خالد عكام
03-28-2009, 02:36 PM
الإسلام ..
والمسيح ابن مريم
نزول وعودة
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
حلب
1430ه - 2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
هذه مطالعة بيانية ، بقوة الفكر ، حول إحدى المقررات الإسلامية النبوية، ألا وهي نزول السيد المسيح عيسى بن مريم ، قبيل الساعة بقليل ، ومسوغاتُ هذا النزول ..
حيث أفاض سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، في هذا السياق، مؤكداً القول في مصداقية ذلك النبأ العظيم ، ونزول ذلك النبي الكريم..
الذي يأتي على حين فترة عصيبة ، وحياة رديئة كئيبة ، آلت فيها القيم الدينية والإنسانية ، إلى النفاد والنضوب ، والاستهلاك الأناني الغوغائي الأهوج ، في سوق النّخاسة الفكرية والسياسية ، والشعارات البراقة ، والازدواجية المفضوحة والمعلَنة ، والتطفيف المكشوف ، والعدوان الصارخ ، والبلاء الأعظم ، والحرب الضروس ..
البيان والمدخل :
روى الإمام البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم : ((كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم ، وإمامكم منكم )). والإمام هنا هو المهديُّ ذاته ..
وهكذا فقضية نزول عيسى بن مريم ، في هذه الأمة ، آخر الزمان ، ثابتة بالسنة المتواترة ، وبنص القرآن ..
ولعل الرسول عليه الصلاة والسلام ، كان يستشعر ما قد يكون من إنكار واستعباد لهذا النزول .. فكان يُقْسم على ذلك فيقول : (( والذي نفسي بيده لَيوشِكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكماً عدلاً .. إلى آخره .. الحديث )) .
وكان أبو هريرة يقول : إقرأوا إذا شئتم ، قوله تعالى (( وإنْ من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته .. )) أي موت عيسى بن مريم ، بعد النزول آخر الدهر ..
وجاء في القرآن تأكيد لذلك ، في قوله تعالى : (( وإنه لعِلْم للساعة )) . أي إن عيسى يكون نزولُه علامةً للساعة وعِلماً بقربها ..
والحقيقة أن الأمة سلفاً وخلفاً , مجمعةٌ على ذلك ، ومعتقدة به ، فهو جزء من عقيدة الإسلام ، ويقينياته الكبرى ..
ولا يَضير هذا الاعتقادَ ، شذوذُ من شذَّ ، بإنكار هذا النزول ، ورفض الأحاديث الصحيحة والمتواترة ، وتأويل الآيات القرآنية ، تأويلاً يؤكد دعواهم ، وينفي عقيدة النزول ..
ليس البحث هنا في إثبات الثابت ، ونفي المنفيِّ ، بل هو شأن آخر ، يتوضح في الآتي ..
في البداية ، ما هي النسبة والعلاقة بين النزول وواقع الأمة و العالم ، في وقته وحينه ؟
ولماذا كل هذا الاستعداد والتهيؤ المبكِّر جداً ؟ رجل نبي كريم ، يريد قومُه أن يصلُبوه ، فيرفعه الله حياً ، ليأذن بنزوله وعودته قبل يوم القيامة ، فيحقق الأهداف الكبرى ، المنوطَة به أصلاً ؟.
والتي يؤدي تحقيقها ، إلى انفراجٍ أخطر وأعقد أزمة إنسانية حضارية في التاريخ ..
التمهيد لفهم إشكالية النزول :
بادئَ ذي بدء ، فإن أمة الإجابة من هذه الأمة ، هم الذين يُقرون لله بالوحدانية ، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ، أي يقولون : لا إله إلا الله محمد رسول الله ..
وأما أمة الدعوة ، فهم الذين يرفضون ذلك ، ولا يؤمنون بالرسالة المحمدية الإسلامية ، وهؤلاء هم أمم الأرض ، وشعوب العالم ، الذين تتوجه إليهم الدعوة الإسلامية ، ويُدعون إلى الإسلام ..
فسكان الكرة الأرضية ، هم أمته عليه الصلاة والسلام ، وهو مسؤول عن دعوتهم و هدايتهم ، وليس أيُّ نبي آخر ..
وحالُ البشر وواقع أمرهم ، مكشوف ومعروف ، وغير خافٍ ولا مبهم ولا غامض .. المعاناة واحدةُ الأسباب
و الدواعي، والشذوذُ في كل شيء ، يَجثم على صدر هذا العالم..
فأينما ذهبت ، وحيثما حللت ، فإنك واجد ضلالاً رهيباً يكتنف الجميع ، لم يمر له مثيل ولا قريب منه من قبل ، إلى جانب حروب وصراعات وتحديات مدمرةٍ لكل خير ، ومقوِّضة لكل حضارة ، تجري فيها الدماء و الدموع والأشلاء أنهاراً ..
وأخلاقيات و أدبيات وسلوكيات ، وأنماط عيش وحياة ، واستراتيجيات وسياسات ، كل ذلك رديء ووبيئ ، وظالم وآثم ، ومستنقعات من المآسي والفظائع والجرائم ، والأرض كلها ساحة رقص و مآتم !.
والداء واحد في جميع القارات : كفر بالقيم الإنسانية ، وهدر للكرامة الآدمية، وضياع كبير ، وسوء منقلب ومصير ، وشر مستفحل ومستطير ، ونزعة عدوانية وحشية ، وهتك لكل الحرمات والحقوق والمحرمات .. وعاصفة من إباحية ..
ولا حلول من وقاية أو علاج ، اللهم إلا ما يَصب الزيت على النار ، ويزيدها اشتعالاً واستفحالاً ..
