سبع البوادي
05-11-2005, 01:05 PM
ورغم أن الإسلام ، أكبر من أن يوضع موضع الاتهام أو يحتاج إلى من يدافع عنه ، إلا أن مسئولية تجلية حقائقه للبشرية مسئولية إنسانية تختلف اختلافا تاما عن وعد الله لعباده بحفظ الذكر . وثمة خلط يقع فيه كثيرون عندما يتحدثون عن عطاء الإسلام الحضاري في مسيرة البشرية ، إذ يعددون ما أنجزه المسلمون : علماً ، وتفلسفاً ، وتوسعاً ، وثراءً ، و... بوصفها عطاء الإسلام الحضاري .
وجمعيها منجزات مدنية لعبت العقيدة الإسلامية ، برؤيتها : للذات والآخر والكون وما وراء الكون ، والشريعة بأحكامها دورا كبيرا في تهيئة المناخ لظهورها ، لكن هذا العطاء هو في النهاية عطاء المسلمين كبشر تفاعلوا مع منظومة معرفية متكاملة فيها أبعاد ما ورائية وأخلاقية وقواعد تنظيمية أتاحت المناخ للعطاء الحضاري ، ولكنه يظل مرهوناً في تحققه بالناس الذين يتفاوت تفاعلهم، مع الفكرة من ناحية ، ومع الواقع من ناحية أخرى . ولذا فإن للإسلام عطاء حضارياً لا دور للمسلمين فيه إلا تجسيده ، وهو أمر يتفاوت نجاحهم فيه صعوداً وهبوطاً .
ما الحضارة ؟
ورغم ما يمثله الدور الرائد الذي قام به المسلمون في التوصل للمنهج التجريبي في العلم من فضل على البشرية ، ورغم ما قدمه العلماء المسلمون لمسيرة البشرية من منجزات في كل مجالات العلم التي كان لهم فيها مساهمة ، فإن هذا العطاء يمثل الثمرة أما البذرة فأكثر قيمة من ذلك بكثير . ولعل المدخل الصحيح للإحاطة بهذا الدور تحتم تعريف الحضارة ، وتحفل كتابات كثيرة قديمة ومحدثة بتعريفات مختلفة للحضارة ، بعضها اختلط بمفهوم المدنية وبعضها اختلط بمفهوم الثقافة . وأفضل أن أطرح تعريفاً جديداً للحضارة أراه أكثر تحديداً من المفاهيم المتداولة فهي ( حسب تصوري ) : " كل تصور متكامل يدعي أنه قادر على تنظيم العلاقة بين قيم : الحق والحرية والنظام ، على نحو خاص " .
الإنسان واليقين
وكل تصور حضاري ينبغي أن يتضمن بشكل ظاهر أو مضمر تصوراً لنشأة الكون وطبيعته والإنسان والطبيعة والعلاقات بينها ، وبناء على تصوره لنشأة الكون يتحدد موقف كل تصور حضاري من قضية " الألوهية " اعترافاً أو إنكاراً ، أو ربما تأسس تصور نشأة الكون على الموقف من الألوهية . والعلاقة بين هذه القيم الثلاثة هي مدار حركة الإنسان على الأرض ، والأديان السماوية والأفكار البشرية ذات الطبيعة الكلية ( الأيدلوجيات ) تشكل رؤى تستهدف تنظيم هذه العلاقة على نحو ما، حيث كل الأيدلوجيات تأخذ بناء الدين . ولأن تنظيم العلاقة بين هذه القيم ، التي نراها قيما حاكمة ، يتأسس بالضرورة على تحديد معنى القيم الثلاثة ، فإن تاريخ الفكر البشري يكاد في مجمله أن يكون سجالا بين " النبي " و " الفيلسوف " .
ولتحديد معنى القيم الثلاثة التي تعد قيما حاكمة لعملية صياغة التصور الحضاري لابد من مفهوم لليقين ، فالحضارة بنت اليقين . ومن أهم القواعد التي وضعها الإسلام للوصول إلى اليقين:" يعرف الرجال بالحق ، ولا يعرف الحق بالرجال "
لكن هذه القاعدة التي تنفي كون البشر طريقاً لمعرفة الحق تثبت أن الحق طريق معرفة البشر ، تكتفي بالإثبات والنفي ولا تطرح طريقاً محدداً لمعرفة الحق ولا تطرح تعريفاً للحق . والطريق إلى الحق : نقل أو عقل أو حدس أو تجربة ، أما الطريق الرابع فإنه طريق إدراك الحقائق الجزئية لا طريق معرفة الحق . أما الحق فمجرد وإن دلت عليه شواهد حسية ، والقاعدة تعكس اهتمام الإسلام الشديد بهدم بنية الشرك العقائدية والمعرفية ، بحيث لا يكون البشر دليلاً على الحق ، وإن كان بعضهم علامات على طريقه . أما النقل فإما أن يكون عن سالف أو عن مصدر مفارق لعالم الموجودات المادية . فإن كان النقل عن سالف كان اتباعاً أعاد إنتاج ظاهرة الشرك ، فإن كان ذلك السلف وسيلة للنقل لا مصدراً للحق تساووا في ذلك مع غيرهم من وسائل النقل .
أما النقل عن مصدر مفارق للموجودات ، وهو ما تسميه الأديان السماوية " الوحي " فهو توقيف مفارق لعالم الموجودات المادية يدركه العقل البشري ولا يحتويه ، يفهمه ولا يقدر على إنتاجه. ولإدراك الحق بين ادعاءات المدعين وسائل تمحص الغث من السمين ، وأولها الحدس ، فلا يقين بغير حدس ، ظاهرا كان أو مضمرا . وقد يتأسس التمحيص على التعقل وقياس لزوم النتائج عن مقدماتها ، لكن ذلك لا يعدو أن يكون تسويغا تتدخل فيه ميول النفس وما يزينه الحدس ، وإن لم يدركه الموقن نفسه .
