المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إعلان كتاب :(( زاد المعاد في هدي خير العباد )) لأبن قيم الجوزية (مفرغ)



اخت مسلمة
04-08-2009, 11:41 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ولا إله إلا الله إله الأولين والآخرين وقيوم السموات والأرضين ومالك يوم الدين الذي لا فوز إلا في طاعته ولا عز إلا في التذلل لعظمته ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره ولا حياة إلا في رضاه ولا نعيم إلا في قربه ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه الذي إذا أطيع شكر وإذا عصي تاب وغفر وإذا دعي أجاب وإذا عومل أثاب .

والحمد لله الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته وأقرت له بالإلهية جميع مصنوعاته وشهدت بأنه الله الذي لا إله إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته وبدائع آياته وسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .

ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلهيته كما لا شريك له في ربوبيته ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا وسبحان من سبحت له السموات وأملاكها والنجوم وأفلاكها والأرض وسكانها والبحار وحيتانها والنجوم والجبال والشجر والدواب والآكام والرمال وكل رطب ويابس وكل حي وميت تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا [ الإسراء : 44 ]
[ لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن الشهادتين ]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت بها الأرض والسموات وخلقت لأجلها جميع المخلوقات وبها أرسل الله تعالى رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين وقام سوق الجنة والنار وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار والأبرار والفجار فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب وهي الحق الذي خلقت له الخليقة وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب وعليها يقع الثواب والعقاب وعليها نصبت القبلة وعليها أسست الملة ولأجلها جردت سيوف الجهاد وهي حق الله على جميع العباد فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام وعنها يسأل الأولون والآخرون فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ فجواب الأولى بتحقيق " لا إله إلا الله " معرفة وإقرارا وعملا .
وجواب الثانية بتحقيق " أن محمدا رسول الله " معرفة وإقرارا وانقيادا وطاعة .


[ افترض على العباد طاعة الرسول ]

[ شرح آية حسبك الله ومن اتبعك ]


وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه وسفيره بينه وبين عباده المبعوث بالدين القويم والمنهج المستقيم أرسله الله رحمة للعالمين وإماما للمتقين وحجة على الخلائق أجمعين .

أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته وتعزيره وتوقيره ومحبته والقيام بحقوقه وسد دون جنته الطرق فلن تفتح لأحد إلا من طريقه فشرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره .

ففي " المسند " من حديث أبي منيب الجرشي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم وكما أن الذلة مضروبة على من خالف أمره فالعزة لأهل طاعته ومتابعته قال الله سبحانه ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ آل عمران 139 ] .

وقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ المنافقون 8 ] . وقال تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم [ محمد : 35 ] . وقال تعالى : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ الأنفال 64 ] .

أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد . وهنا تقديران أحدهما : أن تكون الواو عاطفة ل " من " على الكاف المجرورة ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية .

والثاني : أن تكون الواو واو " مع " وتكون " من " في محل نصب عطفا على الموضع " فإن حسبك " في معنى " كافيك " أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب : حسبك وزيدا درهم قال الشاعر

إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا

فحسبك والضحاك سيف مهند


وهذا أصح التقديرين .

وفيها تقدير ثالث أن تكون " من " في موضع رفع بالابتداء أي ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله .

[ الفرق بين الحسب والتأييد ]

وفيها تقدير رابع وهو خطأ من جهة المعنى وهو أن تكون " من " في موضع رفع عطفا على اسم الله ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك وهذا وإن قاله بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن " الحسب " و " الكفاية " لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة قال الله تعالى : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين [ الأنفال 62 ] . ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [ آل عمران 173 ] . ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله الله وأتباعك حسبك وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله ؟ هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ونظير هذا قوله تعالى : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون [ التوبة 59 ] .

فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه [ الحشر 59 ] . وجعل الحسب له وحده فلم يقل وقالوا : حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال تعالى : إنا إلى الله راغبون [ التوبة 59 ] . ولم يقل وإلى رسوله بل جعل الرغبة إليه وحده كما قال تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب [ الانشراح 87 ] .

فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى . ونظير هذا قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده [ الزمر 36 ] . فالحسب هو الكافي فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر هاهنا .

والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته وجعل شقاوة الدارين في مخالفته فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة .

وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأن لا يؤمن أحدكم حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وأقسم الله سبحانه بأن لا يؤمن من لا يحكمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ثم يرضى بحكمه ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به ثم يسلم له تسليما وينقاد له انقيادا .

وقال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ الأحزاب 36 ] . فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله فليس لمؤمن أن يختار شيئا بعد أمره صلى الله عليه وسلم بل إذا أمر فأمره حتم وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع لا واجب الاتباع فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه بل غايته أنه يسوغ له اتباعه ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصيا لله ورسوله .

فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ويحرم عليهم مخالفته ويجب عليهم ترك كل قول لقوله ؟ فلا حكم لأحد معه ولا قول لأحد معه كما لا تشريع لأحد معه وكل من سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به ونهى عما نهى عنه فكان مبلغا محضا ومخبرا لا منشئا ومؤسسا فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة قبلت حينئذ وإن خالفته وجب ردها واطراحها فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه وأما أنه يجب ويتعين فكلا ولما.

[ المراد بالاختيار في وربك يخلق ما يشاء ويختار هو الاصطفاء ]

وبعد فإن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات قال الله تعالى: وربك يخلق ما يشاء ويختار [ القصص 68 ] .

وليس المراد هاهنا بالاختيار الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار - وهو سبحانه - كذلك ولكن ليس المراد بالاختيار هاهنا هذا المعنى وهذا الاختيار داخل في قوله يخلق ما يشاء فإنه لا يخلق إلا باختياره وداخل في قوله تعالى : ما يشاء فإن المشيئة هي الاختيار وإنما المراد بالاختيار هاهنا : الاجتباء والاصطفاء فهو اختيار بعد الخلق والاختيار العام اختيار قبل الخلق فهو أعم وأسبق وهذا أخص وهو متأخر فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق .

وأصح القولين أن الوقف التام على قوله ويختار.

[ ما في ما كان لهم الخيرة للنفي ]

ويكون ما كان لهم الخيرة نفيا أي ليس هذا الاختيار إليهم بل هو إلى الخالق وحده فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه فليس لأحد أن يخلق ولا أن يختار سواه فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحال رضاه وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه .

[ الرد على من قال إن ما موصولة وهي مفعول ويختار ]

وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل إلى أن " ما " في قوله تعالى : ما كان لهم الخيرة موصولة وهي مفعول " ويختار " أي ويختار الذي لهم الخيرة وهذا باطل من وجوه .

أحدها : أن الصلة حينئذ تخلو من العائد لأن " الخيرة " مرفوع بأنه اسم " كان " والخبر " لهم " فيصير المعنى : ويختار الأمر الذي كان الخيرة لهم وهذا التركيب محال من القول . فإن قيل يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفا ويكون التقدير ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه أي ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره .

قيل هذا يفسد من وجه آخر وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله مع اتحاد المعنى نحو قوله تعالى: يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون [ المؤمنون 33 ] ونظائره ولا يجوز أن يقال جاءني الذي مررت ورأيت الذي رغبت ونحوه .

الثاني : أنه لو أريد هذا المعنى لنصب " الخيرة " وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول فكأنه يقول ويختار ما كان لهم الخيرة أي الذي كان هو عين الخيرة لهم وهذا لم يقرأ به أحد البتة مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير .

الثالث أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن تكون الخيرة لهم ثم ينفي هذا سبحانه عنهم ويبين تفرده هو بالاختيار كما قال تعالى وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون [ الزخرف 32 . 31 ] فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه وأخبر أن ذلك ليس إليهم بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار ومن يصلح له ممن لا يصلح وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل فهو القاسم ذلك وحده لا غيره وهكذا هذه الآية بين فيها انفراده بالخلق والاختيار وأنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره كما قال تعالى: وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته [ الأنعام 124 ] أي الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره .

الرابع أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون [ القصص 68 ] ولم يكن شركهم مقتضيا لإثبات خالق سواه حتى نزه نفسه عنه فتأمله فإنه في غاية اللطف .

الخامس أن هذا نظير قوله تعالى في [ الحج 73 - 76 ] : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ثم قال الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور

وهذا نظير قوله في [ القصص 69 ] وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ونظير قوله في [ الأنعام 124 ] الله أعلم حيث يجعل رسالته فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محال اختياره بما خصصها به لعلمه بأنها تصلح له دون غيرها فتدبر السياق في هذه الآيات تجده متضمنا لهذا المعنى زائدا عليه والله أعلم .

السادس أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار [ القصص 65 - 68 ] فكما خلقهم وحده سبحانه اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا فكانوا صفوته من عباده وخيرته من خلقه وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه سبحانه لمن هو أهل له لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم فسبحان الله وتعالى عما يشركون .



فصل [ الاختيار دال على ربوبيته سبحانه ]
وإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته وأنه الله الذي لا إله إلا هو فلا شريك له يخلق كخلقه ويختار كاختياره ويدبر كتدبيره فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته وأكبر شواهد وحدانيته وصفات كماله وصدق رسله فنشير منه إلى يسير يكون منبها على ما وراءه دالا على ما سواه .

فخلق الله السموات سبعا فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه وأسكنها من شاء من خلقه فلها مزية وفضل على سائر السموات ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى .

وهذا التفضيل والتخصيص مع تساوي مادة السموات من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاء ويختار

ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها وفي بعض الآثار " إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه " .

ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم على سائرهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم واصطفائهم وقربهم من الله وكم من ملك غيرهم في السموات فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة . فجبريل صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح وميكائيل صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات وأخرجتهم من قبورهم .

[ بيان الاختيار من البشر ]

وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا واختياره الرسل منهم وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد وابن حبان في " صحيحه " واختياره أولي العزم منهم وهم خمسة المذكورون في سورة الأحزاب والشورى في قوله تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم [ الأحزاب 7 ] وقال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ الشورى : 13 ] واختار منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وآلهما وسلم . ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة ثم اختار من ولد كنانة قريشا ثم اختار من قريش بني هاشم ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم

وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين واختار منهم السابقين الأولين واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان واختار لهم من الدين أكمله ومن الشرائع أفضلها ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها .

واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم كما في " مسند الإمام أحمد " وغيره من حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله

قال علي بن المديني وأحمد حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح . وظهر أثر هذا الاختيار في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدهم ومنازلهم في الجنة ومقاماتهم في الموقف فإنهم أعلى من الناس على تل فوقهم يشرفون عليهم وفي الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم قال الترمذي : هذا حديث حسن.

والذي في " الصحيح " من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث النار والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة ولم يزد على ذلك . فإما أن يقال هذا أصح وإما أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة فأعلمه ربه فقال إنهم ثمانون صفا من مائة وعشرين صفا فلا تنافي بين الحديثين والله أعلم .

ومن تفضيل الله لأمته واختياره لها أنه وهبها من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها وفي " مسند البزار " وغيره من حديث أبي الدرداء قال سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى قال لعيسى ابن مريم : إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ولا حلم ولا علم قال يا رب كيف هذا ولا حلم ولا علم ؟ قال أعطيهم من حلمي وعلمي



[ اختيار البلد الحرام وبيان خصائصه ]

ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم وجعله مناسك لعباده وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين كاشفي رءوسهم متجردين عن لباس أهل الدنيا.
وجعله حرما آمنا لا يسفك فيه دم ولا تعضد به شجرة ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه ولا تلتقط لقطته للتمليك بل للتعريف ليس إلا وجعل قصده مكفرا لما سلف من الذنوب ماحيا للأوزار حاطا للخطايا كما في " الصحيحين " عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ولم يرض لقاصده من الثواب دون الجنة ففي " السنن " من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده وأحبها إليه ومختاره من البلاد لما جعل عرصاتها مناسك لعباده فرض عليهم قصدها وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه فقال تعالى : وهذا البلد الأمين [ التين 3 ] وقال تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ البلد 1 ] وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها والطواف بالبيت الذي فيها غيرها وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني .

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ففي " سنن النسائي " و " المسند " بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة ورواه ابن حبان في " صحيحه " وهذا صريح في أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق ولذلك كان شد الرحال إليه فرضا ولغيره مما يستحب ولا يجب وفي " المسند " والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح . بل ومن خصائصها كونها قبلة لأهل الأرض كلهم فليس على وجه الأرض قبلة غيرها.

[ ترجيح المصنف تحريم استقبال البلد الحرام واستدباره عند قضاء الحاجة حتى في البنيان ]

ومن خواصها أيضا أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض . وأصح المذاهب في هذه المسألة أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان لبضعة عشر دليلا قد ذكرت في غير هذا الموضع وليس مع المفرق ما يقاومها البتة مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان وليس هذا موضع استيفاء الحجاج من الطرفين .

[ المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض ]

ومن خواصها أيضا أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض كما في " الصحيحين " عن أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض ؟ فقال المسجد الحرام قلت ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما ؟ قال أربعون عاما وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به فقال معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام وهذا من جهل هذا القائل فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار ومما يدل على تفضيلها أن الله تعالى أخبر أنها أم القرى فالقرى كلها تبع لها وفرع عليها وهي أصل القرى فيجب ألا يكون لها في القرى عديل فهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ( الفاتحة أنها أم القرآن ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عديل .

[ اختلاف العلماء في جواز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة بغير إحرام ]

ومن خصائصها أنها لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام وهذه خاصية لا يشاركها فيها شيء من البلاد وهذه المسألة تلقاها الناس عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روي عن ابن عباس بإسناد لا يحتج به مرفوعا لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام من أهلها ومن غير أهلها ذكره أبو أحمد بن عدي ولكن الحجاج بن أرطاة في الطريق وآخر قبله من الضعفاء .

وللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال النفي والإثبات والفرق بين من هو داخل المواقيت ومن هو قبلها فمن قبلها لا يجاوزها إلا بإحرام ومن هو داخلها فحكمه حكم أهل مكة وهو قول أبي حنيفة والقولان الأولان للشافعي وأحمد .

[ المعاقبة فيه على الهم بالسيئات ]

ومن خواصه أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها قال تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج 25 ] فتأمل كيف عدى فعل الإرادة هاهنا بالباء ولا يقال أردت بكذا إلا لما ضمن معنى فعل " هم " فإنه يقال هممت بكذا فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم .

[ مضاعفة مقادير السيئات فيه ]

ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها فإن السيئة جزاؤها سيئة لكن سيئة كبيرة جزاؤها مثلها وصغيرة جزاؤها مثلها فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات والله أعلم .

[ انجذاب الأفئدة إلى البلد الحرام ]

وقد ظهر سر هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل


محاسنه هيولى كل حسن

ومغناطيس أفئدة الرجال


ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس أي يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ولا يقضون منه وطرا بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا .


لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها

حتى يعود إليها الطرف مشتاقا


فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ورضى المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان مقدما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاق وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ويراه - لو ظهر سلطان المحبة في قلبه - أطيب من نعم المتحلية وترفهم ولذاتهم


وليس محبا من يعد شقاؤه

عذابا إذا ما كان يرضى حبيبه


وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله وطهر بيتي [ الحج 26 ] فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه فله من المزية والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاء والاجتباء ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلا آخر وتخصيصا وجلالة زائدا على ما كان له قبل الإضافة ولم يوفق لفهم هذا المعنى من سوى بين الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن وزعم أنه لا مزية لشيء منها على شيء وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجها قد ذكرت في غير هذا الموضع ويكفي تصور هذا المذهب الباطل في فساده فإن مذهبنا يقتضي أن تكون ذوات الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها وكذلك نفس البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بقعة مزية البتة وإنما هو لما يقع فيها من الأعمال الصالحة فلا مزية لبقعة البيت والمسجد الحرام ومنى وعرفة والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض وإنما التفضيل باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعود إليها ولا إلى وصف قائم بها والله سبحانه وتعالى قد رد هذا القول الباطل بقوله تعالى : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله قال الله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ الأنعام 124 ] أي ليس كل أحد أهلا ولا صالحا لتحمل رسالته بل لها محال مخصوصة لا تليق إلا بها ولا تصلح إلا لها والله أعلم بهذه المحال منكم .

ولو كانت الذوات متساوية كما قال هؤلاء لم يكن في ذلك رد عليهم وكذلك قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين [ الأنعام 53 ] أي هو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمته فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره فليس كل محل يصلح لشكره واحتمال منته والتخصيص بكرامته .

فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها ولأجلها اصطفاها الله وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات وخصها بالاختيار فهذا خلقه وهذا اختياره وربك يخلق ما يشاء ويختار [ القصص 67 ] وما أبين بطلان رأي يقضي بأن مكان البيت الحرام مساو لسائر الأمكنة وذات الحجر الأسود مساوية لسائر حجارة الأرض وذات رسول الله صلى الله عليه وسلم مساوية لذات غيره وإنما التفضيل في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها وهذه الأقاويل وأمثالها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة ونسبوها إليها وهي بريئة منها وليس معهم أكثر من اشتراك الذوات في أمر عام وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة لأن المختلفات قد تشترك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية وما سوى الله تعالى بين ذات المسك وذات البول أبدا ولا بين ذات الماء وذات النار أبدا والتفاوت البين بين الأمكنة الشريفة وأضدادها والذوات الفاضلة وأضدادها أعظم من هذا التفاوت بكثير فبين ذات موسى عليه السلام وذات فرعون من التفاوت أعظم مما بين المسك والرجيع وكذلك التفاوت بين نفس الكعبة وبين بيت السلطان أعظم من هذا التفاوت أيضا بكثير فكيف تجعل البقعتان سواء في الحقيقة والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات ؟ ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول وإنما قصدنا تصويره وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكم ولا يعبأ الله وعباده بغيره شيئا والله سبحانه لا يخصص شيئا ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه فهو الذي خلقه ثم اختاره بعد خلقه وربك يخلق ما يشاء ويختار


[ التفضيل بين الأزمنة ]

ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض فخير الأيام عند الله يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر كما في " السنن " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر

وقيل يوم عرفة أفضل منه وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي قالوا : لأنه يوم الحج الأكبر وصيامه يكفر سنتين وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة ولأنه سبحانه وتعالى يدنو فيه من عباده ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف .

والصواب القول الأول لأن الحديث الدال على ذلك لا يعارضه شيء يقاومه والصواب أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر لقوله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر [ التوبة 3 ] وثبت في " الصحيحين " أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة .

وفي " سنن أبي داود " بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الحج الأكبر يوم النحر وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقالة ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ثم أذن لهم ربهم يوم النحر في زيارته والدخول عليه إلى بيته ولهذا كان فيه ذبح القرابين وحلق الرءوس ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم .

وكذلك تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام فإن أيامه أفضل الأيام عند الله وقد ثبت في " صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله والفجر وليال عشر [ الفجر 12 ] ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد ونسبتها إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع .

ومن ذلك تفضيل شهر رمضان على سائر الشهور وتفضيل عشره الأخير على سائر الليالي وتفضيل ليلة القدر على ألف شهر . فإن قلت : أي العشرين أفضل ؟ عشر ذي الحجة أو العشر الأخير من رمضان ؟ وأي الليلتين أفضل ؟ ليلة القدر أو ليلة الإسراء ؟

[ المفاضلة بين عشر ليلة القدر وعشر ذي الحجة ]

قلت : أما السؤال الأول فالصواب فيه أن يقال ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر وهي من الليالي وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه إذ فيه يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية .
يتبع ..

اخت مسلمة
04-08-2009, 11:46 PM
[ جواب ابن تيمية عن التفضيل بين ليلتي القدر والإسراء ]

وأما السؤال الثاني فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل قال ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر وقال آخر بل ليلة القدر أفضل فأيهما المصيب ؟

فأجاب الحمد لله أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر فإن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين وهو معلوم الفساد بالاطراد من دين الإسلام . هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا على عشرها ولا على عينها بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ليس فيها ما يقطع به ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره بخلاف ليلة القدر فإنه قد ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان

وفي " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر وأنه أنزل فيها القرآن .

وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة فهذا صحيح وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة .

هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه بها . والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمور ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها لا سيما على ليلة القدر ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا الزمان بشيء ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات كيوم الميلاد ويوم التعميد وغير ذلك من أحواله .

وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعة يتبادرون مكانا يصلون فيه فقال ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا فمن أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض

وقد قال بعض الناس إن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له .

[ المفاضلة بين يومي الجمعة وعرفة ]

فإن قيل فأيهما أفضل يوم الجمعة أو يوم عرفة ؟ فقد روى ابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة وفيه أيضا حديث أوس بن أوس خير يوم طلعت عليه الشمس يوم
الجمعة

[ مزية وقفة الجمعة يوم عرفة ]

قيل قد ذهب بعض العلماء إلى تفضيل يوم الجمعة على يوم عرفة محتجا بهذا الحديث وحكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد أن ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر

والصواب أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام وكذلك ليلة القدر وليلة الجمعة ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام من وجوه متعددة . أحدها : اجتماع اليومين اللذين هما أفضل الأيام .

الثاني : أنه اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة وأكثر الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع .

الثالث موافقته ليوم وقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الرابع أن فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة ويوافق ذلك اجتماع أهل عرفة يوم عرفة بعرفة فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه .
عرفة يوم عرفة بعرفة فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه .

الخامس أن يوم الجمعة يوم عيد ويوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة ولذلك كره لمن بعرفة صومه وفي النسائي عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة وفي إسناده نظر فإن مهدي بن حرب العبدي ليس بمعروف ومداره عليه ولكن ثبت في الصحيح من حديث أم الفضل " أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه

[ الحكمة في استحباب فطر يوم عرفة بعرفة ]

وقد اختلف في حكمة استحباب فطر يوم عرفة بعرفة فقالت طائفة ليتقوى على الدعاء وهذا هو قول الخرقي وغيره وقال غيرهم - منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة فلا يستحب صومه لهم قال والدليل عليه الحديث الذي في " السنن " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام

قال شيخنا : وإنما يكون يوم عرفة عيدا في حق أهل عرفة لاجتماعهم فيه بخلاف أهل الأمصار فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر فكان هو العيد في حقهم والمقصود أنه إذا اتفق يوم عرفة ويوم جمعة فقد اتفق عيدان معا .

السادس أنه موافق ليوم إكمال الله تعالى دينه لعباده المؤمنين وإتمام نعمته عليهم كما ثبت في " صحيح البخاري " عن طارق بن شهاب قال : جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين آية تقرءونها في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ونعلم ذلك اليوم الذي نزلت فيه لاتخذناه عيدا قال أي آية ؟ قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة 3 ] فقال عمر بن الخطاب : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم جمعة ونحن واقفون معه بعرفة

السابع أنه موافق ليوم الجمع الأكبر والموقف الأعظم يوم القيامة فإن القيامة تقوم يوم الجمعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى لعباده يوما يجتمعون فيه فيذكرون المبدأ والمعاد والجنة والنار وادخر الله تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة إذ فيه كان المبدأ وفيه المعاد ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره سورتي ( السجدة ) و ( هل أتى على الإنسان ) لاشتمالهما على ما كان وما يكون في هذا اليوم من خلق آدم وذكر المبدإ والمعاد ودخول الجنة والنار فكان يذكر الأمة في هذا اليوم بما كان فيه وما يكون فهكذا يتذكر الإنسان بأعظم مواقف الدنيا - وهو يوم عرفة - الموقف الأعظم بين يدي الرب سبحانه في هذا اليوم بعينه ولا يتنصف حتى يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم .

ا لثامن أن الطاعة الواقعة من المسلمين يوم الجمعة وليلة الجمعة أكثر منها في سائر الأيام حتى إن أكثر أهل الفجور يحترمون يوم الجمعة وليلته ويرون أن من تجرأ فيه على معاصي الله عز وجل عجل الله عقوبته ولم يمهله وهذا أمر قد استقر عندهم وعلموه بالتجارب وذلك لعظم اليوم وشرفه عند الله واختيار الله سبحانه له من بين سائر الأيام ولا ريب أن للوقفة فيه مزية على غيره .

التاسع أنه موافق ليوم المزيد في الجنة وهو اليوم الذي يجمع فيه أهل الجنة في واد أفيح وينصب لهم منابر من لؤلؤ ومنابر من ذهب ومنابر من زبرجد وياقوت على كثبان المسك فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى ويتجلى لهم فيرونه عيانا ويكون أسرعهم موافاة أعجلهم رواحا إلى المسجد وأقربهم منه أقربهم من الإمام فأهل الجنة مشتاقون إلى يوم المزيد فيها لما ينالون فيه من الكرامة وهو يوم جمعة فإذا وافق يوم عرفة كان له زيادة مزية واختصاص وفضل ليس لغيره .

العاشر أنه يدنو الرب تبارك وتعالى عشية يوم عرفة من أهل الموقف ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء أشهدكم أني قد غفرت لهم وتحصل مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعة الإجابة التي لا يرد فيها سائلا يسأل خيرا فيقربون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة ويقرب منهم تعالى نوعين من القرب أحدهما : قرب الإجابة المحققة في تلك الساعة والثاني : قربه الخاص من أهل عرفة ومباهاته بهم ملائكته فتستشعر قلوب أهل الإيمان هذه الأمور فتزداد قوة إلى قوتها وفرحا وسرورا وابتهاجا ورجاء لفضل ربها وكرمه فبهذه الوجوه وغيرها فضلت وقفة يوم الجمعة على غيرها

وأما ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين والله أعلم .


فصل [ خصائص الطيب من عباد الله ]
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى اختار من كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبه واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره فإنه تعالى طيب لا يحب إلا الطيب ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيب فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى.

وأما خلقه تعالى فعام للنوعين وبهذا يعلم عنوان سعادة العبد وشقاوته فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب ولا يرضى إلا به ولا يسكن إلا إليه ولا يطمئن قلبه إلا به فله من الكلام الكلم الطيب الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو وهو أشد شيء نفرة عن الفحش في المقال والتفحش في اللسان والبذاء والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور وكل كلام خبيث .

وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مع الشرائع النبوية وزكتها العقول الصحيحة فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ويؤثر مرضاته على هواه ويتحبب إليه جهده وطاقته ويحسن إلى خلقه ما استطاع فيفعل بهم ما يحب أن يفعلوا به ويعاملوه به ويدعهم مما يحب أن يدعوه منه وينصحهم بما ينصح به نفسه ويحكم لهم بما يحب أن يحكم له به ويحمل أذاهم ولا يحملهم أذاه ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بما نالوا من عرضه وإذا رأى لهم حسنا أذاعه وإذا رأى لهم سيئا كتمه ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة ولا يناقض لله أمرا ولا نهيا

وله أيضا من الأخلاق أطيبها وأزكاها كالحلم والوقار والسكينة والرحمة والصبر والوفاء وسهولة الجانب ولين العريكة والصدق وسلامة الصدر من الغل والغش والحقد والحسد والتواضع وخفض الجناح لأهل الإيمان والعزة والغلظة على أعداء الله وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله والعفة والشجاعة والسخاء والمروءة وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول .

وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها وهو الحلال الهنيء المريء الذي يغذي البدن والروح أحسن تغذية مع سلامة العبد من تبعته .

وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها ومن الرائحة إلا أطيبها وأزكاها ومن الأصحاب والعشراء إلا الطيبين منهم فروحه طيب وبدنه طيب وخلقه طيب وعمله طيب وكلامه طيب ومطعمه طيب ومشربه طيب وملبسه طيب ومنكحه طيب ومدخله طيب ومخرجه طيب ومنقلبه طيب ومثواه كله طيب .

فهذا ممن قال الله تعالى فيه الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل 32 ] ومن الذين يقول لهم خزنة الجنة سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ الزمر 72 ] وهذه الفاء تقتضي السببية أي بسبب طيبكم ادخلوها . وقال تعالى : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات [ النور 26 ]

وقد فسرت الآية بأن الكلمات الخبيثات للخبيثين والكلمات الطيبات للطيبين وفسرت بأن النساء الطيبات للرجال الطيبين والنساء الخبيثات للرجال الخبيثين وهي تعم ذلك وغيره فالكلمات والأعمال والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين والكلمات والأعمال والنساء الخبيثة لمناسبها من الخبيثين فالله سبحانه وتعالى جعل الطيب بحذافيره في الجنة وجعل الخبيث بحذافيره في النار فجعل الدور ثلاثة دارا أخلصت للطيبين وهي حرام على غير الطيبين وقد جمعت كل طيب وهي الجنة ودارا أخلصت للخبيث والخبائث ولا يدخلها إلا الخبيثون وهي النار ودارا امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما وهي هذه الدار ولهذا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هذا الامتزاج والاختلاط وذلك بموجب الحكمة الإلهية فإذا كان يوم معاد الخليقة ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم فعاد الأمر إلى دارين فقط الجنة وهي دار الطيبين والنار وهي دار الخبيثين وأنشأ الله تعالى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم فجعل طيبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هي عين نعيمهم ولذاتهم أنشأ لهم منها أكمل أسباب النعيم والسرور وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هي عين عذابهم وآلامهم فأنشأ لهم منها أعظم أسباب العقاب والآلام حكمة بالغة وعزة باهرة قاهرة ليري عباده كمال ربوبيته وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته وليعلم أعداؤه أنهم كانوا هم المفترين الكذابين لا رسله البررة الصادقون . قال الله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين [ النحل 38-39 ] .

والمقصود أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للسعادة والشقاوة عنوانا يعرفان به فالسعيد الطيب لا يليق به إلا طيب ولا يأتي إلا طيبا ولا يصدر منه إلا طيب ولا يلابس إلا طيبا والشقي الخبيث لا يليق به إلا الخبيث ولا يأتي إلا خبيثا ولا يصدر منه إلا الخبيث فالخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه والطيب يتفجر من قلبه الطيب على لسانه وجوارحه . وقد يكون في الشخص مادتان فأيهما غلب عليه كان من أهلها فإن أراد الله به خيرا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة فيوافيه يوم القيامة مطهرا فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح والحسنات الماحية والمصائب المكفرة حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ويمسك عن الآخر مواد التطهير فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه فيدخله النار طهرة له وتصفية وسبكا فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صلح حينئذ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده . وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها فأسرعهم زوالا وتطهيرا أسرعهم خروجا وأبطؤهم أبطؤهم خروجا جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد .

ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه بل لو خرج منها لعاد خبيثا كما كان كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه فلذلك حرم الله تعالى على المشرك الجنة .

ولما كان المؤمن الطيب المطيب مبرئا من الخبائث كانت النار حراما عليه إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ورب العالمين لا إله إلا هو .

فصل [ اضطرار العباد إلى معرفة الرسول ]
ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها والروح إلى حياتها فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير . وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال بل أعظم ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي

وما لجرح بميت إيلام


وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

فصل [ إشارة المصنف إلى تأليف هذا الكتاب في السفر مع تشتت القلب وفقد الكتاب ]

وهذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى همة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره مع البضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها أبواب السدد ولا يتنافس فيها المتنافسون مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة والقلب بكل واد منه شعبة والهمة قد تفرقت شذر مذر والكتاب مفقود ومن يفتح باب العلم لمذاكرته معدوم غير موجود فعود العلم النافع الكفيل بالسعادة قد أصبح ذاويا وربعه قد أوحش من أهله وعاد منهم خاليا فلسان العالم قد ملئ بالغلول مضاربة لغلبة الجاهلين وعادت موارد شفائه وهي معاطبه لكثرة المنحرفين والمحرفين فليس له معول إلا على الصبر الجميل وما له ناصر ولا معين إلا الله وحده وهو حسبنا ونعم الوكيل .


فصل في نسبه صلى الله عليه وسلم
وهو خير أهل الأرض نسبا على الإطلاق فلنسبه من الشرف أعلى ذروة وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم فأشرف القوم قومه وأشرف القبائل قبيلته وأشرف الأفخاذ فخذه .

فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضربن نزار بن معد بن عدنان

إلى هاهنا معلوم الصحة متفق عليه بين النسابين ولا خلاف فيه البتة وما فوق " عدنان " مختلف فيه . ولا خلاف بينهم أن " عدنان " من ولد إسماعيل عليه السلام وإسماعيل : هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

[ بطلان القول بأن الذبيح هو إسحاق ]

وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره وفي لفظ وحيده ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم اذبح ابنك إسحاق قال وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم لأنها تناقض قوله اذبح بكرك ووحيدك ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف وأحبوا أن يكون لهم وأن يسوقوه إليهم ويحتازوه لأنفسهم دون العرب ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله .

وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب فقال تعالى عن الملائكة إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ هود : 7071 ] فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه ولا ريب أن يعقوب رضي الله عنه داخل في البشارة فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد وهذا ظاهر الكلام وسياقه .

فإن قيل لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان " يعقوب " مجرورا عطفا على إسحاق فكانت القراءة ومن وراء إسحاق يعقوب أي ويعقوب من وراء إسحاق . قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به لأن البشارة قول مخصوص وهي أول خبر سار صادق .

وقوله تعالى : ومن وراء إسحاق يعقوب جملة متضمنة لهذه القيود فتكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية . ولما كانت البشارة قولا كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول كأن المعنى : وقلنا لها : من وراء إسحاق يعقوب والقائل إذا قال بشرت فلانا بقدوم أخيه وثقله في أثره لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعا . هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة ثم يضعف الجر أمر آخر وهو ضعف قولك : مررت بزيد ومن بعده عمرو ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجر فلا يفصل بينه وبين المجرور كما لا يفصل بين حرف الجر والمجرور . ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة ( الصافات ) قال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين [ الصافات 103 - 111 ] . ثم قال تعالى : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ الصافات 112 ] .

فهذه بشارة من الله تعالى له شكرا على صبره على ما أمر به وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول بل هو كالنص فيه .

فإن قيل فالبشارة الثانية وقعت على نبوته أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة .

قيل البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده وأن يكون نبيا ولهذا نصب " نبيا " على الحال المقدر أي مقدرا نبوته فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة هذا محال من الكلام بل إذا وقعت البشارة على نبوته فوقوعها على وجوده أولى وأحرى وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة .

وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما . لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه . ولما ذكر إسحاق سماه عليما فقال تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون [ الذاريات 24 25 ] إلى أن قال قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم [ الذاريات 28 ] وهذا إسحاق بلا ريب لأنه من امرأته وهي المبشرة به وأما إسماعيل فمن السرية . وأيضا فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك .

وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبة من قلبه بمحبته والله تعالى قد اتخذه خليلا والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل فأمره بذبح المحبوب فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة فلم يبق في الذبح مصلحة إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه فقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفدي الذبيح وصدق الخليل الرؤيا وحصل مراد الرب . ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه وهذا في غاية الظهور .

وأيضا فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة فإنها كانت جارية فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة " سارة " فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها " هاجر " وابنها ويسكنها في أرض مكة لتبرد عن " سارة " حرارة الغيرة وهذا من رحمته تعالى ورأفته فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها وأن الله لا يضيع بيتا هذه وابنها منهم وليري عباده جبره بعد الكسر ولطفه بعد الشدة وأن عاقبة صبر " هاجر " وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره .

قال تعالى : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [ القصص 5 ] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءالله ذو الفضل العظيم

[ مولده صلى الله عليه وسلم ]

ولنرجع إلى المقصود من سيرته صلى الله عليه وسلم وهديه وأخلاقه لا خلاف أنه ولد صلى الله عليه وسلم بجوف مكة وأن مولده كان عام الفيل وكان أمر الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك لأنهم كانوا عباد أوثان فنصرهم الله على أهل الكتاب نصرا لا صنع للبشر فيه إرهاصا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة وتعظيما للبيت الحرام .

[ وفاة أبيه ]

واختلف في وفاة أبيه عبد الله هل توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل أو توفي بعد ولادته ؟ على قولين أصحهما : أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل .

والثاني : أنه توفي بعد ولادته بسبعة أشهر . ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة " بالأبواء " منصرفها من المدينة من زيارة أخواله ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين .

وكفله جده عبد المطلب وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين وقيل ست وقيل عشر ثم كفله عمه أبو طالب واستمرت كفالته له فلما بلغ ثنتي عشرة سنة خرج به عمه إلى الشام وقيل كانت سنه تسع سنين وفي هذه الخرجة رآه بحيرى الراهب وأمر عمه ألا يقدم به إلى الشام خوفا عليه من اليهود فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالا وهو من الغلط الواضح فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا وإن كان فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر . وذكر البزار في " مسنده " هذا الحديث ولم يقل وأرسل معه عمه بلالا ولكن قال رجلا .

فلما بلغ خمسا وعشرين سنة خرج إلى الشام في تجارة فوصل إلى " بصرى " ثم رجع فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد . وقيل تزوجها وله ثلاثون سنة . وقيل إحدى وعشرون وسنها أربعون وهي أول امرأة تزوجها وأول امرأة ماتت من نسائه ولم ينكح عليها غيرها وأمره جبريل أن يقرأ عليها السلام من ربها .

ثم حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه وكان يخلو ب " غار حراء " يتعبد فيه الليالي ذوات العدد وبغضت إليه الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك .



[ نبوته صلى الله عليه وسلم ]

فلما كمل له أربعون أشرق عليه نور النبوة وأكرمه الله تعالى برسالته وبعثه إلى خلقه واختصه بكرامته وجعله أمينه بينه وبين عباده . ولا خلاف أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين واختلف في شهر المبعث .

فقيل لثمان مضين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل هذا قول الأكثرين وقيل بل كان ذلك في رمضان

واحتج هؤلاء بقوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن البقرة 185 ] قالوا : أول ما أكرمه الله 76 تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن وإلى هذا ذهب جماعة منهم يحيى الصرصري حيث يقول في نونيته


وأتت عليه أربعون فأشرقت

شمس النبوة منه في رمضان


والأولون قالوا : إنما كان إنزال القرآن في رمضان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة ثم أنزل منجما بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة . وقالت طائفة أنزل فيه القرآن أي في شأنه وتعظيمه وفرض صومه . وقيل كان ابتداء المبعث في شهر رجب .

[مراتب الوحي ]

وكمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة
إحداها : الرؤيا الصادقة وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .

الثانية ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته


الثالثة أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا .

الرابعة أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وكان أشده عليه فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها . ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ 78 زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها .

الخامسة أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في [ النجم 713 ] .

السادسة ما أوحاه الله وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها . السابعة كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسى بن عمران وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء .

وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحا من غير حجاب وهذا على مذهب من يقول إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا للصحابة


فصل في ختانه صلى الله عليه وسلم
وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال
أحدها : أنه ولد مختونا مسرورا وروي في ذلك حديث لا يصح ذكره أبو الفرج بن الجوزي في " الموضوعات " وليس فيه حديث ثابت وليس هذا من خواصه فإن كثيرا من الناس يولد مختونا .

وقال الميموني : قلت لأبي عبد الله مسألة سئلت عنها : ختان ختن صبيا فلم يستقص ؟ قال إذا كان الختان جاوز نصف الحشفة إلى فوق فلا يعيد لأن الحشفة تغلظ وكلما غلظت ارتفع الختان . فأما إذا كان الختان دون النصف فكنت أرى أن يعيد .

قلت : فإن الإعادة شديدة جدا وقد يخاف عليه من الإعادة ؟ فقال لا أدري ثم قال لي فإن هاهنا رجلا ولد له ابن مختون فاغتم لذلك غما شديدا فقلت له إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا ؟ انتهى .

وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن عثمان الخليلي المحدث ببيت المقدس أنه ولد كذلك وأن أهله لم يختنوه والناس يقولون لمن ولد كذلك ختنه القمر وهذا من خرافاتهم .
القول الثاني : أنه ختن صلى الله عليه وسلم يوم شق قلبه الملائكة عند ظئره حليمة .
القول الثالث أن جده عبد المطلب ختنه يوم سابعه وصنع له مأدبة وسماه محمدا .

قال أبو عمر بن عبد البر : وفي هذا الباب حديث مسند غريب حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد المطلب ختن 80 النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه وجعل له مأدبة وسماه محمدا صلى الله عليه وسلم قال يحيى بن أيوب طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري وقد وقعت هذه المسألة بين رجلين فاضلين صنف أحدهما مصنفا في أنه ولد مختونا وأجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام وهو كمال الدين بن طلحة فنقضه عليه كمال الدين بن العديم وبين فيه أنه صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب وكان عموم هذه السنة للعرب قاطبة مغنيا عن نقل معين . فيها والله أعلم .

يتبع ..

اخت مسلمة
04-08-2009, 11:56 PM
فصل في أمهاته صلى الله عليه وسلم اللاتي أرضعنه
فمنهن ثويبة مولاة أبي لهب أرضعته أياما وأرضعت معه أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي بلبن ابنها مسروح وأرضعت معهما عمه حمزة بن عبد المطلب . واختلف في إسلامها فالله أعلم .

ثم أرضعته حليمة السعدية بلبن ابنها عبد الله أخي أنيسة وجدامة وهي الشيماء أولاد الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي واختلف في إسلام أبويه من الرضاعة فالله أعلم وأرضعت معه ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلم عام الفتح وحسن إسلامه وكان عمه حمزة مسترضعا في بني سعد بن بكر فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند أمه فكان حمزة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهتين من جهة ثويبة ومن جهة السعدية .

فصل في حواضنه صلى الله عليه وسلم
فمنهن أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب .

ومنهن ثويبة وحليمة والشيماء ابنتها وهي أخته من الرضاعة كانت تحضنه مع أمها وهي التي قدمت عليه في وفد هوازن فبسط لها رداءه وأجلسها عليه رعاية لحقها .

ومنهن الفاضلة الجليلة أم أيمن بركة الحبشية وكان ورثها من أبيه وكانت دايته وزوجها من حبه زيد بن حارثة فولدت له أسامة وهي التي دخل عليها أبو بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقالا : يا أم أيمن ما يبكيك فما عند الله خير لرسوله ؟ قالت إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله وإنما أبكي لانقطاع خبر السماء فهيجتهما على البكاء فبكيا


فصل في مبعثه صلى الله عليه وسلم وأول ما نزل عليه
بعثه الله على رأس أربعين وهي سن الكمال . قيل ولها تبعث الرسل وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة فهذا لا يعرف له أثر متصل يجب المصير إليه .

وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر النبوة الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح

قيل وكان ذلك ستة أشهر ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة والله أعلم .

ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة فجاءه الملك وهو بغار حراء وكان يحب الخلوة فيه فأول ما أنزل عليه اقرأ باسم ربك الذي خلق [ العلق 1 ] هذا قول عائشة والجمهور .

وقال جابر : أول ما أنزل عليه يا أيها المدثر

والصحيح قول ع ائشة ل وجوه أحدها : أن قوله ما أنا بقارئ صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئا .

الثاني : الأمر بالقراءة في الترتيب قبل الأمر بالإنذار فإنه إذا قرأ في نفسه أنذر بما قرأه فأمره بالقراءة أولا ثم بالإنذار بما قرأه ثانيا .
الثالث أن حديث جابر وقوله أول ما أنزل من القرآن يا أيها المدثر قول جابر وعائشة أخبرت عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بذلك .

الرابع أن حديث جابر الذي احتج به صريح في أنه قد تقدم نزول الملك عليه أولا قبل نزول يا أيها المدثر فإنه قال فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء فرجعت إلى أهلي فقلت : زملوني دثروني فأنزل الله يا أيها المدثر وقد أخبر أن الملك الذي جاءه بحراء أنزل عليه اقرأ باسم ربك الذي خلق فدل حديث جابر على تأخر نزول يا أيها المدثر والحجة في روايته لا في رأيه والله أعلم .



فصل في ترتيب الدعوة
ولها مراتب المرتبة الأولى : النبوة .
الثانية إنذار عشيرته الأقربين .
الثالثة إنذار قومه .
الرابعة إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة .
الخامسة إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر .

فصل [ الجهر بالدعوة ]
وأقام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيا ثم نزل عليه فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين [ الحجر : 94 ] . فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن الله لهم بالهجرتين .


فصل في أسمائه صلى الله عليه وسلم
وكلها نعوت ليست أعلاما محضة لمجرد التعريف بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به توجب له المدح والكمال .

فمنها محمد وهو أشهرها وبه سمي في التوراة صريحا كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام وهو كتاب فرد في معناه لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه وصحيحها من حسنها ومعلولها وبينا ما في معلولها من العلل بيانا شافيا ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد ثم مواطن الصلاة عليها ومحالها ثم الكلام في مقدار الواجب منها واختلاف أهل العلم فيه وترجيح الراجح وتزييف المزيف ومخبر الكتاب فوق وصفه .

والمقصود أن اسمه محمد في التوراة صريحا بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب .

ومنها أحمد وهو الاسم الذي سماه به المسيح لسر ذكرناه في ذلك الكتاب .

ومنها المتوكل ومنها الماحي والحاشر والعاقب والمقفي ونبي التوبة ونبي الرحمة ونبي الملحمة والفاتح والأمين .

ويلحق بهذه الأسماء الشاهد والمبشر والبشير والنذير والقاسم والضحوك والقتال وعبد الله والسراج المنير وسيد ولد آدم وصاحب لواء الحمد وصاحب المقام المحمود وغير ذلك من الأسماء لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح فله من كل وصف اسم لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به أو الغالب عليه ويشتق له منه اسم وبين الوصف المشترك فلا يكون له منه اسم يخصه .
وقال جبير بن مطعم : سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء فقال : أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي والعاقب الذي ليس بعده نبي

وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان
أحدهما : خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل كمحمد وأحمد والعاقب والحاشر والمقفي ونبي الملحمة .

والثاني : ما يشاركه في معناه غيره من الرسل ولكن له منه كماله فهو مختص بكماله دون أصله كرسول الله ونبيه وعبده والشاهد والمبشر والنذير ونبي الرحمة ونبي التوبة .

وأما إن جعل له من كل وصف من أوصافه اسم تجاوزت أسماؤه المائتين كالصادق والمصدوق والرءوف الرحيم إلى أمثال ذلك .

وفي هذا قال من قال من الناس إن لله ألف اسم وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم قاله أبو الخطاب بن دحية ومقصوده الأوصاف .


فصل في شرح معاني أسمائه صلى الله عليه وسلم
أما محمد فهو اسم مفعول من حمد فهو محمد إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها ولذلك كان أبلغ من محمود فإن محمودا من الثلاثي المجرد ومحمد من المضاعف للمبالغة فهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره من البشر ولهذا - والله أعلم - سمي به في التوراة لكثرة الخصال المحمودة التي وصف بها هو ودينه وأمته في التوراة حتى تمنى موسى عليه الصلاة والسلام أن يكون منهم وقد أتينا على هذا المعنى بشواهده هناك وبينا غلط أبي القاسم السهيلي حيث جعل الأمر بالعكس وأن اسمه في التوراة أحمد.

[ هل أحمد تفضيل بمعنى فاعل أو مفعول ]

وأما أحمد فهو اسم على زنة أفعل التفضيل مشتق أيضا من الحمد . وقد اختلف الناس فيه هل هو بمعنى فاعل أو مفعول ؟ فقالت طائفة هو بمعنى الفاعل أي حمده لله أكثر من حمد غيره له فمعناه أحمد الحامدين لربه ورجحوا هذا القول بأن قياس أفعل التفضيل أن يصاغ من فعل الفاعل لا من الفعل الواقع على المفعول قالوا : ولهذا لا يقال ما أضرب زيدا ولا زيد أضرب من عمرو باعتبار الضرب الواقع عليه ولا : ما أشربه للماء وآكله للخبز ونحوه قالوا : لأن أفعل التفضيل وفعل التعجب إنما يصاغان من الفعل اللازم ولهذا يقدر نقله من فعل و فعل المفتوح العين ومكسورها إلى فعل المضموم العين قالوا : ولهذا يعدى بالهمزة إلى المفعول فهمزته للتعدية كقولك : ما أظرف زيدا وأكرم عمرا وأصلهما : من ظرف وكرم . قالوا : لأن المتعجب منه فاعل في الأصل فوجب أن يكون فعله غير متعد قالوا : وأما نحو ما أضرب زيدا لعمرو فهو منقول من فعل المفتوح العين إلى فعل المضموم العين ثم عدي والحالة هذه بالهمزة قالوا : والدليل على ذلك مجيئهم باللام فيقولون ما أضرب زيدا لعمرو ولو كان باقيا على تعديه لقيل ما أضرب زيدا عمرا لأنه متعد إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بهمزة التعدية فلما أن عدوه إلى المفعول بهمزة التعدية عدوه إلى الآخر باللام فهذا هو الذي أوجب لهم أن قالوا : إنهما لا يصاغان إلا من فعل الفاعل لا من الفعل الواقع على المفعول .

ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا : يجوز صوغهما من فعل الفاعل ومن الواقع على المفعول وكثرة السماع به من أبين الأدلة على جوازه تقول العرب : ما أشغله بالشيء وهو من شغل فهو مشغول وكذلك يقولون ما أولعه بكذا وهو من أولع بالشيء فهو مولع به مبني للمفعول ليس إلا وكذلك قولهم ما أعجبه بكذا فهو من أعجب به ويقولون ما أحبه إلي فهو تعجب من فعل المفعول وكونه محبوبا لك وكذا : ما أبغضه إلي وأمقته إلي .

وهاهنا مسألة مشهورة ذكرها سيبويه وهي أنك تقول ما أبغضني له وما أحبني له وما أمقتني له إذا كنت أنت المبغض الكاره والمحب الماقت فتكون متعجبا من فعل الفاعل وتقول ما أبغضني إليه وما أمقتني إليه وما أحبني إليه إذا كنت أنت البغيض الممقوت أو المحبوب فتكون متعجبا من الفعل الواقع على المفعول فما كان باللام فهو للفاعل وما كان ب إلى فهو للمفعول . وأكثر النحاة لا يعللون بهذا . والذي يقال في علته والله أعلم إن اللام تكون للفاعل في المعنى نحو قولك : لمن هذا ؟ فيقال لزيد فيؤتى باللام . وأما إلى فتكون للمفعول في المعنى فتقول إلى من يصل هذا الكتاب ؟ فتقول إلى عبد الله وسر ذلك أن اللام في الأصل للملك والاختصاص والاستحقاق إنما يكون للفاعل الذي يملك ويستحق و إلى لانتهاء الغاية والغاية منتهى ما يقتضيه الفعل فهي بالمفعول أليق لأنها تمام مقتضى الفعل ومن التعجب من فعل المفعول قول كعب بن زهير في النبي صلى الله عليه وسلم

فلهو أخوف عندي إذ أكلمه

وقيل إنك محبوس ومقتول

من خادر من ليوث الأسد مسكنه

ببطن عثر غيل دونه غيل


فأخوف هاهنا من خيف فهو مخوف لا من خاف وكذلك قولهم ما أجن زيدا من جن فهو مجنون هذا مذهب الكوفيين ومن وافقهم .

قال البصريون : كل هذا شاذ لا يعول عليه فلا نشوش به القواعد ويجب الاقتصار منه على المسموع قال الكوفيون : كثرة هذا في كلامهم نثرا ونظما يمنع حمله على الشذوذ لأن الشاذ ما خالف استعمالهم ومطرد كلامهم وهذا غير مخالف لذلك قالوا : وأما تقديركم لزوم الفعل ونقله إلى فعل فتحكم لا دليل عليه وما تمسكتم به من التعدية بالهمزة إلى آخره فليس الأمر فيها كما ذهبتم إليه والهمزة في هذا البناء ليست للتعدية وإنما هي للدلالة على معنى التعجب والتفضيل فقط كألف فاعل وميم مفعول وواوه وتاء الافتعال والمطاوعة ونحوها من الزوائد التي تلحق الفعل الثلاثي لبيان ما لحقه من الزيادة على مجرده فهذا هو السبب الجالب لهذه الهمزة لا تعدية الفعل .

قالوا : والذي يدل على هذا أن الفعل الذي يعدى بالهمزة يجوز أن يعدى بحرف الجر وبالتضعيف نحو جلست به وأجلسته وقمت به وأقمته ونظائره وهنا لا يقوم مقام الهمزة غيرها فعلم أنها ليست للتعدية المجردة أيضا فإنها تجامع باء التعدية نحو أكرم به وأحسن به ولا يجمع على الفعل بين تعديتين . وأيضا فإنهم يقولون ما أعطاه للدراهم وأكساه للثياب وهذا من أعطى وكسا المتعدي ولا يصح تقدير نقله إلى عطو : إذا تناول ثم أدخلت عليه همزة التعدية لفساد المعنى فإن التعجب إنما وقع من إعطائه لا من عطوه وهو تناوله والهمزة التي فيه همزة التعجب والتفضيل وحذفت همزته التي في فعله فلا يصح أن يقال هي للتعدية .

قالوا : وأما قولكم إنه عدي باللام في نحو ما أضربه لزيد . . . إلى آخره فالإتيان باللام هاهنا ليس لما ذكرتم من لزوم الفعل وإنما أتي بها تقوية له لما ضعف بمنعه من التصرف وألزم طريقة واحدة خرج بها عن سنن الأفعال فضعف عن اقتضائه وعمله فقوي باللام كما يقوى بها عند تقدم معموله عليه وعند فرعيته وهذا المذهب هو الراجح كما تراه .

فلنرجع إلى المقصود فنقول تقدير أحمد على قول الأولين أحمد الناس لربه وعلى قول هؤلاء أحق الناس وأولاهم بأن يحمد فيكون كمحمد في المعنى إلا أن الفرق بينهما أن محمدا هو كثير الخصال التي يحمد عليها وأحمد هو الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره فمحمد في الكثرة والكمية وأحمد في الصفة والكيفية فيستحق من الحمد أكثر مما يستحق غيره وأفضل مما يستحق غيره فيحمد أكثر حمد وأفضل حمد حمده البشر . فالاسمان واقعان على المفعول وهذا أبلغ في مدحه وأكمل معنى . ولو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد أي كثير الحمد فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق حمدا لربه فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه لكان الأولى به الحماد كما سميت بذلك أمته .

وأيضا : فإن هذين الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائصه المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا صلى الله عليه وسلم وأحمد وهو الذي يحمده أهل السماء وأهل الأرض وأهل الدنيا وأهل الآخرة لكثرة خصائله المحمودة التي تفوق عد العادين وإحصاء المحصين وقد أشبعنا هذا المعنى في كتاب الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وإنما ذكرنا هاهنا كلمات يسيرة اقتضتها حال المسافر وتشتت قلبه وتفرق همته وبالله المستعان وعليه التكلان .

[ تفسير معنى المتوكل ]

وأما اسمه المتوكل ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو قال قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله وهو صلى الله عليه وسلم أحق الناس بهذا الاسم لأنه توكل على الله في إقامة الدين توكلا لم يشركه فيه غيره .

[ تفسير الماحي ]

وأما الماحي والحاشر والمقفي والعاقب فقد فسرت في حديث جبير بن مطعم فالماحي : هو الذي محا الله به الكفر ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محي بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه بعث وأهل الأرض كلهم كفار إلا بقايا من أهل الكتاب وهم ما بين عباد أوثان ويهود مغضوب عليهم ونصارى ضالين وصابئة دهرية لا يعرفون ربا ولا معادا وبين عباد الكواكب وعباد النار وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها فمحا الله سبحانه برسوله ذلك حتى ظهر دين الله على كل دين وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار .

[ تفسير الحاشر ]

وأما الحاشر فالحشر هو الضم والجمع فهو الذي يحشر الناس على قدمه فكأنه بعث ليحشر الناس .

[ تفسير العاقب ]

والعاقب الذي جاء عقب الأنبياء فليس بعده نبي فإن العاقب هو الآخر فهو بمنزلة الخاتم ولهذا سمي العاقب على الإطلاق أي عقب الأنبياء جاء بعقبهم .

[ تفسير المقفي ]

وأما المقفي فكذلك وهو الذي قفى على آثار من تقدمه فقفى الله به على آثار من سبقه من الرسل وهذه اللفظة مشتقة من القفو يقال قفاه يقفوه إذا تأخر عنه ومنه قافية الرأس وقافية البيت فالمقفي : الذي قفى من قبله من الرسل فكان خاتمهم وآخرهم .

[ نبي التوبة ]

وأما نبي التوبة فهو الذي فتح الله به باب التوبة على أهل الأرض فتاب الله عليهم توبة لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله .

وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس استغفارا وتوبة حتى كانوا يعدون له في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور

وكان يقول يا أيها الناس توبوا إلى الله ربكم فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة وكذلك توبة أمته أكمل من توبة سائر الأمم وأسرع قبولا وأسهل تناولا وكانت توبة من قبلهم من أصعب الأشياء حتى كان من توبة بني إسرائيل من عبادة العجل قتل أنفسهم وأما هذه الأمة فلكرامتها على الله تعالى جعل توبتها الندم والإقلاع .

[ نبي الملحمة ]

وأما نبي الملحمة فهو الذي بعث بجهاد أعداء الله فلم يجاهد نبي وأمته قط ما جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته والملاحم الكبار التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله فإن أمته يقتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار وقد أوقعوا بهم من الملاحم ما لم تفعله أمة سواهم .

[ نبي الرحمة ]

وأما نبي الرحمة فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم أما المؤمنون فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة وأما الكفار فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله وتحت حبله وعهده وأما من قتله منهم هو وأمته فإنهم عجلوا به إلى النار وأراحوه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدة العذاب في الآخرة .

[ الفاتح ]

وأما الفاتح فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجا وفتح به الأعين العمي والآذان الصم والقلوب الغلف وفتح الله به أمصار الكفار وفتح به أبواب الجنة وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح ففتح به الدنيا والآخرة والقلوب والأسماع والأبصار والأمصار .

[ الأمين ]

وأما الأمين فهو أحق العالمين بهذا الاسم فهو أمين الله على وحيه ودينه وهو أمين من في السماء وأمين من في الأرض ولهذا كانوا يسمونه قبل النبوة الأمين .

[ الضحوك القتال ]

وأما الضحوك القتال فاسمان مزدوجان لا يفرد أحدهما عن الآخر فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين غير عابس ولا مقطب ولا غضوب ولا فظ قتال لأعداء الله لا تأخذه فيهم لومة لائم .

[ البشير ]

وأما البشير فهو المبشر لمن أطاعه بالثواب والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب وقد سماه الله عبده في مواضع من كتابه منها قوله : وأنه لما قام عبد الله يدعوه [ الجن : 20 ] وقوله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده [ الفرقان : 1 ] وقوله فأوحى إلى عبده ما أوحى [ النجم 10 ] وقوله وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا [ البقرة 23 ] وثبت عنه في الصحيح أنه قال أنا سيد ولد آدم [ يوم القيامة ] ولا فخر وسماه الله سراجا منيرا وسمى الشمس سراجا وهاجا .

[ المنير ]

والمنير هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج فإن فيه نوع إحراق وتوهج .


فصل في ذكرى الهجرتين الأولى والثانية
لما كثر المسلمون وخاف منهم الكفار اشتد أذاهم له صلى الله عليه وسلم وفتنتهم إياهم فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة وقال إن بها ملكا لا يظلم الناس عنده فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلا وأربع نسوة منهم عثمان بن عفان وهو أول من خرج ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار فبلغهم أن قريشا أسلمت وكان هذا الخبر كذبا فرجعوا إلى مكة فلما بلغهم أن الأمر أشد مما كان رجع منهم من رجع ودخل جماعة فلقوا من قريش أذى شديدا وكان ممن دخل عبد الله بن مسعود .

[ الحصر في الشعب ثم وفاة خديجة فعمه فخروجه للطائف ]

ثم أذن لهم في الهجرة ثانيا إلى الحبشة فهاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا إن كان فيهم عمار فإنه يشك فيه ومن النساء ثمان عشرة امرأة فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال فبلغ ذلك قريشا فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة في جماعة ليكيدوهم عند النجاشي فرد الله كيدهم في نحورهم فاشتد أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فحصروه وأهل بيته في الشعب شعب أبي طالب ثلاث سنين وقيل سنتين وخرج من الحصر وله تسع وأربعون سنة وقيل ثمان وأربعون سنة وبعد ذلك بأشهر مات عمه أبو طالب وله سبع وثمانون سنة وفي الشعب ولد عبد الله بن عباس فنال الكفار منه أذى شديدا ثم ماتت خديجة بعد ذلك بيسير فاشتد أذى الكفار له فخرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى الله تعالى وأقام به أياما فلم يجيبوه وآذوه وأخرجوه وقاموا له سماطين فرجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه فانصرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى مكة وفي طريقه لقي عداسا النصراني فآمن به وصدقه وفي طريقه أيضا بنخلة صرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين فاستمعوا القرآن وأسلموا وفي طريقه تلك أرسل الله إليه ملك الجبال يأمره بطاعته وأن يطبق على قومه أخشبي مكة وهما جبلاها إن أراد فقال : لا بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا

[ الإسراء ]

وفي طريقه دعا بذلك الدعاء المشهور اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي . . . الحديث ثم دخل مكة في جوار المطعم بن عدي ثم أسري بروحه وجسده إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى فوق السموات بجسده وروحه إلى الله عز وجل فخاطبه وفرض عليه الصلوات وكان ذلك مرة واحدة هذا أصح الأقوال .

وقيل كان ذلك مناما وقيل بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا مناما .

وقيل كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة وإلى السماء مناما . وقيل : كان الإسراء مرتين مرة يقظة ومرة مناما .

وقيل بل أسري به ثلاث مرات وكان ذلك بعد المبعث بالاتفاق .

وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه فهذا مما عد من أغلاط شريك الثمانية وسوء حفظه لحديث الإسراء . وقيل إن هذا كان إسراء المنام قبل الوحي . وأما إسراء اليقظة فبعد النبوة وقيل بل الوحي هاهنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة والمراد قبل أن يوحى إليه في شأن الإسرار فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام والله أعلم .

[ دعوة القبائل والهجرة إلى المدينة ]

فأقام صلى الله عليه وسلم بمكة ما أقام يدعو القبائل إلى الله تعالى ويعرض نفسه عليهم في كل موسم أن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة فلم تستجب له قبيلة وادخر الله ذلك كرامة للأنصار فلما أراد الله تعالى إظهار دينه وإنجاز وعده ونصر نبيه وإعلاء كلمته والانتقام من أعدائه ساقه إلى الأنصار لما أراد بهم من الكرامة فانتهى إلى نفر منهم ستة وقيل ثمانية وهم يحلقون رءوسهم عند عقبة منى في الموسم فجلس إليهم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فاستجابوا لله ورسوله ورجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فأول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زريق ثم قدم مكة في العام القابل اثنا عشر رجلا من الأنصار منهم خمسة من الستة الأولين فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء عند العقبة ثم انصرفوا إلى المدينة فقدم عليه في العام القابل منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان وهم أهل العقبة الأخيرة فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم فترحل هو وأصحابه إليهم واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيبا وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا متسللين أولهم فيما قيل : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي

وقيل مصعب بن عمير فقدموا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم وفشا الإسلام بالمدينة ثم أذن الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فخرج من مكة يوم الاثنين في شهر ربيع الأول وقيل في صفر وله إذ ذاك ثلاث وخمسون سنة ومعه أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي فدخل غار ثور هو وأبو بكر فأقاما فيه ثلاثا ثم أخذا على طريق الساحل فلما انتهوا إلى المدينة وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول وقيل غير ذلك نزل بقباء في أعلى المدينة على بني عمرو بن عوف .

وقيل نزل على كلثوم بن الهدم . وقيل على سعد بن خيثمة والأول أشهر فأقام عندهم أربعة عشر يوما وأسس مسجد قباء ثم خرج يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم فجمع بهم بمن كان معه من المسلمين وهم مائة ثم ركب ناقته وسار وجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم ويأخذون بخطام الناقة فيقول خلوا سبيلها فإنها مأمورة فبركت عند مسجده اليوم وكان مربدا لسهل وسهيل غلامين من بني النجار فنزل عنها على أبي أيوب الأنصاري ثم بنى مسجده موضع المربد بيده هو وأصحابه بالجريد واللبن ثم بنى مسكنه ومساكن أزواجه إلى جنبه وأقربها إليه مسكن عائشة ثم تحول بعد سبعة أشهر من دار أبي أيوب إليها وبلغ أصحابه بالحبشة هجرته إلى المدينة فرجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا فحبس منهم بمكة سبعة وانتهى بقيتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم هاجر بقيتهم في السفينة عام خيبر سنة سبع .


فصل في أولاده صلى الله عليه وسلم
أولهم القاسم وبه كان يكنى مات طفلا وقيل عاش إلى أن ركب الدابة وسار على النجيبة . ثم زينب وقيل هي أسن من القاسم ثم رقية وأم كلثوم وفاطمة وقد قيل في كل واحدة منهن إنها أسن من أختيها وقد ذكر عن ابن عباس أن رقية أسن الثلاث وأم كلثوم أصغرهن .

ثم ولد له عبد الله وهل ولد بعد النبوة أو قبلها ؟ فيه اختلاف وصحح بعضهم أنه ولد بعد النبوة وهل هو الطيب والطاهر أو هما غيره ؟ على قولين . والصحيح أنهما لقبان له والله أعلم .

وهؤلاء كلهم من خديجة ولم يولد له من زوجة غيرها . ثم ولد له إبراهيم بالمدينة من سريته مارية القبطية سنة ثمان من الهجرة وبشره به أبو رافع مولاه فوهب له عبدا ومات طفلا قبل الفطام واختلف هل صلى عليه أم لا ؟ على قولين . وكل أولاده توفي قبله إلا فاطمة فإنها تأخرت بعده بستة أشهر فرفع الله لها بصبرها واحتسابها من الدرجات ما فضلت به على نساء العالمين .

وفاطمة أفضل بناته على الإطلاق وقيل إنها أفضل نساء العالمين وقيل بل أمها خديجة وقيل بل عائشة وقيل بل بالوقف في ذلك .



فصل في أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم
فمنهم أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب والعباس وأبو طالب واسمه عبد مناف وأبو لهب واسمه عبد العزى والزبير وعبد الكعبة والمقوم وضرار وقثم والمغيرة ولقبه حجل والغيداق واسمه مصعب وقيل نوفل وزاد بعضهم العوام ولم يسلم منهم إلا حمزة والعباس .

وأما عماته فصفية أم الزبير بن العوام وعاتكة وبرة وأروى وأميمة وأم حكيم البيضاء . أسلم منهن صفية واختلف في إسلام عاتكة وأروى وصحح بعضهم إسلام أروى .

وأسن أعمامه الحارث وأصغرهم سنا : العباس وعقب منه حتى ملأ أولاده الأرض . وقيل أحصوا في زمن المأمون فبلغوا ستمائة ألف وفي ذلك بعد لا يخفى وكذلك أعقب أبو طالب وأكثر والحارث وأبو لهب وجعل بعضهم الحارث والمقوم واحدا وبعضهم الغيداق وحجلا واحدا .


فصل في أزواجه صلى الله عليه وسلم
[ خديجة ]

أولاهن خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية تزوجها قبل النبوة ولها أربعون سنة ولم يتزوج عليها حتى ماتت وأولاده كلهم منها إلا إبراهيم وهي التي آزرته على النبوة وجاهدت معه وواسته بنفسها ومالها وأرسل الله إليها السلام مع جبريلوهذه خاصة لا تعرف لامرأة سواها وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين .

[ سودة ]

ثم تزوج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة القرشية وهي التي وهبت يومها لعائشة .

[ عائشة ]

ثم تزوج بعدها أم عبد الله عائشة الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سموات حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق وعرضها عليه الملك قبل نكاحها في سرقة من حرير وقال هذه زوجتك تزوج بها في شوال وعمرها ست سنين وبنى بها في شوال في السنة الأولى من الهجرة وعمرها تسع سنين ولم يتزوج بكرا غيرها وما نزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها وكانت أحب الخلق إليه ونزل عذرها من السماء واتفقت الأمة على كفر قاذفها وهي أفقه نسائه وأعلمهن بل أفقه نساء الأمة وأعلمهن على الإطلاق وكان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها ويستفتونها . وقيل إنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطا ولم يثبت .

[ حفصة ]

ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكر أبو داود أنه طلقها ثم راجعها .

[ زينب بنت خزيمة ]

ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث القيسية من بني هلال بن عامر وتوفيت عنده بعد ضمه لها بشهرين .

[ أم سلمة]

ثم تزوج أم سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية واسم أبي أمية حذيفة بن المغيرة وهي آخر نسائه موتا . وقيل آخرهن موتا
صفية .

[ من ولي تزويج أم سلمة ؟]

واختلف فيمن ولي تزويجها منه ؟ فقال ابن سعد في الطبقات : ولي تزويجها منه سلمة بن أبي سلمة دون غيره من أهل بيتها ولما زوج النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة أمامة بنت حمزة التي اختصم فيها علي وجعفر وزيد قال : هل جزيت سلمة يقول ذلك لأن سلمة هو الذي تولى تزويجه دون غيره من أهلها ذكر هذا في ترجمة سلمة ثم ذكر في ترجمة أم سلمة عن الواقدي : حدثني مجمع بن يعقوب عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن أبي سلمة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أم سلمة إلى ابنها عمر بن أبي سلمة فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ غلام صغير .

وقال الإمام أحمد في المسند : حدثنا عفان حدثنا حماد بن أبي سلمة حدثنا ثابت قال حدثني ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة أنها لما انقضت عدتها من أبي سلمة بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم إني امرأة غيرى وإني مصبية وليس أحد من أوليائي حاضرا . . . الحديث وفيه فقالت لابنها عمر قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه وفي هذا نظر فإن عمر هذا كان سنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ذكره ابن سعد وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع فيكون له من العمر حينئذ ثلاث سنين ومثل هذا لا يزوج قال ذلك ابن سعد وغيره ولما قيل ذلك للإمام أحمد قال من يقول إن عمر كان صغيرا ؟ قال أبو الفرج بن الجوزي : ولعل أحمد قال هذا قبل أن يقف على مقدار سنه وقد ذكر مقدار سنه جماعة من المؤرخين ابن سعد وغيره .

وقد قيل إن الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمها عمر بن الخطاب والحديث قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسب عمر ونسب أم سلمة يلتقيان في كعب فإنه عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب فوافق اسم ابنها عمر اسمه فقالت : قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن بعض الرواة أنه ابنها فرواه بالمعنى وقال فقالت لابنها وذهل عن تعذر ذلك عليه لصغر سنه ونظير هذا وهم بعض الفقهاء في هذا الحديث وروايتهم له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا غلام فزوج أمك قال أبو الفرج ابن الجوزي وما عرفنا هذا في هذا الحديث قال وإن ثبت فيحتمل أن يكون قاله على وجه المداعبة للصغير إذ كان له من العمر يومئذ ثلاث سنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها في سنة أربع ومات ولعمر تسع سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتقر نكاحه إلى ولي .

وقال ابن عقيل : ظاهر كلام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشترط في نكاحه الولي وأن ذلك من خصائصه .

[ زينب بنت جحش ]

ثم تزوج زينب بنت جحش من بني أسد بن خزيمة وهي ابنة عمته أميمة وفيها نزل قوله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ الأحزاب 37 ] وبذلك كانت تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات .

ومن خواصها أن الله سبحانه وتعالى كان هو وليها الذي زوجها لرسوله من فوق سمواته وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب وكانت أولا عند زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه فلما طلقها زيد زوجه الله تعالى إياها لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبنوه .

[ جويرية ]

وتزوج صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية وكانت من سبايا بني المصطلق فجاءته تستعين به على كتابتها فأدى عنها كتابتها وتزوجها .

[ أم حبيبة]

ثم تزوج أم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب القرشية الأموية . وقيل اسمها هند تزوجها وهي ببلاد الحبشة مهاجرة وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار وسيقت إليه من هناك وماتت في أيام أخيها معاوية .

هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السير والتواريخ وهو عندهم بمنزلة نكاحه لخديجة بمكة ولحفصة بالمدينة ولصفية بعد خيبر .

[ توهيم حديث عرض أبي سفيان أم حبيبة عليه صلى الله عليه وسلم ]

وأما حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل عن ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم أسألك ثلاثا فأعطاه إياهن منها : وعندي أجمل العرب أم حبيبة أزوجك إياها . فهذا الحديث غلط لا خفاء به قال أبو محمد بن حزم : وهو موضوع بلا شك كذبه عكرمة بن عمار وقال ابن الجوزي في هذا الحديث هو وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد وقد اتهموا به عكرمة بن عمار لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبد الله بن جحش وولدت له وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة ثم تنصر وثبتت أم حبيبة على إسلامها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه فزوجه إياها وأصدقها عنه صداقا وذلك في سنة سبع من الهجرة وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة فدخل عليها فثنت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان .

وأيضا ففي هذا الحديث أنه قال له وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال نعم . ولا يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان البتة .

وقد أكثر الناس الكلام في هذا الحديث وتعددت طرقهم في وجهه فمنهم من قال الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح لهذا الحديث قال ولا يرد هذا بنقل المؤرخين وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان .

وقالت طائفة بل سأله أن يجدد له العقد تطييبا لقلبه فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره وهذا باطل لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يليق بعقل أبي سفيان ولم يكن من ذلك شيء .

وقالت طائفة منهم البيهقي والمنذري : يحتمل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر حين سمع نعي زوج أم حبيبة بالحبشة فلما ورد على هؤلاء ما لا حيلة لهم في دفعه من سؤاله أن يؤمره حتى يقاتل الكفار وأن يتخذ ابنه كاتبا قالوا : لعل هاتين المسألتين وقعتا منه بعد الفتح فجمع الراوي ذلك كله في حديث واحد والتعسف والتكلف الشديد الذي في هذا الكلام يغني عن رده .

وقالت طائفة للحديث محمل آخر صحيح وهو أن يكون المعنى : أرضى أن تكون زوجتك الآن فإني قبل لم أكن راضيا والآن فإني قد رضيت فأسألك أن تكون زوجتك وهذا وأمثاله لو لم يكن قد سودت به الأوراق وصنفت فيه الكتب وحمله الناس لكان الأولى بنا الرغبة عنه لضيق الزمان عن كتابته وسماعه والاشتغال به فإنه من ربد الصدور لا من زبدها . وقالت طائفة لما سمع أبو سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه لما آلى منهن أقبل إلى المدينة وقال للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال ظنا منه أنه قد طلقها فيمن طلق وهذا من جنس ما قبله .

وقالت طائفة بل الحديث صحيح ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة وإنما سأل أن يزوجه أختها رملة ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه فقد خفي ذلك على ابنته وهي أفقه منه وأعلم حين قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك في أختي بنت أبي سفيان ؟ فقال أفعل ماذا ؟ قالت تنكحها .

قال : أوتحبين ذلك ؟ قالت لست لك بمخلية وأحب من شركني في الخير أختي قال : فإنها لا تحل لي . فهذه هي التي عرضها أبو سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم فسماها الراوي من عنده أم حبيبة . وقيل بل كانت كنيتها أيضا أم حبيبة وهذا الجواب حسن لولا قوله في الحديث فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأل فيقال حينئذ هذه اللفظة وهم من الراوي فإنه أعطاه بعض ما سأل فقال الراوي : أعطاه ما سأل أو أطلقها اتكالا على فهم المخاطب أنه أعطاه ما يجوز إعطاؤه مما سأل والله أعلم .

[ صفية ]

[ جواز جعل عتق المرأة صداقها ]

وتزوج صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير من ولد هارون بن عمران أخي موسى فهي ابنة نبي وزوجة نبي وكانت من أجمل نساء العالمين وكانت قد صارت له من الصفي أمة فأعتقها وجعل عتقها صداقها فصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة أن يعتق الرجل أمته ويجعل عتقها صداقها فتصير زوجته بذلك فإذا قال أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها أو قال جعلت عتق أمتي صداقها صح العتق والنكاح وصارت زوجته من غير احتياج إلى تجديد عقد ولا ولي وهو ظاهر مذهب أحمد وكثير من أهل الحديث .

وقالت طائفة هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو مما خصه الله به في النكاح دون الأمة وهذا قول الأئمة الثلاثة ومن وافقهم والصحيح القول الأول لأن الأصل عدم الاختصاص حتى يقوم عليه دليل والله سبحانه لما خصه بنكاح الموهوبة له قال فيها : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب 50 ] ولم يقل هذا في المعتقة ولا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقطع تأسي الأمة به في ذلك فالله سبحانه أباح له نكاح امرأة من تبناه لئلا يكون على الأمة حرج في نكاح أزواج من تبنوه فدل على أنه إذا نكح نكاحا فلأمته التأسي به فيه ما لم يأت عن الله ورسوله نص بالاختصاص وقطع التأسي وهذا ظاهر .

ولتقرير هذه المسألة وبسط الحجاج فيها - وتقرير أن جواز مثل هذا هو مقتضى الأصول والقياس - موضع آخر وإنما نبهنا عليه تنبيها .

[ ميمونة ]

ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وهي آخر من تزوج بها تزوجها بمكة في عمرة القضاء بعد أن حل منها على الصحيح .

وقيل قبل إحلاله هذا قول ابن عباس ووهم رضي الله عنه فإن السفير بينهما بالنكاح أعلم الخلق بالقصة وهو أبو رافع وقد أخبر أنه تزوجها حلالا وقال كنت أنا السفير بينهما وابن عباس إذ ذاك له نحو العشر سنين أو فوقها وكان غائبا عن القصة لم يحضرها وأبو رافع رجل بالغ وعلى يده دارت القصة وهو أعلم بها ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم وماتت في أيام معاوية وقبرها بسرف .

[ ريحانة ]

قيل ومن أزواجه ريحانة بنت زيد النضرية . وقيل القرظية سبيت يوم بني قريظة فكانت صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها ثم طلقها تطليقة ثم راجعها .

وقالت طائفة بل كانت أمته وكان يطؤها بملك اليمين حتى توفي عنها فهي معدودة في السراري لا في الزوجات والقول الأول اختيار الواقدي ووافقه عليه شرف الدين الدمياطي . وقال هو الأثبت عند أهل العلم . وفيما قاله نظر فإن المعروف أنها من سراريه وإمائه والله أعلم .

فهؤلاء نساؤه المعروفات اللاتي دخل بهن وأما من خطبها ولم يتزوجها ومن وهبت نفسها له ولم يتزوجها فنحو أربع أو خمس وقال بعضهم هن ثلاثون امرأة وأهل العلم بسيرته وأحواله صلى الله عليه وسلم لا يعرفون هذا بل ينكرونه والمعروف عندهم أنه بعث إلى الجونية ليتزوجها فدخل عليها ليخطبها فاستعاذت منه فأعاذها ولم يتزوجها وكذلك الكلبية وكذلك التي رأى بكشحها بياضا فلم يدخل بها والتي وهبت نفسها له فزوجها غيره على سور من القرآن هذا هو المحفوظ والله أعلم .

ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع وكان يقسم منهن لثمان عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وصفية وأم حبيبة وميمونة وسودة وجويرية .

وأول نسائه لحوقا به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش سنة عشرين وآخرهن موتا أم سلمة سنة اثنتين وستين في خلافة يزيد والله أعلم .


فصل في سراريه صلى الله عليه وسلم
قال أبو عبيدة كان له أربع مارية وهي أم ولده إبراهيم وريحانة وجارية أخرى جميلة أصابها في بعض السبي وجارية وهبتها له زينب بنت جحش .

فصل في مواليه صلى الله عليه وسلم
فمنهم زيد بن حارثة بن شراحيل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن فولدت له أسامة . ومنهم أسلم وأبو رافع وثوبان وأبو كبشة سليم وشقران واسمه صالح ورباح نوبي ويسار نوبي أيضا وهو قتيل العرنيين ومدعم وكركرة نوبي أيضا وكان على ثقله صلى الله عليه وسلم وكان يمسك راحلته عند القتال يوم خيبر .

وفي صحيح البخاري أنه الذي غل الشملة ذلك اليوم فقتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لتلتهب عليه نارا وفي الموطأ أن الذي غلها مدعم وكلاهما قتل بخيبر والله أعلم . ومنهم أنجشة الحادي وسفينة بن فروخ واسمه مهران وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة لأنهم كانوا يحملونه في السفر متاعهم فقال : أنت سفينة قال أبو حاتم أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال غيره أعتقته أم سلمة .

ومنهم أنسة ويكنى أبا مشرح وأفلح وعبيد وطهمان وهو كيسان وذكوان ومهران ومروان وقيل هذا خلاف في اسم طهمان والله أعلم . ومنهم حنين وسندر وفضالة يماني ومأبور خصي وواقد وأبو واقد وقسام وأبو عسيب وأبو مويهبة . ومن النساء سلمى أم رافع وميمونة بنت سعد وخضرة ورضوى ورزينة وأم ضميرة وميمونة بنت أبي عسيب ومارية وريحانة .

فصل في خدامه صلى الله عليه وسلم
فمنهم أنس بن مالك وكان على حوائجه وعبد الله بن مسعود صاحب نعله وسواكه وعقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته يقود به في الأسفار وأسلع بن شريك وكان صاحب راحلته وبلال بن رباح المؤذن وسعد موليا أبي بكر الصديق وأبو ذر الغفاري وأيمن بن عبيد وأمه أم أيمن موليا النبي صلى الله عليه وسلم وكان أيمن على مطهرته وحاجته .




فصل في كتابه صلى الله عليه وسلم
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وعامر بن فهيرة وعمرو بن العاص وأبي بن كعب وعبد الله بن الأرقم وثابت بن قيس بن شماس وحنظلة بن الربيع الأسيدي والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن رواحة وخالد بن الوليد وخالد بن سعيد بن العاص . وقيل إنه أول من كتب له ومعاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت وكان ألزمهم لهذا الشأن وأخصهم به .


فصل في كتبه صلى الله عليه وسلم التي كتبها إلى أهل الإسلام في الشرائع
فمنها كتابه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر وكتبه أبو بكر لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين وعليه عمل الجمهور . ومنها كتابه إلى أهل اليمن وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وكذلك رواه الحاكم في مستدركه والنسائي وغيرهما مسندا متصلا ورواه أبو داود وغيره مرسلا وهو كتاب عظيم فيه أنواع كثيرة من الفقه في الزكاة والديات والأحكام وذكر الكبائر والطلاق والعتاق وأحكام الصلاة في الثوب الواحد والاحتباء فيه ومس المصحف وغير ذلك .

قال الإمام أحمد : لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات . ومنها كتابه إلى بني زهير . ومنها كتابه الذي كان عند عمر بن الخطاب في نصب الزكاة وغيرها


فصل في كتبه ورسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك
لما رجع من الحديبية كتب إلى ملوك الأرض وأرسل إليهم رسله فكتب إلى ملك الروم فقيل له إنهم لا يقرءون كتابا إلا إذا كان مختوما فاتخذ خاتما من فضة ونقش عليه ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر وختم به الكتب إلى الملوك وبعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع .

[ الكتاب إلى النجاشي ]

فأولهم عمرو بن أمية الضمري بعثه إلى النجاشي واسمه أصحمة بن أبجر وتفسير أصحمة بالعربية عطية فعظم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم وشهد شهادة الحق وكان من أعلم الناس بالإنجيل وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات بالمدينة وهو بالحبشة هكذا قال جماعة منهم الواقدي وغيره وليس كما قال هؤلاء فإن أصحمة النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي كتب إليه هذا الثاني لا يعرف إسلامه بخلاف الأول فإنه مات مسلما .

وقد روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أنس قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو محمد بن حزم : إن هذا النجاشي الذي بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري لم يسلم والأول هو اختيار ابن سعد وغيره والظاهر قول ابن حزم .

[ الكتاب إلى هرقل ]

وبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم واسمه هرقل وهم بالإسلام وكاد ولم يفعل وقيل بل أسلم وليس بشيء .

وقد روى أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ينطلق بصحيفتي هذه إلى قيصر وله الجنة ؟ فقال رجل من القوم : وإن لم يقبل ؟ قال وإن لم يقبل فوافق قيصر وهو يأتي بيت المقدس قد جعل عليه بساط لا يمشي عليه غيره فرمى بالكتاب على البساط وتنحى فلما انتهى قيصر إلى الكتاب أخذه فنادى قيصر من صاحب الكتاب ؟ فهو آمن فجاء الرجل فقال أنا . قال فإذا قدمت فأتني فلما قدم أتاه فأمر قيصر بأبواب قصره فغلقت ثم أمر مناديا ينادي : ألا إن قيصر قد اتبع محمدا وترك النصرانية فأقبل جنده وقد تسلحوا حتى أطافوا به فقال لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترى أني خائف على مملكتي ثم أمر مناديه فنادى : ألا إن قيصر قد رضي عنكم وإنما اختبركم لينظر كيف صبركم على دينكم فارجعوا فانصرفوا وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني مسلم وبعث إليه بدنانير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على النصرانية وقسم الدنانير .

[ الكتاب إلى كسرى ]

وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى واسمه أبرويز بن هرمز بن أنوشروان فمزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم مزق ملكه فمزق الله ملكه وملك قومه .

[ الكتاب إلى المقوقس ]

وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس واسمه جريج بن ميناء ملك الإسكندرية عظيم القبط فقال خيرا وقارب الأمر ولم يسلم وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم مارية وأختيها سيرين وقيسرى فتسرى مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت وأهدى له جارية أخرى وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا من قباطي مصر وبغلة شهباء وهي دلدل وحمارا أشهب وهو عفير وغلاما خصيا يقال له مأبور . وقيل هو ابن عم مارية وفرسا وهو اللزاز وقدحا من زجاج وعسلا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه

[ الكتاب إلى ملك البلقاء ]

بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء قاله ابن إسحاق والواقدي . قيل إنما توجه لجبلة بن الأيهم . وقيل توجه لهما معا . وقيل توجه لهرقل مع دحية بن خليفة والله أعلم .

وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة فأكرمه . وقيل بعثه إلى هوذة وإلى ثمامة بن أثال الحنفي فلم يسلم هوذة وأسلم ثمامة بعد ذلك فهؤلاء الستة قيل هم الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد .

[الكتاب إلى عاملي عمان ]

وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد الله ابني الجلندى الأزديين بعمان فأسلما وصدقا وخليا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم فلم يزل فيما بينهم حتى بلغته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[الكتاب إلى ملك البحرين ]

وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة وقيل قبل الفتح فأسلم وصدق .

[الكتاب إلى اليمن ]

وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري باليمن فقال سأنظر في أمري .

[ بعوث أخرى ]

وبعث أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك .

وقيل بل سنة عشر من ربيع الأول داعيين إلى الإسلام فأسلم عامة أهلها طوعا من غير قتال . ثم بعث بعد ذلك علي بن أبي طالب إليهم ووافاه بمكة في حجة الوداع . وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري وذي عمرو يدعوهما إلى الإسلام فأسلما وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرير عندهم .

وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب وكتب إليه بكتاب آخر مع السائب بن العوام أخي الزبير فلم يسلم . وبعث إلى فروة بن عمرو الجذامي يدعوه إلى الإسلام . وقيل لم يبعث إليه وكان فروة عاملا لقيصر بمعان فأسلم وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه وبعث إليه هدية مع مسعود بن سعد وهي بغلة شهباء يقال لها : فضة وفرس يقال لها : الظرب وحمار يقال له يعفور كذا قاله جماعة والظاهر - والله أعلم - أن عفيرا ويعفور واحد عفير تصغير يعفور تصغير الترخيم . وبعث أثوابا وقباء من سندس مخوص بالذهب فقبل هديته ووهب لمسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية ونشا . وبعث عياش بن أبي ربيعة المخزومي بكتاب إلى الحارث ومسروح ونعيم بني عبد كلال من حمير .


فصل في مؤذنيه صلى الله عليه وسلم
وكانوا أربعة اثنان بالمدينة بلال بن رباح وهو أول من أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى وبقباء سعد القرظ مولى عمار بن ياسر وبمكة أبو محذورة واسمه أوس بن مغيرة الجمحي وكان أبو محذورة منهم يرجع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة فأخذ الشافعي رحمه الله وأهل مكة بأذان أبي محذورة وإقامة بلال وأخذ أبو حنيفة رحمه الله وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة وأخذ الإمام أحمد رحمه الله وأهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته وخالف مالك رحمه الله في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة فإنه لا يكررها .





فصل في أمرائه صلى الله عليه وسلم
منهم باذان بن ساسان من ولد بهرام جور أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن كلها بعد موت كسرى فهو أول أمير في الإسلام على اليمن وأول من أسلم من ملوك العجم .

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت باذان ابنه شهر بن باذان على صنعاء وأعمالها .

ثم قتل شهر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنعاء خالد بن سعيد بن العاص .

وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجر بن أبي أمية المخزومي كندة والصدف فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسر إليها فبعثه أبو بكر إلى قتال أناس من المرتدين .

وولى زياد بن أمية الأنصاري حضرموت . وولى أبا موسى الأشعري زبيد وعدن والساحل . وولى معاذ بن جبل الجند . وولى أبا سفيان صخر بن حرب نجران . وولى ابنه يزيد تيماء . وولى عتاب بن أسيد مكة وإقامة الموسم بالحج بالمسلمين سنة ثمان وله دون العشرين سنة . وولى علي بن أبي طالب الأخماس باليمن والقضاء بها . وولى عمرو بن العاص عمان وأعمالها . وولى الصدقات جماعة كثيرة لأنه كان لكل قبيلة وال يقبض صدقاتها فمن هنا كثر عمال الصدقات .

وولى أبا بكر إقامة الحج سنة تسع وبعث في إثره عليا يقرأ على الناس سورة ( براءة فقيل لأن أولها نزل بعد خروج أبي بكر إلى الحج . وقيل بل لأن عادة العرب كانت أنه لا يحل العقود ويعقدها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته . وقيل أردفه به عونا له ومساعدا . ولهذا قال له الصديق أمير أو مأمور ؟ قال بل مأمور وأما أعداء الله الرافضة فيقولون عزله بعلي وليس هذا ببدع من بهتهم وافترائهم .

واختلف الناس هل كانت هذه الحجة قد وقعت في شهر ذي الحجة أو كانت في ذي القعدة من أجل النسيء ؟ على قولين والله أعلم .


فصل في حرسه صلى الله عليه وسلم
فمنهم سعد بن معاذ حرسه يوم بدر حين نام في العريش ومحمد بن مسلمة حرسه يوم أحد والزبير بن العوام حرسه يوم الخندق .

ومنهم عباد بن بشر وهو الذي كان على حرسه وحرسه جماعة آخرون غير هؤلاء فلما نزل قوله تعالى: والله يعصمك من الناس [ المائدة 67 ] خرج على الناس فأخبرهم بها وصرف الحرس .




فصل فيمن كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم
علي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن عمرو ومحمد بن مسلمة وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح والضحاك بن سفيان الكلابي

وكان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري منه صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية





فصل فيمن كان على نفقاته وخاتمه ونعله وسواكه ومن كان يأذن عليه
كان بلال على نفقاته ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي على خاتمه وابن مسعود على سواكه ونعله وأذن عليه رباح الأسود وأنسة مولياه وأنس بن مالك وأبو موسى الأشعري .





فصل في شعرائه وخطبائه صلى الله عليه وسلم
كان من شعرائه الذين يذبون عن الإسلام كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة و حسان بن ثابت وكان أشدهم على الكفار حسان بن ثابت وكعب بن مالك يعيرهم بالكفر والشرك وكان خطيبه ثابت بن قيس بن شماس .




فصل في حداته الذين كانوا يحدون بين يديه صلى الله عليه وسلم في السفر
منهم عبد الله بن رواحة وأنجشة وعامر بن الأكوع وعمه سلمة بن الأكوع . الصوت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : رويدا يا أنجشة لا تكسر القوارير . يعني ضعفة النساء .





فصل في غزواته وبعوثه وسراياه صلى الله عليه وسلم
غزواته كلها وبعوثه وسراياه كانت بعد الهجرة في مدة عشر سنين فالغزوات سبع وعشرون وقيل خمس وعشرون وقيل تسع وعشرون وقيل غير ذلك قاتل منها في تسع : بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف .

وقيل قاتل في بني النضير والغابة ووادي القرى من أعمال خيبر .

وأما سراياه وبعوثه فقريب من ستين والغزوات الكبار الأمهات سبع : بدر وأحد والخندق وخيبر والفتح وحنين وتبوك . وفي شأن هذه الغزوات نزل القرآن فسورة ( الأنفال سورة بدر وفي أحد آخر سورة ( آل عمران من قوله وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال [ آل عمران 121 ] إلى قبيل آخرها بيسير وفي قصة الخندق وقريظة وخيبر صدر ( سورة الأحزاب وسورة ( الحشر في بني النضير وفي قصة الحديبية وخيبر سورة ( الفتح وأشير فيها إلى الفتح وذكر الفتح صريحا في سورة ( النصر .

وجرح منها صلى الله عليه وسلم في غزوة واحدة وهي أحد وقاتلت معه الملائكة منها في بدر وحنين ونزلت الملائكة يوم الخندق فزلزلت المشركين وهزمتهم ورمى فيها الحصباء في وجوه المشركين فهربوا وكان الفتح في غزوتين : بدر وحنين .

وقاتل بالمنجنيق منها في غزوة واحدة وهي

الطائف وتحصن في الخندق في واحدة وهي الأحزاب أشار به عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه


فصل في ذكر سلاحه وأثاثه صلى الله عليه وسلم
كان له تسعة أسياف مأثور وهو أول سيف ملكه ورثه من أبيه .

والعضب وذو الفقار بكسر الفاء وبفتح الفاء وكان لا يكاد يفارقه وكانت قائمته وقبيعته وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة . والقلعي والبتار والحتف والرسوب والمخذم والقضيب وكان نعل سيفه فضة وما بين ذلك حلق فضة .

وكان سيفه ذو الفقار تنفله يوم بدر وهو الذي أري فيها الرؤيا ودخل يوم الفتح مكة وعلى سيفه ذهب وفضة .

وكان له سبعة أدرع ذات الفضول وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على شعير لعياله وكان ثلاثين صاعا وكان الدين إلى سنة وكانت الدرع من حديد . وذات الوشاح وذات الحواشي والسعدية وفضة والبتراء والخرنق .

وكانت له ست قسي : الزوراء والروحاء والصفراء والبيضاء والكتوم كسرت يوم أحد فأخذها قتادة بن النعمان والسداد .

وكانت له جعبة تدعى : الكافور ومنطقة من أديم منشور فيها ثلاث حلق من فضة والإبزيم من فضة والطرف من فضة وكذا قال بعضهم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شد على وسطه منطقة .

وكان له ترس يقال له الزلوق وترس يقال له الفتق . قيل . وترس أهدي إليه فيه صورة تمثال فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال .

وكانت له خمسة أرماح يقال لأحدهم المثوي والآخر المثني وحربة يقال لها : النبعة وأخرى كبيرة تدعى : البيضاء وأخرى صغيرة شبه العكاز يقال لها : العنزة يمشي بها بين يديه في الأعياد تركز أمامه فيتخذها سترة يصلي إليها وكان يمشي بها أحيانا .

وكان له مغفر من حديد يقال له الموشح وشح بشبه ومغفر آخر يقال له السبوغ أو ذو السبوغ .

