المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نُودِيَ بأقصى الصين: "الصلاة على ترجمان القرآن" ..!



مالك مناع
03-26-2009, 10:46 PM
قال ابن رجب ـ رحمة الله ـ في ذيل طبقات الحنابلة (1/ 325 ) :

مكث (الشيخ) في القلعة من شعبان لسنة ست وعشرين إلي ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثم مرض بضعة وعشرين يوماً، ولم يعلم اكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلا موته. وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وذكر مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبراج، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة حتى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئاً، ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أول النهار. وفتح باب القلعة.

وكان نائب السلطنة غائباً عن البلد، فجاء الصاحب إلى نائب القلعة، فعزاه به وجلس عنده، واجتمع عند (الشيخ) في القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرحمن: أنه ختم هو و(الشيخ) منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إلى قوله تعالى: "إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر" "القمر: 54. 55". فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب الصالحي، والزرعي الضرير- وكان (الشيخ) يحب قراءتهما- فابتدءا من سورة الرحمن حتى ختما القرآن . وخرج الرجال ودخل النساء من أقارب (الشيخ)، فشاهدوه ثم خرجوا، واقتصروا على من يغسله، ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصالحين وأهل العلم، كالمزي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتى امتلأت القلعة بالرجال وما حولها إلى الجامع، فصلَى عليه بدركات القلعة: الزاهد القدوة محمد بن تمام. وضج الناس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم.

وأخرج (الشيخ) إلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أو نحوها. وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات إلى الميادين والفوارة. وكان الجمع أعظم من جمع الجمعة، ووضع (الشيخ) في موضع الجنائز، مما يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس الناس على غير صفوف. بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إلا بكلفة. وكثر الناس كثرة لا توصف.

فلما أذن المؤذن الظهر أقيمت الصلاة على السدة، بخلاف العادة، وصلوا الظهر، ثم صلوا على (الشيخ)، وكان الإِمام نائب الخطابة علاء الدين بن الخراط لغيبة الفزويني بالديار المصرية. ثم ساروا به، والناس في بكاء ودعاء وثناء، وتهليل وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين ويبكين أيضاً. وكان يوماً مشهوداً، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إلا القليل من الضعفاء والمخدرات وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة. فبكا الناس بكاء كثيراً عند ذلك.

وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديل وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى. وخرج الناس أبواب الجامع كلها وهي مزدحمة. ثم من أبواب المدينة كلها، لكن كان المعظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل. وتقدم في الصلاة عليه هناك: أخوه زين الدين عبد الرحمن.

ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله بمقابر الصوفية، وحُزر الرجال: بستين ألفٍ وأكثر، إلى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألف، وظهر بذلك قول الإِمام أحمد: " بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز".

وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إلى زيارة قبره أياماً كثيرة، ليلاً ونهاراً، ورئيت له منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق كثير من العلماء والشعراء بقص كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده. رضي اللّه عنه ورحمه وغفر له. وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإِسلام القريبة والبعيدة، حتى في اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة "الصلاة على ترجمان القرآن".

رضي اللّه عنه ورحمه وغفر له .. وجزاه الله عنا خير الجزاء ..

ولكن؛ من هو هذا الشيخ الجليل يرحمكم الله ؟

مالك مناع
03-26-2009, 11:02 PM
قال ابن عبدالهادي: (فلما كان قبل وفاته بأشهر ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده كله، ولم يبق عنده كتاب ولا ورقة ولا دواة ولا قلم، وكان بعد ذلك إذا كتب ورقة إلى بعض أصحابه يكتبها بفحم، وقد رأيت أوراقا عدة بعثها إلى أصحابه وبعضها مكتوب بفحم). وهذه آخر رسالة كتبها الشيخ قبل وفاته بنحو شهر ونصف، كتبها بالفحم لما أخرجوا منه الأقلام والأوراق، فاضطر لغسل رسائل تلاميذه التي كانت ترسل له من قبلهم، ثم الكتابة عليه مرة أخرى!! ومما جاء فيها:

(ونحن ولله الحمد والشكر في نعم عظيمة تتزايد كل يوم، ويجدد الله تعالى من نعمه نعماً أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النعم، فإني كنت حريصاً على خروج شيء منها لتقفوا عليه، وهم كرهوا خروج الأخنائية -(كتابه الذي رد فيه على الإخنائي الصوفي)- فاستعملهم الله تعالى في إخراج الجميع، وإلزام المنازعين بالوقوف عليه، وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق. فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس، فإذا ظهرت: فمن كان قصده الحق هداه الله، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله).

ثم قال رحمه الله: (والأوراق التي فيها جواباتكم غُسلت، وأنا طيب وعيناي طيبتان أطيب ما كانتا، ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة {إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه !{ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائماً على كل حال، ويستغفر من ذنوبه فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).