إشكالية المسلمات
وبقدر لزوم الحدس لكل يقين يلزم التسليم بمعرفة أولية لكل يقين ، فإذا أخذ كل جيل من البشر على عاتقه مهمة إعادة النظر عقليا في المسلمات بادئا من نقطة الصفر المعرفية ( على افتراض وجود هذه النقطة إذ لا وجود لها في الحقيقة ) ، فمن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى توالي أجيال متعاقبة لا تتوارث إلا الشك ، والكفر بالحق كمفهوم مجرد . فعمر الإنسان في حده الأقصى قرن من الزمان ، يذهب خمسه تقريبا ( 20 عاما ) قبل اكتمال الإدراك العقلي والقدرة على البحث والاستنتاج والتجريد والتعميم ، وكلها من لوازم السعي نحو بلورة مفهوم لليقين من غير طريق الوحي أو اتباع الأسلاف . كما أن عمر الإنسان يذهب ربعه أو أكثر قليلا ( 25 – 30 عاما ) في النوم . وكل استثناء من هذه المتوسطات - زيادة أو نقصا - يؤكد القواعد المطردة ولا ينفيها .
فإذا افترضنا أن الإنسان يمكن أن ينفق ما تبقى من عمره ( 50 إلى 55 عاما ) في البحث العقلي المجرد عن اليقين ، دون أن تشغله معايش أو عوارض ( عمل– طعام– راحة – مرض 000 ) فإنه لن يكون قادراً على الوصول للحق . ذلك أن حجم المعارف والنظريات التي تراكمت في وعي البشرية ومدوناتها يجعل تحقيق مثل هذا الغرض وهما لا يدرك . ويخطئ البعض عندما يتصور أن عليه اختراع المسلمات لا اكتشافها ، فالمسلمات جزء من نظام كوني يحتوي الإنسان ولا يحيط به الإنسان .
وطرق اليقين متراتبة لا تتساوى وإن بدت متوازية . ولكون إدراك اليقين مسألة مركبة ، فحتى الآن على الأقل ، يعد بسطها بسطاً مفصلاً مما يستعصي على العقل . فلكي يدرك العقل اليقين ينبغي أن يدرك : أولا ، أنه عقل ، وأنه يعقل ، وأن يدرك كذلك كيفية - أو كيفيات - التعقل ولوازمه ( المقدمة – النتيجة – اللزوم – الجوهر – العرض – المتعين - المجرد – القانون العام – الثابت – المتغير ...) ، وأن يدرك كذلك مشكلات التعقل ( الإدراك ) ومزالقه ، حتى يتبين الحقيقي من الزائف مما يعقله ، أو يظن أنه يعقله . ثم ينبغي أن يدرك أن ثمة يقينا .
وقد يصرفنا عن التفكير في هذا أننا تلقينا ذلك عمن سبقونا ، لكن من سبقونا تلقوه هم أيضا عمن سبقوهم ... وهكذا حتى نصل إلى أول متعقل . لكن هذا المتعقل الأول يظل مجرد فرض لا يقوم عليه دليل قاطع ولا يستقيم تأسيس اليقين على فرض . فالقول بأن الإدراك العقلي حدث كطفرة بيولوجية ، في تاريخ متسلسل الحلقات من التطور بدأ بالأميبا وانتهى بالإنسان ، تكذبه معطيات كثيرة ، فضلا عن أنه لا يتمتع بوجاهة عقلية تجعله أرجح من القول بوجود إله خالق لا تدركه الحواس ، فكلاهما غيب .
والغيب إذن مهيمن على العقل منذ البداية . أما التسليم بمقدمات لا يتوقف الإيمان بها على إخضاعها للتمحيص العقلي " مسلمات " ، فهو ، كما قال الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل أمر لا مفر منه وهو يعبر عن ذلك بقوله : " ليس من الممكن أن ننتقل خطوة واحدة إذا نحن بدأنا من الشك الديكارتي " ، " وعلينا أن نبدأ من تسليم عريض بكل ما يبدو أنه معرفة أيا كان " . وهذه المسلمات موجودة في كل التصورات الحضارية سواء تأسست على الإيمان بوجود قوة وراء الوجود خلقته ومنحته المعنى ، أو تأسست على أن هذه القوة خلقت الكون وأودعت فيه قوانين الحركة ثم تركته ، أو تأسست على إنكار وجود هذه القوة ورفض مقولة الخلق . وقد تكون هذه المسلمات كامنة يحتاج إدراكها إلى جهد عقلي .
المنهج والحضارة
والعقل كطريق لإدراك الموجودات وصولا إلى إدراك اليقين يدركها من خلال منهج ، ومناهج البحث ظلت تتطور وتنضج حتى أصبحت معروفة لكل الحضارات . وما يحدد نطاق استخدام كل منهج هو الإطار الحضاري و القيمي ، فهو سابق على المنهج ، وثمة تأثيرات متبادلة بين المنهج ومستخدمه ، وهو تأثير يثمر تحيزات معرفية لا يمكن إدراكها إلا بالنظر إلى القضايا نفسها من خلال منهج مغاير . وفي الطريق لليقين يكون مدار عمل العقل فهم المحكم من النقل ، وتأويل ما يقبل التأويل منه ، والاجتهاد في ما سكت عنه العقل . وهو في كل ذلك يسترشد بالبدهيات والحقائق النقلية التي لا تقبل التأويل .