ورجال المعابد والكهنوت ، والفكرِ الديني المصادَر والمتهافِت ، يضربون في حديد بارد ، ويَلْوون ألسنتَهم بالكتاب وبالخطاب ، لكي يكونوا في النهاية لا يخذل الباطل ، ولا ينُصر الحق ، ولا يمس الظالمين والمفسدين بسوء ، والهدف المستهدف عند هؤلاء ، دنيا عريضة ، تأكل دين صاحبها كما تأكل النار الحطب.. (( يبتغون عرض الحياة الدنيا ، ويقولون : سيُغفر لنا .. ))
امتلأت الأرض حقاً : ظلماً وجوراً ، وتحققت هذه المقولة، أكثر من أي وقت مضى ، وكما لم تمتلئ من قبل ..
وفي كل شبر من المعمورة ، فإنك واجد من الفتن والدواهي والمحن ، والمشكلات والموبقات ، والمظالم المروِّعة ، مايفتت الأكباد ، ويُذهل العقول ، ويخرب العواطف ، ويُحيِّر الحليم والعليم ..
والحياة بأوسع مجالاتها ، دوامات ومتاهات وانحرافات خطيرة ، تهوي بالبشر في مكان سحيق ، وتُطوِّح بهم في خنادق النار والعار والدمار ..
أضف إلى كل ذلك ، صراع العقائد ، وصدام الحضارات ، بين الشرق والغرب ، أو بين الشمال والجنوب ، أو بين الغرب الأوروبي وأمة العروبة والإسلام ، حيث كانوا لنا مفرقين ومستعمرين ومحاربين ومعتدين ، وما زالوا حتى الآن يشنون علينا حرباً لا هوادة فيها ، ويجيئوننا تحت كل راية غاية ، مدجَّجين ومهاجمين ، ولما ظهروا علينا لم يَرقُبوا فينا إلَّاً ولا ذمة، ولم تأخذهم تُجاهَنا آصرة ولا رحمة ، ولم يكتفوا بذلك ، بل زرعوا في قلب وجودنا ، ذلك الجسم الطفيلي الغريب ، الذي يمنع ويحول دون أن يلتئم لنا شمل ، وتتوحد لنا كلمة ، ويكون لهذه الأمة موقف تضامني فاعل في هذا الوجود ، الذي العدل فيه مفقود ..
ضرورات النزول ومسوِّغاته :
فنزول ذلك الإنسان ، سوف يلغي كثيراً من القناعات التي مضت عليها القرون ، ويُُحْدث في الأرض قناعات جديدة وبركات، قد تبدو الآن شبه مستحيلة..
نزول المسيح ، أعظم تحول في تاريخ آخر الزمن ، حيث يُصَدَّق قوله تعالى: ((وما قتلوه وما صلبوه)) ..
إن الحرب الاستعمارية ، والهجمة الصليبية القديمة والحديثة، التي شنها ويشنها علينا أعداء الله والحياة ، وأعداء أنفسهم ، هي التي فرضت وجودها على هذا العالم ، وأحدثت فيه انقسامات ، لا يرأب صَدْعها ..
ومن المستحيل الخروجُ من تحت ركامها ، والوصولُ إلى كلمة سواء بيننا وبينهم ..
ولدى التدقيق وإنعام النظر ، في هذه القضية ، تلوح لنا حكمة الخالق العظيم، الذي ادخر هذا الإنسان ، ليقوم بأعظم رتْق وجمع في آخر الزمان ، حيث يوحِّد الموقف والدين ، وتضع الحرب أوزارها ..
إذ تبدو الأمور الآن ، وكأنه لا عودة ، ولا مَن يمتلك ناصية التغيير والإغاثة, ومن المستحيل إحداث تغيير جذري ، في بنية العالم الإنسان ، و مآلاته الفاضحة ، وغير الفالحة ..
بالنسبة لنا ، ليس لدينا مشكلة في التعامل مع الآخرين وسوانا من خلق الله ، على قدم التكافؤ والاحترام والمساواة ، والتعاون المثمر والبنَّاء .. ولكن المشكلة الحقيقية ، المفعمة تعقيداً ورسوخاً ، التي لا تبدو أنها قابلة للحل والتجاوز ، هي في غطرسة الغرب الأوروبي والأمريكي ، وشعوره بالتفوق العرقي والعنصري واعتزازه بفرط القوة الطاغية ، واعتبارنا عنده غنائمَ حرب، وأُسارى ومرتهنين ، ومخلفات من الرجعية والتخلف ، وأننا لا نستحق الحياة إلا بقدْر خدمة مصالحه ، وتحقيق مطامعه ، ونهبنا وسلبنا ، واجتياح هويتنا ووجودنا ..
بيد أن المسيح الذي ينتسب إليه المسيحيون في الغرب الأوروبي والأمريكي ، هو الكفيل بإفهامهم وإرغامهم ، على أن الحقيقة المطلقة ، هي غير ما يعتقدون ويفكرون ويعملون ..
على حد قول الله تبارك وتعالى :(( وشهد شاهد من أهلها )) وقوله تعالى:(( وشهد شاهد من بني إسرائيل )) .
إننا لا ننكر أن المسيح سوف يأتي مبعوثَ الحضرة الإلهية النبوية ، ليغيث هذه الأمة ، وكل المؤمنين بالله في الأرض ، وليعيد الأمور إلى نصابها ومجاريها ، بعد أن آلت أوضاع هذه الحياة ، على ظهر هذا الكوكب المنكوب المغلوب ، إلى طرق مسدودة ، وعقد مستعصية ، وكراهية بين البشر ، وفردية وأنانية ، لم نعهد بمثلها ولا قريب منها في الغابرين ..