قال ابن عبدالهادي معلقاً على هذه الرسالة: (وهذه الورقة كتبها الشيخ وأرسلها بعد خروج الكتب من عنده بأكثر من ثلاثة أشهر في شهر شوال قبل وفاته بنحو شهر ونصف، ولما أخرج ما عنده من الكتب والأوراق .. أقبل الشيخ بعد إخراجها على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين، وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة انتهى في آخر ختمة إلى آخر اقتربت الساعة: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر}).

عمر الأنصاري
03-26-2009, 11:48 PM
جزاكم الله خيرا على تذكرينا بأعلام الأمة

فوالله إنه يطيب المجلس بذكرهم وذكر سيرهم

فاسمح لي أن أضيف شيئا قليلا، فلم أستطع مغادرة الصفحة دون أن أنقل كلام العلماء في شيخ الإسلام

ذكر ابن رجب قبل حديثه عن وفاة بن تيمية سيرة موجزة للشيخ فقال :


أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، ثم الدمشقي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد. تقي الدين أبو العباس، شيخ الإسلام وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب فعب ذكره، والإسهاب في أمره...

وعنى بالحديث. وسمع " المسند " مرات، والكتب الستة، ومُعجم الطبراني الكبير، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره. فأخذ الفقه والأصول. عن والده، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ زين الدين بن المنجا. وبرع في ذلك، وناظر. وقرأ في العربية أياماً على سليمان بن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه، فتأمله ففهمه. وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضاً، وأمده الله بكثرة الكَتْب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئاً فينساه...

وشرع الشيخ في الجمع وإلتصنيف، من دون العشرين، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره...

وقد قرأتُ والكلام للذهبي بخط الشيخ العلامة شيخنا كمال الدين بن الزملكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم " ابن تيمية " كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أنه لا يعرف غير ذاك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا منه في مذهبهم أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع منه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه قال: وأما التفسير فمسلم إليه. وله من استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحيز فيه. ولفرط إمامته في التفسير، وعظم اطلاعه. يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين. ويُوهي أقوالاً عديدة. وينصر قولاً واحداً، موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث. ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة والأوائلَ: نحواً من أربعة كراريس أو أزيد.


وقد كتب ابن الزملكاني يمتدحه

ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلَّتْ عن الحصر
هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر

وحكى الذهبي عن الشيخ: أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال له - عند اجتماعه به وسماعه لكلامه - : ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك.

DirghaM
03-27-2009, 09:43 AM
موضوع مشوق بأسلوب لا يدع القارئ يغادره حتى ينهي آخر حرف منه ولو كان يعلم من هو المقصود ..

ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلَّتْ عن الحصر
هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر

فرحم الله الشيخ ابن تيمية رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته ..

أبو المسيطر
03-27-2009, 05:42 PM
رحمه الله ورفع درجته في عليين وغفر له ولوالديه ومازال الحاسدين للشيخ يواصلون هجومهم عليه حمه الله

عيد عابدين
03-27-2009, 05:55 PM
رحم الله شيخنا وإمامنا الشيخ إبن تيمية وكل علماء المسلمين .. بارك الله فيك أخي مالك مناع علي هذا الموضوع الرائع ...

مالك مناع
03-27-2009, 10:11 PM
بوركتم أحبابي على التعليق وجزاكم الله خير الجزاء .. وأوفره وأوفاه ..

.....................

نعم .. هو شيخ الإسلام .. وعلم الأعلام .. وحسنة الأيام .. ابن تيمية الحراني .. " الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد" المجاهد ببيانه وسنانه .. عليه رحمة الله وجزاه عنا خير الجزاء ..


ومن مأثور كلامه رحمه الله ما ذكره العلامة ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة (1 / 322):

" قال شيخنا أبو عبد اللّه ابن القيم: سمعت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيميَّة قدس الله روحه ، ونور ضريحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما نسبوا فيه من الخير - ونحو هذا.

وكان يقول في سجوده، وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله.

وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إليه وقال: "فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب" "الحديد: 13".

قال شيخنا (ابن القيم رحمه الله):

وعلم الله! ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه ، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها.

اخت مسلمة
03-28-2009, 01:22 AM
رحمه الله رحمة واسعه وادخله فسيح جناته
لله در هذا الشيخ الجليل وجعل كل كلماته التي تكتب بماء العيون في ميزان حسناته يوم القيامة
فكم افاد وكم علم وكم ترك آثارا جعلها الله له حصنا من النار
جزاك الله خيرا استاذنا الكريم
ونسأله تعالى ان يمتعنا بصحبة النبي عليه الصلاة والسلام واصحابه رضي الله عنهم
وتابعيهم وعلمائنا الربانيين في الفردوس الأعلى من الجنان
تحياتي استاذنا