أما الحدس فهو على أهميته الشديدة مما تزل بسببه الأقدام ، وتحار في الإحاطة به ، على وجه الدقة ، الأفهام . فهو إشراق لا يتبع خطوات الاستدلال المعروفة ، بل يقفز فيه العقل من المقدمة إلى النتيجة مباشرة . وهو معين على تذوق النقل ، وطريق إلى ترجيح ما تستوي فيه أدلة العقل . ولا يستقيم بناء اليقين على الحدس وحده ، كما لا ينتج عنه ما تستقيم به مصالح الجماعة، كما لا يؤدي إلى إنشاء حقائق جزئية جديدة ما لم يؤيدها نقل ، أو عقل ، أو تجربة .
والحدس دليل على أن العقل ليس صفحة بيضاء ، وهنا نتوقف أمام إعجاز حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " . والانتقال من المقدمة إلى النتيجة في أي قياس ، بسيط أو مركب ، والانتقال من الحالات الفردية إلى القانون العام في أي استقراء ، يقتضي أن يدرك العقل معاني : المقدمة ، والنتيجة ، والحالة الفردية ، واللزوم ، والجوهر ، والعرض ، والمتعين ، والمجرد ، والقانون العام ،والثابت ، والمتغير ....... وهنا نصبح أمام الدور ما لم نقل بالأفكار السابقة على اليقين ، فيعود الوحي للهيمنة على العقل .
إشكالية اليقين
وأول ما يضل الناس عن الحق حصره بين حدود متقابلة ينشئها العقل أو العرف ويجعلها مقياسا له . بل الحق يدرك أولا ومنه تستنبط ثوابت منطق التفكير ، وهي تسبق المناهج وتضع حدودا لاستخدامها . وأول ما يوجبه الحق الاتباع والتسليم ، فالله واحد لأنه واحد ، وليس فقط لأن المنطق يقتضي ذلك . وتأييد المنطق لذلك يدل على الحق ولا ينشئه ، فإذا أدرك الموقن بالحدس ودله العقل وربما أعانته الشواهد الحسية في حقائق جزئية ، صار عليه أن يقبل من هذا المصدر ما يوحي إليه به من حقائق عن الكون والإنسان وعالم الغيب وعالم الشهادة ، وأن يطيع أوامره ونواهيه .
فإذا اشترط الإنسان على نفسه ألا يتبع من الحق إلا ما استطاع إدراك كنهه فقد جعل نفسه مساويا لمصدر الحق ، فإن ألزم نفسه بأن يترك من الحق ما لا يدل عليه العقل ، فقد جعل العقل مقياسا للحق ، بل إن العقل عندئذ يصبح – ولو ضمنا - مصدرا للحق ومقياسا له في آن واحد. ولو كان العقل قادر على ذك لكان أولى بأن يكون قادرا على إنتاج الحق ابتداء ، وادعاء الإنسان قدرة العقل البشري على إنتاج الحق يعني وجود " إنسان معياري " ، فالناس متفاوتون حسا وعقلا في القدرات العقلية عموما .
ويؤدي هذا بالضرورة إلى ظهور طبقة – أو فرد – تخص نفسها بالقدرة على إنتاج الحق، فيعود الإنسان إلى فكرة الكهنوت مرة أخرى ، حيث الكهنة وحدهم مصدر الحق ، وهو باب من أبواب الشرك أغلقه الإسلام ، عندما جعل العلاقة بين الله والإنسان علاقة مباشرة ، وجعل فكرة الخلاص قابلة للتحقق وفق قوانين مطردة ، وزود كل الإنسان بالملكات التي تمكنه من الحصول على الخلاص ، من خلال علاقة مباشرة مع الإله ، مدارها أفعال قابلة للكسب ، لا تقتصر على جنس ، ولا تتوقف على مباركة وسيط أيا كان . كما أن ادعاء القدرة على إنتاج الحق ابتداء يعني أن العالم يمكن أن يصدر من العدم من غير موجد قادر ، وهو ما ينكره العقل نفسه .
ولكون الإدراك حالة عقلية نفسية مركبة فإن الإنسان يلجأ أحياناً إلى حيل يحاول بها الهروب من حتمية اليقين وواحديته ، إذ يحاول صنع مسافة بين النقل وتأويله ، وهو موطئ قدم لا يلبث أن يتسع حتى يتحول الفرع إلى أصل ويحل محل الأصل نفسه . وفي هذه الحالة يصبح التأويل في حد ذاته هدفا ويصير النقل إناء يفرغ فيه العقل قناعاته ، وهنا تأتي أهمية التفرقة بين " الثابت " و " المتحول " ، وهو ما يعبر عنه في الإسلام بمصطلحي " المحكم " و " المتشابه " فيصبح المحكم سياجاً يمنع التأويل من تخريب النص .
وقد شيد الفقهاء المسلمون على هدي من هذه التفرقة بناءً متماسكاً هو استخلاصهم ما يسمى: " مقاصد الشريعة " ، الذي يعد شكلاً متفرداً من أشكال التفاعل الخلاق بين العقيدة والشريعة لا نظير له في دين سماوي أو معتقد أرضي أخر . ومن يتأمل الانقلاب الذي أحدثه ظهور المذهب البروتستانتي في المسيحية ، والزلزال الذي ترتب على سيطرة الأفكار الصوفية " القبالاه " على اليهودية ، يدرك إلى أي حد نجح الإسلام في بناء سياج ( تدعمه ضمانات بنيوية ) يضمن حماية الدين من التحريف والتدجين ، ولا يعوقه في الوقت نفسه من التفاعل الخلاق مع متغيرات الواقع .