أعظم شاهد على العصر :
إن المسيح هو أعظم شاهد على العصر حقاً ، وهو أعظم من كل الشهود ، ولن ينطق إلا بالحق الذي طال عليه ليل الإظلام والتعتيم ..
لأنه مدعَّم بأدلة وثبوتيات وحيثيات ، لم تتوفر لكل الشهداء على هذا العصر ، لأن شهادته عملية إجرائية ، وشهادة أولئك : نظرية مبتورة ومجتزأة ومتقاصرة ..
وإن شهادة المسيح ، غير قابلة للرد والنقض والرفض ، حتى من أشد خصومنا اليوم وظالمينا ..
فالحقيقة سوف تفاجئهم وتُذهلهم ، وتنتزع منهم كل ما يقال ويُدَّعى ، من أوراق هذه اللعبة اللعينة والقذرة ، وتجعلهم لا يُحيرون جواباً، إلا أن يُذعنوا ويؤمنوا ، ويسلموا بالحق ، وسطوع الشمس ، ورائعة الضياء الباهر ..
وبالتالي يكتشفون أنهم كانوا مخدوعين ومخادعين ، ويتخلون عن كل ثوابتهم المزعومة ، وعقائدهم الموهومة ، وأنهم كانوا كاذبين!.
نزول وقدر إلهي :
نزول المسيح وعودته ، ليست قضية مُتْرفة ولا واغلة ولا متطفلة ، وليست لحسابات كهنوتية وعنصرية ، وإنما هي قدَر مقدور ومقدَّر أزلاً ، اقتضته ضرورات ما مر مثلها في التاريخ ، وبدونها سوف يظل هذا العالَم ، يتخبط في هذا الترنح الكبير والمبير ..
وسيظل الذين أعلنوا عليه الحرب والعداوة ، قبل ألفْي عام ، يفسدون في الأرض ، ويدمرون الكوكب ، ويُكذِّبون الحضرة الإلهية , بقولهم (( إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم )) .
سبحان الله العظيم .. أعظم أكذوبة في التاريخ ، عمرها عشرون قرناً ، هي التي صبغت العالَم ، وزلزلته زلزالاً شديداً ، وتحكمت بمصائر أقوامه وشعوبه حتى اليوم، وأججت حروباً طاحنة متواترة ، وأسالت الدماء البشرية أنهاراً ، وتمخضت عن أحداث وتحولات وتواريخ ، ليس لها من سند ولا مبرر ، إلا تلك الأكذوبة الفجة ..
وقد أحالت كوكب الأرض ، إلى طواعينَ وسجون ، ومقابرَ جماعيةٍ لا نهاية لها .. وعذاباتٍ من كل لون ونوع ..
وإلى اليوم ، ورغم ما توصل إليه البشر ، من سرعة الصوت والضوء ، والأقمار الصناعية العملاقة ، والمراكب الفضائية الهائمة ، والمخترعات الهائمة ، والاتصالات والانجازات ، التي يعجز العقل عن تصورها ومداها ، فإنه ما زالت الأساطير والخرافات والأكاذيب ، والمزاعم الساقطة ، تهيمن على هذا العالم ، وتحركه في كل اتجاه ، وتسوقه إلى مسالخ الذبح والجريمة والجنون ، وهيستيريا الأحلام والأوهام ، وتفجير بحر المآسي والفواجع والنكبات ، والأوجاع والآلام ..
إن فضح هذه الأكذوبة التاريخية العالمية ، هو الذي يتكفل نزول المسيح به ، ووقفِ طوفان ما بُني عليه ، ومال آل إليه ..
وختاماً ، فمن ذا الذي يمتلك القدرة على الفصل في كل هذا الواقع الذميم والجسيم ، والمعتَّق منذ الأجيال والقرون ، ولا تزيده الأيام ، إلا كالنار اتِّقاداً واشتعالاً ؟.
لعلي بذلك أكون قد أزحت الستار ، عن جدوى ومصداقية المسيح في عودته ونزوله ، وإنجاز ما عجزت عنه القارات والمعسكرات ، وكبرى التحكم والرئاسات ، بل كانت هي الوقودَ ، لحرب الصدام والخصام والعداوات ..
ولعلي أكون أيضاً ، قد زففت البشرى الأعظم ، إلى هذا العالَم المتهدم ، الذي تحركه الأصابع الخفية ، ولصوص الفلسفة الميكيافيلية ، وأن المسيح مات على الصليب !!
تتمة ..وتمام المعنى :
يتحدث القرآن المجيد ، عن قضية جوهرية ، هي الأساس في كل ما ذُكر آنفاً ، وهي أن السيد المسيح ، لم يمت بعدُ ، وأنه رُفع إلى السماء حياً بجسده وروحه ، وصُلب بالنيابة عنه ، الذي شُبِّه لهم ، وهو إما الذي خانه ، أو الذي افتداه ..
ومن أجل التحقق من ذلك ، سوف ينزل ويعيش بقية عمره المقدر له ، ثم يموت كما مات الصالحون من قبله ..
ولكن قبل موته ، هناك إيمان به من نوع آخر ، غير الذي عرف به في التاريخ..
فالذين أحبوا المسيح ، وانتسبوا إليه ، وغالوْا في هذا الحب ، وفرَّطوا بالتعاليم والبشارة التي جاء بها ، في حياته الأولى ..