وكان له ثلاث جباب يلبسها في الحرب . قيل فيها : جبة سندس أخضر والمعروف أن عروة بن الزبير كان له يلمق من ديباج بطانته سندس أخضر يلبسه في الحرب والإمام أحمد في إحدى روايتيه يجوز لبس الحرير في الحرب . وكانت له راية سوداء يقال لها : العقاب . وفي سنن أبي داود عن رجل من الصحابة قال رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء وكانت له ألوية بيضاء وربما جعل فيها الأسود .

وكان له فسطاط يسمى : الكن ومحجن قدر ذراع أو أطول يمشي به ويركب به ويعلقه بين يديه على بعيره ومخصرة تسمى : العرجون وقضيب من الشوحط يسمى : الممشوق . قيل وهو الذي كان يتداوله الخلفاء .

وكان له قدح يسمى : الريان ويسمى مغنيا وقدح آخر مضبب بسلسلة من فضة . وكان له قدح من قوارير وقدح من عيدان يوضع تحت سريره يبول فيه بالليل وركوة تسمى : الصادر قيل وتور من حجارة يتوضأ منه ومخضب من شبه وقعب يسمى : السعة ومغتسل من صفر ومدهن وربعة يجعل فيها المرآة والمشط . قيل وكان المشط من عاج وهو الذبل ومكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثا في كل عين بالإثمد وكان في الربعة المقراضان والسواك .

وكانت له قصعة تسمى : الغراء لها أربع حلق يحملها أربعة رجال بينهم وصاع ومد وقطيفة وسرير قوائمه من ساج أهداه له أسعد بن زرارة وفراش من أدم حشوه ليف . وهذه الجملة قد رويت متفرقة في أحاديث .

وقد روى الطبراني في معجمه حديثا جامعا في الآنية من حديث ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيف قائمته من فضة وقبيعته من فضة وكان يسمى : ذا الفقار وكانت له قوس تسمى : السداد وكانت له كنانة تسمى : الجمع وكانت له درع موشحة بالنحاس تسمى : ذات الفضول وكانت له حربة تسمى : النبعاء وكان له محجن يسمى : الدقن وكان له ترس أبيض يسمى : الموجز وكان له فرس أدهم يسمى : السكب وكان له سرج يسمى : الداج وكانت له بغلة شهباء تسمى : دلدل وكانت له ناقة تسمى : القصواء وكان له حمار يسمى : يعفور وكان له بساط يسمى : الكن وكانت له عنزة تسمى : القمرة وكانت له ركوة تسمى : الصادرة وكان له مقراض اسمه الجامع ومرآة وقضيب شوحط يسمى : الموت .


فصل في دوابه صلى الله عليه وسلم
فمن الخيل السكب . قيل وهو أول فرس ملكه وكان اسمه عند الأعرابي الذي اشتراه منه بعشر أواق الضرس وكان أغر محجلا طلق اليمين كميتا . وقيل كان أدهم . والمرتجز وكان أشهب وهو الذي شهد فيه خزيمة بن ثابت . واللحيف واللزاز والظرب وسبحة والورد . فهذه سبعة متفق عليها جمعها الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن جماعة الشافعي في بيت فقال

والخيل سكب لحيف سبحة ظرب

لزاز مرتجز ورد لها أسرار


أخبرني بذلك عنه ولده الإمام عز الدين عبد العزيز أبو عمرو أعزه الله بطاعته .

وقيل كانت له أفراس أخر خمسة عشر ولكن مختلف فيها وكان دفتا سرجه من ليف .

وكان له من البغال دلدل وكانت شهباء أهداها له المقوقس . وبغلة أخرى . يقال لها : فضة . أهداها له فروة الجذامي وبغلة شهباء أهداها له صاحب أيلة وأخرى أهداها له صاحب دومة الجندل وقد قيل إن النجاشي أهدى له بغلة فكان يركبها .

ومن الحمير عفير وكان أشهب أهداه له المقوقس ملك القبط وحمار آخر أهداه له فروة الجذامي . وذكر أن سعد بن عبادة أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا فركبه .

ومن الإبل القصواء قيل وهي التي هاجر عليها والعضباء والجدعاء ولم يكن بهما عضب ولا جدع وإنما سميتا بذلك وقيل كان بأذنها عضب فسميت به وهل العضباء والجدعاء واحدة أو اثنتان ؟ فيه خلاف والعضباء هي التي كانت لا تسبق ثم جاء أعرابي على قعود فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حقا على الله ألا يرفع من الدنيا شيئا إلا وضعه وغنم صلى الله عليه وسلم يوم بدر جملا مهريا لأبي جهل في أنفه برة من فضة فأهداه يوم الحديبية ليغيظ به المشركين .

وكانت له خمس وأربعون لقحة وكانت له مهرية أرسل بها إليه سعد بن عبادة من نعم بني عقيل . وكانت له مائة شاة وكان لا يريد أن تزيد كلما ولد له الراعي بهمة ذبح مكانها شاة وكانت له سبع أعنز منائح ترعاهن أم أيمن .


فصل في ملابسه صلى الله عليه وسلم
كانت له عمامة تسمى : السحاب كساها عليا وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة . وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ويلبس العمامة بغير قلنسوة .

وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه كما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه

وفي مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء ولم يذكر في حديث جابر : ذؤابة فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه .

وقد يقال إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه .

وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه في الجنة يذكر في سبب الذؤابة شيئا بديعا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة لما رأى رب العزة تبارك وتعالى فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت لا أدري فوضع يده بين كتفي فعلمت ما بين السماء والأرض . . . الحديث وهو في الترمذي وسئل عنه البخاري فقال صحيح .

قال فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه وهذا من العلم الذي تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم ولم أر هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره .

ولبس القميص وكان أحب الثياب إليه وكان كمه إلى الرسغ ولبس الجبة والفروج وهو شبه القباء والفرجية ولبس القباء أيضا ولبس في السفر جبة ضيقة الكمين ولبس الإزار والرداء .

قال الواقدي : كان رداؤه وبرده طول ستة أذرع في ثلاثة وشبر وإزاره من نسج عمان طول أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر .

[ النهي عن لبس الأحمر ]

ولبس حلة حمراء والحلة إزار ورداء ولا تكون الحلة إلا اسما للثوبين معا وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتا لا يخالطها غيره وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود كسائر البرود اليمنية وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط الحمر وإلا فالأحمر البحت منهي عنه أشد النهي ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المياثر الحمر وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليه ريطة مضرجة بالعصفر فقال ما هذه الريطة التي عليك ؟ فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورا لهم فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال يا عبد الله ما فعلت الريطة ؟ فأخبرته فقال هلا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس بها للنساء

وفي صحيح مسلم عنه أيضا قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين . فقال إن هذه من لباس الكفار فلا تلبسها وفي صحيحه أيضا عن علي رضي الله عنه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس المعصفر ومعلوم أن ذلك إنما يصبغ صبغا أحمر .

وفي بعض السنن أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمراء فقال ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم فقمنا سراعا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفر بعض إبلنا فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها . رواه أبو داود .

وفي جواز لبس الأحمر من الثياب والجوخ وغيرها نظر . وأما كراهته فشديدة جدا فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس الأحمر القاني كلا لقد أعاذه الله منه وإنما وقعت الشبهة من لفظ الحلة الحمراء والله أعلم .

ولبس الخميصة المعلمة والساذجة ولبس ثوبا أسود ولبس الفروة المكفوفة بالسندس . وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادهما عن أنس بن مالك أن ملك الروم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم مستقة من سندس فلبسها فكأني أنظر إلى يديه تذبذبان . قال الأصمعي : المساتق فراء طوال الأكمام . قال الخطابي : يشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس لأن نفس الفروة لا تكون سندسا .

فصل واشترى سراويل
والظاهر أنه إنما اشتراها ليلبسها وقد روي في غير حديث أنه لبس السراويل وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه .

ولبس الخفين ولبس النعل الذي يسمى التاسومة . ولبس الخاتم واختلفت الأحاديث هل كان في يمناه أو يسراه وكلها صحيحة السند . ولبس البيضة التي تسمى : الخوذة ولبس الدرع التي تسمى : الزردية وظاهر يوم أحد بين الدرعين .

وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج . وفرجاها مكفوفان بالديباج فقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت قبضتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها

وكان له بردان أخضران وكساء أسود وكساء أحمر ملبد وكساء من شعر وكان قميصه من قطن وكان قصير الطول قصير الكمين وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة وهي مخالفة لسنته وفي جوازها نظر فإنها من جنس الخيلاء .

وكان أحب الثياب إليه القميص والحبرة وهي ضرب من البرود فيه حمرة . وكان أحب الألوان إليه البياض وقال هي من خير ثيابكم فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم وفي الصحيح عن عائشة أنها أخرجت كساء ملبدا وإزارا غليظا فقالت قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين . ولبس خاتما من ذهب ثم رمى به ونهى عن التختم بالذهب ثم اتخذ خاتما من فضة ولم ينه عنه .

وأما حديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أشياء وذكر منها : ونهى عن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان فلا أدري ما حال الحديث ولا وجهه والله أعلم .

وكان يجعل فص خاتمه مما يلي باطن كفه . وذكر الترمذي أنه كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه وصححه وأنكره أبو داود .

[ الإشارة إلى كراهة لبس الطيلسان ]

وأما الطيلسان فلم ينقل عنه أنه لبسه ولا أحد من أصحابه بل قد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدجال فقال يخرج معه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة ورأى أنس جماعة عليهم الطيالسة فقال ما أشبههم بيهود خيبر . ومن هاهنا كره لبسها جماعة من السلف والخلف لما روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من تشبه بقوم فهو منهم

وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم ليس منا من تشبه بقوم غيرنا وأما ما جاء في حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر متقنعا بالهاجرة فإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تلك الساعة ليختفي بذلك ففعله للحاجة ولم تكن عادته التقنع وقد ذكر أنس عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر القناع وهذا إنما كان يفعله - والله أعلم - للحاجة من الحر ونحوه وأيضا ليس التقنع من التطيلس .

فصل [ غالب لبسه صلى الله عليه وسلم وأصحابه القطن ]
وكان غالب ما يلبس هو وأصحابه ما نسج من القطن وربما لبسوا ما نسج من الصوف والكتان وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصبهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جبة صوف وإزار صوف وعمامة صوف فاشمأز منه محمد وقال أظن أن أقواما يلبسون الصوف ويقولون قد لبسه عيسى ابن مريم وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لبس الكتان والصوف والقطن وسنة نبينا أحق أن تتبع .

ومقصود ابن سيرين بهذا أن أقواما يرون أن لبس الصوف دائما أفضل من غيره فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره وكذلك يتحرون زيا واحدا من الملابس ويتحرون رسوما وأوضاعا وهيئات يرون الخروج عنها منكرا وليس المنكر إلا التقيد بها والمحافظة عليها وترك الخروج عنها .

[ السنة لبس ما تيسر ]

والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس من الصوف تارة والقطن تارة والكتان تارة .

[ لبس البرد ]

ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة . وكان يتلحى بالعمامة تحت الحنك .

وكان إذا استجد ثوبا سماه باسمه وقال اللهم أنت كسوتني هذا القميص أو الرداء أو العمامة أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له وكان إذا لبس قميصه بدأ بميامنه . ولبس الشعر الأسود كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه مرط مرحل من شعر أسود

وفي الصحيحين عن قتادة قلنا لأنس أي اللباس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال الحبرة . والحبرة برد من برود اليمن . فإن غالب لباسهم كان من نسج اليمن لأنها قريبة منهم وربما لبسوا ما يجلب من الشام ومصر كالقباطي المنسوجة من الكتان التي كانت تنسجها القبط .

وفي سنن النسائي عن عائشة أنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم بردة من صوف فلبسها فلما عرق فوجد ريح الصوف طرحها وكان يحب الريح الطيب .

وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عباس قال لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل وفي سنن النسائي عن أبي رمثة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وعليه بردان أخضران . والبرد الأخضر هو الذي فيه خطوط خضر وهو كالحلة الحمراء سواء فمن فهم من الحلة الحمراء الأحمر البحت فينبغي أن يقول إن البرد الأخضر كان أخضر بحتا وهذا لا يقوله أحد .

[ مخدته صلى الله عليه وسلم ]

[ الرد على من يمتنعون عما أباح الله ]

[ النهي عن لباس الشهرة سواء للفخر أو للتزهد ]

وكانت مخدته صلى الله عليه وسلم من أدم حشوها ليف فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدا وتعبدا بإزائهم طائفة قابلوهم فلا يلبسون إلا أشرف الثياب ولا يأكلون إلا ألين الطعام فلا يرون لبس الخشن ولا أكله تكبرا وتجبرا وكلا الطائفتين هديه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعض السلف كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب العالي والمنخفض وفي السنن عن ابن عمر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة ثم تلهب فيه النار وهذا لأنه قصد به الاختيال والفخر فعاقبه الله بنقيض ذلك فأذله كما عاقب من أطال ثيابه خيلاء بأن خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة وفي السنن عنه أيضا صلى الله عليه وسلم قال الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة وفي السنن عن ابن عمر أيضا قال ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص وكذلك لبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ويحمد في موضع فيذم إذا كان شهرة وخيلاء ويمدح إذا كان تواضعا واستكانة كما أن لبس الرفيع من الثياب يذم إذا كان تكبرا وفخرا وخيلاء ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا لنعمة الله ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فقال رجل يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة أفمن الكبر ذاك ؟ فقال لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس


فصل هديه صلى الله عليه وسلم في الطعام
وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم وما عاب طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ولم يحرمه على الأمة بل أكل على مائدته وهو ينظر . وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج ولحم الحبارى ولحم حمار الوحش والأرنب وطعام البحر وأكل الشواء وأكل الرطب والتمر وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء وشرب نقيع التمر وأكل الخزيرة وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق وأكل القثاء بالرطب وأكل الأقط وأكل التمر بالخبز وأكل الخبز بالخل وأكل الثريد وهو الخبز باللحم وأكل الخبز بالإهالة وهي الودك وهو الشحم المذاب وأكل من الكبد المشوية وأكل القديد وأكل الدباء المطبوخة وكان يحبها وأكل المسلوقة وأكل الثريد بالسمن وأكل الجبن وأكل الخبز بالزيت وأكل البطيخ بالرطب وأكل التمر بالزبد وكان يحبه . ولم يكن يرد طيبا ولا يتكلفه بل كان هديه أكل ما تيسر فإن أعوزه صبر حتى إنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع ويرى الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار .

وكان معظم مطعمه يوضع على الأرض في السفرة وهي كانت مائدته وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا فرغ وهو أشرف ما يكون من الأكلة فإن المتكبر يأكل بأصبع واحدة والجشع الحريص يأكل بالخمس ويدفع بالراحة


وكان لا يأكل متكئا والاتكاء على ثلاثة أنواع أحدها : الاتكاء على الجنب والثاني : التربع والثالث الاتكاء على إحدى يديه وأكله بالأخرى والثلاث مذمومة .

وكان يسمي الله تعالى على أول طعامه ويحمده في آخره فيقول عند انقضائه الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا . وربما قال الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله الذي أطعم من الطعام وسقى من الشراب وكسا من العري وهدى من الضلالة وبصر من العمى وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين .

وربما قال الحمد لله الذي أطعم وسقى . وكان إذا فرغ من طعامه لعق أصابعه ولم يكن لهم مناديل يمسحون بها أيديهم ولم يكن عادتهم غسل أيديهم كلما أكلوا . وكان أكثر شربه قاعدا بل زجر عن الشرب قائما وشرب مرة قائما


فقيل هذا نسخ لنهيه وقيل بل فعله لبيان جواز الأمرين والذي يظهر فيه - والله أعلم - أنها واقعة عين شرب فيها قائما لعذر وسياق القصة يدل عليه فإنه أتى زمزم وهم يستقون منها فأخذ الدلو وشرب قائما . والصحيح في هذه المسألة النهي عن الشرب قائما وجوازه لعذر يمنع من القعود وبهذا تجمع أحاديث الباب والله أعلم .

وكان إذا شرب ناول من على يمينه وإن كان من على يساره أكبر منه
يتبع ..

اخت مسلمة
04-09-2009, 12:08 AM
فصل في هديه في النكاح ومعاشرته صلى الله عليه وسلم أهله
صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال حبب إلي من دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة هذا لفظ الحديث ومن رواه حبب إلي من دنياكم ثلاث فقد وهم ولم يقل صلى الله عليه وسلم ثلاث والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها . وكان النساء والطيب أحب شيء إليه وكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وكان قد أعطي قوة ثلاثين في الجماع وغيره وأباح الله له من ذلك ما لم يبحه لأحد من أمته . وكان يقسم بينهن في المبيت والإيواء والنفقة وأما المحبة فكان يقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك فقيل هو الحب والجماع ولا تجب التسوية في ذلك لأنه مما لا يملك . وهل كان القسم واجبا عليه أو كان له معاشرتهن من غير قسم ؟ على قولين للفقهاء . فهو أكثر الأمة نساء قال ابن عباس : تزوجوا فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء

وطلق صلى الله عليه وسلم وراجع وآلى إيلاء مؤقتا بشهر ولم يظاهر أبدا وأخطأ من قال إنه ظاهر خطأ عظيما وإنما ذكرته هنا تنبيها على قبح خطئه ونسبته إلى ما برأه الله منه .

وكانت سيرته مع أزواجه حسن المعاشرة وحسن الخلق . وكان يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها . وكان إذا هويت شيئا لا محذور فيه تابعها عليه وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرب وكان إذا تعرقت عرقا - وهو العظم الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها وكان يتكئ في حجرها ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها وربما كانت حائضا وكان يأمرها وهي حائض فتتزر ثم يباشرها وكان يقبلها وهو صائم وكان من لطفه وحسن خلقه مع أهله أنه يمكنها من اللعب ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده وهي متكئة على منكبيه تنظر وسابقها في السفر على الأقدام مرتين وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة . وكان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ولم يقض للبواقي شيئا وإلى هذا ذهب الجمهور .

وكان يقول خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي وربما مد يده إلى بعض نسائه في حضرة باقيهن . وكان إذا صلى العصر دار على نسائه فدنا منهن واستقرأ أحوالهن فإذا جاء الليل انقلب إلى بيت صاحبة النوبة فخصها بالليل . وقالت عائشة كان لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندهن في القسم وقل يوم إلا كان يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو في نوبتها فيبيت عندها وكان يقسم لثمان منهن دون التاسعة ووقع في صحيح مسلم من قول عطاء أن التي لم يكن يقسم لها هي صفية بنت حيي وهو غلط من عطاء رحمه الله وإنما هي سودة فإنها لما كبرت وهبت نوبتها لعائشة . وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة وسبب هذا الوهم - والله أعلم - أنه كان قد وجد على صفية في شيء فقالت لعائشة هل لك أن ترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم عني وأهب لك يومي ؟ قالت نعم فقعدت عائشة إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صفية فقال : إليك عني يا عائشة فإنه ليس يومك فقالت ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وأخبرته بالخبر فرضي عنها وإنما كانت وهبتها ذلك اليوم وتلك النوبة الخاصة ويتعين ذلك وإلا كان يكون القسم لسبع منهن وهو خلاف الحديث الصحيح الذي لا ريب فيه أن القسم كان لثمان والله أعلم .

ولو اتفقت مثل هذه الواقعة لمن له أكثر من زوجتين فوهبت إحداهن يومها للأخرى فهل للزوج أن يوالي بين ليلة الموهوبة وليلتها الأصلية وإن لم تكن ليلة الواهبة تليها أو يجب عليه أن يجعل ليلتها هي الليلة التي كانت تستحقها الواهبة بعينها ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره .

وكان صلى الله عليه وسلم يأتي أهله آخر الليل وأوله فكان إذا جامع أول الليل ربما اغتسل ونام وربما توضأ ونام . وذكر أبو إسحاق السبيعي عن الأسود عن عائشة أنه كان ربما نام ولم يمس ماء وهو غلط عند أئمة الحديث وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته .

وكان يطوف على نسائه بغسل واحد وربما اغتسل عند كل واحدة فعل هذا وهذا .

وكان إذا سافر وقدم لم يطرق أهله ليلا وكان ينهى عن ذلك .


فصل في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في نومه وانتباهه
كان ينام على الفراش تارة وعلى النطع تارة وعلى الحصير تارة وعلى الأرض تارة وعلى السرير تارة بين رماله وتارة على كساء أسود .

قال عباد بن تميم عن عمه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى . وكان فراشه أدما حشوه ليف . وكان له مسح ينام عليه يثنى بثنيتين وثني له يوما أربع ثنيات فنهاهم عن ذلك وقال ردوه إلى حاله الأول فإنه منعني صلاتي الليلة

والمقصود أنه نام على الفراش وتغطى باللحاف وقال لنسائه : ما أتاني جبريل وأنا في لحاف امرأة منكن غير عائشة وكانت وسادته أدما حشوها ليف .

وكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال باسمك اللهم أحيا وأموت وكان يجمع كفيه ثم ينفث فيهما وكان يقرأ فيهما : " قل هو الله أحد " " قل أعوذ برب الفلق " " قل أعوذ برب الناس " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات .

وكان ينام على شقه الأيمن ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ثم يقول : اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك وكان يقول إذا أوى إلى فراشه : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي ذكره مسلم . وذكر أيضا أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه

اللهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر

وكان إذا استيقظ من منامه في الليل قال لا إله إلا أنت سبحانك اللهم إني أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

وكان إذا انتبه من نومه قال : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ثم يتسوك وربما قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران من قوله إن في خلق السماوات والأرض إلى آخرها [ آل عمران 200 ] . وقال اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت

وكان ينام أول الليل ويقوم آخره وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين وكان تنام عيناه ولا ينام قلبه . وكان إذا نام لم يوقظوه حتى يكون هو الذي يستيقظ .

وكان إذا عرس بليل اضطجع على شقه الأيمن وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه هكذا قال الترمذي . وقال أبو حاتم في صحيحه كان إذا عرس بالليل توسد يمينه وإذا عرس قبيل الصبح نصب ساعده وأظن هذا وهما والصواب حديث الترمذي . وقال أبو حاتم والتعريس إنما يكون قبيل الصبح . وكان نومه أعدل النوم وهو أنفع ما يكون من النوم والأطباء يقولون هو ثلث الليل والنهار ثمان ساعات .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الركوب

ركب الخيل والإبل والبغال والحمير وركب الفرس مسرجة تارة وعريا أخرى وكان يجريها في بعض الأحيان وكان يركب وحده وهو الأكثر وربما أردف خلفه على البعير وربما أردف خلفه وأركب أمامه وكانوا ثلاثة على بعير وأردف الرجال وأردف بعض نسائه وكان أكثر مراكبه الخيل والإبل .

وأما البغال فالمعروف أنه كان عنده منها بغلة واحدة أهداها له بعض الملوك ولم تكن البغال مشهورة بأرض العرب بل لما أهديت له البغلة قيل ألا ننزي الخيل على الحمر ؟ فقال إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون





فصل [ اتخاذ الغنم والرقيق ]

واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم . وكان له مائة شاة وكان لا يحب أن تزيد على مائة فإذا زادت بهمة ذبح مكانها أخرى عتقاؤه صلى الله عليه وسلم من العبيد أكثر من الإماء واتخذ الرقيق من الإماء والعبيد .

[ عتقاؤه من العبيد أكثر من الإماء ]

وكان مواليه وعتقاؤه من العبيد أكثر من الإماء

[ المواضع التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر ]

وقد روى الترمذي في جامعهمن حديث أبي أمامة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيما امرئ أعتق امرءا مسلما كان فكاكه من النار يجزئ كل عضو منه عضوا منه وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزئ كل عضوين منهما عضوا منه وقال هذا حديث صحيح . وهذا يدل على أن عتق العبد أفضل وأن عتق العبد يعدل عتق أمتين فكان أكثر عتقائه صلى الله عليه وسلم من العبيد وهذا أحد المواضع الخمسة التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر
والثاني : العقيقة فإنه عن الأنثى شاة وعن الذكر شاتان عند الجمهور وفيه عدة أحاديث صحاح وحسان . والثالث الشهادة فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل .
والرابع الميراث .
والخامس الدية .


فصل هديه صلى الله عليه وسلم في العقود

وباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله تعالى برسالته أكثر من بيعه وكذلك بعد الهجرة لا يكاد يحفظ عنه البيع إلا في قضايا يسيرة أكثرها لغيره كبيعه القدح والحلس فيمن يزيد وبيعه يعقوب المدبر غلام أبي مذكور وبيعه عبدا أسود بعبدين .

وأما شراؤه فكثير وآجر واستأجر واستئجاره أكثر من إيجاره وإنما يحفظ عنه أنه أجر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم وأجر نفسه من خديجة في سفره بمالها إلى الشام

وإن كان العقد مضاربة فالمضارب أمين وأجير ووكيل وشريك فأمين إذا قبض المال ووكيل إذا تصرف فيه وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل وشريك إذا ظهر فيه الربح .

وقد أخرج الحاكم في مستدركه من حديث الربيع بن بدر عن أبي الزبير عن جابر قال آجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جرش كل سفرة بقلوص وقال صحيح الإسناد . قال في النهاية : جرش بضم الجيم وفتح الراء من مخاليف اليمن وهو بفتحهما بلد بالشام . قلت : إن صح الحديث فإنما هو المفتوح الذي بالشام ولا يصح فإن الربيع بن بدر هذا هو عليلة ضعفه أئمة الحديث . قال النسائي والدارقطني والأزدي متروك وكأن الحاكم ظنه الربيع بن بدر مولى طلحة بن عبيد الله .

وشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قدم عليه شريكه قال : أما تعرفني ؟ قال أما كنت شريكي ؟ فنعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري . وتدارئ بالهمزة من المدارأة وهي مدافعة الحق فإن ترك همزها صارت من المداراة وهي المدافعة بالتي هي أحسن .

ووكل وتوكل وكان توكيله أكثر من توكله . وأهدى وقبل الهدية وأثاب عليها ووهب واتهب فقال لسلمة بن الأكوع وقد وقع في سهمه جارية : هبها لي فوهبها له ففادى بها من أهل مكة أسارى من المسلمين واستدان برهن وبغير رهن واستعار واشترى بالثمن الحال والمؤجل .

[الضمان ]

وضمن ضمانا خاصا على ربه على أعمال من عملها كان مضمونا له بالجنة وضمانا عاما لديون من توفي من المسلمين ولم يدع وفاء أنها عليه وهو يوفيها وقد قيل إن هذا الحكم عام للأئمة بعده فالسلطان ضامن لديون المسلمين إذا لم يخلفوا وفاء فإنها عليه يوفيها من بيت المال وقالوا : كما يرثه إذا مات ولم يدع وارثا فكذلك يقضي عنه دينه إذا مات ولم يدع وفاء وكذلك ينفق عليه في حياته إذا لم يكن له من ينفق عليه .

ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا كانت له جعلها صدقة في سبيل الله وتشفع وشفع إليه وردت بريرة شفاعته في مراجعتها مغيثا فلم يغضب عليها ولا عتب وهو الأسوة والقدوة وحلف في أكثر من ثمانين موضعا وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع فقال تعالى : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق [ يونس 53 ] وقال تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ سبأ 3 ] وقال تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير التغابن 7 ] وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر محمد بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه فتحاكم إليه يوما هو وخصم له فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود فتهيأ للحلف فقال له القاضي إسماعيل أوتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟ فقال وما يمنعني من الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه قال أين ذلك ؟ فسردها له أبو بكر فاستحسن ذلك منه جدا ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم .

[الاستثناء في اليمين ]

وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة ويكفرها تارة ويمضي فيها تارة والاستثناء يمنع عقد اليمين والكفارة تحلها بعد عقدها ولهذا سماها الله تحلة .

[المزاح ]

وكان يمازح ويقول في مزاحه الحق ويوري ولا يقول في توريته إلا الحق مثل أن يريد جهة يقصدها فيسأل عن غيرها كيف طريقها ؟ وكيف مياهها ومسلكها ؟ أو نحو ذلك . وكان يشير ويستشير . وكان يعود المريض ويشهد الجنازة ويجيب الدعوة ويمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم وسمع مديح الشعر وأثاب عليه ولكن ما قيل فيه من المديح فهو جزء يسير جدا من محامده وأثاب على الحق . وأما مدح غيره من الناس فأكثر ما يكون بالكذب فلذلك أمر أن يحثى في وجوه المداحين التراب


فصل وسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه على الأقدام وصارع

وخصف نعله بيده ورقع ثوبه بيده ورقع دلوه وحلب شاته وفلى ثوبه وخدم أهله ونفسه وحمل معهم اللبن في بناء المسجد وربط على بطنه الحجر من الجوع تارة وشبع تارة وأضاف وأضيف واحتجم في وسط رأسه وعلى ظهر قدمه واحتجم في الأخدعين والكاهل وهو ما بين الكتفين وتداوى وكوى ولم يكتو ورقى ولم يسترق وحمى المريض مما يؤذيه .

[ جمع القرآن لأصول الطب ]

وأصول الطب ثلاثة : الحمية وحفظ الصحة واستفراغ المادة المضرة وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر فقال تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ النساء 43 والمائدة 6 ] فأباح التيمم للمريض حمية له كما أباحه للعادم وقال في حفظ الصحة فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة 184 ] فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظا لصحته لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر فيضعف القوة والصحة .

وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة 196 ] فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه وهو محرم أن يحلق رأسه ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل كما حصل لكعب بن عجرة أو تولد عليه المرض وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله فذكر من كل جنس منها شيئا وصورة تنبيها بها على نعمته على عباده في أمثالها من حميتهم وحفظ صحتهم واستفراغ مواد أذاهم رحمة لعباده ولطفا بهم ورأفة بهم . وهو الرءوف الرحيم .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في معاملته

[السلف في العقود ]

كان أحسن الناس معاملة . وكان إذا استسلف سلفا قضى خيرا منه . وكان إذا استسلف من رجل سلفا قضاه إياه ودعا له فقال : بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الحمد والأداء

واستسلف من رجل أربعين صاعا فاحتاج الأنصاري فأتاه فقال صلى الله عليه وسلم : ما جاءنا من شيء بعد فقال الرجل وأراد أن يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقل إلا خيرا فأنا خير من تسلف فأعطاه أربعين فضلا وأربعين سلفة فأعطاه ثمانين ذكره البزار .

واقترض بعيرا فجاء صاحبه يتقاضاه فأغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم فهم به أصحابه فقال : دعوه فإن لصاحب الحق مقالا

واشترى مرة شيئا وليس عنده ثمنه فأربح فيه فباعه وتصدق بالربح على أرامل بني عبد المطلب وقال : لا أشتري بعد هذا شيئا إلا وعندي ثمنه ذكره أبو داود وهذا لا يناقض الشراء في الذمة إلى أجل فهذا شيء وهذا شيء . وتقاضاه غريم له دينا فأغلظ عليه فهم به عمر بن الخطاب فقال : مه يا عمر كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء . وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر وباعه يهودي بيعا إلى أجل فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنه فقال : لم يحل الأجل فقال اليهودي : إنكم لمطل يا بني عبد المطلب فهم به أصحابه فنهاهم فلم يزده ذلك إلا حلما فقال اليهودي : كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة وبقيت واحدة وهي أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فأردت أن أعرفها فأسلم اليهودي



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه

كان إذا مشى تكفأ تكفؤا وكان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها قال أبو هريرة : ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب وقال مرة إذا مشى تقلع قلت : والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة وهي أعدل المشيات وأرواحها للأعضاء وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة وهي مشية مذمومة قبيحة وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج وهي مشية مذمومة أيضا وهي دالة على خفة عقل صاحبها ولا سيما إن كان يكثر الالتفات حال مشيه يمينا وشمالا وإما أن يمشي هونا وهي مشية عباد الرحمن كما وصفهم بها في كتابه فقال وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا [ الفرقان : 63 ] قال غير واحد من السلف بسكينة ووقار من غير تكبر ولا تماوت وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب وكأنما الأرض تطوى له حتى كان الماشي معه يجهد نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث وهذا يدل على أمرين أن مشيته لم تكن مشية بتماوت ولا بمهانة بل مشية أعدل المشيات .

[ أنواع المشي ]

والمشيات عشرة أنواع هذه الثلاثة منها والرابع السعي . والخامس الرمل وهو أسرع المشي مع تقارب الخطى ويسمى : الخبب وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم خب في طوافه ثلاثا ومشى أربعا السادس النسلان وهو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي ولا يكرثه . وفي بعض المسانيد أن المشاة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشي في حجة الوداع فقال استعينوا بالنسلان والسابع الخوزلى وهي مشية التمايل وهي مشية يقال إن فيها تكسرا وتخنثا . والثامن القهقرى وهي المشية إلى وراء . والتاسع الجمزى وهي مشية يثب فيها الماشي وثبا . والعاشر مشية التبختر وهي مشية أولي العجب والتكبر وهي التي خسف الله سبحانه بصاحبها لما نظر في عطفيه وأعجبته نفسه فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة . وأعدل هذه المشيات مشية الهون والتكفؤ .

[مشيه مع أصحابه ]

وأما مشيه مع أصحابه فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم ويقول دعوا ظهري للملائكة ولهذا جاء في الحديث وكان يسوق أصحابه . وكان يمشي حافيا ومنتعلا وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعة ومشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه وسال منها الدم فقال


هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت


وكان في السفر ساقه أصحابه يزجي الضعيف ويردفه ويدعو لهم .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في جلوسه واتكائه

كان يجلس على الأرض وعلى الحصير والبساط وقالت قيلة بنت مخرمة : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء قالت فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كالمتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق . ولما قدم عليه عدي بن حاتم دعاه إلى منزله فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها فجعلها بينه وبين عدي وجلس على الأرض . قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك وكان يستلقي أحيانا وربما وضع إحدى رجليه على الأخرى وكان يتكئ على الوسادة وربما اتكأ على يساره وربما اتكأ على يمينه . وكان إذا احتاج في خروجه توكأ .

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم عند قضاء الحاجة

كان إذا دخل الخلاء قال : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث الرجس النجس الشيطان الرجيم . وكان إذا خرج يقول : غفرانك وكان يستنجي بالماء تارة ويستجمر بالأحجار تارة ويجمع بينهما تارة .

وكان إذا ذهب في سفره للحاجة انطلق حتى يتوارى عن أصحابه وربما كان يبعد نحو الميلين .

وكان يستتر للحاجة بالهدف تارة وبحائش النخل تارة وبشجر الوادي تارة .

وكان إذا أراد أن يبول في عزاز من الأرض - وهو الموضع الصلب - أخذ عودا من الأرض فنكت به حتى يثرى ثم يبول

[ هل يجوز التبول قائما ؟ ]

وكان يرتاد لبوله الموضع الدمث - وهو اللين الرخو من الأرض - وأكثر ما كان يبول وهو قاعد حتى قالت عائشة : من حدثكم أنه كان يبول قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا وقد روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة أنه بال قائما فقيل هذا بيان للجواز وقيل إنما فعله من وجع كان بمأبضيه . وقيل فعله استشفاء .

قال الشافعي رحمه الله : والعرب تستشفي من وجع الصلب بالبول قائما والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزها وبعدا من إصابة البول فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو ملقى الكناسة وتسمى المزبلة وهي تكون مرتفعة فلو بال فيها الرجل قاعدا لارتد عليه بوله وهو صلى الله عليه وسلم استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط فلم يكن بد من بوله قائما والله أعلم .

وقد ذكر الترمذي عن عمر بن الخطاب قال رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال : يا عمر لا تبل قائما قال فما بلت قائما بعد قال الترمذي : وإنما رفعه عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف عند أهل الحديث .

وفي مسند البزار وغيره من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث من الجفاء : أن يبول الرجل قائما أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته أو ينفخ في سجوده ورواه الترمذي
وقال هو غير محفوظ وقال البزار : لا نعلم من رواه عن عبد الله بن بريدة إلا سعيد بن عبيد الله ولم يجرحه بشيء . وقال ابن أبي حاتم : هو بصري ثقة مشهور .

وكان يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن وكان يستنجي ويستجمر بشماله ولم يكن يصنع شيئا مما يصنعه المبتلون بالوسواس من نتر الذكر والنحنحة والقفز ومسك الحبل وطلوع الدرج وحشو القطن في الإحليل وصب الماء فيه وتفقده الفينة بعد الفينة ونحو ذلك من بدع أهل الوسواس . وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بال نتر ذكره ثلاثا . وروي أنه أمر به ولكن لا يصح من فعله ولا أمره . قاله أبو جعفر العقيلي .

وكان إذا سلم عليه أحد وهو يبول لم يرد عليه ذكره مسلم في صحيحه عن ابن عمر . وروى البزار في مسنده في هذه القصة أنه رد عليه ثم قال : إنما رددت عليك خشية أن تقول سلمت عليه فلم يرد علي سلاما فإذا رأيتني هكذا فلا تسلم علي فإني لا أرد عليك السلام

وقد قيل لعل هذا كان مرتين وقيل حديث مسلم أصح لأنه من حديث الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر وحديث البزار من رواية أبي بكر رجل من أولاد عبد الله بن عمر عن نافع عنه . قيل وأبو بكر هذا : هو أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر روى عنه مالك وغيره والضحاك أوثق منه .

وكان إذا استنجى بالماء ضرب يده بعد ذلك على الأرض وكان إذا جلس لحاجته لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض .

افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الفطرة وتوابعها

قد سبق الخلاف هل ولد صلى الله عليه وسلم مختونا أو ختنته الملائكة يوم شق صدره لأول مرة أو ختنه جده عبد المطلب ؟

وكان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وأخذه وعطائه وكانت يمينه لطعامه وشرابه وطهوره ويساره لخلائه ونحوه من إزالة الأذى .

وكان هديه في حلق الرأس تركه كله أو أخذه كله ولم يكن يحلق بعضه ويدع بعضه ولم يحفظ عنه حلقه إلا في نسك .

وكان يحب السواك وكان يستاك مفطرا وصائما ويستاك عند الانتباه من النوم وعند الوضوء وعند الصلاة وعند دخول المنزل وكان يستاك بعود الأراك .

وكان يكثر التطيب ويحب الطيب وذكر عنه أنه كان يطلي بالنورة

وكان أولا يسدل شعره ثم فرقه والفرق أن يجعل شعره فرقتين كل فرقة ذؤابة والسدل أن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين . ولم يدخل حماما قط ولعله ما رآه بعينه ولم يصح في الحمام حديث

وكان له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثا عند النوم في كل عين .

واختلف الصحابة في خضابه فقال أنس : لم يخضب . وقال أبو هريرة : خضب وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوبا قال حماد وأخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل قال رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك مخضوبا وقالت طائفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر الطيب قد احمر شعره فكان يظن مخضوبا . ولم يخضب . وقال أبو رمثة : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن لي فقال : أهذا ابنك ؟ قلت نعم أشهد به فقال لا تجني عليه ولا يجني عليك

قال ورأيت الشيب أحمر .

قال الترمذي : هذا أحسن شيء روي في هذا الباب وأفسره لأن الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الشيب . قال حماد بن سلمة عن سماك بن حرب : قيل لجابر بن سمرة : أكان في رأس النبي صلى الله عليه وسلم شيب ؟ قال لم يكن في رأسه شيب إلا شعرات في مفرق رأسه إذا ادهن واراهن الدهن قال أنس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ولحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيات

وكان يحب الترجل وكان يرجل نفسه تارة وترجله عائشة تارة . وكان شعره فوق الجمة ودون الوفرة وكانت جمته تضرب شحمة أذنيه وإذا طال جعله غدائر أربعا قالت أم هانئ قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قدمة وله أربع غدائر والغدائر الضفائر وهذا حديث صحيح . وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب وثبت عنه في حديث صحيح مسلم أنه قال من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه طيب الرائحة خفيف المحمل هذا لفظ الحديث وبعضهم يرويه من عرض عليه طيب فلا يرده وليس بمعناه فإن الريحان لا تكثر المنة بأخذه وقد جرت العادة بالتسامح في بذله بخلاف المسك والعنبر والغالية ونحوها ولكن الذي ثبت عنه من حديث عزرة بن ثابت عن ثمامة قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب وأما حديث ابن عمر يرفعه ثلاث لا ترد : الوسائد والدهن واللبن فحديث معلول رواه الترمذي وذكر علته ولا أحفظ الآن ما قيل فيه إلا أنه من رواية عبد الله بن مسلم بن جندب عن أبيه عن ابن عمر .

ومن مراسيل أبي عثمان النهدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكة يتطيب منها وكان أحب الطيب إليه المسك وكان يعجبه الفاغية قيل وهي نور الحناء.


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قص الشارب

قال أبو عمر بن عبد البر : روى الحسن بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه ويذكر أن إبراهيم كان يقص شاربه ووقفه طائفة على ابن عباس . وروى الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يأخذ من شاربه فليس منا وقال حديث صحيح . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قصوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب وفي صحيح مسلم عن أنس قال وقت لنا النبي صلى الله عليه وسلم في قص الشارب وتقليم الأظفار ألا نترك أكثر من أربعين يوما وليلة

واختلف السلف في قص الشارب وحلقه أيهما أفضل ؟ فقال مالك في موطئه يؤخذ من الشارب حتى تبدو أطراف الشفة وهو الإطار ولا يجزه فيمثل بنفسه . وذكر ابن عبد الحكم عن مالك قال يحفي الشارب ويعفي اللحى وليس إحفاء الشارب حلقه وأرى أن يؤدب من حلق شاربه وقال ابن القاسم عنه إحفاء الشارب وحلقه عندي مثلة قال مالك وتفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في إحفاء الشارب إنما هو الإطار وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه .

وقال أشهد في حلق الشارب أنه بدعة وأرى أن يوجع ضربا من فعله قال مالك وكان عمر بن الخطاب إذا كربه أمر نفخ فجعل رجله بردائه وهو يفتل شاربه

وقال عمر بن عبد العزيز : السنة في الشارب الإطار وقال الطحاوي : ولم أجد عن الشافعي شيئا منصوصا في هذا وأصحابه الذين رأينا المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما ويدل ذلك على أنهما أخذاه عن الشافعي رحمه الله قال وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشوارب أن الإحفاء أفضل من التقصير وذكر ابن خويز منداد المالكي عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة وهذا قول أبي عمر .

وأما الإمام أحمد فقال الأثرم : رأيت الإمام أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب ؟ فقال يحفي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أحفوا الشوارب وقال حنبل قيل لأبي عبد الله ترى الرجل يأخذ شاربه أو يحفيه ؟ أم كيف يأخذه ؟ قال إن أحفاه فلا بأس وإن أخذه قصا فلا بأس .

وقال أبو محمد بن قدامة المقدسي في المغني : وهو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه من غير إحفاء . قال الطحاوي : وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شاربه على سواك وهذا لا يكون معه إحفاء .

واحتج من لم ير إحفاءه بحديثي عائشة وأبي هريرة المرفوعين عشر من الفطرة فذكر منها قص الشارب . وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه الفطرة خمس وذكر منها قص الشارب .

واحتج المحفون بأحاديث الأمر بالإحفاء وهي صحيحة وبحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجز شاربه

قال الطحاوي : وهذا الأغلب فيه الإحفاء وهو يحتمل الوجهين . وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه جزوا الشوارب وأرخوا اللحى قال وهذا يحتمل الإحفاء أيضا وذكر بإسناده عن أبي سعيد وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن عمر وجابر وأبي هريرة أنهم كانوا يحفون شواربهم .

وقال إبراهيم بن محمد بن حاطب : رأيت ابن عمر يحفي شاربه كأنه ينتفه وقال بعضهم حتى يرى بياض الجلد . قال الطحاوي : ولما كان التقصير مسنونا عند الجميع كان الحلق فيه أفضل قياسا على الرأس وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة فجعل حلق الرأس أفضل من تقصيره فكذلك الشارب .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه

كان صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله وأعذبهم كلاما وأسرعهم أداء وأحلاهم منطقا حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح ويشهد له بذلك أعداؤه . وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ليس بهذ مسرع لا يحفظ ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام بل هديه فيه أكمل الهدي قالت عائشة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه . وكان كثيرا ما يعيد الكلام ثلاثا ليعقل عنه وكان إذا سلم سلم ثلاثا . وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلام فصل لا فضول ولا تقصير وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه وإذا كره الشيء عرف في وجهه ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا . وكان جل ضحكه التبسم بل كله التبسم فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه .

وكان يضحك مما يضحك منه وهو مما يتعجب من مثله ويستغرب وقوعه ويستندر . أسباب الضحك وللضحك أسباب عديدة هذا أحدها . والثاني : ضحك الفرح وهو أن يرى ما يسره أو يباشره . والثالث ضحك الغضب وهو كثيرا ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب وشعور نفسه بالقدرة على خصمه وأنه في قبضته وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب وإعراضه عمن أغضبه وعدم اكتراثه به .

[بكاؤه ]

صلى الله عليه وسلم وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز . وكان بكاؤه تارة رحمة للميت وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها وتارة من خشية الله وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية . ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة ( النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ النساء 41 ] وبكى لما مات عثمان بن مظعون وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته وجعل ينفخ ويقول رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته وكان يبكي أحيانا في صلاة الليل .

[أنواع البكاء ]

والبكاء أنواع . أحدها : بكاء الرحمة والرقة .

والثاني : بكاء الخوف والخشية .

والثالث بكاء المحبة والشوق .

والرابع بكاء الفرح والسرور .

والخامس بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله .

والسادس بكاء الحزن .

[الفرق بين بكاء الحزن وبكاء الخوف]

والفرق بينه وبين بكاء الخوف أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب وبكاء الخوف يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ودمعة الحزن حارة والقلب حزين ولهذا يقال لما يفرح به هو قرة عين وأقر الله به عينه ولما يحزن هو سخينة العين وأسخن الله عينه به .

والسابع بكاء الخور والضعف .

والثامن بكاء النفاق وهو أن تدمع العين والقلب قاس فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلبا .

والتاسع البكاء المستعار والمستأجر عليه كبكاء النائحة بالأجرة فإنها كما قال عمر بن الخطاب : تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها

والعاشر بكاء الموافقة وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم فيبكي معهم ولا يدري لأي شيء يبكون ولكن يراهم يبكون فيبكي .

[هيئات البكاء ]

وما كان من ذلك دمعا بلا صوت فهو بكى مقصور وما كان معه صوت فهو بكاء ممدود على بناء الأصوات .

وقال الشاعر

بكت عيني وحق لها بكاها

وما يغني البكاء ولا العويل


وما كان منه مستدعى متكلفا فهو التباكي وهو نوعان محمود ومذموم فالمحمود أن يستجلب لرقة القلب ولخشية الله لا للرياء والسمعة . والمذموم أن يجتلب لأجل الخلق وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر : أخبرني ما يبكيك يا رسول الله ؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم وقد قال بعض السلف ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته
خطب صلى الله عليه وسلم على الأرض وعلى المنبر وعلى البعير وعلى الناقة . وكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة

وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله . وأما قول كثير من الفقهاء إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة وسنته تقتضي خلافه وهو افتتاح جميع الخطب ب الحمد لله وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد وهو اختيار شيخنا قدس الله سره .

وكان يخطب قائما وفي مراسيل عطاء وغيره أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ثم قال السلام عليكم قال الشعبي : وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك . وكان يختم خطبته بالاستغفار وكان كثيرا يخطب بالقرآن . وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس وذكر أبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال : الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا وقال أبو داود عن يونس أنه سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحو هذا إلا أنه قال : ومن يعصهما فقد غوى

قال ابن شهاب : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب : كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت ولا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر الناس ما شاء الله لا ما شاء الناس يريد الله شيئا ويريد الناس شيئا ما شاء الله كان ولو كره الناس ولا مبعد لما قرب الله ولا مقرب لما بعد الله ولا يكون شيء إلا بإذن الله

وكان مدار خطبه على حمد الله والثناء عليه بآلائه وأوصاف كماله ومحامده وتعليم قواعد الإسلام وذكر الجنة والنار والمعاد والأمر بتقوى الله وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه فعلى هذا كان مدار خطبه .

وكان يقول في خطبه : أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتم به ولكن سددوا وأبشروا

وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة ويذكر فيها نفسه باسمه العلم .

وثبت عنه أنه قال كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء

ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته ولم يكن يلبس لباس الخطباء اليوم لا طرحة ولا زيقا واسعا .

[صفة منبره ] صلى الله عليه وسلم

وكان منبره ثلاث درجات فإذا استوى عليه واستقبل الناس أخذ المؤذن في الأذان فقط ولم يقل شيئا قبله ولا بعده فإذا أخذ في الخطبة لم يرفع أحد صوته بشيء البتة لا مؤذن ولا غيره .

[التوكؤ على العصا ]

وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب . وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك وكان أحيانا يتوكأ على قوس ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف وهذا جهل قبيح من وجهين أحدهما : أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس . الثاني : أن الدين إنما قام بالوحي وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف .

وكان إذا عرض له في خطبته عارض اشتغل به ثم رجع إلى خطبته وكان يخطب فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين فقطع كلامه فنزل فحملهما ثم عاد إلى منبره ثم قال صدق الله العظيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ الأنفال 28 ] رأيت هذين يعثران في قميصيهما فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما

وجاء سليك الغطفاني وهو يخطب فجلس فقال له : قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما ثم قال وهو على المنبر إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما

وكان يقصر خطبته أحيانا ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس . وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة . وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ويحرضهن على الصدقة والله أعلم .


فصول في هديه صلى الله عليه وسلم في العبادات
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء
كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه وربما صلى الصلوات بوضوء واحد . وكان يتوضأ بالمد تارة وبثلثيه تارة وبأزيد منه تارة وذلك نحو أربع أواق بالدمشقي إلى أوقيتين وثلاث . وكان من أيسر الناس صبا لماء الوضوء وكان يحذر أمته من الإسراف فيه وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور وقال إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء .

ومر على سعد وهو يتوضأ فقال له لا تسرف في الماء فقال وهل في الماء من إسراف ؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار .

وصح عنه أنه توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا وفي بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثا .




[ كيفية المضمضة والاستنشاق ]
وكان يتمضمض ويستنشق تارة بغرفة وتارة بغرفتين وتارة بثلاث . وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق فيأخذ نصف الغرفة لفمه ونصفها لأنفه ولا يمكن في الغرفة إلا هذا وأما الغرفتان والثلاث فيمكن فيهما الفصل والوصل إلا أن هديه صلى الله عليه وسلم كان الوصل بينهما كما في " الصحيحين " من حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثا وفي لفظ تمضمض واستنثر بثلاث غرفات فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق ولم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة لكن في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق ولكن لا يروى إلا عن طلحة عن أبيه عن جده ولا يعرف لجده صحبة

[ مسح الرأس ]
وكان يستنشق بيده اليمنى ويستنثر باليسرى وكان يمسح رأسه كله وتارة يقبل بيديه ويدبر وعليه يحمل حديث من قال مسح برأسه مرتين .

والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس هكذا جاء عنه صريحا ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه البتة بل ما عدا هذا إما صحيح غير صريح كقول الصحابي توضأ ثلاثا ثلاثا وكقوله مسح برأسه مرتين وإما صريح غير صحيح كحديث ابن البيلماني عن أبيه عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فغسل كفيه ثلاثا ثم قال ومسح برأسه ثلاثا وهذا لا يحتج به وابن البيلماني وأبوه مضعفان وإن كان الأب أحسن حالا وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا

وقال أبو داود أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة .
فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله ولم ينف التكميل على العمامة وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه .

ولم يتوضأ صلى الله عليه وسلم إلا تمضمض واستنشق ولم يحفظ عنه أنه أخل به مرة واحدة وكذلك كان وضوءه مرتبا متواليا لم يخل به مرة واحدة البتة وكان يمسح على رأسه تارة وعلى العمامة تارة وعلى الناصية والعمامة تارة .

وأما اقتصاره على الناصية مجردة فلم يحفظ عنه كما تقدم . وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفين ولا جوربين ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين . وكان يمسح أذنيه مع رأسه وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدا وإنما صح ذلك عن ابن عمر .



ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئا غير التسمية وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا منه ولا علمه لأمته ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله وقوله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين في آخره .

وفي حديث آخر في " سنن النسائي " مما يقال بعد الوضوء أيضا : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

ولم يكن يقول في أوله نويت رفع الحدث ولا استباحة الصلاة لا هو ولا أحد من أصحابه البتة ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولم يتجاوز الثلاث قط وكذلك لم يثبت عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين ولكن أبو هريرة كان يفعل ذلك ويتأول حديث إطالة الغرة . وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين ورجليه حتى أشرع في الساقين فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء ولا يدل على مسألة الإطالة .

[ حكم التنشيف بعد الوضوء ]
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتاد تنشيف أعضائه بعد الوضوء ولا صح عنه في ذلك حديث البتة بل الذي صح عنه خلافه وأما حديث عائشة كان للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء وحديث معاذ بن جبل : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح على وجهه بطرف ثوبه فضعيفان لا يحتج بمثلهما في الأول سليمان بن أرقم متروك وفي الثاني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف قال الترمذي : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء .

ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه الماء كلما توضأ ولكن تارة يصب على نفسه وربما عاونه من يصب عليه أحيانا لحاجة كما في " الصحيحين " عن المغيرة بن شعبة أنه صب عليه في السفر لما توضأ

[ تخليل اللحية ]
وكان يخلل لحيته أحيانا ولم يكن يواظب على ذلك . وقد اختلف أئمة الحديث فيه فصحح الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته وقال أحمد وأبو زرعة لا يثبت في تخليل اللحية حديث .

[ تخليل الأصابع ]
وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه وفي " السنن " عن المستورد بن شداد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره وهذا إن ثبت عنه فإنما كان يفعله أحيانا ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد والربيع وغيرهم على أن في إسناده عبد الله بن لهيعة .

[ تحريك الخاتم ]
وأما تحريك خاتمه فقد روي فيه حديث ضعيف من رواية معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه ومعمر وأبوه ضعيفان ذكر ذلك الدارقطني .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين
صح عنه أنه مسح في الحضر والسفر ولم ينسخ ذلك حتى توفي ووقت للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح وكان يمسح ظاهر الخفين ولم يصح عنه مسح أسفلهما إلا في حديث منقطع . والأحاديث الصحيحة على خلافه ومسح على الجوربين والنعلين ومسح على العمامة مقتصرا عليها ومع الناصية وثبت عنه ذلك فعلا وأمرا في عدة أحاديث لكن في قضايا أعيان يحتمل أن تكون خاصة بحال الحاجة والضرورة ويحتمل العموم كالخفين وهو أظهر والله أعلم .

ولم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ولم يلبس الخف ليمسح عليه وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل قاله شيخنا ، والله أعلم .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في التيمم
كان صلى الله عليه وسلم يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ولا إلى المرفقين .

قال الإمام أحمد من قال إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده . وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ترابا كانت أو سبخة أو رملا . وصح عنه أنه قال حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور . ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلة ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب وكذلك أرض الحجاز وغيره ومن تدبر هذا قطع بأنه كان يتيمم بالرمل والله أعلم وهذا قول الجمهور .

وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ثم إمرارها إلى المرفق ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى فيطبقها عليها فهذا مما يعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا علمه أحدا من أصحابه ولا أمر به ولا استحسنه وهذا هديه إليه التحاكم وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة ولا أمر به بل أطلق التيمم وجعله قائما مقام الوضوء وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه إلا فيما اقتضى الدليل خلافه .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة
[ لم يتلفظ بالنية ]

كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال " الله أكبر " ولم يقل شيئا قبلها ولا تلفظ بالنية البتة ولا قال أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما ولا قال أداء ولا قضاء ولا فرض الوقت وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة بل ولا عن أحد من أصحابه ولا استحسنه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة وإنما غر بعض المتأخرين قول الشافعي رضي الله عنه في الصلاة إنها ليست كالصيام ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية وإنما أراد الشافعي رحمه الله بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة ولا أحد من خلفائه وأصحابه وهذا هديهم وسيرتهم فإن أوجدنا أحد حرفا واحدا عنهم في ذلك قبلناه وقابلناه بالتسليم والقبول ولا هدي أكمل من هديهم ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم .

[ الإحرام ]

وكان دأبه في إحرامه لفظة الله أكبر لا غيرها ولم ينقل أحد عنه سواها .

[ رفع اليدين عند الإحرام ]
وكان يرفع يديه معها ممدودة الأصابع مستقبلا بها القبلة إلى فروع أذنيه وروي إلى منكبيه فأبو حميد الساعدي ومن معه قالوا : حتى يحاذي بهما المنكبين وكذلك قال ابن عمر . وقال وائل بن حجر : إلى حيال أذنيه . وقال البراء : قريبا من أذنيه . وقيل هو من العمل المخير فيه وقيل كان أعلاها إلى فروع أذنيه وكفاه إلى منكبيه فلا يكون اختلافا ولم يختلف عنه في محل هذا الرفع . ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى .
[ الاستفتاح ]
وكان يستفتح تارة ب اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس

وتارة يقول وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعها إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئ الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك ولكن المحفوظ أن هذا الاستفتاح إنما كان يقوله في قيام الليل .

وتارة يقول اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .

وتارة يقول اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن . .. الحديث . وسيأتي في بعض طرقه الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كبر ثم قال ذلك .

وتارة يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا سبحان الله بكرة وأصيلا سبحان الله بكرة وأصيلا اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه .

وتارة يقول الله أكبر عشر مرات ثم يسبح عشر مرات ثم يحمد عشرا ثم يهلل عشرا ثم يستغفر عشرا ثم يقول اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني عشرا ثم يقول " اللهم إني أعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة عشرا . فكل هذه الأنواع صحت عنه صلى الله عليه وسلم .

وروي عنه أنه كان يستفتح بسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ذكر ذلك أهل السنن من حديث علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد على أنه ربما أرسل.

وقد روي مثله من حديث عائشة رضي الله عنها والأحاديث التي قبله أثبت منه ولكن صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به ويعلمه الناس وقال الإمام أحمد : أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح كان حسنا .

[ اختيار الإمام أحمد لدعاء " سبحانك اللهم " والتعليل له ]

وإنما اختار الإمام أحمد هذا لعشرة أوجه قد ذكرتها في مواضع أخرى . منها جهر عمر به يعلمه الصحابة .

ومنها اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن فإن أفضل الكلام بعد القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقد تضمنها هذا الاستفتاح مع تكبيرة الإحرام .

ومنها أنه استفتاح أخلص للثناء على الله وغيره متضمن للدعاء والثناء أفضل من الدعاء ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأنها أخلصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى والثناء عليه ولهذا كان " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " أفضل الكلام بعد القرآن فيلزم أن ما تضمنها من الاستفتاحات أفضل من غيره من الاستفتاحات .

ومنها أن غيره من الاستفتاحات عامتها إنما هي في قيام الليل في النافلة وهذا كان عمر يفعله ويعلمه الناس في الفرض .

ومنها أن هذا الاستفتاح إنشاء للثناء على الرب تعالى متضمن للإخبار عن صفات كماله ونعوت جلاله والاستفتاح ب " وجهت وجهي " إخبار عن عبودية العبد وبينهما من الفرق ما بينهما .

ومنها أن من اختار الاستفتاح ب " وجهت وجهي " لا يكمله وإنما يأخذ بقطعة من الحديث ويذر باقيه بخلاف الاستفتاح ب سبحانك اللهم وبحمدك فإن من ذهب إليه يقوله كله إلى آخره


وكان يقول بعد ذلك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما يجهر بها

ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائما في كل يوم وليلة خمس مرات أبدا حضرا وسفرا ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية فصحيح تلك الأحاديث غير صريح وصريحها غير صحيح وهذا موضع يستدعي مجلدا ضخما .

وكانت قراءته مدا يقف عند كل آية ويمد بها صوته . فإذا فرغ من قراءة الفاتحة قال " آمين " فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته وقالها من خلفه

[ سكتات الإمام ]
وكان له سكتتان سكتة بين التكبير والقراءة وعنها سأله أبو هريرة واختلف في الثانية فروي أنها بعد الفاتحة . وقيل إنها بعد القراءة وقبل الركوع . وقيل هي سكتتان غير الأولى فتكون ثلاثا والظاهر إنما هي اثنتان فقط وأما الثالثة فلطيفة جدا لأجل تراد النفس ولم يكن يصل القراءة بالركوع بخلاف السكتة الأولى فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح والثانية قد قيل إنها لأجل قراءة المأموم فعلى هذا : ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة وأما الثالثة فللراحة والنفس فقط وهي سكتة لطيفة فمن لم يذكرها فلقصرها ومن اعتبرها جعلها سكتة ثالثة فلا اختلاف بين الروايتين وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث .

وقد صح حديث السكتتين من رواية سمرة وأبي بن كعب وعمران بن حصين ذكر ذلك أبو حاتم في " صحيحه " وسمرة هو ابن جندب وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب وقد قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين

وفي بعض طرق الحديث فإذا فرغ من القراءة سكت وهذا كالمجمل واللفظ الأول مفسر مبين ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب إذا افتتح الصلاة وإذا قال " ولا الضالين " على أن تعيين محل السكتتين إنما هو من تفسير قتادة فإنه روى الحديث عن الحسن عن سمرة قال سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك عمران فقال حفظناها سكتة فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة فكتب أبي أن قد حفظ سمرة قال سعيد فقلنا لقتادة ما هاتان السكتتان قال إذا دخل في الصلاة وإذا فرغ من القراءة ثم قال بعد ذلك وإذا قال ولا الضالين .

قال وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه ومن يحتج بالحسن عن سمرة يحتج بهذا . فإذا فرغ من الفاتحة أخذ في سورة غيرها وكان يطيلها تارة ويخففها لعارض من سفر أو غيره ويتوسط فيها غالبا .

[ قراءته صلى الله عليه وسلم في الصلاة ]
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية وصلاها بسورة ( ق ) وصلاها ب ( الروم ) وصلاها ب ( إذا الشمس كورت ) وصلاها ب إذا زلزلت في الركعتين كليهما وصلاها ب ( المعوذتين ) وكان في السفر وصلاها فافتتح ب ( سورة المؤمنون ) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى أخذته سعلة فركع .

وكان يصليها يوم الجمعة ب ( الم تنزيل ) السجدة وسورة ( هل أتى على الإنسان ) كاملتين ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين وقراءة السجدة وحدها في الركعتين وهو خلاف السنة .

وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فضل بسجدة فجهل عظيم ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة السجدة لأجل هذا الظن وإنما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدإ والمعاد وخلق آدم ودخول الجنة والنار وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم تذكيرا للأمة بحوادث هذا اليوم كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة ( ق ) و ( اقتربت ) و ( سبح ) و ( الغاشية ) .

اخت مسلمة
04-09-2009, 12:18 AM
فصل وأما الظهر فكان يطيل قراءتها أحيانا
حتى قال أبو سعيد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها رواه مسلم .

وكان يقرأ فيها تارة بقدر ( الم تنزيل ) وتارة ب ( سبح اسم ربك الأعلى ) ( والليل إذا يغشى ) وتارة ب ( والسماء ذات البروج ) ( والسماء والطارق )

وأما العصر فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت وبقدرها إذا قصرت . وأما المغرب فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم فإنه صلاها مرة ب ( الأعراف )فرقها في الركعتين ومرة ب ( والطور ) ومرة ب ( والمرسلات ) . قال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب ب ( المص ) وأنه قرأ فيها ب ( الصافات ) وأنه قرأ فيها ب ( حم الدخان ) وأنه قرأ فيها ب ( سبح اسم ربك الأعلى ) وأنه قرأ فيها ب ( التين والزيتون ) وأنه قرأ فيها ب ( المعوذتين ) وأنه قرأ فيها ب ( المرسلات ) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل . قال وهي كلها آثار صحاح مشهورة . انتهى .

وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائما فهو فعل مروان بن الحكم ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت وقال ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ؟ وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين . قال قلت : وما طولى الطوليين ؟ قال ( الأعراف ) وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن .

وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قرأ في المغرب بسورة ( الأعراف ) فرقها في الركعتين

فالمحافظة فيها على الآية القصيرة والسورة من قصار المفصل خلاف السنة وهو فعل مروان بن الحكم . وأما العشاء الآخرة فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم ب ( والتين والزيتون ) ووقت لمعاذ فيها ب ( والشمس وضحاها ) و ( سبح اسم ربك الأعلى ) ( والليل إذا يغشى ) ونحوها وأنكر عليه قراءته فيها ب ( البقرة ) بعدما صلى معه ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف فأعادها لهم بعدما مضى من الليل ما شاء الله وقرأ بهم ب ( البقرة ) ولهذا قال له أفتان أنت يا معاذ فتعلق النقارون بهذه الكلمة ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها .

وأما الجمعة فكان يقرأ فيها بسورتي ( الجمعة ) و ( المنافقين ) كاملتين و ( سورة سبح ) و ( الغاشية ) . وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من يا أيها الذين آمنوا . .. إلى آخرها فلم يفعله قط وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه .

وأما قراءته في الأعياد فتارة كان يقرأ سورتي ( ق ) و ( اقتربت ) كاملتين وتارة سورتي ( سبح ) و ( الغاشية ) وهذا هو الهدي الذي استمر صلى الله عليه وسلم عليه إلى أن لقي الله عز وجل لم ينسخه شيء .

ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده فقرأ أبو بكر رضي الله عنه في الفجر بسورة ( البقرة ) حتى سلم منها قريبا من طلوع الشمس فقالوا : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كادت الشمس تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين .

وكان عمر رضي الله عنه يقرأ فيها ب ( يوسف ) و ( النحل ) وب ( هود ) و ( بني إسرائيل ) ونحوها من السور ولو كان تطويله صلى الله عليه وسلم منسوخا لم يخف على خلفائه الراشدين ويطلع عليه النقارون .

وأما الحديث الذي رواه مسلم في " صحيحه " عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ( ق والقرآن المجيد ) وكانت صلاته بعد تخفيفا فالمراد بقوله " بعد " أي بعد الفجر أي إنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها وصلاته بعدها تخفيفا . ويدل على ذلك قول أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ ( والمرسلات عرفا ) فقالت يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب فهذا في آخر الأمر

وأيضا فإن قوله وكانت صلاتها بعد غاية قد حذف ما هي مضافة إليه فلا يجوز إضمار ما لا يدل عليه السياق وترك إضمار ما يقتضيه السياق والسياق إنما يقتضي أن صلاته بعد الفجر كانت تخفيفا ولا يقتضي أن صلاته كلها بعد ذلك اليوم كانت تخفيفا هذا ما لا يدل عليه اللفظ ولو كان هو المراد لم يخف على خلفائه الراشدين فيتمسكون بالمنسوخ ويدعون الناسخ .

[ معنى " أيكم أم فليخفف " ]

وأما قوله صلى الله عليه وسلم أيكم أم الناس فليخفف " وقول أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه لا إلى شهوة المأمومين فإنه لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه وقد علم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا ب ( الصافات ) فالقراءة ب ( الصافات ) من التخفيف الذي كان يأمر به والله أعلم .


فصل [عدم تعيينه صلى الله عليه وسلم سورة بعينها ]
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعين سورة في الصلاة بعينها لا يقرأ إلا بها إلا في الجمعة والعيدين وأما في سائر الصلوات فقد ذكر أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة

وكان من هديه قراءة السورة كاملة وربما قرأها في الركعتين وربما قرأ أول السورة . وأما قراءة أواخر السور وأوساطها فلم يحفظ عنه . وأما قراءة السورتين في ركعة فكان يفعله في النافلة وأما في الفرض فلم يحفظ عنه . وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه إني لأعرف النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن السورتين في الركعة ( الرحمن )( والنجم ) في ركعة و ( اقتربت ) و ( الحاقة ) في ركعة ( والطور ) والذاريات في ركعة و ( إذا وقعت ) و ( ن )في ركعة الحديث فهذا حكاية فعل لم يعين محله هل كان في الفرض أو في النفل ؟ وهو محتمل . وأما قراءة سورة واحدة في ركعتين معا فقلما كان يفعله .
وقد ذكر أبو داود عن رجل من جهينة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح إذا زلزلت في الركعتين كلتيهما ، قال فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا .



فصل [ إطالته صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى على الثانية ]
[ تعليل إطالته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ]

وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى على الثانية من صلاة الصبح ومن كل صلاة وربما كان يطيلها حتى لا يسمع وقع قدم وكان يطيل صلاة الصبح أكثر من سائر الصلوات وهذا لأن قرآن الفجر مشهود يشهده الله تعالى وملائكته وقيل يشهده ملائكة الليل والنهار والقولان مبنيان على أن النزول الإلهي هل يدوم إلى انقضاء صلاة الصبح أو إلى طلوع الفجر ؟ وقد ورد فيه هذا وهذا .

وأيضا فإنها لما نقص عدد ركعاتها جعل تطويلها عوضا عما نقصته من العدد .

وأيضا فإنها تكون عقيب النوم والناس مستريحون .

وأيضا فإنهم لم يأخذوا بعد في استقبال المعاش وأسباب الدنيا .

وأيضا فإنها تكون في وقت تواطأ فيه السمع واللسان والقلب لفراغه وعدم تمكن الاشتغال فيه فيفهم القرآن ويتدبره .

وأيضا فإنها أساس العمل وأوله فأعطيت فضلا من الاهتمام بها وتطويلها وهذه أسرار إنما يعرفها من له التفات إلى أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها والله المستعان .

فصل [ الركوع ]
وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من القراءة سكت بقدر ما يتراد إليه نفسه ثم رفع يديه كما تقدم وكبر راكعا ووضع كفيه على ركبتيه كالقابض عليهما ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه وبسط ظهره ومده واعتدل ولم ينصب رأسه ولم يخفضه بل يجعله حيال ظهره معادلا له .

وكان يقول سبحان ربي العظيم وتارة يقول مع ذلك أو مقتصرا عليه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي وكان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات وسجوده كذلك . وأما حديث البراء بن عازب رضي الله عنه رمقت الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان قيامه فركوعه فاعتداله فسجدته فجلسته ما بين السجدتين قريبا من السواء . فهذا قد فهم منه بعضهم أنه كان يركع بقدر قيامه ويسجد بقدره ويعتدل كذلك وفي هذا الفهم شيء لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالمائة آية أو نحوها وقد تقدم أنه قرأ في المغرب ب ( الأعراف )( والطور )( والمرسلات ) ومعلوم أن ركوعه وسجوده لم يكن قدر هذه القراءة ويدل عليه حديث أنس الذي رواه أهل السنن أنه قال ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات هذا مع قول أنس أنه كان يؤمهم ب ( الصافات ) فمراد البراء - والله أعلم - أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة فكان إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام ولكن كان يفعل ذلك أحيانا في صلاة الليل وحدها وفعله أيضا قريبا من ذلك في صلاة الكسوف وهديه الغالب صلى الله عليه وسلم تعديل الصلاة وتناسبها .

وكان يقول أيضا في ركوعه سبوح قدوس رب الملائكة والروح وتارة يقول اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وهذا إنما حفظ عنه في قيام الليل .

[الاعتدال ]
ثم كان يرفع رأسه بعد ذلك قائلا : سمع الله لمن حمده ويرفع يديه كما تقدم وروى رفع اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحو من ثلاثين نفسا واتفق على روايتها العشرة ولم يثبت عنه خلاف ذلك البتة بل كان ذلك هديه دائما إلى أن فارق الدنيا ولم يصح عنه حديث البراء : ثم لا يعود بل هي من زيادة يزيد بن زياد . فليس ترك ابن مسعود الرفع مما يقدم على هديه المعلوم فقد ترك من فعل ابن مسعود في الصلاة أشياء ليس معارضها مقاربا ولا مدانيا للرفع فقد ترك من فعله التطبيق والافتراش في السجود ووقوفه إماما بين الاثنين في وسطهما دون التقدم عليهما وصلاته الفرض في البيت بأصحابه بغير أذان ولا إقامة لأجل تأخير الأمراء وأين الأحاديث في خلاف ذلك من الأحاديث التي في الرفع كثرة وصحة وصراحة وعملا وبالله التوفيق .

وكان دائما يقيم صلبه إذا رفع من الركوع وبين السجدتين ويقول لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود ذكره ا بن خزيمة في " صحيحه " .

وكان إذا استوى قائما قال ربنا ولك الحمد وربما قال ربنا لك الحمد وربما قال اللهم ربنا لك الحمد صح ذلك عنه . وأما الجمع بين " اللهم " و " الواو " فلم يصح .

وكان من هديه إطالة هذا الركن بقدر الركوع والسجود فصح عنه أنه كان يقول سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد

وصح عنه أنه كان يقول فيه اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ونقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب

وصح عنه أنه كرر فيه قوله لربي الحمد لربي الحمد حتى كان بقدر الركوع

وصح عنه أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يمكث حتى يقول القائل قد نسي من إطالته لهذا الركن . وذكر مسلم عن أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يسجد ثم يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم

وصح عنه في صلاة الكسوف أنه أطال هذا الركن بعد الركوع حتى كان قريبا من ركوعه وكان ركوعه قريبا من قيامه . فهذا هديه المعلوم الذي لا معارض له بوجه .
وأما حديث البراء بن عازب : كان ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء رواه البخاري فقد تشبث به من ظن تقصير هذين الركنين ولا متعلق له فإن الحديث مصرح فيه بالتسوية بين هذين الركنين وبين سائر الأركان فلو كان القيام والقعود المستثنيين هو القيام بعد الركوع والقعود بين السجدتين لناقض الحديث الواحد بعضه بعضا فتعين قطعا أن يكون المراد بالقيام والقعود قيام القراءة وقعود التشهد ولهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم فيهما إطالتهما على سائر الأركان كما تقدم بيانه وهذا بحمد الله واضح وهو مما خفي من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته على من شاء الله أن يخفى عليه .

قال شيخنا : وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة وأحدثوه فيها كما أحدثوا فيها ترك إتمام التكبير وكما أحدثوا التأخير الشديد وكما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم وربي في ذلك من ربي حتى ظن أنه من السنة .
فصل [ السجود ]
ثم كان يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه وقد روي عنه أنه كان يرفعهما أيضا وصححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم رحمه الله وهو وهم فلا يصح ذلك عنه البتة والذي غره أن الراوي غلط من قوله كان يكبر في كل خفض ورفع إلى قوله كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع وهو ثقة ولم يفطن لسبب غلط الراوي ووهمه فصححه . والله أعلم .

[ مبحث في ترجيح وضع الركبتين قبل اليدين ]

وكان صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه قبل يديه ثم يديه بعدهما ثم جبهته وأنفه هذا هو الصحيح الذي رواه شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ولم يرو في فعله ما يخالف ذلك .

[ شرح بروك البعير ]

وأما حديث أبي هريرة يرفعه إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهم من بعض الرواة فإن أوله يخالف آخره فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير فإن البعير إنما يضع يديه أولا ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا : ركبتا البعير في يديه لا في رجليه فهو إذا برك وضع ركبتيه أولا فهذا هو المنهي عنه وهو فاسد لوجوه .

أحدها : أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولا وتبقى رجلاه قائمتين فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولا وتبقى يداه على الأرض وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم وفعل خلافه . وكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى .

وكان يضع ركبتيه أولا ثم يديه ثم جبهته . وإذا رفع رفع رأسه أولا ثم يديه ثم ركبتيه وهذا عكس فعل البعير وهو صلى الله عليه وسلم نهى في الصلاة عن التشبه بالحيوانات فنهى عن بروك كبروك البعير والتفات كالتفات الثعلب وافتراش كافتراش السبع وإقعاء كإقعاء الكلب ونقر كنقر الغراب ورفع الأيدي وقت السلام كأذناب الخيل الشمس فهدي المصلي مخالف لهدي الحيوانات .

الثاني : أن قولهم ركبتا البعير في يديه كلام لا يعقل ولا يعرفه أهل اللغة وإنما الركبة في الرجلين وإن أطلق على اللتين في يديه اسم الركبة فعلى سبيل التغليب .

الثالث أنه لو كان كما قالوه لقال فليبرك كما يبرك البعير وإن أول ما يمس الأرض من البعير يداه .

وسر المسألة أن من تأمل بروك البعير وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بروك كبروك البعير علم أن حديث وائل بن حجر هو الصواب والله أعلم .

وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة كما ذكرنا مما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله ولعله " وليضع ركبتيه قبل يديه " كما انقلب على بعضهم حديث ابن عمر إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فقال ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال .

وكما انقلب على بعضهم حديث لا يزال يلقى في النار فتقول هل من مزيد إلى أن قال وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها فقال وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها حتى رأيت أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك فقال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل ورواه الأثرم في سننه " أيضا عن أبي بكر كذلك .

وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدق ذلك ويوافق حديث وائل بن حجر . قال ابن أبي داود حدثنا يوسف بن عدي حدثنا ابن فضيل هو محمد عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه

وقد روى ابن خزيمة في " صحيحه " من حديث مصعب بن سعد عن أبيه قال كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين وعلى هذا فإن كان حديث أبي هريرة محفوظا فإنه منسوخ وهذه طريقة صاحب " المغني " وغيره ولكن للحديث علتان .

إحداهما : أنه من رواية يحيى بن سلمة بن كهيل وليس ممن يحتج به قال النسائي : متروك . وقال ابن حبان : منكر الحديث جدا لا يحتج به وقال ابن معين : ليس بشيء .

الثانية أن المحفوظ من رواية مصعب بن سعد عن أبيه هذا إنما هو قصة التطبيق وقول سعد كنا نصنع هذا فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب .

وأما قول صاحب " المغني " عن أبي سعيد قال كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين فهذا - والله أعلم - وهم في الاسم وإنما هو عن سعد وهو أيضا وهم في المتن كما تقدم وإنما هو في قصة التطبيق والله أعلم .

وأما حديث أبي هريرة المتقدم فقد علله البخاري والترمذي والدارقطني .

قال البخاري : محمد بن عبد الله بن حسن لا يتابع عليه وقال لا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا .

وقال الترمذي : غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه . وقال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي عن أبي الزناد وقد ذكر النسائي عن قتيبة حدثنا عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعمد أحدكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل ولم يزد .

قال أبو بكر بن أبي داود : وهذه سنة تفرد بها أهل المدينة ولهم فيها إسنادان هذا أحدهما والآخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : أراد الحديث الذي رواه أصبغ بن الفرج عن الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك . رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق محرز بن سلمة عن الدراوردي وقال على شرط مسلم وقد رواه الحاكم من حديث حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه قال الحاكم : على شرطهما ولا أعلم له علة .

قلت : قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث فقال هذا الحديث منكر . انتهى .

وإنما أنكره - والله أعلم - لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار عن حفص بن غياث والعلاء هذا مجهول لا ذكر له في الكتب الستة . فهذه الأحاديث المرفوعة من الجانبين كما ترى .

وأما الآثار المحفوظة عن الصحابة فالمحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ذكره عنه عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ذكره الطحاوي عن فهد عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش عن إبراهيم عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود قالا : حفظنا عن عمر في صلاته أنه خر بعد ركوعه على ركبتيه كما يخر البعير ووضع ركبتيه قبل يديه ثم ساق من طريق الحجاج بن أرطاة قال قال إبراهيم النخعي : حفظ عن عبد الله بن مسعود أن ركبتيه كانتا تقعان على الأرض قبل يديه وذكر عن أبي مرزوق عن وهب عن شعبة عن مغيرة قال سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد ؟ قال أويصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون قال ابن المنذر : وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب فممن رأى أن يضع ركبتيه قبل يديه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال النخعي ومسلم بن يسار والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة .

وقالت طائفة يضع يديه قبل ركبتيه قاله مالك وقال الأوزاعي : أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم . قال ابن أبي داود وهو قول أصحاب الحديث .

قلت : وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ آخر ذكره البيهقي وهو إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه على ركبتيه قال البيهقي : فإن كان محفوظا كان دليلا على أنه يضع يديه قبل ركبتيه عند الأهواء إلى السجود .

وحديث وائل بن حجر أولى لوجوه .

أحدها : أنه أثبت من حديث أبي هريرة قاله الخطابي وغيره .

الثاني : أن حديث أبي هريرة مضطرب المتن كما تقدم فمنهم من يقول فيه وليضع يديه قبل ركبتيه ومنهم من يقول بالعكس ومنهم من يقول وليضع يديه على ركبتيه ومنهم من يحذف هذه الجملة رأسا .

الثالث ما تقدم من تعليل البخاري والدارقطني وغيرهما .

الرابع أنه على تقدير ثبوته قد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخ قال ابن المنذر : وقد زعم بعض أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ وقد تقدم ذلك .

الخامس أنه الموافق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بروك كبروك الجمل في الصلاة بخلاف حديث أبي هريرة .

السادس أنه الموافق للمنقول عن الصحابة كعمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن مسعود ولم ينقل عن أحد منهم ما يوافق حديث أبي هريرة إلا عن عمر رضي الله عنه على اختلاف عنه .

السابع أن له شواهد من حديث ابن عمر وأنس كما تقدم وليس لحديث أبي هريرة شاهد فلو تقاوما لقدم حديث وائل بن حجر من أجل شواهده فكيف وحديث وائل أقوى كما تقدم .

الثامن أن أكثر الناس عليه والقول الآخر إنما يحفظ عن الأوزاعي ومالك وأما قول ابن أبي داود إنه قول أهل الحديث فإنما أراد به بعضهم وإلا فأحمد والشافعي وإسحاق على خلافه .

التاسع أنه حديث فيه قصة محكية سيقت لحكاية فعله صلى الله عليه وسلم فهو أولى أن يكون محفوظا لأن الحديث إذا كان فيه قصة محكية دل على أنه حفظ .

العاشر أن الأفعال المحكية فيه كلها ثابتة صحيحة من رواية غيره فهي أفعال معروفة صحيحة وهذا واحد منها فله حكمها ومعارضه ليس مقاوما له فيتعين ترجيحه والله أعلم .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن ولكن روى عبد الرزاق في " المصنف " من حديث أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته وهو من رواية عبد الله بن محرر وهو متروك وذكره أبو أحمد الزبيري من حديث جابر ولكنه من رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفي متروك عن متروك وقد ذكر أبو داود في المراسيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي في المسجد فسجد بجبينه وقد اعتم على جبهته فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبهته .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الأرض كثيرا وعلى الماء والطين وعلى الخمرة المتخذة من خوص النخل وعلى الحصير المتخذ منه وعلى الفروة المدبوغة .

وكان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ونحى يديه عن جنبيه وجافى بهما حتى يرى بياض إبطيه ولو شاءت بهمة - وهي الشاة الصغيرة - أن تمر تحتهما لمرت .

وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه وفي " صحيح مسلم " عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك

وكان يعتدل في سجوده ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة . وكان يبسط كفيه وأصابعه ولا يفرج بينها ولا يقبضها وفي " صحيح ابن حبان كان إذا ركع فرج أصابعه فإذا سجد ضم أصابع ه

وكان يقول سبحان ربي الأعلى وأمر به . وكان يقول سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي

وكان يقول سبوح قدوس رب الملائك والروح وكان يقول سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت

وكان يقول اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

وكان يقول اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين وكان يقول اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره

وكان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت

وكان يقول اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا وفوقي نورا وتحتي نورا واجعل لي نورا .

[ استحباب الدعاء في السجود ]

وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال إنه قمن أن يستجاب لكم وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل فليكن في السجود ؟ وفرق بين الأمرين وأحسن ما يحمل عليه الحديث أن الدعاء نوعان دعاء ثناء ودعاء مسألة والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين .

والاستجابة أيضا نوعان استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله واستجابة دعاء المثني بالثواب وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى : أجيب دعوة الداع إذا دعان [ البقرة : 187 ] والصحيح أنه يعم النوعين


فصل [ أيهما أفضل السجود أم القيام ]
وقد اختلف الناس في القيام والسجود أيهما أفضل ؟ فرجحت طائفة القيام لوجوه .

أحدها : أن ذكره أفضل الأذكار فكان ركنه أفضل الأركان .

والثاني : قوله تعالى : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] .

الثالث قوله صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة طول القنوت .

وقالت طائفة السجود أفضل واحتجت بقوله صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . وبحديث معدان بن أبي طلحة قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت حدثني بحديث عسى الله أن ينفعني به ؟ فقال " عليك بالسجود " فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة قال معدان ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ذلك .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي وقد سأله مرافقته في الجنة أعني على نفسك بكثرة السجود

وأول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة ( اقرأ ) على الأصح وختمها بقوله واسجد واقترب [ العلق : 19 ] .

وبأن السجود لله يقع من المخلوقات كلها علويها وسفليها وبأن الساجد أذل ما يكون لربه وأخضع له وذلك أشرف حالات العبد فلهذا كان أقرب ما يكون من ربه في هذه الحالة وبأن السجود هو سر العبودية فإن العبودية هي الذل والخضوع يقال طريق معبد أي ذللته الأقدام ووطأته وأذل ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجدا .

وقالت طائفة طول القيام بالليل أفضل وكثرة الركوع والسجود بالنهار أفضل واحتجت هذه الطائفة بأن صلاة الليل قد خصت باسم القيام لقوله تعالى :
قم الليل [ المزمل : 1 ] وقوله صلى الله عليه وسلم من قام رمضان إيمانا واحتسابا ولهذا يقال قيام الليل ولا يقال قيام النهار قالوا : وهذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ما زاد في الليل على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة

وكان يصلي الركعة في بعض الليالي بالبقرة وآل عمران والنساء وأما بالنهار فلم يحفظ عنه شيء من ذلك بل كان يخفف السنن .

وقال شيخنا : الصواب أنهما سواء والقيام أفضل بذكره وهو القراءة والسجود أفضل بهيئته فهيئة السجود أفضل من هيئة القيام وذكر القيام أفضل من ذكر السجود وهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود كما فعل في صلاة الكسوف وفي صلاة الليل وكان إذا خفف القيام خفف الركوع والسجود وكذلك كان يفعل في الفرض كما قاله البراء بن عازب : كان قيامه وركوعه وسجوده واعتداله قريبا من السواء والله أعلم .


فصل [ الجلوس بين السجدتين ]
ثم كان صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه مكبرا غير رافع يديه ويرفع من السجود رأسه قبل يديه ثم يجلس مفترشا يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى . وذكر النسائي عن ابن عمر قال من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع جلسة غير هذه .

وكان يضع يديه على فخذيه ويجعل مرفقه على فخذه وطرف يده على ركبته ويقبض ثنتين من أصابعه ويحلق حلقة ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويحركها هكذا قال وائل بن حجر عنه .

وأما حديث أبي داود عن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه إذا دعا ولا يحركها فهذه الزيادة في صحتها نظر وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في " صحيحه " عنه ولم يذكر هذه الزيادة بل قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه .

وأيضا فليس في حديث أبي داود عنه أن هذا كان في الصلاة .

وأيضا لو كان في الصلاة لكان نافيا وحديث وائل بن حجر مثبتا وهو مقدم وهو حديث صحيح ذكره أبو حاتم في " صحيحه " .

ثم كان يقول [ بين السجدتين ] : اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني هكذا ذكره ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم وذكر حذيفة أنه كان يقول رب اغفر لي رب اغفر لي

وكان هديه صلى الله عليه وسلم إطالة هذا الركن بقدر السجود وهكذا الثابت عنه في جميع الأحاديث وفي " الصحيح " عن أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم وهذه السنة تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة ولهذا قال ثابت وكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه يمكث بين السجدتين حتى نقول قد نسي أو قد أوهم . وأما من حكم السنة ولم يلتفت إلى ما خالفها فإنه لا يعبأ بما خالف هذا الهدي .


فصل [ جلسة الاستراحة ]
ثم كان صلى الله عليه وسلم ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمدا على فخذيه كما ذكر عنه وائل وأبو هريرة ولا يعتمد على الأرض بيديه وقد ذكر عنه مالك بن الحويرث أنه كان لا ينهض حتى يستوي جالسا وهذه هي التي تسمى جلسة الاستراحة .

واختلف الفقهاء فيها هل هي من سنن الصلاة فيستحب لكل أحد أن يفعلها أو ليست من السنن وإنما يفعلها من احتاج إليها ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد رحمه الله . قال الخلال رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة وقال أخبرني يوسف بن موسى أن أبا أمامة سئل عن النهوض فقال على صدور القدمين على حديث رفاعة . وفي حديث ابن عجلان ما يدل على أنه كان ينهض على صدور قدميه وقد روي عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الجلسة وإنما ذكرت في حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث .

ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائما لذكرها كل من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم ومجرد فعله صلى الله عليه وسلم لها لا يدل على أنها من سنن الصلاة إلا إذا علم أنه فعلها على أنها سنة يقتدى به فيها وأما إذا قدر أنه فعلها للحاجة لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة فهذا من تحقيق المناط في هذه المسألة .

وكان إذا نهض افتتح القراءة ولم يسكت كما كان يسكت عند افتتاح الصلاة فاختلف الفقهاء هل هذا موضع استعاذة أم لا بعد اتفاقهم على أنه ليس موضع استفتاح ؟ وفي ذلك قولان هما روايتان عن أحمد وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة هل هي قراءة واحدة ؟ فيكفي فيها استعاذة واحدة أو قراءة كل ركعة مستقلة برأسها . ولا نزاع بينهم أن الاستفتاح لمجموع الصلاة والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر للحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة ب الحمد لله رب العالمين ولم يسكت وإنما يكفي استعاذة واحدة لأنه لم يتخلل القراءتين سكوت بل تخللهما ذكر فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمد الله أو تسبيح أو تهليل أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الثانية كالأولى سواء إلا في أربعة أشياء السكوت والاستفتاح وتكبيرة الإحرام وتطويلها كالأولى فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستفتح ولا يسكت ولا يكبر للإحرام فيها ويقصرها عن الأولى فتكون الأولى أطول منها في كل صلاة كما تقدم .

[ جلسة التشهد الأول ]
فإذا جلس للتشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة وكان لا ينصبها نصبا ولا ينيمها بل يحنيها شيئا ويحركها شيئا كما تقدم في حديث وائل بن حجر وكان يقبض أصبعين وهما الخنصر والبنصر ويحلق حلقة وهي الوسطى مع الإبهام ويرفع السبابة يدعو بها ويرمي ببصره إليها ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى ويتحامل عليها .

وأما صفة جلوسه فكما تقدم بين السجدتين سواء يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى . ولم يرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة .

وأما حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الذي رواه مسلم في " صحيحه " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى

فهذا في التشهد الأخير كما يأتي وهو أحد الصفتين اللتين رويتا عنه ففي " الصحيحين " من حديث أبي حميد في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته فذكر أبو حميد أنه كان ينصب اليمنى . وذكر ابن الزبير أنه كان يفرشها ولم يقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم إن هذه صفة جلوسه في التشهد الأول ولا أعلم أحدا قال به بل من الناس من قال يتورك في التشهدين وهذا مذهب مالك رحمه الله ومنهم من قال يفترش فيهما فينصب اليمنى ويفترش اليسرى ويجلس عليها وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومنهم من قال يتورك في كل تشهد يليه السلام ويفترش في غيره وهو قول الشافعي رحمه الله ومنهم من قال يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما فرقا بين الجلوسين وهو قول الإمام أحمد رحمه الله . ومعنى حديث ابن الزبير رضي الله عنه أنه فرش قدمه اليمنى : أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته فتكون قدمه اليمنى مفروشة وقدمه اليسرى بين فخذه وساقه ومقعدته على الأرض فوقع الاختلاف في قدمه اليمنى في هذا الجلوس هل كانت مفروشة أو منصوبة ؟ وهذا - والله أعلم -

ليس اختلافا في الحقيقة فإنه كان لا يجلس على قدمه بل يخرجها عن يمينه فتكون بين المنصوبة والمفروشة فإنها تكون على باطنها الأيمن فهي مفروشة بمعنى أنه ليس ناصبا لها جالسا على عقبه ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالسا على باطنها وظهرها إلى الأرض فصح قول أبي حميد ومن معه وقول عبد الله بن الزبير أو يقال إنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا وهذا فكان ينصب قدمه وربما فرشها أحيانا وهذا أروح لها . والله أعلم .

ثم كان صلى الله عليه وسلم يتشهد دائما في هذه الجلسة ويعلم أصحابه أن يقولوا : التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

وقد ذكر النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن بسم الله وبالله التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار

ولم تجئ التسمية في أول التشهد إلا في هذا الحديث وله علة غير عنعنة أبي الزبير . وكان صلى الله عليه وسلم يخفف هذا التشهد جدا حتى كأنه على الرضف - وهي الحجارة المحماة - ولم ينقل عنه في حديث قط أنه صلى عليه وعلى آله في هذا التشهد ولا كان أيضا يستعيذ فيه من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال ومن استحب ذلك فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيين موضعها وتقييدها بالتشهد الأخير .

[ النهوض للركعة الثالثة ]
ثم كان ينهض مكبرا على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمدا على فخذه كما تقدم وقد ذكر مسلم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفع يديه في هذا الموضع وهي في بعض طرق البخاري أيضا على أن هذه الزيادة ليست متفقا عليها في حديث عبد الله بن عمر فأكثر رواته لا يذكرونها وقد جاء ذكرها مصرحا به في حديث أبي حميد الساعدي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ويقيم كل عضو في موضعه ثم يقرأ ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه معتدلا لا يصوب رأسه ولا يقنع به ثم يقول سمع الله لمن حمده ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حتى يقر كل عظم إلى موضعه ثم يهوي إلى الأرض ويجافي يديه عن جنبيه ثم يرفع رأسه ويثني رجله فيقعد عليها ويفتخ أصابع رجليه إذا سجد ثم يكبر ويجلس على رجله اليسرى حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يقوم فيصنع في الأخرى مثل ذلك ثم إذا قام من الركعتين رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما يصنع عند افتتاح الصلاة ثم يصلي بقية صلاته هكذا حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخرج رجليه وجلس على شقه الأيسر متوركا

هذا سياق أبي حاتم في " صحيحه " وهو في " صحيح مسلم " أيضا وقد ذكره الترمذي مصححا له من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في هذه المواطن أيضا .
[ لم يثبت عنه أنه قرأ في الركعتين الأخريين شيئا ]

ثم كان يقرأ الفاتحة وحدها ولم يثبت عنه أنه قرأ في الركعتين الأخريين بعد الفاتحة شيئا وقد ذهب الشافعي في أحد قوليه وغيره إلى استحباب القراءة بما زاد على الفاتحة في الأخريين واحتج لهذا القول بحديث أبي سعيد الذي في " الصحيح " : حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر في الركعتين الأوليين قدر قراءة الم تنزيل السجدة وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الركعتين الأخريين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك

وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهر في الاقتصار على فاتحة الكتاب في الركعتين الأخريين .

[ كان يفعل في الصلاة شيئا لعارض لم يكن يفعله ]

قال أبو قتادة رضي الله عنه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحيانا

زاد مسلم : ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والحديثان غير صريحين في محل النزاع .