التوحيد والتجاوز
ومفهوم الحق في الإسلام واحد من أهم عطاءات الإسلام للبشرية ، فهو مفهوم مركب لم يقم على التنافي بين وسائل المعرفة انتصارا لأحدها على الآخر ، وهو مفهوم متجاوز لعالم الموجودات المادية لا يرتبط بجنس بشري ، والإله – الذي جعل الحق اسما من أسمائه – ليس كمثله شئ . وبذلك هدم الإسلام بنية " الحلول " الذي كان واحداً من أكبر أسباب شقاء البشرية عبر التاريخ ، فالقول بحلول الإله في الإنسان أدى إلى تصور مشابهة الإله للبشر ، وهو ما عبر عنه أحد رؤساء كنيسة كانتربري إذ يقول : " إن الله خلق الإنسان على صورته ، من ثم فإن الله أشقر " . وظهرت نتيجة ذلك أيقونات عديدة كل منها تعطي الإله ( المسيح ) ملامح جنس من الأجناس ، فهناك مسيح أشقر ، وآخر زنجي ، وثالث أصفر ، وهكذا . أي أن تصور إمكان قيام علاقة مشابهة بين الإله والإنسان كان سبباً من أسباب ظهور مشاعر التعالي العنصري ، بل منحها تبريراً دينياً ، فهذا الاتصال أحد أسس الفكرة العنصرية . أما تصور حلول الله في شعب فأدى إلى ظهور عقيدة " شعب الله المختار " اليهودية التي ساهمت في عزل اليهود في كل المجتمعات التي عاشوا فيها تقريباً ، و التفريق في الالتزام الأخلاقي بين التعامل داخل المجموعة الخاصة والتعامل مع البقية من البشر الـ"أميين" . بينما كان الإيمان بأن الإله كمال مطلق متجاوز لا يحل في شخص و لا جماعة عرقية الضمان الأكيد للمساواة في الإنسانية ، بمعناها الشامل الذي لا ثغرات فيه ولا استثناءات .
وبنفي فكرة الحلول بمستوياتها كافة ، حلول الإله في إنسان أو شيء أو شعب ، أغلق الباب أمام تقسيم البشر بشكل واحدي صارم إلى مقدس ومدنس ، بما كان يستتبعه ذلك على مدى التاريخ من أن يقوم كل من يعتقد أنه مقدس باستباحة من يعتقد أنه مدنس . فالإله " ليس كمثله شئ " ، وهو " في السماء " ( حسب الحديث الصحيح الذي رواه مسلم ) ، وبالتالي فالناس متساوون في البشرية ، كلهم يملك اختيار الخير و الشر ، وليس لأحد أن يدعي صلة خاصة بالله يدعي لنفسه على أساسها حقوقا خاصة تميزه عن غيره من البشر .
وللحق في التصور الإسلامي مركزية تجعله معياراً للحكم على كل الأفكار والعلاقات والأوضاع ، وهو واحد لا يتعدد ، معيار صحته ذاتي لا يتوقف على ما يحقق من نفع . وهذه المركزية والواحدية كانا مانعا من ظهور تصورات متعارضة للحق . ولهذا الأمر صلة مباشرة بسيادة الأفكار الصراعية ، والعجز عن قبول الآخر ، وصولا إلى الإبادة . وهو ما سنتعرض له بشيء من التفصيل بعد قليل . وإذا كانت القاعدة أن الأشياء تتبين بضدها ، فإن المقارنة بين هذا التصور للحق والتصور البراجماتي للحق تجعل الصورة أوضح .
ففضلا عن أن البراجماتية تعني ، في النهاية ، إحلال فكرة المنفعة محل فكرة الحق ، فإنها أدت إلى جعل القدرة معيارا وحيدا للأفضلية ، بحيث تنقسم البشرية بشكل صارم إلى قسمين :
القوي : " سوبرمان " كائن فوق الإنسان له حقوق مطلقة لا تقيدها قيود أخلاقية .
والضعيف : " سبمان " (subman) كائن دون الإنسان عليه أن يذعن للقوي .
وبناء على هذا التقسيم أضفيت القداسة على الصراع كصيغة للعلاقات بين الفريقين ، وتحول الاختيار من مفهوم أخلاقي مداره الخير بمعناه المطلق إلى مفهوم هو مزيج بين الداروينية والنيتشوية يمجد القوة في ذاتها ويعتبرها علامة على الاختيار . وبتعدد الحق زالت عنه قدسيته وزالت معها مفاهيم التراحم والخير والترفع التي كانت دائما مدار إنسانية الإنسان .
وقد حفل تاريخ الغرب وبخاصة في فترة ما سمي " عصر النهضة " بكتابات تنتقص مكانة الأمم الأخرى بسبب ما كانت تمر به من فترة تخلف ، فانطلقت عبارات مثل : " إن رفّاً واحداً من مكتب فرنسية أهم من عطاء شعوب بأكملها في الجنوب " . مع وصول قطار العلم الغربي إلى النصف الثاني من القرن العشرين تساءل أحد العلماء الغربيين الحاصلين على جائزة من جوائز نوبل العلمية : " بأي مبرر يحق للشعوب التي لا تشارك في إنتاج العلم أن تبقى على قيد الحياة ؟ "
وهذه العبارة تلخص المسافة الشاسعة التي تفصل الإسلام عن الحضارة الغربية التي ينظر إليها – في الغالب - بوصفها الحضارة الأرقى ، وكيف حولت حق الحياة نفسه – أقدس الحقوق الإنسانية – من منحة إلهية لا يتوقف استحقاق الإنسان لها إلا على مشيئة الإله إلى قضية نسبية ، يتوقف الحكم عليها على اعتبارات نسبية يحل الغرب نفسه فيها محل الإله . فهو ، وإن لم يملك حتى الآن القدرة على منح حق الحياة فإنه يريد أن يعطي نفسه حق إهدارها بناء على معايير "موضوعية" قياساً إلى صورته بوصفه " النموذج " و " المركز " .