هؤلاء سوف يؤمنون من جديد ، بالمسيح المبارك ، على أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروحٌ منه ..
وإيمانهم الجديد هذا ، سوف يقودهم إلى الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم - ويحبونه حباً جماً ، ويشهدون أن
لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ..
وبذلك يصبح المسلمون والمسيحيون أمة واحدة ، ذات عقيدة واحدة ، وهذا ما سيؤدي بالطبع ، إلى توحيد العالم الإنساني ، وإنهاء تعدد الأديان والعقائد ، وتضع الحرب أوزارها ، ويطفئ الله نارها ..
يقول سبحانه :(( وإنْ من أهل الكتاب إلَّا لَيؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً )) . صدق الله العظيم .
خاتمة وختام :
لقد جاء هذا النبي والرسول ، بمعجزات لم يأت بها نبي من قبل ، إلى درجة أنه دعي آلهاً تجسَّد وتأنَّس ، وانتهت الرسالة الإلهية بنهايته ، ولا حاجة بعده لنبي آخر..
وحُرِّفت بشارة الإنجيل بأحمد ومحمد ، وأنها ليست لخاتم النبيين .. ثم كانت نهاية المسيح ، كما هو شائع في العالم ، رغم أن القرآن المجيد ، ينفي ذلك ، ويُتلى آناء الليل والنهار ..
فهل من المنطقي والمعقول ، أن تُطوى هذه الصفحة بتلك البساطة ، وأن يذهب دم المسيح هدراً ، دون أن يكون من حضرة العلي القدير ، تمحيص وكشف ، وتظهر الحقيقة المطلقة ، وتفنى كل المزاعم الرائجة ، التي اصطنعها اليهود ، أعداء المسيح ، الذين كانوا ضحية وهم كبير ، فعَميت عليهم الأنباء ، واشتبهت لديهم الأمور؟!.
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ، لن يترك الأمر يذهب سدىً ، وتكون لإبليس اللعين ، خاتمة الصدق والتصديق ، فيما راج عبر القرون ، بل لا بد من أن يُصَدَّق الرحمن ، أي يظهر صدقه للعيان ، ويُكذَّب الشيطان ، وحزبه الخاسرون ، ولا تتم هذه الإرادة والمعطيات ، إلا بنزول ذلك الإنسان ، وظهوره شخصياً بلحمه ودمه ، فيخاطب البشر بالحق الأبلج ، ولا تقوم الساعة ، وتنتهي الحياة ، إلا وقد حصحص الحق ، وانهارت دنيا الأكاذيب والأساطير والترهات ، وتداعى تاريخ الإفك والظلم ، وثبت الحق والصدق ، لبارئ الأرض والسمـوات ..
ولاية محمدية :
يقول سيدنا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم :(( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم )) . رواه أبو داود وأحمد ..
هذه الولاية المحمدية ، تعطي السيد المسيح ، ميزة عزيزة المنال ، ليست لغيره وسواه ، من الأنبياء والمرسلين ، وكان عيسى شديد الحب والتقدير والأدب والاحترام ، لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : خاتم النبيين..
فرسول الله عليه صلى الله ، هو أولى وأخص وألصق بعيسى ، من أمه التي حملته وولدته ، ومن حوارييه ، ومن كل أتباعه ومحبيه ، إلى يوم الدين .. وبذلك قضي الأمر من الله ..
وكأن نبيَّ الإسلام ، يحتضن المسيح ، ويضمه إليه ، في جنان ومودة ، ونُصرة كريمة ، بعد أن ضاع في خضم الاتهامات الباطلة ، ويدفع عنه قالة السوء ، التي أُقحمت فيه ، من قبل أعدائه اللدودين الجاحدين ..
فهو عند هؤلاء : دجال وساحر ، وطالب ملك ، ومحرض على الفتنة ، ومجدِّف على الشريعة ، ومخالف تعاليمها ، ومصرح بأن إسماعيل هو الذبيح ، وليس إسحق .. ومبشر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ..
فكون المسيح تحت الولاية المحمدية المباشرة ، يعطيه الحق لأن تكون له تلك القيمة الغالية ، ويرشحه للتدخل في حياة الأمة ، وردها إلى دينها ، وإحياءِ منهج نبيها، واتباع طريقة الخلفاء الراشدين ، وكبار الصحابة والتابعين ..
والرسول عليه الصلاة والسلام ، بقوله ذاك : قد وضع المسيح المبارك ، في الإطار الصحيح ، وجعله واحداً من أهل البيت المحمدي ، وحينما ينزل يصلي خلف المهديِّ : آخرِ الأئمة وخاتمهم ، ويتعاونان في وضع الأسس ، للإصلاح العالمي العام ، ونشر ألوية الحب والسلام ..
هذه المقالة ، تفسير وبيان ، واقعي ومنطقي ، للوعد الموعود، ألا وهو : نزول السيد المسيح عليه السلام ، من السماء التي رفع فيها ، إلى الأرض التي وُعد بالعودة إليها ، ليقوم عملياً وعلى مشهد من العالم ، بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي بشر به كثيراً ، ولينصره فعلاً وقولاً وإرادةً ، وليعليَ من شأن رسالته في الكون من جديد ، وذلك في آخر الزمن العائد والمستعيد ..
نيابة عن كل النيين ، الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والنبوة ، وتحقيقاً وتطبيقاً لقوله تبارك وتعالى : (( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لماَ أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمننَّ به ولَتنصرنَّـه قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا : أقررنا قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين )) ..
إنه نزول لوفاء وإقرار واستقرار ... والله سبحانه وتعالى أعلم.