وأما حديث أبي سعيد فإنما هو حزر منهم وتخمين ليس إخبارا عن تفسير نفس فعله صلى الله عليه وسلم . وأما حديث أبي قتادة فيمكن أن يراد به أنه كان يقتصر على الفاتحة وأن يراد به أنه لم يكن يخل بها في الركعتين الأخريين بل كان يقرؤها فيهما كما كان يقرؤها في الأوليين فكان يقرأ الفاتحة في كل ركعة وإن كان حديث أبي قتادة في الاقتصار أظهر فإنه في معرض التقسيم فإذا قال كان يقرأ في الأوليين بالفاتحة والسورة وفي الأخريين بالفاتحة كان كالتصريح في اختصاص كل قسم بما ذكر فيه وعلى هذا فيمكن أن يقال إن هذا أكثر فعله وربما قرأ في الركعتين الأخريين بشيء فوق الفاتحة كما دل عليه حديث أبي سعيد وهذا

كما أن هديه صلى الله عليه وسلم كان تطويل القراءة في الفجر وكان يخففها أحيانا وتخفيف القراءة في المغرب وكان يطيلها أحيانا وترك القنوت في الفجر وكان يقنت فيها أحيانا والإسرار في الظهر والعصر بالقراءة كان يسمع الصحابة الآية فيها أحيانا وترك الجهر بالبسملة وكان يجهر بها أحيانا .


[ الالتفات في الصلاة ]
والمقصود أنه كان يفعل في الصلاة شيئا أحيانا لعارض لم يكن من فعله الراتب ومن هذا لما بعث صلى الله عليه وسلم فارسا طليعة ثم قام إلى الصلاة وجعل يلتفت في الصلاة إلى الشعب الذي يجيء منه الطليعة ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الالتفات في الصلاة وفي " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ؟ فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد

وفي الترمذي من حديث سعيد بن المسيب عن أنس رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة فإن كان ولا بد ففي التطوع لا في الفرض ولكن للحديث علتان

إحداهما : إن رواية سعيد عن أنس لا تعرف .

الثانية إن في طريقه علي بن زيد بن جدعان وقد ذكر البزار في مسنده من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صلاة للملتفت

فأما حديث ابن عباس : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره " فهذا حديث لا يثبت قال الترمذي فيه حديث غريب .

ولم يزد . وقال الخلال أخبرني الميموني أن أبا عبد الله قيل له إن بعض الناس أسند أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة . فأنكر ذلك إنكارا شديدا حتى تغير وجهه وتغير لونه وتحرك بدنه ورأيته في حال ما رأيته في حال قط أسوأ منها وقال النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ في الصلاة ؟ يعني أنه أنكر ذلك وأحسبه قال ليس له إسناد وقال من روى هذا ؟ إنما هذا من سعيد بن المسيب ثم قال لي بعض أصحابنا : إن أبا عبد الله وهن حديث سعيد هذا وضعف إسناده وقال إنما هو عن رجل عن سعيد وقال عبد الله بن أحمد : حدثت أبي بحديث حسان بن إبراهيم عن عبد الملك الكوفي قال سمعت العلاء قال سمعت مكحولا يحدث عن أبي أمامة وواثلة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة لم يلتفت يمينا ولا شمالا ورمى ببصره في موضع سجوده فأنكره جدا وقال اضرب عليه . فأحمد رحمه الله أنكر هذا وهذا وكان إنكاره للأول أشد لأنه باطل سندا ومتنا .

والثاني إنما أنكر سنده وإلا فمتنه غير منكر والله أعلم .

ولو ثبت الأول لكان حكاية فعل فعله لعله كان لمصلحة تتعلق بالصلاة ككلامه عليه السلام هو وأبو بكر وعمر وذو اليدين في الصلاة لمصلحتها أو لمصلحة المسلمين كالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب .

قال أبو داود يعني وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة وهو يدخل في مداخل العبادات كصلاة الخوف وقريب منه قول عمر إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة . فهذا جمع بين الجهاد والصلاة . ونظيره التفكر في معاني القرآن واستخراج كنوز العلم منه في الصلاة فهذا جمع بين الصلاة والعلم فهذا لون والتفات الغافلين اللاهين وأفكارهم لون آخر وبالله التوفيق .

[ إطالة الركعتين الأوليين ]

فهديه الراتب صلى الله عليه وسلم إطالة الركعتين الأوليين من الرباعية على الأخريين وإطالة الأولى من الأوليين على الثانية ولهذا قال سعد لعمر أما أنا فأطيل في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ إطالة الفجر على سائر الصلوات وكذا قول الصلاة على آخرها ]

[إشارة إلى الركعتين بعد الوتر ]

وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم إطالة صلاة الفجر على سائر الصلوات كما تقدم . قالت عائشة رضي الله عنها : فرض الله الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد في صلاة الحضر إلا الفجر فإنها أقرت على حالها من أجل طول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه " وأصله في " صحيح البخاري " .

وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم في سائر صلاته إطالة أولها على آخرها كما فعل في الكسوف وفي قيام الليل لما صلى ركعتين طويلتين ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما حتى أتم صلاته . ولا يناقض هذا افتتاحه صلى الله عليه وسلم صلاة الليل بركعتين خفيفتين وأمره بذلك لأن هاتين الركعتين مفتاح قيام الليل فهما بمنزلة سنة الفجر وغيرها وكذلك الركعتان اللتان كان يصليهما أحيانا بعد وتره تارة جالسا وتارة قائما مع قوله اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا فإن هاتين الركعتين لا تنافيان هذا الأمر كما أن المغرب وتر للنهار وصلاة السنة شفعا بعدها لا يخرجها عن كونها وترا للنهار وكذلك الوتر لما كان عبادة مستقلة وهو وتر الليل كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب من المغرب ولما كان المغرب فرضا كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهر جدا وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين إن شاء الله تعالى وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف وبالله التوفيق


فصل [ الجلوس للتشهد الأخير ]
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد الأخير جلس متوركا وكان يفضي بوركه إلى الأرض ويخرج قدمه من ناحية واحدة .

فهذا أحد الوجوه الثلاثة التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم في التورك . ذكره أبو داود في حديث أبي حميد الساعدي من طريق عبد الله بن لهيعة وقد ذكر أبو حاتم في " صحيحه " هذه الصفة من حديث أبي حميد الساعدي من غير طريق ابن لهيعة وقد تقدم حديثه .

الوجه الثاني : ذكره البخاري في " صحيحه " من حديث أبي حميد أيضا قال وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته فهذا هو الموافق الأول في الجلوس على الورك وفيه زيادة وصف في هيئة القدمين لم تتعرض الرواية الأولى لها .

الوجه الثالث ما ذكره مسلم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن الزبير : أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ويفرش قدمه اليمنى وهذه هي الصفة التي اختارها أبو القاسم الخرقي في " مختصره " وهذا مخالف للصفتين الأوليين في إخراج اليسرى من جانبه الأيمن وفي نصب اليمنى ولعله كان يفعل هذا تارة وهذا تارة وهذا أظهر . ويحتمل أن يكون من اختلاف الرواة ولم يذكر عنه عليه السلام هذا التورك إلا في التشهد الذي يليه السلام .

قال الإمام أحمد ومن وافقه هذا مخصوص بالصلاة التي فيها تشهدان وهذا التورك فيها جعل فرقا بين الجلوس في التشهد الأول الذي يسن تخفيفه فيكون الجالس فيه متهيئا للقيام وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه مطمئنا .

وأيضا فتكون هيئة الجلوسين فارقة بين التشهدين مذكرة للمصلي حاله فيهما . وأيضا فإن أبا حميد إنما ذكر هذه الصفة عنه صلى الله عليه وسلم في الجلسة التي في التشهد الثاني فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وأنه كان يجلس مفترشا ثم قال وإذا جلس في الركعة الآخرة وفي لفظ فإذا جلس في الركعة الرابعة

وأما قوله في بعض ألفاظه حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى وجلس على شقه متوركا فهذا قد يحتج به من يرى التورك يشرع في كل تشهد يليه السلام فيتورك في الثانية وهو قول الشافعي رحمه الله وليس بصريح في الدلالة بل سياق الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد الذي يليه السلام من الرباعية والثلاثية فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وقيامه منه ثم قال حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم جلس متوركا فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني .

فصل [ وضع اليد في التشهد ]
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وضم أصابعه الثلاث ونصب السبابة . وفي لفظ وقبض أصابعه الثلاث ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى . ذكره مسلم عن ابن عمر . وقال وائل بن حجر : جعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها وهو في " السنن " .

وفي حديث ابن عمر في " صحيح مسلم " عقد ثلاثة وخمسين وهذه الروايات كلها واحدة فإن من قال قبض أصابعه الثلاث أراد به أن الوسطى كانت مضمومة لم تكن منشورة كالسبابة ومن قال قبض ثنتين من أصابعه أراد أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى وقد صرح بذلك من قال وعقد ثلاثة وخمسين فإن الوسطى في هذا العقد تكون مضمومة ولا تكون مقبوضة مع البنصر .

وقد استشكل كثير من الفضلاء هذا إذ عقد ثلاث وخمسين لا يلائم واحدة من الصفتين المذكورتين فإن الخنصر لا بد أن تركب البنصر في هذا العقد .

وقد أجاب عن هذا بعض الفضلاء بأن الثلاثة لها صفتان في هذا العقد قديمة وهي التي ذكرت في حديث ابن عمر تكون فيها الأصابع الثلاث مضمومة مع تحليق الإبهام مع الوسطى وحديثة وهي المعروفة اليوم بين أهل الحساب والله أعلم .

وكان يبسط ذراعه على فخذه ولا يجافيها فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه وأما اليسرى فممدودة الأصابع على الفخذ اليسرى .

[ مواضع استقبال أصابعه القبلة ]

وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه في ركوعه وفي سجوده وفي تشهده ويستقبل أيضا بأصابع رجليه القبلة في سجوده . وكان يقول في كل ركعتين التحيات .



[ مواضع الدعاء في الصلاة ]
وأما المواضع التي كان يدعو فيها في الصلاة فسبعة مواطن

أحدها : بعد تكبيرة الإحرام في محل الاستفتاح .

الثاني : قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك فإن فيه نظرا .

الثالث بعد الاعتدال من الركوع كما ثبت ذلك في " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن أبي أوفى : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ

الرابع في ركوعه كان يقول سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي

الخامس في سجوده وكان فيه غالب دعائه .

السادس بين السجدتين .

السابع بعد التشهد وقبل السلام وبذلك أمر في حديث أ بي هريرة حديث فضالة بن عبيد وأمر أيضا بالدعاء في السجود .

[ رأي المصنف في الدعاء بعد الصلاة ]

وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلا ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن . وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه ولا أرشد إليه أمته وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما والله أعلم .

وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها وهذا هو اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه ثم يسأله إذا انصرف عنه ؟ ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي إلا أن هاهنا نكتة لطيفة وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة استحب له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم استحب له الدعاء عقيب ذلك كما في حديث فضالة بن عبيد إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء قال الترمذي : حديث صحيح .


فصل [ التسليم وبيان أنه لم تثبت عنه التسليمة الواحدة ]
ثم كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك .

هذا كان فعله الراتب رواه عنه خمسة عشر صحابيا وهم عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد الساعدي ووائل بن حجر وأبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر وجابر بن سمرة والبراء بن عازب وأبو مالك الأشعري وطلق بن علي وأوس بن أوس وأبو رمثة وعدي بن عميرة رضي الله عنهم .

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولكن لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح وأجود ما فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا وهو حديث معلول وهو في السنن لكنه كان في قيام الليل والذين رووا عنه التسليمتين رووا ما شاهدوه في الفرض والنفل على أن حديث عائشة ليس صريحا في الاقتصار على التسليمة الواحدة بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها ولم تنف الأخرى بل سكتت عنها وليس سكوتها عنها مقدما على رواية من حفظها وضبطها وهم أكثر عددا وأحاديثهم أصح وكثير من أحاديثهم صحيح والباقي حسان .

قال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث عائشة ومن حديث أنس إلا أنها معلولة ولا يصححها أهل العلم بالحديث ثم ذكر علة حديث سعد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة . قال وهذا وهم وغلط وإنما الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره ثم ساق الحديث من طريق ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن شماله حتى كأني أنظر إلى صفحة خده فقال الزهري : ما سمعنا هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إسماعيل بن محمد : أكل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمعته ؟ قال لا قال فنصفه ؟ قال لا قال فاجعل هذا من النصف الذي لم تسمع . قال وأما حديث عائشة رضي الله عنها : عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به وذكر ليحيى بن معين هذا الحديث فقال حديث عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما

قال وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئا قال وقد روي مرسلا عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يسلمون تسليمة واحدة وليس مع القائلين بالتسليمة غير عمل أهل المدينة قالوا : وهو عمل قد توارثوه كابرا عن كابر ومثله يصح الاحتجاج به لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا وهذه طريقة قد خالفهم فيها سائر الفقهاء والصواب معهم والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدفع ولا ترد بعمل أهل بلد كائنا من كان وقد أحدث الأمراء بالمدينة وغيرها في الصلاة أمورا استمر عليها العمل ولم يلتفت إلى استمراره وعمل أهل المدينة الذي يحتج به ما كان في زمن الخلفاء الراشدين وأما عملهم بعد موتهم وبعد انقراض عصر من كان بها في الصحابة فلا فرق بينهم وبين عمل غيرهم والسنة تحكم بين الناس لا عمل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وبالله التوفيق .

افتراضي

فصل [ الدعاء قبل التسليم ]
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته فيقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم

وكان يقول في صلاته أيضا : اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي فيما رزقتني وكان يقول اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم وكان يقول في سجوده رب أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وقد تقدم ذكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده وجلوسه واعتداله في الركوع .

فصل [ المحفوظ في أدعيته في الصلاة بلفظ الإفراد ]
والمحفوظ في أدعيته صلى الله عليه وسلم في الصلاة كلها بلفظ الإفراد كقوله رب اغفر لي وارحمني واهدني وسائر الأدعية المحفوظة عنه ومنها قوله في دعاء الاستفتاح اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب الحديث .

وروى الإمام أحمد رحمه الله وأهل " السنن " من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤم عبد قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم قال ابن خزيمة في " صحيحه " : وقد ذكر حديث اللهم باعد بيني وبين خطاياي الحديث قال في هذا دليل على رد الحديث الموضوع لا يؤم عبد قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه والله أعلم .

فصل [ كان يراعي حال المأمومين وغيرهم ]
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه ذكره الإمام أحمد رحمه الله وكان في التشهد لا يجاوز بصره إشارته وقد تقدم . وكان قد جعل الله تعالى قرة عينه ونعيمه وسروره وروحه في الصلاة . وكان يقول يا بلال أرحنا بالصلاة

وكان يقول وجعلت قرة عيني في الصلاة ومع هذا لم يكن يشغله ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله وقربه من الله تعالى وحضور قلبه بين يديه واجتماعه عليه .

وكان يدخل في الصلاة وهو يريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيخففها مخافة أن يشق على أمه وأرسل مرة فارسا طليعة له فقام يصلي وجعل يلتفت إلى الشعب الذي يجيء منه الفارس ولم يشغله ما هو فيه عن مراعاة حال فارسه .

وكذلك كان يصلي الفرض وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنة بنته زينب على عاتقه إذا قام حملها وإذا ركع وسجد وضعها .

وكان يصلي فيجيء الحسن أو الحسين فيركب ظهره فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره .

وكان يصلي فتجيء عائشة من حاجتها والباب مغلق فيمشي فيفتح لها الباب ثم يرجع إلى الصلاة


رد السلام في الصلاة ]
وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة . وقال جابر : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة ثم أدركته وهو يصلي فسلمت عليه فأشار إلي ذكره مسلم في " صحيحه " .

وقال أنس رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير في الصلاة ذكره الإمام أحمد رحمه الله .

وقال صهيب : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد إشارة قال الراوي : لا أعلمه قال إلا إشارة بأصبعه وهو في " السنن " و " المسند " .

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه قال فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو في الصلاة فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي ؟ قال يقول هكذا وبسط جعفر بن عون كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق وهو في " السنن " و " المسند " وصححه الترمذي ولفظه كان يشير بيده . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما قدمت من الحبشة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فأومأ برأسه ذكره البيهقي .

وأما حديث أبي غطفان عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته فحديث باطل ذكره الدارقطني وقال قال لنا ابن أبي داود : أبو غطفان هذا رجل مجهول والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في صلاته . رواه أنس وجابر وغيرهما .

وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجليها وإذا قام بسطتهما . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فجاءه الشيطان ليقطع عليه صلاته فأخذه فخنقه حتى سال لعابه على يده . وكان يصلي على المنبر ويركع عليه فإذا جاءت السجدة نزل القهقرى فسجد على الأرض ثم صعد عليه . وكان يصلي إلى جدار فجاءت بهمة تمر من بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه . يدارئها : يفاعلها من المدارأة وهي المدافعة . وكان يصلي فجاءته جاريتان من بني عبد المطلب قد اقتتلتا فأخذهما بيديه فنزع إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة ولفظ أحمد فيه فأخذتا بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم فنزع بينهما أو فرق بينهما ولم ينصرف

وكان يصلي فمر بين يديه غلام فقال بيده هكذا فرجع ومرت بين يديه جارية فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هن أغلب ذكره الإمام أحمد وهو في " السنن " . وكان ينفخ في صلاته ذكره الإمام أحمد وهو في " السنن " .

وأما حديث النفخ في الصلاة كلام فلا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما رواه سعيد في " سننه " عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله إن صح .

[ البكاء والنحنحة ]
وكان يبكي في صلاته وكان يتنحنح في صلاته . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها فإذا أتيته استأذنت فإن وجدته يصلي فتنحنح دخلت وإن وجدته فارغا أذن لي ذكره النسائي وأحمد ولفظ أحمد : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان بالليل والنهار وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح رواه أحمد وعمل به فكان يتنحنح في صلاته ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة .

[ الحفي والانتعال ]
وكان يصلي حافيا تارة ومنتعلا أخرى كذلك قال عبد الله بن عمرو عنه وأمر بالصلاة بالنعل مخالفة لليهود

[ الصلاة بالثوب الواحد ]
وكان يصلي في الثوب الواحد تارة وفي الثوبين تارة وهو أكثر .



[ القنوت ]
وقنت في الفجر بعد الركوع شهرا ثم ترك القنوت . ولم يكن من هديه القنوت فيها دائما ومن المحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول اللهم اهدني فيمن هديت وتولني فيمن توليت إلخ .

ويرفع بذلك صوته ويؤمن عليه أصحابه دائما إلى أن فارق الدنيا ثم لا يكون ذلك معلوما عند الأمة بل يضيعه أكثر أمته وجمهور أصحابه بل كلهم حتى يقول من يقول منهم إنه محدث كما قال سعد بن طارق الأشجعي : قلت لأبي : يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ها هنا وبالكوفة منذ خمس سنين فكانوا يقنتون في الفجر ؟ فقال أي بني محدث رواه أهل السنن وأحمد . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال أشهد أني سمعت ابن عباس يقول إن القنوت في صلاة الفجر بدعة وذكر البيهقي عن أبي مجلز قال صليت مع ابن عمر صلاة الصبح فلم يقنت فقلت له . لا أراك تقنت فقال لا أحفظه عن أحد من أصحابنا .

ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان يقنت كل غداة ويدعو بهذا الدعاء ويؤمن الصحابة لكان نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها وإن جاز عليهم تضييع أمر القنوت منها جاز عليهم تضييع ذلك ولا فرق وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كل يوم وليلة خمس مرات دائما مستمرا ثم يضيع أكثر الأمة ذلك ويخفى عليها وهذا من أمحل المحال .

بل لو كان ذلك واقعا لكان نقله كنقل عدد الصلوات وعدد الركعات والجهر والإخفات وعدد السجدات ومواضع الأركان وترتيبها والله الموفق .

والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه صلى الله عليه وسلم جهر وأسر وقنت وترك وكان إسراره أكثر من جهره وتركه القنوت أكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم وتخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم وجاءوا تائبين فكان قنوته لعارض فلما زال ترك القنوت ولم يختص بالفجر بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب ذكره البخاري في " صحيحه " عن أنس . وقد ذكره مسلم عن البراء .

وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على حي من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه ورواه أبو داود .

وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة وتركه عند عدمها ولم يكن يخصه بالفجر بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل ولاتصالها بصلاة الليل وقربها من السحر وساعة الإجابة وللتنزل الإلهي ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته أو ملائكة الليل والنهار كما روي هذا وهذا في تفسير قوله تعالى : إن قرآن الفجر كان مشهودا [ الإسراء : 78 ] . وأما حديث ابن أبي فديك عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية يرفع يديه فيها فيدعو بهذا الدعاء اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت فما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا ولكن لا يحتج بعبد الله هذا وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن أحمد بن عبد الله المزني : حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك . . فذكره .

نعم صح عن أبي هريرة أنه قال والله لأنا أقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم تركه فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها وهم أسعد بالحديث من الطائفتين فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركونه حيث تركه فيقتدون به في فعله وتركه ويقولون فعله سنة وتركه سنة ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه ولا يكرهون فعله ولا يرونه بدعة ولا فاعله مخالفا للسنة كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ولا يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفا للسنة بل من قنت فقد أحسن ومن تركه فقد أحسن وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه .

ودعاء القنوت دعاء وثناء فهو أولى بهذا المحل وإذا جهر به الإمام أحيانا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة ومن هذا أيضا جهر الإمام بالتأمين وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة وأنواع النسك من الإفراد والقران والتمتع وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو فإنه قبلة القصد وإليه التوجه في هذا الكتاب وعليه مدار التفتيش والطلب وهذا شيء والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز ولما لا يجوز وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه فإنه أكمل الهدي وأفضله فإذا قلنا : لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ولا الجهر بالبسملة لم يدل ذلك على كراهية غيره ولا أنه بدعة ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأفضله والله المستعان .

وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس قال ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في " المسند " والترمذي وغيرهما فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره . وقال ابن المديني : كان يخلط . وقال أبو زرعة كان يهم كثيرا . وقال ابن حبان : كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير .

وقال لي شيخنا ابن تيمية قدس الله روحه وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم [ الأعراف 172 ] . حديث أبي بن كعب الطويل وفيه وكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم فأرسل تلك الروح إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشرا سويا قال فحملت الذي يخاطبها فدخل من فيها وهذا غلط محض فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها ؟ إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا [ مريم : 19 ] ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم ، هذا محال .


والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث البتة ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع كما قال تعالى : وله من في السماوات والأرض كل له قانتون [ الروم : 26 ] وقال تعالى : أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه [ الزمر 9 ] وقال تعالى : وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين [ التحريم 21 ] وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة طول القنوت وقال زيد بن أرقم لما نزل قوله تعالى : وقوموا لله قانتين [ البقرة 238 ] أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

وأنس رضي الله عنه لم يقل لم يزل يقنت بعد الركوع رافعا صوته اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره ويؤمن من خلفه ولا ريب أن قوله ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله قنوت وتطويل هذا الركن قنوت وتطويل القراءة قنوت وهذا الدعاء المعين قنوت فمن أين لكم أن أنسا إنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت ؟ ولا يقال تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها وأنس خص الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت ولا يمكن أن يقال إنه الدعاء على الكفار ولا الدعاء للسمتضعفين من المؤمنين لأن أنسا قد أخبر أنه كان قنت شهرا ثم تركه فتعين أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوت المعروف وقد قنت أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والبراء بن عازب وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم .

والجواب من وجوه . أحدها : أن أنسا قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري فلم يخصص القنوت بالفجر وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء فما بال القنوت اختص بالفجر ؟ فإن قلتم قنوت المغرب منسوخ قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة : وكذلك قنوت الفجر سواء ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلا على نسخ قنوت الفجر سواء ولا يمكنكم أبدا أن تقيموا دليلا على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوت الفجر .

يتبع...

اخت مسلمة
04-09-2009, 12:32 AM
فإن قلتم قنوت المغرب كان قنوتا للنوازل لا قنوتا راتبا قال منازعوكم من أهل الحديث نعم كذلك هو وكذلك قنوت الفجر سواء وما الفرق ؟ قالوا : ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوت نازلة لا قنوتا راتبا أن أنسا نفسه أخبر بذلك وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة ثم تركه ففي " الصحيحين " عن أنس قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه . الثاني : أن شبابة روى عن قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قال قلنا لأنس بن مالك إن قوما يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بالفجر قال كذبوا وإنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء العرب وقيس بن الربيع وإن كان يحيى بن معين ضعفه فقد وثقه غيره وليس بدون أبي جعفر الرازي فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا .

وقيس ليس بحجة في هذا الحديث وهو أوثق منه أو مثله والذين ضعفوا أبا جعفر أكثر من الذين ضعفوا قيسا فإنما يعرف تضعيف قيس عن يحيى وذكر سبب تضعيفه فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم : سألت يحيى عن قيس بن الربيع فقال ضعيف لا يكتب حديثه كان يحدث بالحديث عن عبيدة وهو عنده عن منصور ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين ؟ الثالث أن أنسا أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون وأن بدء القنوت هو قنوت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رعل وذكوان ففي " الصحيحين " من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له بئر معونة فقال القوم والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة فذلك بدء القنوت وما كنا نقنت

فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائما وقول أنس فذلك بدء القنوت مع قوله قنت شهرا ثم تركه دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت النوازل وهو الذي وقته بشهر وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهرا كما في " الصحيحين " عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة العتمة شهرا يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف .

قال أبو هريرة : وأصبح ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال أوما تراهم قد قدموا فقنوته في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة ولذلك وقته أنس بشهر .

وقد روي عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضا في الفجر شهرا وكلاهما صحيح وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ورواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح .

وقد ذكر الطبراني في " معجمه " من حديث محمد بن أنس : حدثنا مطرف بن طريف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها قال الطبراني : لم يروه عن مطرف إلا محمد بن أنس . انتهى .

وهذا الإسناد وإن كان لا تقوم به حجة فالحديث صحيح من جهة المعنى لأن القنوت هو الدعاء ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . لم يصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها كما تقدم وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا .

الوجه الرابع أن طرق أحاديث أنس تبين المراد ويصدق بعضها بعضا ولا تتناقض . وفي " الصحيحين " من حديث عاصم الأحول قال سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة ؟ فقال قد كان القنوت فقلت كان قبل الركوع أو بعده ؟ قال قبله ؟ قلت وإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت : قنت بعده . قال كذب إنما قلت : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا .

وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم وسائر الرواة عن أنس خالفوه فقالوا : عاصم ثقة جدا غير أنه خالف أصحاب أنس في موضع القنوتين والحافظ قد يهم والجواد قد يعثر وحكوا عن الإمام أحمد تعليله فقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - أيقول أحد في حديث أنس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول ؟ فقال ما علمت أحدا يقوله غيره .

قال أبو عبد الله خالفهم عاصم كلهم هشام عن قتادة عن أنس والتيمي عن أبي مجلز عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع وأيوب عن محمد بن سيرين قال سألت أنسا وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه .

وأما عاصم فقال قلت له ؟ فقال كذبوا إنما قنت بعد الركوع شهرا . قيل له من ذكره عن عاصم ؟ قال أبو معاوية وغيره قيل لأبي عبد الله وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع ؟ فقال بلى كلها عن خفاف بن إيماء بن رحضة وأبي هريرة .

قلت لأبي عبد الله فلم ترخص إذا في القنوت قبل الركوع وإنما صح الحديث بعد الركوع ؟ فقال القنوت في الفجر بعد الركوع وفي الوتر يختار بعد الركوع ومن قنت قبل الركوع فلا بأس لفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واختلافهم فأما في الفجر فبعد الركوع .

فيقال من العجب تعليل هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي وقيس بن الربيع وعمرو بن أيوب وعمرو بن عبيد ودينار وجابر الجعفي وقل من تحمل مذهبا وانتصر له في كل شيء إلا اضطر إلى هذا المسلك .

فنقول وبالله التوفيق أحاديث أنس كلها صحاح يصدق بعضها بعضا ولا تتناقض والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير القنوت الذي ذكره بعده والذي وقته غير الذي أطلقه فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة طول القنوت والذي ذكره بعده هو إطالة القيام للدعاء فعله شهرا يدعو على قوم ويدعو لقوم ثم استمر يطيل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا كما في " الصحيحين " عن ثابت عن أنس قال إني لا أزال أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا قال وكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة يمكث حتى يقول القائل قد نسي .

فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا . ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل بل كان يثني على ربه ويمجده ويدعوه وهذا غير القنوت الموقت بشهر فإن ذلك دعاء على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة .

وأما تخصيص هذا بالفجر فبحسب سؤال السائل فإنما سأله عن قنوت الفجر فأجابه عما سأله عنه . وأيضا فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات ويقرأ فيها بالستين إلى المائة وكان كما قال البراء بن عازب : ركوعه واعتداله وسجوده وقيامه متقاربا . وكان يظهر من تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك .

ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذا الاعتدال كما تقدمت الأحاديث بذلك وهذا قنوت منه لا ريب فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا .



ولما صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثر الناس هو هذا الدعاء المعروف اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم ونشأ من لا يعرف غير ذلك فلم يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مداومين عليه كل غداة وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء وقالوا : لم يكن هذا من فعله الراتب بل ولا يثبت عنه أنه فعله . وغاية ما روي عنه في هذا القنوت أنه علمه للحسن بن علي كما في " المسند " و " السنن " الأربع عنه قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت قال الترمذي : حديث حسن ولا نعرف في القنوت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن من هذا وزاد البيهقي بعد ولا يذل من واليت ولا يعز من عاديت

ومما يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيام للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب : حدثنا أبو هلال حدثنا حنظلة إمام مسجد قتادة قلت : هو السدوسي قال اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح فقال قتادة قبل الركوع وقلت أنا : بعد الركوع فأتينا أنس بن مالك فذكرنا له ذلك فقال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فكبر وركع ورفع رأسه ثم سجد ثم قام في الثانية فكبر وركع ثم رفع رأسه فقام ساعة ثم وقع ساجدا . وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء وهو يبين مراد أنس بالقنوت فإنه ذكره دليلا لمن قال إنه قنت بعد الركوع فهذا القيام والتطويل هو كان مراد أنس فاتفقت أحاديثه كلها وبالله التوفيق .

وأما المروي عن الصحابة فنوعان أحدهما : قنوت عند النوازل كقنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة وعند محاربة أهل الكتاب وكذلك قنوت عمر وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام . الثاني : مطلق مراد من حكاه عنهم به تطويل هذا الركن للدعاء والثناء والله أعلم .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود السهو
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني

وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في " الموطأ " : إنما أنسى أو أنسى لأسن

[ المواضع التي سجد فيها للسهو ]
وكان صلى الله عليه وسلم ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة فقام صلى الله عليه وسلم من اثنتين في الرباعية ولم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل السلام ثم سلم فأخذ من هذا قاعدة أن من ترك شيئا من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهوا سجد له قبل السلام وأخذ من بعض طرقه أنه إذا ترك ذلك وشرع في ركن لم يرجع إلى المتروك لأنه لما قام سبحوا فأشار إليهم أن قوموا . واختلف عنه في محل هذا السجود ففي " الصحيحين " من حديث عبد الله بن بحينة أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر ولم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك . وفي رواية متفق عليها : يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم

وفي " المسند " من حديث يزيد بن هارون عن المسعودي عن زياد بن علاقة قال صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح به من خلفه فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم ثم قال هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الترمذي .

وذكر البيهقي من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال صلى بنا عقبة بن عامر الجهني فقام وعليه جلوس فقال الناس سبحان الله سبحان الله فلم يجلس ومضى على قيامه فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتي السهو وهو جالس فلما سلم قال إني سمعتكم آنفا تقولون سبحان الله لكيما أجلس لكن السنة الذي صنعت

وحديث عبد الله بن بحينة أولى لثلاثة وجوه . أحدها : أنه أصح من حديث المغيرة .

الثاني : أنه أصرح منه فإن قول المغيرة وهكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز أن يرجع إلى جميع ما فعل المغيرة ويكون قد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السهو مرة قبل السلام ومرة بعده فحكى ابن بحينة ما شاهده وحكى المغيرة ما شاهده فيكون كلا الأمرين جائزا ويجوز أن يريد المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قام ولم يرجع ثم سجد للسهو .

الثالث أن المغيرة لعله نسي السجود قبل السلام وسجده بعده وهذه صفة السهو وهذا لا يمكن أن يقال في السجود قبل السلام والله أعلم .

فصل

وسلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر ثم تكلم ثم أتمها ثم سلم ثم سجد سجدتين بعد السلام والكلام يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع وذكر أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم وقال الترمذي : حسن غريب .

وصلى يوما فسلم وانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة فأدركه طلحة بن عبيد الله فقال نسيت من الصلاة ركعة فرجع فدخل المسجد وأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى للناس ركعة ذكره الإمام أحمد رحمه الله . وصلى الظهر خمسا فقيل له زيد في الصلاة ؟ قال وما ذاك ؟ قالوا : صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم متفق عليه . وصلى العصر ثلاثا ثم دخل منزله فذكره الناس فخرج فصلى بهم ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم فهذا مجموع ما حفظ عنه صلى الله عليه وسلم من سهوه في الصلاة وهو خمسة مواضع وقد تضمن سجوده في بعضه قبل السلام وفي بعضه بعده . فقال الشافعي رحمه الله كله قبل السلام .

وقال أبو حنيفة رحمه الله كله بعد السلام . وقال مالك رحمه الله كل سهو كان نقصانا في الصلاة فإن سجوده قبل السلام وكل سهو كان زيادة في الصلاة فإن سجوده بعد السلام وإذا اجتمع سهوان زيادة ونقصان فالسجود لهما قبل السلام . قال أبو عمر بن عبد البر : هذا مذهبه لا خلاف عنه فيه ولو سجد أحد عنده لسهوه بخلاف ذلك فجعل السجود كله بعد السلام أو كله قبل السلام لم يكن عليه شيء لأنه عنده من باب قضاء القاضي باجتهاده لاختلاف الآثار المرفوعة والسلف من هذه الأمة في ذلك .

وأما الإمام أحمد رحمه الله فقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن سجود السهو قبل السلام أم بعده ؟ فقال في مواضع قبل السلام وفي مواضع بعده كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين سلم من اثنتين ثم سجد بعد السلام على حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين .

ومن سلم من ثلاث سجد أيضا بعد السلام على حديث عمران بن حصين . وفي التحري يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود وفي القيام من اثنتين يسجد قبل السلام على حديث ابن بحينة وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الرحمن بن عوف .

قال الأثرم : فقلت لأحمد بن حنبل فما كان سوى هذه المواضع ؟ قال يسجد فيها كلها قبل السلام لأنه يتم ما نقص من صلاته قال ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لرأيت السجود كله قبل السلام لأنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام ولكن أقول كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام . وقال داود بن علي : لا يسجد أحد للسهو إلا في الخمسة المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .

وأما الشك فلم يعرض له صلى الله عليه وسلم بل أمر فيه بالبناء على اليقين وإسقاط الشك والسجود قبل السلام . فقال الإمام أحمد الشك على وجهين اليقين والتحري فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور . انتهى .

وأما حديث أبي سعيد فهو إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم وأما حديث ابن مسعود فهو إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ثم ليسجد سجدتين متفق عليهما .

وفي لفظ " الصحيحين " : تم يسلم ثم يسجد سجدتين وهذا هو الذي قال الإمام أحمد وإذا رجع إلى التحري سجد بعد السلام . والفرق عنده بين التحري واليقين أن المصلي إذا كان إماما بنى على غالب ظنه وأكثر وهمه وهذا هو التحري فيسجد له بعد السلام على حديث ابن مسعود وإن كان منفردا بنى على اليقين وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وهذه طريقة أكثر أصحابه في تحصيل ظاهر مذهبه .

وعنه روايتان أخريان إحداهما : أنه يبني على اليقين مطلقا وهو مذهب الشافعي ومالك والأخرى : على غالب ظنه مطلقا وظاهر نصوصه إنما يدل على الفرق بين الشك وبين الظن الغالب القوي فمع الشك يبني على اليقين ومع أكثر الوهم أو الظن الغالب يتحرى وعلى هذا مدار أجوبته . وعلى الحالين حمل الحديثين والله أعلم . وقال أبو حنيفة رحمه الله في الشك إذا كان أول ما عرض له استأنف الصلاة فإن عرض له كثيرا فإن كان له ظن غالب بنى عليه وإن لم يكن له ظن بنى على اليقين .


فصل لم يكن من هديه تغميض عينيه في الصلاة
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة وقد تقدم أنه كان في التشهد يومئ ببصره إلى أصبعه في الدعاء ولا يجاوز بصره إشارته وذكر البخاري في " صحيحه " عن أنس رضي الله عنه قال كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي ولو كان يغمض عينيه في صلاته لما عرضت له في صلاته .

وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر لأن الذي كان يعرض له في صلاته هل تذكر تلك التصاوير بعد رؤيتها أو نفس رؤيتها ؟ هذا محتمل وهذا محتمل وأبين دلالة منه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بإنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي وفي الاستدلال بهذا أيضا ما فيه إذ غايته أنه حانت منه التفاتة إليها فشغلته تلك الالتفاتة ولا يدل حديث التفاته إلى الشعب لما أرسل إليه الفارس طليعة لأن ذلك النظر والالتفات منه كان للحاجة لاهتمامه بأمور الجيش وقد يدل على ذلك مد يده في صلاة الكسوف ليتناول العنقود لما رأى الجنة وكذلك رؤيته النار وصاحبة الهرة فيها وصاحب المحجن وكذلك حديث مدافعته للبهيمة التي أرادت أن تمر بين يديه ورده الغلام والجارية وحجزه بين الجاريتين وكذلك أحاديث رد السلام بالإشارة على من سلم عليه وهو في الصلاة فإنه إنما كان يشير إلى من يراه وكذلك حديث تعرض الشيطان له فأخذه فخنقه وكان ذلك رؤية عين فهذه الأحاديث وغيرها يستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة .

وقد اختلف الفقهاء في كراهته فكرهه الإمام أحمد وغيره وقالوا : هو فعل اليهود وأباحه جماعة ولم يكرهوه وقالوا : قد يكون أقرب إلى تحصيل الخشوع الذي هو روح الصلاة وسرها ومقصودها . والصواب أن يقال إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه فهنالك لا يكره التغميض قطعا والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة والله أعلم .


فصل فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة
وجلوسه بعدها وسرعة الانتقال منها وما شرعه لأمته من الأذكار والقراءة بعدها كان إذا سلم استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك بل يسرع الانتقال إلى المأمومين . وكان ينفتل عن يمينه وعن يساره وقال ابن مسعود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره

وقال أنس أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه والأول في " الصحيحين " . والثاني في " مسلم "

وقال عبد الله بن عمرو : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة . ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه ولا يخص ناحية منهم دون ناحية

وكان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس . وكان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . وكان يقول " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون

وذكر أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة قال اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت

هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه عليه الصلاة والسلام وما كان يقوله في ركوعه وسجوده . ولمسلم فيه لفظان . أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله بين التشهد والتسليم وهذا هو الصواب . والثاني : كان يقوله بعد السلام ولعله كان يقوله في الموضعين والله أعلم .

وذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك اللهم ربنا ورب كل شيء ؟ أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب الله أكبر الأكبر الله نور السموات والأرض الله أكبر الأكبر حسبي الله ونعم الوكيل الله أكبر الأكبر رواه أبو داود .

وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله كذلك والله أكبر كذلك وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
وفي صفة أخرى : التكبير أربعا وثلاثين فتتم به المائة .

وفي صفة أخرى : خمسا وعشرين تسبيحة ومثلها تحميدة ومثلها تكبيرة ومثلها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وفي صفة أخرى : عشر تسبيحات وعشر تحميدات وعشر تكبيرات

وفي صفة أخرى : " إحدى عشرة " كما في " صحيح مسلم " في بعض روايات حديث أبي هريرة ويسبحون ويحمدون ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين إحدى عشرة وإحدى عشرة وإحدى عشرة فذلك ثلاثة وثلاثون والذي يظهر في هذه الصفة أنها من تصرف بعض الرواة وتفسيره لأن لفظ الحديث
يسبحون ويحمدون ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وإنما مراده بهذا أن يكون الثلاث والثلاثون في كل واحدة من كلمات التسبيح والتحميد والتكبير أي قولوا : " سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين " لأن راوي الحديث سمي عن أبي صالح السمان وبذلك فسره أبو صالح قال " قولوا : سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون

وأما تخصيصه بإحدى عشرة فلا نظير له في شيء من الأذكار بخلاف المائة فإن لها نظائر والعشر لها نظائر أيضا كما في السنن من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وفي " مسند الإمام أحمد " من حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم علم ابنته فاطمة لما جاءت تسأله الخادم فأمرها : أن تسبح الله عند النوم ثلاثا وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتكبره ثلاثا وثلاثين وإذا صلت الصبح أن تقول " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات وبعد صلاة المغرب عشر مرات

وفي " صحيح ابن حبان " عن أبي أيوب الأنصاري يرفعه من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب له بهن عشر حسنات ومحي عنه بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات وكن له عدل عتاقة أربع رقاب وكن له حرسا من الشيطان حتى يمسي ومن قالهن إذا صلى المغرب دبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح

وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح الله أكبر عشرا والحمد لله عشرا وسبحان الله عشرا ولا إله إلا الله عشرا ويستغفر الله عشرا ويقول اللهم اغفر لي واهدني وارزقني عشرا ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة عشرا فالعشر في الأذكار والدعوات كثيرة . وأما الإحدى عشرة فلم يجئ ذكرها في شيء من ذلك البتة إلا في بعض طرق حديث أبي هريرة المتقدم والله أعلم .

وقد ذكر أبو حاتم في " صحيحه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من صلاته اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من نقمتك وأعوذ بك منك لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد

وذكر الحاكم في " مستدركه " عن أبي أيوب أنه قال ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته حين ينصرف من صلاته يقول اللهم اغفر لي خطاياي وذنوبي كلها اللهم أنعمني وأحيني وارزقني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لصالحها إلا أنت ولا يصرف عن سيئها إلا أنت

وذكر ابن حبان في " صحيحه " عن الحارث بن مسلم التميمي قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من يومك كتب الله لك جوارا من النار وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تتكلم اللهم أجرني من النار سبع مرات ؟ فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارا من النار

وقد ذكر النسائي في " السنن الكبير " من حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت وهذا الحديث تفرد به محمد بن حمير عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة ورواه النسائي عن الحسين بن بشر عن محمد بن حمير

وهذا الحديث من الناس من يصححه ويقول الحسين بن بشر قد قال فيه النسائي : لا بأس به وفي موضع آخر ثقة . وأما المحمدان فاحتج بهما البخاري في " صحيحه " قالوا : فالحديث على رسمه ومنهم من يقول هو موضوع وأدخله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه في الموضوعات وتعلق على محمد بن حمير وأن أبا حاتم الرازي قال لا يحتج به وقال يعقوب بن سفيان : ليس بقوي وأنكر ذلك عليه بعض الحفاظ ووثقوا محمدا وقال هو أجل من أن يكون له حديث موضوع وقد احتج به أجل من صنف في الحديث الصحيح وهو البخاري ووثقه أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين وقد رواه الطبراني في " معجمه " أيضا من حديث عبد الله بن حسن عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى وقد روي هذا الحديث من حديث أبي أمامة وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وفيها كلها ضعف ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين طرقها واختلاف مخارجها دلت على أن الحديث له أصل وليس بموضوع .

وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه أنه قال ما تركتها عقيب كل صلاة . وفي المسند والسنن عن عقبة بن عامر قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة " . ورواه أبو حاتم ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " المستدرك " وقال صحيح على شرط مسلم . ولفظ الترمذي " بالمعوذتين " .

وفي " معجم الطبراني " و " مسند أبي يعلى الموصلي " من حديث عمر بن نبهان وقد تكلم فيه عن جابر يرفعه ثلاث من جاء بهن مع الإيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين حيث شاء من عفا عن قاتله وأدى دينا خفيا وقرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات قل هو الله أحد فقال أبو بكر رضي الله عنه " أو إحداهن يا رسول الله " : قال " أو إحداهن " .

وأوصى معاذا أن يقول في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام فراجعته فيه ، فقال : دبر كل شيء منه ، كدبر الحيوان .


فصل [السترة في الصلاة ]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى الجدار جعل بينه وبينه قدر ممر الشاة ولم يكن يتباعد منه بل أمر بالقرب من السترة وكان إذا صلى إلى عود أو عمود أو شجرة جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا وكان يركز الحربة في السفر والبرية فيصلي إليها فتكون سترته وكان يعرض راحلته فيصلي إليها وكان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته وأمر المصلي أن يستتر ولو بسهم أو عصا فإن لم يجد فليخط خطا في الأرض

قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول الخط عرضا مثل الهلال . وقال عبد الله الخط بالطول وأما العصا فتنصب نصبا فإن لم يكن سترة فإنه صح عنه أنه يقطع صلاته " المرأة والحمار والكلب الأسود " .

وثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن مغفل . ومعارض هذه الأحاديث قسمان صحيح غير صريح وصريح غير صحيح فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة رضي الله عنها نائمة في قبلته . وكأن ذلك ليس كالمار فإن الرجل محرم عليه المرور بين يدي المصلي ولا يكره له أن يكون لابثا بين يديه وهكذا المرأة يقطع مرورها الصلاة دون لبثها والله أعلم


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب
كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على عشر ركعات في الحضر دائما وهي التي قال فيها ابن عمر حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح فهذه لم يكن يدعها في الحضر أبدا ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر وداوم عليهما لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملا أثبته وقضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي فمختص به كما سيأتي تقرير ذلك في ذكر خصائصه إن شاء الله تعالى .

وكان يصلي أحيانا قبل الظهر أربعا كما في " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة فإما أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعا وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين وهذا أظهر وإما أن يقال كان يفعل هذا ويفعل هذا فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما .

وقد يقال إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال كما ذكره الإمام أحمد عن عبد الله بن السائب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس وقال إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح

وفي السنن أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها

وقال ابن ماجه . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الركعتين بعد الظهر وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا قبل الظهر وبعدها ركعتين

وذكر ابن ماجه أيضا عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصلي أربعا قبل الظهر يطيل فيهن القيام ويحسن فيهن الركوع والسجود فهذه - والله أعلم - هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن .

وأما سنة الظهر فالركعتان اللتان قال عبد الله بن عمر يوضح ذلك أن سائر الصلوات سنتها ركعتان ركعتان والفجر مع كونها ركعتين والناس في وقتها أفرغ ما يكونون ومع هذا سنتها ركعتان وعلى هذا فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر وردا مستقلا سببه انتصاف النهار وزوال الشمس . وكان عبد الله بن مسعود يصلي بعد الزوال ثمان ركعات ويقول إنهن يعدلن بمثلهن من قيام الليل

وسر هذا والله أعلم - أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل فهما وقتا قرب ورحمة هذا تفتح فيه أبواب السماء وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا . وقد روى مسلم في " صحيحه " من حديث أم حبيبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بهن بيت في الجنة وزاد النسائي والترمذي فيه أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر قال النسائي : وركعتين قبل العصر بدل وركعتين بعد العشاء وصححه الترمذي .

وذكر ابن ماجه عن عائشة ترفعه من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر وذكر أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال ركعتين قبل الفجر وركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين أظنه قال قبل العصر وركعتين بعد المغرب أظنه قال وركعتين بعد العشاء الآخرة

وهذا التفسير يحتمل أن يكون من كلام بعض الرواة مدرجا في الحديث ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا والله أعلم . وأما الأربع قبل العصر فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شيء إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي . .. الحديث الطويل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا لصلاة الظهر أربع ركعات وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات وبعد الظهر ركعتين وقبل العصر أربع ركعات وفي لفظ كان إذا زالت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند العصر صلى ركعتين وإذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند الظهر صلى أربعا ويصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين وقبل العصر أربعا ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث ويدفعه جدا ويقول إنه موضوع . ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره . وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رحم الله امرءا صلى قبل العصر أربعا وقد اختلف في هذا الحديث فصححه ابن حبان وعلله غيره قال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم رحم الله امرءا صلى قبل العصر أربعا فقال دع ذا . فقلت : إن أبا داود قد رواه فقال قال أبو الوليد كان ابن عمر يقول حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات في اليوم والليلة فلو كان هذا لعده . قال أبي : كان يقول " حفظت ثنتي عشرة ركعة " . وهذا ليس بعلة أصلا فإن ابن عمر إنما أخبر بما حفظه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن غير ذلك فلا تنافي بين الحديثين البتة .

وأما الركعتان قبل المغرب فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليهما وصح عنه أنه أقر أصحابه عليهما وكان يراهم يصلونهما فلم يأمرهم ولم ينههم وفي " الصحيحين " عن عبد الله المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب " . قال في الثالثة " لمن شاء كراهة أن يتخذها الناس سنة وهذا هو الصواب في هاتين الركعتين أنهما مستحبتان مندوب إليهما وليستا بسنة راتبة كسائر السنن الرواتب .

[ كان يصلي عامة السنن في بيته ]

وكان يصلي عامة السنن والتطوع الذي لا سبب له في بيته لا سيما سنة المغرب فإنه لم ينقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة . وقال الإمام أحمد في رواية حنبل السنة أن يصلي الرجل الركعتين بعد المغرب في بيته كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قال السائب بن يزيد : لقد رأيت الناس في زمن عمر بن الخطاب إذا انصرفوا من المغرب انصرفوا جميعا حتى لا يبقى في المسجد أحد كأنهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه .

فإن صلى الركعتين في المسجد فهل يجزئ عنه وتقع موقعها ؟ اختلف قوله فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال بلغني عن رجل سماه أنه قال لو أن رجلا صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه ؟ فقال ما أحسن ما قال هذا الرجل وما أجود ما انتزع قال أبو حفص ووجهه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصلاة في البيوت .

وقال المروزي : من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصيا قال ما أعرف هذا قلت له يحكى عن أبي ثور أنه قال هو عاص . قال لعله ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في بيوتكم قال أبو حفص ووجهه أنه لو صلى الفرض في البيت وترك المسجد أجزأه فكذلك السنة . انتهى كلامه . وليس هذا وجهه عند أحمد رحمه الله وإنما وجهه أن السنن لا يشترط لها مكان معين ولا جماعة فيجوز فعلها في البيت والمسجد والله أعلم .

وفي سنة المغرب سنتان إحداهما : أنه لا يفصل بينها وبين المغرب بكلام قال أحمد رحمه الله في رواية الميموني والمروزي : يستحب ألا يكون قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن يصليهما كلام . وقال الحسن بن محمد : رأيت أحمد إذا سلم من صلاة المغرب قام ولم يتكلم ولم يركع في المسجد قبل أن يدخل الدار قال أبو حفص ووجهه قول مكحول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت صلاته في عليين ولأنه يتصل النفل بالفرض انتهى كلامه .

والسنة الثانية أن تفعل في البيت فقد روى النسائي وأبو داود والترمذي من حديث كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل فصلى فيه المغرب فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال هذه صلاة البيوت ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خديج وقال فيها : اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم

والمقصود أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل عامة السنن والتطوع في بيته . كما في الصحيح عن ابن عمر حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح

[ لم يكن يصلي في السفر من السنن إلا سنتي الفجر والوتر ]

وفي " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بيتي أربعا قبل الظهر ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين ويصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين وكذلك المحفوظ عنه في سنة الفجر إنما كان يصليها في بيته كما قالت حفصة . وفي " الصحيحين " عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم
كان يصلي ركعتين بعد الجمعة في بيته وسيأتي الكلام على ذكر سنة الجمعة بعدها والصلاة قبلها عند ذكر هديه في الجمعة إن شاء الله تعالى وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم أيها الناس صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة

وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل السنن والتطوع في البيت إلا لعارض كما أن هديه كان فعل الفرائض في المسجد إلا لعارض من سفر أو مرض أو غيره مما يمنعه من المسجد وكان تعاهده ومحافظته على سنة الفجر أشد من جميع النوافل ولذلك لم يكن يدعها هي والوتر سفرا وحضرا وكان في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة راتبة غيرهما ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين ويقول سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين وهذا وإن احتمل أنهم لم يكونوا يربعون إلا أنهم لم يصلوا السنة لكن قد ثبت عن ابن عمر أنه سئل عن سنة الظهر في السفر فقال لو كنت مسبحا لأتممت وهذا من فقهه رضي الله عنه فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها لكان الإتمام أولى به .

[ أيهما آكد سنة الفجر أو الوتر ]

وقد اختلف الفقهاء أي الصلاتين آكد سنة الفجر أو الوتر ؟ على قولين ولا يمكن الترجيح باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر فقد اختلفوا أيضا في وجوب سنة الفجر وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل والوتر خاتمته . ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل وتوحيد المعرفة والإرادة وتوحيد الاعتقاد والقصد انتهى . توضيح لمعنى : سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن والزلزلة نصفه والكافرون ربعه فسورة قل هو الله أحد متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم الصمدية وغناه وأحديته ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له ونفي كل نقص عنه ونفي إثبات شبيه أو مثيل له في كماله ونفي مطلق الشريك عنه وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء والإنشاء ثلاثة أمر ونهي وإباحة .

والخبر نوعان خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه وخبر عن خلقه . فأخلصت سورة قل هو الله أحد الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي كما خلصت سورة قل يا أيها الكافرون من الشرك العملي الإرادي القصدي . ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزله منازله كانت سورة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن .

والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر و قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إذا زلزلت تعدل نصف القرآن و قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن و قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن " . رواه الحاكم في " المستدرك " وقال صحيح الإسناد .

ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه لما لها فيه من نيل الأغراض وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته لأن هذا يزول بالعلم والحجة ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه بخلاف شرك الإرادة والقصد فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه فجاء من التأكيد والتكرار في سورة قل يا أيها الكافرون المتضمنة لإزالة الشرك العملي ما لم يجئ مثله في سورة قل هو الله أحد ولما كان القرآن شطرين شطرا في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها وشطرا في الآخرة وما يقع فيها وكانت سورة إذا زلزلت قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر فلم يذكر فيها إلا الآخرة .

وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها كانت تعدل نصف القرآن فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحا - والله أعلم - ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف ولأنهما سورتا الإخلاص والتوحيد كان يفتتح بهما عمل النهار ويختمه بهما ، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد .


فصل ضجعته بعد سنة الفجر على شقه الأيمن
وكان صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد سنة الفجر على شقه الأيمن هذا الذي ثبت عنه في " الصحيحين " من حديث عائشة رضي الله عنها . وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن " . قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب .

وسمعت ابن تيمية يقول هذا باطل وليس بصحيح وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه وأما ابن حزم ومن تابعه فإنهم يوجبون هذه الضجعة ويبطل ابن حزم صلاة من لم يضطجعها بهذا الحديث وهذا مما تفرد به عن الأمة ورأيت مجلدا لبعض أصحابه قد نصر فيه هذا المذهب .

وقد ذكر عبد الرزاق في " المصنف " عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا موسى ورافع بن خديج وأنس بن مالك رضي الله عنهم كانوا يضطجعون بعد ركعتي الفجر ويأمرون بذلك وذكر عن معمر عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان لا يفعله ويقول كفانا بالتسليم .

وذكر عن ابن جريج : أخبرني من أصدق أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضطجع لسنة ولكنه كان يدأب ليله فيستريح قال وكان ابن عمر يحصبهم إذا رآهم يضطجعون على أيمانهم

وذكر ابن أبي شيبة عن أبي الصديق الناجي أن ابن عمر رأى قوما اضطجعوا بعد ركعتي الفجر فأرسل إليهم فنهاهم فقالوا : نريد بذلك السنة فقال ابن عمر ارجع إليهم وأخبرهم أنها بدعة وقال أبو مجلز : سألت ابن عمر عنها فقال يلعب بكم الشيطان . قال ابن عمر رضي الله عنه ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يفعل كما يفعل الحمار إذا تمعك

وقد غلا في هذه الضجعة طائفتان وتوسط فيها طائفة ثالثة فأوجبها جماعة من أهل الظاهر وأبطلوا الصلاة بتركها كابن حزم ومن وافقه وكرهها جماعة من الفقهاء وسموها بدعة وتوسط فيها مالك وغيره فلم يروا بها بأسا لمن فعلها راحة وكرهوها لمن فعلها استنانا واستحبها طائفة على الإطلاق سواء استراح بها أم لا واحتجوا بحديث أبي هريرة .

والذين كرهوها منهم من احتج بآثار الصحابة كابن عمر وغيره حيث كان يحصب من فعلها ومنهم من أنكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها وقال الصحيح أن اضطجاعه كان بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر كما هو مصرح به في حديث ابن عباس .

قال وأما حديث عائشة فاختلف على ابن شهاب فيه فقال مالك عنه فإذا فرغ يعني من قيام الليل اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين وهذا صريح أن الضجعة قبل سنة الفجر وقال غيره عن ابن شهاب : فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن .

قالوا : وإذا اختلف أصحاب ابن شهاب فالقول ما قاله مالك لأنه أثبتهم فيه وأحفظهم . وقال الآخرون بل الصواب في هذا مع من خالف مالكا وقال أبو بكر الخطيب : روى مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين

وخالف مالكا عقيل ويونس وشعيب وابن أبي ذئب والأوزاعي وغيرهم فرووا عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركع الركعتين للفجر ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيخرج معه فذكر مالك أن اضطجاعه كان قبل ركعتي الفجر . وفي حديث الجماعة أنه اضطجع بعدهما فحكم العلماء أن مالكا أخطأ وأصاب غيره انتهى كلامه .

وقال أبو طالب قلت لأحمد حدثنا أبو الصلت عن أبي كدينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اضطجع بعد ركعتي الفجر قال شعبة لا يرفعه قلت فإن لم يضطجع عليه شيء ؟ قال لا عائشة ترويه وابن عمر ينكره . قال الخلال وأنبأنا المروزي أن أبا عبد الله قال حديث أبي هريرة ليس بذاك . قلت : إن الأعمش يحدث به عن أبي صالح عن أبي هريرة . قال عبد الواحد وحده يحدث به . وقال إبراهيم بن الحارث : إن أبا عبد الله سئل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قال ما أفعله وإن فعله رجل فحسن . انتهى .

فلو كان حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح صحيحا عنده لكان أقل درجاته عنده الاستحباب وقد يقال إن عائشة رضي الله عنها روت هذا وروت هذا فكان يفعل هذا تارة وهذا تارة فليس في ذلك خلاف فإنه من المباح والله أعلم .

وفي اضطجاعه على شقه الأيمن سر وهو أن القلب معلق في الجانب الأيسر فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر استثقل نوما لأنه يكون في دعة واستراحة فيثقل نومه فإذا نام على شقه الأيمن فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم لقلق القلب وطلبه مستقره وميله إليه ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة وطيب المنام وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن لئلا يثقل نومه فينام عن قيام الليل فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن والله أعلم .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل
[ هل كان قيام الليل عليه فرضا ]

قد اختلف السلف والخلف في أنه هل كان فرضا عليه أم لا ؟ والطائفتان احتجوا بقوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [ الإسراء 79 ] قالوا : فهذا صريح في عدم الوجوب قال الآخرون أمره بالتهجد في هذه السورة كما أمره في قوله تعالى : يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا [ المزمل 1 ] . ولم يجئ ما ينسخه عنه وأما قوله تعالى : نافلة لك فلو كان المراد به التطوع لم يخصه بكونه نافلة له وإنما المراد بالنافلة الزيادة ومطلق الزيادة لا يدل على التطوع قال تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة [ الأنبياء 72 ] أي زيادة على الولد وكذلك النافلة في تهجد النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في درجاته وفي أجره ولهذا خصه بها فإن قيام الليل في حق غيره مباح ومكفر للسيئات وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فهو يعمل في زيادة الدرجات وعلو المراتب وغيره يعمل في التكفير . قال مجاهد : إنما كان نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت طاعته نافلة أي زيادة في الثواب ولغيره كفارة لذنوبه قال ابن المنذر في تفسيره حدثنا يعلى بن أبي عبيد حدثنا الحجاج عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال ما سوى المكتوبة فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل في كفارة الذنوب وليست للناس نوافل إنما هي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة والناس جميعا يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها . حدثنا محمد بن نصر حدثنا عبد الله حدثنا عمرو عن سعيد وقبيصة عن سفيان عن أبي عثمان عن الحسن في قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك . قال لا تكون نافلة الليل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم

وذكر عن الضحاك قال نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . وذكر سليم بن حيان حدثنا أبو غالب حدثنا أبو أمامة قال إذا وضعت الطهور مواضعه قمت مغفورا لك فإن قمت تصلي كانت لك فضيلة وأجرا فقال رجل يا أبا أمامة أرأيت إن قام يصلي تكون له نافلة ؟ قال لا إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون له نافلة وهو يسعى في الذنوب والخطايا ؟ تكون له فضيلة وأجرا

قلت والمقصود أن النافلة في الآية لم يرد بها ما يجوز فعله وتركه كالمستحب والمندوب وإنما المراد بها الزيادة في الدرجات وهذا قدر مشترك بين الفرض والمستحب فلا يكون قوله نافلة لك نافيا لما دل عليه الأمر من الوجوب وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة إن شاء الله تعالى عند ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم .

[ مثابرته عليه سفرا وحضرا ]

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا وكان إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة . فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى لفوات محله فهو كتحية المسجد وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وترا كما أن المغرب آخر صلاة النهار فإذا انقضى الليل وصليت الصبح لم يقع الوتر موقعه . هذا معنى كلامه .

وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكر ولكن لهذا الحديث عدة علل .

أحدها : أنه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف . الثاني : أن الصحيح فيه أنه مرسل له عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي : هذا أصح يعني المرسل .

الثالث أن ابن ماجه حكى عن محمد بن يحيى بعد أن روى حديث أبي سعيد الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوتروا قبل أن تصبحوا قال فهذا الحديث دليل على أن حديث عبد الرحمن واه .

[ عدد ركعاته في القيام ]

وكان قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة كما قال ابن عباس وعائشة فإنه ثبت عنهما هذا وهذا ففي " الصحيحين " عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة

وفي " الصحيحين " عنها أيضا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرهن والصحيح عن عائشة الأول والركعتان فوق الإحدى عشرة هما ركعتا الفجر جاء ذلك مبينا عنها في هذا الحديث بعينه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر ذكره مسلم في " صحيحه " . وقال البخاري : في هذا الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء بالفجر ركعتين خفيفتين وفي " الصحيحين " عن القاسم بن محمد قال سمعت عائشة رضي الله عنها تقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع ركعتي الفجر وذلك ثلاث عشرة ركعة فهذا مفسر مبين .

وأما ابن عباس فقد اختلف عليه ففي " الصحيحين " عن أبي جمرة عنه كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل لكن قد جاء عنه هذا مفسرا أنها بركعتي الفجر . قال الشعبي : سألت عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالا : ثلاث عشرة ركعة منها ثمان ويوتر بثلاث وركعتين قبل صلاة الفجر

وفي " الصحيحين " عن كريب عنه في قصة مبيته عند خالته ميمونة بنت الحارث أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى نفخ فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين وفي لفظ فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن . فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج يصلي الصبح

فقد حصل الاتفاق على إحدى عشرة ركعة .

[ مجموع الركعات التي كان يحافظ عليها أربعون ركعة
وتدخل فيها ركعات فريضة ]

واختلف في الركعتين الأخيرتين هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما ؟ فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض والسنن الراتبة التي كان يحافظ عليها جاء مجموع ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة كان يحافظ عليها دائما سبعة عشر فرضا وعشر ركعات أو ثنتا عشرة سنة راتبة وإحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة قيامه بالليل والمجموع أربعون ركعة وما زاد على ذلك فعارض غير راتب كصلاة الفتح ثمان ركعات وصلاة الضحى إذا قدم من سفر وصلاته عند من يزوره وتحية المسجد ونحو ذلك فينبغي للعبد أن يواظب على هذا الورد دائما إلى الممات فما أسرع الإجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعه كل يوم وليلة أربعين مرة . والله المستعان .

فصل في سياق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل ووتره وذكر صلاة أول الليل
قالت عائشة رضي الله عنها : ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات ثم يأوي إلى فراشه وقال ابن عباس لما بات عنده صلى العشاء ثم جاء ثم صلى ثم نام ذكرهما أبو داود .

وكان إذا استيقظ بدأ بالسواك ثم يذكر الله تعالى وقد تقدم ذكر ما كان يقوله عند استيقاظه ثم يتطهر ثم يصلي ركعتين خفيفتين كما في " صحيح مسلم " عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين وأمر بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين رواه مسلم .

وكان يقوم تارة إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل وربما كان يقوم إذا سمع الصارخ وهو الديك وهو إنما يصيح في النصف الثاني وكان يقطع ورده تارة ويصله تارة وهو الأكثر ويقطعه كما قال ابن عباس في حديث مبيته عنده أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ آل عمران 190 ] . فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول اللهم اجعل في قلبي نورا وفي لساني نورا واجعل في سمعي نورا واجعل في بصري نورا واجعل من خلفي نورا ومن أمامي نورا واجعل من فوقي نورا ومن تحتي نورا اللهم أعطني نورا رواه مسلم . ولم يذكر ابن عباس افتتاحه بركعتين خفيفتين كما ذكرته عائشة فإما أنه كان يفعل هذا تارة وهذا تارة وإما أن تكون عائشة حفظت ما لم يحفظ ابن عباس وهو الأظهر لملازمتها له ولمراعاتها ذلك ولكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل وابن عباس إنما شاهده ليلة المبيت عند خالته وإذا اختلف ابن عباس وعائشة في شيء من أمر قيامه بالليل فالقول ما قالت عائشة .

[ أنواع صلاة القيام ]

وكان قيامه بالليل ووتره أنواعا فمنها هذا الذي ذكره ابن عباس .

النوع الثاني : الذي ذكرته عائشة أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ثم يتمم ورده إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة

النوع الثالث ثلاث عشرة ركعة كذلك .

النوع الرابع يصلي ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بخمس سردا متوالية لا يجلس في شيء إلا في آخرهن

النوع الخامس تسع ركعات يسرد منهن ثمانيا لا يجلس في شيء منهن إلا في الثامنة يجلس يذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ثم يقعد ويتشهد ويسلم ثم يصلي ركعتين جالسا بعدما يسلم .

النوع السادس يصلي سبعا كالتسع المذكورة ثم يصلي بعدها ركعتين جالسا .

النوع السابع أنه كان يصلي مثنى مثنى ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن . فهذا رواه الإمام أحمد رحمه الله عن عائشة أنه كان يوتر بثلاث لا فصل فيهن

وروى النسائي عنها : كان لا يسلم في ركعتي الوتر وهذه الصفة فيها نظر فقد روى أبو حاتم بن حبان في " صحيحه " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا توتروا بثلاث أوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب قال الدارقطني : رواته كلهم ثقات قال مهنا : سألت أبا عبد الله إلى أي شيء تذهب في الوتر تسلم في الركعتين ؟ قال نعم . قلت لأي شيء ؟ قال لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الركعتين . الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من الركعتين

وقال حرب سئل أحمد عن الوتر ؟ قال يسلم في الركعتين . وإن لم يسلم رجوت ألا يضره إلا أن التسليم أثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو طالب سألت أبا عبد الله إلى أي حديث تذهب في الوتر ؟ قال أذهب إليها كلها : من صلى خمسا لا يجلس إلا في آخرهن ومن صلى سبعا لا يجلس إلا في آخرهن وقد روي في حديث زرارة عن عائشة يوتر بتسع يجلس في الثامنة .
قال ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة فأنا أذهب إليها . قلت : ابن مسعود يقول ثلاث قال نعم قد عاب على سعد ركعة فقال له سعد أيضا شيئا يرد عليه .

النوع الثامن ما رواه النسائي عن حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فركع فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائما ثم جلس يقول رب اغفر لي رب اغفر لي مثل ما كان قائما . ثم سجد فقال سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة وأوتر أول الليل ووسطه وآخره . وقام ليلة تامة بآية يتلوها ويرددها حتى الصباح وهي إن تعذبهم فإنهم عبادك [ المائدة 118 ] .

وكانت صلاته بالليل ثلاثة أنواع . أحدها - وهو أكثرها : صلاته قائما . الثاني : أنه كان يصلي قاعدا ويركع قاعدا .

الثالث أنه كان يقرأ قاعدا فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائما والأنواع الثلاثة صحت عنه .

وأما صفة جلوسه في محل القيام ففي " سنن النسائي " عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا قال النسائي : لا أعلم أحدا روى هذا الحديث غير أبي دواد يعني الحفري وأبو داود ثقة ولا أحسب إلا أن هذا الحديث خطأ والله أعلم .


فصل [ الركعتان بعد الوتر ]
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالسا تارة وتارة يقرأ فيهما جالسا فإذا أراد أن يركع قام فركع وفي " صحيح مسلم عن أبي سلمة قال سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان يصلي ثلاث عشرة ركعة يصلي ثمان ركعات ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح وفي " المسند " عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس

وقال الترمذي : روي نحو هذا عن عائشة وأبي أمامة وغير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفي " المسند " عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما ب إذا زلزلت و قل يا أيها الكافرون

وروى الدارقطني نحوه من حديث أنس رضي الله عنه . وقد أشكل هذا على كثير من الناس فظنوه معارضا لقوله صلى الله عليه وسلم اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا وأنكر مالك رحمه الله هاتين الركعتين وقال أحمد لا أفعله ولا أمنع من فعله قال وأنكره مالك وقالت طائفة إنما فعل هاتين الركعتين ليبين جواز الصلاة بعد الوتر وأن فعله لا يقطع التنفل وحملوا قوله اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا على الاستحباب وصلاة الركعتين بعده على الجواز .

والصواب أن يقال إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر فإن الوتر عبادة مستقلة ولا سيما إن قيل بوجوبه فتجري الركعتان بعده مجرى سنة المغرب من المغرب فإنها وتر النهار والركعتان بعدها تكميل لها ، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل والله أعلم .


فصل [ قنوت الوتر ]
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر إلا في حديث رواه ابن ماجه عن علي بن ميمون الرقي حدثنا مخلد بن يزيد عن سفيان عن زبيد اليامي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع

وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله أختار القنوت بعد الركوع إن كل شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت إنما هو في الفجر لما رفع رأسه من الركوع وقنوت الوتر أختاره بعد الركوع ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبل أو بعد شيء . وقال الخلال أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر ؟ فقال ليس يروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ولكن كان عمر يقنت من السنة إلى السنة .

أحمد وأهل " السنن " من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت

زاد البيهقي والنسائي : ولا يعز من عاديت . وزاد النسائي في روايته " وصلى الله على النبي " .

وزاد الحاكم في " المستدرك " وقال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود ورواه ابن حبان في " صحيحه " ولفظه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو

قال الترمذي : وفي الباب عن علي رضي الله عنه وهذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي واسمه ربيعة بن شيبان ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا انتهى .

والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر وابن مسعود والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر أصح من الرواية في قنوت الوتر . والله أعلم .

[ الدعاء في آخر الوتر وبعده ]

وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وهذا يحتمل أنه قبل فراغه منه وبعده وفي إحدى الروايات عن النسائي : كان يقول إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه وفي هذه الرواية لا أحصي ثناء عليك ولو حرصت وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في السجود فلعله قاله في الصلاة وبعدها .

وذكر الحاكم في " المستدرك " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووتره ثم أوتر فلما قضى صلاته سمعته يقول اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي يوم لقائك نورا

قال كريب : وسبع في القنوت فلقيت رجلا من ولد العباس فحدثني بهن فذكر " لحمي ودمي وعصبي وشعري وبشري " وذكر خصلتين وفي رواية النسائي في هذا الحديث وكان يقول في سجوده .

لمسلم في هذا الحديث فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح وهو يقول . .. فذكر هذا الدعاء وفي رواية له أيضا وفي لساني نورا واجعل في نفسي نورا وأعظم لي نورا " وفي رواية له " واجعلني نورا

وذكر أبو داود والنسائي من حديث أبي بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ب سبح اسم ربك الأعلى و قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد فإذا سلم قال سبحان الملك القدوس ثلاث مرات يمد بها صوته في الثالثة ويرفع وهذا لفظ النسائي . زاد الدارقطني رب الملائكة والروح


[ كيفية قراءته للقرآن ]
وكان صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته ويقف عند كل آية فيقول الحمد لله رب العالمين ويقف الرحمن الرحيم ويقف مالك يوم الدين

وذكر الزهري أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت آية آية وهذا هو الأفضل الوقوف على رءوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد والوقوف عند انتهائها واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أولى . وممن ذكر ذلك البيهقي في " شعب الإيمان " وغيره ورجح الوقوف على رءوس الآي وإن تعلقت بما بعدها .

وكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها وقام بآية يرددها حتى الصباح

[هل الأفضل الترتيل مع قلة القراءة أو السرعة مع كثرتها ؟ ]

وقد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة أو السرعة مع كثرة القراءة أيهما أفضل ؟ على قولين . فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها . واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره والفقه فيه والعمل به وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه كما قال بعض السلف نزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به والعاملون بما فيه وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب .

وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم . قالوا : ولأن الإيمان أفضل الأعمال وفهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر فيفعلها البر والفاجر والمؤمن والمنافق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر

والناس في هذا أربع طبقات أهل القرآن والإيمان وهم أفضل الناس . والثانية من عدم القرآن والإيمان . الثالثة من أوتي قرآنا ولم يؤت إيمانا الرابعة من أوتي إيمانا ولم يؤت قرآنا .

قالوا : فكما أن من أوتي إيمانا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنا بلا إيمان فكذلك من أوتي تدبرا وفهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر . قالوا : وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها وقام بآية حتى الصباح .

وقال أصحاب الشافعي رحمه الله كثرة القراءة أفضل واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف رواه الترمذي وصححه .

قالوا : ولأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة وذكروا آثارا عن كثير من السلف في كثرة القراءة .

والصواب في المسألة أن يقال إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا وثواب كثرة القراءة أكثر عددا فالأول كمن تصدق بجوهرة عظيمة أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا والثاني : كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة .

وفي " صحيح البخاري " عن قتادة قال سألت أنسا عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان يمد مدا

وقال شعبة : حدثنا أبو جمرة قال قلت لابن عباس إني رجل سريع القراءة وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين فقال ابن عباس : لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل فإن كنت فاعلا ولا بد فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ويعيها قلبك

وقال إبراهيم قرأ علقمة على ابن مسعود وكان حسن الصوت فقال رتل فداك أبي وأمي فإنه زين القرآن .

وقال ابن مسعود : لا تهذوا القرآن هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة

وقال عبد الله أيضا : إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا فأصغ لها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تصرف عنه وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : دخلت علي امرأة وأنا أقرأ ( سورة هود فقالت يا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود ؟ والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بالقراءة في صلاة الليل تارة ويجهر بها تارة ويطيل القيام تارة ويخففه تارة ويوتر آخر الليل - وهو الأكثر - وأوله تارة وأوسطه تارة .

[ صلاة التطوع على الراحلة ]
وكان يصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قبل أي جهة توجهت به فيركع ويسجد عليها إيماء ويجعل سجوده أخفض من ركوعه وقد روى أحمد وأبو داود عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا استقبل القبلة فكبر للصلاة ثم خلى عن راحلته ثم صلى أينما توجهت به فاختلف الرواة عن أحمد هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه ؟ على روايتين فإن أمكنه الاستدارة إلى القبلة في صلاته كلها مثل أن يكون في محمل أو عمارية ونحوها فهل يلزمه أو يجوز له أن يصلي حيث توجهت به الراحلة ؟ فروى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن صلى في محمل أنه لا يجزئه إلا أن يستقبل القبلة لأنه يمكنه أن يدور وصاحب الراحلة والدابة لا يمكنه . وروى عنه أبو طالب أنه قال الاستدارة في المحمل شديدة يصلي حيث كان وجهه .

واختلفت الرواية عنه في السجود في المحمل فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال وإن كان محملا فقدر أن يسجد في المحمل فيسجد . وروى عنه الميموني إذا صلى في المحمل أحب إلي أن يسجد لأنه يمكنه . وروى عنه الفضل بن زياد : يسجد في المحمل إذا أمكنه . وروى عنه جعفر بن محمد : السجود على المرفقة إذا كان في المحمل وربما أسند على البعير ولكن يومئ ويجعل السجود أخفض من الركوع وكذا روى عنه أبو داود .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى
[ من روى ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلها ]

روى البخاري في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى وإني لأسبحها وروى أيضا من حديث مورق العجلي قلت لابن عمر أتصلي الضحى ؟ قال لا قلت فعمر ؟ قال لا قلت فأبو بكر ؟ قال لا . قلت : فالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال لا . إخاله

وذكر عن ابن أبي ليلى قال ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ فإنها قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود

وفي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ؟ قالت لا إلا أن يجيء من مغيبه . قلت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بين السور ؟ قالت من المفصل

[ من روى صلاة النبي لها وعدد ركعاتها ]

وفي " صحيح مسلم " عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله وفي " الصحيحين " عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ثمان ركعات وذلك ضحى وقال الحاكم في " المستدرك " : حدثنا الأصم حدثنا الصغاني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا بكر بن مضر حدثنا عمرو بن الحارث عن بكر بن الأشج عن الضحاك بن عبد الله عن أنس رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سفر سبحة الضحى صلى ثمان ركعات فلما انصرف قال إني صليت صلاة رغبة ورهبة فسألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته ألا يقتل أمتي بالسنين ففعل وسألته ألا يظهر عليهم عدوا ففعل وسألته أن لا يلبسهم شيعا فأبى علي قال الحاكم صحيح . قلت : الضحاك بن عبد الله هذا ينظر من هو وما حاله ؟ وقال الحاكم : في كتاب " فضل الضحى " : حدثنا أبو بكر الفقيه أخبرنا بشر بن يحيى حدثنا محمد بن صالح الدولابي حدثنا خالد بن عبد الله بن الحصين عن هلال بن يساف عن زاذان عن عائشة رضي الله عنها قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى ثم قال اللهم اغفر لي وارحمني وتب علي إنك أنت التواب الرحيم الغفور حتى قالها مائة مرة

حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا أسد بن عاصم حدثنا الحصين بن حفص عن سفيان عن عمر بن ذر عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين وأربعا وستا وثمانيا

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عثمان بن عبد الملك العمري حدثتنا عائشة بنت سعد عن أم ذرة قالت رأيت عائشة رضي الله عنها تصلي الضحى وتقول ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلا أربع ركعات .

وقال الحاكم أيضا : أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد المروزي حدثنا أبو قلابة حدثنا أبو الوليد حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن مرة عن عمارة بن عمير عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى . قال الحاكم أيضا : حدثنا إسماعيل بن محمد حدثنا محمد بن عدي بن كامل حدثنا وهب بن بقية الواسطي حدثنا خالد بن عبد الله عن محمد بن قيس عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات ثم روى الحاكم عن إسحاق بن بشير المحاملي حدثنا عيسى بن موسى عن جابر عن عمر بن صبح عن مقاتل بن حيان عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة وذكر حديثا طويلا .

وقال الحاكم : أخبرنا أبو أحمد بن محمد الصيرفي حدثنا أبو قلابة الرقاشي حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى وبه إلى أبي الوليد . حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن مرة عن عمارة بن عمير العبدي عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى

قال الحاكم : وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وأبي ذر الغفاري وزيد بن أرقم وأبي هريرة وبريدة الأسلمي وأبي الدرداء وعبد الله بن أبي أوفى وعتبان بن مالك وأنس بن مالك وعتبة بن عبد الله السلمي ونعيم بن همار الغطفاني وأبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم ومن النساء عائشة بنت أبي بكر وأم هانئ وأم سلمة رضي الله عنهن كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها .

وذكر الطبراني من حديث علي وأنس وعائشة وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات

[ بيان أدلة من رجح الفعل على الترك مع بيان العدد ]

فاختلف الناس في هذه الأحاديث على طرق منهم من رجح رواية الفعل على الترك بأنها مثبتة تتضمن زيادة علم خفيت على النافي . قالوا : وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس ويوجد عند الأقل . قالوا : وقد أخبرت عائشة وأنس وجابر وأم هانئ وعلي بن أبي طالب أنه صلاها . قالوا : ويؤيد هذا الأحاديث الصحيحة المتضمنة للوصية بها والمحافظة عليها ومدح فاعلها والثناء عليه ففي " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أوصاني خليلي محمد صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام

وفي " صحيح مسلم " نحوه عن أبي الدرداء . وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر يرفعه قال يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى

وفي " مسند الإمام أحمد " عن معاذ بن أنس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر الله له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر

وفي الترمذي و " سنن ابن ماجه " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حافظ على سبحة الضحى غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر

وفي " المسند " والسنن عن نعيم بن همار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل يا ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره ورواه الترمذي من حديث أبي الدرداء وأبي ذر .

وفي " جامع الترمذي " و " سنن ابن ماجه " عن أنس مرفوعا من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة

وفي " صحيح مسلم " عن زيد بن أرقم أنه رأى قوما يصلون من الضحى في مسجد قباء فقال أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال " . وقوله ترمض الفصال أي يشتد حر النهار فتجد الفصال حرارة الرمضاء . وفي " الصحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى في بيت عتبان بن مالك ركعتين


وفي " مستدرك " الحاكم من حديث خالد بن عبد الله الواسطي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب وقال " هذا إسناد قد احتج بمثله مسلم بن الحجاج وأنه حدث عن شيوخه عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن قال ولعل قائلا يقول قد أرسله حماد بن سلمة وعبد العزيز بن محمد الدراوردي عن محمد بن عمرو فيقال له خالد بن عبد الله ثقة والزيادة من الثقة مقبولة .

ثم روى الحاكم : حدثنا عبدان بن يزيد حدثنا محمد بن المغيرة السكري حدثنا القاسم بن الحكم العرني حدثنا سليمان بن داود اليمامي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن للجنة بابا يقال له باب الضحى فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين كانوا يداومون على صلاة الضحى هذا بابكم فادخلوه برحمة الله " .

وقال الترمذي في " الجامع " : حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني موسى بن فلان عن عمه ثمامة بن أنس بن مالك عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة

قال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وكان أحمد يرى أصح شيء في هذا الباب حديث أم هانئ . قلت : وموسى ابن فلان هذا هو موسى بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك .

وفي " جامعه " أيضا من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها قال هذا حديث حسن غريب .

وقال الإمام أحمد في " مسنده " حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن الحارث الذماري عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر كان له كأجر الحاج المحرم ومن مشى إلى سبحة الضحى كان له كأجر المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين قال أبو أمامة الغدو والرواح إلى هذه المساجد من الجهاد في سبيل الله عز وجل

وقال الحاكم : حدثنا أبو العباس حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو المورع محاضر بن المورع حدثنا الأحوص بن حكيم حدثني عبد الله بن عامر الألهاني عن منيب بن عيينة بن عبد الله السلمي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول من صلى الصبح في مسجد جماعة ثم ثبت فيه حتى الضحى ثم يصلي سبحة الضحى كان له كأجر حاج أو معتمر تام له حجته وعمرته

وقال ابن أبي شيبة : حدثني حاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر عن المقبري عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة . فقال رجل يا رسول الله ما رأينا بعثا قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث فقال ألا أخبركم بأسرع كرة وأعظم غنيمة رجل توضأ في بيته فأحسن وضوءه ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه صلاة الغداة ثم أعقب بصلاة الضحى فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة .

وفي الباب أحاديث سوى هذه لكن هذه أمثلها . قال الحاكم : صحبت جماعة من أئمة الحديث الحفاظ الأثبات فوجدتهم يختارون هذا العدد يعني أربع ركعات ويصلون هذه الصلاة أربعا لتواتر الأخبار الصحيحة فيه وإليه أذهب وإليه أدعو اتباعا للأخبار المأثورة واقتداء بمشايخ الحديث فيه .
قال ابن جرير الطبري - وقد ذكر الأخبار المرفوعة في صلاة الضحى واختلاف عددها : وليس في هذه الأحاديث حديث يدفع صاحبه وذلك أن من حكى أنه صلى الضحى أربعا جائز أن يكون رآه في حال فعله ذلك ورآه غيره في حال أخرى صلى ركعتين ورآه آخر في حال أخرى صلاها ثمانيا وسمعه آخر يحث على أن يصلي ستا وآخر يحث على أن يصلي ركعتين وآخر على عشر وآخر على ثنتي عشرة فأخبر كل واحد منهم عما رأى وسمع . قال والدليل على صحة قولنا ما روي عن زيد بن أسلم قال سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر أوصني يا عم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعا كتب من العابدين ومن صلى ستا لم يلحقه ذلك اليوم ذنب ومن صلى ثمانيا كتب من القانتين ومن صلى عشرا بنى الله له بيتا في الجنة
وقال مجاهد : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الضحى ركعتين ثم يوما أربعا ثم يوما ستا ثم يوما ثمانيا ثم ترك فأبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا من احتمال خبر كل مخبر ممن تقدم أن يكون إخباره لما أخبر عنه في صلاة الضحى على قدر ما شاهده وعاينه .

والصواب إذا كان الأمر كذلك أن يصليها من أراد على ما شاء من العدد . وقد روي هذا عن قوم من السلف حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن إبراهيم سأل رجل الأسود كم أصلي الضحى ؟ قال كم شئت .

[ بيان من رجح ترك الضحى ]

وطائفة ثانية ذهبت إلى أحاديث الترك ورجحتها من جهة صحة إسنادها وعمل الصحابة بموجبها فروى البخاري عن ابن عمر أنه لم يكن يصليها ولا أبو بكر ولا عمر . قلت : فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لا إخاله . وقال وكيع : حدثنا سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى إلا يوما واحدا وقال علي بن المديني : حدثنا معاذ بن معاذ حدثنا شعبة حدثنا فضيل بن فضالة عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال رأى أبو بكرة ناسا يصلون الضحى قال إنكم لتصلون صلاة ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عامة أصحابه

وفي " الموطأ " : عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم

وقال أبو الحسن علي بن بطال : فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ولم يروا صلاة الضحى وقال قوم إنها بدعة روى الشعبي عن قيس بن عبيد قال كنت أختلف إلى ابن مسعود السنة كلها فما رأيته مصليا الضحى . وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف كان لا يصلي الضحى وعن مجاهد قال دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة وإذا الناس في المسجد يصلون صلاة الضحى فسألناه عن صلاتهم فقال بدعة وقال مرة ونعمت البدعة .

[ بيان من استحب فعلها غبا ]

وقال الشعبي : سمعت ابن عمر يقول ما ابتدع المسلمون أفضل صلاة من الضحى وسئل أنس بن مالك عن صلاة الضحى فقال الصلوات خمس . وذهبت طائفة ثالثة إلى استحباب فعلها غبا فتصلى في بعض الأيام دون بعض وهذا أحد الروايتين عن أحمد وحكاه الطبري عن جماعة قال واحتجوا بما روى الجريري عن عبد الله بن شقيق قال قلت لعائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ؟ قالت : لا إلا أن يجيء من مغيبه ثم ذكر حديث أبي سعيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليه وقد تقدم . ثم قال كذا ذكر من كان يفعل ذلك من السلف .

وروى شعبة عن حبيب بن الشهيد عن عكرمة قال كان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام يعني صلاة الضحى وروى شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه كان لا يصلي الضحى فإذا أتى مسجد قباء صلى وكان يأتيه كل سبت

وروى سفيان عن منصور قال كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة ويصلون ويدعون يعني صلاة الضحى . وعن سعيد بن جبير : إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها مخافة أن أراها حتما علي

وقال مسروق : كنا نقرأ في المسجد فنبقى بعد قيام ابن مسعود ثم نقوم فنصلي الضحى فبلغ ابن مسعود ذلك فقال لم تحملون عباد الله ما لم يحملهم الله ؟ إن كنتم لا بد فاعلين ففي بيوتكم . وكان أبو مجلز يصلي الضحى في منزله . قال هؤلاء وهذا أولى لئلا يتوهم متوهم وجوبها بالمحافظة عليها أو كونها سنة راتبة ولهذا قالت عائشة لو نشر لي أبواي ما تركتها فإنها كانت تصليها في البيت حيث لا يراها الناس .

[ تفعل الضحى لسبب ]

وذهبت طائفة رابعة إلى أنها تفعل بسبب من الأسباب وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها بسبب قالوا : وصلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ثمان ركعات ضحى إنما كانت من أجل الفتح وأن سنة الفتح أن تصلى عنده ثمان ركعات وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح .

وذكر الطبري في " تاريخه " عن الشعبي قال لما فتح خالد بن الوليد الحيرة صلى صلاة الفتح ثمان ركعات لم يسلم فيهن ثم انصرف قالوا : وقول أم هانئ " وذلك ضحى " . تريد أن فعله لهذه الصلاة كان ضحى لا أن الضحى اسم لتلك الصلاة . قالوا : وأما صلاته في بيت عتبان بن مالك فإنما كانت لسبب أيضا فإن عتبان قال له إني أنكرت بصري وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي فوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا أتخذه مسجدا فقال أفعل إن شاء الله تعالى " قال فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه بعدما اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال " أين تحب أن أصلي من بيتك " ؟ فأشرت إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه فقام وصففنا خلفه وصلى ثم سلم وسلمنا حين سلم متفق عليه .

فهذا أصل هذه الصلاة وقصتها ولفظ البخاري فيها فاختصره بعض الرواة عن عتبان فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتي سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا
يتبع ..

اخت مسلمة
04-09-2009, 01:21 AM
وأما قول عائشة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أن يقدم من مغيبه فهذا من أبين الأمور أن صلاته لها إنما كانت لسبب فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين

فهذا كان هديه وعائشة أخبرت بهذا وهذا وهي القائلة ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى قط

فالذي أثبتته فعلها بسبب كقدومه من سفر وفتحه وزيارته لقوم ونحوه وكذلك إتيانه مسجد قباء للصلاة فيه وكذلك ما رواه يوسف بن يعقوب حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا سلمة بن رجاء حدثنا الشعثاء قالت رأيت ابن أبي أوفى صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل . فهذا إن صح فهي صلاة شكر وقعت وقت الضحى كشكر الفتح .

والذي نفته هو ما كان يفعله الناس يصلونها لغير سبب وهي لم تقل إن ذلك مكروه ولا مخالف لسنته ولكن لم يكن من هديه فعلها لغير سبب . وقد أوصى بها وندب إليها وحض عليها وكان يستغني عنها بقيام الليل فإن فيه غنية عنها وهي كالبدل منه قال تعالى : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [ الفرقان : 62 ] قال ابن عباس والحسن وقتادة عوضا وخلفا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمل في أحدهما قضاه في الآخر

قال قتادة فأدوا لله من أعمالكم خيرا في هذا الليل والنهار فإنهما مطيتان يقحمان الناس إلى آجالهم ويقربان كل بعيد ويبليان كل جديد ويجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة

وقال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال فاتتني الصلاة الليلة فقال أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا قالوا : وفعل الصحابة رضي الله عنهم يدل على هذا فإن ابن عباس كان يصليها يوما ويدعها عشرة وكان ابن عمر لا يصليها فإذا أتى مسجد قباء صلاها وكان يأتيه كل سبت .

وقال سفيان عن منصور كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة ويصلون ويدعون قالوا : ومن هذا الحديث الصحيح عن أنس أن رجلا من الأنصار كان ضخما فقال للنبي صلى الله عليه وسلم إني لا أستطيع أن أصلي معك فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ودعاه إلى بيته ونضح له طرف حصير بماء فصلى عليه ركعتين . قال أنس ما رأيته صلى الضحى غير ذلك اليوم رواه البخاري .

[ ترجيح المصنف لفعلها بسبب ]

ومن تأمل الأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة وجدها لا تدل إلا على هذا القول وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لا يدل على أنها سنة راتبة لكل أحد وإنما أوصى أبا هريرة بذلك لأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة فأمره بالضحى بدلا من قيام الليل ولهذا أمره ألا ينام حتى يوتر ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة . وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال وبعضها منقطع وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به كحديث يروى عن أنس مرفوعا من داوم على صلاة الضحى ولم يقطعها إلا عن علة كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر من نور وضعه زكريا بن دويد الكندي عن حميد . وأما حديث يعلى بن أشدق عن عبد الله بن جراد عن النبي صلى الله عليه وسلم من صلى منكم صلاة الضحى فليصلها متعبدا فإن الرجل ليصليها السنة من الدهر ثم ينساها ويدعها فتحن إليه كما تحن الناقة إلى ولدها إذا فقدته فيا عجبا للحاكم كيف يحتج بهذا وأمثاله فإنه يروي هذا الحديث في كتاب أفرده للضحى وهذه نسخة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني نسخة يعلى بن الأشدق .

وقال ابن عدي : روى يعلى بن الأشدق عن عمه عبد الله بن جراد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة منكرة وهو وعمه غير معروفين وبلغني عن أبي مسهر قال قلت ليعلى بن الأشدق ما سمع عمك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال جامع سفيان وموطأ مالك وشيئا من الفوائد .

وقال أبو حاتم بن حبان لقي يعلى عبد الله بن جراد فلما كبر اجتمع عليه من لا دين له فوضعوا له شهبا بمائتي حديث فجعل يحدث بها وهو لا يدري وهو الذي قال له بعض مشايخ أصحابنا : أي شيء سمعته من عبد الله بن جراد ؟ فقال هذه النسخة وجامع سفيان - لا تحل الرواية عنه بحال .

وكذلك حديث عمر بن صبح عن مقاتل بن حيان حديث عائشة المتقدم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة وهو حديث طويل ذكره الحاكم في " صلاة الضحى " وهو حديث موضوع المتهم به عمر بن صبح قال البخاري : حدثني يحيى عن علي بن جرير قال سمعت عمر بن صبح يقول أنا وضعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عدي : منكر الحديث . وقال ابن حبان : يضع الحديث على الثقات لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب منه وقال الدارقطني : متروك وقال الأزدي : كذاب .

وكذلك حديث عبد العزيز بن أبان عن الثوري عن حجاج بن فرافصة عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعا من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت بعدد الجراد وأكثر من زبد البحر ذكره الحاكم أيضا . وعبد العزيز هذا قال ابن نمير : هو كذاب وقال يحيى : ليس بشيء كذاب خبيث يضع الحديث وقال البخاري والنسائي والدارقطني : متروك الحديث .

وكذلك حديث النهاس بن قهم عن شداد عن أبي هريرة يرفعه من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر والنهاس قال يحيى : ليس بشيء ضعيف كان يروي عن عطاء عن ابن عباس أشياء منكرة وقال النسائي : ضعيف وقال ابن عدي : لا يساوي شيئا وقال ابن حبان : كان يروي المناكير عن المشاهير ويخالف الثقات لا يجوز الاحتجاج به وقال الدارقطني : مضطرب الحديث تركه يحيى القطان .

وأما حديث حميد بن صخر عن المقبري عن أبي هريرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا الحديث وقد تقدم . فحميد هذا ضعفه النسائي ويحيى بن معين ووثقه آخرون وأنكر عليه بعض حديثه وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد . والله أعلم .