يتبع
وجمعيها منجزات مدنية لعبت العقيدة الإسلامية ، برؤيتها : للذات والآخر والكون وما وراء الكون ، والشريعة بأحكامها دورا كبيرا في تهيئة المناخ لظهورها ، لكن هذا العطاء هو في النهاية عطاء المسلمين كبشر تفاعلوا مع منظومة معرفية متكاملة فيها أبعاد ما ورائية وأخلاقية وقواعد تنظيمية أتاحت المناخ للعطاء الحضاري ، ولكنه يظل مرهوناً في تحققه بالناس الذين يتفاوت تفاعلهم، مع الفكرة من ناحية ، ومع الواقع من ناحية أخرى . ولذا فإن للإسلام عطاء حضارياً لا دور للمسلمين فيه إلا تجسيده ، وهو أمر يتفاوت نجاحهم فيه صعوداً وهبوطاً .
ما الحضارة ؟
ورغم ما يمثله الدور الرائد الذي قام به المسلمون في التوصل للمنهج التجريبي في العلم من فضل على البشرية ، ورغم ما قدمه العلماء المسلمون لمسيرة البشرية من منجزات في كل مجالات العلم التي كان لهم فيها مساهمة ، فإن هذا العطاء يمثل الثمرة أما البذرة فأكثر قيمة من ذلك بكثير . ولعل المدخل الصحيح للإحاطة بهذا الدور تحتم تعريف الحضارة ، وتحفل كتابات كثيرة قديمة ومحدثة بتعريفات مختلفة للحضارة ، بعضها اختلط بمفهوم المدنية وبعضها اختلط بمفهوم الثقافة . وأفضل أن أطرح تعريفاً جديداً للحضارة أراه أكثر تحديداً من المفاهيم المتداولة فهي ( حسب تصوري ) : " كل تصور متكامل يدعي أنه قادر على تنظيم العلاقة بين قيم : الحق والحرية والنظام ، على نحو خاص " .
الإنسان واليقين
وكل تصور حضاري ينبغي أن يتضمن بشكل ظاهر أو مضمر تصوراً لنشأة الكون وطبيعته والإنسان والطبيعة والعلاقات بينها ، وبناء على تصوره لنشأة الكون يتحدد موقف كل تصور حضاري من قضية " الألوهية " اعترافاً أو إنكاراً ، أو ربما تأسس تصور نشأة الكون على الموقف من الألوهية . والعلاقة بين هذه القيم الثلاثة هي مدار حركة الإنسان على الأرض ، والأديان السماوية والأفكار البشرية ذات الطبيعة الكلية ( الأيدلوجيات ) تشكل رؤى تستهدف تنظيم هذه العلاقة على نحو ما، حيث كل الأيدلوجيات تأخذ بناء الدين . ولأن تنظيم العلاقة بين هذه القيم ، التي نراها قيما حاكمة ، يتأسس بالضرورة على تحديد معنى القيم الثلاثة ، فإن تاريخ الفكر البشري يكاد في مجمله أن يكون سجالا بين " النبي " و " الفيلسوف " .
ولتحديد معنى القيم الثلاثة التي تعد قيما حاكمة لعملية صياغة التصور الحضاري لابد من مفهوم لليقين ، فالحضارة بنت اليقين . ومن أهم القواعد التي وضعها الإسلام للوصول إلى اليقين:" يعرف الرجال بالحق ، ولا يعرف الحق بالرجال "
لكن هذه القاعدة التي تنفي كون البشر طريقاً لمعرفة الحق تثبت أن الحق طريق معرفة البشر ، تكتفي بالإثبات والنفي ولا تطرح طريقاً محدداً لمعرفة الحق ولا تطرح تعريفاً للحق . والطريق إلى الحق : نقل أو عقل أو حدس أو تجربة ، أما الطريق الرابع فإنه طريق إدراك الحقائق الجزئية لا طريق معرفة الحق . أما الحق فمجرد وإن دلت عليه شواهد حسية ، والقاعدة تعكس اهتمام الإسلام الشديد بهدم بنية الشرك العقائدية والمعرفية ، بحيث لا يكون البشر دليلاً على الحق ، وإن كان بعضهم علامات على طريقه . أما النقل فإما أن يكون عن سالف أو عن مصدر مفارق لعالم الموجودات المادية . فإن كان النقل عن سالف كان اتباعاً أعاد إنتاج ظاهرة الشرك ، فإن كان ذلك السلف وسيلة للنقل لا مصدراً للحق تساووا في ذلك مع غيرهم من وسائل النقل .
أما النقل عن مصدر مفارق للموجودات ، وهو ما تسميه الأديان السماوية " الوحي " فهو توقيف مفارق لعالم الموجودات المادية يدركه العقل البشري ولا يحتويه ، يفهمه ولا يقدر على إنتاجه. ولإدراك الحق بين ادعاءات المدعين وسائل تمحص الغث من السمين ، وأولها الحدس ، فلا يقين بغير حدس ، ظاهرا كان أو مضمرا . وقد يتأسس التمحيص على التعقل وقياس لزوم النتائج عن مقدماتها ، لكن ذلك لا يعدو أن يكون تسويغا تتدخل فيه ميول النفس وما يزينه الحدس ، وإن لم يدركه الموقن نفسه .