بقلم الشيخ عبد الرحمن العيسى
والمسيح ابن مريم
نزول وعودة
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
حلب
1430ه - 2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
هذه مطالعة بيانية ، بقوة الفكر ، حول إحدى المقررات الإسلامية النبوية، ألا وهي نزول السيد المسيح عيسى بن مريم ، قبيل الساعة بقليل ، ومسوغاتُ هذا النزول ..
حيث أفاض سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، في هذا السياق، مؤكداً القول في مصداقية ذلك النبأ العظيم ، ونزول ذلك النبي الكريم..
الذي يأتي على حين فترة عصيبة ، وحياة رديئة كئيبة ، آلت فيها القيم الدينية والإنسانية ، إلى النفاد والنضوب ، والاستهلاك الأناني الغوغائي الأهوج ، في سوق النّخاسة الفكرية والسياسية ، والشعارات البراقة ، والازدواجية المفضوحة والمعلَنة ، والتطفيف المكشوف ، والعدوان الصارخ ، والبلاء الأعظم ، والحرب الضروس ..
البيان والمدخل :
روى الإمام البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم : ((كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم ، وإمامكم منكم )). والإمام هنا هو المهديُّ ذاته ..
وهكذا فقضية نزول عيسى بن مريم ، في هذه الأمة ، آخر الزمان ، ثابتة بالسنة المتواترة ، وبنص القرآن ..
ولعل الرسول عليه الصلاة والسلام ، كان يستشعر ما قد يكون من إنكار واستعباد لهذا النزول .. فكان يُقْسم على ذلك فيقول : (( والذي نفسي بيده لَيوشِكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكماً عدلاً .. إلى آخره .. الحديث )) .
وكان أبو هريرة يقول : إقرأوا إذا شئتم ، قوله تعالى (( وإنْ من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته .. )) أي موت عيسى بن مريم ، بعد النزول آخر الدهر ..
وجاء في القرآن تأكيد لذلك ، في قوله تعالى : (( وإنه لعِلْم للساعة )) . أي إن عيسى يكون نزولُه علامةً للساعة وعِلماً بقربها ..
والحقيقة أن الأمة سلفاً وخلفاً , مجمعةٌ على ذلك ، ومعتقدة به ، فهو جزء من عقيدة الإسلام ، ويقينياته الكبرى ..
ولا يَضير هذا الاعتقادَ ، شذوذُ من شذَّ ، بإنكار هذا النزول ، ورفض الأحاديث الصحيحة والمتواترة ، وتأويل الآيات القرآنية ، تأويلاً يؤكد دعواهم ، وينفي عقيدة النزول ..
ليس البحث هنا في إثبات الثابت ، ونفي المنفيِّ ، بل هو شأن آخر ، يتوضح في الآتي ..
في البداية ، ما هي النسبة والعلاقة بين النزول وواقع الأمة و العالم ، في وقته وحينه ؟
ولماذا كل هذا الاستعداد والتهيؤ المبكِّر جداً ؟ رجل نبي كريم ، يريد قومُه أن يصلُبوه ، فيرفعه الله حياً ، ليأذن بنزوله وعودته قبل يوم القيامة ، فيحقق الأهداف الكبرى ، المنوطَة به أصلاً ؟.
والتي يؤدي تحقيقها ، إلى انفراجٍ أخطر وأعقد أزمة إنسانية حضارية في التاريخ ..
التمهيد لفهم إشكالية النزول :
بادئَ ذي بدء ، فإن أمة الإجابة من هذه الأمة ، هم الذين يُقرون لله بالوحدانية ، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ، أي يقولون : لا إله إلا الله محمد رسول الله ..
وأما أمة الدعوة ، فهم الذين يرفضون ذلك ، ولا يؤمنون بالرسالة المحمدية الإسلامية ، وهؤلاء هم أمم الأرض ، وشعوب العالم ، الذين تتوجه إليهم الدعوة الإسلامية ، ويُدعون إلى الإسلام ..
فسكان الكرة الأرضية ، هم أمته عليه الصلاة والسلام ، وهو مسؤول عن دعوتهم و هدايتهم ، وليس أيُّ نبي آخر ..
وحالُ البشر وواقع أمرهم ، مكشوف ومعروف ، وغير خافٍ ولا مبهم ولا غامض .. المعاناة واحدةُ الأسباب
و الدواعي، والشذوذُ في كل شيء ، يَجثم على صدر هذا العالم..
فأينما ذهبت ، وحيثما حللت ، فإنك واجد ضلالاً رهيباً يكتنف الجميع ، لم يمر له مثيل ولا قريب منه من قبل ، إلى جانب حروب وصراعات وتحديات مدمرةٍ لكل خير ، ومقوِّضة لكل حضارة ، تجري فيها الدماء و الدموع والأشلاء أنهاراً ..
وأخلاقيات و أدبيات وسلوكيات ، وأنماط عيش وحياة ، واستراتيجيات وسياسات ، كل ذلك رديء ووبيئ ، وظالم وآثم ، ومستنقعات من المآسي والفظائع والجرائم ، والأرض كلها ساحة رقص و مآتم !.
والداء واحد في جميع القارات : كفر بالقيم الإنسانية ، وهدر للكرامة الآدمية، وضياع كبير ، وسوء منقلب ومصير ، وشر مستفحل ومستطير ، ونزعة عدوانية وحشية ، وهتك لكل الحرمات والحقوق والمحرمات .. وعاصفة من إباحية ..
ولا حلول من وقاية أو علاج ، اللهم إلا ما يَصب الزيت على النار ، ويزيدها اشتعالاً واستفحالاً ..