وأما حديث محمد بن إسحاق عن موسى عن عبد الله بن المثنى عن أنس عن عمه ثمامة عن أنس يرفعه من صلى الضحى بنى الله له قصرا في الجنة من ذهب فمن الأحاديث الغرائب وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

وأما حديث نعيم بن همار ابن آدم لا تعجز لي عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره وكذلك حديث أبي الدرداء وأبي ذر فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذه الأربع عندي هي الفجر وسنتها


فصل سجود الشكر
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسر أو اندفاع نقمة كما في " المسند " عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره خر لله ساجدا شكرا لله تعالى وذكر ابن ماجه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بحاجة فخر لله ساجدا

وذكر البيهقي بإسناد على شرط البخاري أن عليا رضي الله عنه لما كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام همدان خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال السلام على همدان السلام على همدان وصدر الحديث في صحيح البخاري وهذا تمامه بإسناده عند البيهقي . وفي " المسند " من حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد شكرا لما جاءته البشرى من ربه أنه من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه

وفي سنن أبي داود من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه فسأل الله ساعة ثم خر ساجدا ثلاث مرات ثم قال إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا شكرا لربي ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الثاني فخررت ساجدا شكرا لربي ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الآخر فخررت ساجدا لربي

وسجد كعب بن مالك لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه ذكره البخاري .

وذكر أحمد عن علي رضي الله عنه أنه سجد حين وجد ذا الثدية في قتلى الخوارج .

وذكر سعيد بن منصور أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سجد حين جاءه قتل مسيلمة


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن
كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بسجدة كبر وسجد وربما قال في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته

وربما قال اللهم احطط عني بها وزرا واكتب لي بها أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ذكرهما أهل السنن .

ولم يذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود ولذلك لم يذكره الخرقي ومتقدمو الأصحاب ولا نقل فيه عنه تشهد ولا سلام البتة . وأنكر أحمد والشافعي السلام فيه فالمنصوص عن الشافعي : إنه لا تشهد فيه ولا تسليم وقال أحمد : أما التسليم فلا أدري ما هو وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره .

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد في ( الم تنزيل ) وفي ( ص ) وفي ( النجم ) وفي إذا السماء انشقت وفي اقرأ باسم ربك الذي خلق

وذكر أبو داود عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان

وأما حديث أبي الدرداء سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شيء ( الأعراف) و ( الرعد) و ( النحل) و ( بني إسرائيل و ( مريم ) و ( الحج ) و ( سجدة الفرقان ) و ( النمل ) و ( السجدة ) و ( ص و ( سجدة الحواميم ) فقال أبو داود : روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة وإسناده واه .

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة رواه أبو داود فهو حديث ضعيف في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد لا يحتج بحديثه . قال الإمام أحمد : أبو قدامة مضطرب الحديث . وقال يحيى بن معين : ضعيف وقال النسائي : صدوق عنده مناكير وقال أبو حاتم البستي : كان شيخا صالحا ممن كثر وهمه . وعلله ابن القطان بمطر الوراق وقال كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعيب على مسلم إخراج حديثه . انتهى كلامه .

ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة ومن ضعف جميع حديث سيئ الحفظ فالأولى : طريقة الحاكم وأمثاله والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن والله المستعان .

وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم في اقرأ باسم ربك الذي خلق وفي إذا السماء انشقت وهو إنما أسلم بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بست سنين أو سبع فلو تعارض الحديثان من كل وجه وتقاوما في الصحة لتعين تقديم حديث أبي هريرة لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس فكيف وحديث أبي هريرة في غاية الصحة متفق على صحته وحديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه والله أعلم.


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجمعة وذكر خصائص يومها
[هدي الله هذه الأمة له ]

ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له والناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق

وفي " المسند " والسنن من حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق الله آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا : يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ ( يعني : قد بليت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ورواه الحاكم في " المستدرك " وابن حبان في " صحيحه " .

وفي " جامع الترمذي " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق الله آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة قال حديث حسن صحيح وصححه الحاكم .

وفي " المستدرك " أيضا عن أبي هريرة مرفوعا سيد الأيام يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة

وروى مالك في " الموطأ " عن أبي هريرة مرفوعا خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه

قال كعب : ذلك في كل سنة يوم فقلت بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب قال قد علمت أية ساعة هي قلت فأخبرني بها قال هي آخر ساعة في يوم الجمعة فقلت كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي " وتلك الساعة لا يصلى فيها ؟ فقال ابن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم " من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي " ؟

وفي " صحيح ابن حبان " مرفوعا لا تطلع الشمس على يوم خير من يوم الجمعة

وفي " مسند الشافعي " من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرآة بيضاء فيها نكتة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذه ؟ فقال " هذه يوم الجمعة فضلت بها أنت وأمتك والناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل ما يوم المزيد ؟ قال إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب من مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله سبحانه ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب " فيقول الله عز وجل " أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك فيقول قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير وهو اليوم الذي استوى فيه ربك تبارك وتعالى على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة .

رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد حدثني موسى بن عبيدة قال حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد الله بن عبيد عن عمير بن أنس .

ثم قال وأخبرنا إبراهيم قال حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد عن أنس شبيها به .

وكان الشافعي حسن الرأي في شيخه إبراهيم هذا لكن قال فيه الإمام أحمد رحمه الله معتزلي جهمي قدري كل بلاء فيه .

ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا صفوان قال قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل فذكره " ورواه محمد بن شعيب عن عمر مولى غفرة عن أنس . ورواه أبو ظبية عن عثمان بن عمير عن أنس . وجمع أبو بكر بن أبي داود طرقه .

وفي " مسند أحمد " من حديث علي بن أبي طلحة عن أبي هريرة قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لأي شيء سمي يوم الجمعة ؟ قال لأن فيه طبعت طينة أبيك آدم وفيه الصعقة والبعثة وفيه البطشة وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له

وقال الحسن بن سفيان النسوي في " مسنده " حدثنا أبو مروان هشام بن خالد الأزرق حدثنا الحسن بن يحيى الخشني حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة حدثني أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أتاني جبريل وفي يده كهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء فقلت : ما هذه يا جبريل ؟ فقال هذه الجمعة بعثت بها إليك تكون عيدا لك ولأمتك من بعدك . فقلت : وما لنا فيها يا جبريل ؟ قال لكم فيها خير كثير أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه . قلت فما هذه النكتة السوداء يا جبريل ؟ قال هذه الساعة تكون في يوم الجمعة وهو سيد الأيام ونحن نسميه عندنا يوم المزيد . قلت وما يوم المزيد يا جبريل ؟ قال ذلك بأن ربك اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة هبط الرب عز وجل من عرشه إلى كرسيه ويحف الكرسي بمنابر من النور فيجلس عليها النبيون وتحف المنابر بكراسي من ذهب فيجلس عليها الصديقون والشهداء ويهبط أهل الغرف من غرفهم فيجلسون على كثبان المسك لا يرون لأهل المنابر والكراسي فضلا في المجلس ثم يتبدى لهم ذو الجلال والإكرام تبارك وتعالى فيقول سلوني فيقولون بأجمعهم نسألك الرضى يا رب فيشهد لهم على الرضى ثم يقول سلوني فيسألونه حتى تنتهي نهمة كل عبد منهم قال ثم يسعى عليهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم يرتفع الجبار من كرسيه إلى عرشه ويرتفع أهل الغرف إلى غرفهم وهي غرفة من لؤلؤة بيضاء أو ياقوتة حمراء أو زمردة خضراء ليس فيها فصم ولا وصم منورة فيها أنهارها أو قال مطردة متدلية فيها ثمارها فيها أزواجها وخدمها ومساكنها قال فأهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما يتباشر أهل الدنيا في الدنيا بالمطر

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب " صفة الجنة " : حدثني أزهر بن مروان الرقاشي حدثني عبد الله بن عرادة الشيباني حدثنا القاسم بن مطيب عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جب ريل وفي كفه مرآة كأحسن المرائي وأضوئها وإذا في وسطها لمعة سوداء فقلت : ما هذه اللمعة التي أرى فيها ؟ قال هذه الجمعة قلت : وما الجمعة ؟ قال يوم من أيام ربك عظيم وسأخبرك بشرفه وفضله في الدنيا وما يرجى فيه لأهله وأخبرك باسمه في الآخرة فأما شرفه وفضله في الدنيا فإن الله عز وجل جمع فيه أمر الخلق وأما ما يرجى فيه لأهله فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله تعالى فيها خيرا إلا أعطاهما إياه وأما شرفه وفضله في الآخرة واسمه فإن الله تبارك وتعالى إذا صير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جرت عليهم هذه الأيام وهذه الليالي ليس فيها ليل ولا نهار إلا قد علم الله عز وجل مقدار ذلك وساعاته فإذا كان يوم الجمعة حين يخرج أهل الجمعة إلى جمعتهم نادى أهل الجنة مناد يا أهل الجنة اخرجوا إلى وادي المزيد ووادي المزيد لا يعلم سعة طوله وعرضه إلا الله فيه كثبان المسك رءوسها في السماء قال فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت فإذا وضعت لهم وأخذ القوم مجالسهم بعث الله عليهم ريحا تدعى المثيرة تثير ذلك المسك وتدخله من تحت ثيابهم وتخرجه في وجوههم وأشعارهم تلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من امرأة أحدكم لو دفع إليها كل طيب على وجه الأرض . قال ثم يوحي الله تبارك وتعالى إلى حملة عرشه ضعوه بين أظهرهم فيكون أول ما يسمعونه منه إلي يا عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري سلوني فهذا يوم المزيد فيجتمعون على كلمة واحدة رضينا عنك فارض عنا فيرجع الله إليهم أن يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم داري فسلوني فهذا يوم المزيد فيجتمعون على كلمة واحدة يا ربنا وجهك ننظر إليه فيكشف تلك الحجب فيتجلى لهم عز وجل فيغشاهم من نوره شيء لولا أنه قضى ألا يحترقوا لاحترقوا لما يغشاهم من نوره ثم يقال لهم ارجعوا إلى منازلكم فيرجعون إلى منازلهم وقد أعطى كل واحد منهم الضعف على ما كانوا فيه فيرجعون إلى أزواجهم وقد خفوا عليهن وخفين عليهم مما غشيهم من نوره فإذا رجعوا تراد النور حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها فتقول لهم أزواجهم لقد خرجتم من عندنا على صورة ورجعتم على غيرها فيقولون ذلك لأن الله عز وجل تجلى لنا فنظرنا منه قال وإنه والله ما أحاط به خلق ولكنه قد أراهم من عظمته وجلاله ما شاء أن يريهم قال فذلك قولهم فنظرنا منه قال فهم يتقلبون في مسك الجنة ونعيمها في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك قوله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ السجدة 17 ] .

ورواه أبو نعيم في " صفة الجنة " من حديث عصمة بن محمد حدثنا موسى بن عقبة عن أبي صالح عن أنس شبيها به .

وذكر أبو نعيم في " صفة الجنة " من حديث المسعودي عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله قال سارعوا إلى الجمعة في الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض فيكونون منه سبحانه بالقرب على قدر سرعتهم إلى الجمعة ويحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك فيرجعون إلى أهليهم وقد أحدث لهم


فصل في مبدإ الجمعة
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال كنت قائد أبي حين كف بصره فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة فمكث حينا على ذلك فقلت : إن هذا لعجز ألا أسأله عن هذا فخرجت به كما كنت أخرج فلما سمع الأذان للجمعة استغفر له فقلت : يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان يوم الجمعة ؟ قال أي بني كان أسعد أول من جمع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له : نقيع الخضمات . قلت فكم كنتم يومئذ ؟ قال أربعون رجلا .

قال البيهقي ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه من الراوي وكان الراوي ثقة استقام الإسناد وهذا حديث حسن صحيح الإسناد انتهى .

قلت : وهذا كان مبدأ الجمعة . ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام بقباء في بني عمرو بن عوف كما قاله ابن إسحاق يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة وذلك قبل تأسيس مسجده .

قال ابن إسحاق : وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن - ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله ما لم يقل - أنه قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قال ابن إسحاق : ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال إن الحمد لله أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقس عنه قلوبكم فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي قد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وقد تقدم طرف من خطبته عليه السلام عند ذكر هديه في الخطب .


فصل [خواص يوم الجمعة وهي ثلاث وثلاثون ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره .وقد اختلف العلماء هل هو أفضل أم يوم عرفة ؟ على قولين هما وجهان لأصحاب الشافعي .
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره بسورتي ( الم تنزيل ) و ( هل أتى على الإنسان ) . ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة ويسمونها سجدة الجمعة وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة استحب قراءة سورة أخرى فيها سجدة ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعا لتوهم الجاهلين وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر العباد وذلك يكون يوم الجمعة وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون والسجدة جاءت تبعا ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيث اتفقت . فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة .
الخاصة الثانية استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته لقوله صلى الله عليه وسلم أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنام ويوم الجمعة سيد الأيام فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة وهو يوم عيد لهم في الدنيا ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم ولا يرد سائلهم وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته .
الخاصة الثالثة صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة ومن تركها تهاونا بها طبع الله على قلبه وقرب أهل الجنة يوم القيامة وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرهم .
الخاصة الرابعة الأمر بالاغتسال في يومها وهو أمر مؤكد جدا ووجوبه أقوى من وجوب الوتر وقراءة البسملة في الصلاة ووجوب الوضوء من مس النساء ووجوب الوضوء من مس الذكر ووجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة ووجوب الوضوء من الرعاف والحجامة والقيء ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ووجوب القراءة على المأموم .
وللناس في وجوبه ثلاثة أقوال النفي والإثبات والتفصيل بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها فيجب عليه ومن هو مستغن عنه فيستحب له والثلاثة لأصحاب أحمد .
الخاصة الخامسة التطيب فيه وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع .
الخاصة السادسة السواك فيه وله مزية على السواك في غيره .
الخاصة السابعة التبكير للصلاة .


الخاصة الثامنة أن يشتغل بالصلاة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام .

الخاصة التاسعة الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوبا في أصح القولين فإن تركه كان لاغيا ومن لغا فلا جمعة له وفي " المسند " مرفوعا والذي يقول لصاحبه أنصت فلا جمعة له

الخاصة العاشرة قراءة سورة الكهف في يومها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين وذكره سعيد بن منصور من قول أبي سعيد الخدري وهو أشبه .

الحادية عشرة إنه لا يكره فعل الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي رحمه الله ومن وافقه وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية ولم يكن اعتماده على حديث ليث عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة . وقال إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة - وإنما كان اعتماده على أن من جاء إلى الجمعة يستحب له أن يصلي حتى يخرج الإمام وفي الحديث الصحيح لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى رواه البخاري فندبه إلى الصلاة ما كتب له ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام ولهذا قال غير واحد من السلف منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتبعه عليه الإمام أحمد بن حنبل : خروج الإمام يمنع الصلاة وخطبته تمنع الكلام فجعلوا المانع من الصلاة خروج الإمام لا انتصاف النهار .

وأيضا فإن الناس يكونون في المسجد تحت السقوف ولا يشعرون بوقت الزوال والرجل يكون متشاغلا بالصلاة لا يدري بوقت الزوال ولا يمكنه أن يخرج ويتخطى رقاب الناس وينظر إلى الشمس ويرجع ولا يشرع له ذلك .

وحديث أبي قتادة هذا قال أبو داود : هو مرسل لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة والمرسل إذا اتصل به عمل وعضده قياس أو قول صحابي أو كان مرسله معروفا باختيار الشيوخ ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك مما يقتضي قوته عمل به . وأيضا فقد عضده شواهد أخر منها ما ذكره الشافعي في كتابه فقال روي عن إسحاق بن عبد الله عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة هكذا رواه رحمه الله في كتاب " اختلاف الحديث " ورواه في " كتاب الجمعة " : حدثنا إبراهيم بن محمد عن إسحاق ورواه أبو خالد الأحمر عن شيخ من أهل المدينة يقال له : عبد الله بن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رواه البيهقي في " المعرفة " من حديث عطاء بن عجلان عن أبي نضرة عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة . ولكن إسناده فيه من لا يحتج به قاله البيهقي قال ولكن إذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث أبي قتادة أحدثت بعض القوة .

قال الشافعي : من شأن الناس التهجير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام قال البيهقي : الذي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في التبكير إلى الجمعة وفي الصلاة إلى خروج الإمام من غير استثناء وذلك يوافق هذه الأحاديث التي أبيحت فيها الصلاة نصف النهار يوم الجمعة وروينا الرخصة في ذلك عن عطاء و طاووس و الحسن ومكحول .

قلت : اختلف الناس في كراهة الصلاة نصف النهار على ثلاثة أقوال أحدها : أنه ليس وقت كراهة بحال وهو مذهب مالك . الثاني : أنه وقت كراهة في يوم الجمعة وغيرها وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد . والثالث أنه وقت كراهة إلا يوم الجمعة فليس بوقت كراهة وهذا مذهب الشافعي .


الثانية عشرة قراءة ( سورة الجمعة و ( المنافقين أو ( سبح والغاشية في صلاة الجمعة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن في الجمعة ذكره مسلم في " صحيحه " . وفيه أيضا : أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها ب ( الجمعة و ( هل أتاك حديث الغاشية ثبت عنه ذلك كله . ولا يستحب أن يقرأ من كل سورة بعضها أو يقرأ إحداهما في الركعتين فإنه خلاف السنة وجهال الأئمة يداومون على ذلك .

الثالثة عشرة أنه يوم عيد متكرر في الأسبوع وقد روى أبو عبد الله بن ماجه في " سننه " من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر فيه خمس خلال خلق الله فيه آدم وأهبط فيه آدم إلى الأرض وفيه توفى الله آدم وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا أعطاه ما لم يسأل حراما وفيه تقوم الساعة ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا شجر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة

الرابعة عشرة إنه يستحب أن يلبس فيه أحسن الثياب التي يقدر عليها فقد روى الإمام أحمد في " مسنده " من حديث أبي أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان له ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد ثم يركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينهما
وفي" سنن أبي داود " عن عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته
وفي " سنن ابن ماجه " عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار فقال ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته

الخامسة عشرة أنه يستحب فيه تجمير المسجد فقد ذكر سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الله المجمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن يجمر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار قلت ولذلك سمي نعيم المجمر .


السادسة عشرة أنه لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها وأما قبله فللعلماء ثلاثة أقوال وهي روايات منصوصات عن أحمد أحدها : لا يجوز والثاني : يجوز والثالث يجوز للجهاد خاصة .

وأما مذهب الشافعي رحمه الله فيحرم عنده إنشاء السفر يوم الجمعة بعد الزوال ولهم في سفر الطاعة وجهان أحدهما : تحريمه وهو اختيار النووي
والثاني : جوازه وهو اختيار الرافعي

وأما السفر قبل الزوال فللشافعي فيه قولان القديم جوازه والجديد أنه كالسفر بعد زوال . وأما مذهب مالك فقال صاحب " التفريع " : ولا يسافر أحد يوم الجمعة بعد الزوال حتى يصلي الجمعة ولا بأس أن يسافر قبل الزوال والاختيار أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى يصلي الجمعة .

وذهب أبو حنيفة إلى جواز السفر مطلقا وقد روى الدارقطني في " الإفراد " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره وهو من حديث ابن لهيعة . وفي " مسند الإمام أحمد " من حديث الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة قال فغدا أصحابه وقال أتخلف وأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ فقال أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم فقال " لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم " وأعل هذا الحديث بأن الحكم لم يسمع من مقسم

هذا إذا لم يخف المسافر فوت رفقته فإن خاف فوت رفقته وانقطاعه بعدهم جاز له السفر مطلقا لأن هذا عذر يسقط الجمعة والجماعة . ولعل ما روي عن الأوزاعي - أنه سئل عن مسافر سمع أذان الجمعة وقد أسرج دابته فقال ليمض على سفره - محمول على هذا وكذلك قول ابن عمر رضي الله عنه الجمعة لا تحبس عن السفر .

وإن كان مرادهم جواز السفر مطلقا فهي مسألة نزاع . والدليل هو الفاصل على أن عبد الرزاق قد روى في " مصنفه " عن معمر عن خالد الحذاء عن ابن سيرين أو غيره أن عمر بن الخطاب رأى رجلا عليه ثياب سفر بعد ما قضى الجمعة فقال: ما شأنك ؟ قال أردت سفرا فكرهت أن أخرج حتى أصلي فقال عمر إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها فهذا قول من يمنع السفر بعد الزوال ولا يمنع منه قبله .

وذكره عبد الرزاق أيضا عن الثوري عن الأسود بن قيس عن أبيه قال أبصر عمر بن الخطاب رجلا عليه هيئة السفر وقال الرجل إن اليوم يوم جمعة ولولا ذلك لخرجت فقال عمر : إن الجمعة لا تحبس مسافرا فاخرج ما لم يحن الرواح

وذكر أيضا عن الثوري عن ابن أبي ذئب عن صالح بن كثير عن الزهري قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافرا يوم الجمعة ضحى قبل الصلاة

وذكر عن معمر قال سألت يحيى بن أبي كثير : هل يخرج الرجل يوم الجمعة ؟ فكرهه فجعلت أحدثه بالرخصة فيه فقال لي : قلما يخرج رجل في يوم الجمعة إلا رأى ما يكرهه لو نظرت في ذلك وجدته كذلك .

وذكر ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن أبي عطية قال إذا سافر الرجل يوم الجمعة دعا عليه النهار أن لا يعان على حاجته ولا يصاحب في سفره .

وذكر الأوزاعي عن ابن المسيب أنه قال السفر يوم الجمعة بعد الصلاة . قال ابن جريج : قلت لعطاء أبلغك أنه كان يقال إذا أمسى في قرية جامعة من ليلة الجمعة فلا يذهب حتى يجمع ؟ قال إن ذلك ليكره .
قلت فمن يوم الخميس ؟ قال لا ، ذلك النهار فلا يضره


افتراضي

السابعة عشرة أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها قال عبد الرزاق : عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ودنا من الإمام فأنصت كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها وذلك على الله يسير ورواه الإمام أحمد في " مسنده " . وقال الإمام أحمد غسل بالتشديد جامع أهله وكذلك فسره وكيع .




الثامنة عشرة أنه يوم تكفير السيئات فقد روى الإمام أحمد في " مسنده " عن سلمان قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدري ما يوم الجمعة ؟ " قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم قال " ولكني أدري ما يوم الجمعة لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كانت كقارة لما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة .

وفي " المسند " أيضا من حديث عطاء الخراساني عن نبيشة الهذلي أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها .

وفي " صحيح البخاري " عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى .

وفي " مسند أحمد " من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اغتسل يوم الجمعة ثم لبس ثيابه ومس طيبا إن كان عنده ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة ولم يتخط أحدا ولم يؤذه وركع ما قضي له ثم انتظر حتى ينصرف الإمام غفر له ما بين الجمعتين

التاسعة عشرة أن جهنم تسجر كل يوم إلا يوم الجمعة . وقد تقدم حديث أبي قتادة فى ذلك وسر ذلك - والله أعلم - أنه أفضل الأيام عند الله ويقع فيه من الطاعات والعبادات والدعوات والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى ما يمنع من تسجير جهنم فيه . ولذلك تكون معاصي أهل الإيمان فيه أقل من معاصيهم في غيره حتى إن أهل الفجور ليمتنعون فيه مما لا يمتنعون منه في يوم السبت وغيره .

وهذا الحديث الظاهر منه أن المراد سجر جهنم في الدنيا وأنها توقد كل يوم إلا يوم الجمعة وأما يوم القيامة فإنه لا يفتر عذابها ولا يخفف عن أهلها الذين هم أهلها يوما من الأيام ولذلك يدعون الخزنة أن يدعوا ربهم ليخفف عنهم يوما من العذاب فلا يجيبونهم إلى ذلك .

العشرون أن فيه ساعة الإجابة وهي الساعة التي لا يسأل الله عبد مسلم فيها شيئا إلا أعطاه ففي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وقال بيده يقللها .

وفي المسند من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى وفيه خمس خصال خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض وفيه توفى الله عز وجل آدم وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا آتاه الله إياه ما لم يسأل حراما وفيه تقوم الساعة ما من ملك مقرب ولا أرض ولا رياح ولا بحر ولا جبال ولا شجر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة

فصل [ بيان اختلاف الناس في ساعة الإجابة ]

وقد اختلف الناس في هذه الساعة هل هي باقية أو قد رفعت ؟ على قولين حكاهما ابن عبد البر وغيره والذين قالوا : هي باقية ولم ترفع اختلفوا هل هي في وقت من اليوم بعينه أم هي غير معينة ؟ على قولين . ثم اختلف من قال بعدم تعيينها : هل هي تنتقل في ساعات اليوم أو لا ؟ على قولين أيضا والذين قالوا بتعيينها اختلفوا على أحد عشر قولا .

قال ابن المنذر روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال هي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس .

الثاني : أنها عند الزوال ذكره ابن المنذر عن الحسن البصري وأبي العالية .

الثالث أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة قال ابن المنذر روينا ذلك عن عائشة رضي الله عنها .

الرابع أنها إذا جلس الإمام على المنبر يخطب حتى يفرغ قال ابن المنذر رويناه عن الحسن البصري .

الخامس قاله أبو بردة هي الساعة التي اختار الله وقتها للصلاة .

السادس قاله أبو السوار العدوي وقال كانوا يرون أن الدعاء مستجاب ما بين زوال الشمس إلى أن تدخل الصلاة .

السابع قاله أبو ذر إنها ما بين أن ترتفع الشمس شبرا إلى ذراع .

الثامن أنها ما بين العصر إلى غروب الشمس قاله أبو هريرة وعطاء وعبد الله بن سلام وطاووس حكى ذلك كله ابن المنذر .

التاسع أنها آخر ساعة بعد العصر وهو قول أحمد وجمهور الصحابة والتابعين .

العاشر أنها من حين خروج الإمام إلى فراغ الصلاة حكاه النووي وغيره .

الحادي عشر أنها الساعة الثالثة من النهار حكاه صاحب " المغني " فيه . وقال كعب لو قسم الإنسان جمعة في جمع أتى على تلك الساعة . وقال عمر إن طلب حاجة في يوم ليسير .

وأرجح هذه الأقوال قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة وأحدهما أرجح من الآخر.


[ دليل من قال بأن ساعة الإجابة من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة ]


الأول أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة وحجة هذا القول ما روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي بردة بن أبي موسى أن عبد الله بن عمر قال له أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة شيئا ؟ قال نعم سمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة " .

وروى ابن ماجه والترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا آتاه الله إياه " قالوا : يا رسول الله أية ساعة هي ؟ قال " حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها .


[ ترجيح المصنف بأنها بعد العصر مع أدلته ]

والقول الثاني : أنها بعد العصر وهذا أرجح القولين وهو قول عبد الله بن سلام

وأبي هريرة والإمام أحمد وخلق . وحجة هذا القول ما رواه أحمد في " مسنده " من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر

وروى أبو داود والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الجمعة اثنا عشر ساعة فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر .

وروى سعيد بن منصور في " سننه " عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة .

وفي " سنن ابن ماجه " : عن عبد الله بن سلام قال قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إنا لنجد في كتاب الله ( يعني التوراة في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا قضى الله له حاجته قال عبد الله فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة . قلت : صدقت يا رسول الله أو بعض ساعة . قلت : أي ساعة هي ؟ قال هي آخر ساعة من ساعات النهار " . قلت إنها ليست ساعة صلاة قال بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة

وفي " مسند أحمد " من حديث أبي هريرة قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لأي شيء سمي يوم الجمعة ؟ قال لأن فيها طبعتطينة أبيك آدم وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له .

وفي " سنن أبي داود " والترمذي والنسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل حاجة إلا أعطاه إياه ا قال كعب ذلك في كل سنة يوم ؟ فقلت بل في كل جمعة قال فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب فقال عبد الله بن سلام وقد علمت أية ساعة هي . قال أبو هريرة فقلت أخبرني بها فقال عبد الله بن سلام هي آخر ساعة من يوم الجمعة فقلت : كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي " وتلك الساعة لا يصلى فيها ؟ فقال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم " من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي " ؟ قال فقلت : بلى . فقال هو ذاك . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وفي " الصحيحين " بعضه

[ رد المصنف على بقية الأقوال ]

وأما من قال إنها من حين يفتتح الإمام الخطبة إلى فراغه من الصلاة فاحتج بما رواه مسلم في " صحيحه " عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال قال عبد الله بن عمر أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن ساعة الجمعة ؟ قال قلت : نعم سمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الإمام الصلاة . وأما من قال هي ساعة الصلاة فاحتج بما رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن عوف المزني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في الجمعة لساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلا آتاه الله إياه " . قالوا : يا رسول الله أية ساعة هي ؟ قال " حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها . ولكن هذا الحديث ضعيف قال أبو عمر بن عبد البر هو حديث لم يروه فيما علمت إلا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وليس هو ممن يحتج بحديثه .

وقد روى روح بن عبادة عن عوف عن معاوية بن قرة عن أبي بردة عن أبي موسى أنه قال لعبد الله بن عمر هي الساعة التي يخرج فيها الإمام إلى أن تقضى الصلاة . فقال ابن عمر أصاب الله بك .

وروى عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عن الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة للعبد المؤمن فقال لها : هي مع رفع الشمس بيسير فإن سألتني بعدها فأنت طالق .

واحتج هؤلاء أيضا بقوله في حديث أبي هريرة " وهو قائم يصلي " وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت والأخذ بظاهر الحديث أولى . قال أبو عمر يحتج أيضا من ذهب إلى هذا بحديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا زالت الشمس وفاءت الأفياء وراحت الأرواح فاطلبوا إلى الله حوائجكم فإنها ساعة الأوابين ثم تلا : فإنه كان للأواببن غفورا الإسراء : 25 "

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الساعة التي تذكر يوم الجمعة ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس .

وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحدا حتى تغرب الشمس وهذا هو قول أكثر السلف وعليه أكثر الأحاديث . ويليه القول بأنها ساعة الصلاة وبقية الأقوال لا دليل عليها .

[ ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة ولكنها ليست الساعة المخصوصة ]

وعندي أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضا فكلاهما ساعة إجابة وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيرا في الإجابة فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين .

ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال هو مسجدكم هذا وأشار إلى مسجد المدينة . وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نزلت فيه الآية مؤسسا على التقوى بل كل منهما مؤسس على التقوى

وكذلك قوله في ساعة الجمعة " هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة " لا ينافي قوله في الحديث الآخر فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر .

ويشبه هذا في الأسماء قوله ما تعدون الرقوب فيكم ؟ قالوا : من لم يولد له قال " الرقوب من لم يقدم من ولده شيئا .

فأخبر أن هذا هو الرقوب إذ لم يحصل له من ولده من الأجر ما حصل لمن قدم منهم فرطا وهذا لا ينافي أن يسمى من لم يولد له رقوبا .

ومثله قوله ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا : من لا درهم له ولا متاع . قال " المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد لطم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته الحديث .

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يتفطن له . فيتصدق عليه

[ آخر ساعة من يوم الجمعة يعظمها جميع أهل الملل ]

وهذه الساعة هي آخر ساعة بعد العصر يعظمها جميع أهل الملل . وعند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة وهذا مما لا غرض لهم في تبديله وتحريفه وقد اعترف به مؤمنهم .

[ متابعة المصنف لرد بقية الأقوال ]

وأما من قال بتنقلها فرام الجمع بذلك بين الأحاديث كما قيل ذلك في ليلة القدر وهذا ليس بقوي فإن ليلة القدر قد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم فالتمسوها في خامسة تبقى في سابعة تبقى في تاسعة تبقى . ولم يجئ مثل ذلك في ساعة الجمعة .

وأيضا فالأحاديث التي في ليلة القدر ليس فيها حديث صريح بأنها ليلة كذا وكذا بخلاف أحاديث ساعة الجمعة فظهر الفرق بينهما .

وأما قول من قال إنها رفعت فهو نظير قول من قال إن ليلة القدر رفعت وهذا القائل إن أراد أنها كانت معلومة فرفع علمها عن الأمة فيقال له لم يرفع علمها عن كل الأمة وإن رفع عن بعضهم وإن أراد أن حقيقتها وكونها ساعة إجابة رفعت فقول باطل مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة فلا يعول عليه والله أعلم .

افتراضي

الحادية والعشرون أن فيه صلاة الجمعة التي خصت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع والعدد المخصوص واشتراط الإقامة والاستيطان والجهر بالقراءة . وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأت نظيره إلا في صلاة العصر ففي السنن الأربعة من حديث أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه قال الترمذي : حديث حسن وسألت محمد بن إسماعيل عن اسم أبي الجعد الضمري فقال لم يعرف اسمه وقال لا أعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث . وقد جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر لمن تركها أن يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار . رواه أبو داود والنسائي من رواية قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب . ولكن قال أحمد : قدامة بن وبرة لا يعرف . وقال يحيى بن معين : ثقة وحكي عن البخاري أنه لا يصح سماعه من سمرة .

وأجمع المسلمون على أن الجمعة فرض عين إلا قولا يحكى عن الشافعي أنها فرض كفاية وهذا غلط عليه منشؤه أنه قال وأما صلاة العيد فتجب على كل من تجب عليه صلاة الجمعة فظن هذا القائل أن العيد لما كانت فرض كفاية كانت الجمعة كذلك . وهذا فاسد بل هذا نص من الشافعي أن العيد واجب على الجميع وهذا يحتمل أمرين أحدهما : أن يكون فرض عين كالجمعة وأن يكون فرض كفاية فإن فرض الكفاية يجب على الجميع كفرض الأعيان سواء وإنما يختلفان بسقوطه عن البعض بعد وجوبه بفعل الآخرين .

الثانية والعشرون أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها .

الثالثة والعشرون أنه اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات واجبة ومستحبة فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوما يتفرغون فيه للعبادة ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا فيوم الجمعة يوم عبادة وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان . ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم سلمت له سائر جمعته ومن صح له رمضان وسلم سلمت له سائر سنته ومن صحت له حجته وسلمت له صح له سائر عمره فيوم الجمعة ميزان الأسبوع ورمضان ميزان العام والحج ميزان العمر . وبالله التوفيق .

الرابعة والعشرون أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام وكان العيد مشتملا على صلاة وقربان وكان يوم الجمعة يوم صلاة جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلا من القربان وقائما مقامه فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان كما في " الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن

[ المقصود بالساعة في قوله من راح في الساعة الأولى]

وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعة على قولين أحدهما : أنها من أول النهار وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما .

والثاني : أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال وهذا هو المعروف في مذهب مالك واختاره بعض الشافعية واحتجوا عليه بحجتين . إحداهما : أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال وهو مقابل الغدو الذي لا يكون إلا قبل الزوال قال تعالى :

ورواحها شهر [ سبأ 12 ] . قال الجوهري : ولا يكون إلا بعد الزوال .

الحجة الثانية أن السلف كانوا أحرص شيء على الخير ولم يكونوا يغدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس وأنكر مالك التبكير إليها في أول النهار وقال لم ندرك عليه أهل المدينة .

[أدلة من قال بأن الساعة الأولى من أول النهار وترجيح المصنف له ]

واحتج أصحاب القول الأول بحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة " .

قالوا : والساعات المعهودة هي الساعات التي هي ثنتا عشرة ساعة وهي نوعان ساعات تعديلية وساعات زمانية قالوا : ويدل على هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بلغ بالساعات إلى ست ولم يزد عليها ولو كانت الساعة أجزاء صغارا من الساعة التي تفعل فيها الجمعة لم تنحصر في ستة أجزاء بخلاف ما إذا كان المراد بها الساعات المعهودة فإن الساعة السادسة متى خرجت ودخلت السابعة خرج الإمام وطويت الصحف ولم يكتب لأحد قربان بعد ذلك كما جاء مصرحا به في " سنن أبي داود " من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث ويثبطونهم عن الجمعة وتغدو الملائكة فتجلس على أبواب المساجد فيكتبون الرجل من ساعة والرجل من ساعتين حتى يخرج الإمام

قال أبو عمر بن عبد البر : اختلف أهل العلم في تلك الساعات فقالت طائفة منهم أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأكثر العلماء بل كلهم يستحب البكور إليها .

قال الشافعي رحمه الله ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس كان حسنا . وذكر الأثرم قال قيل لأحمد بن حنبل كان مالك بن أنس يقول لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكرا فقال هذا خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم . وقال سبحان الله إلى أي شيء ذهب في هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " كالمهدي جزورا " . قال وأما مالك فذكر يحيى بن عمر عن حرملة أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات أهو الغدو من أول ساعات النهار أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرواح ؟ فقال ابن وهب : سألت مالكا عن هذا فقال أما الذي يقع بقلبي فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات من راح من أول تلك الساعة أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة أو السادسة . ولو لم يكن كذلك ما صليت الجمعة حتى يكون النهار تسع ساعات في وقت العصر أو قريبا من ذلك .

وكان ابن حبيب ينكر مالك هذا ويميل إلى القول الأول وقال قول مالك هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال من وجوه . وقال يدلك أنه لا يجوز ساعات في ساعة واحدة أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة فدل ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات فبدأ بأول ساعات النهار فقال : من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ثم قال في الساعة الخامسة بيضة ثم انقطع التهجير وحان وقت الأذان فشرح الحديث بين في لفظه ولكنه حرف عن موضعه وشرح بالخلف من القول وما لا يكون وزهد شارحه الناس فيما رغبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التهجير من أول النهار وزعم أن ذلك كله إنما يجتمع في ساعة واحدة قرب زوال الشمس قال وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار وقد سقنا ذلك في موضعه من كتاب واضح السنن بما فيه بيان وكفاية .

هذا كله قول عبد الملك بن حبيب ثم رد عليه أبو عمر وقال هذا تحامل منه على مالك رحمه الله تعالى فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خلفا وتحريفا من التأويل والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة ويشهد له أيضا العمل بالمدينة عنده وهذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه أمر يتردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء .

فمن الآثار التي يحتج بها مالك ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي كبشا حتى ذكر الدجاجة والبيضة فإذا جلس الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة

قال ألا ترى إلى ما في هذا الحديث فإنه قال يكتبون الناس الأول فالأول فالمهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه فجعل الأول مهجرا وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والتهجير وذلك وقت النهوض إلى الجمعة وليس ذلك وقت طلوع الشمس لأن ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا تهجير وفي الحديث " ثم الذي يليه ثم الذي يليه " . ولم يذكر الساعة . قال والطرق بهذا اللفظ كثيرة مذكورة في " التمهيد " وفي بعضها " المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة " .

وفي أكثرها " المهجر كالمهدي جزورا " الحديث . وفي بعضها ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمهدي بدنة وفي آخرها كذلك وفي أول الساعة الثانية كالمهدي بقرة وفي آخرها كذلك . وقال بعض أصحاب الشافعي لم يرد صلى الله عليه وسلم بقوله المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة الناهض إليها في الهجير والهاجرة وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من أغراض أهل الدنيا للنهوض إلى الجمعة كالمهدي بدنة وذلك مأخوذ من الهجرة وهو ترك الوطن والنهوض إلى غيره ومنه سمي المهاجرون

وقال الشافعي رحمه الله أحب التبكير إلى الجمعة ولا تؤتى إلا مشيا .

هذا كله كلام أبي عمر . قلت : ومدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور أحدها : على لفظة الرواح وإنها لا تكون إلا بعد الزوال والثاني : لفظة التهجير وهي إنما تكون بالهاجرة وقت شدة الحر والثالث عمل أهل المدينة فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار.

قد يأتي الرواح بمعنى الذهاب

فأما لفظة الرواح فلا ريب أنها تطلق على المضي بعد الزوال وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قرنت بالغدو كقوله تعالى : غدوها شهر ورواحها شهر [ سبأ 12 ] وقوله صلى الله عليه وسلم من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح

وقول الشاعر .

نروح ونغدو لحاجاتنا

وحاجة من عاش لا تنقضي


وقد يطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي وهذا إنما يجيء إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو .

وقال الأزهري في " التهذيب " : سمعت بعض العرب يستعمل الرواح في السير في كل وقت يقال راح القوم إذا ساروا وغدوا كذلك ويقول أحدهم لصاحبه تروح ويخاطب أصحابه فيقول روحوا أي سيروا ويقول الآخر ألا تروحون ؟ ومن ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخفة إليها لا بمعنى الرواح بالعشي .

قد يأتي التهجير بمعنى التبكير وأما لفظ التهجير والمهجر فمن الهجير والهاجرة قال الجوهري : هي نصف النهار عند اشتداد الحر تقول منه : هجر النهار قال امرؤ القيس

فدعها وسل الهم عنها بجسرة

ذمول إذا صام النهار وهجرا


ويقال أتينا أهلنا مهجرين أي في وقت الهاجرة والتهجير والتهجر السير في الهاجرة فهذا ما يقرر به قول أهل المدينة .

قال الآخرون الكلام في لفظ التهجير كالكلام في لفظ الرواح فإنه يطلق ويراد به التبكير .

قال الأزهري في " التهذيب " : روى مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه

وفي حديث آخر مرفوع المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة قال ويذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقت الزوال وهو غلط والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي عن النضر بن شميل أنه قال التهجير إلى الجمعة وغيرها : التبكير والمبادرة إلى كل شيء قال سمعت الخليل يقول ذلك قاله في تفسير هذا الحديث .

قال الأزهري : وهذا صحيح وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس قال لبيد :

راح القطين بهجر بعد ما ابتكروا

فما تواصله سلمى وما تذر


فقرن الهجر بالابتكار والرواح عندهم الذهاب والمضي يقال راح القوم إذا خفوا ومروا أي وقت كان .

وقوله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه أراد به التبكير إلى جميع الصلوات وهو المضي إليها في أول أوقاتها قال الأزهري وسائر العرب يقولون : هجر الرجل إذا خرج وقت الهاجرة وروى عن أبي زيد : هجر الرجل إذا خرج بالهاجرة . قال وهي نصف النهار .

ثم قال الأزهري : أنشدني المنذري فيما روى لثعلب عن ابن الأعرابي في " نوادره " قال قال جعثنة بن جواس الربعي في ناقته :

هل تذكرين قسمي ونذري

أزمان أنت بعروض الجفر

إذ أنت مضرار جواد الحضر

علي إن لم تنهضي بوقري

بأربعين قدرت بقدر

بالخالدي لا بصاع حجر

وتصحبي أيانقا في سفر

يهجرون بهجير الفجر

ثمت تمشي ليلهم فتسري

يطوون أعراض الفجاج الغبر


طي أخي التجر برود التجر


قال الأزهري يهجرون بهجير الفجر أي يبكرون بوقت السحر .

وأما كون أهل المدينة لم يكونوا يروحون إلى الجمعة أول النهار فهذا غاية عملهم في زمان مالك رحمه الله وهذا ليس بحجة ولا عند من يقول إجماع أهل المدينة حجة فإن هذا ليس فيه إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار وهذا جائز بالضرورة .

وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار ولا ريب أن انتظار الصلاة بعد الصلاة وجلوس الرجل في مصلاه حتى يصلي الصلاة الأخرى أفضل من ذهابه وعوده في وقت آخر للثانية كما قال صلى الله عليه وسلم والذي ينتظر الصلاة ثم يصليها مع الإمام أفضل من الذي يصلي ثم يروح إلى أهله وأخبر " أن الملائكة لم تزل تصلي عليه ما دام في مصلاه " وأخبر " أن انتظار الصلاة بعد الصلاة مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات وأنه الرباط " وأخبر " أن الله يباهي ملائكته بمن قضى فريضة وجلس ينتظر أخرى " وهذا يدل على أن من صلى الصبح ثم جلس ينتظر الجمعة فهو أفضل ممن يذهب ثم يجيء في وقتها وكون أهل المدينة وغيرهم لا يفعلون ذلك لا يدل على أنه مكروه فهكذا المجيء إليها والتبكير في أول النهار والله أعلم .



الخامسة والعشرون أن للصدقة فيه مزية عليها في سائر الأيام والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور .

وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سرا وسمعته يقول إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضل وأولى بالفضيلة .

وقال أحمد بن زهير بن حرب : حدثنا أبي حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس قال اجتمع أبو هريرة وكعب فقال أبو هريرة : إن في الجمعة لساعة لا يوافقها رجل مسلم في صلاة يسأل الله عز وجل شيئا إلا آتاه إياه فقال كعب : أنا أحدثكم عن يوم الجمعة إنه إذا كان يوم الجمعة فزعت له السموات والأرض والبر والبحر والجبال والشجر والخلائق كلها إلا ابن آدم والشياطين وحفت الملائكة بأبواب المسجد فيكتبون من جاء الأول فالأول حتى يخرج الإمام فإذا خرج الإمام طووا صحفهم فمن جاء بعد جاء لحق الله لما كتب عليه وحق على كل حالم أن يغتسل يومئذ كاغتساله من الجنابة والصدقة فيه أعظم من الصدقة في سائر الأيام ولم تطلع الشمس ولم تغرب على مثل يوم الجمعة فقال ابن عباس : هذا حديث كعب وأبي هريرة وأنا أرى إن كان لأهله طيب يمس منه .

[ يوم تجلى الله فيه لأوليائه في الجنة ]

السادسة والعشرون أنه يوم يتجلى الله عز وجل فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة وزيارتهم له فيكون أقربهم منهم أقربهم من الإمام وأسبقهم إلى الزيارة أسبقهم إلى الجمعة . وروى يحيى بن يمان عن شريك عن أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عز وجل ولدينا مزيد [ ق : 35 ] قال يتجلى لهم في كل جمعة

وذكر الطبراني في " معجمه " من حديث أبي نعيم المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة قال قال عبد الله سارعوا إلى الجمعة فإن الله عز وجل يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور فيكونون منه في القرب على قدر تسارعهم إلى الجمعة فيحدث الله سبحانه لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا قد رأوه قبل ذلك ثم يرجعون إلى أهليهم فيحدثونهم بما أحدث الله لهم . قال ثم دخل عبد الله المسجد فإذا هو برجلين فقال عبد الله رجلان وأنا الثالث إن يشأ الله يبارك في الثالث

وذكر البيهقي في " الشعب " عن علقمة بن قيس قال رحت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى جمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد . ثم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رواحهم إلى الجمعة الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع . ثم قال وما أربع أربعة ببعيد

قال الدارقطني في كتاب " الرؤية " : حدثنا أحمد بن سلمان بن الحسن حدثنا محمد بن عثمان بن محمد حدثنا مروان بن جعفر حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم حدثنا عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم فأحدثهم عهدا بالنظر إليه من بكر في كل جمعة وتراه المؤمنات يوم الفطر ويوم النحر

حدثنا محمد بن نوح حدثنا محمد بن موسى بن سفيان السكري حدثنا عبد الله بن الجهم الرازي حدثنا عمرو بن أبي قيس عن أبي طيبة عن عاصم عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء فقلت ما هذا يا جبريل ؟ قال هذه الجمعة يعرضها الله عليك لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك قلت وما لنا فيها ؟ قال لكم فيها خير أنت فيها الأول واليهود والنصارى من بعدك ولك فيها ساعة لا يسأل الله عز وجل عبد فيها شيئا هو له قسم إلا أعطاه أو ليس له قسم إلا أعطاه أفضل منه وأعاذه الله من شر ما هو مكتوب عليه وإلا دفع عنه ما هو أعظم من ذلك . قال قلت وما هذه النكتة السوداء ؟ قال هي الساعة تقوم يوم الجمعة وهو عندنا سيد الأيام ويدعوه أهل الآخرة يوم المزيد . قال قلت يا جبريل وما يوم المزيد ؟ قال ذلك أن ربك عز وجل اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة نزل على كرسيه ثم حف الكرسي بمنابر من نور فيجيء النبيون حتى يجلسوا عليها ثم حف المنابر بمنابر من ذهب فيجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا عليها ويجيء أهل الغرف حتى يجلسوا على الكثب قال ثم يتجلى لهم ربهم عز وجل قال فينظرون إليه فيقول أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي فسلوني فيسألونه الرضى . قال رضاي أنزلكم داري وأنا لكم كرامتي فسلوني فيسألونه الرضى . قال فيشهد لهم بالرضى ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم ثم يفتح لهم عند ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . قال ثم يرتفع رب العزة ويرتفع معه النبيون والشهداء ويجيء أهل الغرف إلى غرفهم . قال كل غرفة من لؤلؤة لا وصل فيها ولا فصم ياقوتة حمراء وغرفة من زبرجدة خضراء أبوابها وعلاليها وسقائفها وأغلاقها منها أنهارها مطردة متدلية فيها أثمارها فيها أزواجها وخدمها . قال فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا من كرامة الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم فذلك يوم المزيد

ولهذا الحديث عدة طرق ذكرها أبو الحسن الدارقطني في كتاب " الرؤية " .

[ هو الشاهد في قوله تعالى وشاهد ومشهود ]

السابعة والعشرون أنه قد فسر الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة قال حميد بن زنجويه : حدثنا عبد الله بن موسى أنبأنا موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود هو يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة ما طلعت شمس ولا غربت على أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها بخير إلا استجاب له أو يستعيذه من شر إلا أعاذه منه

ورواه الحارث بن أبي أسامة في " مسنده " عن روح عن موسى بن عبيدة .

وفي " معجم الطبراني " من حديث محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ويوم الجمعة ذخره الله لنا وصلاة الوسطى صلاة العصر

وقد روي من حديث جبير بن مطعم . قلت : والظاهر - والله أعلم - أنه من تفسير أبي هريرة فقد قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة أما علي بن زيد فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما يونس فلم يعد أبا هريرة أنه قال في هذه الآية وشاهد ومشهود قال : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة والموعود يوم القيامة


[ هو اليوم الذي تفزع فيه الخلائق إلا الإنس والجن ]

الثامنة والعشرون أنه اليوم الذي تفزع منه السموات والأرض والجبال والبحار والخلائق كلها إلا الإنس والجن فروى أبو الجواب عن عمار بن زريق عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس قال اجتمع كعب وأبو هريرة فقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه

فقال كعب : ألا أحدثكم عن يوم الجمعة إنه إذا كان يوم الجمعة فزعت له السموات والأرض والجبال والبحار والخلائق كلها إلا ابن آدم والشياطين وحفت الملائكة بأبواب المساجد فيكتبون الأول فالأول حتى يخرج الإمام فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ومن جاء بعد جاء لحق الله ولما كتب عليه ويحق على كل حالم أن يغتسل فيه كاغتساله من الجنابة والصدقة فيه أفضل من الصدقة في سائر الأيام ولم تطلع الشمس ولم تغرب على يوم كيوم الجمعة .

قال ابن عباس : هذا حديث كعب وأبي هريرة وأنا أرى من كان لأهله طيب أن يمس منه يومئذ .

وفي حديث أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة إلا هذين الثقلين من الجن والإنس وهذا حديث صحيح .

وذلك أنه اليوم الذي تقوم فيه الساعة ويطوى العالم وتخرب فيه الدنيا ويبعث فيه الناس إلى منازلهم من الجنة والنار .

[ هو اليوم الذي هدى الله هذه الأمة له ]

التاسعة والعشرون أنه اليوم الذي ادخره الله لهذه الأمة وأضل عنه أهل الكتاب قبلهم كما في " الصحيح " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة هدانا الله له وضل الناس عنه فالناس لنا فيه تبع هو لنا ولليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد وفي حديث آخر " ذخره الله لنا " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن عن عمر بن قيس عن محمد بن الأشعث عن عائشة قالت بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ استأذن رجل من اليهود فأذن له فقال السام عليك قال النبي صلى الله عليه وسلم وعليك . قالت فهممت أن أتكلم قالت ثم دخل الثانية فقال مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعليك قالت فهممت أن أتكلم ثم دخل الثالثة فقال السام عليكم قالت فقلت بل السام عليكم وغضب الله إخوان القردة والخنازير أتحيون رسول الله بما لم يحيه به الله عز وجل . قالت فنظر إلي فقال : مه إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش قالوا قولا فرددناه عليهم فلم يضرنا شيئا ولزمهم إلى يوم القيامة إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام آمين

وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد

وفي " بيد " لغتان بالباء وهي المشهورة وميد بالميم حكاها أبو عبيد . وفي هذه الكلمة قولان أحدهما : أنها بمعنى " غير " وهو أشهر معنييها والثاني : بمعنى " على " وأنشد أبو عبيد شاهدا له

عمدا فعلت ذاك بيد أني

إخال لو هلكت لم ترني

ترني : تفعلي من الرنين


افتراضي

[خيرة الله من أيام الأسبوع ]

الثلاثون أنه خيرة الله من أيام الأسبوع كما أن شهر رمضان خيرته من شهور العام وليلة القدر خيرته من الليالي ومكة خيرته من الأرض ومحمد صلى الله عليه وسلم خيرته من خلقه .

قال آدم بن أبي إياس : حدثنا شيبان أبو معاوية عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن كعب الأحبار . قال إن الله عز وجل اختار الشهور واختار شهر رمضان واختار الأيام واختار يوم الجمعة واختار الليالي واختار ليلة القدر واختار الساعات واختار ساعة الصلاة والجمعة تكفر ما بينها وبين الجمعة الأخرى وتزيد ثلاثا ورمضان يكفر ما بينه وبين رمضان والحج يكفر ما بينه وبين الحج والعمرة تكفر ما بينها وبين العمرة ويموت الرجل بين حسنتين حسنة قضاها وحسنة ينتظرها يعني صلاتين وتصفد الشياطين في رمضان وتغلق أبواب النار وتفتح فيه أبواب الجنة ويقال فيه يا باغي الخير هلم . رمضان أجمع وما من ليال أحب إلى الله العمل فيهن من ليالي العشر

[ فيه تدنو أرواح الموتى من قبورهم ]

الحادية والثلاثون إن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتوافيها في يوم الجمعة فيعرفون زوارهم ومن يمر بهم ويسلم عليهم ويلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام فهو يوم تلتقي فيه الأحياء والأموات فإذا قامت فيه الساعة التقى الأولون والآخرون وأهل الأرض وأهل السماء والرب والعبد والعامل وعمله والمظلوم وظالمه والشمس والقمر ولم تلتقيا قبل ذلك قط وهو يوم الجمع واللقاء ولهذا يلتقي الناس فيه في الدنيا أكثر من التقائهم في غيره فهو يوم التلاق . قال أبو التياح يزيد بن حميد : كان مطرف بن عبد الله يبادر فيدخل كل جمعة فأدلج حتى إذا كان عند المقابر يوم الجمعة قال فرأيت صاحب كل قبر جالسا على قبره فقالوا : هذا مطرف يأتي الجمعة قال فقلت لهم وتعلمون عندكم الجمعة ؟ قالوا : نعم ونعلم ما تقول فيه الطير قلت : وما تقول فيه الطير ؟ قالوا : تقول رب سلم سلم يوم صالح .

وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب " المنامات " وغيره عن بعض أهل عاصم الجحدري قال رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته لسنتين فقلت أليس قد مت ؟ قال بلى قلت فأين أنت ؟ قال أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فنتلقى أخباركم . قلت : أجسامكم أم أرواحكم ؟ قال هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح قال قلت فهل تعلمون بزيارتنا لكم ؟ قال نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله وليلة السبت إلى طلوع الشمس . قال قلت فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال لفضل يوم الجمعة وعظمته .

وذكر ابن أبي الدنيا أيضا عن محمد بن واسع أنه كان يذهب كل غداة سبت حتى يأتي الجبانة فيقف على القبور فيسلم عليهم ويدعو لهم ثم ينصرف . فقيل له لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين . قال بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبله ويوما بعده .

وذكر عن سفيان الثوري قال بلغني عن الضحاك أنه قال من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته . فقيل له كيف ذلك ؟ قال لمكان يوم الجمعة .



[ يكره إفراده بالصوم ]

الثانية والثلاثون أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم هذا منصوص أحمد قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله صيام يوم الجمعة ؟ فذكر حديث النهي عن أن يفرد ثم قال إلا أن يكون في صيام كان يصومه وأما أن يفرد فلا . قلت رجل كان يصوم يوما ويفطر يوما فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت فصار الجمعة مفردا ؟ قال هذا إلا أن يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة .

وأباح مالك وأبو حنيفة صومه كسائر الأيام قال مالك : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه . قال ابن عبد البر : اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم الجمعة فروى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وقال قلما رأيته مفطرا يوم الجمعة وهذا حديث صحيح . وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم الجمعة قط . ذكره ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ليث بن أبي سليم عن عمير بن أبي عمير عن ابن عمر .

وروى ابن عباس أنه كان يصومه ويواظب عليه . وأما الذي ذكره مالك فيقولون إنه محمد بن المنكدر . وقيل : صفوان بن سليم .

وروى الدراوردي عن صفوان بن سليم عن رجل من بني جشم أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام يوم الجمعة كتب له عشرة أيام غرر زهر من أيام الآخرة لا يشاكلهن أيام الدنيا

والأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بر لا يمنع منه إلا بدليل لا معارض له .

قلت قد صح المعارض صحة لا مطعن فيها البتة ففي " الصحيحين " عن محمد بن عباد قال سألت جابرا : أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال نعم . وفي " صحيح مسلم " عن محمد بن عباد قال سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت : أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال نعم ورب هذه البنية

وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده واللفظ للبخاري .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم

وفي " صحيح البخاري " عن جويرية بنت الحارث " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس ؟ قالت لا . قال فتريدين أن تصومي غدا ؟ قالت لا . قال فأفطري وفي " مسند أحمد " عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصوموا يوم الجمعة وحده

وفي " مسنده " أيضا عن جنادة الأزدي قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة في سبعة من الأزد أنا ثامنهم وهو يتغدى فقال " هلموا إلى الغداء " فقلنا : يا رسول الله إنا صيام . فقال أصمتم أمس ؟ قلنا : لا . قال فتصومون غدا ؟ قلنا : لا . قال فأفطروا . قال فأكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال فلما خرج وجلس على المنبر دعا بإناء ماء فشرب وهو على المنبر والناس ينظرون إليه يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة

وفي " مسنده " أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده وذكر ابن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن عمران بن ظبيان عن حكيم بن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال من كان منكم متطوعا من الشهر أياما فليكن في صومه يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر فيجمع الله له يومين صالحين يوم صيامه ويوم نسكه مع المسلمين

[ علة كراهة صوم يوم الجمعة ]

وذكر ابن جرير عن مغيرة عن إبراهيم إنهم كرهوا صوم الجمعة ليقووا على الصلاة .

قلت المأخذ في كراهته ثلاثة أمور هذا أحدها ولكن يشكل عليه زوال الكراهية بضم يوم قبله أو بعده إليه .

والثاني : أنه يوم عيد وهو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم وقد أورد على هذا التعليل إشكالان . أحدهما : أن صومه ليس بحرام وصوم يوم العيد حرام . والثاني : إن الكراهة تزول بعدم إفراده وأجيب عن الإشكالين بأنه ليس عيد العام بل عيد الأسبوع والتحريم إنما هو لصوم عيد العام .

وأما إذا صام يوما قبله أو يوما بعده فلا يكون قد صامه لأجل كونه جمعة وعيدا فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه بل يكون داخلا في صيامه تبعا وعلى هذا يحمل ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في " مسنده " والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود إن صح قال قلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر يوم جمعه " . فإن صح هذا تعين حمله على أنه كان يدخل في صيامه تبعا لا أنه كان يفرده لصحة النهي عنه .

وأين أحاديث النهي الثابتة في " الصحيحين " من حديث الجواز الذي لم يروه أحد من أهل الصحيح وقد حكم الترمذي بغرابته فكيف تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة ثم يقدم عليها ؟

والمأخذ الثالث سد الذريعة من أن يلحق بالدين ما ليس فيه ويوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد عن الأعمال الدنيوية وينضم إلى هذا المعنى : أن هذا اليوم لما كان ظاهر الفضل على الأيام كان الداعي إلى صومه قويا فهو في مظنة تتابع الناس في صومه واحتفالهم به ما لا يحتفلون بصوم يوم غيره وفي ذلك إلحاق بالشرع ما ليس منه . ولهذا المعنى - والله أعلم - نهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي لأنها من أفضل الليالي حتى فضلها بعضهم على ليلة القدر وحكيت رواية عن أحمد فهي في مظنة تخصيصها بالعبادة فحسم الشارع الذريعة وسدها بالنهي عن تخصيصها بالقيام . والله أعلم .

فإن قيل ما تقولون في تخصيص يوم غيره بالصيام ؟ قيل أما تخصيص ما خصصه الشارع كيوم الاثنين ويوم عرفة ويوم عاشوراء فسنة وأما تخصيص غيره كيوم السبت والثلاثاء والأحد والأربعاء فمكروه . وما كان منها أقرب إلى التشبه بالكفار لتخصيص أيام أعيادهم بالتعظيم والصيام فأشد كراهة وأقرب إلى التحريم

افتراضي

[ يوم اجتماع الناس ]

الثالثة والثلاثون إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدإ والمعاد وقد شرع الله سبحانه وتعالى لكل أمة في الأسبوع يوما يتفرغون فيه للعبادة ويجتمعون فيه لتذكر المبدإ والمعاد والثواب والعقاب ويتذكرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياما بين يدي رب العالمين وكان أحق الأيام بهذا الغرض المطلوب اليوم الذي يجمع الله فيه الخلائق وذلك يوم الجمعة فادخره الله لهذه الأمة لفضلها وشرفها فشرع اجتماعهم في هذا اليوم لطاعته وقدر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته فهو يوم الاجتماع شرعا في الدنيا وقدرا في الآخرة وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكون أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم كما ثبت عن ابن مسعود من غير وجه أنه قال لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم وقرأ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ الفرقان : 24 ] وقرأ ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم وكذلك هي في قراءته .

ولهذا كون الأيام سبعة إنما تعرفه الأمم التي لها كتاب فأما أمة لا كتاب لها فلا تعرف ذلك إلا من تلقاه منهم عن أمم الأنبياء فإنه ليس هنا علامة حسية يعرف بها كون الأيام سبعة بخلاف الشهر والسنة وفصولها ولما خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام

[علة قراءة سورتي السجدة والدهر في صلاة فجر يوم الجمعة ]

وتعرف بذلك إلى عباده على ألسنة رسله وأنبيائه شرع لهم في الأسبوع يوما يذكرهم فيه بذلك وحكمة الخلق وما خلقوا له وبأجل العالم وطي السموات والأرض وعود الأمر كما بدأه سبحانه وعدا عليه حقا وقولا صدقا ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي ( الم تنزيل ) و ( هل أتى على الإنسان ) لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدإ والمعاد وحشر الخلائق وبعثهم من القبور إلى الجنة والنار لا لأجل السجدة كما يظنه من نقص علمه ومعرفته فيأتي بسجدة من سورة أخرى ويعتقد أن فجر يوم الجمعة فضل بسجدة وينكر على من لم يفعلها.

وهكذا كانت قراءته صلى الله عليه وسلم في المجامع الكبار كالأعياد ونحوها بالسورة المشتملة على التوحيد والمبدإ والمعاد وقصص الأنبياء مع أممهم وما عامل الله به من كذبهم وكفر بهم من الهلاك والشقاء ومن آمن منهم وصدقهم من النجاة والعافية .

كما كان يقرأ في العيدين بسورتي ( ق والقرآن المجيد) و ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) وتارة ب ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( هل أتاك حديث الغاشية ) وتارة يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة لما تضمنت من الأمر بهذه الصلاة وإيجاب السعي إليها وترك العلم العائق عنها والأمر بإكثار ذكر الله ليحصل لهم الفلاح في الدارين فإن في نسيان ذكره تعالى العطب والهلاك في الدارين ويقرأ في الثانية بسورة ( إذا جاءك المنافقون ) تحذيرا للأمة من النفاق المردي وتحذيرا لهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن صلاة الجمعة وعن ذكر الله وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا ولا بد وحضا لهم على الإنفاق الذي هو من أكبر أسباب سعادتهم وتحذيرا لهم من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الإقالة ويتمنون الرجعة ولا يجابون إليها وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعل عند قدوم وفد يريد أن يسمعهم القرآن

وكان يطيل قراءة الصلاة الجهرية لذلك كما صلى المغرب ب ( الأعراف ) وب ( الطور ) و ( ق ) . وكان يصلي الفجر بنحو مائة آية .

[ كانت خطبته تقريرا لأصول الإيمان ]

وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وذكر الجنة والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته وما أعد لأعدائه وأهل معصيته فيملأ القلوب من خطبته إيمانا وتوحيدا ومعرفة بالله وأيامه لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورا مشتركة بين الخلائق وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيمانا بالله ولا توحيدا له ولا معرفة خاصة به ولا تذكيرا بأيامه ولا بعثا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم ويبلي التراب أجسامهم فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا ؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به ؟

ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم ثم طال العهد وخفي نور النبوة وصارت الشرائع والأوامر رسوما تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها فأعطوها صورها وزينوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سننا لا ينبغي الإخلال بها وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع فنقص بل عدم حظ القلوب منها وفات المقصود بها .

فمما حفظ من خطبه صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر أن يخطب بالقرآن وسورة ( ق) . قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان : ما حفظت ( ق ) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يخطب بها على المنبر وحفظ من خطبته صلى الله عليه وسلم من رواية علي بن زيد بن جدعان وفيها ضعف " يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية تؤجروا وتحمدوا وترزقوا . واعلموا أن الله عز وجل قد فرض عليكم الجمعة فريضة مكتوبة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة من وجد إليها سبيلا فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي جحودا بها أو استخفافا بها وله إمام جائر أو عادل فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ألا ولا وضوء له ألا ولا صوم له ألا ولا زكاة له ألا ولا حج له ألا ولا بركة له حتى يتوب فإن تاب تاب الله عليه ألا ولا تؤمن امرأة رجلا ألا ولا يؤمن أعرابي مهاجرا ألا ولا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان فيخاف سيفه وسوطه

وحفظ من خطبته أيضا : الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا

رواه أبو داود وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر خطبه في الحج
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه
كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى

ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة

ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي رواه مسلم . وفي لفظ كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته فذكره .

وفي لفظ يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وخير الحديث كتاب الله وفي لفظ للنسائي وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار

وكان يقول في خطبته بعد التحميد والثناء والتشهد " أما بعد " . وكان يقصر الخطبة ويطيل الصلاة ويكثر الذكر ويقصد الكلمات الجوامع

وكان يقول إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه

وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين . ونهى المتخطي رقاب الناس عن ذلك وأمره بالجلوس .

وكان يقطع خطبته للحاجة تعرض أو السؤال من أحد من أصحابه فيجيبه ثم يعود إلى خطبته فيتمها . وكان ربما نزل عن المنبر للحاجة ثم يعود فيتمها كما نزل لأخذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فأخذهما ثم رقي بهما المنبر فأتم خطبته

وكان يدعو الرجل في خطبته تعال يا فلان اجلس يا فلان صل يا فلان . وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها .

وكان يشير بأصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله تعالى ودعائه.

وكان يستسقي بهم إذا قحط المطر في خطبته

وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس فإذا اجتمعوا خرج إليهم وحده من غير شاويش يصيح بين يديه ولا لبس طيلسانا ولا طرحة ولا سوادا فإذا دخل المسجد سلم عليهم فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ولم يدع مستقبل القبلة ثم يجلس ويأخذ بلال في الأذان فإذا فرغ منه قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة لا بإيراد خبر ولا غيره .

ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر وكان في الحرب يعتمد على قوس وفي الجمعة يعتمد على عصا . ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائما وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس ولا غيره ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفا البتة وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس .

وكان منبره ثلاث درجات وكان قبل اتخاذه يخطب إلى جذع يستند إليه فلما تحول إلى المنبر حن الجذع حنينا سمعه أهل المسجد فنزل إليه صلى الله عليه وسلم وضمه قال أنس : حن لما فقد ما كان يسمع من الوحي وفقده التصاق النبي صلى الله عليه وسلم . ولم يوضع المنبر في وسط المسجد وإنما وضع في جانبه الغربي قريبا من الحائط وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة .

وكان إذا جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة أو خطب قائما في الجمعة استدار أصحابه إليه بوجوههم وكان وجهه صلى الله عليه وسلم قبلهم في وقت الخطبة .

[ الأمر بالإنصات للخطبة ]

وكان يقوم فيخطب ثم يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم فيخطب الثانية فإذا فرغ منها أخذ بلال في الإقامة . وكان يأمر الناس بالدنو منه ويأمرهم بالإنصات ويخبرهم أن الرجل إذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا . ويقول من لغا فلا جمعة له

وكان يقول من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليست له جمعة رواه الإمام أحمد .

وقال أبي بن كعب : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ( تبارك وهو قائم فذكرنا بأيام الله وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال متى أنزلت هذه السورة ؟ فإني لم أسمعها إلى الآن فأشار إليه أن اسكت فلما انصرفوا قال سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني فقال إنه ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك وأخبره بالذي قال له أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق أبي " . ذكره ابن ماجه وسعيد بن منصور وأصله في " مسند أحمد " .

وقال صلى الله عليه وسلم يحضر الجمعة ثلاثة نفر : رجل حضرها يلغو وهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة له إلى يوم الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله عز وجل يقول من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها

ذكره أحمد وأبو داود .


[ لا سنة قبل الخطبة ]
وكان إذا فرغ بلال من الأذان أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ولم يقم أحد يركع ركعتين البتة ولم يكن الأذان إلا واحدا وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد لا سنة لها قبلها وهذا أصح قولي العلماء وعليه تدل السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته فإذا رقي المنبر أخذ بلال في أذان الجمعة فإذا أكمله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل وهذا كان رأي عين فمتى كانوا يصلون السنة ؟ ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله عنه من الأذان قاموا كلهم فركعوا ركعتين فهو أجهل الناس بالسنة وهذا الذي ذكرناه من أنه لا سنة قبلها هو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي .

والذين قالوا : إن لها سنة منهم من احتج أنها ظهر مقصورة فيثبت لها أحكام الظهر وهذه حجة ضعيفة جدا فإن الجمعة صلاة مستقلة بنفسها تخالف الظهر في الجهر والعدد والخطبة والشروط المعتبرة لها وتوافقها في الوقت وليس إلحاق مسألة النزاع بموارد الاتفاق أولى من إلحاقها بموارد الافتراق بل إلحاقها بموارد الافتراق أولى لأنها أكثر مما اتفقا فيه .

ومنهم من أثبت السنة لها هنا بالقياس على الظهر وهو أيضا قياس فاسد فإن السنة ما كان ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو سنة خلفائه الراشدين وليس في مسألتنا شيء من ذلك ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لم يفعله ولم يشرعه كان تركه هو السنة ونظير هذا أن يشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس فلذلك كان الصحيح أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة ولا لرمي الجمار ولا للطواف ولا للكسوف ولا للاستسقاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات .

ومنهم من احتج بما ذكره البخاري في " صحيحه " فقال باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها : حدثنا عبد الله بن يوسف أنبأنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته وقبل العشاء ركعتين وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين وهذا لا حجة فيه ولم يرد به البخاري إثبات السنة قبل الجمعة وإنما مراده أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شيء ؟ ثم ذكر هذا الحديث أي أنه لم يرو عنه فعل السنة إلا بعدها ولم يرد قبلها شيء .

وهذا نظير ما فعل في كتاب العيدين فإنه قال باب الصلاة قبل العيد وبعدها وقال أبو المعلى : سمعت سعيدا عن ابن عباس أنه كره الصلاة قبل العيد . ثم ذكر حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما ومعه بلال الحديث . فترجم للعيد مثل ما ترجم للجمعة وذكر للعيد حديثا دالا على أنه لا تشرع الصلاة قبلها ولا بعدها فدل على أن مراده من الجمعة كذلك .

وقد ظن بعضهم أن الجمعة لما كانت بدلا عن الظهر - وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها - دل على أن الجمعة كذلك وإنما قال وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف بيانا لموضع صلاة السنة بعد الجمعة وأنه بعد الانصراف وهذا الظن غلط منه لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديث ابن عمر رضي الله عنه صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعد الظهر وسجدتين بعد المغرب وسجدتين بعد العشاء وسجدتين بعد الجمعة

فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاة مستقلة بنفسها غير الظهر وإلا لم يحتج إلى ذكرها لدخولها تحت اسم الظهر فلما لم يذكر لها سنة إلا بعدها علم أنه لا سنة لها قبلها .

ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجه في " سننه " عن أبي هريرة وجابر قال جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له أصليت ركعتين قبل أن تجيء ؟ " قال لا . قال " فصل ركعتين وتجوز فيهما وإسناده ثقات .

قال أبو البركات ابن تيمية : وقوله قبل أن تجيء يدل عن أن هاتين الركعتين سنة الجمعة وليستا تحية المسجد . قال شيخنا حفيده أبو العباس وهذا غلط والحديث المعروف في " الصحيحين " عن جابر قال دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال أصليت قال لا . قال فصل ركعتين .

وقال إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث وأفراد ابن ماجه في الغالب غير صحيحة هذا معنى كلامه .

وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي : هذا تصحيف من الرواة إنما هو أصليت قبل أن تجلس فغلط فيه الناسخ .

وقال وكتاب ابن ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به بخلاف صحيحي البخاري ومسلم فإن الحفاظ تداولوهما واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما قال ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف .

قلت : ويدل على صحة هذا أن الذين اعتنوا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها لم يذكر واحد منهم هذا الحديث في سنة الجمعة قبلها وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإمام على المنبر واحتجوا به على من منع من فعلها في هذه الحال فلو كانت هي سنة الجمعة لكان ذكرها هناك والترجمة عليها وحفظها وشهرتها أولى من تحية المسجد .

ويدل عليه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحية المسجد .

ولو كانت سنة الجمعة لأمر بها القاعدين أيضا ولم يخص بها الداخل وحده . ومنهم من احتج بما رواه أبو داود في " سننه " قال حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع قال كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك .

وهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنة قبلها وإنما أراد بقوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أنه كان يصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يصليهما في المسجد وهذا هو الأفضل فيهما كما ثبت في " الصحيحين " عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته

وفي " السنن " عن ابن عمر أنه إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعا وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل بالمسجد فقيل له فقال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك .

وأما إطالة ابن عمر الصلاة قبل الجمعة فإنه تطوع مطلق وهذا هو الأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام كما تقدم من حديث أبي هريرة ونبيشة الهذلي عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى المسجد فصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام

وفي حديث نبيشة الهذلي : إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له وإن وجد الإمام خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها هكذا كان هدي الصحابة رضي الله عنهم .

قال ابن المنذر : روينا عن ابن عمر : أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة . وعن ابن عباس أنه كان يصلي ثمان ركعات .

وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع المطلق ولذلك اختلف في العدد المروي عنهم في ذلك وقال الترمذي في " الجامع " : وروي عن ابن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا وإليه ذهب ابن المبارك والثوري .

وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري : رأيت أبا عبد الله إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول فإذا قاربت أمسك عن الصلاة حتى يؤذن المؤذن فإذا أخذ في الأذان قام فصلى ركعتين أو أربعا يفصل بينهما بالسلام فإذا صلى الفريضة انتظر في المسجد ثم يخرج منه فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس وربما صلى أربعا ثم يجلس ثم يقوم فيصلي ركعتين أخريين فتلك ست ركعات على حديث علي وربما صلى بعد الست ستا أخر أو أقل أو أكثر .

وقد أخذ من هذا بعض أصحابه رواية أن للجمعة قبلها سنة ركعتين أو أربعا وليس هذا بصريح بل ولا ظاهر فإن أحمد كان يمسك عن الصلاة في وقت النهي فإذا زال وقت النهي قام فأتم تطوعه إلى خروج الإمام فربما أدرك أربعا وربما لم يدرك إلا ركعتين . ومنهم من احتج على ثبوت السنة قبلها بما رواه ابن ماجه في " سننه " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا بقية عن مبشر بن عبيد عن حجاج بن أرطأة عن عطية العوفي عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعا لا يفصل بينها في شيء منها

قال ابن ماجه باب الصلاة قبل الجمعة فذكره . وهذا الحديث فيه عدة بلايا إحداها : بقية بن الوليد : إمام المدلسين وقد عنعنه ولم يصرح بالسماع .

الثانية مبشر بن عبيد المنكر الحديث . وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول شيخ كان يقال له مبشر بن عبيد كان بحمص أظنه كوفيا روى عنه بقية وأبو المغيرة أحاديثه أحاديث موضوعة كذب . وقال الدارقطني : مبشر بن عبيد متروك الحديث أحاديثه لا يتابع عليها .

الثالثة : الحجاج بن أرطأة الضعيف المدلس .

الرابعة عطية العوفي قال البخاري : كان هشيم يتكلم فيه وضعفه أحمد وغيره .

ذكر بعض الأحاديث المقلوبة

وقال البيهقي : عطية العوفي لا يحتج به ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث والحجاج بن أرطأة لا يحتج به .

قال بعضهم ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء لعدم ضبطهم وإتقانهم فقال قبل الجمعة أربعا وإنما هو بعد الجمعة فيكون موافقا لما ثبت في الصحيح " ونظير هذا : قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العمري : للفارس سهمان وللراجل سهم قال الشافعي : كأنه سمع نافعا يقول للفرس سهمان وللراجل سهم فقال للفارس سهمان وللراجل سهم . حتى يكون موافقا لحديث أخيه عبيد الله قال وليس يشك أحد من أهل العلم في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ .

قلت : ونظير هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط . وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا فانقلب على بعض الرواة فقال أما النار فينشئ الله لها خلقا .

قلت : ونظير هذا حديث عائشة إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم وهو في " الصحيحين " فانقلب على بعض الرواة فقال ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال

ونظيره أيضا عندي حديث أبي هريرة إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه وأظنه وهم - والله أعلم - فيما قاله رسوله الصادق المصدوق " وليضع ركبتيه قبل يديه " . كما قال وائل بن حجر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه

وقال الخطابي وغيره وحديث وائل بن حجر أصح من حديث أبي هريرة . وقد سبقت المسألة مستوفاة في هذا الكتاب والحمد لله .

[ السنة بعد الجمعة ]

وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة دخل إلى منزله فصلى ركعتين سنتها وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعا .

قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية : إن صلى في المسجد صلى أربعا وإن صلى في بيته صلى ركعتين . قلت وعلى هذا تدل الأحاديث وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه كان إذا صلى في المسجد صلى أربعا وإذا صلى في بيته صلى ركعتين .

وفي " الصحيحين " : عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته

وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات والله أعلم .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العيدين
كان صلى الله عليه وسلم يصلي العيدين في المصلى وهو المصلى الذي على باب المدينة الشرقي وهو المصلى الذي يوضع فيه محمل الحاج ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة واحدة أصابهم مطر فصلى بهم العيد في المسجد إن ثبت الحديث وهو في سنن أبي داود وابن ماجه وهديه كان فعلهما في المصلى دائما .

وكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه فكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة ومرة كان يلبس بردين أخضرين ومرة بردا أحمر وليس هو أحمر مصمتا كما يظنه بعض الناس فإنه لو كان كذلك لم يكن بردا وإنما فيه خطوط حمر كالبرود اليمنية فسمي أحمر باعتبار ما فيه من ذلك .

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من غير معارض النهي عن لبس المعصفر والأحمر وأمر عبد الله بن عمرو لما رأى عليه ثوبين أحمرين أن يحرقهما فلم يكن ليكره الأحمر هذه الكراهة الشديدة ثم يلبسه والذي يقوم عليه الدليل تحريم لباس الأحمر أو كراهيته كراهية شديدة .

وكان صلى الله عليه وسلم يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمرات ويأكلهن وترا وأما في عيد الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته . وكان يغتسل للعيدين صح الحديث فيه وفيه حديثان ضعيفان حديث ابن عباس من رواية جبارة بن مغلس وحديث الفاكه بن سعد من رواية يوسف بن خالد السمتي .

ولكن ثبت عن ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة أنه كان يغتسل يوم العيد قبل خروجه وكان صلى الله عليه وسلم يخرج ماشيا والعنزة تحمل بين يديه فإذا وصل إلى المصلى نصبت بين يديه ليصلي إليها فإن المصلى كان إذ ذاك فضاء لم يكن فيه بناء ولا حائط وكانت الحربة سترته .

وكان يؤخر صلاة عيد الفطر ويعجل الأضحى وكان ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة لا يخرج حتى تطلع الشمس ويكبر من بيته إلى المصلى .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول الصلاة جامعة والسنة أنه لا يفعل شيء من ذلك . ولم يكن هو ولا أصحابه يصلون إذا انتهوا إلى المصلى شيئا قبل الصلاة ولا بعدها .

وكان يبدأ بالصلاة قبل الخطبة فيصلي ركعتين يكبر في الأولى سبع تكبيرات متوالية بتكبيرة الافتتاح يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات ولكن ذكر عن ابن مسعود أنه قال يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الخلال . وكان ابن عمر مع تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتم التكبير أخذ في القراءة فقرأ فاتحة الكتاب ثم قرأ بعدها ق والقرآن المجيد في إحدى الركعتين وفي الأخرى اقتربت الساعة وانشق القمر وربما قرأ فيهما سبح اسم ربك الأعلى و هل أتاك حديث الغاشية صح عنه هذا وهذا ولم يصح عنه غير ذلك . فإذا فرغ من القراءة كبر وركع ثم إذا أكمل الركعة وقام من السجود كبر خمسا متوالية فإذا أكمل التكبير أخذ في القراءة فيكون التكبير أول ما يبدأ به في الركعتين والقراءة يليها الركوع وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه والى بين القراءتين فكبر أولا ثم قرأ وركع فلما قام في الثانية قرأ وجعل التكبير بعد القراءة ولكن لم يثبت هذا عنه فإنه من رواية محمد بن معاوية النيسابوري . قال البيهقي : رماه غير واحد بالكذب .

وقد روى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الآخرة خمسا قبل القراءة قال الترمذي : سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث قال ليس في الباب شيء أصح من هذا وبه أقول وقال وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في هذا الباب هو صحيح أيضا .

قلت : يريد حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعا في الأولى وخمسا في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها . قال أحمد : وأنا أذهب إلى هذا . قلت : وكثير بن عبد الله بن عمرو هذا ضرب أحمد على حديثه في " المسند " وقال لا يساوي حديثه شيئا والترمذي تارة يصحح حديثه وتارة يحسنه وقد صرح البخاري بأنه أصح شيء في الباب مع حكمه بصحة حديث عمرو بن شعيب وأخبر أنه يذهب إليه . والله أعلم

[ كان يخطبهم في العيد قائما على الأرض ]

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكمل الصلاة انصرف فقام مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم وينهاهم وإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به . ولم يكن هنالك منبر يرقى عليه ولم يكن يخرج منبر المدينة وإنما كان يخطبهم قائما على الأرض قال جابر : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن متفق عليه . وقال أبو سعيد الخدري : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول ما يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم . . . الحديث . رواه مسلم .

وذكر أبو سعيد الخدري : أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد فيصلي بالناس ركعتين ثم يسلم فيقف على راحلته مستقبل الناس وهم صفوف جلوس فيقول " تصدقوا " فأكثر من يتصدق النساء بالقرط والخاتم والشيء . فإن كانت له حاجة يريد أن يبعث بعثا يذكره لهم وإلا انصرف . وقد كان يقع لي أن هذا وهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يخرج إلى العيد ماشيا والعنزة بين يديه وإنما خطب على راحلته يوم النحر بمنى إلى أن رأيت بقي بن مخلد الحافظ قد ذكر هذا الحديث في " مسنده " عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا داود بن قيس حدثنا عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد من يوم الفطر فيصلي بالناس تينك الركعتين ثم يسلم فيستقبل الناس فيقول تصدقوا وكان أكثر من يتصدق النساء وذكر الحديث .

ثم قال حدثنا أبو بكر بن خلاد حدثنا أبو عامر حدثنا داود عن عياض عن أبي سعيد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في يوم الفطر فيصلي بالناس فيبدأ بالركعتين ثم يستقبلهم وهم جلوس فيقول تصدقوا فذكر مثله وهذا إسناد ابن ماجه إلا أنه رواه عن أبي كريب عن أبي أسامة عن داود . ولعله ثم يقوم على رجليه كما قال جابر قام متوكئا على بلال فتصحف على الكاتب براحلته . والله أعلم .

فإن قيل فقد أخرجا في " الصحيحين " عن ابن عباس قال شهدت صلاة الفطر مع نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب قال فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء إلى النساء ومعه بلال فقال يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا [ الممتحنة 12 ] . فتلا الآية حتى فرغ منها الحديث .

وفي " الصحيحين " أيضا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل فأتى النساء فذكرهن الحديث . وهو يدل على أنه كان يخطب على منبر أو على راحلته ولعله كان قد بني له منبر من لبن أو طين أو نحوه ؟ قيل لا ريب في صحة هذين الحديثين ولا ريب أن المنبر لم يكن يخرج من المسجد وأول من أخرجه مروان بن الحكم فأنكر عليه وأما منبر اللبن والطين فأول من بناه كثير بن الصلت في إمارة مروان على المدينة كما هو في " الصحيحين " فلعله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في المصلى على مكان مرتفع أو دكان وهي التي تسمى مصطبة ثم ينحدر منه إلى النساء فيقف عليهن فيخطبهن فيعظهن ويذكرهن . والله أعلم .

[ كان يفتتح خطبه بالحمدلة ]

وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير وإنما روى ابن ماجه في " سننه " عن سعد القرظ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة ويكثر التكبير في خطبتي العيدين . وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به .

وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيدين والاستسقاء فقيل يفتتحان بالتكبير وقيل تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وقيل يفتتحان بالحمد . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وهو الصواب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم

وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله . ورخص صلى الله عليه وسلم لمن شهد العيد أن يجلس للخطبة وأن يذهب ورخص لهم إذا وقع العيد يوم الجمعة أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة .

وكان صلى الله عليه وسلم يخالف الطريق يوم العيد فيذهب في طريق ويرجع في آخر فقيل ليسلم على أهل الطريقين وقيل لينال بركته الفريقان وقيل ليقضي حاجة من له حاجة منهما وقيل ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق وقيل ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله وقيام شعائره وقيل لتكثر شهادة البقاع فإن الذاهب إلى المسجد والمصلى إحدى خطوتيه ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة حتى يرجع إلى منزله وقيل وهو الأصح : إنه لذلك كله ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها .

[ التكبير من فجر يوم عرفة ]

وروي عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف
لما كسفت الشمس خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد مسرعا فزعا يجر رداءه وكان كسوفها في أول النهار على مقدار رمحين أو ثلاثة من طلوعها فتقدم فصلى ركعتين قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة طويلة جهر بالقراءة ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع رأسه من الركوع فأطال القيام وهو دون القيام الأول وقال لما رفع رأسه سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ثم أخذ في القراءة ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم رفع رأسه من الركوع ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الأولى فكان في كل ركعة ركوعان وسجودان فاستكمل في الركعتين أربع ركعات وأربع سجدات ورأى في صلاته تلك الجنة والنار وهم أن يأخذ عنقودا من الجنة فيريهم إياه ورأى أهل العذاب في النار فرأى امرأة تخدشها هرة ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا ورأى عمرو بن مالك يجر أمعاءه في النار وكان أول من غير دين إبراهيم ورأى فيها سارق الحاج يعذب ثم انصرف فخطب بهم خطبة بليغة حفظ منها قوله إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا

وقال لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني أتقدم ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت

وفي لفظ ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع منها ورأيت أكثر أهل النار النساء . قالوا : وبم يا رسول الله ؟ قال بكفرهن . قيل أيكفرن بالله ؟ قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط

ومنها : ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو قال الموقن فيقول محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له نم صالحا فقد علمنا إن كنت لمؤمنا وأما المنافق أو قال المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته

وفي طريق أخرى لأحمد بن حنبل رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم لما سلم حمد الله وأثنى عليه وشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله ثم قال أيها الناس أنشدكم بالله هل تعلمون أني قصرت في شيء من تبليغ رسالات ربي لما أخبرتموني بذلك ؟ فقام رجل فقال نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك . ثم قال أما بعد فإن رجالا يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض وإنهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بها عباده فينظر من يحدث منهم توبة وايم الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم وإنه - والله أعلم - لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا آخرهم الأعور الدجال ممسوح العين اليسرى كأنها عين أبي يحيى لشيخ حينئذ من الأنصار بينه وبين حجرة عائشة وإنه متى يخرج فسوف يزعم أنه الله فمن آمن به وصدقه واتبعه لم ينفعه صالح من عمله سلف ومن كفر به وكذبه لم يعاقب بشيء من عمله سلف وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس وإنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس فيزلزلون زلزالا شديدا ثم يهلكه الله عز وجل وجنوده حتى إن جذم الحائط أو قال أصل الحائط وأصل الشجرة لينادي : يا مسلم يا مؤمن هذا يهودي أو قال هذا كافر فتعال فاقتله قال ولن يكون ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم بينكم شأنها في أنفسكم وتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا : وحتى تزول جبال عن مراتبها ثم على أثر ذلك القبض .

يتبع...

اخت مسلمة
04-09-2009, 01:25 AM
[ بيان الاختلاف في صفة صلاة الكسوف ]

فهذا الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم من صفة صلاة الكسوف وخطبتها . وقد روي عنه أنه صلاها على صفات أخر . منها : كل ركعة بثلاث ركوعات ومنها: كل ركعة بأربع ركوعات ومنها : إنها كإحدى صلاة صليت كل ركعة بركوع واحد ولكن كبار الأئمة لا يصححون ذلك كالإمام أحمد والبخاري والشافعي ويرونه غلطا .

قال الشافعي وقد سأله سائل فقال روى بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركعات في كل ركعة قال الشافعي : فقلت له أتقول به أنت ؟ قال لا ولكن لم لم تقل به أنت وهو زيادة على حديثكم ؟ يعني حديث الركوعين في الركعة فقلت هو من وجه منقطع ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد ووجه نراه - والله أعلم - غلطا قال البيهقي : أراد بالمنقطع قول عبيد بن عمير : حدثني من أصدق قال عطاء : حسبته يريد عائشة . . . الحديث وفيه فركع في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربع سجدات .

وقال قتادة : عن عطاء عن عبيد بن عمير عنها : ست ركعات في أربع سجدات . فعطاء إنما أسنده عن عائشة بالظن والحسبان لا باليقين وكيف يكون ذلك محفوظا عن عائشة وقد ثبت عن عروة وعمرة عن عائشة خلافه وعروة وعمرة أخص بعائشة وألزم لها من عبيد بن عمير وهما اثنان فروايتهما أولى أن تكون هي المحفوظة .

قال وأما الذي يراه الشافعي غلطا فأحسبه حديث عطاء عن جابر انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس إنما انكسفت الشمس لموت إبراهيم فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات الحديث .

قال البيهقي : من نظر في قصة هذا الحديث وقصة حديث أبي الزبير علم أنهما قصة واحدة وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها مرة واحدة وذلك في يوم توفي ابنه إبراهيم عليه السلام .

قال ثم وقع الخلاف بين عبد الملك يعني ابن أبي سليمان عن عطاء عن جابر وبين هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر في عدد الركوع في كل ركعة فوجدنا رواية هشام أولى يعني أن في كل ركعة ركوعين فقط لكونه مع أبي الزبير أحفظ من عبد الملك ولموافقة روايته في عدد الركوع رواية عمرة وعروة عن عائشة ورواية كثير بن عباس وعطاء بن يسار عن ابن عباس ورواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو ثم رواية يحيى بن سليم وغيره وقد خولف عبد الملك في روايته عن عطاء فرواه ابن جريج وقتادة عن عطاء عن عبيد بن عمير : ست ركعات في أربع سجدات فرواية هشام عن أبي الزبير عن جابر التي لم يقع فيها الخلاف ويوافقها عدد كثير أولى من روايتي عطاء اللتين إنما إسناد أحدهما بالتوهم والأخرى يتفرد بها عنه عبد الملك بن أبي سليمان الذي قد أخذ عليه الغلط في غير حديث .

قال وأما حديث حبيب بن أبي ثابت عن طاووس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في كسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد قال والأخرى مثلها فرواه مسلم في " صحيحه " وهو مما تفرد به حبيب بن أبي ثابت وحبيب وإن كان ثقة فكان يدلس ولم يبين فيه سماعه من طاووس فيشبه أن يكون حمله عن غير موثوق به وقد خالفه في رفعه ومتنه سليمان المكي الأحول فرواه عن طاووس عن ابن عباس من فعله ثلاث ركعات في ركعة .

وقد خولف سليمان أيضا في عدد الركوع فرواه جماعة عن ابن عباس من فعله كما رواه عطاء بن يسار وغيره عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني في كل ركعة ركوعان .

قال وقد أعرض محمد بن إسماعيل البخاري عن هذه الروايات الثلاث فلم يخرج شيئا منها في " الصحيح " لمخالفتهن ما هو أصح إسنادا وأكثر عددا وأوثق رجالا وقال البخاري في رواية أبي عيسى الترمذي عنه أصح الروايات عندي في صلاة الكسوف أربع ركعات في أربع سجدات .

قال البيهقي : وروي عن حذيفة مرفوعا أربع ركعات في كل ركعة وإسناده ضعيف . وروي عن أبي بن كعب مرفوعا خمس ركوعات في كل ركعة وصاحبا الصحيح لم يحتجا بمثل إسناد حديثه .

قال وذهب جماعة من أهل الحديث إلى تصحيح الروايات في عدد الركعات وحملوها على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها مرارا وأن الجميع جائز فممن ذهب إليه إسحاق بن راهويه ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأبو بكر بن إسحاق الضبعي وأبو سليمان الخطابي واستحسنه ابن المنذر .

والذي ذهب إليه البخاري والشافعي من ترجيح الأخبار أولى لما ذكرنا من رجوع الأخبار إلى حكاية صلاته صلى الله عليه وسلم يوم توفي ابنه .

قلت : والمنصوص عن أحمد أيضا أخذه بحديث عائشة وحده في كل ركعة ركوعان وسجودان .

قال في رواية المروزي : وأذهب إلى أن صلاة الكسوف أربع ركعات وأربع سجدات في كل ركعة ركعتان وسجدتان وأذهب إلى حديث عائشة أكثر الأحاديث على هذا . وهذا اختيار أبي بكر وقدماء الأصحاب وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية . وكان يضعف كل ما خالفه من الأحاديث ويقول هي غلط وإنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم . والله أعلم .

وأمر صلى الله عليه وسلم في الكسوف بذكر الله والصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتاقة والله أعلم .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استسقى على وجوه . أحدها : يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته وقال اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا الوجه الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوما يخرجون فيه إلى المصلى فخرج لما طلعت الشمس متواضعا متبذلا متخشعا مترسلا متضرعا فلما وافى المصلى صعد المنبر - إن صح وإلا ففي القلب منه شيء - فحمد الله وأثنى عليه وكبره وكان مما حفظ من خطبته ودعائه الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت تفعل ما تريد اللهم لا إلا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا وبلاغا إلى حين ثم رفع يديه وأخذ في التضرع والابتهال والدعاء وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة وحول إذ ذاك رداءه وهو مستقبل القبلة فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن وظهر الرداء لبطنه وبطنه لظهره وكان الرداء خميصة سوداء وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة والناس كذلك ثم نزل فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداء البتة جهر فيهما بالقراءة وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية هل أتاك حديث الغاشية .