إشكالية المسلمات
وبقدر لزوم الحدس لكل يقين يلزم التسليم بمعرفة أولية لكل يقين ، فإذا أخذ كل جيل من البشر على عاتقه مهمة إعادة النظر عقليا في المسلمات بادئا من نقطة الصفر المعرفية ( على افتراض وجود هذه النقطة إذ لا وجود لها في الحقيقة ) ، فمن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى توالي أجيال متعاقبة لا تتوارث إلا الشك ، والكفر بالحق كمفهوم مجرد . فعمر الإنسان في حده الأقصى قرن من الزمان ، يذهب خمسه تقريبا ( 20 عاما ) قبل اكتمال الإدراك العقلي والقدرة على البحث والاستنتاج والتجريد والتعميم ، وكلها من لوازم السعي نحو بلورة مفهوم لليقين من غير طريق الوحي أو اتباع الأسلاف . كما أن عمر الإنسان يذهب ربعه أو أكثر قليلا ( 25 – 30 عاما ) في النوم . وكل استثناء من هذه المتوسطات - زيادة أو نقصا - يؤكد القواعد المطردة ولا ينفيها .
فإذا افترضنا أن الإنسان يمكن أن ينفق ما تبقى من عمره ( 50 إلى 55 عاما ) في البحث العقلي المجرد عن اليقين ، دون أن تشغله معايش أو عوارض ( عمل– طعام– راحة – مرض 000 ) فإنه لن يكون قادراً على الوصول للحق . ذلك أن حجم المعارف والنظريات التي تراكمت في وعي البشرية ومدوناتها يجعل تحقيق مثل هذا الغرض وهما لا يدرك . ويخطئ البعض عندما يتصور أن عليه اختراع المسلمات لا اكتشافها ، فالمسلمات جزء من نظام كوني يحتوي الإنسان ولا يحيط به الإنسان .
وطرق اليقين متراتبة لا تتساوى وإن بدت متوازية . ولكون إدراك اليقين مسألة مركبة ، فحتى الآن على الأقل ، يعد بسطها بسطاً مفصلاً مما يستعصي على العقل . فلكي يدرك العقل اليقين ينبغي أن يدرك : أولا ، أنه عقل ، وأنه يعقل ، وأن يدرك كذلك كيفية - أو كيفيات - التعقل ولوازمه ( المقدمة – النتيجة – اللزوم – الجوهر – العرض – المتعين - المجرد – القانون العام – الثابت – المتغير ...) ، وأن يدرك كذلك مشكلات التعقل ( الإدراك ) ومزالقه ، حتى يتبين الحقيقي من الزائف مما يعقله ، أو يظن أنه يعقله . ثم ينبغي أن يدرك أن ثمة يقينا .
وقد يصرفنا عن التفكير في هذا أننا تلقينا ذلك عمن سبقونا ، لكن من سبقونا تلقوه هم أيضا عمن سبقوهم ... وهكذا حتى نصل إلى أول متعقل . لكن هذا المتعقل الأول يظل مجرد فرض لا يقوم عليه دليل قاطع ولا يستقيم تأسيس اليقين على فرض . فالقول بأن الإدراك العقلي حدث كطفرة بيولوجية ، في تاريخ متسلسل الحلقات من التطور بدأ بالأميبا وانتهى بالإنسان ، تكذبه معطيات كثيرة ، فضلا عن أنه لا يتمتع بوجاهة عقلية تجعله أرجح من القول بوجود إله خالق لا تدركه الحواس ، فكلاهما غيب .
والغيب إذن مهيمن على العقل منذ البداية . أما التسليم بمقدمات لا يتوقف الإيمان بها على إخضاعها للتمحيص العقلي " مسلمات " ، فهو ، كما قال الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل أمر لا مفر منه وهو يعبر عن ذلك بقوله : " ليس من الممكن أن ننتقل خطوة واحدة إذا نحن بدأنا من الشك الديكارتي " ، " وعلينا أن نبدأ من تسليم عريض بكل ما يبدو أنه معرفة أيا كان " . وهذه المسلمات موجودة في كل التصورات الحضارية سواء تأسست على الإيمان بوجود قوة وراء الوجود خلقته ومنحته المعنى ، أو تأسست على أن هذه القوة خلقت الكون وأودعت فيه قوانين الحركة ثم تركته ، أو تأسست على إنكار وجود هذه القوة ورفض مقولة الخلق . وقد تكون هذه المسلمات كامنة يحتاج إدراكها إلى جهد عقلي .
المنهج والحضارة
والعقل كطريق لإدراك الموجودات وصولا إلى إدراك اليقين يدركها من خلال منهج ، ومناهج البحث ظلت تتطور وتنضج حتى أصبحت معروفة لكل الحضارات . وما يحدد نطاق استخدام كل منهج هو الإطار الحضاري و القيمي ، فهو سابق على المنهج ، وثمة تأثيرات متبادلة بين المنهج ومستخدمه ، وهو تأثير يثمر تحيزات معرفية لا يمكن إدراكها إلا بالنظر إلى القضايا نفسها من خلال منهج مغاير . وفي الطريق لليقين يكون مدار عمل العقل فهم المحكم من النقل ، وتأويل ما يقبل التأويل منه ، والاجتهاد في ما سكت عنه العقل . وهو في كل ذلك يسترشد بالبدهيات والحقائق النقلية التي لا تقبل التأويل .