ورجال المعابد والكهنوت ، والفكرِ الديني المصادَر والمتهافِت ، يضربون في حديد بارد ، ويَلْوون ألسنتَهم بالكتاب وبالخطاب ، لكي يكونوا في النهاية لا يخذل الباطل ، ولا ينُصر الحق ، ولا يمس الظالمين والمفسدين بسوء ، والهدف المستهدف عند هؤلاء ، دنيا عريضة ، تأكل دين صاحبها كما تأكل النار الحطب.. (( يبتغون عرض الحياة الدنيا ، ويقولون : سيُغفر لنا .. ))
امتلأت الأرض حقاً : ظلماً وجوراً ، وتحققت هذه المقولة، أكثر من أي وقت مضى ، وكما لم تمتلئ من قبل ..
وفي كل شبر من المعمورة ، فإنك واجد من الفتن والدواهي والمحن ، والمشكلات والموبقات ، والمظالم المروِّعة ، مايفتت الأكباد ، ويُذهل العقول ، ويخرب العواطف ، ويُحيِّر الحليم والعليم ..
والحياة بأوسع مجالاتها ، دوامات ومتاهات وانحرافات خطيرة ، تهوي بالبشر في مكان سحيق ، وتُطوِّح بهم في خنادق النار والعار والدمار ..
أضف إلى كل ذلك ، صراع العقائد ، وصدام الحضارات ، بين الشرق والغرب ، أو بين الشمال والجنوب ، أو بين الغرب الأوروبي وأمة العروبة والإسلام ، حيث كانوا لنا مفرقين ومستعمرين ومحاربين ومعتدين ، وما زالوا حتى الآن يشنون علينا حرباً لا هوادة فيها ، ويجيئوننا تحت كل راية غاية ، مدجَّجين ومهاجمين ، ولما ظهروا علينا لم يَرقُبوا فينا إلَّاً ولا ذمة، ولم تأخذهم تُجاهَنا آصرة ولا رحمة ، ولم يكتفوا بذلك ، بل زرعوا في قلب وجودنا ، ذلك الجسم الطفيلي الغريب ، الذي يمنع ويحول دون أن يلتئم لنا شمل ، وتتوحد لنا كلمة ، ويكون لهذه الأمة موقف تضامني فاعل في هذا الوجود ، الذي العدل فيه مفقود ..
ضرورات النزول ومسوِّغاته :
فنزول ذلك الإنسان ، سوف يلغي كثيراً من القناعات التي مضت عليها القرون ، ويُُحْدث في الأرض قناعات جديدة وبركات، قد تبدو الآن شبه مستحيلة..
نزول المسيح ، أعظم تحول في تاريخ آخر الزمن ، حيث يُصَدَّق قوله تعالى: ((وما قتلوه وما صلبوه)) ..
إن الحرب الاستعمارية ، والهجمة الصليبية القديمة والحديثة، التي شنها ويشنها علينا أعداء الله والحياة ، وأعداء أنفسهم ، هي التي فرضت وجودها على هذا العالم ، وأحدثت فيه انقسامات ، لا يرأب صَدْعها ..
ومن المستحيل الخروجُ من تحت ركامها ، والوصولُ إلى كلمة سواء بيننا وبينهم ..
ولدى التدقيق وإنعام النظر ، في هذه القضية ، تلوح لنا حكمة الخالق العظيم، الذي ادخر هذا الإنسان ، ليقوم بأعظم رتْق وجمع في آخر الزمان ، حيث يوحِّد الموقف والدين ، وتضع الحرب أوزارها ..
إذ تبدو الأمور الآن ، وكأنه لا عودة ، ولا مَن يمتلك ناصية التغيير والإغاثة, ومن المستحيل إحداث تغيير جذري ، في بنية العالم الإنسان ، و مآلاته الفاضحة ، وغير الفالحة ..
بالنسبة لنا ، ليس لدينا مشكلة في التعامل مع الآخرين وسوانا من خلق الله ، على قدم التكافؤ والاحترام والمساواة ، والتعاون المثمر والبنَّاء .. ولكن المشكلة الحقيقية ، المفعمة تعقيداً ورسوخاً ، التي لا تبدو أنها قابلة للحل والتجاوز ، هي في غطرسة الغرب الأوروبي والأمريكي ، وشعوره بالتفوق العرقي والعنصري واعتزازه بفرط القوة الطاغية ، واعتبارنا عنده غنائمَ حرب، وأُسارى ومرتهنين ، ومخلفات من الرجعية والتخلف ، وأننا لا نستحق الحياة إلا بقدْر خدمة مصالحه ، وتحقيق مطامعه ، ونهبنا وسلبنا ، واجتياح هويتنا ووجودنا ..
بيد أن المسيح الذي ينتسب إليه المسيحيون في الغرب الأوروبي والأمريكي ، هو الكفيل بإفهامهم وإرغامهم ، على أن الحقيقة المطلقة ، هي غير ما يعتقدون ويفكرون ويعملون ..
على حد قول الله تبارك وتعالى :(( وشهد شاهد من أهلها )) وقوله تعالى:(( وشهد شاهد من بني إسرائيل )) .
إننا لا ننكر أن المسيح سوف يأتي مبعوثَ الحضرة الإلهية النبوية ، ليغيث هذه الأمة ، وكل المؤمنين بالله في الأرض ، وليعيد الأمور إلى نصابها ومجاريها ، بعد أن آلت أوضاع هذه الحياة ، على ظهر هذا الكوكب المنكوب المغلوب ، إلى طرق مسدودة ، وعقد مستعصية ، وكراهية بين البشر ، وفردية وأنانية ، لم نعهد بمثلها ولا قريب منها في الغابرين ..