الوجه الثالث أنه صلى الله عليه وسلم استسقى على منبر المدينة استسقاء مجردا في غير يوم جمعة ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء صلاة .

الوجه الرابع أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله عز وجل فحفظ من دعائه حينئذ اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا طبقا عاجلا غير رائث نافعا غير ضار

الوجه الخامس أنه صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم باب السلام نحو قذفة حجر ينعطف عن يمين الخارج من المسجد .

الوجه السادس أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء فأصاب المسلمين العطش فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعض المنافقين لو كان نبيا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال أوقد قالوها ؟ عسى ربكم أن يسقيكم ثم بسط يديه ودعا فما رد يديه من دعائه حتى أظلهم السحاب وأمطروا فأفعم السيل الوادي فشرب الناس فارتووا .

وحفظ من دعائه في الاستسقاء اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل . وأغيث صلى الله عليه وسلم في كل مرة استسقى فيها .

واستسقى مرة فقام إليه أبو لبابة فقال يا رسول الله إن التمر في المرابد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا فيسد ثعلب مربده بإزاره فأمطرت فاجتمعوا إلى أبي لبابة فقالوا : إنها لن تقلع حتى تقوم عريانا فتسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل فاستهلت السماء

ولما كثر المطر سألوه الاستصحاء فاستصحى لهم وقال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى مطرا قال اللهم صيبا نافعا وكان يحسر ثوبه حتى يصيبه من المطر فسئل عن ذلك فقال لأنه حديث عهد بربه

قال الشافعي رحمه الله أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل قال اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر منه ونحمد الله عليه

وأخبرني من لا أتهم عن إسحاق بن عبد الله أن عمر كان إذا سال السيل ذهب بأصحابه إليه وقال ما كان ليجيء من مجيئه أحد إلا تمسحنا وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيم والريح عرف ذلك في وجهه فأقبل وأدبر فإذا أمطرت سري عنه وذهب عنه ذلك وكان يخشى أن يكون فيه العذاب .

قال الشافعي : وروي عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعا أنه كان إذا استسقى قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا غدقا مجللا عاما طبقا سحا دائما اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا

قال الشافعي رحمه الله وأحب أن يدعو الإمام بهذا قال وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمطر في أول مطرة حتى يصيب جسده .

قال وبلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح وقد مطر الناس قال مطرنا بنوء الفتح ثم يقرأ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها [ فاطر 2 ] .

[ طلب الإجابة عند نزول الغيث ]

قال وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول الغيث وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند : نزول الغيث وإقامة الصلاة .

قال البيهقي : وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لا يرد عند النداء وعند البأس وتحت المطر .

وروينا عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن عند التقاء الصفوف وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلاة وعند رؤية الكعبة .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره وعبادته فيه
كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرة بين أربعة أسفار سفره لهجرته وسفره للجهاد وهو أكثرها وسفره للعمرة وسفره للحج .

وكان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها سافر بها معه ولما حج سافر بهن جميعا .

وكان إذا سافر خرج من أول النهار وكان يستحب الخروج يوم الخميس ودعا الله تبارك وتعالى أن يبارك لأمته في بكورها

وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم من أول النهار وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم

ونهى أن يسافر الرجل وحده وأخبر أن الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب

وذكر عنه أنه كان يقول حين ينهض للسفر اللهم إليك توجهت وبك اعتصمت اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم به اللهم زودني التقوى واغفر لي ذنبي ووجهني للخير أينما توجهت

وكان إذا قدمت إليه دابته ليركبها يقول بسم الله حين يضع رجله في الركاب وإذا استوى على ظهرها قال الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم يقول الحمد لله الحمد لله الحمد لله ثم يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثم يقول سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت

وكان يقول ( اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون

وكان هو وأصحابه إذا علوا الثنايا كبروا وإذا هبطوا الأودية سبحوا .

وكان إذا أشرف على قرية يريد دخولها يقول اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما ذرين أسألك خير هذه القرية وخير أهلها وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها .

وذكر عنه أنه كان يقول اللهم إني أسألك من خير هذه القرية . وخير ما جمعت فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما جمعت فيها اللهم ارزقنا جناها وأعذنا من وباها وحببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا

[ مبحث في قصر الصلاة ]
وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره ألبتة وأما حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم فلا يصح . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى وقد روي كان يقصر وتتم الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم كيف والصحيح عنها أنها قالت إن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه . قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس وغيره إنها تأولت كما تأول عثمان وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائما فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي فغلط بعض الرواة فقال كان يقصر ويتم أي هو . والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل ظنت أن القصر مشروط بالخوف في السفر فإذا زال الخوف زال سبب القصر وهذا التأويل غير صحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنا وكان يقصر الصلاة والآية قد أشكلت على عمر وعلى غيره فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه بالشفاء وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له وقد يقال إن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين الضرب في الأرض والخوف فإذا وجد الأمران أبيح القصران فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفي الأركان وسميت صلاة أمن وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها وأنها لم تدخل في قصر الآية والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما قالت عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع وإنما هي مفروضة كذلك وأن فرض المسافر ركعتان .

وقال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة متفق على حديث عائشة وانفرد مسلم بحديث ابن عباس .

وقال عمر رضي الله عنه صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر وقد أمنا ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته

ولا تناقض بين حديثيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس فقال صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر . وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى .

وقال أنس خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة متفق عليه .

ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال إنا لله وإنا إليه راجعون صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان متفق عليه . ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما بل الأولى على قول وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر . وفي " صحيح البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنه قال صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في السفر لا يزيد على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان . يعني في صدر خلافة عثمان وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه . وقد خرج لفعله تأويلات

أحدها : أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا حديثي عهد بالإسلام والعهد بالصلاة قريب ومع هذا فلم يربع بهم النبي صلى الله عليه وسلم .

التأويل الثاني : أنه كان إماما للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته فكأنه وطنه ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك وكان هو الإمام المطلق ولم يربع .

التأويل الثالث أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت فضاء ولهذا قيل له يا رسول الله ألا نبني لك بمنى بيتا يظلك من الحر ؟ فقال لا . منى مناخ من سبق فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر . ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشرا يقصر الصلاة .

التأويل الرابع أنه أقام بها ثلاثا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا فسماه مقيما والمقيم غير مسافر ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشرا يقصر الصلاة وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة .

التأويل الخامس أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة فلهذا أتم ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين وقد منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكهم ورخص لهم فيها ثلاثة أيام فقط فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وإنما رخص فيها ثلاثا وذلك لأنهم تركوها لله وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته وقال لعمر : لا تشترها ولا تعد في صدقتك فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن .

التأويل السادس أنه كان قد تأهل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم . فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن ابن أبي ذباب عن أبيه قال صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال يا أيها الناس لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم رواه الإمام أحمد رحمه الله في " مسنده " وعبد الله بن الزبير الحميدي في " مسنده " أيضا وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم . قال أبو البركات بن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف فإن البخاري ذكره في " تاريخه " ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان .

وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين فحيث نزلت كان وطنها وهو أيضا اعتذار ضعيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضا وأمومة أزواجه فرع عن أبوته ولم يكن يتم لهذا السبب . وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها : لو صليت ركعتين فقالت يا ابن أختي إنه لا يشق علي

قال الشافعي رحمه الله لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وقصر ثم روي عن إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في السفر وأتم .

قال البيهقي : وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي عن الدارقطني عن المحاملي حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب حدثنا أبو عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم

قال الدارقطني : وهذا إسناد صحيح . ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري أنبأنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت . قال أحسنت يا عائشة

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب . كيف وهي القائلة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

قال الزهري لعروة لما حدثه عنها بذلك فما شأنها كانت تتم الصلاة ؟ فقال تأولت كما تأول عثمان . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر . أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون ؟ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم .

وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن ؟ فقال له ابن عمر يا أخي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل

وقد قال أنس خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة

وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وهذه كلها أحاديث صحيحة .

افتراضي

فصل [ كان يقتصر في سفره على الفرض والوتر وسنة الفجر من الرواتب ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصار على الفرض ولم يحفظ عنه أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر فإنه لم يكن ليدعهما حضرا ولا سفرا . قال ابن عمر وقد سئل عن ذلك فقال صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر وقال الله عز وجل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب 21 ] ومراده بالتسبيح السنة الراتبة وإلا فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه .

وفي " الصحيحين " عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته قال الشافعي رحمه الله وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل ليلا وهو يقصر وفي " الصحيحين " : عن عامر بن ربيعة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته فهذا قيام الليل .

وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن التطوع في السفر ؟ فقال أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس وروي عن الحسن قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها وروي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر .

وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها إلا من جوف الليل مع الوتر وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئا ولكن لم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة كسنة صلاة الإقامة ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفا على المسافر فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها وقد خفف الفرض إلى ركعتين فلولا قصد التخفيف على المسافر وإلا كان الإتمام أولى به ولهذا قال عبد الله بن عمر : لو كنت مسبحا لأتممت وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى يوم الفتح ثمان ركعات ضحى وهو إذ ذاك مسافر .

وأما ما رواه أبو داود والترمذي في السنن من حديث الليث عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة الغفاري عن البراء بن عازب قال سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا فلم أره ترك ركعتين عند زيغ الشمس قبل الظهر قال الترمذي : هذا حديث غريب . قال وسألت محمدا عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد ولم يعرف اسم أبي بسرة ورآه حسنا . وبسرة : بالباء الموحدة المضمومة وسكون السين المهملة .

وأما حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها فرواه البخاري في " صحيحه " ولكنه ليس بصريح في فعله ذلك في السفر ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإقامة والرجال أعلم بسفره من النساء وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئا . والله أعلم .

فصل [ صلاته على راحلته ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم صلاة التطوع على راحلته حيث توجهت به وكان يومئ إيماء برأسه في ركوعه وسجوده وسجوده أخفض من ركوعه وروى أحمد وأبو داود عنه من حديث أنس أنه كان يستقبل بناقته القبلة عند تكبيرة الافتتاح ثم يصلي سائر الصلاة حيث توجهت به . وفي هذا الحديث نظر وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها كعامر بن ربيعة وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا والله أعلم .

وصلى على الراحلة وعلى الحمار إن صح عنه وقد رواه مسلم في " صحيحه " من حديث ابن عمر .

وصلى الفرض بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبر بذلك وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء فجعل السجود أخفض من الركوع .

قال الترمذي حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح وثبت ذلك عن أنس من فعله


فصل [ الجمع بين الصلاتين ]
[ إعلال عجيب للحاكم لحديث صحيح ]

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فإن زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب . وكان إذا أعجله السير أخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء .

وقدروي عنه في غزوة تبوك أنه كان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر فيصليهما جميعا وكذلك في المغرب والعشاء لكن اختلف في هذا الحديث فمن مصحح له ومن محسن ومن قادح فيه وجعله موضوعا كالحاكم وإسناده على شرط الصحيح لكن رمي بعلة عجيبة قال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه حدثنا موسى بن هارون حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر ويصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب

قال الحاكم : هذا الحديث رواته أئمة ثقات وهو شاذ الإسناد والمتن ثم لا نعرف له علة نعله بها . فلو كان الحديث عن الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث . ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولا ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل فقلنا : الحديث شاذ . وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال كان قتيبة بن سعيد يقول لنا : على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي خيثمة حتى عد قتيب ة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبا من إسناده ومتنه ثم لم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث علة ثم قال فنظرنا فإذا الحديث موضوع وقتيبة ثقة مأمون ثم ذكر بإسناده إلى البخاري . قال قلت لقتيبة بن سعيد مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ؟ قال كتبته مع خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني . قال البخاري : وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ .

قلت : وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي حدثنا المفضل بن فضالة عن الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ فذكره . . . " فهذا المفضل قد تابع قتيبة وإن كان قتيبة أجل من المفضل وأحفظ لكن زال تفرد قتيبة به ثم إن قتيبة صرح بالسماع فقال حدثنا ولم يعنعن فكيف يقدح في سماعه مع أنه بالمكان الذي جعله الله به من الأمانة والحفظ والثقة والعدالة .

وقد روى إسحاق بن راهويه : حدثنا شبابة حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم ارتحل وهذا إسناد كما ترى وشبابة هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه وقد روى له مسلم في " صحيحه " عن الليث بن سعد بهذا الإسناد على شرط الشيخين وأقل درجاته أن يكون مقويا لحديث معاذ وأصله في " الصحيحين " لكن ليس فيه جمع التقديم . ثم قال أبو داود : وروى هشام عن عروة عن حسين بن عبد الله عن كريب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث المفضل يعني حديث معاذ في الجمع والتقديم ولفظه عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن كريب عن ابن عباس أنه قال ألا أخبركم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في السفر ؟ كان إذا زالت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في الزوال وإذا سافر قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر قال وأحسبه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك ورواه الشافعي من حديث ابن أبي يحيى عن حسين ومن حديث ابن عجلان بلاغا عن حسين .

قال البيهقي : هكذا رواه الأكابر هشام بن عروة وغيره عن حسين بن عبد الله . ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن حسين عن عكرمة وعن كريب كلاهما عن ابن عباس ورواه أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال ولا أعلمه إلا مرفوعا .

وقال إسماعيل بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس قال حدثني أخي عن سليمان بن مالك عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير فراح قبل أن تزيغ الشمس ركب فسار ثم نزل فجمع بين الظهر والعصر وإذا لم يرح حتى تزيغ الشمس جمع بين الظهر والعصر ثم ركب وإذا أراد أن يركب ودخلت صلاة المغرب جمع بين المغرب وبين صلاة العشاء

قال أبو العباس بن سريج : روى يحيى بن عبد الحميد عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يرتحل حتى تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا فإذا لم تزغ أخرها حتى يجمع بينهما في وقت العصر

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ليتصل وقت الدعاء ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى .

قال الشافعي : وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر لأن يتصل له الدعاء فلا يقطعه بصلاة العصر وأرفق بالمزدلفة أن يتصل له المسير ولا يقطعه بالنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس . والله أعلم .

فصل [ كان يجمع إذا جد به السير ]
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم الجمع راكبا في سفره كما يفعله كثير من الناس ولا الجمع حال نزوله أيضا وإنما كان يجمع إذا جد به السير وإذا سار عقيب الصلاة كما ذكرنا في قصة تبوك وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة لأجل اتصال الوقوف كما قال الشافعي رحمه الله وشيخنا ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفة وجعله من تمام النسك ولا تأثير للسفر عنده فيه . وأحمد ومالك والشافعي جعلوا سببه السفر ثم اختلفوا فجعل الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه التأثير للسفر الطويل ولم يجوزاه لأهل مكة وجوز مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه لأهل مكة الجمع والقصر بعرفة واختارها شيخنا وأبو الخطاب في عباداته ثم طرد شيخنا هذا وجعله أصلا في جواز القصر والجمع في طويل السفر وقصيره كما هو مذهب كثير من السلف وجعله مالك وأبو الخطاب مخصوصا بأهل مكة .

[ حد المسافة للقصر والفطر ]

ولم يحد صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض كما أطلق لهم التيمم في كل سفر وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة فلم يصح عنه منها شيء


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن واستماعه
وخشوعه وبكائه عند قراءته واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك

كان له صلى الله عليه وسلم حزب يقرؤه ولا يخل به وكانت قراءته ترتيلا لا هذا ولا عجلة بل قراءة مفسرة حرفا حرفا . وكان يقطع قراءته آية آية وكان يمد عند حروف المد فيمد الرحمن ويمد الرحيم وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته فيقول " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وربما كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه وكان تعوذه قبل القراءة .

وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره وأمر عبد الله بن مسعود فقرأ عليه وهو يسمع . وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه .

وكان يقرأ القرآن قائما وقاعدا ومضطجعا ومتوضئا ومحدثا ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة .

وكان صلى الله عليه وسلم يتغنى به ويرجع صوته به أحيانا كما رجع يوم الفتح في قراءته إنا فتحنا لك فتحا مبينا وحكى عبد الله بن مغفل ترجيعه آ آ آ ثلاث مرات ذكره البخاري .

وإذا جمعت هذه الأحاديث إلى قوله زينوا القرآن بأصواتكم وقوله ليس منا من لم يتغن بالقرآن وقوله ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن علمت أن هذا الترجيع منه صلى الله عليه وسلم كان اختيارا لا اضطرارا لهز الناقة له فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلا تحت الاختيار فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه ويفعله اختيارا ليؤتسى به وهو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته ثم يقول كان يرجع في قراءته فنسب الترجيع إلى فعله . ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا .

وقد استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري فلما أخبره بذلك قال لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا أي حسنته وزينته بصوتي تزيينا وروى أبو داود في " سننه " عن عبد الجبار بن الورد قال سمعت ابن أبي مليكة يقول قال عبد الله بن أبي يزيد : مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فإذا رجل رث الهيئة فسمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس منا من لم يتغن بالقرآن . قال فقلت لابن أبي مليكة يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال يحسنه ما استطاع
يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 01:29 AM
[ اختلاف الناس في معنى التغني بالقرآن ]
قلت : لا بد من كشف هذه المسألة وذكر اختلاف الناس فيها واحتجاج كل فريق وما لهم وعليهم في احتجاجهم وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته فقالت طائفة تكره قراءة الألحان وممن نص على ذلك أحمد ومالك وغيرهما فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان ما تعجبني وهو محدث . وقال في رواية المروزي : القراءة بالألحان بدعة لا تسمع وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب : قراءة الألحان بدعة وقال في رواية ابنه عبد الله ويوسف بن موسى ويعقوب بن بختان والأثرم وإبراهيم بن الحارث : القراءة بالألحان لا تعجبني إلا أن يكون ذلك حزنا فيقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى وقال في رواية صالح زينوا القرآن بأصواتكم معناه أن يحسنه وقال في رواية المروزي : ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن وفي رواية قوله ليس منا من لم يتغن بالقرآن فقال كان ابن عيينة يقول يستغني به . وقال الشافعي : يرفع صوته وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان وأنكر الأحاديث التي يحتج بها في الرخصة في الألحان .

وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال لا تعجبني وقال إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم وممن رويت عنه الكراهة أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي . وقال عبد الله بن يزيد العكبري : سمعت رجلا يسأل أحمد ما تقول في القراءة بالألحان ؟ فقال ما اسمك ؟ قال محمد قال أيسرك أن يقال لك : يا موحمد ممدودا قال القاضي أبو يعلى : هذه مبالغة في الكراهة . وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي : أوصى إلي رجل بوصية وكان فيما خلف جارية تقرأ بالألحان وكانت أكثر تركته أو عامتها فسألت أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين وأبا عبيد كيف أبيعها ؟ فقالوا : بعها ساذجة فأخبرتهم بما في بيعها من النقصان فقالوا : بعها ساذجة قال القاضي : وإنما قالوا ذلك لأن سماع ذلك منها مكروه فلا يجوز أن يعاوض عليه كالغناء .

قال ابن بطال : وقالت طائفة التغني بالقرآن هو تحسين الصوت به والترجيع بقراءته قال والتغني بما شاء من الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك والنضر بن شميل قال وممن أجاز الألحان في القرآن ذكر الطبري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى ويتلاحن وقال من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتا بالقرآن فقال له عمر : اعرض علي سورة كذا فعرض عليه فبكى عمر وقال ما كنت أظن أنها نزلت قال وأجازه ابن عباس وابن مسعود وروي عن عطاء بن أبي رباح قال وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد يتتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان . وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان . وقال محمد بن عبد الحكم : رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان وهذا اختيار ابن جرير الطبري .

قال المجوزون - واللفظ لابن جرير - الدليل على أن معنى الحديث تحسين الصوت والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع قراءته كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه - ما روى سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن ومعقول عند ذوي الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به . وروي في هذا الحديث ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به قال الطبري : وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا قال ولو كان كما قال ابن عيينة يعني : يستغني به عن غيره لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع قال الشاعر

تغن بالشعر إما كنت قائله

إن الغناء لهذا الشعر مضمار


قال وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم بكلام العرب .

وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى :

وكنت امرءا زمنا بالعراق

عفيف المناخ طويل التغن


وزعم أنه أراد بقوله طويل التغني : طويل الاستغناء فإنه غلط منه وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع الإقامة من قول العرب : غنى فلان بمكان كذا : إذا أقام به ومنه قوله تعالى : كأن لم يغنوا فيها [ الأعراف 92 ] واستشهاده بقول الآخر

كلانا غني عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشد تغانيا


فإنه إغفال منه وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنى : إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه كما يقال تضارب الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه وتشاتما وتقاتلا . ومن قال هذا في فعل اثنين لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد فيقول تغانى زيد وتضارب عمرو وذلك غير جائز أن يقول تغنى زيد بمعنى استغنى إلا أن يريد به قائله إنه أظهر الاستغناء وهو غير مستغن كما يقال تجلد فلان إذا أظهر جلدا من نفسه وهو غير جليد وتشجع وتكرم فإن وجه موجه التغني بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده من مفهوم كلام العرب كانت المصيبة في خطئه في ذلك أعظم لأنه يوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذكره لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن وإنما أذن له أن يظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال وهذا لا يخفى فساده . قال ومما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضا أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة وإن كان كذاك فهو غلط من وجهين أحدهما : من اللغة والثاني : من إحالة المعنى عن وجهه . أما اللغة فإن الأذن مصدر قوله أذن فلان لكلام فلان فهو يأذن له إذا استمع له وأنصت كما قال تعالى : وأذنت لربها وحقت [ الانشقاق 2 ] بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك كما قال عدي بن زيد :

إن همي في سماع وأذن


بمعنى في سماع واستماع . فمعنى قوله ما أذن الله لشيء إنما هو ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن . وأما الإحالة في المعنى فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له انتهى كلام الطبري


قال أبو الحسن بن بطال : وقد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضا بما رواه ابن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب قال حدثني موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل قال وذكر عمر بن شبة قال ذكر لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله يتغنى بالقرآن يستغني به فقال لم يصنع ابن عيينة شيئا حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال كانت ل داود نبي الله صلى الله عليه وسلم معزفة يتغنى عليها يبكي ويبكي . وقال ابن عباس : إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا تكون فيهن ويقرأ قراءة يطرب منها الجموع .

وسئل الشافعي رحمه الله عن تأويل ابن عيينة فقال نحن أعلم بهذا لو أراد به الاستغناء لقال " من لم يستغن بالقرآن " ولكن لما قال يتغنى بالقرآن علمنا أنه أراد به التغني .

قالوا : ولأن تزيينه وتحسين الصوت به والتطريب بقراءته أوقع في النفوس وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع ومعانيه إلى القلوب وذلك عون على المقصود وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء وبمنزلة الأفاويه والطيب الذي يجعل في الطعام لتكون الطبيعة أدعى له قبولا وبمنزلة الطيب والتحلي وتجمل المرأة لبعلها ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح . قالوا : ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه وكما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد والتوكل وعن السفاح بالنكاح وعن القمار بالمراهنة بالنصال وسباق الخيل وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني ونظائره كثيرة جدا .

قالوا : والمحرم لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة أو خالصة وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئا من ذلك فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه ولا تحول بين السامع وبين فهمه ولو كانت متضمنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها لأخرجت الكلمة عن موضعها وحالت بين السامع وبين فهمها ولم يدر ما معناها والواقع بخلاف ذلك .

قالوا : وهذا التطريب والتلحين أمر راجع إلى كيفية الأداء وتارة يكون سليقة وطبيعة وتارة يكون تكلفا وتعملا وكيفيات الأداء لا تخرج الكلام عن وضع مفرداته بل هي صفات لصوت المؤدي جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وإمالته وجارية مجرى مدود القراء الطويلة والمتوسطة لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف وكيفيات الألحان والتطريب متعلقة بالأصوات والآثار في هذه الكيفيات لا يمكن نقلها بخلاف كيفيات أداء الحروف فلهذا نقلت تلك بألفاظها ولم يمكن نقل هذه بألفاظها بل نقل منها ما أمكن نقله كترجيع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح بقوله " آ آ آ " . قالوا : والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين مد وترجيع وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد " الرحمن " ويمد " الرحيم " وثبت عنه الترجيع كما تقدم .

قال المانعون من ذلك الحجة لنا من وجوه . أحدها : ما رواه حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم رواه أبو الحسن رزين في " تجريد الصحاح " ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " . واحتج به القاضي أبو يعلى في " الجامع " واحتج معه بحديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم ذكر شرائط الساعة وذكر أشياء منها : أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء

قالوا : وقد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء فقيل له اقرأ فرفع صوته وطرب وكان رفيع الصوت فكشف أنس عن وجهه وكان على وجهه خرقة سوداء وقال يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه

قالوا : وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب كما روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن رواه الدارقطني .

وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المد ليس فيها ترجيع . قالوا : والترجيع والتطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود وترجيع الألف الواحد ألفات والواو واوات والياء ياءات فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن وذلك غير جائز قالوا : ولا حد لما يجوز من ذلك وما لا يجوز منه فإن حد بحد معين كان تحكما في كتاب الله تعالى ودينه وإن لم يحد بحد أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات وكثرة الترجيعات والتنويع في أصناف الإيقاعات والألحان المشبهة للغناء كما يفعل أهل الغناء بالأبيات وكما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز ويفعله كثير من قراء الأصوات مما يتضمن تغيير كتاب الله والغناء به على نحو ألحان الشعر والغناء ويوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء اجتراء على الله وكتابه وتلاعبا بالقرآن وركونا إلى تزيين الشيطان ولا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام ومعلوم أن التطريب والتلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريبا فالمنع منه كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام فهذا نهاية إقدام الفريقين ومنتهى احتجاج الطائفتين .

وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين أحدهما : ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فيه فهو مطبوع لا متطبع وكلف لا متكلف فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه وهو التغني الممدوح المحمود وهو الذي يتأثر به التالي والسامع وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها .

الوجه الثاني : ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب ويحسنون أصواتهم بالقرآن ويقرءونه بشجى تارة وبطرب تارة وبشوق تارة وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له بل أرشد إليه وندب إليه وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به وقال ليس منا من لم يتغن بالقرآن وفيه وجهان أحدهما : أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله والثاني : أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته صلى الله عليه وسلم .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في عيادة المرضى
كان صلى الله عليه وسلم يعود من مرض من أصحابه وعاد غلاما كان يخدمه من أهل الكتاب وعاد عمه وهو مشرك وعرض عليهما الإسلام فأسلم اليهودي ولم يسلم عمه .

وكان يدنو من المريض ويجلس عند رأسه ويسأله عن حاله فيقول كيف تجدك ؟

وذكر أنه كان يسأل المريض عما يشتهيه فيقول هل تشتهي شيئا ؟ فإن اشتهى شيئا وعلم أنه لا يضره أمر له به .

وكان يمسح بيده اليمنى على المريض ويقول اللهم رب الناس أذهب البأس واشفه أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما

وكان يقول امسح البأس رب الناس بيدك الشفاء لا كاشف له إلا أنت وكان يدعو للمريض ثلاثا كما قاله لسعد : اللهم اشف سعدا اللهم اشف سعدا اللهم اشف سعدا

وكان إذا دخل على المريض يقول له لا بأس طهور إن شاء الله

[ الرقية والاسترقاء ]
وربما كان يقول كفارة وطهور وكان يرقي من به قرحة أو جرح أو شكوى فيضع سبابته بالأرض ثم يرفعها ويقول بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا هذا في " الصحيحين " وهو يبطل اللفظة التي جاءت في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب وأنهم لا يرقون ولا يسترقون . فقوله في الحديث " لا يرقون " غلط من الراوي سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول ذلك . قال وإنما الحديث " هم الذين لا يسترقون " . قلت : وذلك لأن هؤلاء دخلوا الجنة بغير حساب لكمال توحيدهم ولهذا نفى عنهم الاسترقاء وهو سؤال الناس أن يرقوهم . ولهذا قال وعلى ربهم يتوكلون فلكمال توكلهم على ربهم وسكونهم إليه وثقتهم به ورضاهم عنه وإنزال حوائجهم به لا يسألون الناس شيئا لا رقية ولا غيرها ولا يحصل لهم طيرة تصدهم عما يقصدونه فإن الطيرة تنقص التوحيد وتضعفه .

قال والراقي متصدق محسن والمسترقي سائل والنبي صلى الله عليه وسلم رقى ولم يسترق وقال من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه

فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذي في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ قل هو الله أحد و قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس ويمسح بهما ما استطاع من جسده ويبدأ بهما على رأسه ووجهه ما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات قالت عائشة : فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرني أن أفعل ذلك به

فالجواب أن هذا الحديث قد روي بثلاثة ألفاظ . أحدها : هذا .
والثاني : أنه كان ينفث على نفسه .
والثالث قالت كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها وفي لفظ رابع كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث وهذه الألفاظ يفسر بعضها بعضا . وكان صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه وضعفه ووجعه يمنعه من إمرار يده على جسده كله . فكان يأمر عائشة أن تمر يده على جسده بعد نفثه هو وليس ذلك من الاسترقاء في شيء وهي لم تقل كان يأمرني أن أرقيه وإنما ذكرت المسح بيده بعد النفث على جسده ثم قالت كان يأمرني أن أفعل ذلك به أي أن أمسح جسده بيده كما كان هو يفعل .

ولم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام أن يخص يوما من الأيام بعيادة المريض ولا وقتا من الأوقات بل شرع لأمته عيادة المرضى ليلا ونهارا وفي سائر الأوقات . وفي " المسند " عنه إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرفة الجنة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وفي لفظ ما من مسلم يعود مسلما إلا بعث الله له سبعين ألف ملك يصلون عليه أي ساعة من النهار كانت حتى يمسي وأي ساعة من الليل كانت حتى يصبح

وكان يعود من الرمد وغيره وكان أحيانا يضع يده على جبهة المريض ثم يمسح صدره وبطنه ويقول اللهم اشفه وكان يمسح وجهه أيضا . وكان إذا يئس من المريض قال إنا لله وإنا إليه راجعون

افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز والصلاة عليها واتباعها ودفنها
وما كان يدعو به للميت في صلاة الجنازة وبعد الدفن وتوابع ذلك

كان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي مخالفا لهدي سائر الأمم مشتملا على الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه وعلى إقامة عبودية الحي لله وحده فيما يعامل به الميت . وكان من هديه في الجنائز إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال والإحسان إلى الميت وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفا يحمدون الله ويستغفرون له ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه حفرته ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه ثم يتعاهده بالزيارة له في قبره والسلام عليه والدعاء له كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا .

فأول ذلك تعاهده في مرضه وتذكيره الآخرة وأمره بالوصية والتوبة وأمر من حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه ثم النهي عن عادة الأمم التي لا تؤمن بالبعث والنشور من لطم الخدود وشق الثياب وحلق الرءوس ورفع الصوت بالندب والنياحة وتوابع ذلك .

وسن الخشوع للميت والبكاء الذي لا صوت معه وحزن القلب وكان يفعل ذلك ويقول تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب

وسن لأمته الحمد والاسترجاع والرضى عن الله ولم يكن ذلك منافيا لدمع العين وحزن القلب ولذلك كان أرضى الخلق عن الله في قضائه وأعظمهم له حمدا وبكى مع ذلك يوم موت ابنه إبراهيم رأفة منه ورحمة للولد ورقة عليه والقلب ممتلئ بالرضى عن الله عز وجل وشكره واللسان مشتغل بذكره وحمده .

ولما ضاق هذا المشهد والجمع بين الأمرين على بعض العارفين يوم مات ولده جعل يضحك فقيل له أتضحك في هذه الحالة ؟ قال إن الله تعالى قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه فأشكل هذا على جماعة من أهل العلم فقالوا : كيف يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم وهو أرضى الخلق عن الله ويبلغ الرضى بهذا العارف إلى أن يضحك فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هدي نبينا صلى الله عليه وسلم كان أكمل من هدي هذا العارف فإنه أعطى العبودية حقها فاتسع قلبه للرضى عن الله ولرحمة الولد والرقة عليه فحمد الله ورضي عنه في قضائه وبكى رحمة ورأفة فحملته الرأفة على البكاء وعبوديته لله ومحبته له على الرضى والحمد وهذا العارف ضاق قلبه عن اجتماع الأمرين ولم يتسع باطنه لشهودهما والقيام بهما فشغلته عبودية الرضى عن عبودية الرحمة والرأفة








[ الإسراع بتجهيز الميت ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الإسراع بتجهيز الميت إلى الله وتطهيره وتنظيفه وتطييبه وتكفينه في الثياب البيض ثم يؤتى به إليه فيصلي عليه بعد أن كان يدعى إلى الميت عند احتضاره فيقيم عنده حتى يقضي ثم يحضر تجهيزه ثم يصلي عليه ويشيعه إلى قبره ثم رأى الصحابة أن ذلك يشق عليه فكانوا إذا قضى الميت دعوه فحضر تجهيزه وغسله وتكفينه . ثم رأوا أن ذلك يشق عليه فكانوا هم يجهزون ميتهم ويحملونه إليه صلى الله عليه وسلم على سريره فيصلي عليه خارج المسجد .




[ حكم الصلاة على الميت في المسجد ]
ولم يكن من هديه الراتب الصلاة عليه في المسجد وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد وربما كان يصلي أحيانا على الميت في المسجد كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد ولكن لم يكن ذلك سنته وعادته وقد روى أبو داود في " سننه " من حديث صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له وقد اختلف في لفظ الحديث فقال الخطيب في روايته لكتاب السنن في الأصل " فلا شيء عليه " وغيره يرويه فلا شيء له وقد رواه ابن ماجه في " سننه " ولفظه فليس له شيء ولكن قد ضعف الإمام أحمد وغيره هذا الحديث قال الإمام أحمد : هو مما تفرد به صالح مولى التوأمة وقال البيهقي : هذا حديث يعد في أفراد صالح وحديث عائشة أصح منه وصالح مختلف في عدالته كان مالك يجرحه ثم ذكر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنه صلى عليهما في المسجد .

قلت : وصالح ثقة في نفسه كما قال عباس الدوري عن ابن معين : هو ثقة في نفسه . وقال ابن أبي مريم ويحيى : ثقة حجة فقلت له إن مالكا تركه فقال إن مالكا أدركه بعد أن خرف والثوري إنما أدركه بعد أن خرف فسمع منه لكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف . وقال علي بن المديني : هو ثقة إلا أنه خرف وكبر فسمع منه الثوري بعد الخرف وسماع ابن أبي ذئب منه قبل ذلك . وقال ابن حبان : تغير في سنة خمس وعشرين ومائة وجعل يأتي بما يشبه الموضوعات عن الثقات فاختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز فاستحق الترك انتهى كلامه .

وهذا الحديث حسن فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وسماعه منه قديم قبل اختلاطه فلا يكون اختلاطه موجبا لرد ما حدث به قبل الاختلاط . وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة هذا وحديث عائشة مسلكا آخر فقال صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة وترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة وما كانوا ليفعلوه إلا لما علموا خلاف ما نقلت . ورد ذلك على الطحاوي جماعة منهم البيهقي وغيره . قال البيهقي : ولو كان عند أبي هريرة نسخ ما روته عائشة لذكره يوم صلي على أبي بكر الصديق في المسجد ويوم صلي على عمر بن الخطاب في المسجد ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز فلما روت فيه الخبر سكتوا ولم ينكروه ولا عارضوه بغيره .

قال الخطابي : وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلى عليهما في المسجد ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما وفي تركهم الإنكار الدليل على جوازه قال ويحتمل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت متأولا على نقصان الأجر وذلك أن من صلى عليها في المسجد فالغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه وأن من سعى إلى الجنازة فصلى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه وأحرز أجر القيراطين وقد يؤجر أيضا على كثرة خطاه وصار الذي يصلي عليه في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من يصلي عليه خارج المسجد .

وتأولت طائفة معنى قوله فلا شيء له أي فلا شيء عليه ليتحد معنى اللفظين ولا يتناقضان كما قال تعالى : وإن أسأتم فلها [ الإسراء 7 ] أي فعليها فهذه طرق الناس في هذين الحديثين .

والصواب ما ذكرناه أولا وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر وكلا الأمرين جائز والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد . والله أعلم



وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تسجية الميت إذا مات وتغميض عينيه وتغطية وجهه وبدنه

وكان ربما يقبل الميت كما قبل عثمان بن مظعون وبكى وكذلك الصديق أكب عليه فقبله بعد موته صلى الله عليه وسلم وكان يأمر بغسل الميت ثلاثا أو خمسا أو أكثر بحسب ما يراه الغاسل ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة وكان لا يغسل الشهداء قتلى المعركة وذكر الإمام أحمد أنه نهى عن تغسيلهم وكان ينزع عنهم الجلود والحديد ويدفنهم في ثيابهم ولم يصل عليهم .

وكان إذا مات المحرم أمر أن يغسل بماء وسدر ويكفن في ثوبيه وهما ثوبا حرامه إزاره ورداؤه وينهى عن تطييبه وتغطية رأسه وكان يأمر من ولي الميت أن يحسن كفنه ويكفنه في البياض وينهى عن المغالاة في الكفن وكان إذا قصر الكفن عن ستر جميع البدن غطى رأسه وجعل على رجليه من العشب
يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 01:58 AM
افتراضي

فصل [ لم يكن يصلي على المدين ]
وكان إذا قدم إليه ميت يصلي عليه سأل هل عليه دين أم لا ؟ فإن لم يكن عليه دين صلى عليه وإن كان عليه دين لم يصل عليه وأذن لأصحابه أن يصلوا عليه فإن صلاته شفاعة وشفاعته موجبة والعبد مرتهن بدينه ولا يدخل الجنة حتى يقضى عنه فلما فتح الله عليه كان يصلي على المدين ويتحمل دينه ويدع ماله لورثته .

فإذا أخذ في الصلاة عليه كبر وحمد الله وأثنى عليه وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب جهرا وقال لتعلموا أنها سنة وكذلك قال أبو أمامة بن سهل : إن قراءة الفاتحة في الأولى سنة

ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب . ولا يصح إسناده . قال شيخنا : لا تجب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة بل هي سنة وذكر أبو أمامة بن سهل عن جماعة من الصحابة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة .

وروى يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه سأل عبادة بن الصامت عن الصلاة على الجنازة فقال أنا والله أخبرك : تبدأ فتكبر ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتقول اللهم إن عبدك فلانا كان لا يشرك بك وأنت أعلم به إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده



فصل [ الدعاء للميت في الصلاة عليه ]
ومقصود الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت لذلك حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقل عنه ما لم ينقل من قراءة الفاتحة والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم . فحفظ من دعائه اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار

وحفظ من دعائه اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده

وحفظ من دعائه اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر ومن عذاب النار فأنت أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم

وحفظ من دعائه أيضا : اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت رزقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وتعلم سرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر لها

[ التكبير في الصلاة على الجنازة ]

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإخلاص الدعاء للميت وكان يكبر أربع تكبيرات وصح عنه أنه كبر خمسا وكان الصحابة بعده يكبرون أربعا وخمسا وستا فكبر زيد بن أرقم خمسا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبرها ذكره مسلم .

وكبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على سهل بن حنيف ستا وكان يكبر على أهل بدر ستا وعلى غيرهم من الصحابة خمسا وعلى سائر الناس أربعا ذكره الدارقطني .

وذكر سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة أنه قال كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا . وهذه آثار صحيحة فلا موجب للمنع منها والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع مما زاد على الأربع بل فعله هو وأصحابه من بعده .

والذين منعوا من الزيادة على الأربع منهم من احتج بحديث ابن عباس أن آخر جنازة صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم كبر أربعا . قالوا : وهذا آخر الأمرين وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم هذا . وهذا الحديث قد قال الخلال في " العلل " : أخبرني حرب قال سئل الإمام أحمد عن حديث أبي المليح عن ميمون عن ابن عباس فذكر الحديث . فقال أحمد هذا كذب ليس له أصل إنما رواه محمد بن زياد الطحان وكان يضع الحديث .

واحتجوا بأن ميمون بن مهران روى عن ابن عباس أن الملائكة لما صلت على آدم عليه الصلاة والسلام كبرت عليه أربعا وقالوا : تلك سنتكم يا بني آدم وهذا الحديث قد قال في الأثرم : جرى ذكر محمد بن معاوية النيسابوري الذي كان بمكة فسمعت أبا عبد الله قال رأيت أحاديثه موضوعة فذكر منها عن أبي المليح عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أن الملائكة لما صلت على آدم كبرت عليه أربعا واستعظمه أبو عبد الله وقال أبو المليح كان أصح حديثا وأتقى لله من أن يروي مثل هذا .

واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث يحيى عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لما صلت على آدم فكبرت عليه أربعا وقالت هذه سنتكم يا بني آدم وهذا لا يصح . وقد روي مرفوعا وموقوفا . وكان أصحاب معاذ يكبرون خمسا قال علقمة قلت لعبد الله إن ناسا من أصحاب معاذ قدموا من الشام فكبروا على ميت لهم خمسا فقال عبد الله ليس على الميت في التكبير وقت كبر ما كبر الإمام فإذا انصرف الإمام فانصرف



فصل [ التسليم من صلاة الجنازة ]
وأما هديه صلى الله عليه وسلم في التسليم من صلاة الجنازة فروي عنه أنه كان يسلم واحدة . وروي عنه أنه كان يسلم تسليمتين . فروى البيهقي وغيره من حديث المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر أربعا وسلم تسليمة واحدة

لكن قال الإمام أحمد في رواية الأثرم : هذا الحديث عندي موضوع ذكره الخلال في " العلل " . وقال إبراهيم الهجري حدثنا عبد الله بن أبي أوفى : أنه صلى على جنازة ابنته فكبر أربعا فمكث ساعة حتى ظننا أنه يكبر خمسا ثم سلم عن يمينه وعن شماله فلما انصرف قلنا له ما هذا ؟ فقال إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع أو هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن مسعود : ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن تركهن الناس إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة ذكرهما البيهقي . ولكن إبراهيم بن مسلم العبدي الهجري ضعفه يحيى بن معين والنسائي وأبو حاتم وحديثه هذا قد رواه الشافعي في كتاب حرملة عن سفيان عنه وقال كبر عليها أربعا ثم قام ساعة فسبح به القوم فسلم ثم قال كنتم ترون أن أزيد على أربع وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أربعا ولم يقل ثم سلم عن يمينه وشماله . ورواه ابن ماجه من حديث المحاربي عنه كذلك ولم يقل ثم سلم عن يمينه وشماله . وذكر السلام عن يمينه وعن شماله انفرد بها شريك عنه .

قال البيهقي : ثم عزاه للنبي صلى الله عليه وسلم في التكبير فقط أو في التكبير وغيره . قلت : والمعروف عن ابن أبي أوفى خلاف ذلك أنه كان يسلم واحدة ذكره الإمام أحمد عنه . قال أحمد بن القاسم قيل لأبي عبد الله أتعرف عن أحد من الصحابة أنه كان يسلم على الجنازة تسليمتين ؟ قال لا ولكن عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفيفة عن يمينه فذكر ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وواثلة بن الأسقع وابن أبي أوفى وزيد بن ثابت . وزاد البيهقي : علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وأبا أمامة بن سهل بن حنيف فهؤلاء عشرة من الصحابة وأبو أمامة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسماه باسم جده لأمه أبي أمامة أسعد بن زرارة وهو معدود في الصحابة ومن كبار التابعين



[ رفع اليدين في صلاة الجنازة ]
وأما رفع اليدين فقال الشافعي : ترفع للأثر والقياس على السنة في الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في كل تكبيرة كبرها في الصلاة وهو قائم قلت : يريد بالأثر ما رواه عن ابن عمر وأنس بن مالك أنهما كانا يرفعان أيديهما كلما كبرا على الجنازة ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في أول التكبير ويضع اليمنى على اليسرى ذكره البيهقي في السنن .

[ وضع اليمين على الشمال في صلاة الجنازة ]

وفي الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على يده اليسرى في صلاة الجنازة وهو ضعيف بيزيد بن سنان الرهاوي .



[ الصلاة على القبر ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر فصلى مرة على قبر بعد ليلة ومرة بعد ثلاث ومرة بعد شهر ولم يوقت في ذلك وقتا .

قال أحمد رحمه الله من يشك في الصلاة على القبر ؟ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الجنازة صلى على القبر من ستة أوجه كلها حسان فحد الإمام أحمد الصلاة على القبر بشهر إذ هو أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعده وحده الشافعي رحمه الله بما إذا لم يبل الميت ومنع منها مالك و أبو حنيفة رحمهما الله إلا للولي إذا كان غائبا .



فصل [ الصلاة على الطفل ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الطفل فصح عنه أنه قال الطفل يصلى عليه وفي " سنن ابن ماجه " مرفوعا صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم

قال أحمد بن أبي عبدة : سألت أحمد : متى يجب أن يصلى على السقط ؟ قال إذا أتى عليه أربعة أشهر لأنه ينفخ فيه الروح .

قلت فحديث المغيرة بن شعبة الطفل يصلى عليه ؟ قال صحيح مرفوع قلت ليس في هذا بيان الأربعة الأشهر ولا غيرها ؟ قال قد قاله سعيد بن المسيب .

فإن قيل فهل صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم يوم مات ؟ قيل قد اختلف في ذلك فروى أبو داود في " سننه " عن عائشة رضي الله عنها قالت مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة . . . فذكره .

وقال أحمد في رواية حنبل هذا حديث منكر جدا ووهى ابن إسحاق . وقال الخلال وقرئ على عبد الله حدثني أبي حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل قال حدثنا جابر الجعفي عن عامر عن البراء بن عازب قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ومات وهو ابن ستة عشر شهرا

وذكر أبو داود عن البهي قال لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقاعد وهو مرسل والبهي اسمه عبد الله بن يسار كوفي .

وذكر عن عطاء بن أبي رباح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم وهو ابن سبعين ليلة . وهذا مرسل وهم فيه عطاء فإنه قد كان تجاوز السنة .

فاختلف الناس في هذه الآثار فمنهم من أثبت الصلاة عليه ومنع صحة حديث عائشة كما قال الإمام أحمد وغيره قالوا : وهذه المراسيل مع حديث البراء يشد بعضها بعضا ومنهم من ضعف حديث البراء بجابر الجعفي وضعف هذه المراسيل وقال حديث ابن إسحاق أصح منها .

ثم اختلف هؤلاء في السبب الذي لأجله لم يصل عليه فقالت طائفة استغنى ببنوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قربة الصلاة التي هي شفاعة له كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه .

وقالت طائفة أخرى : إنه مات يوم كسفت الشمس فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه .

وقالت طائفة لا تعارض بين هذه الآثار فإنه أمر بالصلاة عليه فقيل صلي عليه ولم يباشرها بنفسه لاشتغاله بصلاة الكسوف وقيل لم يصل عليه وقالت فرقة رواية المثبت أولى لأن معه زيادة علم وإذا تعارض النفي والإثبات قدم الإثبات



فصل [ الصلاة على المنتحر والغال والمقتول حدا ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلي على من قتل نفسه ولا على من غل من الغنيمة .

واختلف عنه في الصلاة على المقتول حدا كالزاني المرجوم فصح عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية التي رجمها فقال عمر تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ فقال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى ذكره مسلم .

وذكر البخاري في " صحيحه " قصة ماعز بن مالك وقال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا وصلى عليه وقد اختلف على الزهري في ذكر الصلاة عليه فأثبتها محمود بن غيلان عن عبد الرزاق عنه وخالفه ثمانية من أصحاب عبد الرزاق فلم يذكروها وهم إسحاق بن راهويه ومحمد بن يحيى الذهلي ونوح بن حبيب والحسن بن علي ومحمد بن المتوكل وحميد بن زنجويه وأحمد بن منصور الرمادي .

قال البيهقي : وقول محمود بن غيلان : إنه صلى عليه خطأ لإجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه . وقد اختلف في قصة ماعز بن مالك فقال أبو سعيد الخدري : ما استغفر له ولا سبه وقال بريدة بن الحصيب إنه قال استغفروا لماعز بن مالك فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك . ذكرهما مسلم .

وقال جابر : فصلى عليه ذكره البخاري وهو حديث عبد الرزاق المعلل وقال أبو برزة الأسلمي : لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينه عن الصلاة عليه ذكره أبو داود .

قلت حديث الغامدية لم يختلف فيه أنه صلى عليها وحديث ماعز إما أن يقال لا تعارض بين ألفاظه فإن الصلاة فيه هي دعاؤه له بأن يغفر الله له وترك الصلاة فيه هي تركه الصلاة على جنازته تأديبا وتحذيرا وإما أن يقال إذا تعارضت ألفاظه عدل عنه إلى حديث الغامدية



فصل [ أبحاث المشي أمام الجنازة والإسراع بها ]
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى على ميت تبعه إلى المقابر ماشيا أمامه . وهذه كانت سنة خلفائه الراشدين من بعده وسن لمن تبعها إن كان راكبا أن يكون وراءها وإن كان ماشيا أن يكون قريبا منها إما خلفها أو أمامها أو عن يمينها أو عن شمالها . وكان يأمر بالإسراع بها حتى إن كانوا ليرملون بها رملا وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة مكروهة مخالفة للسنة ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب اليهود .

وكان أبو بكرة يرفع السوط على من يفعل ذلك ويقول لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمل رملا قال ابن مسعود رضي الله عنه سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال ما دون الخبب رواه أهل السنن وكان يمشي إذا تبع الجنازة ويقول لم أكن لأركب والملائكة يمشون فإذا انصرف عنها فربما مشى وربما ركب .

وكان إذا تبعها لم يجلس حتى توضع وقال إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والمراد وضعها بالأرض .

قلت : قال أبو داود روى هذا الحديث الثوري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة . قال وفيه " حتى توضع بالأرض " ورواه أبو معاوية عن سهيل وقال " حتى توضع في اللحد " . قال وسفيان أحفظ من أبي معاوية وقد روى أبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد لكن في إسناده بشر بن رافع قال الترمذي : ليس بالقوي في الحديث وقال البخاري : لا يتابع على حديثه وقال أحمد : ضعيف وقال ابن معين : حدث بمناكير وقال النسائي : ليس بالقوي وقال ابن حبان : يروي أشياء موضوعة كأنه المتعمد لها .



فصل [ الصلاة على الغائب ]
ولم يكن من هديه وسنته صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل ميت غائب . فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غيب فلم يصل عليهم وصح عنه أنه صلى على النجاشي صلاته على الميت فاختلف الناس في ذلك على ثلاثة طرق أحدها : أن هذا تشريع منه وسنة للأمة الصلاة على كل غائب وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه وقال أبو حنيفة ومالك : هذا خاص به وليس ذلك لغيره قال أصحابهما : ومن الجائز أن يكون رفع له سريره فصلى عليه وهو يرى صلاته على الحاضر المشاهد وإن كان على مسافة من البعد والصحابة وإن لم يروه فهم تابعون للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة .

قالوا : ويدل على هذا أنه لم ينقل عنه أنه كان يصلي على كل الغائبين غيره وتركه سنة كما أن فعله سنة ولا سبيل لأحد بعده إلى أن يعاين سرير الميت من المسافة البعيدة ويرفع له حتى يصلي عليه فعلم أن ذلك مخصوص به . وقد روي عنه أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو غائب ولكن لا يصح فإن في إسناده العلاء بن زيد ويقال ابن زيدل قال علي بن المديني : كان يضع الحديث ورواه محبوب بن هلال عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس . قال البخاري : لا يتابع عليه .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الصواب أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه صلي عليه صلاة الغائب كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه وإن صلي عليه حيث مات لم يصل عليه صلاة الغائب لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه والنبي صلى الله عليه وسلم صلى على الغائب وتركه وفعله وتركه سنة وهذا له موضع وهذا له موضع والله أعلم والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد وأصحها : هذا التفصيل والمشهور عند أصحابه الصلاة عليه مطلقا .




فصل [القيام للجنازة ]
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قام للجنازة لما مرت به وأمر بالقيام لها وصح عنه أنه قعد فاختلف في ذلك فقيل القيام منسوخ والقعود آخر الأمرين وقيل بل الأمران جائزان وفعله بيان للاستحباب وتركه بيان للجواز وهذا أولى من ادعاء النسخ .




فصل حكم الدفن وسنية اللحد
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ألا يدفن الميت عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا حين يقوم قائم الظهيرة .

وكان من هديه اللحد وتعميق القبر وتوسيعه من عند رأس الميت ورجليه ويذكر عنه أنه كان إذا وضع الميت في القبر قال بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله . وفي رواية بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله . ويذكر عنه أيضا أنه كان يحثو التراب على قبر الميت إذا دفن من قبل رأسه ثلاثا .

وكان إذا فرغ من دفن الميت قام على قبره هو وأصحابه وسأل له التثبيت وأمرهم أن يسألوا له التثبيت .

[ تلقين الميت ]

ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم وأما الحديث الذي رواه الطبراني في " معجمه " من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل يا فلان فإنه يسمعه ولا يجيب ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدا ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله

ولكن لا تشعرون ثم يقول اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول انطلق بنا ما نقعد عند من لقن حجته فيكون الله حجيجه دونهما . فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف أمه ؟ قال فينسبه إلى حواء : يا فلان بن حواء .

فهذا حديث لا يصح رفعه ولكن قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول يا فلان بن فلانة اذكر ما فارقت عليه الدنيا : شهادة أن لا إله إلا الله . فقال ما رأيت أحدا فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة جاء إنسان فقال ذلك وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه وكان ابن عياش يروي فيه . قلت : يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة . وقد ذكر سعيد بن منصور في " سننه " عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير قالوا : إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه فكانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره يا فلان قل لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام نبيي محمد


فصل [ لا تعلى القبور ولا تشيد ]
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تعلية القبور ولا بناؤها بآجر ولا بحجر ولبن ولا تشييدها ولا تطيينها ولا بناء القباب عليها فكل هذا بدعة مكروهة مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم .

وقد بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن ألا يدع تمثالا إلا طمسه ولا قبرا مشرفا إلا سواه فسنته صلى الله عليه وسلم تسوية هذه القبور المشرفة كلها ونهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه .

وكانت قبور أصحابه لا مشرفة ولا لاطئة وهكذا كان قبره الكريم وقبر صاحبيه فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء لا مبني ولا مطين وهكذا كان قبر صاحبيه .



فصل [ لا تتخذ القبور مساجد ]
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله

ونهى عن الصلاة إلى القبور ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا ولعن زورات القبور .

وكان هديه أن لا تهان القبور وتوطأ وألا يجلس عليها ويتكأ عليها ولا تعظم بحيث تتخذ مساجد فيصلى عندها وإليها وتتخذ أعيادا وأوثانا .




فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور
كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم وهذه هي الزيارة التي سنها لأمته وشرعها لهم وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية .

وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت من الدعاء والترحم والاستغفار . فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به والإقسام على الله به وسؤاله الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه بعكس هديه صلى الله عليه وسلم فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت وهم ثلاثة أقسام إما أن يدعوا الميت أو يدعوا به أو عنده ويرون الدعاء عنده أوجب وأولى من الدعاء في المساجد ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبين له الفرق بين الأمرين وبالله التوفيق



فصل [ حكم التعزية وعدم الاجتماع لها ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره وكل هذا بدعة حادثة مكروهة . وكان من هديه السكون والرضى بقضاء الله والحمد لله والاسترجاع ويبرأ ممن خرق لأجل المصيبة ثيابه أو رفع صوته بالندب والنياحة أو حلق لها شعره .

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يتكلفون الطعام للناس بل أمر أن يصنع الناس لهم طعاما يرسلونه إليهم وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم والحمل عن أهل الميت فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس .

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ترك نعي الميت بل كان ينهى عنه ويقول هو من عمل الجاهلية وقد كره حذيفة أن يعلم به أهله الناس إذا مات وقال أخاف أن يكون من النعي


فصل صلاة الخوف
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أن أباح الله سبحانه وتعالى قصر أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر وقصر العدد وحده إذا كان سفر لا خوف معه وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه وهذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم وبه تعلم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف .

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف إذا كان العدو بينه وبين القبلة أن يصف المسلمين كلهم خلفه ويكبر ويكبرون جميعا ثم يركع فيركعون جميعا ثم يرفع ويرفعون جميعا معه ثم ينحدر بالسجود والصف الذي يليه خاصة ويقوم الصف المؤخر مواجه العدو فإذا فرغ من الركعة الأولى ونهض إلى الثانية سجد الصف المؤخر بعد قيامه سجدتين ثم قاموا فتقدموا إلى مكان الصف الأول وتأخر الصف الأول مكانهم لتحصل فضيلة الصف الأول للطائفتين وليدرك الصف الثاني مع النبي صلى الله عليه وسلم السجدتين في الركعة الثانية كما أدرك الأول معه السجدتين في الأولى فتستوي الطائفتان فيما أدركوا معه وفيما قضوا لأنفسهم وذلك غاية العدل فإذا ركع صنع الطائفتان كما صنعوا أول مرة فإذا جلس للتشهد سجد الصف المؤخر سجدتين ولحقوه في التشهد فيسلم بهم جميعا .

وإن كان العدو في غير جهة القبلة فإنه كان تارة يجعلهم فرقتين فرقة بإزاء العدو وفرقة تصلي معه فتصلي معه إحدى الفرقتين ركعة ثم تنصرف في صلاتها إلى مكان الفرقة الأخرى وتجيء الأخرى إلى مكان هذه فتصلي معه الركعة الثانية ثم تسلم وتقضي كل طائفة ركعة ركعة بعد سلام الإمام .

وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ثم يقوم إلى الثانية وتقضي هي ركعة وهو واقف وتسلم قبل ركوعه وتأتي الطائفة الأخرى فتصلي معه الركعة الثانية فإذا جلس في التشهد قامت فقضت ركعة وهو ينتظرها في التشهد فإذا تشهدت يسلم بهم .

وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين فتسلم قبله وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعتين الأخيرتين ويسلم بهم فتكون له أربعا ولهم ركعتين ركعتين .

وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين ويسلم بهم وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعتين ويسلم فيكون قد صلى بهم بكل طائفة صلاة .

وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئا وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئا فيكون له ركعتان ولهم ركعة ركعة وهذه الأوجه كلها تجوز الصلاة بها . قال الإمام أحمد كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز .

وقال ستة أوجه أو سبعة تروى فيها كلها جائزة وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه أو تختار واحدا منها ؟ قال أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن .

وظاهر هذا أنه جوز أن تصلي كل طائفة معه ركعة ركعة ولا تقضي شيئا وهذا مذهب ابن عباس وجابر بن عبد الله وطاووس ومجاهد والحسن وقتادة والحكم وإسحاق بن راهويه .

قال صاحب " المغني " : وعموم كلام أحمد يقتضي جواز ذلك وأصحابنا ينكرونه . وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف صفات أخر ترجع كلها إلى هذه وهذه أصولها وربما اختلف بعض ألفاظها وقد ذكرها بعضهم عشر صفات وذكرها أبو محمد بن حزم نحو خمس عشرة صفة

والصحيح ما ذكرناه أولا وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجوها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة . والله أعلم .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والزكاة
هديه في الزكاة أكمل هدي في وقتها وقدرها ونصابها ومن تجب عليه ومصرفها . وقد راعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه وقيد النعمة بها على الأغنياء فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاته بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات ويجعلها سورا عليه وحصنا له وحارسا له .

[ الأصناف التي تجب فيها الزكاة ]
ثم إنه جعلها في أربعة أصناف من المال وهي أكثر الأموال دورانا بين الخلق وحاجتهم إليها ضرورية .

أحدها : الزرع والثمار .

الثاني : بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم .

الثالث الجوهران اللذان بهما قوام العالم وهما الذهب والفضة .

الرابع أموال التجارة على اختلاف أنواعها .

[ وقت وجوبها ]

ثم إنه أوجبها مرة كل عام وجعل حول الزروع والثمار عند كمالها واستوائها وهذا أعدل ما يكون إذ وجوبها كل شهر أو كل جمعة يضر بأرباب الأموال ووجوبها في العمر مرة مما يضر بالمساكين فلم يكن أعدل من وجوبها كل عام مرة .

[ نصاب الزكاة ]
ثم إنه فاوت بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها وسهولة ذلك ومشقته فأوجب الخمس فيما صادفه الإنسان مجموعا محصلا من الأموال وهو الركاز . ولم يعتبر له حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به .

وأوجب نصفه وهو العشر فيما كانت مشقة تحصيله وتعبه وكلفته فوق ذلك وذلك في الثمار والزروع التي يباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها ويتولى الله سقيها من عنده بلا كلفة من العبد ولا شراء ماء ولا إثارة بئر ودولاب .

وأوجب نصف العشر فيما تولى العبد سقيه بالكلفة والدوالي والنواضح وغيرها . وأوجب نصف ذلك وهو ربع العشر فيما كان النماء فيه موقوفا على عمل متصل من رب المال بالضرب في الأرض تارة وبالإدارة تارة وبالتربص تارة ولا ريب أن كلفة هذا أعظم من كلفة الزرع والثمار وأيضا فإن نمو الزرع والثمار أظهر وأكثر من نمو التجارة فكان واجبها أكثر من واجب التجارة وظهور النمو فيما يسقى بالسماء والأنهار أكثر مما يسقى بالدوالي والنواضح وظهوره فيما وجد محصلا مجموعا كالكنز أكثر وأظهر من الجميع .

ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساة كل مال وإن قل جعل للمال الذي تحتمله المواساة نصبا مقدرة المواساة فيها لا تجحف بأرباب الأموال وتقع موقعها من المساكين فجعل للورق مائتي درهم وللذهب عشرين مثقالا وللحبوب والثمار خمسة أوسق وهي خمسة أحمال من أحمال إبل العرب وللغنم أربعين شاة وللبقر ثلاثين بقرة وللإبل خمسا لكن لما كان نصابها لا يحتمل المواساة من جنسها أوجب فيها شاة . فإذا تكررت الخمس خمس مرات وصارت خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا منها فكان هو الواجب .

ثم إنه لما قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها من ابن مخاض وبنت مخاض وفوقه ابن لبون وبنت لبون وفوقه الحق والحقة وفوقه الجذع والجذعة وكلما كثرت الإبل زاد السن إلى أن يصل السن إلى منتهاه فحينئذ جعل زيادة عدد الواجب في مقابلة زيادة عدد المال .

[ أصناف من يأخذ الزكاة ]

فاقتضت حكمته أن جعل في الأموال قدرا يحتمل المواساة ولا يجحف بها ويكفي المساكين ولا يحتاجون معه إلى شيء ففرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء فوقع الظلم من الطائفتين الغني يمنع ما وجب عليه والآخذ يأخذ ما لا يستحقه فتولد من بين الطائفتين ضرر عظيم على المساكين وفاقة شديدة أوجبت لهم أنواع الحيل والإلحاف في المسألة والرب سبحانه تولى قسم الصدقة بنفسه وجزأها ثمانية أجزاء يجمعها صنفان من الناس
أحدهما : من يأخذ لحاجة فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها وكثرتها وقلتها وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل .
والثاني : من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون لإصلاح ذات البين والغزاة في سبيل الله فإن لم يكن الآخذ محتاجا ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له في الزكاة
يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 02:04 AM
فصل [ إعطاؤه من هو أهل للزكاة ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه وإن سأله أحد من أهل الزكاة ولم يعرف حاله أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب . وكان يأخذها من أهلها ويضعها في حقها .

[ تفريق الزكاة على المستحقين من أهل البلد ]

وكان من هديه تفريق الزكاة على المستحقين الذين في بلد المال وما فضل عنهم منها حملت إليه ففرقها هو صلى الله عليه وسلم ولذلك كان يبعث سعاته إلى البوادي ولم يكن يبعثهم إلى القرى بل أمر معاذ بن جبل أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ويعطيها فقراءهم ولم يأمره بحملها إليه .

[ بعث السعاة لجباية الزكاة ]
ولم يكن من هديه أن يبعث سعاته إلا إلى أهل الأموال الظاهرة من المواشي والزروع والثمار وكان يبعث الخارص فيخرص على أرباب النخيل تمر نخيلهم وينظر كم يجيء منه وسقا فيحسب عليهم من الزكاة بقدره وكان يأمر الخارص أن يدع لهم الثلث أو الربع فلا يخرصه عليهم لما يعرو النخيل من النوائب وكان هذا الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتصرم وليتصرف فيها أربابها بما شاءوا ويضمنوا قدر الزكاة ولذلك كان يبعث الخارص إلى من ساقاه من أهل خيبر وزارعه فيخرص عليهم الثمار والزروع ويضمنهم شطرها وكان يبعث إليهم عبد الله بن رواحة فأرادوا أن يرشوه فقال عبد الله تطعموني السحت ؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي لك وحبي إياه أن لا أعدل عليكم فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض

[ بعض الأصناف التي لا تجب فيها الزكاة ]
ولم يكن من هديه أخذ الزكاة من الخيل والرقيق ولا البغال ولا الحمير ولا الخضراوات ولا المباطخ والمقاثي والفواكه التي لا تكال ولا تدخر إلا العنب والرطب فإنه كان يأخذ الزكاة منه جملة ولم يفرق بين ما يبس منه وما لم ييبس



فصل [ زكاة العسل ]
واختلف عنه صلى الله عليه وسلم في العسل فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي واديا يقال له سلبة فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه سفيان بن وهب يسأله عن ذلك فكتب عمر إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء

وفي رواية في هذا الحديث من كل عشر قرب قربة

وروى ابن ماجه في " سننه " من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه أخذ من العسل العشر

- 12 - وفي " مسند الإمام أحمد " عن أبي سيارة المتعي قال قلت : يا رسول الله إن لي نحلا . قال أد العشر " قلت : يا رسول الله احمها لي فحماها لي

وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن محرر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر

قال الشافعي : أخبرنا أنس بن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم قلت يا رسول الله اجعل لقومي من أموالهم ما أسلموا عليه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعملني عليهم ثم استعملني أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما قال وكان سعد من أهل السراة قال فكلمت قومي في العسل فقلت لهم فيه زكاة فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى . فقالوا : كم ترى ؟ قلت العشر . فأخذت منهم العشر فلقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبرته بما كان . قال فقبضه عمر ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين ورواه الإمام أحمد ولفظه للشافعي .

[ من قال ليس في العسل الزكاة ]

واختلف أهل العلم في هذه الأحاديث وحكمها فقال البخاري : ليس في زكاة العسل شيء يصح وقال الترمذي : يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير شيء . وقال ابن المنذر : ليس في وجوب صدقة العسل حديث يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع فلا زكاة فيه وقال الشافعي : الحديث في أن في العسل العشر ضعيف وفي أنه لا يؤخذ منه العشر ضعيف إلا عن عمر بن عبد العزيز .

قال هؤلاء وأحاديث الوجوب كلها معلولة أما حديث ابن عمر فهو من رواية صدقة بن عبد الله بن موسى بن يسار عن نافع عنه وصدقة ضعفه الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما وقال البخاري : هو عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وقال النسائي : صدقة ليس بشيء وهذا حديث منكر .

وأما حديث أبي سيارة المتعي فهو من رواية سليمان بن موسى عنه قال البخاري : سليمان بن موسى لم يدرك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما حديث عمرو بن شعيب الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من العسل العشر ففيه أسامة بن زيد بن أسلم يرويه عن عمرو وهو ضعيف عندهم قال ابن معين : بنو زيد ثلاثتهم ليسوا بشيء وقال الترمذي : ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة .

وأما حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة : فما أظهر دلالته لو سلم من عبد الله بن محرر راويه عن الزهري قال البخاري في حديثه هذا : عبد الله بن محرر متروك الحديث وليس في زكاة العسل شيء يصح .

وأما حديث الشافعي رحمه الله فقال البيهقي : رواه الصلت بن محمد عن أنس بن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن ( هو ابن أبي ذباب عن منير بن عبد الله عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب وكذلك رواه صفوان بن عيسى عن الحارث بن أبي ذباب . قال البخاري : عبد الله والد منير عن سعد بن أبي ذباب لم يصح حديثه وقال علي بن المديني : منير هذا لا نعرفه إلا في هذا الحديث كذا قال لي . قال الشافعي : وسعد بن أبي ذباب يحكي ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأخذ الصدقة من العسل وإنما هو شيء رآه فتطوع له به أهله . قال الشافعي : واختياري أن لا يؤخذ منه لأن السنن والآثار ثابتة فيما يؤخذ منه وليست ثابتة فيه فكأنه عفو .

وقد روى يحيى بن آدم حدثنا حسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال ليس في العسل زكاة

قال يحيى : وسئل حسن بن صالح عن العسل ؟ فلم ير فيه شيئا . وذكر عن معاذ أنه لم يأخذ من العسل شيئا . قال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن معاذ بن جبل أنه أتى بوقص البقر والعسل فقال معاذ : كلاهما لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء .

وقال الشافعي : أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر قال جاءنا كتاب من عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أبي وهو بمنى أن لا يأخذ من الخيل ولا من العسل صدقة وإلى هذا ذهب مالك والشافعي .

[ من قال في العسل زكاة ]

وذهب أحمد وأبو حنيفة وجماعة إلى أن في العسل زكاة ورأوا أن هذه الآثار يقوي بعضها بعضا وقد تعددت مخارجها واختلفت طرقها ومرسلها يعضد بمسندها . وقد سئل أبو حاتم الرازي عن عبد الله والد منير عن سعد بن أبي ذباب يصح حديثه ؟ قال نعم . قال هؤلاء ولأنه يتولد من نور - 15 - الشجر والزهر ويكال ويدخر فوجبت فيه الزكاة كالحبوب والثمار . قالوا : والكلفة في أخذه دون الكلفة في الزرع والثمار ثم قال أبو حنيفة : إنما يجب فيه العشر إذا أخذ من أرض العشر فإن أخذ من أرض الخراج لم يجب فيه شيء عنده لأن أرض الخراج قد وجب على مالكها الخراج لأجل ثمارها وزرعها فلم يجب فيها حق آخر لأجلها وأرض العشر لم يجب في ذمته حق عنها فلذلك وجب الحق فيما يكون منها .

وسوى الإمام أحمد بين الأرضين في ذلك وأوجبه فيما أخذ من ملكه أو موات عشرية كانت الأرض أو خراجية .

ثم اختلف الموجبون له هل له نصاب أم لا ؟ على قولين . أحدهما : أنه يجب في قليله وكثيره وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله والثاني : أن له نصابا معينا ثم اختلف في قدره فقال أبو يوسف : هو عشرة أرطال .

وقال محمد بن الحسن : هو خمسة أفراق والفرق ستة وثلاثون رطلا بالعراقي . وقال أحمد : نصابه عشرة أفراق ثم اختلف أصحابه في الفرق على ثلاثة أقوال . أحدها : إنه ستون رطلا والثاني : إنه ستة وثلاثون رطلا .

والثالث ستة عشر رطلا وهو ظاهر كلام الإمام أحمد والله أعلم .


فصل [ دعاؤه صلى الله عليه وسلم لجابي الزكاة ]
[ النهي عن الأخذ من كرائم الأموال ]

وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرجل بالزكاة دعا له . فتارة يقول اللهم بارك فيه وفي إبله وتارة يقول اللهم صل عليه ولم يكن من هديه أخذ كرائم الأموال في الزكاة بل وسط المال ولهذا نهى معاذا عن ذلك .
فصل [ التصرف في الصدقة ]
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى المتصدق أن يشتري صدقته وكان يبيح للغني أن يأكل من الصدقة إذا أهداها إليه الفقير وأكل صلى الله عليه وسلم من لحم تصدق به على بريرة وقال هوعليها صدقة ولنا منها هديه " .

وكان أحيانا يستدين لمصالح المسلمين على الصدقة كما جهز جيشا فنفدت الإبل فأمر عبد الله بن عمرو أن يأخذ من قلائص الصدقة وكان يسم إبل الصدقة بيده وكان يسمها في آذانها

وكان إذا عراه أمر استسلف الصدقة من أربابها كما استسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر
[ من تجب عليه ومقدارها ]

فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلم وعلى من يمونه من صغير وكبير ذكر وأنثى حر وعبد صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب .

وروي عنه أو صاعا من دقيق وروي عنه نصف صاع من بر .

والمعروف أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بر مكان الصاع من هذه الأشياء ذكره أبو داود .

وفي " الصحيحين أن معاوية هو الذي قوم ذلك وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ومسندة يقوي بعضها بعضا .

فمنها : حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صاع من بر أو قمح على كل اثنين رواه الإمام أحمد وأبو داود .

وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا في فجاج مكة ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد صغير أو كبير مدان من قمح أو سواه صاعا من طعام قال الترمذي : حديث حسن غريب .

وروى الدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمرو بن حزم في زكاة الفطر بنصف صاع من حنطة وفيه سليمان بن موسى وثقه بعضهم وتكلم فيه بعضهم .

قال الحسن البصري : خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال أخرجوا صدقة صومكم فكأن الناس لم يعلموا . فقال من هاهنا من أهل المدينة ؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعلمون فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير فلما قدم علي رضي الله عنه رأى رخص السعر قال قد أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعا من كل شيء رواه أبو داود وهذا لفظه والنسائي وعنده فقال علي : أما إذ أوسع الله عليكم فأوسعوا اجعلوها صاعا من بر وغيره وكان شيخنا رحمه الله يقوي هذا المذهب ويقول هو قياس قول أحمد في الكفارات أن الواجب فيها من البر نصف الواجب من غيره .




فصل [ وقت إخراج صدقة الفطر وكذا الأضحية ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إخراج هذه الصدقة قبل صلاة العيد وفي " السنن " عنه أنه قال من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات

وفي " الصحيحين " عن ابن عمر قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة

- 21 - ومقتضى هذين الحديثين أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد وأنها تفوت بالفراغ من الصلاة وهذا هو الصواب فإنه لا معارض لهذين الحديثين ولا ناسخ ولا إجماع يدفع القول بهما وكان شيخنا يقوي ذلك وينصره ونظيره ترتيب الأضحية على صلاة الإمام لا على وقتها وأن من ذبح قبل صلاة الإمام لم تكن ذبيحته أضحية بل شاة لحم . وهذا أيضا هو الصواب في المسألة الأخرى وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضعين .

فصل [ لا تعطى صدقة الفطر إلا للمساكين ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة ولا أمر بذلك ولا فعله أحد من أصحابه ولا من بعدهم بل أحد القولين عندنا : إنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة , وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع
كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه وكان أجود الناس بالخير يمينه كالريح المرسلة .

وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة بلباسه . وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل ببعير جابر .
وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها بحاله وقوله فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى .

وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدر وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها وشرح صدره حسا وإخراج حظ الشيطان منه


فصل في أسباب شرح الصدور وحصولها على الكمال له صلى الله عليه وسلم
فأعظم أسباب شرح الصدر التوحيد وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه . قال الله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [ الزمر 22 ] . وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ الأنعام 125 ]

فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه ومنها : النور الذي يقذفه الله في قلب العبد وهو نور الإيمان فإنه يشرح الصدر ويوسعه ويفرح القلب . فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصعبه .

وقد روى الترمذي في " جامعه " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح . قالوا : وما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله فيصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور وكذلك النور الحسي والظلمة الحسية هذه تشرح الصدر وهذه تضيقه .

ومنها : العلم فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع فأهله أشرح الناس صدرا وأوسعهم قلوبا وأحسنهم أخلاقا وأطيبهم عيشا .

ومنها : الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ومحبته بكل القلب والإقبال عليه والتنعم بعبادته فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك . حتى إنه ليقول أحيانا : إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة فإني إذا في عيش طيب وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر وطيب النفس ونعيم القلب لا يعرفه إلا من له حس به وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن فرؤيتهم قذى عينه ومخالطتهم حمى روحه .

ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله تعالى وتعلق القلب بغيره والغفلة عن ذكره ومحبة سواه فإن من أحب شيئا غير الله عذب به وسجن قلبه في محبة ذلك الغير فما في الأرض أشقى منه ولا أكسف بالا ولا أنكد عيشا ولا أتعب قلبا فهما محبتان محبة هي جنة الدنيا وسرور النفس ولذة القلب ونعيم الروح وغذاؤها ودواؤها بل حياتها وقرة عينها وهي محبة الله وحده بكل القلب وانجذاب قوى الميل والإرادة والمحبة كلها إليه .

ومحبة هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر وهي سبب الألم والنكد والعناء وهي محبة ما سواه سبحانه .

ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكره على كل حال وفي كل موطن فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر ونعيم القلب وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه .

ومنها : الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا وأنكدهم عيشا وأعظمهم هما وغما . وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح مثلا للبخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت حتى يجر ثيابه ويعفي أثره وكلما هم البخيل بالصدقة لزمت كل حلقة مكانها ولم تتسع عليه فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق وانفساح قلبه ومثل ضيق صدر البخيل وانحصار قلبه

ومنها الشجاعة فإن الشجاع منشرح الصدر واسع البطان متسع القلب والجبان أضيق الناس صدرا وأحصرهم قلبا لا فرحة له ولا سرور ولا لذة له ولا نعيم إلا من جنس ما للحيوان البهيمي وأما سرور الروح ولذتها ونعيمها وابتهاجها فمحرم على كل جبان كما هو محرم على كل بخيل وعلى كل معرض عن الله سبحانه غافل عن ذكره جاهل به وبأسمائه تعالى وصفاته ودينه متعلق القلب بغيره .
وإن هذا النعيم والسرور يصير في القبر رياضا وجنة وذلك الضيق والحصر ينقلب في القبر عذابا وسجنا .

فحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيما وعذابا وسجنا وانطلاقا ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارض ولا بضيق صدر هذا لعارض فإن العوارض تزول بزوال أسبابها وإنما المعول على الصفة التي قامت بالقلب توجب انشراحه وحبسه فهي الميزان والله المستعان .

ومنها بل من أعظمها : إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه وتحول بينه وبين حصول البرء فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه لم يحظ من انشراح صدره بطائل وغايته أن يكون له مادتان تعتوران على قلبه وهو للمادة الغالبة عليه منهما .

ومنها : ترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم فإن هذه الفضول تستحيل آلاما وغموما وهموما في القلب تحصره وتحبسه وتضيقه ويتعذب بها بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم وما أنكد عيشه وما أسوأ حاله وما أشد حصر قلبه ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى : إن الأبرار لفي نعيم [ الانفطار 13 ] ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى : وإن الفجار لفي جحيم [ الانفطار 14 ] وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى .

والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر واتساع القلب وقرة العين وحياة الروح فهو أكمل الخلق في هذا الشرح والحياة وقرة العين مع ما خص به من الشرح الحسي وأكمل الخلق متابعة له أكملهم انشراحا ولذة وقرة عين وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره وقرة عينه ولذة روحه ما ينال فهو صلى الله عليه وسلم في ذروة الكمال من شرح الصدر ورفع الذكر ووضع الوزر ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتباعه والله المستعان . وهكذا لأتباعه نصيب من حفظ الله لهم وعصمته إياهم ودفاعه عنهم وإعزازه لهم ونصره لهم بحسب نصيبهم من المتابعة فمستقل ومستكثر . فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام
[ المقصود من الصيام وفوائده ]

لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين .

وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه فهو لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال فإن الصائم لا يفعل شيئا وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر وذلك حقيقة الصوم .

وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة 185 ] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم الصوم جنة .

وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام وجعله وجاء هذه الشهوة .

والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة بهم وإحسانا إليهم وحمية لهم وجنة . وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي وأعظم تحصيل للمقصود وأسهله على النفوس .

ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة وألفت أوامر القرآن فنقلت إليه بالتدريج


[ زمن فرضية الصيام ]
وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات وفرض أولا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكينا ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينا ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا ويقضيا وللحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك فإن خافتا على ولديهما زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض وإنما كان مع الصحة فجبر بإطعام - 30 - المسكين كفطر الصحيح في أول الإسلام .

وكان للصوم رتب ثلاث إحداها : إيجابه بوصف التخيير . والثانية تحتمه لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة



فصل [ إكثار العبادات في رمضان ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات فكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف



[ الوصال ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " يطعمني ربي ويسقيني ]
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور حتى إنه كان ليواصل فيه أحيانا ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقولون له إنك تواصل فيقول لست كهيئتكم إني أبيت - وفي رواية إني أظل - عند ربي يطعمني ويسقيني

وقد اختلف الناس في هذا الطعام والشراب المذكورين على قولين .

أحدهما : أنه طعام وشراب حسي للفم قالوا : وهذه حقيقة اللفظ ولا موجب للعدول عنها .

الثاني : أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل

لها أحاديث من ذكراك تشغلها

عن الشراب وتلهيها عن الزاد

لها بوجهك نور تستضيء به

ومن حديثك في أعقابها حادي

إذا شكت من كلال السير أوعدها

روح القدوم فتحيا عند ميعاد


ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضى عنه وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفي به معتن بأمره مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانا إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه وتمكن حبه منه أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا ؟ ولهذا قال إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني .

ولو كان ذلك طعاما وشرابا للفم لما كان صائما فضلا عن كونه مواصلا وأيضا فلو كان ذلك في الليل لم يكن مواصلا ولقال لأصحابه إذ قالوا له إنك تواصل " لست أواصل " . ولم يقل " لست كهيئتكم " بل أقرهم على نسبة الوصال إليه وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك بما بينه من الفارق كما في " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم فقيل له أنت تواصل . فقال إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى .

وسياق البخاري لهذا الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال فقالوا : إنك تواصل . قال إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال . فقال رجل من المسلمين إنك يا رسول الله تواصل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .

وأيضا : فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال لو تأخر الهلال لزدتكم . كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا عن الوصال .

وفي لفظ آخر لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم إني لست مثلكم أو قال إنكم لستم مثلي فإني أظل يطعمني ربي ويسقيني فأخبر أنه يطعم ويسقى مع كونه مواصلا وقد فعل فعلهم منكلا بهم معجزا لهم فلو كان يأكل ويشرب لما كان ذلك تنكيلا ولا تعجيزا بل ولا وصالا وهذا بحمد الله واضح .

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة للأمة وأذن فيه إلى السحر وفي " صحيح البخاري " عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر

[ الاختلاف في حكم الوصال وترجيح المصنف بجوازه من السحر إلى السحر ]

فإن قيل فما حكم هذه المسألة وهل الوصال جائز أو محرم أو مكروه ؟ قيل اختلف الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال . أحدها : أنه جائز إن قدر عليه وهو مروي عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف وكان ابن الزبير يواصل الأيام ومن حجة أرباب هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بالصحابة مع نهيه لهم عن الوصال كما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة أنه نهى عن الوصال وقال إني لست كهيئتكم فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما فهذا وصاله بهم بعد نهيه عن الوصال ولو كان النهي للتحريم لما أبوا أن ينتهوا ولما أقرهم عليه بعد ذلك .

قالوا : فلما فعلوه بعد نهيه وهو يعلم ويقرهم علم أنه أراد الرحمة بهم والتخفيف عنهم وقد قالت عائشة : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم متفق عليه .

وقالت طائفة أخرى : لا يجوز الوصال منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري رحمهم الله قال ابن عبد البر : وقد حكاه عنهم إنهم لم يجيزوه لأحد قلت : الشافعي رحمه الله نص على كراهته واختلف أصحابه هل هي كراهة تحريم أو تنزيه ؟ على وجهين واحتج المحرمون بنهي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : والنهي يقتضي التحريم .

قالوا : وقول عائشة : " رحمة لهم " لا يمنع أن يكون للتحريم بل يؤكده فإن من رحمته بهم أن حرمه عليهم بل سائر مناهيه للأمة رحمة وحمية وصيانة .

قالوا : وأما مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريرا لهم كيف وقد نهاهم ولكن تقريعا وتنكيلا فاحتمل منهم الوصال بعد نهيه لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم عنه بظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها فإذا ظهرت لهم مفسدة الوصال وظهرت حكمة النهي عنه كان ذلك أدعى إلى قبولهم وتركهم له فإنهم إذا ظهر لهم ما في الوصال وأحسوا منه الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم وأرجح من وظائف الدين من القوة في أمر الله والخشوع في فرائضه والإتيان بحقوقها الظاهرة والباطنة والجوع الشديد ينافي ذلك ويحول بين العبد وبينه تبين لهم حكمة النهي عن الوصال والمفسدة التي فيه لهم دونه صلى الله عليه وسلم

قالوا : وليس إقراره لهم على الوصال لهذه المصلحة الراجحة بأعظم من إقرار الأعرابي على البول في المسجد لمصلحة التأليف ولئلا ينفر عن الإسلام ولا بأعظم من إقراره المسيء في صلاته على الصلاة التي أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنها ليست بصلاة وأن فاعلها غير مصل بل هي صلاة باطلة في دينه فأقره عليها لمصلحة تعليمه وقبوله بعد الفراغ فإنه أبلغ في التعليم والتعلم

قالوا : وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه .

قالوا : وقد ذكر في الحديث ما يدل على أن الوصال من خصائصه . فقال إني لست كهيئتكم ولو كان مباحا لهم لم يكن من خصائصه .

قالوا : وفي " الصحيحين " من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم وفي " الصحيحين " نحوه من حديث عبد الله بن أبي أوفى . قالوا : فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر وذلك يحيل الوصال شرعا .

قالوا : وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تزال أمتي على الفطرة أو لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر
وفي " السنن " عن أبي هريرة عنه لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر إن اليهود والنصارى يؤخرون
وفي " السنن " عنه قال قال الله عز وجل أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا

وهذا يقتضي كراهة تأخير الفطر فكيف تركه وإذا كان مكروها لم يكن عبادة فإن أقل درجات العبادة أن تكون مستحبة .

والقول الثالث وهو أعدل الأقوال أن الوصال يجوز من سحر إلى سحر وهذا هو المحفوظ عن أحمد وإسحاق لحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر رواه البخاري .

وهو أعدل الوصال وأسهله على الصائم وهو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخر فالصائم له في اليوم والليلة أكلة فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره والله أعلم


فصل [ ثبوت رمضان ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة أو بشهادة شاهد واحد كما صام بشهادة ابن عمر وصام مرة بشهادة أعرابي واعتمد على خبرهما ولم يكلفهما لفظ الشهادة .

فإن كان ذلك إخبارا فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد وإن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة . فإن لم تكن رؤية ولا شهادة أكمل عدة شعبان ثلاثين يوما .



[ حكم صوم يوم الغيم ]
وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب أكمل عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صامه . ولم يكن يصوم يوم الإغمام ولا أمر به بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم وكان يفعل كذلك فهذا فعله وهذا أمره ولا يناقض هذا قوله فإن غم عليكم فاقدروا له فإن القدر هو الحساب المقدر والمراد به الإكمال كما قال فأكملوا العدة والمراد بالإكمال إكمال عدة الشهر الذي غم كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري فأكملوا عدة شعبان .

وقال لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة . والذي أمر بإكمال عدته هو الشهر الذي يغم وهو عند صيامه وعند الفطر منه وأصرح من هذا قوله الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة .

وهذا راجع إلى أول الشهر بلفظه وإلى آخره بمعناه فلا يجوز إلغاء ما دل عليه لفظه واعتبار ما دل عليه من جهة المعنى . وقال الشهر ثلاثون والشهر تسعة وعشرون فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين . وقال لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غمامة فأكملوا ثلاثين وقال لا تروها الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة .

وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤيته فإن غم عليه عد شعبان ثلاثين يوما ثم صام صححه الدارقطني وابن حبان .

وقال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين . وقال لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمي عليكم فاقدروا له . وقال لا تقدموا رمضان وفي لفظ لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم أو يومين إلا رجلا كان يصوم صياما فليصمه .

والدليل على أن يوم الإغمام داخل في هذا النهي حديث ابن عباس يرفعه لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غمامة فأكملوا ثلاثين ذكره ابن حبان في " صحيحه " . فهذا صريح في أن صوم يوم الإغمام من غير رؤية ولا إكمال ثلاثين صوما قبل رمضان .

وقال لا تقدموا الشهر إلا أن تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة

وقال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وفي النسائي : من حديث يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ولا تصوموا قبله يوما فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة عدة شعبان

وقال سماك عن عكرمة : عن ابن عباس : تمارى الناس في رؤية هلال رمضان فقال بعضهم اليوم . وقال بعضهم غدا . فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ قال نعم . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فنادى في الناس صوموا " . ثم قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ولا تصوموا قبله يوما

وكل هذه الأحاديث صحيحة فبعضها في " الصحيحين " وبعضها في " صحيح ابن حبان " والحاكم وغيرهما وإن كان قد أعل بعضها بما لا يقدح في صحة الاستدلال بمجموعها وتفسير بعضها ببعض واعتبار بعضها ببعض وكلها يصدق بعضها بعضا والمراد منها متفق عليه .

[ سرد المصنف لروايات من صام يوم الغيم ]

فإن قيل فإذا كان هذا هديه صلى الله عليه وسلم فكيف خالفه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص والحكم بن أيوب الغفاري وعائشة وأسماء ابنتا أبي بكر - 41 - وخالفه سالم بن عبد الله ومجاهد وطاووس وأبو عثمان النهدي ومطرف بن الشخير وميمون بن مهران وبكر بن عبد الله المزني وكيف خالفه إمام أهل الحديث والسنة أحمد بن حنبل ونحن نوجدكم أقوال هؤلاء مسندة ؟ فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال الوليد بن مسلم : أخبرنا ثوبان عن أبيه عن مكحول أن عمر بن الخطاب كان يصوم إذا كانت السماء في تلك الليلة مغيمة ويقول ليس هذا بالتقدم ولكنه التحري

وأما الرواية عن علي رضي الله عنه فقال الشافعي : أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أمه فاطمة بنت حسين أن علي بن أبي طالب قال لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان .

وأما الرواية عن ابن عمر ففي كتاب عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن عمر قال كان إذا كان سحاب أصبح صائما وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرا وفي " الصحيحين " عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا وإن غم عليكم فاقدروا له .

زاد الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح عن نافع قال كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما يبعث من ينظر فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما

وأما الرواية عن أنس رضي الله عنه فقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال رأيت الهلال إما الظهر وإما قريبا منه فأفطر ناس من الناس فأتينا أنس بن مالك فأخبرناه برؤية الهلال وبإفطار من أفطر فقال هذا اليوم يكمل لي أحد وثلاثون يوما وذلك لأن الحكم بن أيوب أرسل إلي قبل صيام الناس إني صائم غدا فكرهت الخلاف عليه فصمت وأنا متم يومي هذا إلى الليل

وأما الرواية عن معاوية فقال أحمد حدثنا المغيرة حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال حدثني مكحول ويونس بن ميسرة بن حلبس أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان .

وأما الرواية عن عمرو بن العاص . فقال أحمد حدثنا زيد بن الحباب أخبرنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عمرو بن العاص أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان

وأما الرواية عن أبي هريرة فقال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن أبي مريم مولى أبي هريرة قال سمعت أبا هريرة يقول لأن أتعجل في صوم رمضان بيوم أحب إلي من أن أتأخر لأني إذا تعجلت لم يفتني وإذا تأخرت فاتني

وأما الرواية عن عائشة رضي الله عنها فقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو عوانة عن يزيد بن خمير عن الرسول الذي أتى عائشة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان قال قالت عائشة : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان - 43 - وأما الرواية عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فقال سعيد أيضا : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر قالت ما غم هلال رمضان إلا كانت أسماء متقدمة بيوم وتأمر بتقدمه

وقال أحمد : حدثنا روح بن عباد عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان .

وكل ما ذكرناه عن أحمد فمن مسائل الفضل بن زياد عنه . وقال في رواية الأثرم : إذا كان في السماء سحابة أو علة أصبح صائما وإن لم يكن في السماء علة أصبح مفطرا وكذلك نقل عنه ابناه صالح وعبد الله والمروزي والفضل بن زياد وغيرهم .


[الجواب على من صام يوم الغيم ]

فالجواب من وجوه

أحدهما : أن يقال ليس فيما ذكرتم عن الصحابة أثر صالح صريح في وجوب صومه حتى يكون فعلهم مخالفا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما غاية المنقول عنهم صومه احتياطا وقد صرح أنس بأنه إنما صامه كراهة للخلاف على الأمراء ولهذا قال الإمام أحمد في رواية الناس تبع للإمام في صومه وإفطاره والنصوص التي حكيناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله إنما تدل على أنه لا يجب صوم يوم الإغمام ولا تدل على تحريمه فمن أفطره أخذ بالجواز ومن صامه أخذ بالاحتياط .

الثاني : أن الصحابة كان بعضهم يصومه كما حكيتم وكان بعضهم لا يصومه وأصح وأصرح من روى عنه صومه عبد الله بن عمر قال ابن عبد البر : وإلى قوله ذهب طاووس اليماني وأحمد بن حنبل وروي مثل ذلك عن عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ولا أعلم أحدا ذهب مذهب ابن عمر غيرهم قال وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم . قلت : المنقول عن علي وعمر وعمار وحذيفة وابن مسعود المنع من صيام آخر يوم من شعبان تطوعا وهو الذي قال فيه عمار من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم

[ترجيح المصنف لجواز صوم يوم الغيم احتياطا والنهي عنه تطوعا ]

فأما صوم يوم الغيم احتياطا على أنه إن كان من رمضان فهو فرضه وإلا فهو تطوع . فالمنقول عن الصحابة يقتضي جوازه وهو الذي كان يفعله ابن عمر وعائشة . هذا مع رواية عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غم هلال شعبان عد ثلاثين يوما ثم صام . وقد رد حديثها هذا بأنه لو كان صحيحا لما خالفته وجعل صيامها علة في الحديث وليس الأمر كذلك فإنها لم توجب صيامه وإنما صامته احتياطا وفهمت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن الصيام لا يجب حتى تكمل العدة ولم تفهم هي ولا ابن عمر أنه لا يجوز .

وهذا أعدل الأقوال في المسألة وبه تجتمع الأحاديث والآثار ويدل عليه ما رواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوما ورواه ابن أبي رواد عن نافع عنه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين

وقال مالك وعبيد الله عن نافع عنه فاقدروا له فدل على أن ابن عمر لم يفهم من الحديث وجوب إكمال الثلاثين بل جوازه فإنه إذا صام يوم الثلاثين فقد أخذ بأحد الجائزين احتياطا ويدل على ذلك أنه رضي الله عنه لو فهم من قوله صلى الله عليه وسلم اقدروا له تسعا وعشرين ثم صوموا كما يقوله الموجبون لصومه لكان يأمر بذلك أهله وغيرهم ولم يكن يقتصر على صومه في خاصة نفسه ولا يأمر به ولبين أن ذلك هو الواجب على الناس .

وكان ابن عباس رضي الله عنه لا يصومه ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين

وذكر مالك في " موطئه " هذا بعد أن ذكر حديث ابن عمر كأنه جعله مفسرا لحديث ابن عمر وقوله فاقدروا له

وكان ابن عباس يقول عجبت ممن يتقدم الشهر بيوم أو يومين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين كأنه ينكر على ابن عمر .