أما الحدس فهو على أهميته الشديدة مما تزل بسببه الأقدام ، وتحار في الإحاطة به ، على وجه الدقة ، الأفهام . فهو إشراق لا يتبع خطوات الاستدلال المعروفة ، بل يقفز فيه العقل من المقدمة إلى النتيجة مباشرة . وهو معين على تذوق النقل ، وطريق إلى ترجيح ما تستوي فيه أدلة العقل . ولا يستقيم بناء اليقين على الحدس وحده ، كما لا ينتج عنه ما تستقيم به مصالح الجماعة، كما لا يؤدي إلى إنشاء حقائق جزئية جديدة ما لم يؤيدها نقل ، أو عقل ، أو تجربة .
والحدس دليل على أن العقل ليس صفحة بيضاء ، وهنا نتوقف أمام إعجاز حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " . والانتقال من المقدمة إلى النتيجة في أي قياس ، بسيط أو مركب ، والانتقال من الحالات الفردية إلى القانون العام في أي استقراء ، يقتضي أن يدرك العقل معاني : المقدمة ، والنتيجة ، والحالة الفردية ، واللزوم ، والجوهر ، والعرض ، والمتعين ، والمجرد ، والقانون العام ،والثابت ، والمتغير ....... وهنا نصبح أمام الدور ما لم نقل بالأفكار السابقة على اليقين ، فيعود الوحي للهيمنة على العقل .
إشكالية اليقين
وأول ما يضل الناس عن الحق حصره بين حدود متقابلة ينشئها العقل أو العرف ويجعلها مقياسا له . بل الحق يدرك أولا ومنه تستنبط ثوابت منطق التفكير ، وهي تسبق المناهج وتضع حدودا لاستخدامها . وأول ما يوجبه الحق الاتباع والتسليم ، فالله واحد لأنه واحد ، وليس فقط لأن المنطق يقتضي ذلك . وتأييد المنطق لذلك يدل على الحق ولا ينشئه ، فإذا أدرك الموقن بالحدس ودله العقل وربما أعانته الشواهد الحسية في حقائق جزئية ، صار عليه أن يقبل من هذا المصدر ما يوحي إليه به من حقائق عن الكون والإنسان وعالم الغيب وعالم الشهادة ، وأن يطيع أوامره ونواهيه .
فإذا اشترط الإنسان على نفسه ألا يتبع من الحق إلا ما استطاع إدراك كنهه فقد جعل نفسه مساويا لمصدر الحق ، فإن ألزم نفسه بأن يترك من الحق ما لا يدل عليه العقل ، فقد جعل العقل مقياسا للحق ، بل إن العقل عندئذ يصبح – ولو ضمنا - مصدرا للحق ومقياسا له في آن واحد. ولو كان العقل قادر على ذك لكان أولى بأن يكون قادرا على إنتاج الحق ابتداء ، وادعاء الإنسان قدرة العقل البشري على إنتاج الحق يعني وجود " إنسان معياري " ، فالناس متفاوتون حسا وعقلا في القدرات العقلية عموما .
ويؤدي هذا بالضرورة إلى ظهور طبقة – أو فرد – تخص نفسها بالقدرة على إنتاج الحق، فيعود الإنسان إلى فكرة الكهنوت مرة أخرى ، حيث الكهنة وحدهم مصدر الحق ، وهو باب من أبواب الشرك أغلقه الإسلام ، عندما جعل العلاقة بين الله والإنسان علاقة مباشرة ، وجعل فكرة الخلاص قابلة للتحقق وفق قوانين مطردة ، وزود كل الإنسان بالملكات التي تمكنه من الحصول على الخلاص ، من خلال علاقة مباشرة مع الإله ، مدارها أفعال قابلة للكسب ، لا تقتصر على جنس ، ولا تتوقف على مباركة وسيط أيا كان . كما أن ادعاء القدرة على إنتاج الحق ابتداء يعني أن العالم يمكن أن يصدر من العدم من غير موجد قادر ، وهو ما ينكره العقل نفسه .
ولكون الإدراك حالة عقلية نفسية مركبة فإن الإنسان يلجأ أحياناً إلى حيل يحاول بها الهروب من حتمية اليقين وواحديته ، إذ يحاول صنع مسافة بين النقل وتأويله ، وهو موطئ قدم لا يلبث أن يتسع حتى يتحول الفرع إلى أصل ويحل محل الأصل نفسه . وفي هذه الحالة يصبح التأويل في حد ذاته هدفا ويصير النقل إناء يفرغ فيه العقل قناعاته ، وهنا تأتي أهمية التفرقة بين " الثابت " و " المتحول " ، وهو ما يعبر عنه في الإسلام بمصطلحي " المحكم " و " المتشابه " فيصبح المحكم سياجاً يمنع التأويل من تخريب النص .
وقد شيد الفقهاء المسلمون على هدي من هذه التفرقة بناءً متماسكاً هو استخلاصهم ما يسمى: " مقاصد الشريعة " ، الذي يعد شكلاً متفرداً من أشكال التفاعل الخلاق بين العقيدة والشريعة لا نظير له في دين سماوي أو معتقد أرضي أخر . ومن يتأمل الانقلاب الذي أحدثه ظهور المذهب البروتستانتي في المسيحية ، والزلزال الذي ترتب على سيطرة الأفكار الصوفية " القبالاه " على اليهودية ، يدرك إلى أي حد نجح الإسلام في بناء سياج ( تدعمه ضمانات بنيوية ) يضمن حماية الدين من التحريف والتدجين ، ولا يعوقه في الوقت نفسه من التفاعل الخلاق مع متغيرات الواقع .