أعظم شاهد على العصر :
إن المسيح هو أعظم شاهد على العصر حقاً ، وهو أعظم من كل الشهود ، ولن ينطق إلا بالحق الذي طال عليه ليل الإظلام والتعتيم ..
لأنه مدعَّم بأدلة وثبوتيات وحيثيات ، لم تتوفر لكل الشهداء على هذا العصر ، لأن شهادته عملية إجرائية ، وشهادة أولئك : نظرية مبتورة ومجتزأة ومتقاصرة ..
وإن شهادة المسيح ، غير قابلة للرد والنقض والرفض ، حتى من أشد خصومنا اليوم وظالمينا ..
فالحقيقة سوف تفاجئهم وتُذهلهم ، وتنتزع منهم كل ما يقال ويُدَّعى ، من أوراق هذه اللعبة اللعينة والقذرة ، وتجعلهم لا يُحيرون جواباً، إلا أن يُذعنوا ويؤمنوا ، ويسلموا بالحق ، وسطوع الشمس ، ورائعة الضياء الباهر ..
وبالتالي يكتشفون أنهم كانوا مخدوعين ومخادعين ، ويتخلون عن كل ثوابتهم المزعومة ، وعقائدهم الموهومة ، وأنهم كانوا كاذبين!.
نزول وقدر إلهي :
نزول المسيح وعودته ، ليست قضية مُتْرفة ولا واغلة ولا متطفلة ، وليست لحسابات كهنوتية وعنصرية ، وإنما هي قدَر مقدور ومقدَّر أزلاً ، اقتضته ضرورات ما مر مثلها في التاريخ ، وبدونها سوف يظل هذا العالَم ، يتخبط في هذا الترنح الكبير والمبير ..
وسيظل الذين أعلنوا عليه الحرب والعداوة ، قبل ألفْي عام ، يفسدون في الأرض ، ويدمرون الكوكب ، ويُكذِّبون الحضرة الإلهية , بقولهم (( إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم )) .
سبحان الله العظيم .. أعظم أكذوبة في التاريخ ، عمرها عشرون قرناً ، هي التي صبغت العالَم ، وزلزلته زلزالاً شديداً ، وتحكمت بمصائر أقوامه وشعوبه حتى اليوم، وأججت حروباً طاحنة متواترة ، وأسالت الدماء البشرية أنهاراً ، وتمخضت عن أحداث وتحولات وتواريخ ، ليس لها من سند ولا مبرر ، إلا تلك الأكذوبة الفجة ..
وقد أحالت كوكب الأرض ، إلى طواعينَ وسجون ، ومقابرَ جماعيةٍ لا نهاية لها .. وعذاباتٍ من كل لون ونوع ..
وإلى اليوم ، ورغم ما توصل إليه البشر ، من سرعة الصوت والضوء ، والأقمار الصناعية العملاقة ، والمراكب الفضائية الهائمة ، والمخترعات الهائمة ، والاتصالات والانجازات ، التي يعجز العقل عن تصورها ومداها ، فإنه ما زالت الأساطير والخرافات والأكاذيب ، والمزاعم الساقطة ، تهيمن على هذا العالم ، وتحركه في كل اتجاه ، وتسوقه إلى مسالخ الذبح والجريمة والجنون ، وهيستيريا الأحلام والأوهام ، وتفجير بحر المآسي والفواجع والنكبات ، والأوجاع والآلام ..
إن فضح هذه الأكذوبة التاريخية العالمية ، هو الذي يتكفل نزول المسيح به ، ووقفِ طوفان ما بُني عليه ، ومال آل إليه ..
وختاماً ، فمن ذا الذي يمتلك القدرة على الفصل في كل هذا الواقع الذميم والجسيم ، والمعتَّق منذ الأجيال والقرون ، ولا تزيده الأيام ، إلا كالنار اتِّقاداً واشتعالاً ؟.
لعلي بذلك أكون قد أزحت الستار ، عن جدوى ومصداقية المسيح في عودته ونزوله ، وإنجاز ما عجزت عنه القارات والمعسكرات ، وكبرى التحكم والرئاسات ، بل كانت هي الوقودَ ، لحرب الصدام والخصام والعداوات ..
ولعلي أكون أيضاً ، قد زففت البشرى الأعظم ، إلى هذا العالَم المتهدم ، الذي تحركه الأصابع الخفية ، ولصوص الفلسفة الميكيافيلية ، وأن المسيح مات على الصليب !!
تتمة ..وتمام المعنى :
يتحدث القرآن المجيد ، عن قضية جوهرية ، هي الأساس في كل ما ذُكر آنفاً ، وهي أن السيد المسيح ، لم يمت بعدُ ، وأنه رُفع إلى السماء حياً بجسده وروحه ، وصُلب بالنيابة عنه ، الذي شُبِّه لهم ، وهو إما الذي خانه ، أو الذي افتداه ..
ومن أجل التحقق من ذلك ، سوف ينزل ويعيش بقية عمره المقدر له ، ثم يموت كما مات الصالحون من قبله ..
ولكن قبل موته ، هناك إيمان به من نوع آخر ، غير الذي عرف به في التاريخ..
فالذين أحبوا المسيح ، وانتسبوا إليه ، وغالوْا في هذا الحب ، وفرَّطوا بالتعاليم والبشارة التي جاء بها ، في حياته الأولى ..
هؤلاء سوف يؤمنون من جديد ، بالمسيح المبارك ، على أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروحٌ منه ..