[بعض المسائل التي ترخص بها ابن عباس وتشدد بها ابن عمر ]

وكذلك كان هذان الصاحبان الإمامان أحدهما يميل إلى التشديد والآخر إلى الترخيص وذلك في غير مسألة . وعبد الله بن عمر : كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد وكان يمنع من دخول الحمام وكان إذا دخله اغتسل منه وابن عباس : كان يدخل الحمام وكان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ولا يقتصر على ضربة واحدة ولا على الكفين وكان ابن عباس يخالفه ويقول التيمم ضربة للوجه والكفين وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ويفتي بذلك وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى وكان ابن عباس يقول ما أبالي قبلتها أو شممت ريحانا

وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يتمها ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ثم يعيد الصلاة التي كان فيها وروى أبو يعلى الموصلي في ذلك حديثا مرفوعا في " مسنده " والصواب أنه موقوف على ابن عمر . قال البيهقي : وقد روي عن ابن عمر مرفوعا ولا يصح قال وقد روي عن ابن عباس مرفوعا ولا يصح . والمقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط .

وقد روى معمر عن أيوب عن نافع عنه أنه كان إذا أدرك مع الإمام ركعة أضاف إليها أخرى فإذا فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو . قال الزهري : ولا أعلم أحدا فعله غيره .

قلت : وكأن هذا السجود لما حصل له من الجلوس عقيب الركعة وإنما محله عقيب الشفع .

[الدليل على أن الصحابة لم يصوموا الغيم على سبيل الوجوب]

ويدل على أن الصحابة لم يصوموا هذا اليوم على سبيل الوجوب أنهم قالوا : لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما من رمضان ولو كان هذا اليوم من رمضان حتما عندهم لقالوا : هذا اليوم من رمضان فلا يجوز لنا فطره . والله أعلم .

ويدل على أنهم إنما صاموه استحبابا وتحريا ما روي عنهم من فطره بيانا للجواز فهذا ابن عمر قد قال حنبل في " مسائله " : حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي قال سمعت ابن عمر يقول لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه

قال حنبل وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبيدة بن حميد قال أخبرنا عبد العزيز بن حكيم قال سألوا ابن عمر . قالوا : نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء ؟ فقال أف أف صوموا مع الجماعة فقد صح عن ابن عمر أنه قال لا يتقدمن الشهر منكم أحد وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال صوموا لرؤية الهلال وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما

وكذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا رأيتم الهلال فصوموا لرؤيته وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة

وقال ابن مسعود رضي الله عنه فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما

فهذه الآثار إن قدر أنها معارضة لتلك الآثار التي رويت عنهم في الصوم فهذه أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظا ومعنى وإن قدر أنها لا تعارض بينها فهاهنا طريقتان من الجمع إحداهما : حملها على غير صورة الإغمام أو على الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم .

والثانية حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحبابا لا وجوبا وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة النصوص وقواعد الشرع وفيها السلامة من التفريق بين يومين متساويين في الشك فيجعل أحدهما يوم شك والثاني يوم يقين مع حصول الشك فيه قطعا وتكليف العبد اعتقاد كونه من رمضان قطعا مع شكه هل هو منه أم لا ؟ تكليف بما لا يطاق وتفريق بين المتماثلين والله أعلم .



فصل [ثبوت شوال ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصوم بشهادة الرجل الواحد المسلم وخروجهم منه بشهادة اثنين .

وكان من هديه إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد أن يفطر ويأمرهم بالفطر ويصلي العيد من الغد في وقتها .

وكان يعجل الفطر ويحض عليه ويتسحر ويحث على السحور ويؤخره ويرغب في تأخيره .

وكان يحض على الفطر بالتمر فإن لم يجد فعلى الماء هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به ولا سيما القوة الباصرة فإنها تقوى به وحلاوة المدينة التمر ومرباهم عليه وهو عندهم قوت وأدم ورطبه فاكهة . وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس . فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده . ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب .




فصل [ما يفطر عليه ]
وكان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي وكان فطره على رطبات إن وجدها فإن لم يجدها فعلى تمرات فإن لم يجد فعلى حسوات من ماء .

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند فطره اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ولا يثبت .

وروي عنه أيضا أنه كان يقول اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ذكره أبو داود عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك .

وروي عنه أنه كان يقول إذا أفطر ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى ذكره أبو داود من حديث الحسين بن واقد عن مروان بن سالم المقفع عن ابن عمر .

[إجابة دعوة الصائم ]

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد رواه ابن ماجه .

[ تحديد وقت الإفطار ]

[ نهي الصائم عن الرفث . . . ]

وصح عنه أنه قال إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم وفسر بأنه قد أفطر حكما وإن لم ينوه وبأنه قد دخل وقت فطره كأصبح وأمسى ونهى الصائم عن الرفث والصخب والسباب وجواب السباب فأمره أن يقول لمن سابه إني صائم فقيل يقوله بلسانه وهو أظهر وقيل بقلبه تذكيرا لنفسه بالصوم وقيل يقوله في الفرض بلسانه وفي التطوع في نفسه لأنه أبعد عن الرياء .




فصل [الفطر في السفر ]
وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام وأفطر وخير الصحابة بين الأمرين .

[الفطر في القتال ]
وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله .

فلو اتفق مثل هذا في الحضر وكان في الفطر قوة لهم على لقاء عدوهم فهل لهم الفطر ؟ فيه قولان أصحهما دليلا : أن لهم ذلك وهو اختيار ابن تيمية وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحالة فإنها أحق بجوازه لأن القوة هناك تختص بالمسافر والقوة هنا له وللمسلمين ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر ولأن الله تعالى قال وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ الأنفال 60 ] . والفطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة .

والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر القوة بالرمي . وهو لا يتم ولا يحصل به مقصوده إلا بما يقوي ويعين عليه من الفطر والغذاء ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم وكانت رخصة ثم نزلوا منزلا آخر فقال إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزمة [ فأفطرنا ] فعلل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو وهذا سبب آخر غير السفر والسفر مستقل بنفسه ولم يذكر في تعليله ولا أشار إليه فالتعليل به اعتبارا لما ألغاه الشارع في هذا الفطر الخاص وإلغاء وصف القوة التي يقاوم بها العدو واعتبار السفر المجرد إلغاء لما اعتبره الشارع وعلل به .

وبالجملة فتنبيه الشارع وحكمته يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر فكيف وقد أشار إلى العلة ونبه عليها وصرح بحكمها وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها . ويدل عليه ما رواه عيسى بن يونس عن شعبة عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم فتح مكة : إنه يوم قتال فأفطروا تابعه سعيد بن الربيع عن شعبة . فعلل بالقتال ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال . وأما إذا تجرد السفر عن الجهاد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الفطر هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه

فصل [الفطر في السفر ]

وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها في غزاة بدر وفي غزاة الفتح .

قال عمر بن الخطاب : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين يوم بدر والفتح فأفطرنا فيهما

[ ما اعتمر صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة ]

وأما ما رواه الدارقطني وغيره عن عائشة قالت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت فغلط إما عليها وهو الأظهر أو منها وأصابها فيه ما أصاب ابن عمر في قوله - 53 - اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه وما اعتمر في رجب قط وكذلك أيضا عمره كلها في ذي القعدة وما اعتمر في رمضان قط .




فصل [حد السفر لرخصة الإفطار ]
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد ولا صح عنه في ذلك شيء . وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال وقال لمن صام قد رغبوا عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم

[الفطر لا يشترط فيه مجاوزة البيوت ]

وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم كما قال عبيد بن جبر : ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة . قال اقترب . قلت ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ رواه أبو داود وأحمد .
ولفظ أحمد ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة فلما دنونا من مرساها أمر بسفرته فقربت ثم دعاني إلى الغذاء وذلك في رمضان . فقلت يا أبا بصرة والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد ؟ قال أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت لا . قال فكل . قال فلم نزل مفطرين حتى بلغنا

وقال محمد بن كعب أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا وقد رحلت له راحلته وقد لبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة ؟ قال سنة ثم ركب . قال الترمذي حديث حسن وقال الدارقطني فيه فأكل وقد تقارب غروب الشمس وهذه الآثار صريحة في أن من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه .


فصل [ لا حرج في اغتسال الجنب بعد الفجر وفي تقبيل أزواجه وهو صائم ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يدركه الفجر وهو جنب من أهله فيغتسل بعد الفجر ويصوم .

وكان يقبل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان وشبه قبلة الصائم بالمضمضة بالماء .

وأما ما رواه أبو داود عن مصدع بن يحيى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها فهذا الحديث قد اختلف فيه فضعفه طائفة بمصدع هذا وهو مختلف فيه قال السعدي : زائغ جائر عن الطريق وحسنه طائفة وقالوا : هو ثقة صدوق روى له مسلم في " صحيحه " وفي إسناده محمد بن دينار الطاحي البصري مختلف فيه أيضا قال يحيى : ضعيف وفي رواية عنه ليس به بأس وقال غيره صدوق وقال ابن عدي : قوله ويمص لسانها لا يقوله إلا محمد بن دينار وهو الذي رواه وفي إسناده أيضا سعد بن أوس مختلف فيه أيضا قال يحيى : بصري ضعيف وقال غيره ثقة وذكره ابن حبان في الثقات . . .

وأما الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبل امرأته وهما صائمان فقال قد أفطر " فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أبو يزيد الضني رواه عن ميمونة وهي بنت سعد قال الدارقطني : ليس بمعروف ولا يثبت هذا وقال البخاري : هذا لا أحدث به هذا حديث منكر وأبو يزيد رجل مجهول . ولا يصح عنه صلى الله عليه وسلم التفريق بين الشاب والشيخ ولم يجئ من وجه يثبت

وأجود ما فيه حديث أبي داود عن نصر بن علي عن أبي أحمد الزبيري : حدثنا إسرائيل عن أبي العنبس عن الأغر عن أبي هريرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب وإسرائيل وإن كان البخاري ومسلم قد احتجا به وبقية الستة فعلة هذا الحديث أن بينه وبين الأغر فيه أبا العنبس العدوي الكوفي واسمه الحارث بن عبيد سكتوا عنه



فصل [ صحة صيام من أكل ناسيا ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إسقاط القضاء عمن أكل وشرب ناسيا وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه فيفطر به فإنما يفطر بما فعله وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه إذ لا تكليف بفعل النائم ولا بفعل الناسي .

فصل [ المفطرات ]
والذي صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الذي يفطر به الصائم الأكل والشرب والحجامة والقيء والقرآن دال على أن الجماع مفطر كالأكل والشرب لا يعرف فيه خلاف ولا يصح عنه في الكحل شيء .

[ غير المفطرات ]

وصح عنه أنه كان يستاك وهو صائم . وذكر الإمام أحمد عنه أنه كان يصب الماء على رأسه وهو صائم .

[ إنكار المصنف - تبعا للإمام أحمد - احتجام النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم مع أنه في البخاري ]

وكان يتمضمض ويستنشق وهو صائم ومنع الصائم من المبالغة في الاستنشاق . ولا يصح عنه أنه احتجم وهو صائم قاله الإمام أحمد . وقد رواه البخاري في " صحيحه " قال أحمد حدثنا يحيى بن سعيد قال لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة في الصيام يعني حديث سعيد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم .

قال مهنا : وسألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم . فقال ليس بصحيح قد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري إنما كانت أحاديث ميمون بن مهران عن ابن عباس نحو خمسة عشر حديثا .

وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله ذكر هذا الحديث فضعفه وقال مهنا : سألت أحمد عن حديث قبيصة عن سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما محرما فقال هو خطأ من قبل قبيصة وسألت يحيى عن قبيصة بن عقبة فقال رجل صدق والحديث الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد بن جبير خطأ من قبله .

قال أحمد في كتاب الأشجعي عن سعيد بن جبير مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ولا يذكر فيه صائما .

قال مهنا : وسألت أحمد عن حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم ؟ فقال ليس فيه " صائم " إنما هو محرم ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه وهو محرم
ورواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم
وروح عن زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء وطاووس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون " صائما " . وقال حنبل حدثنا أبو عبد الله حدثنا وكيع عن ياسين الزيات عن رجل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في رمضان بعد ما قال " أفطر الحاجم والمحجوم قال أبو عبد الله الرجل أراه أبان بن أبي عياش يعني ولا يحتج به .

وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله روى محمد بن معاوية النيسابوري عن أبي عوانة عن السدي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم فأنكر هذا ثم قال السدي عن أنس قلت : نعم فعجب من هذا . قال أحمد وفي قوله أفطر الحاجم والمحجوم غير حديث ثابت . وقال إسحاق قد ثبت هذا من خمسة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

والمقصود أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم ولا صح عنه أنه نهى الصائم عن السواك أول النهار ولا آخره بل قد روي عنه خلافه . ويذكر عنه من خير خصال الصائم السواك رواه ابن ماجه من حديث مجالد وفيه ضعف


فصل [ الاكتحال للصائم ]
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل وهو صائم وروي عنه أنه خرج عليهم في رمضان وعيناه مملوءتان من الإثمد ولا يصح وروي عنه أنه قال في الإثمد ليتقه الصائم ولا يصح . قال أبو داود : قال لي يحيى بن معين : هو حديث منكر .




فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع
كان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم وما استكمل صيام شهر غير رمضان وما كان يصوم في شهر أكثر مما يصوم في شعبان

ولم يكن يخرج عنه شهر حتى يصوم منه .

ولم يصم الثلاثة الأشهر سردا كما يفعله بعض الناس ولا صام رجبا قط ولا استحب صيامه بل روي عنه النهي عن صيامه ذكره ابن ماجه .

وكان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس .

وقال ابن عباس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في سفر ولا حضر ذكره النسائي . وكان يحض على صيامها

وقال ابن مسعود رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام ذكره أبو داود والنسائي . وقالت عائشة : لم يكن يبالي من أي الشهر صامها ذكره مسلم ولا تناقض بين هذه الآثار .

وأما صيام عشر ذي الحجة فقد اختلف فقالت عائشة ما رأيته صائما في العشر قط ذكره مسلم . وقالت حفصة : أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام يوم عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر وركعتا الفجر ذكره الإمام أحمد رحمه الله .

وذكر الإمام أحمد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم تسع ذي الحجة ويصوم عاشوراء وثلاثة أيام من الشهر أو الاثنين من الشهر والخميس وفي لفظ الخميسين . والمثبت مقدم على النافي إن صح .

وأما صيام ستة أيام من شوال فصح عنه أنه قال صيامها مع رمضان يعدل صيام الدهر " .




[ صيام عاشوراء ]
وأما صيام يوم عاشوراء فإنه كان يتحرى صومه على سائر الأيام ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظمه فقال نحن أحق بموسى منكم " . فصامه وأمر بصيامه وذلك قبل فرض رمضان فلما فرض رمضان قال " من شاء صامه ومن شاء تركه

وقد استشكل بعض الناس هذا وقال إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول فكيف يقول ابن عباس : إنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ؟

وفيه إشكال آخر وهو أنه قد ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة أنها قالت كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية وكان يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض شهر رمضان قال " من شاء صامه ومن شاء تركه

وإشكال آخر وهو ما ثبت في " الصحيحين " أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود وهو يتغدى فقال يا أبا محمد ادن إلى الغداء . فقال أوليس اليوم يوم عاشوراء ؟ فقال وهل تدري ما يوم عاشوراء ؟ قال وما هو ؟ قال إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان تركه

وقد روى مسلم في " صحيحه " عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فهذا فيه أن صومه والأمر بصيامه قبل وفاته بعام وحديثه المتقدم فيه أن ذلك كان عند مقدمه المدينة ثم إن ابن مسعود أخبر أن يوم عاشوراء ترك برمضان وهذا يخالفه حديث ابن عباس المذكور ولا يمكن أن يقال ترك فرضه لأنه لم يفرض لما ثبت في " الصحيحين " عن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر " ومعاوية إنما سمع هذا بعد الفتح قطعا .

وإشكال آخر وهو أن مسلما روى في " صحيحه " عن عبد الله بن عباس أنه لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا اليوم تعظمه اليهود والنصارى قال " إن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " فلم يأت العام القابل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم روى مسلم في " صحيحه " عن الحكم بن الأعرج قال انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له أخبرني عن صوم عاشوراء . فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال نعم

وإشكال آخر وهو أن صومه إن كان واجبا مفروضا في أول الإسلام فلم يأمرهم بقضائه وقد فات تبييت النية له من الليل وإن لم يكن فرضا فكيف أمر بإتمام الإمساك من كان أكل ؟ كما في " المسند " والسنن من وجوه متعددة أنه عليه - 66 - السلام أمر من كان طعم فيه أن يصوم بقية يومه وهذا إنما يكون في الواجب وكيف يصح قول ابن مسعود : فلما فرض رمضان ترك عاشوراء واستحبابه لم يترك ؟

وإشكال آخر وهو أن ابن عباس جعل يوم عاشوراء يوم التاسع وأخبر أن هكذا كان يصومه صلى الله عليه وسلم وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود صوموا يوما قبله أو يوما بعده ذكره أحمد . وهو الذي روى : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر ذكره الترمذي .

فالجواب عن هذه الإشكالات بعون الله وتأييده وتوفيقه

أما الإشكال الأول وهو أنه لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوم عاشوراء فليس فيه أن يوم قدومه وجدهم يصومونه فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول ثاني عشرة ولكن أول علمه بذلك بوقوع القصة في العام الثاني الذي كان بعد قدومه المدينة ولم يكن وهو بمكة هذا إن كان حساب أهل الكتاب في صومه بالأشهر الهلالية وإن كان بالشمسية زال الإشكال بالكلية ويكون اليوم الذي نجى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء من أول المحرم فضبطه أهل الكتاب بالشهور الشمسية فوافق ذلك مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول وصوم أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس وصوم المسلمين إنما هو بالشهر الهلالي وكذلك حجهم وجميع ما تعتبر له الأشهر من واجب أو مستحب فقال النبي صلى الله عليه وسلم " نحن أحق بموسى منكم "

فظهر حكم هذه الأولوية في تعظيم هذا اليوم وفي تعيينه وهم أخطئوا تعيينه لدورانه في السنة الشمسية كما أخطأ النصارى في تعيين صومهم بأن جعلوه في فصل من السنة تختلف فيه الأشهر .

وأما الإشكال الثاني وهو أن قريشا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلا ريب أن قريشا كانت تعظم هذا اليوم وكانوا يكسون الكعبة فيه وصومه من تمام تعظيمه ولكن إنما كانوا يعدون بالأهلة فكان عندهم عاشر المحرم فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجدهم يعظمون ذلك اليوم ويصومونه فسألهم عنه فقالوا : هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون فقال صلى الله عليه وسلم نحن أحق منكم بموسى فصامه وأمر بصيامه تقريرا لتعظيمه وتأكيدا وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه وأمته أحق بموسى من اليهود فإذا صامه موسى شكرا لله كنا أحق أن نقتدي به من اليهود لا سيما إذا قلنا : شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالفه شرعنا .

فإن قيل من أين لكم أن موسى صامه ؟ قلنا : ثبت في " الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سألهم عنه فقالوا يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " . فصامه وأمر بصيامه فلما أقرهم على ذلك ولم يكذبهم علم أن موسى صامه شكرا لله فانضم هذا القدر إلى التعظيم الذي كان له قبل الهجرة فازداد تأكيدا حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي في الأمصار بصومه وإمساك من كان أكل والظاهر أنه حتم ذلك عليهم وأوجبه كما سيأتي تقريره .

وأما الإشكال الثالث وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم عاشوراء قبل - 68 - أن ينزل فرض رمضان فلما نزل فرض رمضان تركه فهذا لا يمكن التخلص منه إلا بأن صيامه كان فرضا قبل رمضان وحينئذ فيكون المتروك وجوب صومه لا استحبابه ويتعين هذا ولا بد لأنه عليه السلام قال قبل وفاته بعام وقد قيل له إن اليهود يصومونه لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع أي معه وقال خالفوا اليهود وصوموا يوما قبله أو يوما بعده أي معه ولا ريب أن هذا كان في آخر الأمر وأما في أول الأمر فكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء فعلم أن استحبابه لم يترك .

ويلزم من قال إن صومه لم يكن واجبا أحد لأمرين إما أن يقول بترك استحبابه فلم يبق مستحبا أو يقول هذا قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برأيه وخفي عليه استحباب صومه وهذا بعيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم حثهم على صيامه وأخبر أن صومه يكفر السنة الماضية واستمر الصحابة على صيامه إلى حين وفاته ولم يرو عنه حرف واحد بالنهي عنه وكراهة صومه فعلم أن الذي ترك وجوبه لا استحبابه .

فإن قيل حديث معاوية المتفق على صحته صريح في عدم فرضيته وإنه لم يفرض قط . فالجواب أن حديث معاوية صريح في نفي استمرار وجوبه وأنه الآن غير واجب ولا ينفي وجوبا متقدما منسوخا فإنه لا يمتنع أن يقال لما كان واجبا ونسخ وجوبه إن الله لم يكتبه علينا .

وجواب ثان أن غايته أن يكون النفي عاما في الزمان الماضي والحاضر فيخص بأدلة الوجوب في الماضي وترك النفي في استمرار الوجوب .

وجواب ثالث وهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما نفى أن يكون فرضه ووجوبه مستفادا من جهة القرآن ويدل على هذا قوله " إن الله لم يكتبه علينا " وهذا لا ينفي الوجوب بغير ذلك فإن الواجب الذي كتبه الله على عباده هو ما أخبرهم بأنه كتبه عليهم كقوله تعالى : كتب عليكم الصيام [ البقرة 183 ] فأخبر صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عاشوراء لم يكن داخلا في هذا المكتوب الذي كتبه الله علينا دفعا لتوهم من يتوهم أنه داخل فيما كتبه الله علينا فلا تناقض بين هذا وبين الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخا بهذا الصيام المكتوب . يوضح هذا أن معاوية إنما سمع هذا منه بعد فتح مكة واستقرار فرض رمضان ونسخ وجوب عاشوراء به . والذين شهدوا أمره بصيامه والنداء بذلك وبالإمساك لمن أكل شهدوا ذلك قبل فرض رمضان عند مقدمه المدينة وفرض رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات فمن شهد الأمر بصيامه شهده قبل نزول فرض رمضان ومن شهد الإخبار عن عدم فرضه شهده في آخر الأمر بعد فرض رمضان وإن لم يسلك هذا المسلك تناقضت أحاديث الباب واضطربت .

فإن قيل فكيف يكون فرضا ولم يحصل تبييت النية من الليل وقد قال " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ؟

" فالجواب أن هذا الحديث مختلف فيه هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول حفصة وعائشة ؟ فأما حديث حفصة فأوقفه عليها معمر والزهري وسفيان بن عيينة ويونس بن يزيد الأيلي عن الزهري ورفعه بعضهم وأكثر أهل الحديث يقولون الموقوف أصح قال الترمذي : وقد رواه نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح ومنهم من يصحح رفعه لثقة رافعه وعدالته وحديث عائشة أيضا : روي مرفوعا وموقوفا واختلف في تصحيح رفعه . فإن لم يثبت رفعه فلا كلام وإن ثبت رفعه فمعلوم أن هذا إنما قاله بعد فرض رمضان وذلك متأخر عن الأمر بصيام يوم عاشوراء وذلك تجديد حكم واجب وهو التبييت وليس نسخا لحكم ثابت بخطاب فإجزاء صيام يوم عاشوراء بنية من النهار كان قبل فرض رمضان وقبل فرض التبييت من الليل ثم نسخ وجوب صومه برمضان وتجدد وجوب التبييت فهذه طريقة .

وطريقة ثانية هي طريقة أصحاب أبي حنيفة أن وجوب صيام يوم عاشوراء تضمن أمرين وجوب صوم ذلك اليوم وإجزاء صومه بنية من النهار ثم نسخ تعيين الواجب بواجب آخر فبقي حكم الإجزاء بنية من النهار غير منسوخ .

وطريقة ثالثة وهي أن الواجب تابع للعلم ووجوب عاشوراء إنما علم من النهار وحينئذ فلم يكن التبييت ممكنا فالنية وجبت وقت تجدد الوجوب والعلم به وإلا كان تكليفا بما لا يطاق وهو ممتنع . قالوا : وعلى هذا إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار أجزأ صومه بنية مقارنة للعلم بالوجوب وأصله صوم يوم عاشوراء وهذه طريقة شيخنا وهي كما تراها أصح الطرق وأقربها إلى موافقة أصول الشرع وقواعده وعليها تدل الأحاديث ويجتمع شملها الذي يظن تفرقه ويتخلص من دعوى النسخ بغير ضرورة . وغير هذه الطريقة لا بد فيه من مخالفة قاعدة من قواعد الشرع أو مخالفة بعض الآثار .

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل قباء بإعادة الصلاة التي صلوا بعضها إلى القبلة المنسوخة إذ لم يبلغهم وجوب التحول فكذلك من لم يبلغه وجوب فرض الصوم أو لم يتمكن من العلم بسبب وجوبه لم يؤمر بالقضاء ولا يقال إنه ترك التبييت الواجب إذ وجوب التبييت تابع للعلم بوجوب المبيت وهذا في غاية الظهور . ولا ريب أن هذه الطريقة أصح من طريقة من يقول كان عاشوراء فرضا وكان يجزئ صيامه بنية من النهار ثم نسخ الحكم بوجوبه فنسخت متعلقاته ومن متعلقاته إجزاء صيامه بنية من النهار لأن متعلقاته تابعة له وإذا زال المتبوع زالت توابعه وتعلقاته فإن إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار لم يكن من متعلقات خصوص هذا اليوم بل من متعلقات الصوم الواجب والصوم الواجب لم يزل وإنما زال تعيينه فنقل من محل إلى محل والإجزاء بنية من النهار وعدمه من توابع أصل الصوم لا تعيينه .

وأصح من طريقة من يقول إن صوم يوم عاشوراء لم يكن واجبا قط لأنه قد ثبت الأمر به وتأكيد الأمر بالنداء العام وزيادة تأكيده بالأمر لمن كان أكل بالإمساك وكل هذا ظاهر قوي في الوجوب ويقول ابن مسعود : إنه لما فرض رمضان ترك عاشوراء

ومعلوم أن استحبابه لم يترك بالأدلة التي تقدمت وغيرها فيتعين أن يكون المتروك وجوبه فهذه خمس طرق للناس في ذلك . والله أعلم .

وأما الإشكال الرابع وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع وأنه توفي قبل العام المقبل وقول ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع فابن عباس روى هذا وهذا وصح عنه هذا وهذا ولا تنافي بينهما إذ من الممكن أن يصوم التاسع ويخبر أنه إن بقي إلى العام القابل صامه أو يكون ابن عباس أخبر عن فعله مستندا إلى ما عزم عليه ووعد به ويصح الإخبار عن ذلك مقيدا أي كذلك كان يفعل لو بقي ومطلقا إذا علم الحال وعلى كل واحد من الاحتمالين فلا تنافي بين الخبرين .

وأما الإشكال الخامس فقد تقدم جوابه بما فيه كفاية .

وأما الإشكال السادس وهو قول ابن عباس : اعدد وأصبح يوم التاسع صائما . فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع بل قال للسائل صم اليوم التاسع واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك . فإما أن يكون فعل ذلك هو الأولى وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه في المستقبل ويدل على ذلك أنه هو الذي روى : " صوموا يوما قبله ويوما بعده " وهو الذي روى : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا ويؤيد بعضها بعضا .

فمراتب صومه ثلاثة أكملها : أن يصام قبله يوم وبعده يوم ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم .

وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار وعدم تتبع ألفاظها وطرقها وهو بعيد من اللغة والشرع والله الموفق للصواب . وقد سلك بعض أهل العلم مسلكا آخر فقال قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها وذلك يحصل بأحد أمرين إما بنقل العاشر إلى التاسع أو بصيامهما معا . وقوله إذا كان العام المقبل صمنا التاسع يحتمل الأمرين . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتبين لنا مراده فكان الاحتياط صيام اليومين معا والطريقة التي ذكرناها أصوب إن شاء الله ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل لأن قوله في حديث أحمد خالفوا اليهود صوموا يوما قبله أو يوما بعده وقوله في حديث الترمذي أمرنا بصيام عاشوراء يوم العاشر يبين صحة الطريقة التي سلكناها والله أعلم
يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 02:10 AM
فصل [ صوم يوم عرفة ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إفطار يوم عرفة بعرفة

ثبت عنه ذلك في " الصحيحين " . وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة رواه عنه أهل السنن . وصح عنه أن صيامه يكفر السنة الماضية والباقية ذكره مسلم .

[ الحكم من فطر يوم عرفة بعرفة ]

وقد ذكر لفطره بعرفة عدة حكم .

منها أنه أقوى على الدعاء

ومنها : أن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله .

ومنها : أن ذلك اليوم كان يوم الجمعة وقد نهى عن إفراده بالصوم فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيدا لنهيه عن تخصيصه بالصوم وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة وكان شيخنا رحمه الله يسلك مسلكا آخر وهو أنه يوم عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه كاجتماع الناس يوم العيد وهذا الاجتماع يختص بمن بعرفة دون أهل الآفاق .

قال وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا في الحديث الذي رواه أهل السنن يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام ومعلوم أن كونه عيدا هو لأهل ذلك الجمع لاجتماعهم فيه والله أعلم .




فصل [ صوم يومي السبت والأحد ]
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم السبت والأحد كثيرا يقصد بذلك مخالفة اليهود والنصارى كما في " المسند " و " سنن النسائي " عن كريب مولى ابن عباس قال أرسلني ابن عباس رضي الله عنه وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها ؟ أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما ؟ قالت يوم السبت والأحد ويقول إنهما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم

وفي صحة هذا الحديث نظر فإنه من رواية محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وقد استنكر بعض حديثه . وقد قال عبد الحق في " أحكامه " من حديث ابن جريج عن عباس بن عبد الله بن عباس عن عمه الفضل زار النبي صلى الله عليه وسلم عباسا في بادية لنا . ثم قال إسناده ضعيف . قال ابن القطان : هو كما ذكر ضعيف ولا يعرف حال محمد بن عمر وذكر حديثه هذا عن أم سلمة في صيام يوم السبت والأحد وقال سكت عنه عبد الحق مصححا له ومحمد بن عمر هذا لا يعرف حاله ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد بن عمر ولا يعرف أيضا حاله فالحديث أراه حسنا . والله أعلم .

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه

فاختلف الناس في هذين الحديثين . فقال مالك رحمه الله هذا كذب يريد حديث عبد الله بن بسر ذكره عنه أبو داود قال الترمذي : هو حديث حسن وقال أبو داود : هذا الحديث منسوخ وقال النسائي : هو حديث مضطرب وقال جماعة من أهل العلم لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد .

قالوا : ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال إن صومه نوع تعظيم له فهو موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه وإن تضمن مخالفتهم في صومه فإن التعظيم إنما يكون إذا أفرد بالصوم ولا ريب أن الحديث لم يجئ بإفراده وأما إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيم والله أعلم


فصل [ صيام الدهر ]
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم سرد الصوم وصيام الدهر بل قد قال من صام الدهر لا صام ولا أفطر وليس مراده بهذا من صام الأيام المحرمة فإنه ذكر ذلك جوابا لمن قال أرأيت من صام الدهر ؟ ولا يقال في جواب من فعل المحرم لا صام ولا أفطر فإن هذا يؤذن بأنه سواء فطره وصومه لا يثاب عليه ولا يعاقب وليس كذلك من فعل ما حرم الله عليه من الصيام فليس هذا جوابا مطابقا للسؤال عن المحرم من الصوم وأيضا فإن هذا عند من استحب صوم الدهر قد فعل مستحبا وحراما وهو عندهم قد صام بالنسبة إلى أيام الاستحباب وارتكب محرما بالنسبة إلى أيام التحريم وفي كل منهما لا يقال " لا صام ولا أفطر " . فتنزيل قوله على ذلك غلط ظاهر . وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعا فهي بمنزلة الليل شرعا وبمنزلة أيام الحيض فلم يكن الصحابة ليسألوه عن صومها وقد علموا عدم قبولها للصوم ولم يكن ليجيبهم لو لم يعلموا التحريم بقوله لا صام ولا أفطر فإن هذا ليس فيه بيان للتحريم . فهديه لا شك فيه أن صيام يوم وفطر يوم أفضل من صوم الدهر وأحب إلى الله .

وسرد صيام الدهر مكروه فإنه لو لم يكن مكروها لزم أحد ثلاثة أمور ممتنعة أن يكون أحب إلى الله من صوم يوم وفطر يوم وأفضل منه لأنه زيادة عمل وهذا مردود بالحديث الصحيح . إن أحب الصيام إلى الله صيام داود وإنه لا أفضل منه .

وإما أن يكون مساويا في الفضل وهو ممتنع أيضا وإما أن يكون مباحا متساوي الطرفين لا استحباب فيه ولا كراهة وهذا ممتنع إذ ليس هذا شأن العبادات بل إما أن تكون راجحة أو مرجوحة والله أعلم .

فإن قيل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من صام رمضان وأتبعه ستة أيام من شوال فكأنما صام الدهر

وقال فيمن صام ثلاثة أيام من كل شهر إن ذلك يعدل صوم الدهر وذلك يدل على أن صوم الدهر أفضل مما عدل به وأنه أمر مطلوب وثوابه أكثر من ثواب الصائمين حتى شبه به من صام هذا الصيام .

قيل نفس هذا التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضي جوازه فضلا عن استحبابه وإنما يقتضي التشبيه به في ثوابه لو كان مستحبا والدليل عليه من نفس الحديث فإنه جعل صيام ثلاثة أيام من كل شهر بمنزلة صيام الدهر إذ الحسنة بعشر أمثالها وهذا يقتضي أن يحصل له ثواب من صام ثلاثمائة وستين يوما ومعلوم أن هذا حرام قطعا فعلم أن المراد به حصول هذا الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما

وكذلك قوله في صيام ستة أيام من شوال إنه يعدل مع صيام رمضان السنة ثم قرأ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام 160 ] فهذا صيام ستة وثلاثين يوما تعدل صيام ثلاثمائة وستين يوما وهو غير جائز بالاتفاق بل قد يجيء مثل هذا فيما يمتنع فعل المشبه به عادة بل يستحيل وإنما شبه به من فعل ذلك على تقدير إمكانه كقوله لمن سأله عن عمل يعدل الجهاد هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تقوم ولا تفتر وأن تصوم ولا تفطر ؟ ومعلوم أن هذا ممتنع عادة كامتناع صوم ثلاثمائة وستين يوما شرعا وقد شبه العمل الفاضل بكل منهما يزيده وضوحا : أن أحب القيام إلى الله قيام داود وهو أفضل من قيام الليل كله بصريح السنة الصحيحة وقد مثل من صلى العشاء الآخرة والصبح في جماعة بمن قام الليل كله

فإن قيل فما تقولون في حديث أبي موسى الأشعري ؟ من صام الدهر ضيقت عليه جهنم حتى تكون هكذا وقبض كفه وهو في " مسند أحمد " .

قيل قد اختلف في معنى هذا الحديث . فقيل ضيقت عليه حصرا له فيها لتشديده على نفسه وحمله عليها ورغبته عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقاده أن غيره أفضل منه .

وقال آخرون بل ضيقت عليه فلا يبقى له فيها موضع ورجحت هذه الطائفة هذا التأويل بأن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات وطرقها بالصوم ضيق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرقها عنه ورجحت الطائفة الأولى تأويلها بأن قالت لو أراد هذا المعنى لقال ضيقت عنه وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها .

قالوا : وهذا التأويل موافق لأحاديث كراهة صوم الدهر وأن فاعله بمنزلة من لم يصم والله أعلم
فصل [ إنشاء نية التطوع من النهار ]
[ لا حرج في الفطر في صيام التطوع ]

وكان صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيقول " هل عندكم شيء ؟ " فإن قالوا : لا . قال " إني إذا صائم " فينشئ النية للتطوع من النهار وكان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يفطر بعد أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها بهذا وهذا فالأول في " صحيح مسلم " والثاني : في " كتاب النسائي "

وأما الحديث الذي في " السنن " عن عائشة : كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة وكانت ابنة أبيها فقالت يا رسول الله إنا كنا صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه فقالاقضيا يوما مكانه فهو حديث معلول .

قال الترمذي : رواه مالك بن أنس ومعمر وعبد الله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة مرسلا لم يذكروا فيه عن عروة وهذا أصح .

ورواه أبو داود والنسائي عن حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن زميل مولى عروة عن عروة عن عائشة موصولا قال النسائي : زميل ليس بالمشهور وقال البخاري : لا يعرف لزميل سماع من عروة ولا ليزيد بن الهاد من زميل ولا تقوم به الحجة .

[ من نزل على قوم وكان صائما فليقل إني صائم ]

وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان صائما ونزل على قوم أتم صيامه ولم يفطر كما دخل على أم سليم فأتته بتمر وسمن فقال أعيدوا سمنكم في سقائه وتمركم في وعائه فإني صائم

ولكن أم سليم كانت عنده بمنزلة أهل بيته وقد ثبت عنه في " الصحيح " : عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إني صائم

وأما الحديث الذي رواه ابن ماجه والترمذي والبيهقي عن عائشة رضي الله عنه ترفعه من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم فقال الترمذي : هذا الحديث منكر لا نعرف أحدا من الثقات روى هذا الحديث عن هشام بن عروة .




فصل [ كراهية تخصيص يوم الجمعة بالصوم ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصوم فعلا منه وقولا . فصح النهي عن إفراده بالصوم من حديث جابر بن عبد الله وأبي هريرة وجويرية بنت الحارث وعبد الله بن عمرو وجنادة الأزدي وغيرهم .

وشرب يوم الجمعة وهو على المنبر يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة ذكره الإمام أحمد وعلل المنع من صومه بأنه يوم عيد فروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده

فإن قيل فيوم العيد لا يصام مع ما قبله ولا بعده .

قيل لما كان يوم الجمعة مشبها بالعيد أخذ من شبهه النهي عن تحري صيامه فإذا صام ما قبله أو ما بعده لم يكن قد تحراه وكان حكمه حكم صوم الشهر أو العشر منه أو صوم يوم وفطر يوم أو صوم يوم عرفة وعاشوراء إذا وافق يوم جمعة فإنه لا يكره صومه في شيء من ذلك .

فإن قيل فما تصنعون بحديث عبد الله بن مسعود ؟ قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر في يوم الجمعة رواه أهل السنن .

قيل نقبله إن كان صحيحا ويتعين حمله على صومه مع ما قبله أو بعده ونرده إن لم يصح فإنه من الغرائب قال الترمذي هذا حديث حسن غريب .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف
[ مقصود الاعتكاف عكوف القلب إلى الله ]

لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى ، متوقفا على جمعيته على الله ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى ، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى ، وكان فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الأنام وفضول الكلام وفضول المنام مما يزيده شعثا ، ويشتته في كل واد ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى ، أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى ، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة

وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم

[ ترجيح المصنف أن الصوم شرط للاعتكاف ]

ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرا قط ، بل قد قالت عائشة : لا اعتكاف إلا بصوم ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم .

فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية .

وأما الكلام فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة .

وأما فضول المنام فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبة وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ولا يعوق عن مصلحة العبد ومدار رياضة أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي ولم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين وقد ذكرنا هديه صلى الله عليه وسلم في صيامه وقيامه وكلامه فلنذكر هديه في اعتكافه

كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل وتركه مرة فقضاه في شوال .

واعتكف مرة في العشر الأول ثم الأوسط ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر ثم تبين له أنها في العشر الأخير فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل . وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل .

وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله فأمر به مرة فضرب فأمر أزواجه بأخبيتهن فضربت فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية فأمر بخبائه فقوض ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال .

وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما ، وكان يعارضه جبريل بالقرآن كل سنة مرة فلما كان ذلك العام عارضه به مرتين وكان يعرض عليه القرآن أيضا في كل سنة مرة فعرض عليه تلك السنة مرتين .

وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان ، وكان يخرج رأسه من المسجد إلى بيت عائشة فترجله وتغسله وهو في المسجد وهي حائض وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف . فإذا قامت تذهب قام معها يقلبها ، وكان ذلك ليلا ، ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها ، وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سريره في معتكفه ، وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض وهو على طريقه فلا يعرج عليه ولا يسأل عنه . واعتكف مرة في قبة تركية ، وجعل على سدتها حصيرا ، كل هذا تحصيلا لمقصود الاعتكاف وروحه عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم فهذا لون والاعتكاف النبوي لون . والله الموفق .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمره
[ العمرات التي اعتمرها صلى الله عليه وسلم وأنها كانت في ذي القعدة ]

اعتمر صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة .

الأولى : عمرة الحديبية ، وهي أولاهن سنة ست فصده المشركون عن البيت فنحر البدن حيث صد بالحديبية وحلق هو وأصحابه رءوسهم وحلوا من إحرامهم ورجع من عامه إلى المدينة .

الثانية عمرة القضية في العام المقبل دخل مكة فأقام بها ثلاثا ، ثم خرج بعد إكمال عمرته واختلف هل كانت قضاء للعمرة التي صد عنها في العام الماضي ، أم عمرة مستأنفة ؟ على قولين للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد إحداهما : أنها قضاء وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله . والثانية ليست بقضاء وهو قول مالك رحمه الله والذين قالوا : كانت قضاء احتجوا بأنها سميت عمرة القضاء وهذا الاسم تابع للحكم . وقال آخرون القضاء هنا من المقاضاة لأنه قاضى أهل مكة عليها ، لا أنه من قضى قضاء . قالوا : ولهذا سميت عمرة القضية . قالوا : والذين صدوا عن البيت ، كانوا ألفا وأربعمائة ، وهؤلاء كلهم لم يكونوا معه في عمرة القضية ، ولو كانت قضاء لم يتخلف منهم أحد ، وهذا القول أصح ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر من كان معه بالقضاء .

- 87 - الثالثة عمرته التي قرنها مع حجته فإنه كان قارنا لبضعة عشر دليلا ، سنذكرها عن قريب إن شاء الله .

الرابعة عمرته من الجعرانة ، لما خرج إلى حنين ، ثم رجع إلى مكة ، فاعتمر من الجعرانة داخلا إليها . ففي " الصحيحين " : عن أنس بن مالك قال اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجته عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة مع حجته

ولم يناقض هذا ما في " الصحيحين " عن البراء بن عازب قال اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين لأنه أراد العمرة المفردة المستقلة ولا ريب أنهما اثنتان فإن عمرة القران لم تكن مستقلة وعمرة الحديبية صد عنها ، وحيل بينه وبين إتمامها ، ولذلك قال ابن عباس : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر . عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل والثالثة من الجعرانة ، والرابعة مع حجته ذكره الإمام أحمد .

ولا تناقض بين حديث أنس : أنهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته وبين قول عائشة ، وابن عباس : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة لأن مبدأ عمرة القران كان في ذي القعدة ونهايتها كان في ذي الحجة مع انقضاء الحج فعائشة وابن عباس أخبرا عن ابتدائها ، وأنس أخبر عن انقضائها .

فأما قول عبد الله بن عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعا ، إحداهن في رجب ، فوهم منه رضي الله عنه . قالت عائشة لما بلغها ذلك عنه يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة قط إلا وهو شاهد وما اعتمر في رجب قط .

وأما ما رواه الدارقطني ، عن عائشة قالت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت بأبي وأمي ، أفطرت وصمت ، وقصرت وأتممت ، فقال : أحسنت يا عائشة فهذا الحديث غلط فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ، وعمره مضبوطة العدد والزمان ونحن نقول يرحم الله أم المؤمنين ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قط ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة رواه ابن ماجه وغيره .

ولا خلاف أن عمره لم تزد على أربع فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسا ، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستا ، إلا أن يقال بعضهن في رجب وبعضهن في رمضان وبعضهن في ذي القعدة وهذا لم يقع وإنما الواقع اعتماره في ذي القعدة كما قال أنس رضي الله عنه ، وابن عباس رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها . وقد روى أبو داود في " سننه " عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال وهذا إذا كان محفوظا ، فلعله في عمرة الجعرانة حين خرج في شوال ولكن إنما أحرم بها في ذي القعدة .

فصل [ العمرة للداخل إلى مكة ]
ولم يكن في عمره عمرة واحدة خارجا من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة ، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجا من مكة في تلك المدة أصلا .

فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها ، هي عمرة الداخل إلى مكة ، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها بين سائر من كان معه لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت فأمرها ، فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها ، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلين فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها ، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها ، ولم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحجة ولا أحد ممن كان معه وسيأتي مزيد تقرير لهذا وبسط له عن قريب إن شاء الله تعالى .


فصل [ كانت عمره في أشهر الحج ]
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعد الهجرة خمس مرات سوى المرة الأولى ، فإنه وصل إلى الحديبية ، وصد عن الدخول إليها ، أحرم في أربع منهن من الميقات لا قبله فأحرم عام الحديبية من ذي الحليفة ، ثم دخلها المرة الثانية فقضى عمرته وأقام بها ثلاثا ، ثم خرج ثم دخلها في المرة الثالثة عام الفتح في رمضان بغير إحرام ثم خرج منها إلى حنين ، ثم دخلها بعمرة من الجعرانة ودخلها في هذه العمرة ليلا ، وخرج ليلا ، فلم يخرج من مكة إلى الجعرانة ليعتمر كما يفعل أهل مكة اليوم وإنما أحرم منها في حال دخوله إلى مكة ، ولما قضى عمرته ليلا ، رجع من فوره إلى الجعرانة ، فبات بها ، فلما أصبح وزالت الشمس خرج من بطن سرف حتى جامع الطريق [ طريق جمع ببطن سرف ] ، ولهذا خفيت هذه العمرة على كثير من الناس . والمقصود أن عمره كلها كانت في أشهر الحج مخالفة لهدي المشركين فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك .

[ الاعتمار في أشهر الحج أفضل من الاعتمار في رمضان ]

وأما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان فموضع نظر فقد صح عنه أنه أمر أم معقل لما فاتها الحج معه أن تعتمر في رمضان وأخبرها أن عمرة في رمضان تعدل حجة .

وأيضا : فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان وأفضل البقاع ولكن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عمره إلا أولى الأوقات وأحقها بها ، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره وهذه الأشهر قد خصها الله تعالى بهذه العبادة وجعلها وقتا لها ، والعمرة حج أصغر فأولى الأزمنة بها أشهر الحج وذو القعدة أوسطها ، وهذا مما نستخير الله فيه فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه .

[ كان صلى الله عليه وسلم يترك العمل خشية المشقة على أمته ]

وقد يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهم من العمرة ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة فأخر العمرة إلى أشهر الحج ووفر نفسه على تلك العبادات في رمضان مع ما في ترك ذلك من الرحمة بأمته والرأفة بهم فإنه لو اعتمر في رمضان لبادرت الأمة إلى ذلك وكان يشق عليها الجمع بين العمرة والصوم وربما لا تسمح أكثر النفوس بالفطر في هذه العبادة حرصا على تحصيل العمرة وصوم رمضان فتحصل المشقة فأخرها إلى أشهر الحج وقد كان يترك كثيرا من العمل وهو يحب أن يعمله خشية المشقة عليهم .

ولما دخل البيت خرج منه حزينا ، فقالت له عائشة في ذلك ؟ فقال إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي وهم أن ينزل يستسقي مع سقاة زمزم للحاج فخاف أن يغلب أهلها على سقايتهم بعده . والله أعلم .


فصل [ لم يعتمر صلى الله عليه وسلم في السنة إلا مرة واختلاف الناس في تكرارها ]
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في السنة إلا مرة واحدة ولم يعتمر في سنة مرتين وقد ظن بعض الناس أنه اعتمر في سنة مرتين واحتج بما رواه أبو داود في " سننه " عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة ، وعمرة في شوال قالوا : وليس المراد بها ذكر مجموع ما اعتمر فإن أنسا ، وعائشة ، وابن عباس ، وغيرهم قد قالوا : إنه اعتمر أربع عمر ، فعلم أن مرادها به أنه اعتمر في سنة مرتين مرة في ذي القعدة ومرة في شوال وهذا الحديث وهم وإن كان محفوظا عنها ، فإن هذا لم يقع قط ، فإنه اعتمر أربع عمر بلا ريب العمرة الأولى كانت في ذي القعدة عمرة الحديبية ، ثم لم يعتمر إلى العام القابل فاعتمر عمرة القضية في ذي القعدة ثم رجع إلى المدينة ولم يخرج إلى مكة حتى فتحها سنة ثمان في رمضان ولم يعتمر ذلك العام ثم خرج إلى حنين في ست من شوال وهزم الله أعداءه فرجع إلى مكة ، وأحرم بعمرة وكان ذلك في ذي القعدة كما قال أنس ، وابن عباس : فمتى اعتمر في شوال ؟ ولكن لقي العدو في شوال وخرج فيه من مكة ، وقضى عمرته لما فرغ من أمر العدو في ذي القعدة ليلا ، ولم يجمع ذلك العام بين عمرتين ولا قبله ولا بعده ومن له عناية بأيامه صلى الله عليه وسلم وسيرته وأحواله لا يشك ولا يرتاب في ذلك .

فإن قيل فبأي شيء يستحبون العمرة في السنة مرارا إذا لم يثبتوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قيل قد اختلف في هذه المسألة فقال مالك : أكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة واحدة وخالفه مطرف من أصحابه وابن المواز ، قال مطرف لا بأس بالعمرة في السنة مرارا ، وقال ابن المواز : أرجو أن لا يكون به بأس وقد اعتمرت عائشة مرتين في شهر ولا أرى أن يمنع أحد من التقرب إلى الله بشيء من الطاعات ولا من الازدياد من الخير في موضع ولم يأت بالمنع منه نص ، وهذا قول الجمهور إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى ، استثنى خمسة أيام لا يعتمر فيها : يوم عرفة ويوم النحر ، وأيام التشريق . واستثنى أبو يوسف رحمه الله تعالى : يوم النحر وأيام التشريق خاصة واستثنت الشافعية : البائت بمنى لرمي أيام التشريق . واعتمرت عائشة في سنة مرتين . فقيل للقاسم لم ينكر عليها أحد ؟ فقال أعلى أم المؤمنين ؟ وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر .

ويذكر عن علي رضي الله عنه أنه كان يعتمر في السنة مرارا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ويكفي في هذا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم سوى عمرتها التي كانت أهلت بها ، وذلك في عام واحد ولا يقال عائشة كانت قد رفضت العمرة فهذه التي أهلت بها من التنعيم قضاء عنها ; لأن العمرة لا يصح رفضها . وقد قال لها النبي صلى الله عليه وسلم يسعك طوافك لحجك وعمرتك وفي لفظ حللت منهما جميعا

فإن قيل قد ثبت في " صحيح البخاري " : أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ارفضي عمرتك ، وانقضي رأسك وامتشطي وفي لفظ آخر انقضي رأسك وامتشطي وفي لفظ أهلي بالحج ودعي العمرة فهذا صريح في رفضها من وجهين أحدهما : قوله ارفضيها ودعيها ، والثاني : أمره لها بالامتشاط .

قيل معنى قوله ارفضيها : اتركي أفعالها والاقتصار عليها ، وكوني في حجة معها ، ويتعين أن يكون هذا هو المراد بقوله حللت منهما جميعا لما قضت أعمال الحج . وقوله يسعك طوافك لحجك وعمرتك فهذا صريح في أن إحرام العمرة لم يرفض وإنما رفضت أعمالها والاقتصار عليها ، وأنها بانقضاء حجها انقضى حجها وعمرتها ، ثم أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها ، إذ تأتي بعمرة مستقلة كصواحباتها ، ويوضح ذلك إيضاحا بينا ، ما روى مسلم في " صحيحه " ، من حديث الزهري ، عن عروة عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فحضت فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ، ولم أهل إلا بعمرة فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي وأمتشط ، وأهل بالحج ، وأترك العمرة قالت ففعلت ذلك حتى إذا قضيت حجي ، بعث معي رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر ، وأمرني أن أعتمر من التنعيم مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أهل منها فهذا حديث في غاية الصحة والصراحة أنها لم تكن أحلت من عمرتها ، وأنها بقيت محرمة حتى أدخلت عليها الحج فهذا خبرها عن نفسها ، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، كل منهما يوافق الآخر وبالله التوفيق . وفي قوله صلى الله عليه وسلم العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار وتنبيه على ذلك إذ لو كانت العمرة كالحج لا تفعل في السنة إلا مرة لسوى بينهما ولم يفرق . وروى الشافعي رحمه الله عن علي رضي الله عنه، أنه قال : اعتمر في كل شهر مرة وروى وكيع ، عن إسرائيل عن سويد بن أبي ناجية ، عن أبي جعفر قال، قال علي رضي الله عنه : اعتمر في الشهر إن أطقت مرارا وذكر سعيد بن منصور ، عن سفيان بن أبي حسين ، عن بعض ولد أنس ، أن أنسا كان إذا كان بمكة فحمم رأسه خرج إلى التنعيم فاعتمر


فصل في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته
[ لما فرض الحج سنة تسع أو عشر بادر صلى الله عليه وسلم إليه على الفور سنة عشر وهي حجته الوحيدة ]

لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع ولا خلاف أنها كانت سنة عشر .

واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ فروى الترمذي ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا ، فلم يعرفه من حديث الثوري ، وفي رواية لا يعد هذا الحديث محفوظا .

ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر وأما قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة 196 ] ، فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فرضية الحج وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء فإن قيل فمن أين لكم تأخير نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [ التوبة 28 ] ، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات والمناداة بها ، إنما كان في سنة تسع ، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج وأردفه بعلي رضي الله عنه وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف . والله أعلم .




فصل [ خروجه صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلم الناس ]
لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج ، فتجهزوا للخروج معه وسمع ذلك من حول المدينة ، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لست بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر بها أربعا ، وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه .

[ ترجيح المصنف أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت ]

وقال بن حزم : وكان خروجه يوم الخميس قلت والظاهر أن خروجه كان يوم السبت واحتج بن حزم على قوله بثلاث مقدمات . إحداها : أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة .

والثانية أن استهلال ذي الحجة كان يوم الخميس والثالثة أن يوم عرفة كان يوم الجمعة واحتج على أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة بما روى البخاري من حديث ابن عباس ، انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن . .. فذكر الحديث . وقال وذلك لخمس بقين من ذي القعدة .

قال بن حزم وقد نص بن عمر على أن يوم عرفة ، كان يوم الجمعة وهو التاسع واستهلال ذي الحجة بلا شك ليلة الخميس فآخر ذي القعدة يوم الأربعاء فإذا كان خروجه لست بقين من ذي القعدة كان يوم الخميس إذ الباقي بعده ست ليال سواه . ووجه ما اخترناه أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين وهي يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء فهذه خمس وعلى قوله يكون خروجه لسبع بقين . فإن لم يعد يوم الخروج كان لست وأيهما كان فهو خلاف الحديث .

وإن اعتبر الليالي ، كان خروجه لست ليال بقين لا لخمس فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس وبين بقاء خمس من الشهر ألبتة بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت فإن الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك ويدل عليه إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته على منبره شأن الإحرام وما يلبس المحرم بالمدينة والظاهر أن هذا كان يوم الجمعة لأنه لم ينقل أنه جمعهم ونادى فيهم لحضور الخطبة وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره .

وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله فأولى الأوقات به الجمعة التي يليها خروجه والظاهر أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة وقد اجتمع إليه الخلق وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين وقد حضر ذلك الجمع العظيم والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت والله أعلم .

ولما علم أبو محمد ابن حزم ، أن قول ابن عباس رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها : خرج لخمس بقين من ذي القعدة لا يلتئم مع قوله أوله بأن قال معناه أن اندفاعه من ذ ي الحليفة كان لخمس قال وليس بين ذي الحليفة وبين المدينة إلا أربعة أميال فقط فلم تعد هذه المرحلة القريبة لقلتها ، وبهذا تأتلف جميع الأحاديث .

قال ولو كان خروجه من المدينة لخمس بقين لذي القعدة لكان خروجه بلا شك يوم الجمعة وهذا خطأ لأن الجمعة لا تصلى أربعا ، وقد ذكر أنس ، أنهم صلوا الظهر معه بالمدينة أربعا قال ويزيده وضوحا ، ثم ساق من طريق البخاري ، حديث كعب بن مالك : قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إذا خرج إلا يوم الخميس وفي لفظ آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يخرج يوم الخميس فبطل خروجه يوم الجمعة لما ذكرنا عن أنس وبطل خروجه يوم السبت لأنه حينئذ يكون خارجا من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة وهذا ما لم يقله أحد .

قال وأيضا قد صح مبيته بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة ، فكان يكون اندفاعه من ذي الحليفة يوم الأحد يعني : لو كان خروجه يوم السبت وصح مبيته بذي طوى ليلة دخوله مكة ، وصح عنه أنه دخلها صبح رابعة من ذي الحجة فعلى هذا تكون مدة سفره من المدينة إلى مكة سبعة أيام لأنه كان يكون خارجا من المدينة لو كان ذلك لأربع بقين لذي القعدة واستوى على مكة لثلاث خلون من ذي الحجة وفي استقبال الليلة الرابعة فتلك سبع ليال لا مزيد وهذا خطأ بإجماع وأمر لم يقله أحد ، فصح أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة وائتلفت الروايات كلها ، وانتفى التعارض عنها بحمد الله انتهى .

قلت : هي متآلفة متوافقة والتعارض منتف عنها مع خروجه يوم السبت ويزول عنها الاستكراه الذي أولها عليه كما ذكرناه . وأما قول أبي محمد ابن حزم : لو كان خروجه من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة لكان خروجه يوم الجمعة إلى آخره فغير لازم بل يصح أن يخرج لخمس ويكون خروجه يوم السبت والذي غر أبا محمد أنه رأى الراوي قد حذف التاء من العدد وهي إنما تحذف من المؤنث ففهم لخمس ليال بقين وهذا إنما يكون إذا كان الخروج يوم الجمعة .

فلو كان يوم السبت لكان لأربع ليال بقين وهذا بعينه ينقلب عليه فإنه لو كان خروجه يوم الخميس لم يكن لخمس ليال بقين وإنما يكون لست ليال بقين ولهذا اضطر إلى أن يؤول الخروج المقيد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذي الحليفة ولا ضرورة له إلى ذلك إذ من الممكن أن يكون شهر ذي القعدة كان ناقصا ، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناء على المعتاد من الشهر وهذه عادة العرب والناس في تواريخهم أن يؤرخوا بما بقي من الشهر بناء على كماله ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه وظهور نقصه كذلك لئلا يختلف عليهم التاريخ فيصح أن يقول القائل يوم الخامس والعشرين كتب لخمس بقين ويكون الشهر تسعا وعشرين وأيضا فإن الباقي كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج والعرب إذا اجتمعت الليالي والأيام في التاريخ غلبت لفظ الليالي لأنها أول الشهر وهي أسبق من اليوم فتذكر الليالي ومرادها الأيام فيصح أن يقال لخمس بقين باعتبار الأيام ويذكر لفظ العدد باعتبار الليالي ، فصح حينئذ أن يكون خروجه لخمس بقين ولا يكون يوم الجمعة .

وأما حديث كعب فليس فيه أنه لم يكن يخرج قط إلا يوم الخميس وإنما فيه أن ذلك كان أكثر خروجه ولا ريب أنه لم يكن يتقيد في خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس . وأما قوله لو خرج يوم السبت لكان خارجا لأربع فقد تبين أنه لا يلزم لا باعتبار الليالي ، ولا باعتبار الأيام .

[ إكمال المصنف لسياق حجه صلى الله عليه وسلم ]

وأما قوله إنه بات بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة إلى آخره فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدة سفره سبعة أيام فهذا عجيب منه فإنه إذا خرج يوم السبت وقد بقي من الشهر خمسة أيام ودخل مكة لأربع مضين من ذي الحجة فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام وهذا غير مشكل بوجه من الوجوه فإن الطريق التي سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار وسير العرب أسرع من سير الحضر بكثير ولا سيما مع عدم المحامل والكجاوات والزوامل الثقال . والله أعلم .

عدنا إلى سياق حجه فصلى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعا ، ثم ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وخرج بين الظهر والعصر فنزل بذي الحليفة فصلى بها العصر ركعتين ثم بات بها وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر فصلى بها خمس صلوات وكان نساؤه كلهن معه ، وطاف عليهن تلك الليلة ، فلما أراد الإحرام اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه غير غسل الجماع الأول ولم يذكر ابن حزم أنه اغتسل غير الغسل الأول للجنابة وقد ترك بعض الناس ذكره فإما أن يكون تركه عمدا ، لأنه لم يثبت عنده وإما أن يكون تركه سهوا منه وقد قال زيد بن ثابت : إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل قال الترمذي : حديث حسن غريب .
حج صلى الله عليه وسلم قارنا والدليل على ذلك ]
وذكر الدارقطني ، عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان . ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك في بدنه ورأسه حتى كان وبيص المسك يرى في مفارقه ولحيته ثم استدامه ولم يغسله ثم لبس إزاره ورداءه ثم صلى الظهر ركعتين ، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه ولم ينقل عنه أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر .

وقلد قبل الإحرام بدنه نعلين ، وأشعرها في جانبها الأيمن فشق صفحة سنامها ، وسلت الدم عنها

وإنما قلنا : إنه أحرم قارنا لبضعة وعشرين حديثا صحيحة صريحة في ذلك .

أحدها : ما أخرجاه في " الصحيحين " عن ابن عمر ، قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وذكر الحديث .

وثانيها : ما أخرجاه في " الصحيحين " أيضا ، عن عروة عن عائشة أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر سواء .

وثالثها : ما روى مسلم في " صحيحه " ، من حديث قتيبة عن الليث عن نافع عن ابن عمر ، أنه قرن الحج إلى العمرة وطاف لهما طوافا واحدا ، ثم قال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

ورابعها : ما روى أبو داود عن النفيلي ، حدثنا زهير هو ابن معاوية حدثنا إسحاق عن مجاهد : سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مرتين . فقالت عائشة : لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التي قرن بحجته .

ولم يناقض هذا قول ابن عمر : إنه صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة لأنه أراد العمرة الكاملة المفردة ولا ريب أنهما عمرتان عمرة القضاء وعمرة الجعرانة ، وعائشة رضي الله عنها أرادت العمرتين المستقلتين وعمرة القران والتي صد عنها ، ولا ريب أنها أربع .

وخامسها : ما رواه سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة . رواه الترمذي وغيره .

وسادسها : ما رواه أبو داود عن النفيلي وقتيبة قالا : حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر عمرة الحديبية ، والثانية حين تواطئوا على عمرة من قابل والثالثة من الجعرانة ، والرابعة التي قرن مع حجته

وسابعها : ما رواه البخاري في " صحيحه " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول أتاني الليلة آت من ربي عز وجل ، فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة

وثامنها : ما رواه أبو داود عن البراء بن عازب قال كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن ، فأصبت معه أواقي من ذهب فلما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجدت فاطمة قد لبست ثيابا صبيغات ، وقد نضحت البيت بنضوح فقالت ما لك ؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا ، قال فقلت لها : إني أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : كيف صنعت ؟ قال قلت أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فإني قد سقت الهدي وقرنت وذكر الحديث

وتاسعها : ما رواه النسائي عن عمران بن يزيد الدمشقي ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن علي بن الحسين ، عن مروان بن الحكم قال كنت جالسا عند عثمان ، فسمع عليا رضي الله عنه يلبي بعمرة وحجة فقال ألم تكن تنهى عن هذا ؟ قال بلى لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا ، فلم أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك

وعاشرها : ما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث شعبة ، عن حميد بن هلال قال سمعت مطرفا قال قال عمران بن حصين أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة ، ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرآن يحرمه

وحادي عشرها : ما رواه يحيى بن سعيد القطان ، وسفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه قال إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أنه لا يحج بعدها وله طرق صحيحة إليهما .

وثاني عشرها : ما رواه الإمام أحمد من حديث سراقة بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال وقرن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إسناده ثقات .

وثالث عشرها : ما رواه الإمام أحمد ، وابن ماجه من حديث أبي طلحة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة ورواه الدارقطني ، وفيه الحجاج بن أرطاة .

ورابع عشرها : ما رواه أحمد من حديث الهرماس بن زياد الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع بين الحج والعمرة

وخامس عشرها : ما رواه البزار بإسناد صحيح أن ابن أبي أوفى قال إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أنه لا يحج بعد عامه ذلك وقد قيل إن يزيد بن عطاء أخطأ في إسناده وقال آخرون لا سبيل إلى تخطئته بغير دليل .

وسادس عشرها : ما رواه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة ، فطاف لهما طوافا واحدا ورواه الترمذي ، وفيه الحجاج بن أرطاة وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء أو يخالف الثقات .

وسابع عشرها : ما رواه الإمام أحمد من حديث أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج

وثامن عشرها : ما أخرجاه في " الصحيحين " واللفظ لمسلم عن حفصة قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من الحج وهذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج ، فإنه لا يحل من العمرة حتى يحل من الحج وهذا على أصل مالك والشافعي ألزم لأن المعتمر عمرة مفردة لا يمنعه عندهما الهدي من التحلل وإنما يمنعه عمرة القران فالحديث على أصلهما نص .


وتاسع عشرها : ما رواه النسائي ، والترمذي ، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، أنه سمع سعد بن أبي وقاص ، والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان ، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله فقال سعد بئس ما قلت يا ابن أخي . قال الضحاك فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك قال سعد قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

[ القران أحد نوعي التمتع وهو لغة القرآن ]
ومراده بالتمتع هنا بالعمرة إلى الحج : أحد نوعيه وهو تمتع القران فإنه لغة القرآن والصحابة الذين شهدوا التنزيل والتأويل شهدوا بذلك ولهذا قال ابن عمر : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وكذلك قالت عائشة ، وأيضا : فإن الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو متعة القران بلا شك كما قطع به أحمد ، ويدل على ذلك أن عمران بن حصين قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه . متفق عليه .

وهو الذي قال لمطرف أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات . وهو في " صحيح مسلم " فأخبر عن قرانه بقوله تمتع وبقوله جمع بين حج وعمرة

ويدل عليه أيضا ، ما ثبت في " الصحيحين " عن سعيد بن المسيب قال اجتمع علي وعثمان بعسفان ، فقال كان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ؟ قال عثمان : دعنا منك ، فقال إني لا أستطيع أن أدعك ، فلما أن رأى علي ذلك أهل بهما جميعا . هذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري : اختلف علي وعثمان بعسفان في المتعة فقال علي : ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك علي ، أهل بهما جميعا

وأخرج البخاري وحده من حديث مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعليا ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلما رأى علي ذلك أهل بهما : لبيك بعمرة وحجة وقال ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد . فهذا يبين أن من جمع بينهما ، كان متمتعا عندهم وأن هذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وافقه عثمان على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فإنه لما قال له ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه لم يقل له لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا أنه وافقه على ذلك لأنكره ثم قصد علي إلى موافقة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في ذلك وبيان أن فعله لم ينسخ وأهل بهما جميعا تقريرا للاقتداء به ومتابعته في القران وإظهارا لسنة نهى عنها عثمان متأولا ، وحينئذ فهذا دليل مستقل تمام العشرين .

الحادي والعشرون ما رواه مالك في " الموطأ " ، عن ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا

ومعلوم أنه كان معه الهدي فهو أولى من بادر إلى ما أمر به وقد دل عليه سائر الأحاديث التي ذكرناها ونذكرها . وقد ذهب جماعة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي والتمتع بالعمرة المفردة على من لم يسق الهدي منهم : عبد الله بن عباس وجماعة فعندهم لا يجوز العدول عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به أصحابه فإنه قرن وساق الهدي وأمر كل من لا هدي معه بالفسخ إلى عمرة مفردة فالواجب أن نفعل كما فعل أو كما أمر وهذا القول أصح من قول من حرم فسخ الحج إلى العمرة من وجوه كثيرة سنذكرها إن شاء الله تعالى .

الثاني والعشرون ما أخرجاه في " الصحيحين " ، عن أبي قلابة عن أنس بن مالك . قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين فبات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء ، حمد الله وسبح [ وكبر ] ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما ، فلما قدمنا ، أمر الناس فحلوا ، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج . وفي " الصحيحين " أيضا : عن بكر بن عبد الله المزني ، عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا ، قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبى بالحج وحده فلقيت أنسا ، فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس ما تعدوننا إلا صبيانا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا وبين أنس وابن عمر في السن سنة أو سنة وشيء .

وفي " صحيح مسلم " ، عن يحيى بن أبي إسحاق وعبد العزيز بن صهيب ، وحميد أنهم سمعوا أنسا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما لبيك عمرة وحجا وروى أبو يوسف القاضي ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن أنس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبيك بحج وعمرة معا

وروى النسائي من حديث أبي أسماء عن أنس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بهما . وروي أيضا من حديث الحسن البصري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر

وروى البزار ، من حديث زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بحج وعمرة

ومن حديث سليمان التيمي عن أنس كذلك وعن أبي قدامة عن أنس مثله .

وذكر وكيع : حدثنا مصعب بن سليم قال سمعت أنسا مثله قال وحدثنا ابن أبي ليلى ، عن ثابت البناني ، عن أنس مثله وذكر الخشني : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ، عن أبي قزعة عن أنس مثله . وفي " صحيح البخاري " ، عن قتادة عن أنس اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر فذكرها وقال وعمرة مع حجته وقد تقدم . وذكر عبد الرزاق : حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة وحميد بن هلال ، عن أنس مثله فهؤلاء ستة عشر نفسا من الثقات كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلالا بحج وعمرة معا ، وهم الحسن البصري ، وأبو قلابة ، وحميد بن هلال ، وحميد بن عبد الرحمن الطويل ، وقتادة : ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وثابت البناني ، وبكر بن عبد الله المزني ، وعبد العزيز بن صهيب ، وسليمان التيمي ، ويحيى بن أبي إسحاق ، وزيد بن أسلم ، ومصعب بن سليم ، وأبو أسماء ، وأبو قدامة عاصم بن حسين وأبو قزعة وهو سويد بن حجر الباهلي .

فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه وهذا علي والبراء يخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقران وهذا علي أيضا ، يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله وهذا عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ربه أمره بأن يفعله وعلمه اللفظ الذي يقوله عند الإحرام وهذا علي أيضا يخبر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا ، وهؤلاء بقية من ذكرنا يخبرون عنه بأنه فعله وهذا هو صلى الله عليه وسلم يأمر به آله ويأمر به من ساق الهدي .


وهؤلاء الذين رووا القران بغاية البيان عائشة أم المؤمنين ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عباس ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان بإقراره لعلي وتقرير علي له وعمران بن الحصين ، والبراء بن عازب ، وحفصة أم المؤمنين ، وأبو قتادة ، وابن أبي أوفى ، وأبو طلحة والهرماس بن زياد وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وسعد بن أبي وقاص ، فهؤلاء هم سبعة عشر صحابيا رضي الله عنهم منهم من روى فعله ومنهم من روى لفظ إحرامه ومنهم من روى خبره عن نفسه ومنهم من روى أمره به .

فإن قيل كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا ، وعائشة وابن عباس ؟ وهذه عائشة تقول أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وفي لفظ أفرد الحج والأول في " الصحيحين " ، والثاني في مسلم وله لفظان هذا أحدهما والثاني: أهل بالحج مفردا وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده ذكره البخاري ، وهذا ابن عباس يقول وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج رواه مسلم وهذا جابر يقول أفرد الحج رواه ابن ماجه .

قيل إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت فإن أحاديث الباقين لم تتعارض فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد لتعارضها ، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها ؟ فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا ولا تعارض بينها ، وإنما ظن من ظن التعارض لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم .

ورأيت لشيخ الإسلام فصلا حسنا في اتفاق أحاديثهم نسوقه بلفظه قال والصواب أن الأحاديث في هذا الباب متفقة ليست بمختلفة إلا اختلافا يسيرا يقع مثله في غير ذلك فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتع والتمتع عندهم يتناول القران والذين روي عنهم أنه أفرد روي عنهم أنه تمتع أما الأول ففي " الصحيحين " عن سعيد بن المسيب قال اجتمع علي وعثمان بعسفان ، وكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال علي رضي الله عنه ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ؟ فقال عثمان دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك . فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك أهل بهما جميعا . فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم وأن هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ووافقه عثمان على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لكن كان النزاع بينهما ، هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا ؟ وهل شرع فسخ الحج إلى العمرة في حقنا كما تنازع فيه الفقهاء ؟ فقد اتفق علي وعثمان على أنه تمتع والمراد بالتمتع عندهم القران .

وفي " الصحيحين " عن مطرف قال قال عمران بن حصين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة ، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه وفي رواية عنه تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه

فهذا عمران وهو من أجل السابقين الأولين أخبر أنه تمتع وأنه جمع بين الحج والعمرة والقارن عند الصحابة متمتع ولهذا أوجبوا عليه الهدي ودخل في قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ البقرة 196 ] ، وذكر حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أتاني آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة

قال فهؤلاء الخلفاء الراشدون عمر وعثمان وعلي ، وعمران بن حصين روي عنهم بأصح الأسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين العمرة والحج وكانوا يسمون ذلك تمتعا ، وهذا أنس يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا .

وما ذكره بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عمر أنه لبى بالحج وحده فجوابه أن الثقات الذين هم أثبت في ابن عمر من بكر مثل سالم ابنه ونافع رووا عنه أنه قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج وهؤلاء أثبت في ابن عمر من بكر . فتغليط بكر عن ابن عمر أولى من تغليط سالم ونافع عنه وأولى من تغليطه هو على النبي صلى الله عليه وسلم ويشبه أن ابن عمر قال له أفرد الحج فظن أنه قال لبى بالحج فإن إفراد الحج كانوا يطلقونه ويريدون به إفراد أعمال الحج وذلك رد منهم على من قال إنه قرن قرانا طاف فيه طوافين وسعى فيه سعيين وعلى من يقول إنه حل من إحرامه فرواية من روى من الصحابة أنه أفرد الحج ترد على هؤلاء يبين هذا ما رواه مسلم في " صحيحه " عن نافع عن ابن عمر قال أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا ، وفي رواية أهل بالحج مفردا

فهذه الرواية إذا قيل إن مقصودها أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بحج مفردا ، قيل فقد ثبت بإسناد أصح من ذلك عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج وأنه بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وهذا من رواية الزهري ، عن سالم عن ابن عمر . وما عارض هذا عن ابن عمر إما أن يكون غلطا عليه وإما أن يكون مقصوده موافقا له وإما أن يكون ابن عمر لما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل ظن أنه أفرد كما وهم في قوله إنه اعتمر في رجب وكان ذلك نسيانا منه والنبي صلى الله عليه وسلم لما لم يحل من إحرامه وكان هذا حال المفرد ظن أنه أفرد ثم ساق حديث الزهري عن سالم عن أبيه تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث .

وقول الزهري : وحدثني عروة عن عائشة بمثل حديث سالم عن أبيه قال فهذا من أصح حديث على وجه الأرض وهو من حديث الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة عن سالم عن أبيه وهو من أصح حديث ابن عمر وعائشة . وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها في " الصحيحين " : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، الرابعة مع حجته ولم يعتمر بعد الحج باتفاق العلماء فيتعين أن يكون متمتعا تمتع قران أو التمتع الخاص .

وقد صح عن ابن عمر أنه قرن بين الحج والعمرة وقال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري في " الصحيح " .

قال وأما الذين نقل عنهم إفراد الحج فهم ثلاثة عائشة وابن عمر وجابر والثلاثة نقل عنهم التمتع وحديث عائشة وابن عمر أنه تمتع بالعمرة إلى الحج أصح من حديثهما ، وما صح في ذلك عنهما ، فمعناه إفراد أعمال الحج أو أن يكون وقع منه غلط كنظائره فإن أحاديث التمتع متواترة رواها أكابر الصحابة كعمر وعثمان وعلي وعمران بن حصين ورواها أيضا : عائشة وابن عمر وجابر بل رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة .

قلت : وقد اتفق أنس وعائشة وابن عمر وابن عباس على أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر وإنما وهم ابن عمر في كون إحداهن في رجب وكلهم قالوا : وعمرة مع حجته وهم سوى ابن عباس . قالوا : إنه أفرد الحج وهم سوى أنس قالوا : تمتع . فقالوا : هذا ، وهذا ، وهذا ، ولا تناقض بين أقوالهم فإنه تمتع تمتع قران وأفرد أعمال الحج وقرن بين النسكين وكان قارنا باعتبار جمعه بين النسكين ومفردا باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين ومتمتعا ترفهه بترك أحد السفرين .

ومن تأمل ألفاظ الصحابة ، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض واعتبر بعضها ببعض وفهم لغة الصحابة أسفر له صبح الصواب وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب والله الهادي لسبيل الرشاد والموفق لطريق السداد .

[ الرد على من ادعى حجه صلى الله عليه وسلم مفردا ]
فمن قال إنه أفرد الحج وأراد به أنه أتى بالحج مفردا ، ثم فرغ منه وأتى بالعمرة بعده من التنعيم أو غيره كما يظن كثير من الناس فهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة ولا أحد من أئمة الحديث . وإن أراد به أنه حج حجا مفردا ، لم يعتمر معه كما قاله طائفة من السلف والخلف فوهم أيضا ، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده كما تبين وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده ولم يفرد للعمرة أعمالا ، فقد أصاب وعلى قوله تدل جميع الأحاديث . ومن قال إنه قرن فإن أراد به أنه طاف للحج طوافا على حدة وللعمرة طوافا على حدة وسعى للحج سعيا ، وللعمرة سعيا ، فالأحاديث الثابتة ترد قوله . وإن أراد أنه قرن بين النسكين وطاف لهما طوافا واحدا ، وسعى لهما سعيا واحدا ، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله وقوله هو الصواب .

[ الرد على من ادعى حجه صلى الله عليه وسلم متمتعا ]
ومن قال إنه تمتع فإن أراد أنه تمتع تمتعا حل منه ثم أحرم بالحج إحراما مستأنفا ، فالأحاديث ترد قوله وهو غلط وإن أراد أنه تمتع تمتعا لم يحل منه بل بقي على إحرامه لأجل سوق الهدي فالأحاديث الكثيرة ترد قوله أيضا ، وهو أقل غلطا ، وإن أراد تمتع القران فهو الصواب الذي تدل عليه جميع الأحاديث الثابتة ويأتلف به شملها ، ويزول عنها الإشكال والاختلاف .
يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 02:17 AM
فصل [ غلط الناس في عمره صلى الله عليه وسلم ]
غلط في عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمس طوائف . إحداها : من قال إنه اعتمر في رجب وهذا غلط فإن عمره مضبوطة محفوظة لم يخرج في رجب إلى شيء منها ألبتة .

الثانية من قال إنه اعتمر في شوال وهذا أيضا وهم والظاهر - والله أعلم - أن بعض الرواة غلط في هذا ، وأنه اعتكف في شوال فقال اعتمر في شوال ، لكن سياق الحديث وقوله اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر عمرة في شوال وعمرتين في ذي القعدة يدل على أن عائشة أو من دونها ، إنما قصد العمرة .

الثالثة من قال إنه اعتمر من التنعيم بعد حجه وهذا لم يقله أحد من أهل العلم وإنما يظنه العوام ، ومن لا خبرة له بالسنة . الرابعة من قال إنه لم يعتمر في حجته أصلا ، والسنة الصحيحة المستفيضة التي لا يمكن ردها تبطل هذا القول . الخامسة من قال إنه اعتمر عمرة حل منها ، ثم أحرم بعدها بالحج من مكة ، والأحاديث الصحيحة تبطل هذا القول وترده

فصل [ غلط الناس في حجه صلى الله عليه وسلم ]
ووهم في حجه خمس طوائف . الطائفة الأولى : التي قالت حج حجا مفردا لم يعتمر معه . الثانية من قال حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره . الثالثة من قال حج متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنا ، كما قاله أبو محمد بن قدامة صاحب " المغني " وغيره .

الرابعة من قال حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين . الخامسة من قال حج حجا مفردا ، واعتمر بعده من التنعيم .

فصل [ غلط الناس في إحرامه صلى الله عليه وسلم ]
وغلط في إحرامه خمس طوائف . إحداها : من قال لبى بالعمرة وحدها ، واستمر عليها . الثانية من قال لبى بالحج وحده ، واستمر عليه . الثالثة من قال لبى بالحج مفردا ، ثم أدخل عليه العمرة وزعم أن ذلك خاص به .

الرابعة من قال لبى بالعمرة وحدها ، ثم أدخل عليها الحج في ثاني الحال . الخامسة من قال أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ، ثم عينه بعد إحرامه .

والصواب أنه أحرم بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام ولم يحل حتى حل منهما جميعا ، فطاف لهما طوافا واحدا ، وسعى لهما سعيا واحدا . وساق الهدي كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترا يعلمه أهل الحديث . والله أعلم .


فصل في أعذار القائلين بهذه الأقوال وبيان منشأ الوهم والغلط
[ عذر من قال اعتمر صلى الله عليه وسلم في رجب ]

أما عذر من قال اعتمر في رجب ، فحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب متفق عليه . وقد غلطته عائشة وغيرها ، كما في " الصحيحين " عن مجاهد ، قال دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالسا إلى حجرة عائشة وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى ، قال فسألناه عن صلاتهم . فقال بدعة . ثم قلنا له كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال أربعا . إحداهن في رجب ، فكرهنا أن نرد عليه

قال وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة فقال عروة : يا أمه أو يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت ما يقول ؟ قال يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، إحداهن في رجب . قالت يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة قط إلا وهو شاهد وما اعتمر في رجب قط

وكذلك قال أنس ، وابن عباس : إن عمره كلها كانت في ذي القعدة وهذا هو الصواب .

فصل [ عذر من قال اعتمر صلى الله عليه وسلم في شوال ]

وأما من قال : اعتمر في شوال ، فعذره ما رواه مالك في " الموطأ " ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا ثلاثا ، إحداهن في شوال واثنتين في ذي القعدة

ولكن هذا الحديث مرسل وهو غلط أيضا ، إما من هشام وإما من عروة أصابه فيه ما أصاب ابن عمر . وقد رواه أبو داود مرفوعا عن عائشة وهو غلط أيضا لا يصح رفعه . قال ابن عبد البر : وليس روايته مسندا مما يذكر عن مالك في صحة النقل . قلت : ويدل على بطلانه عن عائشة أن عائشة وابن عباس ، وأنس بن مالك قالوا : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة وهذا هو الصواب فإن عمرة الحديبية وعمرة القضية ، كانتا في ذي القعدة وعمرة القران إنما كانت في ذي القعدة وعمرة الجعرانة أيضا كانت في أول ذي القعدة وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة في شوال للقاء العدو وفرغ من عدوه وقسم غنائمهم ودخل مكة ليلا معتمرا من الجعرانة ، وخرج منها ليلا ، فخفيت عمرته هذه على كثير من الناس وكذلك قال محرش الكعبي . والله أعلم .

فصل [ عذر من قال اعتمر صلى الله عليه وسلم

من التنعيم بعد الحج ]

وأما من ظن أنه اعتمر من التنعيم بعد الحج فلا أعلم له عذرا ، فإن هذا خلاف المعلوم المستفيض من حجته ولم ينقله أحد قط ، ولا قاله إمام ولعل ظان هذا سمع أنه أفرد الحج ، ورأى أن كل من أفرد الحج من أهل الآفاق لا بد له أن يخرج بعده إلى التنعيم ، فنزل حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وهذا عين الغلط .

فصل [ عذر من قال لم يعتمر صلى الله عليه وسلم في حجته ]

وأما من قال إنه لم يعتمر في حجته أصلا ، فعذره أنه لما سمع أنه أفرد الحج ، وعلم يقينا أنه لم يعتمر بعد حجته قال إنه لم يعتمر في تلك الحجة اكتفاء منه بالعمرة المتقدمة والأحاديث المستفيضة الصحيحة ترد قوله كما تقدم من أكثر من عشرين وجها ، وقد قال هذه عمرة استمتعنا بها وقالت حفصة : ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ وقال سراقة بن مالك : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك قال ابن عمر ، وعائشة وعمران بن حصين وابن عباس وصرح أنس ، وابن عباس وعائشة أنه اعتمر في حجته وهي إحدى عمره الأربع .

فصل [ عذر من قال اعتمر صلى الله عليه وسلم عمرة حل منها ]

وأما من قال إنه اعتمر عمرة حل منها ، كما قاله القاضي أبو يعلى ومن وافقه فعذرهم ما صح عن ابن عمر وعائشة وعمران بن حصين وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم تمتع وهذا يحتمل أنه تمتع حل منه ويحتمل أنه لم يحل فلما أخبر معاوية أنه قصر عن رأسه بمشقص على المروة ، وحديثه في " الصحيحين " دل على أنه حل من إحرامه ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع لأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح محرما ، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة لوجهين أحدهما : أن في بعض ألفاظ الحديث الصحيح " وذلك في حجته " .

والثاني : أن في رواية النسائي بإسناد صحيح وذلك في أيام العشر وهذا إنما كان في حجته وحمل هؤلاء رواية من روى أن المتعة كانت له خاصة على أن طائفة منهم خصوا بالتحليل من الإحرام مع سوق الهدي دون من ساق الهدي من الصحابة وأنكر ذلك عليهم آخرون منهم شيخنا أبو العباس . وقالوا : من تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل لا هو ولا أحد ممن ساق الهدي .

فصل في أعذار الذين وهموا في صفة حجته
[عذر من قال حج صلى الله عليه وسلم مفردا ولم يعتمر فيه ]

أما من قال إنه حج حجا مفردا ، لم يعتمر فيه فعذره ما في " الصحيحين " عن عائشة أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج .

وقالوا : هذا التقسيم والتنويع صريح في إهلاله بالحج وحده . ولمسلم عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أهل بالحج مفردا

وفي " صحيح البخاري " عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده

وفي " صحيح مسلم " ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج . وفي " سنن ابن ماجه " ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج

وفي " صحيح مسلم " عنه خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة .

وفي " صحيح البخاري " ، عن عروة بن الزبير قال حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة ، أنه توضأ ثم طاف بالبيت [ ثم لم تكن عمرة ] ، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر ، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام ، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدآن بشيء أول من البيت تطوفان به ثم إنهما لا تحلان وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة فلما مسحوا الركن حلوا

وفي" سنن أبي داود " : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، ووهيب بن خالد ، كلاهما عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة فلما كان بذي الحليفة قال من شاء أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل بعمرة ثم انفرد وهيب في حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة وقال الآخر وأما أنا فأهل بالحج فصح بمجموع الروايتين أنه أهل بالحج مفردا

فأرباب هذا القول عذرهم ظاهر كما ترى ، ولكن ما عذرهم في حكمه وخبره الذي حكم به على نفسه وأخبر عنها بقوله سقت الهدي وقرنت ، وخبر من هو تحت بطن ناقته وأقرب إليه حينئذ من غيره فهو من أصدق الناس يسمعه يقول لبيك بحجة وعمرة وخبر من هو من أعلم الناس عنه صلى الله عليه وسلم ، علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين يخبر أنه أهل بهما جميعا ، ولبى بهما جميعا ، وخبر زوجته حفصة في تقريره لها على أنه معتمر بعمرة لم يحل منها ، فلم ينكر ذلك عليها ، بل صدقها ، وأجابها بأنه مع ذلك حاج ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل يسمعه أصلا ، بل ينكره .

وما عذرهم عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالوحي الذي جاءه من ربه يأمره فيه أن يهل بحجة في عمرة وما عذرهم عن خبر من أخبر عنه من أصحابه أنه قرن لأنه علم أنه لا يحج بعدها ، وخبر من أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر مع حجته وليس مع من قال إنه أفرد الحج شيء من ذلك ألبتة فلم يقل أحد منهم عنه إني أفردت ، ولا أتاني آت من ربي يأمرني بالإفراد ولا قال أحد : ما بال الناس حلوا ، ولم تحل من حجتك ، كما حلوا هم بعمرة ولا قال أحد : سمعته يقول لبيك بعمرة مفردة ألبتة ولا بحج مفرد ولا قال أحد : إنه اعتمر أربع عمر الرابعة بعد حجته وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يخبر عن نفسه بأنه قارن ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بأن يقال لم يسمعوه .

ومعلوم قطعا أن تطرق الوهم والغلط إلى من أخبر عما فهمه هو من فعله يظنه كذلك أولى من تطرق التكذيب إلى من قال سمعته يقول كذا وكذا وإنه لم يسمعه فإن هذا لا يتطرق إليه إلا التكذيب بخلاف خبر من أخبر عما ظنه من فعله وكان واهما ، فإنه لا ينسب إلى الكذب ولقد نزه الله عليا ، وأنسا ، والبراء وحفصة عن أن يقولوا : سمعناه يقول كذا ولم يسمعوه ونزهه ربه تبارك وتعالى ، أن يرسل إليه أن افعل كذا وكذا ولم يفعله هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يخالفوا هؤلاء في مقصودهم ولا ناقضوهم وإنما أرادوا إفراد الأعمال واقتصاره على عمل المفرد فإنه ليس في عمله زيادة على عمل المفرد .

ومن روى عنهم ما يوهم خلاف هذا ، فإنه عبر بحسب ما فهمه كما سمع بكر بن عبد الله ابن عمر يقول : أفرد الحج ، فقال لبى بالحج وحده فحمله على المعنى . وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه . إنه تمتع فبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، فهذا سالم يخبر بخلاف ما أخبر به بكر ولا يصح تأويل هذا عنه بأنه أمر به فإنه فسره بقوله وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وكذا الذين رووا الإفراد عن عائشة رضي الله عنها ، فهما : عروة والقاسم وروى القران عنها عروة ومجاهد وأبو الأسود يروي عن عروة الإفراد ، والزهري يروي عنه القران .

فإن قدرنا تساقط الروايتين سلمت رواية مجاهد ، وإن حملت رواية الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج تصادقت الروايات وصدق بعضها بعضا ، ولا ريب أن قول عائشة وابن عمر أفرد الحج ، محتمل لثلاثة معان :

أحدها : الإهلال به مفردا .

الثاني : إفراد أعماله .

الثالث أنه حج حجة واحدة لم يحج معها غيرها ، بخلاف العمرة فإنها كانت أربع مرات .

وأما قولهما : تمتع بالعمرة إلى الحج وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، فحكيا فعله فهذا صريح لا يحتمل غير معنى واحد فلا يجوز رده بالمجمل وليس في رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة أنه أهل بالحج ما يناقض رواية مجاهد وعروة عنها أنه قرن فإن القارن حاج مهل بالحج قطعا ، وعمرته جزء من حجته فمن أخبر عنها أنه أهل بالحج ، فهو غير صادق .

فإن ضمت رواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود ثم ضمتا إلى رواية عروة تبين من مجموع الروايات أنه كان قارنا ، وصدق بعضها بعضا ، حتى لو لم يحتمل قول عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفردا ، لوجب قطعا أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر اعتمر في رجب وقول عائشة أو عروة إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال ، إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلا إلى تكذيب رواتها ، ولا تأويلها وحملها على غير ما دلت عليه ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التي قد اضطربت على رواتها ، واختلف عنهم فيها ، وعارضهم من هو أوثق منهم أو مثلهم عليها .

وأما قول جابر إنه أفرد الحج ، فالصريح من حديثه ليس فيه شيء من هذا ، وإنما فيه إخباره عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج فأين في هذا ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج مفردا . وأما حديثه الآخر الذي رواه ابن ماجه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ، فله ثلاث طرق

أجودها : طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه وهذا يقينا مختصر من حديثه الطويل في حجة الوداع ومروي بالمعنى ، والناس خالفوا الدراوردي في ذلك . وقالوا : أهل بالحج ، وأهل بالتوحيد . والطريق الثاني : فيها مطرف بن مصعب ، عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن جعفر ومطرف قال ابن حزم هو مجهول قلت ليس هو بمجهول ولكنه ابن أخت مالك روى عنه البخاري ، وبشر بن موسى ، وجماعة . قال أبو حاتم صدوق مضطرب الحديث هو أحب إلي من إسماعيل بن أبي أويس وقال ابن عدي : يأتي بمناكير وكأن أبا محمد بن حزم رأى في النسخة مطرف بن مصعب فجهله وإنما هو مطرف أبو مصعب وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار .

وممن غلط في هذا أيضا، محمد بن عثمان الذهبي في كتابه " الضعفاء " فقال : مطرف بن مصعب المدني عن ابن أبي ذئب منكر الحديث .

قلت والراوي عن ابن أبي ذئب ، والدراوردي ، ومالك هو مطرف أبو مصعب المدني ، وليس بمنكر الحديث وإنما غره قول ابن عدي يأتي بمناكير ثم ساق له منها ابن عدي جملة لكن هي من رواية أحمد بن داود بن صالح عنه كذبه الدارقطني ، والبلاء فيها منه .

والطريق الثالث لحديث جابر فيها محمد بن عبد الوهاب ينظر فيه من هو وما حاله عن محمد بن مسلم إن كان الطائفي فهو ثقة عند ابن معين ، ضعيف عند الإمام أحمد ، وقال ابن حزم ساقط ألبتة ولم أر هذه العبارة فيه لغيره وقد استشهد به مسلم قال ابن حزم وإن كان غيره فلا أدري من هو ؟ قلت : ليس بغيره بل هو الطائفي يقينا . وبكل حال فلو صح هذا عن جابر لكان حكمه حكم المروي عن عائشة وابن عمر وسائر الرواة الثقات إنما قالوا : أهل بالحج فلعل هؤلاء حملوه على المعنى ، وقالوا: أفرد الحج ومعلوم أن العمرة إذا دخلت في الحج فمن قال : أهل بالحج لا يناقض من قال أهل بهما ، بل هذا فصل وذاك أجمل .

ومن قال أفرد الحج يحتمل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ولكن هل قال أحد قط عنه إنه سمعه يقول " لبيك بحجة مفردة " ، هذا ما لا سبيل إليه حتى لو وجد ذلك لم يقدم على تلك الأساطين التي ذكرناها والتي لا سبيل إلى دفعها ألبتة وكان تغليط هذا أو حمله على أول الإحرام وأنه صار قارنا في أثنائه متعينا ، فكيف ولم يثبت ذلك وقد قدمنا عن سفيان الثوري ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع . رواه زكريا الساجي ، عن عبد الله بن أبي زياد القطواني ، عن زيد بن الحباب ، عن سفيان . ولا تناقض بين هذا وبين قوله : أهل بالحج ، وأفرد بالحج ولبى بالحج كما تقدم .


فصل [ وجوه الترجيح لرواية من روى القران ]
فحصل الترجيح لرواية من روى القران لوجوه عشرة .