التوحيد والتجاوز
ومفهوم الحق في الإسلام واحد من أهم عطاءات الإسلام للبشرية ، فهو مفهوم مركب لم يقم على التنافي بين وسائل المعرفة انتصارا لأحدها على الآخر ، وهو مفهوم متجاوز لعالم الموجودات المادية لا يرتبط بجنس بشري ، والإله – الذي جعل الحق اسما من أسمائه – ليس كمثله شئ . وبذلك هدم الإسلام بنية " الحلول " الذي كان واحداً من أكبر أسباب شقاء البشرية عبر التاريخ ، فالقول بحلول الإله في الإنسان أدى إلى تصور مشابهة الإله للبشر ، وهو ما عبر عنه أحد رؤساء كنيسة كانتربري إذ يقول : " إن الله خلق الإنسان على صورته ، من ثم فإن الله أشقر " . وظهرت نتيجة ذلك أيقونات عديدة كل منها تعطي الإله ( المسيح ) ملامح جنس من الأجناس ، فهناك مسيح أشقر ، وآخر زنجي ، وثالث أصفر ، وهكذا . أي أن تصور إمكان قيام علاقة مشابهة بين الإله والإنسان كان سبباً من أسباب ظهور مشاعر التعالي العنصري ، بل منحها تبريراً دينياً ، فهذا الاتصال أحد أسس الفكرة العنصرية . أما تصور حلول الله في شعب فأدى إلى ظهور عقيدة " شعب الله المختار " اليهودية التي ساهمت في عزل اليهود في كل المجتمعات التي عاشوا فيها تقريباً ، و التفريق في الالتزام الأخلاقي بين التعامل داخل المجموعة الخاصة والتعامل مع البقية من البشر الـ"أميين" . بينما كان الإيمان بأن الإله كمال مطلق متجاوز لا يحل في شخص و لا جماعة عرقية الضمان الأكيد للمساواة في الإنسانية ، بمعناها الشامل الذي لا ثغرات فيه ولا استثناءات .
وبنفي فكرة الحلول بمستوياتها كافة ، حلول الإله في إنسان أو شيء أو شعب ، أغلق الباب أمام تقسيم البشر بشكل واحدي صارم إلى مقدس ومدنس ، بما كان يستتبعه ذلك على مدى التاريخ من أن يقوم كل من يعتقد أنه مقدس باستباحة من يعتقد أنه مدنس . فالإله " ليس كمثله شئ " ، وهو " في السماء " ( حسب الحديث الصحيح الذي رواه مسلم ) ، وبالتالي فالناس متساوون في البشرية ، كلهم يملك اختيار الخير و الشر ، وليس لأحد أن يدعي صلة خاصة بالله يدعي لنفسه على أساسها حقوقا خاصة تميزه عن غيره من البشر .
وللحق في التصور الإسلامي مركزية تجعله معياراً للحكم على كل الأفكار والعلاقات والأوضاع ، وهو واحد لا يتعدد ، معيار صحته ذاتي لا يتوقف على ما يحقق من نفع . وهذه المركزية والواحدية كانا مانعا من ظهور تصورات متعارضة للحق . ولهذا الأمر صلة مباشرة بسيادة الأفكار الصراعية ، والعجز عن قبول الآخر ، وصولا إلى الإبادة . وهو ما سنتعرض له بشيء من التفصيل بعد قليل . وإذا كانت القاعدة أن الأشياء تتبين بضدها ، فإن المقارنة بين هذا التصور للحق والتصور البراجماتي للحق تجعل الصورة أوضح .
ففضلا عن أن البراجماتية تعني ، في النهاية ، إحلال فكرة المنفعة محل فكرة الحق ، فإنها أدت إلى جعل القدرة معيارا وحيدا للأفضلية ، بحيث تنقسم البشرية بشكل صارم إلى قسمين :
القوي : " سوبرمان " كائن فوق الإنسان له حقوق مطلقة لا تقيدها قيود أخلاقية .
والضعيف : " سبمان " (subman) كائن دون الإنسان عليه أن يذعن للقوي .
وبناء على هذا التقسيم أضفيت القداسة على الصراع كصيغة للعلاقات بين الفريقين ، وتحول الاختيار من مفهوم أخلاقي مداره الخير بمعناه المطلق إلى مفهوم هو مزيج بين الداروينية والنيتشوية يمجد القوة في ذاتها ويعتبرها علامة على الاختيار . وبتعدد الحق زالت عنه قدسيته وزالت معها مفاهيم التراحم والخير والترفع التي كانت دائما مدار إنسانية الإنسان .
وقد حفل تاريخ الغرب وبخاصة في فترة ما سمي " عصر النهضة " بكتابات تنتقص مكانة الأمم الأخرى بسبب ما كانت تمر به من فترة تخلف ، فانطلقت عبارات مثل : " إن رفّاً واحداً من مكتب فرنسية أهم من عطاء شعوب بأكملها في الجنوب " . مع وصول قطار العلم الغربي إلى النصف الثاني من القرن العشرين تساءل أحد العلماء الغربيين الحاصلين على جائزة من جوائز نوبل العلمية : " بأي مبرر يحق للشعوب التي لا تشارك في إنتاج العلم أن تبقى على قيد الحياة ؟ "
وهذه العبارة تلخص المسافة الشاسعة التي تفصل الإسلام عن الحضارة الغربية التي ينظر إليها – في الغالب - بوصفها الحضارة الأرقى ، وكيف حولت حق الحياة نفسه – أقدس الحقوق الإنسانية – من منحة إلهية لا يتوقف استحقاق الإنسان لها إلا على مشيئة الإله إلى قضية نسبية ، يتوقف الحكم عليها على اعتبارات نسبية يحل الغرب نفسه فيها محل الإله . فهو ، وإن لم يملك حتى الآن القدرة على منح حق الحياة فإنه يريد أن يعطي نفسه حق إهدارها بناء على معايير "موضوعية" قياساً إلى صورته بوصفه " النموذج " و " المركز " .
يتبع