في المستقبل؟
إن القرآن يقول :
1- (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب ...ِ)(البقرة 2 :3)
2- (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ )(آل عمران: من الآية44)
3- (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)(الجـن 26 : 27)
إن الغيب والإطلاع عليه وجه من وجوه التحدي ، أتي به النبي من عند ربه ولكنه ليس كل التحدي ، وحين يقول القرآن ( فأتوا بسورة من مثله ) قد يعني الغيب وقد يعني غيره ، وبخاصة أن البشر لا إطلاع لهم على الغيب .
إن الأمر قد يكون ، وقد لا يكون ، في كل ما سبق .
قد تكون المثلية المطلوبة مثلية علم ، أو مثلية هداية ، أو مثلية غيب وقد تكون المثلية غير ذلك ، وقد تكون في مجموع ذلك .
ولقد عرضت لك حديث العلماء عن الإعجاز العلمي والتأثيري ، والغيبي وفي كل مرة نرى أنه من الممكن حمل المثلية على هذا الوجه ، ومن الممكن لا .
لكن الشائع في ميدان البلاغة حتى صار هو الأصل في كتبهم أن المثلية المطلوبة في آيات التحدي هي مثلية أسلوب ونظم وبلاغة ، ... وغير ذلك من أوصاف تعود على لغة القرآن .
وأقف بك على هذا بعض الوقت .