أحدها : أنهم أكثر كما تقدم .
الثاني : أن طرق الإخبار بذلك تنوعت كما بيناه .
الثالث أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحا ، وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك ولم يجئ شيء من ذلك في الإفراد .
الرابع تصديق روايات من روى أنه اعتمر أربع عمر لها .
الخامس أنها صريحة لا تحتمل التأويل بخلاف روايات الإفراد .
السادس أنها متضمنة زيادة سكت عنها أهل الإفراد أو نفوها ، والذاكر الزائد مقدم على الساكت والمثبت مقدم على النافي .
السابع أن رواة الإفراد أربعة عائشة ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس ، والأربعة رووا القران فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم سلمت رواية من عداهم للقران عن معارض وإن صرنا إلى الترجيح وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه ولا اختلفت كالبراء ، وأنس ، وعمر بن الخطاب ، وعمران بن حصين وحفصة ، ومن معهم ممن تقدم .
الثامن أنه النسك الذي أمر به من ربه فلم يكن ليعدل عنه .
التاسع أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي ثم يسوق هو الهدي ويخالفه .
العاشر أنه النسك الذي أمر به آله وأهل بيته واختاره لهم ولم يكن ليختار لهم إلا ما اختار لنفسه .

وثمت ترجيح حادي عشر وهو قوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وهذا يقتضي أنها قد صارت جزءا منه أو كالجزء الداخل فيه بحيث لا يفصل بينها وبينه وإنما تكون مع الحج كما يكون الداخل في الشيء معه .
وترجيح ثاني عشر وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للصبي بن معبد وقد أهل بحج وعمرة ، فأنكر عليه زيد بن صوحان ، أو سلمان بن ربيعة ، فقال له عمر : هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يوافق رواية عمر عنه صلى الله عليه وسلم أن الوحي جاءه من الله بالإهلال بهما جميعا ، فدل على أن القران سنته التي فعلها ، وامتثل أمر الله له بها .
وترجيح ثالث عشر أن القارن تقع أعماله عن كل من النسكين فيقع إحرامه وطوافه وسعيه عنهما معا ، وذلك أكمل من وقوعه عن أحدهما ، وعمل كل فعل على حدة .
وترجيح رابع عشر وهو أن النسك الذي اشتمل على سوق الهدي أفضل بلا ريب من نسك خلا عن الهدي . فإذا قرن كان هديه عن كل واحد من النسكين فلم يخل نسك منهما عن هدي ولهذا - والله أعلم - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ساق الهدي أن يهل بالحج والعمرة معا ، وأشار إلى ذلك في المتفق عليه من حديث البراء بقوله " إني سقت الهدي وقرنت .

[ قول المصنف التمتع أفضل من الإفراد ]

وترجيح خامس عشر وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة .

منها : أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إليه ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه

ومنها : أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة

ومنها : أنه أمر به كل من لم يسق الهدي .

ومنها : أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل أصحابه القران لمن ساق الهدي والتمتع لمن لم يسق الهدي ولوجوه كثيرة غير هذه والمتمتع إذا ساق الهدي فهو أفضل من متمتع اشتراه من مكة ، بل في أحد القولين لا هدي إلا ما جمع فيه بين الحل والحرم . فإذا ثبت هذا ، فالقارن السائق أفضل من متمتع لم يسق ومن متمتع ساق الهدي لأنه قد ساق من حين أحرم والمتمتع إنما يسوق الهدي من أدنى الحل فكيف يجعل مفرد لم يسق هديا ، أفضل من متمتع ساقه من أدنى الحل ؟ فكيف إذا جعل أفضل من قارن ساقه من الميقات وهذا بحمد الله واضح .

فصل [ عذر من قال حج صلى الله عليه وسلم متمتعا تمتعا حل فيه من إحرامه ]

وأما قول من قال إنه حج متمتعا تمتعا حل فيه من إحرامه ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي . فعذره ما تقدم من حديث معاوية ، أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص في العشر وفي لفظ وذلك في حجته . وهذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله إنه اعتمر في رجب فإن سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعددة كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلا يوم النحر

ولذلك أخبر عن نفسه بقوله لولا أن معي الهدي لأحللت وقوله إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر وهذا خبر عن نفسه فلا يدخله الوهم ولا الغلط بخلاف خبر غيره عنه لا سيما خبرا يخالف ما أخبر به عن نفسه وأخبر عنه به الجم الغفير أنه لم يأخذ من شعره شيئا ، لا بتقصير ولا حلق وأنه بقي على إحرامه حتى حلق يوم النحر

ولعل معاوية قصر عن رأسه في عمرة الجعرانة ، فإنه كان حينئذ قد أسلم ، ثم نسي فظن أن ذلك كان في العشر كما نسي ابن عمر أن عمره كانت كلها في ذي القعدة . وقال كانت [ إحداهن ] في رجب وقد كان معه فيها ، والوهم جائز على من سوى الرسول صلى الله عليه وسلم . فإذا قام الدليل عليه صار واجبا .

وقد قيل إن معاوية لعله قصر عن رأسه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاق يوم النحر فأخذه معاوية على المروة ، ذكره أبو محمد بن حزم ، وهذا أيضا من وهمه فإن الحلاق لا يبقي غلطا شعرا يقصر منه ثم يبقي منه بعد التقصير بقية يوم النحر وقد قسم شعر رأسه بين الصحابة فأصاب أبا طلحة أحد الشقين وبقية الصحابة اقتسموا الشق الآخر الشعرة والشعرتين والشعرات وأيضا فإنه لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعيا واحدا وهو سعيه الأول لم يسع عقب طواف الإفاضة ولا اعتمر بعد الحج قطعا ، فهذا وهم محض . وقيل هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلط وخطأ أخطأ فيه الحسن بن علي ، فجعله عن معمر عن ابن طاووس . وإنما هو عن هشام بن حجير عن ابن طاووس . وهشام ضعيف .

قلت : والحديث الذي في البخاري عن معاوية قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص ولم يزد على هذا ، والذي عند مسلم قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة . وليس في " الصحيحين " غير ذلك .

وأما رواية من روى " في أيام العشر " فليست في الصحيح وهي معلولة أو وهم من معاوية . قال قيس بن سعد راويها عن عطاء عن ابن عباس عنه والناس ينكرون هذا على معاوية . وصدق قيس ، فنحن نحلف بالله إن هذا ما كان في العشر قط .

ويشبه هذا وهم معاوية في الحديث الذي رواه أبو داود عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا ، وعن ركوب جلود النمور ؟ قالوا : نعم . قال فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة ؟ قالوا : أما هذه فلا . فقال : أما إنها معها ولكنكم نسيتم . ونحن نشهد بالله إن هذا وهم من معاوية أو كذب عليه فلم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قط ، وأبو شيخ شيخ لا يحتج به فضلا عن أن يقدم على الثقات الحفاظ الأعلام وإن روى عنه قتادة ويحيى بن أبي كثير . واسمه خيوان بن خلدة بالخاء المعجمة وهو مجهول .


فصل [ عذر من قال حج صلى الله عليه وسلم متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي ]
وأما من قال حج متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي كما قاله صاحب " المغني " وطائفة فعذرهم قول عائشة وابن عمر : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول حفصة : ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك ، وقول سعد في المتعة قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه وقول ابن عمر لمن سأله عن متعة الحج هي حلال فقال له السائل إن أباك قد نهى عنها ، فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها ، وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أأمر أبي تتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال الرجل بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال هؤلاء ولولا الهدي لحل كما يحل المتمتع الذي لا هدي معه ولهذا قال لولا أن معي الهدي لأحللت فأخبر أن المانع له من الحل سوق الهدي والقارن إنما يمنعه من الحل القران لا الهدي . وأرباب هذا القول قد يسمون هذا المتمتع قارنا ، لكونه أحرم بالحج قبل التحلل من العمرة ولكن القران المعروف أن يحرم بهما جميعا ، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف .

[ الفرق بين القارن والمتمتع السائق للهدي ]

والفرق بين القارن والمتمتع السائق من وجهين أحدهما : من الإحرام فإن القارن هو الذي يحرم بالحج قبل الطواف إما في ابتداء الإحرام أو في أثنائه .

والثاني : أن القارن ليس عليه إلا سعي واحد فإن أتى به أولا ، وإلا سعى عقيب طواف الإفاضة والمتمتع عليه سعي ثان عند الجمهور . وعن أحمد رواية أخرى : أنه يكفيه سعي واحد كالقارن والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسع سعيا ثانيا عقيب طواف الإفاضة فكيف يكون متمتعا على هذا القول . فإن قيل فعلى الرواية الأخرى ، يكون متمتعا ، ولا يتوجه الإلزام ولها وجه قوي من الحديث الصحيح وهو ما رواه مسلم في " صحيحه " ، عن جابر قال لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا . طوافه الأول هذا ، مع أن أكثرهم كانوا متمتعين . وقد روى سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل قال حلف طاووس : ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا .

قيل الذين نظروا أنه كان متمتعا تمتعا خاصا ، لا يقولون بهذا القول بل يوجبون عليه سعيين والمعلوم من سنته صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يسع إلا سعيا واحدا ، كما ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه قرن وقدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم يزد على ذلك ولم يحلق ولا قصر ولا حل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق رأسه ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومراده بطوافه الأول الذي قضى به حجه وعمرته الطواف بين الصفا والمروة بلا ريب .

وذكر الدارقطني ، عن عطاء ونافع عن ابن عمر وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما طاف لحجه وعمرته طوافا واحدا ، وسعى سعيا واحدا ، ثم قدم مكة ، فلم يسع بينهما بعد الصدر . فهذا يدل على أحد أمرين ولا بد إما أن يكون قارنا ، وهو الذي لا يمكن من أوجب على المتمتع سعيين أن يقول غيره وإما أن المتمتع يكفيه سعي واحد ولكن الأحاديث التي تقدمت في بيان أنه كان قارنا صريحة في ذلك فلا يعدل عنها . .

فإن قيل فقد روى شعبة ، عن حميد بن هلال ، عن مطرف عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف طوافين وسعى سعيين رواه الدارقطني عن ابن صاعد : حدثنا محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا عبد الله بن داود ، عن شعبة . قيل هذا خبر معلول وهو غلط . قال الدارقطني : يقال إن محمد بن يحيى حدث بهذا من حفظه فوهم في متنه والصواب بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن بين الحج والعمرة والله أعلم . وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على أن هذا الحديث غلط .

وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قدامة ، إنما ذهب إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان متمتعا ، لأنه رأى الإمام أحمد قد نص على أن التمتع أفضل من القران ورأى أن الله سبحانه لم يكن ليختار لرسوله إلا الأفضل ورأى الأحاديث قد جاءت بأنه تمتع ورأى أنها صريحة في أنه لم يحل فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعا خاصا لم يحل منه ولكن أحمد لم يرجح التمتع لكون النبي صلى الله عليه وسلم حج متمتعا ، كيف وهو القائل لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قارنا ، وإنما اختار التمتع لكونه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي أمر به الصحابة أن يفسخوا حجهم إليه وتأسف على فوته .

[ إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسق فالتمتع أفضل ]

ولكن نقل عنه المروزي ، أنه إذا ساق الهدي فالقران أفضل فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثانية ومنهم من جعل المسألة رواية واحدة وأنه إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسق فالتمتع أفضل وهذه طريقة شيخنا ، وهي التي تليق بأصول أحمد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتمن أنه كان جعلها عمرة مع سوقه الهدي بل ود أنه كان جعلها عمرة ولم يسق الهدي .

[ هل التمتع مع ترك سوق الهدي أفضل من القران مع السوق ]

بقي أن يقال فأي الأمرين أفضل أن يسوق ويقرن أو يترك السوق ويتمتع كما ود النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله .

قيل قد تعارض في هذه المسألة أمران .

أحدهما : أنه صلى الله عليه وسلم قرن وساق الهدي ولم يكن الله سبحانه ليختار له إلا أفضل الأمور ولا سيما وقد جاءه الوحي به من ربه تعالى ، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم .

والثاني قوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة . فهذا يقتضي ، أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي لأن الذي استدبره هو الذي فعله ومضى فصار خلفه والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعد بل هو أمامه فبين أنه لو كان مستقبلا لما استدبره وهو الإحرام بالعمرة دون هدي ومعلوم أنه لا يختار أن ينتقل عن الأفضل إلى المفضول بل إنما يختار الأفضل وهذا يدل على أن آخر الأمرين منه ترجيح التمتع .

ولمن رجح القران مع السوق أن يقول هو صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول مرجوح بل لأن الصحابة شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه هو محرما ، وكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أمروا به مع انشراح وقبول ومحبة وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب كما قال لعائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين فهذا ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف فصار هذا هو الأولى في هذه الحال فكذلك اختياره للمتعة بلا هدي . وفي هذا جمع بين ما فعله وبين ما وده وتمناه ويكون الله سبحانه قد جمع له بين الأمرين أحدهما بفعله له والثاني : بتمنيه ووده له فأعطاه أجر ما فعله وأجر ما نواه من الموافقة وتمناه وكيف يكون نسك يتخلله التحلل ولم يسق فيه الهدي أفضل من نسك لم يتخلله تحلل وقد ساق فيه مائة بدنة وكيف يكون نسك أفضل في حقه من نسك اختاره الله له وأتاه به الوحي من ربه .

فإن قيل التمتع وإن تخلله تحلل لكن قد تكرر فيه الإحرام وإنشاؤه عبادة محبوبة للرب والقران لا يتكرر فيه الإحرام ؟ قيل في تعظيم شعائر الله بسوق الهدي والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس في مجرد تكرر الإحرام ثم إن استدامته قائمة مقام تكرره وسوق الهدي لا مقابل له يقوم مقامه .

[ قول المصنف التمتع أفضل من إفراد تعقبه عمرة ]

فإن قيل فأيما أفضل إفراد يأتي عقيبه بالعمرة أو تمتع يحل منه ثم يحرم بالحج عقيبه ؟ قيل معاذ الله أن نظن أن نسكا قط أفضل من النسك الذي اختاره الله لأفضل الخلق ، وسادات الأمة وأن نقول في نسك لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة الذين حجوا معه بل ولا غيرهم من أصحابه إنه أفضل مما فعلوه بأمره فكيف يكون حج على وجه الأرض أفضل من الحج الذي حجه النبي صلوات الله عليه وأمر به أفضل الخلق واختاره لهم وأمرهم بفسخ ما عداه من الأنساك إليه وود أنه كان فعله لا حج قط أكمل من هذا . وهذا وإن صح عنه الأمر لمن ساق الهدي بالقران ولمن لم يسق بالتمتع ففي جواز خلافه نظر ولا يوحشك قلة القائلين بوجوب ذلك فإن فيهم البحر الذي لا ينزف عبد الله بن عباس ، وجماعة من أهل الظاهر والسنة هي الحكم بين الناس والله المستعان .


فصل [ عذر من قال حج صلى الله عليه وسلم قارنا طاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ]
وأما من قال إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين كما قاله كثير من فقهاء الكوفة ، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد ، عن ابن عمر ، أنه جمع بين حج وعمرة معا ، وقال : سبيلهما واحد ، قال وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين . وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت .

وعن علي بن أبي طالب ، أنه جمع بينهما ، وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت .

وعن علي رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، فطاف طوافين وسعى سعيين .

وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين وسعى سعيين وأبو بكر وعمر وعلي ، وابن مسعود . وعن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين .

وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة بل لا يصح منها حرف واحد .

أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة ، وقال الدارقطني : لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك الحديث .

وأما حديث علي رضي الله عنه الأول فيرويه حفص بن أبي داود . وقال أحمد ومسلم حفص متروك الحديث وقال ابن خراش : هو كذاب يضع الحديث وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، ضعيف .

وأما حديثه الثاني : فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي . حدثني أبي عن أبيه عن جده قال الدارقطني : عيسى بن عبد الله يقال له مبارك وهو متروك الحديث .

وأما حديث علقمة عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد عن إبراهيم عن علقمة . قال الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ومن دونه في الإسناد ضعفاء انتهى . وفيه عبد العزيز بن أبان ، قال يحيى : هو كذاب خبيث . وقال الرازي والنسائي متروك الحديث .

وأما حديث عمران بن حصين فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي ، وحدث به من حفظه فوهم فيه وقد حدث به على الصواب مرارا ، ويقال إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي .

وقد روى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث الدراوردي ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرن بين حجته وعمرته أجزأه لهما طواف واحد ولفظ الترمذي من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف وسعي واحد عنهما ، حتى يحل منهما جميعا

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ، فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا

وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة إن طوافك بالبيت وبالصفا والمروة ، يكفيك لحجك وعمرتك

وروى عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف طوافا واحدا لحجه وعمرته . وعبد الملك : أحد الثقات المشهورين احتج به مسلم وأصحاب السنن . وكان يقال له الميزان ولم يتكلم فيه بضعف ولا جرح وإنما أنكر عليه حديث الشفعة

وتلك شكاة ظاهر عنه عارها


وقد روى الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة وطاف لهما طوافا واحدا وهذا ، وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة ، فقد روى عنه سفيان ، وشعبة ، وابن نمير ، وعبد الرزاق ، والخلق عنه . قال الثوري : وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه وعيب عليه التدليس وقل من سلم منه . وقال أحمد كان من الحفاظ وقال ابن معين : ليس بالقوي وهو صدوق يدلس . وقال أبو حاتم إذا قال حدثنا ، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه .

وقد روى الدارقطني ، من حديث ليث بن أبي سليم قال حدثني عطاء وطاووس ، ومجاهد ، عن جابر وعن ابن عمر وعن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا لعمرتهم وحجهم وليث بن أبي سليم ، احتج به أهل السنن الأربعة واستشهد به مسلم وقال ابن معين : لا بأس به وقال الدارقطني : كان صاحب سنة وإنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد حسب وقال عبد الوارث : كان من أوعية العلم وقال أحمد مضطرب الحديث ولكن حدث عنه الناس وضعفه النسائي ، ويحيى في رواية عنه ومثل هذا حديثه حسن . وإن لم يبلغ رتبة الصحة .

وفي " الصحيحين " عن جابر قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة ثم وجدها تبكي فقال ما يبكيك ؟ " فقالت قد حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت فقال " اغتسلي ثم أهلي ففعلت ثم وقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ، ثم قال " قد حللت من حجك وعمرتك جميعا

وهذا يدل على ثلاثة أمور أحدها : أنها كانت قارنة والثاني : أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد . والثالث أنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة التي حاضت فيها ، ثم أدخلت عليها الحج وأنها لم ترفض إحرام العمرة بحيضها ، وإنما رفضت أعمالها والاقتصار عليها ، وعائشة لم تطف أولا طواف القدوم ، بل لم تطف إلا بعد التعريف وسعت مع ذلك فإذا كان طواف الإفاضة والسعي بعد يكفي القارن فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة والسعي بعد يكفي القارن فلأن يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة وسعي واحد مع أحدهما بطريق الأولى ، لكن عائشة تعذر عليها الطواف الأول فصارت قصتها حجة فإن المرأة التي يتعذر عليها الطواف الأول تفعل كما فعلت عائشة تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ويكفيها لهما طواف الإفاضة والسعي عقيبه .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومما يبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطف طوافين ولا سعى سعيين قول عائشة رضي الله عنها : وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا . متفق عليه . وقول جابر لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا ، طوافه الأول . رواه مسلم .

وقوله لعائشة يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك رواه مسلم . وقوله لها في رواية أبي داود طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك جميعا وقوله لها في الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين الصفا والمروة : " قد حللت من حجك وعمرتك جميعا " قال والصحابة الذين نقلوا حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم نقلوا أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ، أمرهم بالتحليل إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل إلا يوم النحر ولم ينقل أحد منهم أن أحدا منهم طاف وسعى ، ثم طاف وسعى . ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله . فلما لم ينقله أحد من الصحابة علم أنه لم يكن .

وعمدة من قال بالطوافين والسعيين أثر يرويه الكوفيون ، عن علي وآخر عن ابن مسعود رضي الله عنهما . وقد روى جعفر بن محمد ، عن أبيه عن علي رضي الله عنه أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد خلاف ما روى أهل الكوفة ، وما رواه العراقيون ، منه ما هو منقطع ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون ولهذا طعن علماء النقل في ذلك حتى قال ابن حزم كل ما روي في ذلك عن الصحابة لا يصح منه ولا كلمة واحدة . وقد نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو موضوع بلا ريب . وقد حلف طاووس ما طاف أحد من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته إلا طوافا واحدا ، وقد ثبت مثل ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر وغيرهم رضي الله عنهم وهم أعلم الناس بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخالفوها ، بل هذه الآثار صريحة في أنهم لم يطوفوا بالصفا والمروة إلا مرة واحدة

[ هل على القارن والمتمتع سعيان أو سعي واحد ]

؟ وقد تنازع الناس في القارن والمتمتع هل عليهما سعيان أو سعي واحد ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره .

أحدها : ليس على واحد منهما إلا سعي واحد كما نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله . قال عبد الله قلت لأبي : المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال إن طاف طوافين فهو أجود . وإن طاف طوافا واحدا ، فلا بأس . قال شيخنا : وهذا منقول عن غير واحد من السلف .

الثاني : المتمتع عليه سعيان والقارن عليه سعي واحد وهذا هو القول الثاني في مذهبه وقول من يقوله من أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله . والثالث إن على كل واحد منهما سعيين كمذهب أبي حنيفة رحمه الله ويذكر قولا في مذهب أحمد رحمه الله والله أعلم . والذي تقدم هو بسط قول شيخنا وشرحه والله أعلم .

فصل [ عذر من قال حج صلى الله عليه وسلم مفردا اعتمر عقيبه من التنعيم ]

وأما الذين قالوا : إنه حج حجا مفردا اعتمر عقيبه من التنعيم ، فلا يعلم لهم عذر ألبتة إلا ما تقدم من أنهم سمعوا أنه أفرد الحج ، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم ، فتوهموا أنه فعل كذلك .


فصل [ عذر من قال لبى صلى الله عليه وسلم بالعمرة وحدها واستمر عليها ]

وأما الذين غلطوا في إهلاله فمن قال إنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها ، فعذره أنه سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع والمتمتع عنده من أهل بعمرة مفردة بشروطها . وقد قالت له حفصة رضي الله عنها : ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك ؟ وكل هذا لا يدل على أنه قال لبيك بعمرة مفردة ولم ينقل هذا أحد عنه ألبتة فهو وهم محض والأحاديث الصحيحة المستفيضة في لفظه في إهلاله تبطل هذا .

فصل [ عذر من قال لبى صلى الله عليه وسلم بالحج وحده واستمر عليه ]

وأما من قال إنه لبى بالحج وحده واستمر عليه فعذره ما ذكرنا عمن قال : أفرد الحج ولبى بالحج وقد تقدم الكلام على ذلك وأنه لم يقل أحد قط : إنه قال لبيك بحجة مفردة وإن الذين نقلوا لفظه صرحوا بخلاف ذلك .

فصل [ عذر من قال لبى صلى الله عليه وسلم بالحج وحده ثم أدخل عليه العمرة ]

وأما من قال إنه لبى بالحج وحده ، ثم أدخل عليه العمرة وظن أنه بذلك تجتمع الأحاديث فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة فحملها على ابتداء إحرامه ثم إنه أتاه آت من ربه تعالى فقال قل : عمرة في حجة ، فأدخل العمرة حينئذ على الحج فصار قارنا ; ولهذا قال للبراء بن عازب : " إني سقت الهدي وقرنت " ، فكان مفردا في ابتداء إحرامه قارنا في أثنائه وأيضا فإن أحدا لم يقل إنه أهل بالعمرة ولا لبى بالعمرة ولا أفرد العمرة ولا قال خرجنا لا ننوي إلا العمرة بل قالوا : أهل بالحج ولبى بالحج وأفرد الحج وخرجنا لا ننوي إلا الحج وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولا بالحج ثم جاءه الوحي من ربه تعالى بالقران فلبى بهما فسمعه أنس يلبي بهما ، وصدق وسمعته عائشة ، وابن عمر ، وجابر يلبي بالحج وحده أولا وصدقوا .

قالوا : وبهذا تتفق الأحاديث ويزول عنها الاضطراب .

وأرباب هذه المقالة لا يجيزون إدخال العمرة على الحج ويرونه لغوا ، ويقولون إن ذلك خاص بالنبي دون غيره . قالوا : ومما يدل على ذلك أن ابن عمر قال : لبى بالحج وحده ، وأنس قال أهل بهما جميعا ، وكلاهما صادق فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقران سابقا على إهلاله بالحج وحده لأنه إذا أحرم قارنا ، لم يمكن أن يحرم بعد ذلك بحج مفرد وينقل الإحرام إلى الإفراد فتعين أنه أحرم بالحج مفردا ، فسمعه ابن عمر وعائشة وجابر فنقلوا ما سمعوه ثم أدخل عليه العمرة فأهل بهما جميعا لما جاءه الوحي من ربه فسمعه أنس يهل بهما ، فنقل ما سمعه ثم أخبر عن نفسه بأنه قرن وأخبر عنه من تقدم ذكره من الصحابة بالقران فاتفقت أحاديثهم وزال عنها الاضطراب والتناقض . قالوا : ويدل عليه قول عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت عائشة فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج وأهل به ناس معه . فهذا يدل على أنه كان مفردا في ابتداء إحرامه فعلم أن قرانه كان بعد ذلك .

ولا ريب أن في هذا القول من مخالفة الأحاديث المتقدمة ودعوى التخصيص للنبي صلى الله عليه وسلم بإحرام لا يصح في حق الأمة ما يرده ويبطله ومما يرده أن أنسا قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء ، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر .

وفي حديث عمر أن الذي جاءه من ربه قال له " صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة " . فكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فالذي روى عمر أنه أمر به وروى أنس أنه فعله سواء فصلى الظهر بذي الحليفة ، ثم قال " لبيك حجا وعمرة

[ هل يجوز إدخال العمرة على الحج ]

واختلف الناس في جواز إدخال العمرة على الحج على قولين وهما روايتان عن أحمد ، أشهرهما : إنه لا يصح والذين قالوا بالصحة كأبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله بنوه على أصولهم وأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين فإذا أدخل العمرة على الحج فقد التزم زيادة عمل على الإحرام بالحج وحده ومن قال يكفيه طواف واحد وسعي واحد قال لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوط أحد السفرين ولم يلتزم به زيادة عمل بل نقصانه فلا يجوز وهذا مذهب الجمهور .

فصل [ عذر من قال أحرم صلى الله عليه وسلم بعمرة ثم أدخل عليها الحج ]

وأما القائلون إنه أحرم بعمرة ثم أدخل عليها الحج فعذرهم قول ابن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج . متفق عليه .

وهذا ظاهر في أنه أحرم أولا بالعمرة ثم أدخل عليها الحج ويبين ذلك أيضا أن ابن عمر لما حج زمن ابن الزبير أهل بعمرة ثم قال : أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم يزد على ذلك ولم ينحر ولم يحلق ولم يقصر ولم يحل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن ذلك قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . وقال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فعند هؤلاء أنه كان متمتعا في ابتداء إحرامه قارنا في أثنائه وهؤلاء أعذر من الذين قبلهم وإدخال الحج على العمرة جائز بلا نزاع يعرف وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بإدخال الحج على العمرة فصارت قارنة ولكن سياق الأحاديث الصحيحة يرد على أرباب هذه المقالة .

فإن أنسا أخبر أنه حين صلى الظهر أهل بهما جميعا ، وفي " الصحيح " عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة قالت وكان من القوم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بالحج ، فقالت فكنت أنا ممن أهل بعمرة وذكرت الحديث رواه مسلم .

فهذا صريح في أنه لم يهل إذ ذاك بعمرة فإذا جمعت بين قول عائشة هذا ، وبين قولها في " الصحيح " : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وبين قولها وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج والكل في " الصحيح " ، علمت أنها إنما نفت عمرة مفردة وأنها لم تنف عمرة القران وكانوا يسمونها تمتعا كما تقدم وأن ذلك لا يناقض إهلاله بالحج فإن عمرة القران في ضمنه وجزء منه ولا ينافي قولها : أفرد الحج ، فإن أعمال العمرة لما دخلت في أعمال الحج وأفردت أعماله كان ذلك إفرادا بالفعل .

وأما التلبية بالحج مفردا ، فهو إفراد بالقول وقد قيل إن حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، مروي بالمعنى من حديثه الآخر وأن ابن عمر هو الذي فعل ذلك عام حجه في فتنة ابن الزبير وأنه بدأ فأهل بالعمرة ثم قال ما شأنهما إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي ، فأهل بهما جميعا ، ثم قال في آخر الحديث : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما أراد اقتصاره على طواف واحد وسعي واحد فحمل على المعنى ، وروي به إن رسول الله بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وإنما الذي فعل ذلك ابن عمر وهذا ليس ببعيد بل متعين فإن عائشة قالت عنه " لولا أن معي الهدي لأهللت بعمرة " وأنس قال عنه إنه حين صلى الظهر أوجب حجا وعمرة وعمر رضي الله عنه أخبر عنه أن الوحي جاءه من ربه فأمره بذلك .

فإن قيل فما تصنعون بقول الزهري : إن عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم عن ابن عمر ؟ قيل الذي أخبرت به عائشة من ذلك هو أنه صلى الله عليه وسلم طاف طوافا واحدا عن حجه وعمرته وهذا هو الموافق لرواية عروة عنها في " الصحيحين " ، وطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ، فهذا مثل الذي رواه سالم عن أبيه سواء . وكيف تقول عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وقد قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لولا أن معي الهدي لأهللت بعمرة " وقالت وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ؟ فعلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل في ابتداء إحرامه بعمرة مفردة والله أعلم .

فصل [ عذر من قال أحرم صلى الله عليه وسلم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم عينه بعد إحرامه ]
وأما الذين قالوا : إنه أحرم إحراما مطلقا ، لم يعين فيه نسكا ، ثم عينه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصفا والمروة ، وهو أحد أقوال الشافعي رحمه الله نص عليه في كتاب " اختلاف الحديث " . قال وثبت أنه خرج ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصفا والمروة ، فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة ثم قال ومن وصف انتظار النبي صلى الله عليه وسلم القضاء إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلبا للاختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة فيشبه أن يكون أحفظ لأنه قد أتي بالمتلاعنين فانتظر القضاء كذلك حفظ عنه في الحج ينتظر القضاء .

وعذر أرباب هذا القول ما ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها ، قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر حجا ولا عمرة " وفي لفظ " يلبي لا يذكر حجا ولا عمرة وفي رواية عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج حتى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل

وقال طاووس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة ، فأمر أصحابه من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة . .. الحديث .

وقال جابر في حديثه الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله فما عمل به من شيء عملنا به فأهل بالتوحيد " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك . وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته فأخبر جابر أنه لم يزد على هذه التلبية ولم يذكر أنه أضاف إليها حجا ولا عمرة ولا قرانا ، وليس في شيء من هذه الأعذار ما يناقض أحاديث تعيينه النسك الذي أحرم به في الابتداء وأنه القران .

فأما حديث طاووس فهو مرسل لا يعارض به الأساطين المسندات ولا يعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن . ولو صح فانتظاره للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات فجاءه القضاء وهو بذلك الوادي ، أتاه آت من ربه تعالى فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة فهذا القضاء الذي انتظره جاءه قبل الإحرام فعين له القران . وقول طاووس نزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة ، هو قضاء آخر غير القضاء الذي نزل عليه بإحرامه فإن ذلك كان بوادي العقيق ، وأما القضاء الذي نزل عليه بين الصفا والمروة ، فهو قضاء الفسخ الذي أمر به الصحابة إلى العمرة فحينئذ أمر كل من لم يكن معه هدي منهم أن يفسخ حجه إلى عمرة وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ، وكان هذا أمر حتم بالوحي فإنهم لما توقفوا فيه قال " انظروا الذي آمركم به فافعلوه " .

فأما قول عائشة خرجنا لا نذكر حجا ولا عمرة فهذا إن كان محفوظا عنها ، وجب حمله على ما قبل الإحرام وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها ، أن منهم من أهل عند الميقات بحج ومنهم من أهل بعمرة وأنها ممن أهل بعمرة . وأما قولها : نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة فهذا في ابتداء الإحرام ولم تقل إنهم استمروا على ذلك إلى مكة ، هذا باطل قطعا فإن الذين سمعوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أهل به شهدوا على ذلك وأخبروا به ولا سبيل إلى رد رواياتهم . ولو صح عن عائشة ذلك لكان غايته أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته والرجال بذلك أعلم من النساء . وأما قول جابر رضي الله عنه وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فليس فيه إلا إخباره عن صفة تلبيته وليس فيه نفي لتعيينه النسك الذي أحرم به بوجه من الوجوه . وبكل حال ولو كانت هذه الأحاديث صريحة في نفي التعيين لكانت أحاديث أهل الإثبات أولى بالأخذ منها ; لكثرتها ، وصحتها ، واتصالها ، وأنها مثبتة مبينة متضمنة لزيادة خفيت على من نفى ، وهذا بحمد الله واضح وباالله التوفيق

يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 02:20 AM
فصل ولنرجع إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم
ولبد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بالغسل وهو بالغين المعجمة على وزن كفل وهو ما يغسل به الرأس من خطمي ونحوه يلبد به الشعر حتى لا ينتشر وأهل في مصلاه ثم ركب على ناقته وأهل أيضا ، ثم أهل لما استقلت به على البيداء . قال ابن عباس : وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته وأهل حين علا على شرف البيداء .

وكان يهل بالحج والعمرة تارة وبالحج تارة لأن العمرة جزء منه فمن ثم قيل قرن وقيل تمتع وقيل أفرد قال ابن حزم : كان ذلك قبل الظهر بيسير وهذا وهم منه والمحفوظ أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر ولم يقل أحد قط : إن إحرامه كان قبل الظهر ولا أدري من أين له هذا . وقد قال ابن عمر ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره وقد قال أنس إنه صلى الظهر ثم ركب والحديثان في " الصحيح " . فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر تبين أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر ثم لبى فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ورفع صوته بهذه التلبية حتى سمعها أصحابه وأمرهم بأمر الله له أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية .

وكان حجه على رحل لا في محمل ولا هودج ولا عمارية وزاملته تحته . وقد اختلف في جواز ركوب المحرم في المحمل والهودج والعمارية ونحوها على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما : الجواز وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة . والثاني : المنع وهو مذهب مالك .

فصل [ تخييره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بين الأنساك الثلاثة ]

ثم إنه صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة ثم ندبهم عند دنوهم من مكة إلى فسخ الحج والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي ثم حتم ذلك عليهم عند المروة .

[ السنن التي وردت في قصة ولادة أسماء بنت عميس

بذي الحليفة ]

وولدت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر رضي الله عنهما بذي الحليفة محمد بن أبي بكر ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم وتهل . وكان في قصتها ثلاث سنن إحداها : غسل المحرم والثانية أن الحائض تغتسل لإحرامها ، والثالثة أن الإحرام يصح من الحائض .

ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بتلبيته المذكورة والناس معه يزيدون فيها وينقصون وهو يقرهم ولا ينكر عليهم ولزم تلبيته فلما كانوا بالروحاء رأى حمار وحش عقيرا ، فقال دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه " فجاء صاحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق

[ جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله ]

وفي هذا دليل على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله وأما كون صاحبه لم يحرم فلعله لم يمر بذي الحليفة فهو كأبي قتادة في قصته . وتدل هذه القصة على أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ وهبت لك ، بل تصح بما يدل عليها ، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحري ، وتدل على أن الصيد يملك بالإثبات وإزالة امتناعه وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه وعلى حل أكل لحم الحمار الوحشي وعلى التوكيل في القسمة وعلى كون القاسم واحدا .

فصل ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج ، إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوا . والفرق بين قصة الظبي وقصة الحمار أن الذي صاد الحمار كان حلالا ، فلم يمنع من أكله وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرمون فلم يأذن لهم في أكله ووكل من يقف عنده لئلا يأخذه أحد حتى يجاوزوه

[ قتل المحرم للصيد يجعله بمنزلة الميتة ]

وفيه دليل على أن قتل المحرم للصيد يجعله بمنزلة الميتة في عدم الحل إذ لو كان حلالا ، لم تضع ماليته .

فصل ثم سار حتى إذا نزل بالعرج ، وكانت زمالته وزمالة أبي بكر واحدة وكانت مع غلام لأبي بكر فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه وعائشة إلى جانبه الآخر وأسماء زوجته إلى جانبه وأبو بكر ينتظر الغلام والزمالة إذ طلع الغلام ليس معه البعير فقال أين بعيرك ؟ فقال أضللته البارحة فقال أبو بكر : بعير واحد تضله . قال فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول : انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ، وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم

ومن تراجم أبي داود على هذه القصة باب " المحرم يؤدب غلامه " .



فصل [ رده صلى الله عليه وسلم حمار الوحش مع تعليله بأنه محرم ]
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالأبواء ، أهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار وحشي فرده عليه فقال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم وفي " الصحيحين " : " أنه أهدى له حمارا وحشيا ، وفي لفظ لمسلم لحم حمار وحش

وقال الحميدي كان سفيان يقول في الحديث أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش وربما قال سفيان يقطر دما ، وربما لم يقل ذلك وكان سفيان فيما خلا ربما قال حمار وحش ثم صار إلى لحم حتى مات . وفي رواية شق حمار وحش وفي رواية رجل حمار وحش .

وروى يحيى بن سعيد عن جعفر عن عمرو بن أمية الضمري ، عن أبيه عن الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم قال البيهقي : وهذا إسناد صحيح . فإن كان محفوظا ، فكأنه رد الحي وقبل اللحم .

وقال الشافعي رحمه الله فإن كان الصعب بن جثامة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم الحمار حيا ، فليس للمحرم ذبح حمار وحش وإن كان أهدى له لحم الحمار فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه وإيضاحه في حديث جابر . قال وحديث مالك أنه أهدى له حمارا أثبت من حديث من حدث له من لحم حمار .

قلت : أما حديث يحيى بن سعيد عن جعفر فغلط بلا شك فإن الواقعة واحدة وقد اتفق الرواة أنه لم يأكل منه إلا هذه الرواية الشاذة المنكرة .

وأما الاختلاف في كون الذي أهداه حيا ، أو لحما ، فرواية من روى لحما أولى لثلاثة أوجه .

أحدها : أن راويها قد حفظها ، وضبط الواقعة حتى ضبطها : أنه يقطر دما ، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر لا يؤبه له .

الثاني : أن هذا صريح في كونه بعض الحمار وأنه لحم منه فلا يناقض قوله أهدى له حمارا ، بل يمكن حمله على رواية من روى لحما ، تسمية للحم باسم الحيوان وهذا مما لا تأباه اللغة .

الثالث أن سائر الروايات متفقة على أنه بعض من أبعاضه وإنما اختلفوا في ذلك البعض هل هو عجزه أو شقه أو رجله أو لحم منه ؟ ولا تناقض بين هذه الروايات إذ يمكن أن يكون الشق هو الذي فيه العجز وفيه الرجل فصح التعبير عنه بهذا وهذا ، وقد رجع ابن عيينة عن قوله " حمارا " وثبت على قوله " لحم حمار " حتى مات .

وهذا يدل على أنه تبين له أنه إنما أهدى له لحما لا حيوانا ، ولا تعارض بين هذا وبين أكله لما صاده أبو قتادة ، فإن قصة أبي قتادة كانت عام الحديبية سنة ست وقصة الصعب قد ذكر غير واحد أنها كانت في حجة الوداع منهم المحب الطبري في كتاب " حجة الوداع " له . أو في بعض عمره وهذا مما ينظر فيه .

وفي قصة الظبي وحمار يزيد بن كعب السلمي البهزي ، هل كانت في حجة الوداع أو في بعض عمره والله أعلم ؟ فإن حمل حديث أبي قتادة على أنه لم يصده لأجله وحديث الصعب على أنه صيد لأجله زال الإشكال وشهد لذلك حديث جابر المرفوع " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم " وإن كان الحديث قد أعل بأن المطلب بن حنطب راويه عن جابر لا يعرف له سماع منه قاله النسائي . قال الطبري في حجة الوداع له فلما كان في بعض الطريق اصطاد أبو قتادة حمارا وحشيا ، ولم يكن محرما ، فأحله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن سألهم هل أمره أحد منكم بشيء أو أشار إليه ؟ وهذا وهم منه رحمه الله فإن قصة أبي قتادة إنما كانت عام الحديبية ، هكذا روي في " الصحيحين " من حديث عبد الله ابنه عنه قال انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، فأحرم أصحابه ولم أحرم فذكر قصة الحمار الوحشي .

فصل [ مروره صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان ]

فلما مر بوادي عسفان ، قال يا أبا بكر أي واد هذا " ؟ قال وادي عسفان . قال لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطمهما الليف وأزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق ذكره الإمام أحمد في " المسند " .

افتراضي

[ بحث في إحرام عائشة وهي حائض ]
فلما كان بسرف حاضت عائشة رضي الله عنها ، وقد كانت أهلت بعمرة فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، قال ما يبكيك لعلك نفست ؟ قالت نعم قال : هذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم ، افعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت

وقد تنازع العلماء في قصة عائشة : هل كانت متمتعة أو مفردة ؟ فإذا كانت متمتعة فهل رفضت عمرتها ، أو انتقلت إلى الإفراد وأدخلت عليها الحج وصارت قارنة وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبة فهل هي مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضا في موضع حيضها ، وموضع طهرها ،

ونحن نذكر البيان الشافي في ذلك بحول الله وتوفيقه .

[ ما تفعل المرأة إذا أحرمت بالعمرة فحاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف ]

واختلف الفقهاء في مسألة مبنية على قصة عائشة وهي أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة فحاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهل ترفض الإحرام بالعمرة وتهل بالحج مفردا ، أو تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ؟ فقال بالقول الأول فقهاء الكوفة ، منهم أبو حنيفة وأصحابه وبالثاني : فقهاء الحجاز . منهم : الشافعي ومالك ، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه .

قال الكوفيون : ثبت في " الصحيحين " ، عن عروة عن عائشة أنها قالت " أهللت بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال انقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ودعي العمرة . قالت ففعلت فلما قضيت الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت منه . فقال : " هذه مكان عمرتك . قالوا : فهذا يدل على أنها كانت متمتعة وعلى أنها رفضت عمرتها وأحرمت بالحج لقوله صلى الله عليه وسلم " دعي عمرتك " ولقوله انقضي رأسك وامتشطي ولو كانت باقية على إحرامها ، لما جاز لها أن تمتشط ولأنه قال للعمرة التي أتت بها من التنعيم : " هذه مكان عمرتك " . ولو كانت عمرتها الأولى باقية لم تكن هذه مكانها ، بل كانت عمرة مستقلة .

قال الجمهور لو تأملتم قصة عائشة حق التأمل وجمعتم بين طرقها وأطرافها ، لتبين لكم أنها قرنت ولم ترفض العمرة ففي " صحيح مسلم " : عن جابر رضي الله عنه قال أهلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي ، فقال " ما شأنك " ؟ قالت شأني أني قد حضت وقد أحل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن قال : إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج " ففعلت ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة . ثم قال قد حللت من حجك وعمرتك قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم . وفي " صحيح مسلم " : من حديث طاووس عنها : أهللت بعمرة وقدمت ولم أطف حتى حضت فنسكت المناسك كلها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك .

فهذه نصوص صريحة أنها كانت في حج وعمرة لا في حج مفرد وصريحة في أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه . وفي بعض ألفاظ الحديث كوني في عمرتك ، فعسى أن الله يرزقكيها ولا يناقض هذا قوله " دعي عمرتك " . فلو كان المراد به رفضها وتركها ، لما فال لها : يسعك طوافك لحجك وعمرتك فعلم أن المراد دعي أعمالها ليس المراد به رفض إحرامها .

وأما قوله انقضي رأسك وامتشطي فهذا مما أعضل على الناس ولهم فيه أربعة مسالك .

أحدها : أنه دليل على رفض العمرة كما قالت الحنفية .

المسلك الثاني : إنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه وهذا قول ابن حزم وغيره .

المسلك الثالث تعليل هذه اللفظة وردها بأن عروة انفرد بها ، وخالف بها سائر الرواة وقد روى حديثها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة حديث حيضها في الحج فقال فيه حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وذكر تمام الحديث . .. قالوا : فهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة .

المسلك الرابع أن قوله " دعي العمرة " ، أي دعيها ، بحالها لا تخرجي منها ، وليس المراد تركها ، قالوا : ويدل عليه وجهان .

أحدهما : قوله يسعك طوافك لحجك وعمرتك

الثاني : قوله " كوني في عمرتك " . قالوا : وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قوله " هذه مكان عمرتك فعائشة أحبت أن تأتي بعمرة مفردة فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها ، وأن عمرتها قد دخلت في حجها ، فصارت قارنة فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولا ، فلما حصل لها ذلك قال " هذه مكان عمرتك " .

وفي " سنن الأثرم " ، عن الأسود قال قلت لعائشة اعتمرت بعد الحج ؟ قالت والله ما كانت عمرة ما كانت إلا زيارة زرت البيت .

قال الإمام أحمد إنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه فقالت يرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك ؟ فقال " يا عبد الرحمن أعمرها " فنظر إلى أدنى الحل فأعمرها منه .


فصل [ ما أحرمت به عائشة أولا ]
واختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولا على قولين .

أحدهما : أنه عمرة مفردة وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث . وفي " الصحيح " عنها ، قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد منكم أن يهل بعمرة ، فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة . قالت وكان من القوم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بالحج ، قالت فكنت أنا ممن أهل بعمرة وذكرت الحديث . .. " وقوله في الحديث " دعي العمرة وأهلي بالحج " قاله لها بسرف قريبا من مكة وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة .

القول الثاني : أنها أحرمت أولا بالحج وكانت مفردة قال ابن عبد البر : روى القاسم بن محمد ، والأسود بن يزيد ، وعمرة كلهم عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا بعمرة منها : حديث عمرة عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنه الحج ، وحديث الأسود بن يزيد مثله وحديث القاسم " لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . قال وغلطوا عروة في قوله عنها : " كنت فيمن أهل بعمره " قال إسماعيل بن إسحاق قد اجتمع هؤلاء يعني الأسود والقاسم وعمرة على الروايات التي ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط قال ويشبه أن يكون الغلط إنما وقع فيه أن يكون لم يمكنها الطواف بالبيت وأن تحل بعمرة كما فعل من لم يسق الهدي فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تترك الطواف وتمضي على الحج فتوهموا بهذا المعنى أنها كانت معتمرة وأنها تركت عمرتها ، وابتدأت بالحج . قال أبو عمر وقد روى جابر بن عبد الله ، أنها كانت مهلة بعمرة كما روى عنها عروة . قالوا : والغلط الذي دخل على عروة إنما كان في قوله انقضي رأسك ، وامتشطي ، ودعي العمرة وأهلي بالحج

وروى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : دعي عمرتك وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وافعلي ما يفعل الحاج فبين حماد أن عروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة . قلت : من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ، ولا مطعن فيها ، ولا تحتمل تأويلا ألبتة بلفظ مجمل ليس ظاهرا في أنها كانت مفردة فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة قولها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنه الحج . فيا لله العجب أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج بل خرج للحج متمتعا ، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول خرجت لغسل الجنابة ؟ وصدقت أم المؤمنين رضي الله عنه إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة بأمره صلى الله عليه وسلم وكلامها يصدق بعضه بعضا .

وأما قولها : لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فقد قال جابر عنها في " الصحيحين " : إنها أهلت بعمرة وكذلك قال طاووس عنها في " صحيح مسلم " ، وكذلك قال مجاهد عنها ، فلو تعارضت الروايات عنها ، فرواية الصحابة عنها أولى أن يؤخذ بها من رواية التابعين كيف ولا تعارض في ذلك ألبتة فإن القائل فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله وبفعل أصحابه .

ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج معناه تمتع أصحابه فأضاف الفعل إليه لأمره به فهلا قلتم في قول عائشة لبينا بالحج أن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج وقولها : فعلنا ، كما قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وسافرنا معه ونحوه . ويتعين قطعا - إن لم تكن هذه الرواية غلطا - أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة الصريحة أنها كانت أحرمت بعمرة وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط وهو أعلم الناس بحديثها وكان يسمع منها مشافهة بلا واسطة .

وأما قوله في رواية حماد حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي عمرتك " فهذا إنما يحتاج إلى تعليله ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدقها ، وشهد لها أنها أحرمت بعمرة فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأن الذي حدث به ضبطه وحفظه هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعللة وهي قوله فحدثني غير واحد وخالفه جماعة فرووه متصلا عن عروة عن عائشة . فلو قدر التعارض فالأكثرون أولى بالصواب فيا لله العجب كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها : " وكنت فيمن أهل بعمرة " سائغا بلفظ مجمل محتمل ويقضى به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟ فهؤلاء أربعة رووا عنها ، أنها أهلت بعمرة جابر وعروة وطاووس ، ومجاهد ، فلو كانت رواية القاسم وعمرة والأسود معارضة لرواية هؤلاء لكانت روايتهم أولى بالتقديم لكثرتهم ولأن فيهم جابرا ، ولفضل عروة وعلمه بحديث خالته .

ومن العجب قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرها أن تترك الطواف وتمضي على الحج توهموا لهذا أنها كانت معتمرة فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تدع العمرة وتنشئ إهلالا بالحج فقال لها : " وأهلي بالحج " ولم يقل " استمري عليه " ، ولا امضي فيه وكيف يغلط راوي الأمر بالامتشاط بمجرد مخالفته لمذهب الراد ؟ فأين في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة ما يحرم على المحرم تسريح شعره ولا يسوغ تغليط الثقات لنصرة الآراء والتقليد . والمحرم وإن أمن من تقطيع الشعر لم يمنع من تسريح رأسه وإن لم يأمن من سقوط شيء من الشعر بالتسريح فهذا المنع منه محل نزاع واجتهاد والدليل يفصل بين المتنازعين فإن لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه فهو جائز .

يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 02:38 AM
فصل [ ما المراد من عمرة التنعيم لعائشة ]
وللناس في هذه العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم أربعة مسالك . أحدها : أنها كانت زيادة تطييبا لقلبها وجبرا لها ، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها ، وكانت متمتعة ثم أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة وهذا أصح الأقوال والأحاديث لا تدل على غيره وهذا مسلك الشافعي وأحمد وغيرهما .

المسلك الثاني : أنها لما حاضت أمرها أن ترفض عمرتها ، وتنتقل عنها إلى حج مفرد فلما حلت من الحج أمرها أن تعتمر قضاء لعمرتها التي أحرمت بها أولا ، وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه وعلى هذا القول فهذه العمرة كانت في حقها واجبة ولا بد منها ، وعلى القول الأول كانت جائزة وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهي على هذين القولين إما أن تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة وإما أن تنتقل عن العمرة إلى الحج وتصير مفردة وتقضي العمرة .

المسلك الثالث أنها لما قرنت لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة لأن عمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام وهذا أحد الروايتين عن أحمد .

المسلك الرابع أنها كانت مفردة وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض واستمرت على الإفراد حتى طهرت وقضت الحج وهذه العمرة هي عمرة الإسلام وهذا مسلك القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية ، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف بل هو أضعف المسالك في الحديث . وحديث عائشة هذا يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك .

أحدها : اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد .

الثاني : سقوط طواف القدوم عن الحائض كما أن حديث صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أصل في سقوط طواف الوداع عنها .

الثالث أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز كما يجوز للطاهر وأولى ; لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك .

الرابع أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها ، إلا أنها لا تطوف بالبيت .

الخامس أن التنعيم من الحل .

السادس جواز عمرتين في سنة واحدة بل في شهر واحد .

السابع أن المشروع في حق المتمتع إذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة وحديث عائشة أصل فيه .

الثامن أنه أصل في العمرة المكية وليس مع من يستحبها غيره فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر هو ولا أحد ممن حج معه من مكة خارجا منها إلا عائشة وحدها ، فجعل أصحاب العمرة المكية قصة عائشة أصلا لقولهم ولا دلالة لهم فيها ، فإن عمرتها إما أن تكون قضاء للعمرة المرفوضة عند من يقول إنها رفضتها ، فهي واجبة قضاء لها ، أو تكون زيادة محضة وتطييبا لقلبها عند من يقول إنها كانت قارنة وأن طوافها وسعيها أجزأها عن حجها وعمرتها . والله أعلم .

فصل [ هل كانت عمرة التنعيم مجزئة لعائشة عن عمرة الإسلام ]

وأما كون عمرتها تلك مجزئة عن عمرة الإسلام ففيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا : لا تجزئ قالوا : العمرة المشروعة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها نوعان لا ثالث لهما : عمرة التمتع وهي التي أذن فيها عند الميقات وندب إليها في أثناء الطريق وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة . الثانية العمرة المفردة التي ينشأ لها سفر كعمره المتقدمة ولم يشرع عمرة مفردة غير هاتين وفي كلتيهما المعتمر داخل إلى مكة .

وأما عمرة الخارج إلى أدنى الحل فلم تشرع . وأما عمرة عائشة فكانت زيارة محضة وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على أن عمرة القارن تجزئ عن عمرة الإسلام وهذا هو الصواب المقطوع به فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يسعك طوافك لحجك وعمرتك وفي لفظ " يجزئك " وفي لفظ " يكفيك " . وقال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وأمر كل من ساق الهدي أن يقرن بين الحج والعمرة ولم يأمر أحدا ممن قرن معه وساق الهدي بعمرة أخرى غير عمرة القران فصح إجزاء عمرة القارن عن عمرة الإسلام قطعا وبالله التوفيق .

فصل [ موضع حيضة عائشة وطهرها ]

وأما موضع حيضها ، فهو بسرف بلا ريب وموضع طهرها قد اختلف فيه فقيل بعرفة هكذا روى مجاهد عنها وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما ، والحديثان صحيحان وقد حملهما ابن حزم على معنيين فطهر عرفة : هو الاغتسال للوقوف بها عنده قال لأنها قالت تطهرت بعرفة والتطهر غير الطهر قال وقد ذكر القاسم يوم طهرها ، أنه يوم النحر وحديثه في " صحيح مسلم " . قال وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضا ، وهما أقرب الناس منها .

وقد روى أبو داود حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة . .. فذكرت الحديث وفيه فلما كانت ليلة البطحاء ، طهرت عائشة وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم إنه حديث منكر مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها ، وهو قوله إنها طهرت ليلة البطحاء ، وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست من كلام عائشة فسقط التعلق بها ، لأنها ممن دون عائشة وهي أعلم بنفسها . قال وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد ، وحماد بن زيد ، فلم يذكرا هذه اللفظة . قلت : يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه .

أحدها : أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة .

الثاني : أن حديثهم فيه إخبارها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها .

الثالث أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث وفيه فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ، وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها ، لكن قال مجاهد عنها : فتطهرت بعرفة والقاسم قال يوم النحر .


فصل [ العودة إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم ]
عدنا إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم فلما كان بسرف ، قال لأصحابه من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات .

[ بحث في فسخ الحج إلى العمرة ]

فلما كان بمكة ، أمر أمرا حتما من لا هدي معه أن يجعلها عمرة ويحل من إحرامه ومن معه هدي أن يقيم على إحرامه ولم ينسخ ذلك شيء ألبتة بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها ، هل هي لعامهم ذلك أم للأبد قال بل للأبد وإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه وأحاديثهم كلها صحاح وهم عائشة وحفصة أما المؤمنين وعلي بن أبي طالب ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر الصديق وجابر بن عبد الله ، وأبو سعيد الخدري ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس ، وسبرة بن معبد الجهني ، وسراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنهم ونحن نشير إلى هذه الأحاديث . ففي " الصحيحين " : عن ابن عباس ، قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الحل ؟ فقال " الحل كله

وفي لفظ لمسلم قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من العشر إلى مكة ، وهم يلبون بالحج فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة وفي لفظ وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي وفي " الصحيحين " عن جابر بن عبد الله : أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ومعه هدي فقال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ، ويقصروا ، ويحلوا إلا من كان معه الهدي قالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت وفي لفظ فقام فينا فقال لقد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم ، وأبركم ولولا أن معي الهدي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي فحلوا " فحللنا ، وسمعنا وأطعنا وفي لفظ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا ، أن نحرم إذا توجهنا إلى منى قال فأهللنا من الأبطح ، فقال سراقة بن مالك بن جعشم يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال للأبد . وهذه الألفاظ كلها في الصحيح وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال إن ذلك كان خاصا بهم فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده لا للأبد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه للأبد .

وفي " المسند " : عن ابن عمر قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابه مهلين بالحج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " قالوا : يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا ؟ قال " نعم " وسطعت المجامر

وفي " السنن " : عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بعسفان ، قال سراقة بن مالك المدلجي : يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال : " إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجة عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، فقد حل إلا من معه هدي

وفي " الصحيحين " عن عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج . .. فذكرت الحديث وفيه فلما قدمنا مكة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه "اجعلوها عمرة " فأحل الناس إلا من كان معه الهدي . .. وذكرت باقي الحديث .

وفي لفظ للبخاري خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فأحللن

وفي لفظ لمسلم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار . قال أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت . ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة قالت سمعت عائشة تقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ذي القعدة ولا نرى إلا أنه الحج ، فلما دنونا من مكة ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل قال يحيى بن سعيد فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد فقال أتتك والله بالحديث على وجهه .

وفي " صحيح مسلم " : عن ابن عمر قال حدثتني حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع فقلت ما منعك أن تحل ؟ فقال " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي

وفي " صحيح مسلم : عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، خرجنا محرمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . من كان معه هدي فليقم على إحرامه ، ومن لم يكن معه هدي فليحلل وذكرت الحديث .

وفي " صحيح مسلم " أيضا : عن أبي سعيد الخدري قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخا ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي . فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى ، أهللنا بالحج . وفي " صحيح البخاري " : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال أهل المهاجرون والأنصار ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي . .. وذكر الحديث .

[ غضبه صلى الله عليه وسلم ممن لم يفسخ الحج إلى العمرة ]

وفي " السنن عن البراء بن عازب ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة ، قال اجعلوا حجكم عمرة . فقال الناس يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة ؟ فقال " انظروا ما آمركم به فافعلوه " ، فرددوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت من أغضبك ، أغضبه الله فقال : وما لي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا يتبع

ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا لأمره . فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم بل أجرى الله سبحانه على لسان سراقة أن يسأله هل ذلك مختص بهم ؟ فأجاب بأن ذلك كائن لأبد الأبد فما ندري ما نقدم على هذه الأحاديث وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه . ولله در الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له يا أبا عبد الله كل أمرك عندي حسن إلا خلة واحدة قال وما هي ؟ قال تقول بفسخ الحج إلى العمرة . فقال يا سلمة كنت أرى لك عقلا ، عندي في ذلك أحد عشر حديثا صحاحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتركها لقولك ؟ وفي " السنن " عن البراء بن عازب ، أن عليا رضي الله عنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن ، أدرك فاطمة وقد لبست ثيابا صبيغا ، ونضحت البيت بنضوج فقال ما بالك ؟ فقالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه فحلوا

وقال ابن أبي شيبة : حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد عن مجاهد ، قال قال عبد الله بن الزبير : أفردوا الحج ودعوا قول أعماكم هذا . فقال عبد الله بن عباس : إن الذي أعمى الله قلبه لأنت ألا تسأل أمك عن هذا ؟ فأرسل إليها ، فقالت صدق ابن عباس جئنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجاجا ، فجعلناها عمرة فحللنا الإحلال كله حتى سطعت المجامر بين الرجال والنساء

وفي " صحيح البخاري " عن ابن شهاب ، قال دخلت على عطاء أستفتيه فقال حدثني جابر بن عبد الله : أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم " أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وقصروا ، ثم أقيموا حلالا ، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة " . فقالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج ؟ فقال " افعلوا ما آمركم به فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به . ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله " ، ففعلوا

وفي " صحيحه " أيضا عنه أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج . .. وذكر الحديث . وفيه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ، ثم يقصروا إلا من ساق الهدي فقالوا : أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت " .

وفي " صحيح مسلم " : عنه في حجة الوداع حتى إذا قدمنا مكة ، طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال فقلنا : حل ماذا ؟ قال " الحل كله " ، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا ، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية وفي لفظ آخر لمسلم " فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج .



وفي " مسند البزار " بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة فلما قدموا مكة ، طافوا بالبيت والصفا والمروة ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلوا ، فهابوا ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحلوا فلولا أن معي الهدي لأحللت فأحلوا حتى حلوا إلى النساء

وفي " صحيح البخاري " : عن أنس قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء ، حمد الله وسبح ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما ، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا ، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج . .. وذكر باقي الحديث .

وفي " صحيحه " أيضا : عن أبي موسى الأشعري ، قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وآله وسلم إلى قومي باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء ، فقال " بم أهللت " ؟ فقلت أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : " هل معك من هدي " ؟ قلت لا ، فأمرني ، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم أمرني فأحللت

وفي " صحيح مسلم " : أن رجلا من بني الهجيم قال لابن عباس ما هذه الفتيا التي قد تشغبت بالناس أن من طاف بالبيت فقد حل ؟ فقال سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وإن رغمتم . وصدق ابن عباس ، كل من طاف بالبيت ممن لا هدي معه من مفرد أو قارن أو متمتع فقد حل إما وجوبا ، وإما حكما ، هذه هي السنة التي لا راد لها ولا مدفع وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أدبر النهار من هاهنا ، وأقبل الليل من هاهنا ، فقد أفطر الصائم إما أن يكون المعنى : أفطر حكما ، أو دخل وقت إفطاره وصار الوقت في حقه وقت إفطاره . فهكذا هذا الذي قد طاف بالبيت إما أن يكون قد حل حكما ، وإما أن يكون ذلك الوقت في حقه ليس وقت إحرام بل هو وقت حل ليس إلا ، ما لم يكن معه هدي وهذا صريح السنة .

وفي " صحيح مسلم " أيضا عن عطاء قال كان ابن عباس يقول لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل وكان يقول هو بعد المعرف وقبله وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع .

وفي " صحيح مسلم " : عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه عمرة استمتعنا بها ، فمن لم يكن معه الهدي فليحل الحل كله فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة

وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال من جاء مهلا بالحج فإن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أو أبى قلت إن الناس ينكرون ذلك عليك قال هي سنة نبيهم وإن رغموا وقد روى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من سمينا وغيرهم وروى ذلك عنهم طوائف من كبار التابعين حتى صار منقولا نقلا يرفع الشك ويوجب اليقين ولا يمكن أحدا أن ينكره أو يقول لم يقع وهو مذهب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومذهب حبر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه ومذهب أبي موسى الأشعري ومذهب إمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل وأتباعه وأهل الحديث معه ومذهب عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة ، ومذهب أهل الظاهر .

[ أعذار من لم يأخذ بفسخ الحج إلى العمرة ]

والذين خالفوا هذه الأحاديث لهم أعذار .

العذر الأول أنها منسوخة .

العذر الثاني : أنها مخصوصة بالصحابة لا يجوز لغيرهم مشاركتهم في حكمها . العذر الثالث معارضتها بما يدل على خلاف حكمها ، وهذا مجموع ما اعتذروا به عنها . ونحن نذكر هذه الأعذار عذرا عذرا ، ونبين ما فيها بمعونة الله وتوفيقه .

أما العذر الأول وهو النسخ فيحتاج إلى أربعة أمور لم يأتوا منها بشيء يحتاج إلى نصوص أخر تكون تلك النصوص معارضة لهذه ثم تكون مع هذه المعارضة مقاومة لها ، ثم يثبت تأخرها عنها .

قال المدعون للنسخ قال عمر بن الخطاب السجستاني : حدثنا الفريابي ، حدثنا أبان بن أبي حازم قال حدثني أبو بكر بن حفص ، عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما ولي " يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا رواه البزار في " مسنده " عنه

قال المبيحون للفسخ عجبا لكم في مقاومة الجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح بكثيب مهيل تسفيه الرياح يمينا وشمالا ، فهذا الحديث لا سند ولا متن أما سنده فإنه لا تقوم به حجة علينا عند أهل الحديث وأما متنه فإن المراد بالمتعة فيه متعة النساء التي أحلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم حرمها ، لا يجوز فيها غير ذلك ألبتة لوجوه .

أحدها : إجماع الأمة على أن متعة الحج غير محرمة بل إما واجبة أو أفضل الأنساك على الإطلاق أو مستحبة أو جائزة ولا نعلم للأمة قولا خامسا فيها بالتحريم . الثاني : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صح عنه من غير وجه أنه قال لو حججت لتمتعت ثم لو حججت لتمتعت ذكره الأثرم في " سننه " وغيره .

وذكر عبد الرزاق في " مصنفه " : عن سالم بن عبد الله ، أنه سئل أنهى عمر عن متعة الحج ؟ قال لا ، أبعد كتاب الله تعالى ؟ وذكر عن نافع أن رجلا قال له أنهى عمر عن متعة الحج ؟ قال لا . وذكر أيضا عن ابن عباس ، أنه قال هذا الذي يزعمون أنه نهى عن المتعة ، - يعني عمر - سمعته يقول لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت

قال أبو محمد بن حزم : صح عن عمر الرجوع إلى القول بالتمتع بعد النهي عنه وهذا محال أن يرجع إلى القول بما صح عنده أنه منسوخ .

الثالث أنه من المحال أن ينهى عنها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله هل هي لعامهم ذلك أم للأبد ؟ فقال " بل للأبد " ، وهذا قطع لتوهم ورود النسخ عليها ، وهذا أحد الأحكام التي يستحيل ورود النسخ عليها ، وهو الحكم الذي أخبر الصادق المصدوق باستمراره ودوامه فإنه لا خلف لخبره .

فصل

العذر الثاني : دعوى اختصاص ذلك بالصحابة واحتجوا بوجوه .

أحدها : ما رواه عبد الله بن الزبير الحميدي ، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن المرقع عن أبي ذر أنه قال كان فسخ الحج من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا خاصة .

وقال وكيع : حدثنا موسى بن عبيدة حدثنا يعقوب بن زيد ، عن أبي ذر قال لم يكن لأحد بعدنا أن يجعل حجته عمرة ، إنها كانت رخصة لنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم

وقال البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا سلمة بن الفضل ، حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن الأسدي ، عن يزيد بن شريك ، قلنا لأبي ذر كيف تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم معه ؟ فقال ما أنتم وذاك إنما ذاك شيء رخص لنا فيه يعني المتعة

وقال البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن المهاجر ، عن أبي بكر التيمي ، عن أبيه والحارث بن سويد قالا : قال أبو ذر في الحج والمتعة رخصة أعطاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقال أبو داود حدثنا هناد بن السري ، عن ابن أبي زائدة ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان أو سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها إلى عمرةلم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفي " صحيح مسلم " : عن أبي ذر . قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة . وفي لفظ " كانت لنا رخصة ، يعني المتعة في الحج وفي لفظ آخر " لا تصح المتعتان إلا لنا خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج " وفي لفظ آخر " إنما كانت لنا خاصة دونكم ، يعني متعة الحج " .

وفي " سنن النسائي " بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن أبي ذر في متعة الحجليست لكم ولستم منها في شيء ، إنما كانت رخصة لنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وفي " سنن أبي داود والنسائي " ، من حديث بلال بن الحارث قال قلت : يا رسول الله أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " بل لنا خاصة " ورواه الإمام أحمد .

وفي " مسند أبي عوانة " بإسناد صحيح عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال سئل عثمان عن متعة الحج فقال : كانت لنا ، ليست لكم . هذا مجموع ما استدلوا به على التخصيص بالصحابة .

قال المجوزون للفسخ والموجبون له لا حجة لكم في شيء من ذلك فإن هذه الآثار بين باطل لا يصح عمن نسب إليه ألبتة وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا تعارض به نصوص المعصوم . أما الأول فإن المرقع ليس ممن تقوم بروايته حجة فضلا عن أن يقدم على النصوص الصحيحة غير المدفوعة . وقد قال أحمد بن حنبل : - وقد عورض بحديثه - ومن المرقع الأسدي ؟ وقد روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بفسخ الحج إلى العمرة . وغاية ما نقل عنه إن صح أن ذلك مختص بالصحابة فهو رأيه . وقد قال ابن عباس ، وأبو موسى الأشعري : إن ذلك عام للأمة فرأي أبي ذر معارض برأيهما ، وسلمت النصوص الصحيحة الصريحة ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلة بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد لا تختص بقرن دون قرن وهذا أصح سندا من المروي عن أبي ذر وأولى أن يؤخذ به منه لو صح عنه .


الأصل في المسائل الإحكام حتى يثبت نسخها أو اختصاصها بأحد ]
وأيضا ، فإذا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اختلفوا في أمر قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعله وأمر به فقال بعضهم إنه منسوخ أو خاص ، وقال بعضهم هو باق إلى الأبد فقول من ادعى نسخه أو اختصاصه مخالف للأصل فلا يقبل إلا ببرهان وإن أقل ما في الباب معارضته بقول من ادعى بقاءه وعمومه والحجة تفصل بين المتنازعين والواجب الرد عند التنازع إلى الله ورسوله . فإذا قال أبو ذر وعثمان : إن الفسخ منسوخ أو خاص ، وقال أبو موسى وعبد الله بن عباس : إنه باق وحكمه عام ، فعلى من ادعى النسخ والاختصاص الدليل .

وأما حديثه المرفوع - حديث بلال بن الحارث - فحديث لا يكتب ولا يعارض بمثله تلك الأساطين الثابتة .

قال عبد الله بن أحمد : كان أبي يرى للمهل بالحج أن يفسخ حجه إن طاف بالبيت وبين الصفا والمروة . وقال في المتعة هي آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقال صلى الله عليه وآله وسلم اجعلوا حجكم عمرة قال عبد الله فقلت لأبي : فحديث بلال بن الحارث في فسخ الحج يعني قوله " لنا خاصة " ؟ قال لا أقول به لا يعرف هذا الرجل هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ليس حديث بلال بن الحارث عندي يثبت . هذا لفظه .

قلت : ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد ، وأن هذا الحديث لا يصح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن تلك المتعة التي أمرهم أن يفسخوا حجهم إليها أنها لأبد الأبد فكيف يثبت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة ؟ هذا من أمحل المحال . وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون من بعدهم فنحن نشهد بالله أن حديث بلال بن الحارث هذا ، لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلط عليه وكيف تقدم رواية بلال بن الحارث على روايات الثقات الأثبات حملة العلم الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلاف روايته ثم كيف يكون هذا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس رضي الله عنه يفتي بخلافه . ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون ولا يقول له رجل واحد منهم هذا كان مختصا بنا ، ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة أن أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم ؟

وأما قول عثمان رضي الله عنه في متعة الحج إنها كانت لهم ليست لغيرهم فحكمه حكم قول أبي ذر سواء على أن المروي عن أبي ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أمور .

أحدها : اختصاص جواز ذلك بالصحابة وهو الذي فهمه من حرم الفسخ .

الثاني : اختصاص وجوبه بالصحابة وهو الذي كان يراه شيخنا قدس الله روحه يقول إنهم كانوا قد فرض عليهم الفسخ لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم به وحتمه عليهم وغضبه عندما توقفوا في المبادرة إلى امتثاله . وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة لكن أبى ذلك البحر ابن عباس ، وجعل الوجوب للأمة إلى يوم القيامة وأن فرضا على كل مفرد وقارن لم يسق الهدي أن يحل ولا بد بل قد حل وإن لم يشأ وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا .

الاحتمال الثالث أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجا قارنا أو مفردا بلا هدي بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في آخر الأمر من التمتع لمن لم يسق الهدي والقران لمن ساق كما صح عنه ذلك . وإما أن يحرم بحج مفرد ثم يفسخه عند الطواف إلى عمرة مفردة ويجعله متعة فليس له ذلك بل هذا إنما كان للصحابة فإنهم ابتدءوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمتع والفسخ إليه فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه لم يكن لأحد أن يخالفه ويفرد ثم يفسخه .
وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول أو مساويين له وتسقط معارضة الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة وبالله التوفيق .

وأما ما رواه مسلم في " صحيحه " : عن أبي ذر أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة . فهذا إن أريد به أصل المتعة فهذا لا يقول به أحد من المسلمين بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة . وإن أريد به متعة الفسخ احتمل الوجوه الثلاثة المتقدمة . وقال الأثرم في " سننه " : وذكر لنا أحمد بن حنبل ، أن عبد الرحمن بن مهدي حدثه عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي ، عن أبي ذر في متعة الحج كانت لنا خاصة . فقال أحمد بن حنبل : رحم الله أبا ذر هي في كتاب الله عز وجل فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ البقرة 196 ] .

قال المانعون من الفسخ قول أبي ذر وعثمان إن ذلك منسوخ أو خاص بالصحابة لا يقال مثله بالرأي فمع قائله زيادة علم خفيت على من ادعى بقاءه وعمومه فإنه مستصحب لحال النص بقاء وعموما ، فهو بمنزلة صاحب اليد في العين المدعاة ومدعي فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البينة التي تقدم على صاحب اليد .

قال المجوزون للفسخ هذا قول فاسد لا شك فيه بل هذا رأي لا شك فيه وقد صرح - بأنه رأي من هو أعظم من عثمان وأبي ذر - عمران بن حصين ففي " الصحيحين " واللفظ للبخاري تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل القرآن فقال رجل برأيه ما شاء . ولفظ مسلم نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجل يعني متعة الحج وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات قال رجل برأيه ما شاء وفي لفظ يريد عمر .

وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عنها ; وقال له إن أباك نهى عنها : أأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن يتبع أو أمر أبي ؟

وقال ابن عباس لمن كان يعارضه فيها بأبي بكر وعمريوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وتقولون قال أبو بكر وعمر فهذا جواب العلماء لا جواب من يقول عثمان وأبو ذر أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم فهلا قال ابن عباس ، وعبد الله بن عمر : أبو بكر وعمر أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا ، ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من التابعين يرضى بهذا الجواب في دفع نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا أعلم بالله ورسوله وأتقى له من أن يقدموا على قول المعصوم رأي غير المعصوم ثم قد ثبت النص عن المعصوم بأنها باقية إلى يوم القيامة وقد قال ببقائها : علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر وابن عباس ، وأبو موسى ، وسعيد بن المسيب ، وجمهور التابعين
ويدل على أن ذلك رأي محض لا ينسب إلى أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نهى عنها قال له أبو موسى الأشعري : يا أمير المؤمنين ما أحدثت في شأن النسك ؟ فقال إن نأخذ بكتاب ربنا ، فإن الله يقول وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة 196 ] ، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحل حتى نحر فهذا اتفاق من أبي موسى وعمر على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداء إنما هو رأي منه أحدثه في النسك ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإن استدل له بما استدل
وأبو موسى كان يفتي الناس بالفسخ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه كلها ، وصدرا من خلافة عمر حتى فاوض عمر رضي الله عنه في نهيه عن ذلك واتفقا على أنه رأي أحدثه رضي الله عنه في النسك ثم صح عنه الرجوع عنه .

فصل [ عذر من ادعى معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها ]

وأما العذر الثالث وهو معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها ، فذكروا منها ما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث الزهري ، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ، قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحرم بعمرة ولم يهد ، فليحلل ومن أحرم بعمرة وأهدى ، فلا يحل حتى ينحر هديه ومن أهل بحج فليتم حجه وذكر باقي الحديث .

ومنها : ما رواه مسلم في " صحيحه " أيضا من حديث مالك عن أبي الأسود عن عروة عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج فأما من أهل بعمرة فحل وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر ومنها : ما رواه ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن بشر العبدي ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحج على ثلاثة أنواع فمنا من أهل بعمرة وحجة ومنا من أهل بحج مفرد ومنا من أهل بعمرة مفردة فمن كان أهل بحج وعمرة معا ، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ومن أهل بحج مفرد لم يحل من شيء مما حرم منه حتى قضى مناسك الحج ومن أهل بعمرة مفردة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، حل مما حرم منه حتى استقبل حجا

ومنها ما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن محمد بن نوفل ، أن رجلا من أهل العراق ، قال له سل لي عروة بن الزبير ، عن رجل أهل بالحج ، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا ؟ فذكر الحديث وفيه قد حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة ، أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم حج أبو بكر ، ثم كان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة . ثم معاوية وعبد الله بن عمر ، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام ، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة . ثم رأيت المهاجرين والأنصار ، يفعلون ذلك ثم لم تكن عمرة ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها بعمرة فهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه ؟ ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدآن بشيء أول من الطواف بالبيت تطوفان به ثم لا تحلان .


رد المصنف علي ما عارضوا به أحاديث فسخ الحج إلى العمرة ]

فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديث الفسخ ولا معارضة فيها بحمد الله ومنه . أما الحديث الأول وهو حديث الزهري عن عروة عن عائشة فغلط فيه عبد الملك بن شعيب أو أبوه شعيب أو جده الليث أو شيخه عقيل فإن الحديث رواه مالك ومعمر والناس عن الزهري عن عروة عنها وبينوا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى أن يحل . فقال مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عنها خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخمس ليال بقين لذي القعدة ولا نرى إلا الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل وذكر الحديث . قال يحيى : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد فقال أتتك والله بالحديث على وجهه

وقال منصور عن إبراهيم عن الأسود عنها ; خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نرى إلا الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فأحللن

وقال مالك ومعمر كلاهما عن ابن شهاب عن عروة عنها : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ولا يحل حتى يحل منهما جميعا

وقال ابن شهاب : عن عروة عنها بمثل الذي أخبر به سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولفظه تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج فأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق معه الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال للناس " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وذكر باقي الحديث .

وقال عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نذكر إلا الحج . .. فذكر الحديث . وفيه قالت فلما قدمت مكة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه " اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه الهدي " .

وقال الأعمش : عن إبراهيم عن عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نذكر إلا الحج فلما قدمنا أمرنا أن نحل وذكر الحديث . وقال عبد الرحمن بن القاسم : عن أبيه عن عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وآله وسلم ولا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت . قالت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي . فقال " ما يبكيك " ؟ قالت فقلت والله لوددت أني لا أحج العام . .. فذكر الحديث . وفيه فلما قدمت مكة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " اجعلوها عمرة " قالت فحل الناس إلا من كان معه الهدي .

وكل هذه الألفاظ في " الصحيح " وهذا موافق لما رواه جابر وابن عمر وأنس وأبو موسى وابن عباس وأبو سعيد وأسماء والبراء وحفصة وغيرهم من أمره صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه كلهم بالإحلال إلا من ساق الهدي وأن يجعلوا حجهم عمرة . وفي اتفاق هؤلاء كلهم على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه كلهم أن يحلوا وأن يجعلوا الذي قدموا به متعة إلا من ساق الهدي دليل على غلط هذه الرواية ووهم وقع فيها يبين ذلك أنها من رواية الليث عن عقيل عن الزهري عن عروة والليث بعينه هو الذي روى عن عقيل عن الزهري عن عروة عنها مثل ما رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه في تمتع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره لمن لم يكن أهدى أن يحل .

ثم تأملنا فإذا أحاديث عائشة يصدق بعضها بعضا وإنما بعض الرواة زاد على بعض وبعضهم اختصر الحديث وبعضهم اقتصر على بعضه وبعضهم رواه بالمعنى . والحديث المذكور ليس فيه منع من أهل بالحج من الإحلال وإنما فيه أمره أن يتم الحج فإن كان هذا محفوظا فالمراد به بقاؤه على إحرامه فيتعين أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال وجعله عمرة ويكون هذا أمرا زائدا قد طرأ على الأمر بالإتمام كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقران ويتعين هذا ولا بد وإلا كان هذا ناسخا للأمر بالفسخ والأمر بالفسخ ناسخا للإذن بالإفراد وهذا محال قطعا فإنه بعد أن أمرهم بالحل لم يأمرهم بنقضه والبقاء على الإحرام الأول هذا باطل قطعا فيتعين إن كان محفوظا أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ ولا يجوز غير هذا ألبتة والله أعلم .

فصل

وأما حديث أبي الأسود عن عروة عنها . وفيه " وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر " . وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها : فمن كان أهل بحج وعمرة معا لم يحل من شيء مما حرم منه حتى يقضي مناسك الحج ومن أهل بحج مفرد كذلك " . فحديثان قد أنكرهما الحفاظ وهما أهل أن ينكرا

قال الأثرم : حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بن أنس عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة وأهل بالحج رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة وأما من أهل بالحج والعمرة فلم يحلوا إلى يوم النحر فقال أحمد بن حنبل : أيش في هذا الحديث من العجب هذا خطأ فقال الأثرم : فقلت له الزهري عن عروة عن عائشة بخلافه ؟ فقال نعم وهشام بن عروة .

وقال الحافظ أبو محمد بن حزم : هذان حديثان منكران جدا قال ولأبي الأسود في هذا النحو حديث لا خفاء بنكرته ووهنه وبطلانه . والعجب كيف جاز على من رواه ؟ ثم ساق من طريق البخاري عنه أن عبد الله مولى أسماء حدثه أنه كان يسمع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تقول كلما مرت بالحجون : صلى الله على رسوله لقد نزلنا معه هاهنا ونحن يومئذ خفاف قليل ظهرنا قليلة أزوادنا فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان . فلما مسحنا البيت أحللنا ثم أهللنا من العشي بالحج . قال وهذه وهلة لا خفاء بها على أحد ممن له أقل علم بالحديث لوجهين باطلين فيه بلا شك .

أحدهما : قوله فاعتمرت أنا وأختي عائشة ولا خلاف بين أحد من أهل النقل في أن عائشة لم تعتمر في أول دخولها مكة ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة هكذا رواه جابر بن عبد الله ورواه عن عائشة الأثبات كالأسود بن يزيد وابن أبي مليكة والقاسم بن محمد وعروة وطاووس ومجاهد .

الموضع الثاني : قوله فيه فلما مسحنا البيت أحللنا ثم أهللنا من العشي بالحج وهذا باطل لا شك فيه لأن جابرا وأنس بن مالك وعائشة وابن عباس كلهم رووا أن الإحلال كان يوم دخولهم مكة وأن إحلالهم بالحج كان يوم التروية وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك .

قلت : الحديث ليس بمنكر ولا باطل وهو صحيح وإنما أتي أبو محمد فيه من فهمه فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هي وعائشة وهكذا وقع بلا شك .

وأما قولها : فلما مسحنا البيت أحللنا فإخبار منها عن نفسها وعمن لم يصبه عذر الحيض الذي أصاب عائشة وهي لم تصرح بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة وأنها حلت ذلك اليوم ولا ريب أن عائشة قدمت بعمرة ولم تزل عليها حتى حاضت بسرف فأدخلت عليها الحج وصارت قارنة . فإذا قيل اعتمرت عائشة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قدمت بعمرة لم يكن هذا كذبا .

وأما قولها : ثم أهللنا من العشي بالحج فهي لم تقل إنهم أهلوا من عشي يوم القدوم ليلزم ما قال أبو محمد وإنما أرادت عشي يوم التروية . ومثل هذا لا يحتاج في ظهوره وبيانه إلى أن يصرح فيه بعشي ذلك اليوم بعينه لعلم الخاص والعام به وأنه مما لا تذهب الأوهام إلى غيره فرد أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه .

قال أبو محمد وأسلم الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة يعني اللذين أنكرهما أن تخرج روايتهما على أن المراد بقولها : إن الذين أهلوا بحج أو بحج وعمرة لم يحلوا حتى كان يوم النحر حين قضوا مناسك الحج إنما عنت بذلك من كان معه الهدي وبهذا تنتفي النكرة عن هذين الحديثين وبهذا تأتلف الأحاديث كلها ; لأن الزهري عن عروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة والزهري بلا شك أحفظ من أبي الأسود وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة في هذا الباب من لا يقرن يحيى بن عبد الرحمن إليه لا في حفظ ولا في ثقة ولا في جلالة ولا في بطانة لعائشة كالأسود بن يزيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبي عمرو ذكوان مولى عائشة وعمرة بنت عبد الرحمن وكانت في حجر عائشة وهؤلاء هم أهل الخصوصية والبطانة بها فكيف ؟ ولو لم يكونوا كذلك لكانت روايتهم أو رواية واحد منهم لو انفرد هي الواجب أن يؤخذ بها لأن فيها زيادة على رواية أبي الأسود ويحيى وليس من جهل أو غفل حجة على من علم وذكر وأخبر فكيف وقد وافق هؤلاء الجلة عن عائشة فسقط التعلق بحديث أبي الأسود ويحيى اللذين ذكرنا .

قال وأيضا فإن حديثي أبي الأسود ويحيى موقوفان غير مسندين لأنهما إنما ذكرا عنها فعل من فعل ما ذكرت دون أن يذكرا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن لا يحلوا ولا حجة في أحد دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو صح ما ذكراه وقد صح أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من لا هدي معه بالفسخ فتمادى المأمورون بذلك ولم يحلوا لكانوا عصاة لله تعالى وقد أعاذهم الله من ذلك وبرأهم منه فثبت يقينا أن حديث أبي الأسود ويحيى إنما عني فيهما : من كان معه هدي وهكذا جاءت الأحاديث الصحاح التي أوردناها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر من معه الهدي بأن يجمع حجا مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا . ثم ساق من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة عنها ترفعه من كان معه هدي فليهلل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا قال فهذا الحديث كما ترى من طريق عروة عن عائشة يبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك في حديث أبي الأسود عن عروة وحديث يحيى عن عائشة وارتفع الآن الإشكال جملة والحمد لله رب العالمين .

قال ومما يبين أن في حديث أبي الأسود حذفا قوله فيه عن عروة " أن أمه وخالته والزبير أقبلوا بعمرة فقط فلما مسحوا الركن حلوا " . ولا خلاف بين أحد أن من أقبل بعمرة لا يحل بمسح الركن حتى يسعى بين الصفا والمروة بعد مسح الركن فصح أن في الحديث حذفا بينه سائر الأحاديث الصحاح التي ذكرنا وبطل التشغيب به جملة وبالله التوفيق .


وأما ما في حديث أبي الأسود عن عروة من فعل أبي بكر ، وعمر ، والمهاجرين ، والأنصار ، وابن عمر ، فقد أجابه ابن عباس ، فأحسن جوابه فيكتفى بجوابه .

فروى الأعمش ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة . فقال ابن عباس : أراكم ستهلكون أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : قال أبو بكر وعمر

وقال عبد الرازق حدثنا معمر عن أيوب قال قال عروة لابن عباس ألا تتقي الله ترخص في المتعة ؟ فقال ابن عباس : سل أمك يا عرية . فقال عروة : أما أبو بكر وعمر ، فلم يفعلا ، فقال ابن عباس : والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونا عن أبي بكر وعمر ؟ فقال عروة : لهما أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبع لها منك

وأخرج أبو مسلم الكجي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب السختياني ، عن ابن أبي مليكة ، عن عروة بن الزبير ، قال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمر الناس بالعمرة في هؤلاء العشر وليس فيها عمرة ؟ قال أولا تسأل أمك عن ذلك ؟ قال عروة فإن أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك قال الرجل من هاهنا هلكتم ما أرى الله عز وجل إلا سيعذبكم إني أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخبروني بأبي بكر وعمر . قال عروة إنهما والله كانا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فسكت الرجل

ثم أجاب أبو محمد بن حزم عروة عن قوله هذا ، بجواب نذكره ونذكر جوابا أحسن منه لشيخنا . قال أبو محمد ونحن نقول لعروة ابن عباس أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي بكر وعمر منك ، وخير منك ، وأولى بهم ثلاثتهم منك ، لا يشك في ذلك مسلم . وعائشة أم المؤمنين ، أعلم وأصدق منك . ثم ساق من طريق الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله قال قالت عائشة : من استعمل على الموسم ؟ قالوا : ابن عباس قالت هو أعلم الناس بالحج

قال أبو محمد مع أنه قد روي عنها خلاف ما قاله عروة ومن هو خير من عروة وأفضل وأعلم وأصدق وأوثق . ثم ساق من طريق البزار ، عن الأشج عن عبد الله بن إدريس الأودي ، عن ليث عن عطاء وطاووس عن ابن عباس : تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر وأول من نهى عنها معاوية .

ومن طريق عبد الرزاق ، عن الثوري عن ليث عن طاووس عن ابن عباس : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى مات وعمر وعثمان كذلك وأول من نهى عنها ، معاوية .

قلت : حديث ابن عباس هذا ، رواه الإمام أحمد في " المسند " والترمذي . وقال حديث حسن . وذكر عبد الرزاق ، قال حدثنا معمر عن ابن طاووس ، عن أبيه قال قال أبي بن كعب ، وأبو موسى لعمر بن الخطاب : ألا تقوم فتبين للناس أمر هذه المتعة ؟ فقال عمر : وهل بقي أحد إلا وقد علمها ، أما أنا فأفعلها

وذكر علي بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا حجاج بن المنهال ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، عن حماد بن أبي سليمان ، أو حميد عن الحسن أن عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة ، وقال الكعبة غنية عن ذلك المال ، وأراد أن ينهى أهل اليمن أن يصبغوا بالبول وأراد أن ينهى عن متعة الحج فقال أبي بن كعب : قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا المال وبه وبأصحابه الحاجة إليه فلم يأخذه وأنت فلا تأخذه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبسون الثياب اليمانية فلم ينه عنها ، وقد علم أنها تصبغ بالبول وقد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينه عنها ، ولم ينزل الله تعالى فيها نهيا

وقد تقدم قول عمر : لو اعتمرت في وسط السنة ثم حججت لتمتعت ولو حججت خمسين حجة لتمتعت ورواه حماد بن سلمة . عن قيس ، عن طاووس عن ابن عباس ، عنه لو اعتمرت في سنة مرتين ثم حججت ، لجعلت مع حجتي عمرة

والثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاووس عن ابن عباس ، عنه لو اعتمرت ثم اعتمرت ثم حججت ، لتمتعت وابن عيينة عن هشام بن حجير وليث عن طاووس عن ابن عباس ، قال هذا الذي يزعمون أنه نهى عن المتعة - يعني عمر - سمعته يقول لو اعتمرت ثم حججت ، لتمتعت قال ابن عباس : كذا وكذا مرة ما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة .

[ بيان أن عمر لم ينه عن المتعة ألبتة ]

وأما الجواب الذي ذكره شيخنا ، فهو أن عمر رضي الله عنه لم ينه عن المتعة ألبتة وإنما قال إ ن أتم لحجكم وعمرتكم أن تفصلوا بينهما ، فاختار عمر لهم أفضل الأمور وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده وهذا أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى ، وقد نص على ذلك أحمد ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي رحمهم الله تعالى وغيرهم .

وهذا هو الإفراد الذي فعله أبوبكر وعمر رضي عنهما ، وكان عمر يختاره للناس وكذلك علي رضي الله عنهما .

وقال عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة 196 ] قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها : أجرك على قدر نصبك فإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله فأنشأ العمرة منها ، واعتمر قبل أشهر الحج وأقام حتى يحج أو اعتمر في أشهره ورجع إلى أهله ثم حج فهاهنا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله وهذا إتيان بهما على الكمال فهو أفضل من غيره .

قلت : فهذا الذي اختاره عمر للناس فظن من غلط منهم أنه نهى عن المتعة ثم منهم من حمل نهيه على متعة الفسخ ومنهم من حمله على ترك الأولى ترجيحا للإفراد عليه ومنهم من عارض روايات النهي عنه بروايات الاستحباب وقد ذكرناها ، ومنهم من جعل في ذلك روايتين عن عمر كما عنه روايتان في غيرهما من المسائل ومنهم من جعل النهي قولا قديما ، ورجع عنه أخيرا ، كما سلك أبو محمد بن حزم ، ومنهم من يعد النهي رأيا رآه من عنده لكراهته أن يظل الحاج معرسين بنسائهم في ظل الأراك .

قال أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد قال بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة ، فإذا هو برجل مرجل شعره يفوح منه ريح الطيب فقال له عمر : أمحرم أنت ؟ قال نعم . فقال عمر : ما هيئتك بهيئة محرم إنما المحرم الأشعث الأغبر الأدفر . قال إني قدمت متمتعا ، وكان معي أهلي ، وإنما أحرمت اليوم . فقال عمر عند ذلك لا تتمتعوا في هذه الأيام فإني لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في الأراك ، ثم راحوا بهن حجاجا وهذا يبين أن هذا من عمر رأي رآه .

قال ابن حزم : فكان ماذا ؟ وحبذا ذلك ؟ وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه ثم أصبح محرما ، ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين والله أعلم .


فصل [ بقية طرق المانعين من فسخ الحج إلى العمرة ]
وقد سلك المانعون من الفسخ طريقتين أخريين نذكرهما ، ونبين فسادهما .

الطريقة الأولى : قالوا : إذا اختلف الصحابة ومن بعدهم في جواز الفسخ فالاحتياط يقتضي المنع منه صيانة للعبادة عما لا يجوز فيها عند كثير من أهل العلم بل أكثرهم .

والطريقة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج وكانوا يقولون إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج وهاتان الطريقتان باطلتان .

أما الأولى : فلأن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين السنة فإذا تبينت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها ; فإن كان تركها لأجل الاختلاف احتياطا ، فترك ما خالفها واتباعها ، أحوط وأحوط فالاحتياط نوعان احتياط للخروج من خلاف العلماء واحتياط للخروج من خلاف السنة ولا يخفى رجحان أحدهما على الآخر وأيضا فإن الاحتياط ممتنع هنا ، فإن للناس في الفسخ ثلاثة أقوال أحدها : أنه محرم .

الثاني : أنه واجب وهو قول جماعة من السلف والخلف .

الثالث أنه مستحب ، فليس الاحتياط بالخروج من خلاف من حرمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف من أوجبه . وإذا تعذر الاحتياط بالخروج من الخلاف تعين الاحتياط بالخروج من خلاف السنة .

فصل [ بطلان قول من قال أمرهم صلى الله عليه وسلم

بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج من أحد عشر وجها ]

وأما الطريقة الثانية فأظهر بطلانا من وجوه عديدة أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عمره الثلاث في أشهر الحج في ذي القعدة كما تقدم ذلك وهو أوسط أشهر الحج . فكيف يظن أن الصحابة لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة وقد تقدم فعله لذلك ثلاث مرات ؟ الثاني : أنه قد ثبت في " الصحيحين " ، أنه قال لهم عند الميقات من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بحج وعمرة فليفعل فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات وعامة المسلمين معه فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ ؟ ولعمر الله إن لم يكونوا يعلمون جوازها بذلك فهم أجدر أن لا يعلموا جوازها بالفسخ .

الثالث أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل وأمر من ساق الهدي أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ففرق بين محرم ومحرم وهذا يدل على أن سوق الهدي هو المانع من التحلل لا مجرد الإحرام الأول والعلة التي ذكروها لا تختص بمحرم دون محرم فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل التأثير في الحل وعدمه للهدي وجودا وعدما لا لغيره .

الرابع أن يقال إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة المشركين كان هذا دليلا على أن الفسخ أفضل لهذه العلة لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين كان يكون دليلا على أن الفسخ يبقى مشروعا إلى يوم القيامة إما وجوبا وإما استحبابا ، فإن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه لأمته في المناسك مخالفة لهدي المشركين هو مشروع إلى يوم القيامة إما وجوبا أو استحبابا ، فإن المشركين كانوا يفيضون من عرفة قبل غروب الشمس وكانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس وكانوا يقولون أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال خالف هدينا هدي المشركين ، فلم نفض من عرفة حتى غربت الشمس .