وإيمانهم الجديد هذا ، سوف يقودهم إلى الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم - ويحبونه حباً جماً ، ويشهدون أن
لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ..
وبذلك يصبح المسلمون والمسيحيون أمة واحدة ، ذات عقيدة واحدة ، وهذا ما سيؤدي بالطبع ، إلى توحيد العالم الإنساني ، وإنهاء تعدد الأديان والعقائد ، وتضع الحرب أوزارها ، ويطفئ الله نارها ..
يقول سبحانه :(( وإنْ من أهل الكتاب إلَّا لَيؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً )) . صدق الله العظيم .
خاتمة وختام :
لقد جاء هذا النبي والرسول ، بمعجزات لم يأت بها نبي من قبل ، إلى درجة أنه دعي آلهاً تجسَّد وتأنَّس ، وانتهت الرسالة الإلهية بنهايته ، ولا حاجة بعده لنبي آخر..
وحُرِّفت بشارة الإنجيل بأحمد ومحمد ، وأنها ليست لخاتم النبيين .. ثم كانت نهاية المسيح ، كما هو شائع في العالم ، رغم أن القرآن المجيد ، ينفي ذلك ، ويُتلى آناء الليل والنهار ..
فهل من المنطقي والمعقول ، أن تُطوى هذه الصفحة بتلك البساطة ، وأن يذهب دم المسيح هدراً ، دون أن يكون من حضرة العلي القدير ، تمحيص وكشف ، وتظهر الحقيقة المطلقة ، وتفنى كل المزاعم الرائجة ، التي اصطنعها اليهود ، أعداء المسيح ، الذين كانوا ضحية وهم كبير ، فعَميت عليهم الأنباء ، واشتبهت لديهم الأمور؟!.
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ، لن يترك الأمر يذهب سدىً ، وتكون لإبليس اللعين ، خاتمة الصدق والتصديق ، فيما راج عبر القرون ، بل لا بد من أن يُصَدَّق الرحمن ، أي يظهر صدقه للعيان ، ويُكذَّب الشيطان ، وحزبه الخاسرون ، ولا تتم هذه الإرادة والمعطيات ، إلا بنزول ذلك الإنسان ، وظهوره شخصياً بلحمه ودمه ، فيخاطب البشر بالحق الأبلج ، ولا تقوم الساعة ، وتنتهي الحياة ، إلا وقد حصحص الحق ، وانهارت دنيا الأكاذيب والأساطير والترهات ، وتداعى تاريخ الإفك والظلم ، وثبت الحق والصدق ، لبارئ الأرض والسمـوات ..
ولاية محمدية :
يقول سيدنا رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم :(( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم )) . رواه أبو داود وأحمد ..
هذه الولاية المحمدية ، تعطي السيد المسيح ، ميزة عزيزة المنال ، ليست لغيره وسواه ، من الأنبياء والمرسلين ، وكان عيسى شديد الحب والتقدير والأدب والاحترام ، لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : خاتم النبيين..
فرسول الله عليه صلى الله ، هو أولى وأخص وألصق بعيسى ، من أمه التي حملته وولدته ، ومن حوارييه ، ومن كل أتباعه ومحبيه ، إلى يوم الدين .. وبذلك قضي الأمر من الله ..
وكأن نبيَّ الإسلام ، يحتضن المسيح ، ويضمه إليه ، في جنان ومودة ، ونُصرة كريمة ، بعد أن ضاع في خضم الاتهامات الباطلة ، ويدفع عنه قالة السوء ، التي أُقحمت فيه ، من قبل أعدائه اللدودين الجاحدين ..
فهو عند هؤلاء : دجال وساحر ، وطالب ملك ، ومحرض على الفتنة ، ومجدِّف على الشريعة ، ومخالف تعاليمها ، ومصرح بأن إسماعيل هو الذبيح ، وليس إسحق .. ومبشر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ..
فكون المسيح تحت الولاية المحمدية المباشرة ، يعطيه الحق لأن تكون له تلك القيمة الغالية ، ويرشحه للتدخل في حياة الأمة ، وردها إلى دينها ، وإحياءِ منهج نبيها، واتباع طريقة الخلفاء الراشدين ، وكبار الصحابة والتابعين ..
والرسول عليه الصلاة والسلام ، بقوله ذاك : قد وضع المسيح المبارك ، في الإطار الصحيح ، وجعله واحداً من أهل البيت المحمدي ، وحينما ينزل يصلي خلف المهديِّ : آخرِ الأئمة وخاتمهم ، ويتعاونان في وضع الأسس ، للإصلاح العالمي العام ، ونشر ألوية الحب والسلام ..
هذه المقالة ، تفسير وبيان ، واقعي ومنطقي ، للوعد الموعود، ألا وهو : نزول السيد المسيح عليه السلام ، من السماء التي رفع فيها ، إلى الأرض التي وُعد بالعودة إليها ، ليقوم عملياً وعلى مشهد من العالم ، بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي بشر به كثيراً ، ولينصره فعلاً وقولاً وإرادةً ، وليعليَ من شأن رسالته في الكون من جديد ، وذلك في آخر الزمن العائد والمستعيد ..
نيابة عن كل النيين ، الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والنبوة ، وتحقيقاً وتطبيقاً لقوله تبارك وتعالى : (( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لماَ أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمننَّ به ولَتنصرنَّـه قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا : أقررنا قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين )) ..
إنه نزول لوفاء وإقرار واستقرار ... والله سبحانه وتعالى أعلم.
بقلم الشيخ عبد الرحمن العيسى