وهذه المخالفة إما ركن كقول مالك ، وإما واجب يجبره دم كقول أحمد ، وأبي حنيفة ، والشافعي في أحد القولين وإما سنة كالقول الآخر له .

والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة باتفاق المسلمين وكذلك قريش كانت لا تقف بعرفة بل تفيض من جمع ، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ووقف بعرفات وأفاض منها ، وفي ذلك نزل قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [ البقرة 199 ]

وهذه المخالفة من أركان الحج باتفاق المسلمين فالأمور التي نخالف فيها المشركين هي الواجب أو المستحب ، ليس فيها مكروه فكيف يكون فيها محرم وكيف يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بنسك يخالف نسك المشركين مع كون الذي نهاهم عنه أفضل من الذي أمرهم به .

أو يقال من حج كما حج المشركون فلم يتمتع فحجه أفضل من حج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الخامس أنه قد ثبت في " الصحيحين " عنه أنه قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة

وقيل له عمرتنا هذه لعامنا هذا ، أم للأبد ؟ فقال " لا ، بل لأبد الأبد ، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة

وكان سؤالهم عن عمرة الفسخ كما جاء صريحا في حديث جابر الطويل . قال حتى إذا كان آخر طوافه على المروة ، قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة " ، فقام سراقة بن مالك فقال يا رسول الله ألعامنا هذا ، أم للأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال " دخلت العمرة في الحج مرتين ، لا بل لأبد الأبد

وفي لفظ قدم رسول الله صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا ، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني . .. فذكر الحديث .

وفيه فقال سراقة بن مالك : لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال " لأبد " .

وفي " صحيح البخاري " عنه أن سراقة قال للنبي صلى الله عليه وسلم " ألكم خاصة هذه يا رسول الله ؟ قال " بل للأبد فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك العمرة التي فسخ من - 200 - فسخ منهم حجة إليها للأبد وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة . وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج .

وقد اعترض بعض الناس على الاستدلال بقوله " بل لأبد الأبد " باعتراضين أحدهما : أن المراد أن سقوط الفرض بها لا يختص بذلك العام بل يسقطه إلى الأبد وهذا الاعتراض باطل فإنه لو أراد ذلك لم يقل للأبد فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة بل إنما يكون لجميع المسلمين ولأنه قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤال عن تكرار الوجوب لما اقتصروا على العمرة بل كان السؤال عن الحج ولأنهم قالوا له عمرتنا هذه لعامنا هذا ، أم للأبد ؟ ولو أرادوا تكرار وجوبها كل عام لقالوا له كما قالوا له في الحج أكل عام يا رسول الله ؟ ولأجابهم بما أجابهم به في الحج بقوله ذروني ما تركتكم . لو قلت نعم لوجبت . ولأنهم قالوا له هذه لكم خاصة .

فقال " بل لأبد الأبد " . فهذا السؤال والجواب صريحان في عدم الاختصاص . الثاني : قوله إن ذلك إنما يريد به جواز الاعتمار في أشهر الحج وهذا الاعتراض أبطل من الذي قبله فإن السائل إنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن المتعة التي هي فسخ الحج لا عن جواز العمرة في أشهر الحج لأنه إنما سأله عقب أمره من لا هدي معه بفسخ الحج فقال له سراقة حينئذ هذا لعامنا ، أم للأبد ؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم عن نفس ما سأله عنه لا عما لم يسأله عنه .

وفي قوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة عقب أمره من لا هدي معه بالإحلال بيان جلي أن ذلك مستمر إلى يوم القيامة فبطل دعوى الخصوص وبالله التوفيق .

السادس أن هذه العلة التي ذكرتموها ، ليست في الحديث ولا فيه إشارة إليها ، فإن كانت باطلة بطل اعتراضكم بها ، وإن كانت صحيحة فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه من الوجوه بل إن صحت اقتضت دوام معلولها واستمراره كما أن الرمل شرع ليري المشركين قوته وقوة أصحابه واستمرت مشروعيته إلى يوم القيامة فبطل الاحتجاج بتلك العلة على الاختصاص بهم على كل تقدير .

السابع أن الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العمرة في أشهر الحج على فعلهم لها معه ثلاثة أعوام ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فمن بعدهم أحرى أن لا يكتفي بذلك حتى يفسخ الحج إلى العمرة اتباعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واقتداء بأصحابه إلا أن يقول قائل إنا نحن نكتفي من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابة ولا نحتاج في الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه وهذا جهل نعوذ بالله منه .

الثامن أنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالفسخ الذي هو حرام ليعلمهم بذلك مباحا يمكن تعليمه بغير ارتكاب هذا المحظور وبأسهل منه بيانا ، وأوضح دلالة وأقل كلفة . فإن قيل لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراما . قيل فهو إذا إما واجب أو مستحب .

وقد قال بكل واحد منهما طائفة فمن الذي حرمه بعد إيجابه أو استحبابه وأي نص أو إجماع رفع هذا الوجوب أو الاستحباب فهذه مطالبة لا محيص عنها .

التاسع أنه صلى الله عليه وسلم قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة أفترى تجدد له صلى الله عليه وسلم عند ذلك العلم بجواز العمرة في أشهر الحج حتى تأسف على فواتها ؟ هذا من أعظم المحال .

العاشر أنه أمر بالفسخ إلى العمرة من كان أفرد ومن قرن ولم يسق الهدي . ومعلوم أن القارن قد اعتمر في أشهر الحج مع حجته فكيف يأمره بفسخ قرانه إلى عمرة ليبين له جواز العمرة في أشهر الحج وقد أتى بها ، وضم إليها الحج ؟ .


[ بحث في موافقة فسخ الحج إلى العمرة لقياس الأصول ]
الحادي عشر أن فسخ الحج إلى العمرة موافق لقياس الأصول لا مخالف له . ولو لم يرد به النص ، لكان القياس يقتضي جوازه فجاء النص به على وفق القياس قاله شيخ الإسلام ، وقرره بأن المحرم إذا التزم أكثر مما كان لزمه جاز باتفاق الأئمة .

فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز بلا نزاع وإذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز عند الجمهور وهو مذهب مالك ، وأحمد ، والشافعي في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة يجوز ذلك بناء على أصله في أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين . قال وهذا قياس الرواية المحكية عن أحمد في القارن أنه يطوف طوافين ويسعى سعيين . وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلتزم إلا الحج .

فإذا صار متمتعا ، صار ملتزما لعمرة وحج فكان ما التزمه بالفسخ أكثر مما كان عليه فجاز ذلك .

ولما كان أفضل كان مستحبا ، وإنما أشكل هذا على من ظن أنه فسخ حجا إلى عمرة وليس كذلك فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عمرة مفردة لم يجز بلا نزاع وإنما الفسخ جائز لمن كان من نيته أن يحج بعد العمرة والمتمتع من حين يحرم بالعمرة فهو داخل في الحج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة

ولهذا ، يجوز له أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة فدل على أنه في تلك الحال في الحج . وأما إحرامه بالحج بعد ذلك فكما يبدأ الجنب بالوضوء ثم يغتسل بعده . وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا اغتسل من الجنابة .

وقال للنسوة في غسل ابنته ابدأن بميامنها ، ومواضع الوضوء منها . فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل .

فإن قيل هذا باطل لثلاثة أوجه .

أحدها : أنه إذا فسخ استفاد بالفسخ حلا كان ممنوعا منه بإحرامه الأول فهو دون ما التزمه .

الثاني : أن النسك الذي كان قد التزمه أولا ، أكمل من النسك الذي فسخ إليه ولهذا لا يحتاج الأول إلى جبران والذي يفسخ إليه يحتاج إلى هدي جبرانا له ونسك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور .

الثالث أنه إذا لم يجز إدخال العمرة على الحج فلأن لا يجوز إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأولى والأحرى . فالجواب عن هذه الوجوه من طريقين مجمل ومفصل . أما المجمل فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السنة والجواب عنها بالتزام تقديم الوحي على الآراء وأن كل رأي يخالف السنة فهو باطل قطعا ، وبيان بطلانه لمخالفة السنة الصحيحة الصريحة له والآراء تبع للسنة وليست السنة تبعا للآراء .

وأما المفصل وهو الذي نحن بصدده فإنا التزمنا أن الفسخ على وفق القياس فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام وعلى هذا فالوجه الأول جوابه بأن التمتع - وإن تخلله التحلل - فهو أفضل من الإفراد الذي لا حل فيه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لا هدي معه بالإحرام به ولأمره أصحابه بفسخ الحج إليه ولتمنيه أنه كان أحرم به ولأنه النسك المنصوص عليه في كتاب الله ولأن الأمة أجمعت على جوازه بل على استحبابه واختلفوا في غيره على قولين فإن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين أمرهم بالفسخ إليه بعد الإحرام بالحج فتوقفوا ، ولأنه من المحال قطعا أن تكون حجة قط أفضل من حجة خير القرون وأفضل العالمين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وقد أمرهم كلهم بأن يجعلوها متعة إلا من ساق الهدي فمن المحال أن يكون غير هذا الحج أفضل منه إلا حج من قرن وساق الهدي كما اختاره الله سبحانه لنبيه فهذا هو الذي اختاره الله لنبيه واختار لأصحابه التمتع فأي حج أفضل من هذين .

ولأنه من المحال أن ينقلهم من النسك الفاضل إلى المفضول المرجوح ولوجوه أخر كثيرة ليس هذا موضعها ، فرجحان هذا النسك أفضل من البقاء على الإحرام الذي يفوته بالفسخ وقد تبين بهذا بطلان الوجه الثاني .

وأما قولكم إنه نسك مجبور بالهدي فكلام باطل من وجوه .

أحدها : أن الهدي في التمتع عبادة مقصودة وهو من تمام النسك وهو دم شكران لا دم جبران وهو بمنزلة الأضحية للمقيم وهو من تمام عبادة هذا اليوم فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية فإنه ما تقرب إلى الله في ذلك اليوم بمثل إراقة دم سائل .

وقد روى الترمذي وغيره من حديث أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل ؟ فقال " العج والثج " والعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دم الهدي . فإن قيل يمكن المفرد أن يحصل هذه الفضيلة .

قيل مشروعيتها إنما جاءت في حق القارن والمتمتع وعلى تقدير استحبابها في حقه فأين ثوابها من ثواب هدي المتمتع والقارن ؟

الوجه الثاني : إنه لو كان دم جبران لما جاز الأكل منه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من هديه فإنه أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل من لحمها ، وشرب من مرقها . وإن كان الواجب عليه سبع بدنة فإنه أكل من كل بدنة من المائة والواجب فيها مشاع لم يتعين بقسمة .

وأيضا : فإنه قد ثبت في " الصحيحين " : أنه أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن وكن متمتعات احتج به الإمام أحمد ، فثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها ، أنه أهدى عن نسائه ثم أرسل إليهن من الهدي الذي ذبحه عنهن

وأيضا : فإن الله سبحانه وتعالى قال فيما يذبح بمنى من الهدي فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ الحج : 28 ] وهذا يتناول هدي التمتع والقران قطعا إن لم يختص به فإن المشروع هناك ذبح هدي المتعة والقران .

ومن ها هنا والله أعلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر امتثالا لأمر ربه بالأكل ليعم به جميع هديه .

الوجه الثالث أن سبب الجبران محظور في الأصل فلا يجوز الإقدام عليه إلا لعذر فإنه إما ترك واجب أو فعل محظور والتمتع مأمور به إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره أو أمر استحباب عند الأكثرين فلو كان دمه دم جبران لم يجز الإقدام على سببه بغير عذر فبطل قولهم إنه دم جبران وعلم أنه دم نسك وهذا وسع الله به على عباده وأباح لهم بسببه التحلل في أثناء الإحرام لما في استمرار الإحرام عليهم من المشقة فهو بمنزلة القصر والفطر في السفر ، وبمنزلة المسح على الخفين وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه فعل هذا وهذا والله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته

فمحبته لأخذ العبد بما يسره عليه وسهله له مثل كراهته منه لارتكاب ما حرمه عليه ومنعه منه . والهدي وإن كان بدلا عن ترفهه بسقوط أحد السفرين فهو أفضل لمن قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد ويعتمر عقيبه والبدل قد يكون واجبا كالجمعة عند من جعلها بدلا ، وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء فإنه واجب عليه وهو بدل فإذا كان البدل قد يكون واجبا ، فكونه مستحبا أولى بالجواز وتخلل التحلل لا يمنع أن يكون الجميع عبادة واحدة كطواف الإفاضة فإنه ركن بالاتفاق ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول وكذلك رمي الجمار أيام منى ، وهو يفعل بعد الحل التام وصوم رمضان يتخلله الفطر في لياليه ولا يمنع ذلك أن يكون عبادة واحدة .

ولهذا قال مالك وغيره إنه يجزئ بنية واحدة للشهر كله لأنه عبادة واحدة . والله أعلم .

فصل وأما قولكم إذا لم يجز إدخال العمرة على الحج فلأن لا يجوز فسخه إليها أولى وأحرى ، فنسمع جعجعة ولا نرى طحنا . وما وجه التلازم بين الأمرين وما الدليل على هذه الدعوى التي ليس بأيديكم برهان عليها ؟ ثم القائل بهذا إن كان من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله فهو غير معترف بفساد هذا القياس .

وإن كان من غيرهم طولب بصحة قياسه فلا يجد إليه سبيلا ، ثم يقال مدخل العمرة قد نقص مما كان التزمه فإنه كان يطوف طوافا للحج ثم طوافا آخر للعمرة . فإذا قرن كفاه طواف واحد وسعي واحد بالسنة الصحيحة وهو قول الجمهور وقد نقص مما كان يلتزمه .

وأما الفاسخ فإنه لم ينقض مما التزمه بل نقل نسكه إلى ما هو أكمل منه وأفضل وأكثر واجبات فبطل القياس على كل تقدير ولله الحمد .


فصل [ العودة إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم عند نزوله بذي طوى ]
عدنا إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم . ثم نهض صلى الله عليه وسلم إلى أن نزل بذي طوى ، وهي - 20 7 - المعروفة الآن بآبار الزاهر ، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة وصلى بها الصبح ثم اغتسل من يومه ونهض إلى مكة ، فدخلها نهارا من أعلاها من الثنية العليا التي تشرف على الحجون ، وكان في العمرة يدخل من أسفلها ، وفي الحج دخل من أعلاها ، وخرج من أسفلها ، ثم سار حتى دخل المسجد وذلك ضحى .

وذكر الطبراني ، أنه دخله من باب بني عبد مناف الذي يسميه الناس اليوم باب بني شيبة .

وذكر الإمام أحمد : أنه كان إذا دخل مكانا من دار يعلى ، استقل البيت فدعا .

وذكر الطبراني : أنه كان إذا نظر إلى البيت قال اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة

وروي عنه أنه كان عند رؤيته يرفع يديه ويكبر ويقول اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من حجه أو اعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا وهو مرسل ولكن سمع هذا سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوله .

فلما دخل المسجد عمد إلى البيت ولم يركع تحية المسجد فإن تحية المسجد الحرام الطواف فلما حاذى الحجر الأسود ، استلمه ولم يزاحم عليه ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني ، ولم يرفع يديه ولم يقل نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا ، ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله من لا علم عنده بل هو من البدع المنكرات ولا حاذى الحجر الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجعله على شقه بل استقبله واستلمه ثم أخذ عن يمينه وجعل البيت عن يساره ولم يدع عند الباب بدعاء ولا تحت الميزاب ، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ،
ولا وقت للطواف ذكرا معينا ، لا بفعله ولا بتعليمه بل حفظ عنه بين الركنين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ورمل في طوافه هذا الثلاثة الأشواط الأول وكان يسرع في مشيه ويقارب بين خطاه واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه وكلما حاذى الحجر الأسود ، أشار إليه أو استلمه بمحجنه وقبل المحجن والمحجن عصا محنية الرأس وثبت عنه أنه استلم الركن اليماني .

ولم يثبت عنه أنه قبله ولا قبل يده عند استلامه وقد روى الدارقطني : عن ابن عباس ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ، ويضع خده عليه وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز ، قال الإمام أحمد : صالح الحديث وضعفه غيره .

ولكن المراد بالركن اليماني ها هنا ، الحجر الأسود ، فإنه يسمى الركن اليماني ويقال له مع الركن الآخر اليمانيان ويقال له مع الركن الذي يلي الحجر من ناحية الباب العراقيان ؟ ويقال للركنين اللذين يليان الحجر : الشاميان . ويقال للركن اليماني والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة : الغربيان ولكن ثبت عنه أنه قبل الحجر الأسود .

وثبت عنه أنه استلمه بيده فوضع يده عليه ثم قبلها ، وثبت عنه أنه استلمه بمحجن فهذه ثلاث صفات وروي عنه أيضا ، أنه وضع شفتيه عليه طويلا يبكي .

وذكر الطبراني عنه بإسناد جيد أنه كان إذا استلم الركن اليماني ، قال " بسم الله والله أكبر " . وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال " الله أكبر .

وذكر أبو داود الطيالسي ، وأبو عاصم النبيل ، عن جعفر بن عبد الله بن عثمان ، قال رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه ثم قال رأيت ابن عباس يقبله ويسجد عليه وقال ابن عباس : رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه .

ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلت .

وروى البيهقي عن ابن عباس : أنه قبل الركن اليماني ، ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثلاث مرات

وذكر أيضا عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر .

ولم يستلم صلى الله عليه وسلم ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط . قال الشافعي رحمه الله ولم يدع أحد استلامهما هجرة لبيت الله ولكن استلم ما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أمسك عنه .

فصل [ صلاته صلى الله عليه وسلم خلف المقام ]
فلما فرغ من طوافه جاء إلى خلف المقام فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقرة 125 ] ، فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص وقراءته الآية المذكورة بيان منه لتفسير القرآن ومراد الله منه بفعله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود ، فاستلمه ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله فلما قرب منه . قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة 159 ] ابدأ بما بدأ الله به وفي رواية النسائي : " ابدءوا " بصيغة الأمر . ثم رقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات .

وقام ابن مسعود على الصدع ، وهو الشق الذي في الصفا . فقيل له ها هنا يا أبا عبد الرحمن ؟ قال هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة ذكره البيهقي .

ثم نزل إلى المروة يمشي ، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي ، سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد مشى

هذا - الذي صح عنه وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى وآخره . والظاهر أن الوادي لم يتغير عن وضعه هكذا قال جابر عنه في " صحيح مسلم " .

وظاهر هذا : أنه كان ماشيا ، وقد روى مسلم في " صحيحه " عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس قد غشوه وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر : لم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول

قال ابن حزم : لا تعارض بينهما ; لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده .

وعندي في الجمع بينهما وجه آخر أحسن من هذا ، وهو أنه سعى ماشيا أولا ، ثم أتم سعيه راكبا ، وقد جاء ذلك مصرحا به ففي " صحيح مسلم " : عن أبي الطفيل ، قال قلت لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا ، أسنة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة . قال صدقوا وكذبوا قال قلت ما قولك : صدقوا وكذبوا ؟ قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت . قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه . قال فلما كثر عليه ركب والمشي والسعي أفضل

افتراضي

فصل [ طواف القدوم ]
وأما طوافه بالبيت عند قدومه فاختلف فيه هل كان على قدميه أو كان راكبا ؟ ففي " صحيح مسلم " : عن عائشة رضي الله عنها ، قالت طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس

وفي " سنن أبي داود " : عن ابن عباس ، قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي ، فطاف على راحلته كلما أتى على الركن استلمه بمحجن فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين

قال أبو الطفيل : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت على بعيره يستلم الحجر بمحجنه ثم يقبله رواه مسلم دون ذكر البعير . وهو عند البيهقي ، بإسناد مسلم بذكر البعير . وهذا والله أعلم في طواف الإفاضة لا في طواف القدوم ، فإن جابرا حكى عنه الرمل في الثلاثة الأول وذلك لا يكون إلا مع المشي .

قال الشافعي رحمه الله أما سبعه الذي طافه لمقدمه فعلى قدميه لأن جابرا حكى عنه فيه أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة فلا يجوز أن يكون جابر يحكي عنه الطواف ماشيا وراكبا في سبع واحد . وقد حفظ أن سبعه الذي ركب فيه في طوافه يوم النحر .

ثم ذكر الشافعي : عن ابن عيينة عن ابن طاووس ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يهجروا بالإفاضة
، وأفاض في نسائه ليلا على راحلته يستلم الركن بمحجنه أحسبه قال فيقبل طرف المحجن . قلت : هذا مع أنه مرسل فهو خلاف ما رواه جابر عنه في " الصحيح " أنه طاف طواف الإفاضة يوم النحر نهارا ، وكذلك روت عائشة وابن عمر ، كما سيأتي .

وقول ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي ، فطاف على راحلته كلما أتى الركن استلمه . هذا إن كان محفوظا ، فهو في إحدى عمره وإلا فقد صح عنه الرمل في الثلاثة الأول من طواف القدوم ، إلا أن يقول كما قال ابن حزم في السعي إنه رمل على بعيره فإن من رمل على بعيره فقد رمل لكن ليس في شيء من الأحاديث أنه كان راكبا في طواف القدوم . والله أعلم .

فصل [ غلط ابن حزم وبيان أنه لم يحج ]
وقال ابن حزم : وطاف صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أيضا سبعا ، راكبا على بعيره يخب ثلاثا ، ويمشي أربعا ، وهذا من أوهامه وغلطه رحمه الله فإن أحدا لم يقل هذا قط غيره ولا رواه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة . وهذا إنما هو في الطواف بالبيت فغلط أبو محمد ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة .

وأعجب من ذلك استدلاله عليه بما رواه من طريق البخاري ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعا ، فركع حين قضى طوافه بالبيت وصلى عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا ، فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط . . وذكر باقي الحديث .

قال ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصا ، ولكنه متفق عليه . هذا لفظه . قلت : المتفق عليه السعي في بطن الوادي في الأشواط كلها . وأما الرمل في الثلاثة الأول خاصة فلم يقله ولا نقله فيما نعلم غيره .

وسألت شيخنا عنه فقال هذا من أغلاطه وهو لم يحج رحمه الله تعالى .

ويشبه هذا الغلط غلط من قال إنه سعى أربع عشرة مرة وكان يحتسب بذهابه ورجوعه مرة واحدة . وهذا غلط عليه صلى الله عليه وسلم لم ينقله عند أحد ، ولا قاله أحد من الأئمة الذين اشتهرت أقوالهم وإن ذهب إليه بعض المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة . ومما يبين بطلان هذا القول أنه صلى الله عليه وسلم لا خلاف عنه أنه ختم سعيه بالمروة ولو كان الذهاب والرجوع مرة واحدة لكان ختمه إنما يقع على الصفا .

[ متابعة سياق الحج ]

وكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة ، رقي عليها ، واستقبل البيت وكبر الله ووحده وفعل كما فعل على الصفا ، فلما أكمل سعيه عند المروة ، أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتما ولا بد قارنا كان أو مفردا ، وأمرهم أن يحلوا الحل كله من وطء النساء والطيب ولبس المخيط وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ولم يحل هو من أجل هديه .

وهناك قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة

وقد روي أنه أحل هو أيضا ، وهو غلط قطعا ، قد بيناه فيما تقدم .

وهناك دعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا ، وللمقصرين مرة وهناك سأله سراقة بن مالك بن جعشم عقيب أمره لهم بالفسخ والإحلال هل ذلك لعامهم خاصة أم للأبد ؟ فقال " بل للأبد " . ولم يحل أبو بكر ، ولا عمر ، ولا علي ولا طلحة ، ولا الزبير من أجل الهدي . وأما نساؤه صلى الله عليه وسلم فأحللن وكن قارنات إلا عائشة فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل عليها لحيضها ، وفاطمة حلت لأنها لم يكن معها هدي وعلي رضي الله عنه لم يحل من أجل هديه وأمر صلى الله عليه وسلم من أهل بإهلال كإهلاله أن يقيم على إحرامه إن كان معه هدي وأن يحل إن لم يكن معه هدي .



[ خطبة الوداع ]
وكان يصلي مدة مقامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء فلما كان يوم الخميس ضحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم ولم يدخلوا إلى المسجد فأحرموا منه بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم فلما وصل إلى منى نزل بها وصلى بها الظهر والعصر وبات بها وكان ليلة الجمعة فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفة وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم
وكان من أصحابه الملبي ومنهم المكبر وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء فوجد القبة قد ضربت له بنمرة بأمره وهي قرية شرقي عرفات وهي خراب اليوم فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت
ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة فخطب الناس وهو على راحلته خطبة عظيمة قرر فيها قواعد الإسلام وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها وهي الدماء والأموال والأعراض ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله وأوصاهم بالنساء خيرا وذكر الحق الذي لهن والذي عليهن وأن الواجب لهن الرزق والكسوة بالمعروف ولم يقدر ذلك بتقدير وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكرهه أزواجهن وأوصى الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به
ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه واستنطقهم بماذا يقولون وبماذا يشهدون فقالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فرفع أصبعه إلى السماء واستشهد الله عليهم ثلاث مرات وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم .

قال ابن حزم : وأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي أم عبد الله بن عباس بقدح لبن فشربه أمام الناس وهو على بعيره فلما أتم الخطبة أمر بلالا فأقام الصلاة وهذا من وهمه رحمه الله فإن قصة شربه اللبن إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة ووقف بها هكذا جاء في " الصحيحين " مصرحا به عن ميمونة : أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون . وفي لفظ وهو واقف بعرفة

[ أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة ]

وموضع خطبته لم يكن من الموقف فإنه خطب بعرنة وليست من الموقف وهو صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة وخطب بعرنة ووقف بعرفة وخطب خطبة واحدة ولم تكن خطبتين جلس بينهما فلما أتمها أمر بلالا فأذن ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم الجمعة فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضا ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب ولم يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجمع ومن قال إنه قال لهم " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " فقد غلط فيه غلطا بينا ووهم وهما قبيحا . وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة حيث كانوا في ديارهم مقيمين .

ولهذا كان أصح أقوال العلماء إن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ولا بأيام معلومة ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة ألبتة وإنما التأثير لما جعله الله سببا وهو السفر هذا مقتضى السنة ولا وجه لما ذهب إليه المحددون .
[ بحث يتعلق برجل محرم مات في عرفة ]

وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفن في ثوبيه ولا يمس بطيب وأن يغسل بماء وسدر ولا يغطى رأسه ولا وجهه وأخبر أن الله تعالى يبعثه يوم القيامة يلبي

وفي هذه القصة اثنا عشر حكما .

الأول وجوب غسل الميت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به .

[ لا ينجس المسلم بموته ]

الحكم الثاني : أنه لا ينجس بالموت لأنه لو نجس بالموت لم يزده غسله إلا نجاسة لأن نجاسة الموت للحيوان عينية فإن ساعد المنجسون على أنه يطهر بالغسل بطل أن يكون نجسا بالموت وإن قالوا : لا يطهر لم يزد الغسل أكفانه وثيابه وغاسله إلا نجاسة .

الحكم الثالث أن المشروع في حق الميت أن يغسل بماء وسدر لا يقتصر به على الماء وحده وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسدر في ثلاثة مواضع هذا أحدها . والثاني : في غسل ابنته بالماء والسدر . والثالث في غسل الحائض .

وفي وجوب السدر في حق الحائض قولان في مذهب أحمد .

[ التغير بالطاهرات لا يسلب الماء طهوريته ]

الحكم الرابع أن تغير الماء بالطاهرات لا يسلبه طهوريته كما هو مذهب الجمهور وهو أنص الروايتين عن أحمد ، وإن كان المتأخرون من أصحابه على خلافها . ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماء قراح بل أمر في غسل ابنته أن يجعلن في الغسلة الأخيرة شيئا من الكافور ولو سلبه الطهورية لنهى عنه وليس القصد مجرد اكتساب الماء من رائحته حتى يكون تغير مجاورة بل هو تطييب البدن وتصليبه وتقويته وهذا إنما يحصل بكافور مخالط لا مجاور .

[ إباحة الغسل للمحرم ]

الحكم الخامس إباحة الغسل للمحرم وقد تناظر في هذا عبد الله بن عباس ، والمسور بن مخرمة ، ففصل بينهما أبو أيوب الأنصاري ، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وهو محرم واتفقوا على أنه يغتسل من الجنابة ولكن كره مالك رحمه الله أن يغيب رأسه في الماء لأنه نوع ستر له والصحيح أنه لا بأس به فقد فعله عمر بن الخطاب وابن عباس .

[ إباحة الماء والسدر للمحرم ]

الحكم السادس أن المحرم غير ممنوع من الماء والسدر . وقد اختلف في ذلك فأباحه الشافعي ، وأحمد في أظهر الروايتين عنه ومنع منه مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد في رواية ابنه صالح عنه . قال فإن فعل أهدى ، وقال صاحبا أبي حنيفة إن فعل فعليه صدقة .

وللمانعين ثلاث علل .

إحداها : أنه يقتل الهوام من رأسه وهو ممنوع من التفلي .

الثانية أنه ترفه وإزالة شعث ينافي الإحرام .

الثالثة أنه يستلذ رائحته فأشبه الطيب ولا سيما الخطمي . والعلل الثلاث واهية جدا ، والصواب جوازه للنص ولم يحرم الله ورسوله على المحرم إزالة الشعث بالاغتسال ولا قتل القمل وليس السدر من الطيب في شيء .

[ الكفن مقدم على ما سواه ]

الحكم السابع أن الكفن مقدم على الميراث وعلى الدين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكفن في ثوبيه ولم يسأل عن وارثه ولا عن دين عليه . ولو اختلف الحال لسأل .

وكما أن كسوته في الحياة مقدمة على قضاء دينه فكذلك بعد الممات هذا كلام الجمهور وفيه خلاف شاذ لا يعول عليه .

الحكم الثامن جواز الاقتصار في الكفن على ثوبين وهما إزار ورداء وهذا قول الجمهور . وقال القاضي أبو يعلى : لا يجوز أقل من ثلاثة أثواب عند القدرة لأنه لو جاز الاقتصار على ثوبين لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام والصحيح خلاف قوله وما ذكره ينقض بالخشن مع الرفيع .

[ المحرم ممنوع من الطيب ]

الحكم التاسع أن المحرم ممنوع من الطيب لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يمس طيبا ، مع شهادته له أنه يبعث ملبيا ، وهذا هو الأصل في منع المحرم من الطيب .

وفي " الصحيحين " : من حديث ابن عمر لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه ورس أو زعفران

وأمر الذي أحرم في جبة بعد ما تضمخ بالخلوق أن تنزع عنه الجبة ويغسل عنه أثر الخلوق فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدار منع المحرم من الطيب . وأصرحها : هذه القصة فإن النهي في الحديثين الأخيرين إنما هو عن نوع خاص من الطيب لا سيما الخلوق فإن النهي عنه عام في الإحرام وغيره .

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يقرب طيبا ، أو يمس به تناول ذلك الرأس والبدن والثياب وأما شمه من غير مس فإنما حرمه من حرمه بالقياس وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحه ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل فإن شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب كما يحرم النظر إلى الأجنبية لأنه وسيلة إلى غيره وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة كما يباح النظر إلى الأمة المستامة والمخطوبة ومن شهد عليها ، أو يعاملها ، أو يطبها . وعلى هذا ، فإنما يمنع المحرم من قصد شم الطيب للترفه واللذة فأما إذا وصلت الرائحة إلى أنفه من غير قصد منه أو شمه قصدا لاستعلامه عند شرائه لم يمنع منه ولم يجب عليه سد أنفه فالأول بمنزلة نظر الفجأة والثاني : بمنزلة نظر المستام والخاطب . ومما يوضح هذا ، أن الذين أباحوا للمحرم استدامة الطيب قبل الإحرام منهم من صرح بإباحة تعمد شمه بعد الإحرام صرح بذلك أصحاب أبي حنيفة فقالوا : في " جوامع الفقه " لأبي يوسف : لا بأس بأن يشم طيبا تطيب به قبل إحرامه قال صاحب " المفيد " : إن الطيب يتصل به فيصير تبعا له ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه فيصير كالسحور في حق الصائم يدفع به أذى الجوع والعطش في الصوم بخلاف الثوب فإنه بائن عنه .

وقد اختلف الفقهاء هل هو ممنوع من استدامته كما هو ممنوع من ابتدائه أو يجوز له استدامته ؟ على قولين . فمذهب الجمهور جواز استدامته اتباعا لما ثبت بالسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطيب قبل إحرامه ، ثم يرى وبيص الطيب في مفارقه بعد إحرامه . وفي لفظ " وهو يلبي " وفي لفظ " بعد ثلاث " وكل هذا يدفع التأويل الباطل الذي تأوله من قال إن ذلك كان قبل الإحرام فلما اغتسل ذهب أثره . وفي لفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم يرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك ولله ما يصنع التقليد ونصرة الآراء بأصحابه .

وقال آخرون منهم إن ذلك كان مختصا به ويرد هذا أمران أحدهما : أن دعوى الاختصاص لا تسمع إلا بدليل .

والثاني : ما رواه أبو داود ، عن عائشة ، كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا ، سال على وجهها ، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا

[ المحرم ممنوع من تغطية رأسه ]

الحكم العاشر أن المحرم ممنوع من تغطية رأسه والمراتب فيه ثلاث ممنوع منه بالاتفاق وجائز بالاتفاق ومختلف فيه فالأول كل متصل ملامس يراد لستر الرأس كالعمامة والقبعة والطاقية والخوذة وغيرها .

والثاني : كالخيمة والبيت والشجرة ، ونحوها ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضربت له قبة بنمرة وهو محرم إلا أن مالكا منع المحرم أن يضع ثوبه على شجرة ليستظل به وخالفه الأكثرون ومنع أصحابه المحرم أن يمشي في ظل المحمل .

والثالث كالمحمل والمحارة والهودج فيه ثلاثة أقوال الجواز وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله والثاني : المنع . فإن فعل افتدى ، وهو مذهب مالك رحمه الله . والثالث المنع فإن فعل فلا فدية عليه والثلاثة روايات عن أحمد رحمه الله .

الحكم الحادي عشر منع المحرم من تغطية وجهه وقد اختلف في هذه المسألة فمذهب الشافعي وأحمد في رواية إباحته ومذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد في رواية المنع منه وبإباحته قال ستة من الصحابة عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وجابر رضي الله عنهم . وفيه قول ثالث شاذ : إن كان حيا ، فله تغطية وجهه وإن كان ميتا ، لم يجز تغطية وجهه قاله ابن حزم وهو اللائق بظاهريته .

واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة وبأصل الإباحة وبمفهوم قوله ولا تخمروا رأسه وأجابوا عن قوله ولا تخمروا وجهه بأن هذه اللفظة غير محفوظة فيه . قال شعبة : حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما كان إلا أنه قال لا تخمروا رأسه ولا وجهه قالوا : وهذا يدل على ضعفها . قالوا : وقد روي في هذا الحديث خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه

[ لا ينقطع الإحرام بالموت ]

الحكم الثاني عشر بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به وهذا مذهب عثمان ، وعلي ، وابن عباس ، وغيرهم رضي الله عنهم وبه قال أحمد ، والشافعي ، وإسحاق وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والأوزاعي : ينقطع الإحرام بالموت ويصنع به كما يصنع بالحلال لقوله صلى الله عليه وسلم إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث

قالوا : ولا دليل في حديث الذي وقصته راحلته لأنه خاص به كما قالوا في صلاته على النجاشي : إنها مختصة به .

قال الجمهور دعوى التخصيص على خلاف الأصل فلا تقبل وقوله في الحديث فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا إشارة إلى العلة . فلو كان مختصا به لم يشر إلى العلة ولا سيما إن قيل لا يصح التعليل بالعلة القاصرة . وقد قال نظير هذا في شهداء أحد ، فقال " زملوهم في ثيابهم بكلومهم ، فإنهم يبعثون يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك " وهذا غير مختص بهم وهو نظير قوله " كفنوه في ثوبيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " ولم تقولوا : إن هذا خاص بشهداء أحد فقط بل عديتم الحكم إلى سائر الشهداء مع إمكان ما ذكرتم من التخصيص فيه . وما الفرق ؟ وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم في الموضعين واحدة وأيضا : فإن هذا الحديث موافق لأصول الشرع والحكمة التي رتب عليها المعاد فإن العبد يبعث على ما مات عليه ومن مات على حالة بعث عليها فلو لم يرد هذا الحديث لكانت أصول الشرع شاهدة به . والله أعلم .

يتبع ..

اخت مسلمة
04-09-2009, 02:47 AM
فصل [ متابعة سياق حجته صلى الله عليه وسلم ]
عدنا إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم .

[ الإفاضة من عرفة ]

فلما غربت الشمس واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة أفاض من عرفة ، وأردف أسامة بن زيد خلفه وأفاض بالسكينة وضم إليه زمام ناقته حتى إن رأسها ليصيب طرف رحله وهو يقول أيها الناس عليكم السكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع أي ليس بالإسراع .

وأفاض من طريق المأزمين ، ودخل عرفة من طريق ضب ، وهكذا كانت عادته صلوات الله عليه وسلامه في الأعياد أن يخالف الطريق وقد تقدم حكمة ذلك عند الكلام على هديه في العيد .

ثم جعل يسير العنق وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء . فإذا وجد فجوة وهو المتسع نص سيره أي رفعه فوق ذلك وكلما أتى ربوة من تلك الربى ، أرخى للناقة زمامها قليلا حتى تصعد .

وكان يلبي في مسيره ذلك لم يقطع التلبية . فلما كان في أثناء الطريق نزل صلوات الله وسلامه عليه فبال وتوضأ وضوءا خفيفا ، فقال له أسامة : الصلاة يا رسول الله فقال الصلاة - أو المصلى - أمامك

ثم سار حتى أتى المزدلفة ، فتوضأ وضوء الصلاة ثم أمر بالأذان فأذن المؤذن ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ثم صلى عشاء الآخرة بإقامة بلا أذان ، ولم يصل بينهما شيئا وقد روي أنه صلاهما بأذانين وإقامتين وروي بإقامتين بلا أذان والصحيح أنه صلاهما بأذان وإقامتين ، كما فعل بعرفة . ثم نام حتى أصبح ولم يحي تلك الليلة ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء .


هل يجوز رمي الجمار قبل الفجر ]
وأذن في تلك الليلة لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر وكان ذلك عند غيبوبة القمر وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس حديث صحيح صححه الترمذي وغيره

وأما حديث عائشة رضي الله عنها : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني عندها رواه أبو داود ، فحديث منكر أنكره الإمام أحمد وغيره . ومما يدل على إنكاره أن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أمرها أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة وفي رواية توافيه بمكة وكان يومها ، فأحب أن توافيه وهذا من المحال قطعا .

قال الأثرم : قال لي أبو عبد الله : حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة لم يسنده غيره وهو خطأ .

وقال وكيع : عن أبيه مرسلا : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة أو نحو هذا ، وهذا أعجب أيضا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ما يصنع بمكة ؟ ينكر ذلك . قال فجئت إلى يحيى بن سعيد ، فسألته فقال عن هشام عن أبيه " أمرها أن توافي " وليس " توافيه " قال وبين ذين فرق . قال وقال لي يحيى : سل عبد الرحمن عنه فسألته ، فقال هكذا سفيان عن هشام عن أبيه . قال الخلال سها الأثرم في حكايته عن وكيع " توافيه " ، وإنما قال وكيع : توافي منى . وأصاب في قوله " توافي " كما قال أصحابه وأخطأ في قوله " منى " .

قال الخلال أنبأنا علي بن حرب ، حدثنا هارون بن عمران ، عن سليمان بن أبي داود ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال أخبرتني أم سلمة ، قالت قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة . قالت فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة ، فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى

قلت : سليمان بن أبي داود هذا : هو الدمشقي الخولاني ، ويقال ابن داود . قال أبو زرعة عن أحمد : رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء . وقال عثمان بن سعيد : ضعيف .

قلت : ومما يدل على بطلانه ما ثبت في " الصحيحين " ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس وكانت امرأة ثبطة قالت فأذن لها ، فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا ، فدفعنا بدفعه ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلي من مفروح به فهذا الحديث الصحيح يبين أن نساءه غير سودة ، إنما دفعن معه .

فإن قيل فما تصنعون بحديث عائشة الذي رواه الدارقطني وغيره عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر نساءه أن يخرجن من جمع ليلة جمع ، فيرمين الجمرة ثم تصبح في منزلها ، وكانت تصنع ذلك حتى ماتت

قيل يرده محمد بن حميد أحد رواته كذبه غير واحد . ويرده أيضا : حديثها الذي في " الصحيحين " وقولها : وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة .

وإن قيل فهب أنكم يمكنكم رد هذا الحديث فما تصنعون بالحديث الذي رواه مسلم في " صحيحه " ، عن أم حبيبة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل . قيل قد ثبت في " الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم تلك الليلة ضعفة أهله وكان ابن عباس فيمن قدم . وثبت أنه قدم س ودة ، وثبت أنه حبس نساءه عنده حتى دفعن بدفعه . وحديث أم حبيبة ، انفرد به مسلم . فإن كان محفوظا ، فهي إذا من الضعفة التي قدمها .

فإن قيل فما تصنعون بما رواه الإمام أحمد ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر قيل نقدم عليه حديثه الآخر الذي رواه أيضا الإمام أحمد ، والترمذي وصححه أن ا لنبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ولفظ أحمد فيه قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع ، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول " أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس لأنه أصح منه وفيه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمرة قبل طلوع الشمس وهو محفوظ بذكر القصة فيه . والحديث الآخر إنما فيه أنهم رموها مع الفجر ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث فإنه أمر الصبيان أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي أما من قدمه من النساء فرمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم وهذا الذي دلت عليه السنة جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر بمرض أو كبر يشق عليه مزاحمة الناس لأجله وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك .

وفي المسألة ثلاثة مذاهب أحدها : الجواز بعد نصف الليل مطلقا للقادر والعاجز كقول الشافعي وأحمد رحمهما الله والثاني : لا يجوز إلا بعد طلوع الفجر كقول أبي حنيفة رحمه الله والثالث لا يجوز لأهل القدرة إلا بعد طلوع الشمس كقول جماعة من أهل العلم . والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر لا نصف الليل وليس مع من حده بالنصف دليل والله أعلم .


فصل [ مذهب من قال بركنية الوقوف بمزدلفة والمبيت بها]
فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت لا قبله قطعا بأذان وإقامة يوم النحر وهو يوم العيد وهو يوم الحج الأكبر وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك .

ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا ، وذلك قبل طلوع الشمس .

وهنالك سأله عروة بن مضرس الطائي ، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني جئت من جبلي طيئ ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد أتم حجه وقضى تفثه قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وبهذا احتج من ذهب إلى أن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ، ركن كعرفة ، وهو مذهب اثنين من الصحابة ابن عباس ، وابن الزبير رضي الله عنهما ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعلقمة والحسن البصري ، وهو مذهب الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود الظاهري وأبي عبيد القاسم بن سلام ، واختاره المحمدان ابن جرير ، وابن خزيمة ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، ولهم ثلاث حجج هذه إحداها ، والثانية قوله تعالى : فاذكروا الله عند المشعر الحرام [ البقرة 198 ] .

والثالثة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج مخرج البيان لهذا الذكر المأمور به.

واحتج من لم يره ركنا بأمرين أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم مد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر وهذا يقتضي أن من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان صح حجه ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنا لم يصح حجه .

الثاني : أنه لو كان ركنا ، لاشترك فيه الرجال والنساء فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالليل علم أنه ليس بركن وفي الدليلين نظر فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قدمهن بعد المبيت بمزدلفة ، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة والواجب هو ذلك . وأما توقيت الوقوف بعرفة إلى الفجر فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة ركنا ، وتكون تلك الليلة وقتا لهما كوقت المجموعتين من الصلوات وتضييق الوقت لأحدهما لا يخرجه عن أن يكون وقتا لهما حال القدرة .

فصل [ قصة الفضل مع الخثعمية ]

وقف صلى الله عليه وسلم في موقفه وأعلم الناس أن مزدلفة كلها موقف ثم سار من مزدلفة مردفا للفضل بن عباس وهو يلبي في مسيره وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش .

وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات ولم يكسرها من الجبل تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده ولا التقطها بالليل فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول بأمثال هؤلاء فارموا ، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين

وفي طريقه تلك عرضت له امرأة من خثعم جميلة فسألته عن الحج عن أبيها وكان شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة فأمرها أن تحج عنه وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فوضع يده على وجهه وصرفه إلى الشق الآخر وكان الفضل وسيما ، فقيل صرف وجهه عن نظرها إليه . وقيل صرفه عن نظره إليها ، والصواب إنه فعله للأمرين فإنه في القصة جعل ينظر إليها وتنظر إليه .

[ الحج عن الأم ]

وسأله آخر هنالك عن أمه فقال إنها عجوز كبيرة فإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها ، فقال " أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال فحج عن أمك "

فلما أتى بطن محسر ، حرك ناقته وأسرع السير وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا ، ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر ، لأن الفيل حسر فيه أي أعيي وانقطع عن الذهاب إلى مكة ، وكذلك فعل في سلوكه الحجر ديار ثمود ، فإنه تقنع بثوبه وأسرع السير .

ومحسر : برزخ بين منى وبين مزدلفة ، لا من هذه ولا من هذه وعرنة : برزخ بين عرفة والمشعر الحرام ، فبين كل مشعرين برزخ ليس منهما ، فمنى : من الحرم ، وهي مشعر ومحسر : من الحرم ، وليس بمشعر ومزدلفة : حرم ومشعر وعرنة ليست مشعرا ، وهي من الحل . وعرفة : حل ومشعر .

وسلك صلى الله عليه وسلم الطريق الوسطى بين الطريقين وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى منى ، فأتى جمرة العقبة ، فوقف في أسفل الوادي ، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ، واستقبل الجمرة وهو على راحلته فرماها راكبا بعد طلوع الشمس واحدة بعد واحدة يكبر مع كل حصاة . وحينئذ قطع التلبية

وكان في مسيره ذلك يلبي حتى شرع في الرمي ورمى بلال وأسامة معه أحدهما آخذ بخطام ناقته والآخر يظلله بثوب من الحر . وفي هذا : دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه إن كانت قصة هذا الإظلال يوم النحر ثابتة وإن كانت بعده في أيام منى ، فلا حجة فيها ، وليس في الحديث بيان في أي زمن كانت . والله أعلم .


فصل [ خطبة منى ]
ثم رجع إلى منى ، فخطب الناس خطبة بليغة أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه وفضله عند الله وحرمة مكة على جميع البلاد وأمرهم بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه وقال لعلي لا أحج بعد عامي هذا .

وعلمهم مناسكهم وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم وأمر الناس أن لا يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض وأمر بالتبليغ عنه . وأخبر أنه رب مبلغ أوعى من سامع .

وقال في خطبته لا يجني جان إلا على نفسه .

وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة والأنصار عن يسارها ، والناس حولهم وفتح الله له أسماع الناس حتى سمعها أهل منى في منازلهم .

وقال في خطبته تلك اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم .

وودع حينئذ الناس فقالوا : حجة الوداع .

وهناك سئل عمن حلق قبل أن يرمي وعمن ذبح قبل أن يرمي فقال " لا حرج " قال عبد الله بن عمرو ما رأيته صلى الله عليه وسلم سئل يومئذ عن شيء إلا قال افعلوا ولا حرج .

قال ابن عباس إنه قيل له صلى الله عليه وسلم في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال لا حرج .

وقال أسامة بن شريك خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا ، وكان الناس يأتونه فمن قائل يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو قدمت شيئا أو أخرت شيئا فكان يقول لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وهلك .

وقوله سعيت قبل أن أطوف في هذا الحديث ليس بمحفوظ . والمحفوظ تقديم الرمي والنحر والحلق بعضها على بعض .


[ بحث في نحره صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة بيده ]
ثم انصرف إلى المنحر بمنى ، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده وكان ينحرها قائمة معقولة يدها اليسرى . وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما غبر من المائة ثم أمر عليا رضي الله عنه أن يتصدق بجلالها ولحومها وجلودها في المساكين وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئا منها ، وقال نحن نعطيه من عندنا وقال من شاء اقتطع

فإن قيل فكيف تصنعون بالحديث الذي في " الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين فبات بها ، فلما أصبح ركب راحلته فجعل يهلل ويسبح فلما علا على البيداء ، لبى بهما جميعا ، فلما دخل مكة ، أمرهم أن يحلوا ، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن قياما ، وضحى بالمدينة كبشين أملحين فالجواب أنه لا تعارض بين الحديثين .

قال أبو محمد ابن حزم : مخرج حديث أنس ، على أحد وجوه ثلاثة .

أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم لم ينحر بيده أكثر من سبع بدن كما قال أنس ، وأنه أمر من ينحر ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين ثم زال عن ذلك المكان وأمر عليا رضي الله عنه فنحر ما بقي .

الثاني : أن يكون أنس لم يشاهد إلا نحره صلى الله عليه وسلم سبعا فقط بيده وشاهد جابر تمام نحره صلى الله عليه وسلم للباقي ، فأخبر كل منهما بما رأى وشاهد .

الثالث أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده منفردا سبع بدن كما قال أنس ، ثم أخذ هو وعلي الحربة معا ، فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين كما قال غرفة بن الحارث الكندي أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ قد أخذ بأعلى الحربة وأمر عليا فأخذ بأسفلها ، ونحرا بها البدن ثم انفرد علي بنحر الباقي من المائة كما قال جابر . والله أعلم .

فإن قيل فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه الإمام أحمد ، وأبو داود عن علي قال لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه فنحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها

قلنا : هذا غلط انقلب على الراوي ، فإن الذي نحر ثلاثين هو علي ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر سبعا بيده لم يشاهده علي ، ولا جابر ، ثم نحر ثلاثا وستين أخرى ، فبقي من المائة ثلاثون فنحرها علي ، فانقلب على الراوي عدد ما نحره علي بما نحره النبي صلى الله عليه وسلم .

فإن قيل فما تصنعون بحديث عبد الله بن قرط ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ، ثم يوم القر وهو اليوم الثاني . قال وقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ ؟ فلما وجبت جنوبها قال : فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها ، فقلت ما قال ؟ قال من شاء اقتطع

قيل نقبله ونصدقه فإن المائة لم تقرب إليه جملة وإنما كانت تقرب إليه أرسالا ، فقرب منهن إليه خمس بدنات رسلا ، وكان ذلك الرسل يبادرن ويتقربن إليه ليبدأ بكل واحدة منهن .

فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذي في " الصحيحين " ، من حديث أبي بكرة في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمنى ، وقال في آخره ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما ، وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا لفظه لمسلم .

ففي هذا ، أن ذبح الكبشين كان بمكة ، وفي حديث أنس ، أنه كان بالمدينة .

قيل في هذا طريقتان للناس .

إحداهما : أن القول قول أنس ، وأنه ضحى بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين وأنه صلى العيد ثم انكفأ إلى كبشين ففصل أنس ، وميز بين نحره بمكة للبدن وبين نحره بالمدينة للكبشين وبين أنهما قصتان ويدل على هذا أن جميع من ذكر نحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ، إنما ذكروا أنه نحر الإبل وهو الهدي الذي ساقه وهو أفضل من نحر الغنم هناك بلا سوق وجابر قد قال في صفة حجة الوداع إنه رجع من الرمي فنحر البدن وإنما اشتبه على بعض الرواة أن قصة الكبشين كانت يوم عيد فظن أنه كان بمنى فوهم .

الطريقة الثانية طريقة ابن حزم ، ومن سلك مسلكه أنهما عملان متغايران وحديثان صحيحان فذكر أبو بكرة تضحيته بمكة ، وأنس تضحيته بالمدينة . قال وذبح يوم النحر الغنم ونحر البقر والإبل كما قالت عائشة : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن أزواجه بالبقر وهو في " الصحيحين " .

وفي " صحيح مسلم " : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر

وفي " السنن " : أنه نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة ومذهبه أن الحاج شرع له التضحية مع الهدي والصحيح إن شاء الله الطريقة الأولى ، وهدي الحاج له بمنزلة الأضحية للمقيم ولم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية بل كان هديهم هو أضاحيهم فهو هدي بمنى ، وأضحية بغيرها .

وأما قول عائشة : ضحى عن نسائه بالبقر فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية وأنهن كن متمتعات وعليهن الهدي فالبقر الذي نحره عنهن هو الهدي الذي يلزمهن .

ولكن في قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع إشكال وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة .


بيان بطلان قول ابن حزم بأنه لا هدي على القارن ]

وأجاب أبو محمد ابن حزم عنه بجواب على أصله وهو أن عائشة لم تكن معهن في ذلك فإنها كانت قارنة وهن متمتعات وعنده لا هدي على القارن وأيد قوله بالحديث الذي رواه مسلم من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجة فكنت فيمن أهل بعمرة فخرجنا حتى قدمنا مكة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي ، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال دعي عمرتك وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج . قالت ففعلت . فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا ، أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأردفني ، وخرج إلى التنعيم ، فأهللت بعمرة فقضى الله حجنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم

وهذا مسلك فاسد تفرد به ابن حزم عن الناس . والذي عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم أن القارن يلزمه الهدي كما يلزم المتمتع بل هو متمتع حقيقة في لسان الصحابة كما تقدم وأما هذا الحديث فالصحيح أن هذا الكلام الأخير من قول هشام بن عروة ، جاء ذلك في " صحيح مسلم " مصرحا به فقال حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها . .. فذكرت الحديث . وفي آخره قال عروة في ذلك إنه قضى الله حجها وعمرتها . قال هشام : ولم يكن في ذلك هدي ولا صيام ولا صدقة .

قال أبو محمد : إن كان وكيع جعل هذا الكلام لهشام ، فابن نمير ، وعبدة أدخلاه في كلام عائشة ، وكل منهما ثقة فوكيع نسبه إلى هشام ، لأنه سمع هشاما يقوله وليس قول هشام إياه بدافع أن تكون عائشة قالته فقد يروي المرء حديثا يسنده ثم يفتي به دون أن يسنده فليس شيء من هذا بمتدافع وإنما يتعلل بمثل هذا من لا ينصف ومن اتبع هواه والصحيح من ذلك أن كل ثقة فمصدق فيما نقل . فإذا أضاف عبدة وابن نمير القول إلى عائشة ، صدقا لعدالتهما . وإذا أضافه وكيع إلى هشام ، صدق أيضا لعدالته وكل صحيح وتكون عائشة قالته وهشام قاله .

قلت : هذه الطريقة هي اللائقة بظاهريته وظاهرية أمثاله ممن لا فقه له في علل الأحاديث كفقه الأئمة النقاد أطباء علله وأهل العناية بها ، وهؤلاء لا يلتفتون إلى قول من خالفهم ممن ليس له ذوقهم ومعرفتهم بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصيارف النقاد الذين يميزون بين الجيد والرديء ولا يلتفتون إلى خطإ من لم يعرف ذلك .

ومن المعلوم أن عبدة وابن نمير لم يقولا في هذا الكلام قالت عائشة ، وإنما أدرجاه في الحديث إدراجا ، يحتمل أن يكون من كلامهما ، أو من كلام عروة أو من هشام ، فجاء وكيع ، ففصل وميز ومن فصل وميز فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره نعم لو قال ابن نمير وعبدة : قالت عائشة ، وقال وكيع : قال هشام ، لساغ ما قال أبو محمد وكان موضع نظر وترجيح .

وأما كونهن تسعا وهي بقرة واحدة فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ أحدها أنها بقرة واحدة بينهن والثاني : أنه ضحى عنهن يومئذ بالبقرة والثالث دخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا ؟ فقيل ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه

وقد اختلف الناس في عدد من تجزئ عنهم البدنة والبقرة فقيل سبعة وهو قول الشافعي ، وأحمد في المشهور عنه وقيل عشرة وهو قول إسحاق . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم بينهم المغانم فعدل الجزور بعشر شياه

وثبت هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه وهن تسع ببقرة

وقد روى سفيان عن أبي الزبير عن جابر أنهم نحروا البدنة في حجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرة وهو على شرط مسلم ولم يخرجه وإنما أخرج قوله خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة .

وفي " المسند " : من حديث ابن عباس : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى ، فاشتركنا في البقرة سبعة وفي الجزور عشرة ورواه النسائي والترمذي ، وقال حسن غريب .

وفي " الصحيحين " عنه نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة

وقال حذيفة : شرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته بين المسلمين في البقرة عن سبعة ذكره الإمام أحمد رحمه الله .

وهذه الأحاديث تخرج على أحد وجوه ثلاثة إما أن يقال أحاديث السبعة أكثر وأصح ، وإما أن يقال عدل البعير بعشرة من الغنم تقويم في الغنائم لأجل تعديل القسمة وأما كونه عن سبعة في الهدايا ، فهو تقدير شرعي ، وإما أن يقال إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة . والأمكنة والإبل ففي بعضها كان البعير يعدل عشر شياه فجعله عن عشرة وفي بعضها يعدل سبعة فجعله عن سبعة والله أعلم .

وقد قال أبو محمد : إنه ذبح عن نسائه بقرة للهدي وضحى عنهن ببقرة وضحى عن نفسه بكبشين ونحر عن نفسه ثلاثا وستين هديا ، وقد عرفت ما في ذلك من الوهم ولم تكن بقرة الضحية غير بقرة الهدي بل هي هي وهدي الحاج بمنزلة ضحية الآفاقي .

فصل [ مكة كلها منحر ومنى مناخ لمن سبق إليه ]
ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنحره بمنى ، وأعلمهم " أن منى كلها منحر وأن فجاج مكة طريق ومنحر " وفي هذا دليل على أن النحر لا يختص بمنى ، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه كما أنه لما وقف بعرفة قال وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ووقف بمزدلفة ، وقال وقفت ها هنا ومزدلفة كلها موقف وسئل صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بمنى بناء يظله من الحر فقال لا ، منى مناخ لمن سبق إليه وفي هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها ، وأن من سبق إلى مكان منها ، فهو أحق به حتى يرتحل عنه ولا يملكه بذلك .


فصل [ الحلق والتقصير ]
فلما أكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحره استدعى بالحلاق فحلق رأسه فقال للحلاق - وهو معمر بن عبد الله وهو قائم على رأسه بالموسى ونظر في وجهه - وقال يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنه وفي يدك الموسى فقال معمر أما والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذلك لمن نعمة الله علي ومنه . قال أجل إذا أقر لك ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله . وقال البخاري في " صحيحه " وزعموا أن الذي حلق للنبي صلى الله عليه وسلم معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف انتهى .

فقال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ، فلما فرغ منه قسم شعره بين من يليه ثم أشار إلى الحلاق فحلق جانبه الأيسر ثم قال ها هنا أبو طلحة ؟ فدفعه إليه هكذا وقع في " صحيح مسلم " .

وفي " صحيح البخاري " : عن ابن سيرين ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره وهذا لا يناقض رواية مسلم ، لجواز أن يصيب أبا طلحة من الشق الأيمن مثل ما أصاب غيره ويختص بالشق الأيسر لكن قد روى مسلم في " صحيحه " أيضا من حديث أنس ، قال لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري ، فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر فقال احلق . فحلقه فأعطاه أبا طلحة ، فقال اقسمه بين الناس

. ففي هذه الرواية كما ترى أن نصيب أبي طلحة كان الشق الأيمن وفي الأولى : أنه كان الأيسر . قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي ، رواه مسلم من رواية حفص بن غياث ، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى أبي طلحة شعر شقه الأيسر ورواه من رواية سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حسان ، أنه دفع إلى أبي طلحة شعر شقه الأيمن . قال ورواية ابن عون ، عن ابن سيرين أراها تقوي رواية سفيان والله أعلم .

قلت : يريد برواية ابن عون ، ما ذكرناه عن ابن سيرين ، من طريق البخاري ، وجعل الذي سبق إليه أبو طلحة ، هو الشق الذي اختص به . والله أعلم .

والذي يقوى أن نصيب أبي طلحة الذي اختص به كان الشق الأيسر وأنه صلى الله عليه وسلم عم ثم خص وهذه كانت سنته في عطائه وعلى هذا أكثر الروايات فإن في بعضها أنه قال للحلاق " خذ " وأشار إلى جانبه الأيمن ، فقسم شعره بين من يليه ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه فأعطاه أم سليم ولا يعارض هذا دفعه إلى أبي طلحة ، فإنها امرأته . وفي لفظ آخر فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس ثم قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك ثم قال ها هنا أبو طلحة ؟ فدفعه إليه .

وفي لفظ ثالث دفع إلى أبي طلحة شعر شق رأسه الأيسر ثم قلم أظفاره وقسمها بين الناس .

وذكر الإمام أحمد رحمه الله من حديث محمد بن عبد الله بن زيد ، أن أباه حدثه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحي فلم يصبه شيء ولا صاحبه فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه فأعطاه فقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه قال فإنه عندنا مخضوب بالحناء والكتم يعني شعره ودعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا ، وللمقصرين مرة وحلق كثير من الصحابة بل أكثرهم وقصر بعضهم وهذا مع قوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين [ الفتح 27 ] ومع قول عائشة رضي الله عنها ، طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولإحلاله قبل أن يحل دليل على أن الحلق نسك وليس بإطلاق من محظور .

فصل [ ترجيح المصنف بأنه صلى الله عليه وسلم لم يطف غير طواف الإفاضة بعد إفاضته إلى مكة ]

ثم أفاض صلى الله عليه وسلم إلى مكة قبل الظهر راكبا ، فطاف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة وهو طواف الصدر ولم يطف غيره ولم يسع معه هذا هو الصواب وقد خالف في ذلك ثلاث طوائف طائفة زعمت أنه طاف طوافين طوافا للقدوم سوى طواف الإفاضة ثم طاف للإفاضة وطائفة زعمت أنه سعى مع هذا الطواف لكونه كان قارنا ، وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل فنذكر الصواب في ذلك ونبين منشأ الغلط وبالله التوفيق .

قال الأثرم قلت لأبي عبد الله فإذا رجع أعني المتمتع كم يطوف ويسعى ؟ قال يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافا آخر للزيارة عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه .

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في " المغني " : وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد رحمه الله واحتج بما روت عائشة رضي الله عنها ، قالت فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ، فحمل أحمد رحمه الله قول عائشة ، على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ، قال ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع فلم يكن طواف الزيارة مسقطا له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بالصلاة المفروضة .

وقال الخرقي في " مختصره " وإن كان متمتعا ، فيطوف بالبيت سبعا وبالصفا والمروة سبعا كما فعل للعمرة ثم يعود فيطوف بالبيت طوافا ينوي به الزيارة وهو قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ الحج : 29 ]

فمن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا كالقاضي وأصحابه عندهم هكذا فعل والشيخ أبو محمد عنده أنه كان متمتعا التمتع الخاص ولكن لم يفعل هذا ، قال ولا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي ، بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم به أحدا ، قال وحديث عائشة دليل على هذا ، فإنها قالت طافوا طوافا واحدا بعد أن رجعوا من منى لحجهم وهذا هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافا آخر . ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم ، لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به وذكرت ما يستغنى عنه وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافا واحدا ، فمن أين يستدل به على طوافين ؟

وأيضا ، فإنها لما حاضت فقرنت الحج إلى العمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن طافت للقدوم لم تطف للقدوم ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف القدوم مع طواف العمرة لأنه أول قدومه إلى البيت ، فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به . انتهى كلامه .

قلت : لم يرفع كلام أبي محمد الإشكال وإن كان الذي أنكره هو الحق كما أنكره والصواب في إنكاره فإن أحدا لم يقل إن الصحابة لما رجعوا من عرفة ، طافوا للقدوم وسعوا ، ثم طافوا للإفاضة بعده ولا النبي صلى الله عليه وسلم هذا لم يقع قطعا ، ولكن كان منشأ الإشكال أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن فأخبرت أن القارنين طافوا بعد أن رجعوا من منى طوافا واحدا ، وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وهذا غير طواف الزيارة قطعا ، فإنه يشترك فيه القارن والمتمتع فلا فرق بينهما فيه ولكن الشيخ أبا محمد ، لما رأى قولها في المتمتعين إنهم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ، قال ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين والذي قاله حق ، ولكن لم يرفع الإشكال فقالت طائفة هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام ، أدرجت في الحديث وهذا لا يتبين ولو كان فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال .

فالصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة ، وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة ، لا الطواف بالبيت ، وزال الإشكال جملة فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما ، لم يضيفوا إليه طوافا آخر يوم النحر وهذا هو الحق ، وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافا آخر بعد الرجوع من منى للحج وذلك الأول كان للعمرة وهذا قول الجمهور وتنزيل الحديث على هذا موافق لحديثها الآخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك " ، وكانت قارنة يوافق قول الجمهور الصفا والمروة لحجك وعمرتك وكانت قارنة يوافق قول الجمهور .

ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في " صحيحه " لم يطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا ، طوافه الأول . هذا يوافق قول من يقول يكفي المتمتع سعي واحد كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره وعلى هذا ، فيقال عائشة أثبتت وجابر نفى ، والمثبت مقدم على النافي . أو يقال مراد جابر من قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهدي كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي رضي الله عنهم وذوي اليسار فإنهم إنما سعوا سعيا واحدا . وليس المراد به عموم الصحابة أو يعلل حديث عائشة ، بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها والله أعلم .

[ رد القول بالطواف والسعي للقدوم بعد إحرام المتمتع بالحج من مكة ]

وأما من قال المتمتع يطوف ويسعى للقدوم بعد إحرامه بالحج قبل خروجه إلى منى ، وهو قول أصحاب الشافعي ، ولا أدري أهو منصوص عنه أم لا ؟ قال أبو محمد فهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة ألبتة ولا أمرهم به ولا نقله أحد ، قال ابن عباس لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا ، ولا أن يسعوا بين الصفا والمروة بعد إحرامهم بالحج حتى يرجعوا من منى . وعلى قول ابن عباس قول الجمهور ومالك ، وأحمد ، وأبي حنيفة وإسحاق وغيرهم .

والذين استحبوه قالوا : لما أحرم بالحج صار كالقادم فيطوف ويسعى للقدوم . قالوا : ولأن الطواف الأول وقع عن العمرة فيبقى طواف القدوم ، ولم يأت به فاستحب له فعله عقيب الإحرام بالحج وهاتان الحجتان واهيتان فإنه إنما كان قارنا لما طاف للعمرة فكان طوافه للعمرة مغنيا عن طواف القدوم ، كمن دخل المسجد فرأى الصلاة قائمة فدخل فيها ، فقامت مقام تحية المسجد وأغنته عنها .

وأيضا فإن الصحابة لما أحرموا بالحج مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا عقيبه وكان أكثرهم متمتعا . وروى محمد بن الحسن ، عن أبي حنيفة ، أنه إن أحرم يوم التروية قبل الزوال طاف وسعى للقدوم وإن أحرم بعد الزوال لم يطف وفرق بين الوقتين بأنه بعد الزوال يخرج من فوره إلى منى ، فلا يشتغل عن الخروج بغيره وقبل الزوال لا يخرج فيطوف . وقول ابن عباس والجمهور هو الصحيح الموافق لعمل الصحابة وبالله التوفيق .

افتراضي

فصل [ الرد على من قال إن القارن يحتاج إلى سعيين ]
والطائفة الثانية قالت إنه صلى الله عليه وسلم سعى مع هذا الطواف وقالوا : هذا حجة في أن القارن يحتاج إلى سعيين كما يحتاج إلى طوافين وهذا غلط عليه كما تقدم والصواب أنه لم يسع إلا سعيه الأول كما قالته عائشة ، وجابر ، ولم يصح عنه في السعيين حرف واحد بل كلها باطلة كما تقدم فعليك بمراجعته .

والطائفة الثالثة الذين قالوا : أخر طواف الزيارة إلى الليل وهم طاووس ، ومجاهد ، وعروة ، ففي " سنن أبي داود " ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي الزبير المكي ، عن عائشة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طوافه يوم النحر إلى الليل

وفي لفظ طواف الزيارة قال الترمذي : حديث حسن . وهذا الحديث غلط بين خلاف المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك فيه أهل العلم بحجته صلى الله عليه وسلم فنحن نذكر كلام الناس فيه قال الترمذي في كتاب " العلل " له سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث وقلت له أسمع أبو الزبير من عائشة وابن عباس ؟ قال أما من ابن عباس ، فنعم وفي سماعه من عائشة نظر .

وقال أبو الحسن القطان : عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهارا ، وإنما اختلفوا : هل صلى الظهر بمكة أو رجع إلى منى ، فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه ؟ فابن عمر يقول إنه رجع إلى منى ، فصلى الظهر بها ، وجابر يقول : إنه صلى الظهر بمكة ، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخر الطواف إلى الليل وهذا شيء لم يرو إلا من هذا الطريق وأبو الزبير مدلس لم يذكر ها هنا سماعا من عائشة وقد عهد أنه يروي عنها بواسطة ولا عن ابن عباس أيضا ، فقد عهد كذلك أنه يروي عنه بواسطة وإن كان قد سمع منه فيجب التوقف فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يذكر فيه سماعه منهما ، لما عرف به من التدليس لو عرف سماعه منها لغير هذا ، فأما ولم يصح لنا أنه سمع من عائشة فالأمر بين في وجوب التوقف فيه وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلس إذا كان عمن قد علم لقاؤه له وسماعه منه ها هنا .

يقول قوم يقبل ويقول آخرون يرد ما يعنعنه عنهم حتى يتبين الاتصال في حديث حديث وأما ما يعنعنه المدلس عمن لم يعلم لقاؤه له ولا سماعه منه فلا أعلم الخلاف فيه بأنه لا يقبل .

ولو كنا نقول بقول مسلم بأن معنعن المتعاصرين محمول على الاتصال ولو لم يعلم التقاؤهما ، فإنما ذلك في غير المدلسين .

وأيضا فلما قدمناه من صحة طواف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهارا . والخلاف في رد حديث المدلسين حتى يعلم اتصاله أو قبوله حتى يعلم انقطاعه إنما هو إذا لم يعارضه ما لا شك في صحته وهذا قد عارضه ما لا شك في صحته . انتهى كلامه .

ويدل على غلط أبي الزبير على عائشة أن أبا سلمة بن عبد الرحمن روى عن عائشة أنها قالت حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر

وروى محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا وهذا غلط أيضا .

قال البيهقي : وأصح هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر وحديث جابر وحديث أبي سلمة عن عائشة يعني : أنه طاف نهارا . قلت إنما نشأ الغلط من تسمية الطواف فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الوداع إلى الليل كما ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة . قالت خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم . .. فذكرت الحديث إلى أن قالت فنزلنا المحصب ، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال اخرج بأختك من الحرم ، ثم افرغا من طوافكما ، ثم ائتياني ها هنا بالمحصب . قالت فقضى الله العمرة وفرغنا من طوافنا في جوف الليل فأتيناه بالمحصب فقال " فرغتما " ؟ قلنا : نعم . فأذن في الناس بالرحيل فمر بالبيت فطاف به ثم ارتحل متوجها إلى المدينة . فهذا هو الطواف الذي أخره إلى الليل بلا ريب فغلط فيه أبو الزبير أو من حدثه به وقال طواف الزيارة والله الموفق .

ولم يرمل صلى الله عليه وسلم في هذا الطواف ولا في طواف الوداع وإنما رمل في طواف القدوم

فصل [ تعليل شربه صلى الله عليه وسلم قائما ]

ثم أتى زمزم بعد أن قضى طوافه وهم يسقون فقال " لولا أن يغلبكم الناس لنزلت فسقيت معكم " ، ثم ناولوه الدلو فشرب وهو قائم فقيل هذا نسخ لنهيه عن الشرب قائما ، وقيل بل بيان منه أن النهي على وجه الاختيار وترك الأولى ، وقيل بل للحاجة وهذا أظهر .

[ طاف صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة على راحلته ]

وهل كان في طوافه هذا راكبا أو ماشيا ؟ فروى مسلم في " صحيحه " ، عن جابر قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه

وفي " الصحيحين " ، عن ابن عباس قال طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن وهذا الطواف ليس بطواف الوداع فإنه كان ليلا ، وليس بطواف القدوم لوجهين .

أحدهما : أنه قد صح عنه الرمل في طواف القدوم ، ولم يقل أحد قط : رملت به راحلته وإنما قالوا : رمل نفسه .

والثاني : قول الشريد بن سويد : أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا وهذا ظاهره أنه من حين أفاض معه ما مست قدماه الأرض إلى أن رجع ولا ينتقض هذا بركعتي الطواف فإن شأنهما معلوم . قلت : والظاهر أن الشريد بن سويد ، إنما أراد الإفاضة معه من عرفة ، ولهذا قال حتى أتى جمعا وهي مزدلفة ، ولم يرد الإفاضة إلى البيت يوم النحر ولا ينتقض هذا بنزوله عند الشعب حين بال ثم ركب لأنه ليس بنزول مستقر وإنما مست قدماه الأرض مسا عارضا . والله أعلم .

فصل [ أين صلى صلى الله عليه وسلم الظهر حين رجوعه إلى منى ]

ثم رجع إلى منى ، واختلف أين صلى الظهر يومئذ ففي " الصحيحين " : عن ابن عمر ، أنه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى .

وفي " صحيح مسلم " : عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة وكذلك قالت عائشة . واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر فقال أبو محمد ابن حزم

قول عائشة وجابر أولى وتبعه على هذا جماعة ورجحوا هذا القول بوجوه .

أحدها : أنه رواية اثنين وهما أولى من الواحد .

الثاني : أن عائشة أخص الناس به صلى الله عليه وسلم ولها من القرب والاختصاص به والمزية ما ليس لغيرها .

الثالث أن سياق جابر لحجة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها ، أتم سياق وقد حفظ القصة وضبطها ، حتى ضبط جزئياتها . حتى ضبط منها أمرا لا يتعلق بالمناسك وهو نزول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع في الطريق فقضى حاجته عند الشعب ثم توضأ وضوءا خفيفا ، فمن ضبط هذا القدر فهو بضبط مكان صلاته يوم النحر أولى .

الرابع أن حجة الوداع كانت في آذار وهو تساوي الليل والنهار وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى ، وخطب بها الناس ونحر بدنا عظيمة وقسمها ، وطبخ له من لحمها ، وأكل منه ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض فطاف وشرب من ماء زمزم ، ومن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى ، بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار .

الخامس أن هذين الحديثين جاريان مجرى الناقل والمبقي ، فقد كانت عادته صلى الله عليه وسلم في حجته الصلاة في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين فجرى ابن عمر على العادة وضبط جابر وعائشة رضي الله عنهما الأمر الذي هو خارج عن عادته فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ . ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر لوجوه .

أحدها : أنه لو صلى الظهر بمكة ، لم تصل الصحابة بمنى وحدانا وزرافات بل لم يكن لهم بد من الصلاة خلف إمام يكون نائبا عنه ولم ينقل هذا أحد قط ، ولا يقول أحد : إنه استناب من يصلي بهم ولولا علمه أنه يرجع إليهم فيصلي بهم . لقال إن حضرت الصلاة ولست عندكم فليصل بكم فلان وحيث لم يقع هذا ولا هذا ، ولا صلى الصحابة هناك وحدانا قطعا ، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلوا عزين علم أنهم صلوا معه على عادتهم .

الثاني : أنه لو صلى بمكة لكان خلفه بعض أهل البلد وهم مقيمون وكان يأمرهم أن يتموا صلاتهم ولم ينقل أنهم قاموا فأتموا بعد سلامه صلاتهم وحيث لم ينقل هذا ولا هذا ، بل هو معلوم الانتفاء قطعا ، علم أنه لم يصل حينئذ بمكة . وما ينقله بعض من لا علم عنده أنه قال يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر فإنما قاله عام الفتح لا في حجته .

الثالث أنه من المعلوم أنه لما طاف ركع ركعتي الطواف ومعلوم أن كثيرا من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه فلعله لما ركع ركعتي الطواف والناس خلفه يقتدون به ظن الظان أنها صلاة الظهر ولا سيما إذا كان ذلك في وقت الظهر وهذا الوهم لا يمكن رفع احتماله بخلاف صلاته بمنى ، فإنها لا تحتمل غير الفرض .

الرابع أنه لا يحفظ عنه في حجه أنه صلى الفرض بجوف مكة ، بل إنما كان يصلي بمنزله ب الأبطح بالمسلمين مدة مقامه كان يصلي بهم أين نزلوا لا يصلي في مكان آخر غير المنزل العام .

الخامس أن حديث ابن عمر متفق عليه وحديث جابر من أفراد مسلم . فحديث ابن عمر أصح منه وكذلك هو في إسناده فإن رواته أحفظ وأشهر وأتقن فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله بن عمر العمري ، وأين يقع حفظ جعفر من حفظ نافع ؟

السادس أن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه فروي عنها على ثلاثة أوجه أحدها : أنه طاف نهارا ، الثاني : أنه أخر الطواف إلى الليل الثالث أنه أفاض من آخر يومه فلم يضبط فيه وقت الإفاضة ولا مكان الصلاة بخلاف حديث ابن عمر .

السابع أن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع فإن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به ولم يصرح بالسماع بل عنعنه فكيف يقدم على قول عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر .

الثامن أن حديث عائشة ليس بالبين أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ، فإن لفظه هكذا : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى ، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات . فأين دلالة هذا الحديث الصريحة على أنه صلى الظهر يومئذ بمكة وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثم صلى الظهر بمنى ، يعني راجعا . وأين حديث اتفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به . والله أعلم .

فصل [ ذكر طواف أم سلمة ]
قال ابن حزم وطافت أم سلمة في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس وهي شاكية استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم فأذن لها ، واحتج عليه بما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة قالت شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي ، فقال " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " قالت فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ والطور وكتاب مسطور ولا يتبين أن هذا الطواف هو طواف الإفاضة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي ذلك الطواف بالطور ولا جهر بالقراءة بالنهار بحيث تسمعه أم سلمة من وراء الناس وقد بين أبو محمد غلط من قال إنه أخره إلى الليل فأصاب في ذلك .

وقد صح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت فكيف يلتئم هذا مع طوافها يوم النحر وراء الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب البيت يصلي ويقرأ في صلاته والطور وكتاب مسطور ؟ هذا من المحال فإن هذه الصلاة والقراءة كانت في صلاة الفجر أو المغرب أو العشاء وأما أنها كانت يوم النحر ولم يكن ذلك الوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قطعا ، فهذا من وهمه رحمه الله .

[طواف عائشة ]

فطافت عائشة في ذلك اليوم طوافا واحدا ، وسعت سعيا واحدا أجزأها عن حجها وعمرتها ، وطافت صفية ذلك اليوم ثم حاضت فأجزأها طوافها ذلك عن طواف الوداع ولم تودع فاستقرت سنته صلى الله عليه وسلم في المرأة الطاهرة إذا حاضت قبل الطواف - أو قبل الوقوف - أن تقرن وتكتفي بطواف واحد وسعي واحد وإن حاضت بعد طواف الإفاضة اجتزأت به عن طواف الوداع


فصل [ رمي الجمار ]
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى من يومه ذلك فبات بها ، فلما أصبح انتظر زوال الشمس فلما زالت مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ، فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة يقول مع كل حصاة " الله أكبر " ، ثم تقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل فقام مستقبل القبلة ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلا بقدر سورة البقرة ثم أتى إلى الجمرة الوسطى ، فرماها كذلك ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو قريبا من وقوفه الأول ثم أتى الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة ، فاستبطن الوادي واستعرض الجمرة فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه فرماها بسبع حصيات كذلك .

[ التعليل لترك الدعاء بعد العقبة ]

ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال ولا جعلها عن يمينه واستقبل البيت وقت الرمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء . فلما أكمل الرمي رجع من فوره ولم يقف عندها ، فقيل لضيق المكان بالجبل وقيل وهو أصح : إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها ، فلما رمى جمرة العقبة ، فرغ الرمي والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها ، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة إذ كان يدعو في صلبها ، فأما بعد الفراغ منها ، فلم يثبت عنه أنه كان يعتاد الدعاء ومن روى عنه ذلك فقد غلط عليه وإن روي في غير الصحيح أنه كان أحيانا يدعو بدعاء عارض بعد السلام وفي صحته نظر .

وبالجملة فلا ريب أن عامة أدعيته التي كان يدعو بها ، وعلمها الصديق إنما هي في صلب الصلاة وأما حديث معاذ بن جبل : لا تنس أن تقول دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك ، وحسن عبادتك فدبر الصلاة يراد به آخرها قبل السلام منها ، كدبر الحيوان ويراد به ما بعد السلام كقوله تسبحون الله وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة الحديث . والله أعلم .

فصل [ ميل المصنف بأنه صلى الله عليه وسلم رمى قبل الصلاة ]

ولم يزل في نفسي ، هل كان يرمي قبل صلاة الظهر أو بعدها ؟ والذي يغلب على الظن أنه كانه يرمي قبل الصلاة ثم يرجع فيصلي ، لأن جابرا وغيره قالوا : كان يرمي إذا زالت الشمس فعقبوا زوال الشمس برميه . وأيضا ، فإن وقت الزوال للرمي أيام منى ، كطلوع الشمس لرمي يوم النحر والنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر لما دخل وقت الرمي لم يقدم عليه شيئا من عبادات ذلك اليوم وأيضا فإن الترمذي وابن ماجه ، رويا في " سننهما " عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار إذا زالت الشمس زاد ابن ماجه : قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر . وقال الترمذي : حديث حسن ولكن في إسناد حديث الترمذي الحجاج بن أرطاة ، وفي إسناد حديث ابن ماجه إبراهيم بن عثمان أبو شيبة ولا يحتج به ولكن ليس في الباب غير هذا .

وذكر الإمام أحمد أنه كان يرمي يوم النحر راكبا ، وأيام منى ماشيا في ذهابه ورجوعه .

فصل [ وقفات الدعاء في الحج ]

فقد تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء .

الموقف الأول على الصفا ، والثاني : على المروة ، والثالث بعرفة ، والرابع بمزدلفة ، والخامس عند الجمرة الأولى ، والسادس عند الجمرة الثانية .


فصل [ خطبتا منى ]
وخطب صلى الله عليه وسلم الناس بمنى خطبتين خطبة يوم النحر وقد تقدمت والخطبة الثانية في أوسط أيام التشريق فقيل هو ثاني يوم النحر وهو أوسطها ، أي خيارها ، واحتج من قال ذلك بحديث سراء بنت نبهان ، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أتدرون أي يوم هذا ؟ قالت وهو اليوم الذي تدعون يوم الرءوس . قالوا : الله ورسوله أعلم قال هذا أوسط أيام التشريق . هل تدرون أي بلد هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال هذا المشعر الحرام . ثم قال : إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم ألا هل بلغت " فلما قدمنا المدينة ، لم يلبث إلا قليلا حتى مات صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود ويوم الرءوس هو ثاني يوم النحر بالاتفاق .

وذكر البيهقي ، من حديث موسى بن عيدة الربذي ، عن صدقة بن يسار عن ابن عمر ، قال أنزلت هذه السورة إذا جاء نصر الله والفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق وعرف أنه الوداع فأمر براحلته القصواء فرحلت واجتمع الناس فقال " يا أيها الناس " ثم ذكر الحديث في خطبته .

فصل [ ترخيصه صلى الله عليه وسلم لمن له عذر بالمبيت خارج منى وبجمع رمي يومين بعد يوم النحر في أحدهما ]

واستأذنه العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له . واستأذنه رعاء الإبل في البيتوتة خارج منى عند الإبل فأرخص لهم أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما .

قال مالك : ظننت أنه قال في أول يوم منهما ، ثم يرمون يوم النفر .

وقال ابن عيينة في هذا الحديث رخص للرعاء أن يرموا يوما ، ويدعوا يوما فيجوز للطائفتين بالسنة ترك المبيت بمنى ، وأما الرمي فإنهم لا يتركونه بل لهم أن يؤخروه إلى الليل فيرمون فيه ولهم أن يجمعوا رمي يومين في يوم وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لأهل السقاية وللرعاء في البيتوتة فمن له مال يخاف ضياعه أو مريض يخاف من تخلفه عنه أو كان مريضا لا تمكنه البيتوتة سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء والله أعلم .

فصل [ أين لقي صلى الله عليه وسلم عائشة بعد رجوعها من عمرة التنعيم ]

ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة وأفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المحصب ، وهو الأبطح ، وهو خيف بني كنانة ، فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قبة هناك وكان على ثقله توفيقا من الله عز وجل دون أن يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة ، فطاف للوداع ليلا سحرا ، ولم يرمل في هذا الطواف ، وأخبرته صفية أنها حائض فقال " أحابستنا هي ؟ " فقالوا له إنها قد أفاضت قال " فلتنفر إذا " ورغبت إليه عائشة تلك الليلة أن يعمرها عمرة مفردة فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأ عن حجها وعمرتها ، فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم ، ففرغت من عمرتها ليلا ثم وافت المحصب مع أخيها ، فأتيا في جوف الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فرغتما " ؟ قالت نعم فنادى بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس ثم طاف بالبيت قبل صلاة الصبح . هذا لفظ البخاري .

فإن قيل كيف تجمعون بين هذا ، وبين حديث الأسود عنها الذي في " الصحيح " أيضا ؟ قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نر إلا الحج . . . فذكرت الحديث وفيه فلما كانت ليلة الحصبة قلت يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة ؟ قال أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة ؟ قالت قلت لا . قال " فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم ، فأهلي بعمرة ثم موعدك مكان كذا وكذا " ، قالت عائشة فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة ، وأنا منهبطة عليها ، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها

ففي هذا الحديث أنهما تلاقيا في الطريق وفي الأول أنه انتظرها في منزله فلما جاءت نادى بالرحيل في أصحابه . ثم فيه إشكال آخر وهو قولها : لقيني وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها ، أو بالعكس فإن كان الأول فيكون قد لقيها مصعدا منها راجعا إلى المدينة ، وهي منهبطة عليها للعمرة وهذا ينافي انتظاره لها بالمحصب .

قال أبو محمد ابن حزم : الصواب الذي لا شك فيه أنها كانت مصعدة من مكة ، وهو منهبط لأنها تقدمت إلى العمرة وانتظرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت ثم نهض إلى طواف الوداع فلقيها منصرفة إلى المحصب عن مكة ، وهذا لا يصح ، فإنها قالت وهو منهبط منها ، وهذا يقتضي أن يكون بعد المحصب ، والخروج من مكة ، فكيف يقول أبو محمد : إنه نهض إلى طواف الوداع وهو منهبط من مكة ؟ هذا محال .

وأبو محمد ، لم يحج . وحديث القاسم عنها صريح كما تقدم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتظرها في منزله بعد النفر حتى جاءت فارتحل وأذن في الناس بالرحيل فإن كان حديث الأسود هذا محفوظا ، فصوابه لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مصعدة من مكة ، وهو منهبط إليها ، فإنها طافت وقضت عمرتها ، ثم أصعدت لميعاده فوافته قد أخذ في الهبوط إلى مكة للوداع فارتحل وأذن في الناس بالرحيل ولا وجه لحديث الأسود غير هذا ، وقد جمع بينهما بجمعين آخرين وهما وهم .

أحدهما : أنه طاف للوداع مرتين مرة بعد أن بعثها ، وقبل فراغها ، ومرة بعد فراغها للوداع وهذا مع أنه وهم بين فإنه لا يرفع الإشكال بل يزيده فتأمله .

الثاني : أنه انتقل من المحصب إلى ظهر العقبة خوف المشقة على المسلمين في التحصيب فلقيته وهي منهبطة إلى مكة ، وهو مصعد إلى العقبة ، وهذا أقبح من الأول لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من العقبة أصلا ، وإنما خرج من أسفل مكة من الثنية السفلى بالاتفاق . وأيضا : فعلى تقدير ذلك لا يحصل الجمع بين الحديثين .

وذكر أبو محمد ابن حزم أنه رجع بعد خروجه من أسفل مكة إلى المحصب ، وأمر بالرحيل وهذا وهم أيضا ، لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وداعه إلى المحصب ، وإنما مر من فوره إلى المدينة .

وذكر في بعض تآليفه أنه فعل ذلك ليكون كالمحلق على مكة بدائرة في دخوله وخروجه فإنه بات بذي طوى ، ثم دخل من أعلى مكة ، ثم خرج من أسفلها ، ثم رجع إلى المحصب ، ويكون هذا الرجوع من يماني مكة حتى تحصل الدائرة فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاء نزل بذي طوى ، ثم أتى مكة من كداء ، ثم نزل به لما فرغ من الطواف ثم لما فرغ من جميع النسك نزل به ثم خرج من أسفل مكة وأخذ من يمينها حتى أتى المحصب ، ويحمل أمره بالرحيل ثانيا على أنه لقي في رجوعه ذلك إلى المحصب قوما لم يرحلوا ، فأمرهم بالرحيل وتوجه من فوره ذلك إلى المدينة .

ولقد شان أبو محمد نفسه وكتابه بهذا الهذيان البارد السمج الذي يضحك منه ولولا التنبيه على أغلاط من غلط عليه صلى الله عليه وسلم لرغبنا عن ذكر مثل هذا الكلام . والذي كأنك تراه من فعله أنه نزل بالمحصب وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة ، وطاف بها طواف الوداع ليلا ، ثم خرج من أسفلها إلى المدينة ، ولم يرجع إلى المحصب ، ولا دار دائرة ففي " صحيح البخاري " : عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب ، والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت وطاف به

وفي " الصحيحين " : عن عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت الحديث ثم قالت حين قضى الله الحج ونفرنا من منى ، فنزلنا بالمحصب فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له " اخرج بأختك من الحرم ، ثم افرغا من طوافكما ، ثم ائتياني ها هنا بالمحصب " . قالت فقضى الله العمرة وفرغنا من طوافنا في جوف الليل فأتيناه بالمحصب . فقال فرغتما ؟ قلنا : نعم . فأذن في الناس بالرحيل فمر بالبيت فطاف به ثم ارتحل متوجها إلى المدينة

فهذا من أصح حديث على وجه الأرض وأدله على فساد ما ذكره ابن حزم وغيره من تلك التقديرات التي لم يقع شيء منها ، ودليل على أن حديث الأسود غير محفوظ ، وإن كان محفوظا ، فلا وجه له غير ما ذكرنا وبالله التوفيق .


فصل [ هل وقف صلى الله عليه وسلم في الملتزم بعد الوداع ]

وأما المسألة الثانية وهي وقوفه في الملتزم ، فالذي روي عنه أنه فعله يوم الفتح ففي " سنن أبي داود " ، عن عبد الرحمن بن أبي صفوان ، قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه وقد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ، ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم .

وروى أبو داود أيضا : من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال طفت مع عبد الله فلما حاذى دبر الكعبة قلت ألا تتعوذ ؟ قال

نعوذ بالله من النار ، ثم مضى حتى استلم الحجر ، فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه هكذا ، وبسطهما بسطا ، وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله

فهذا يحتمل أن يكون في وقت الوداع وأن يكون في غيره ولكن قال مجاهد والشافعي بعده وغيرهما : إنه يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يلتزم ما بين الركن والباب وكان يقول لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه والله أعلم .

فصل [ أين صلى صلى الله عليه وسلم الصبح ليلة الوداع ؟]

وأما المسألة الثالثة وهي موضع صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع ففي " الصحيحين " : عن أم سلمة ، قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي ، فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة . قالت فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ ب والطور وكتاب مسطور فهذا يحتمل أن يكون في الفجر وفي غيرها ، وأن يكون في طواف الوداع وغيره فنظرنا في ذلك فإذا البخاري قد روى في " صحيحه " في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت صلاة الصبح ، فطوفي على بعيرك والناس يصلون ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت وهذا محال قطعا أن يكون يوم النحر فهو طواف الوداع بلا ريب فظهر أنه صلى الصبح يومئذ عند البيت وسمعته أم سلمة يقرأ فيها بالطور .

فصل [ ارتحاله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ]

ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة ، فلما كان بالروحاء ، لقي ركبا ، فسلم عليهم وقال من القوم ؟ فقالوا : المسلمون قالوا : فمن القوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعت امرأة صبيا لها من محفتها ، فقالت يا رسول الله ؟ ألهذا حج ؟ قال نعم ولك أجر

فلما أتى ذا الحليفة ، بات بها ، فلما رأى المدينة ، كبر ثلاث مرات وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دخلها نهارا من طريق المعرس ، وخرج من طريق الشجرة والله أعلم .


فصل في الأوهام
[ وهم ابن حزم في قوله إنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وقت خروجه أن عمرة في رمضان تعدل حجة ]

فمنها : وهم لأبي محمد ابن حزم في حجة الوداع حيث قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وقت خروجه أن عمرة في رمضان تعدل حجة وهذا وهم ظاهر فإنه إنما قال ذلك بعد رجوعه إلى المدينة من حجته إذ قال لأم سنان الأنصارية : ما منعك أن تكوني حججت معنا ؟ قالت لم يكن لنا إلا ناضحان فحج أبو ولدي وابني على ناضح وترك لنا ناضحا ننضح عليه . قال فإذا جاء رمضان فاعتمري ، فإن عمرة في رمضان تقضي حجة هكذا رواه مسلم في " صحيحه " .

وكذلك أيضا قال هذا لأم معقل بعد رجوعه إلى المدينة ، كما رواه أبو داود ، من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن جدته أم معقل ، قالت لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله فأصابنا مرض فهلك أبو معقل ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته فقال ما منعك أن تخرجي معنا " ؟ فقالت لقد تهيأنا ، فهلك أبو معقل ، وكان لنا جمل وهو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله . قال" فهلا خرجت عليه ؟ فإن الحج في سبيل الله فأما إذ فاتتك هذه الحجة معنا فاعتمري في رمضان فإنها كحجة

فصل

ومنها وهم آخر له وهو أن خروجه كان يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة وقد تقدم أنه خرج لخمس وأن خروجه كان يوم السبت .

فصل [ وهم محب الدين الطبري بقوله خرج صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة ]

ومنها وهم آخر لبعضهم ذكر الطبري في " حجة الوداع " أنه خرج يوم الجمعة بعد الصلاة . والذي حمله على هذا الوهم القبيح قوله في الحديث خرج لست بقين فظن أن هذا لا يمكن إلا أن يكون الخروج يوم الجمعة إذ تمام الست يوم الأربعاء وأول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا ريب وهذا خطأ فاحش فإنه من المعلوم الذي لا ريب فيه أنه صلى الظهر يوم خروجه بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ثبت ذلك في " الصحيحين " .

وحكى الطبري في حجته قولا ثالثا : إن خروجه كان يوم السبت وهو اختيار الواقدي ، وهو القول الذي رجحناه أولا ، لكن الواقدي ، وهم في ذلك ثلاثة أوهام أحدها : أنه زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم خروجه الظهر بذي الحليفة ركعتين الوهم الثاني : أنه أحرم ذلك اليوم عقيب صلاة الظهر وإنما أحرم من الغد بعد أن بات بذي الحليفة الوهم الثالث أن الوقفة كانت يوم السبت وهذا لم يقله غيره وهو وهم بين .

فصل [ وهم القاضي عياض أنه صلى الله عليه وسلم تطيب قبل غسله ثم غسل الطيب عنه لما اغتسل ]

ومنها وهم للقاضي عياض رحمه الله وغيره أنه صلى الله عليه وسلم تطيب هناك قبل غسله ثم غسل الطيب عنه لما اغتسل .

ومنشأ هذا الوهم من سياق ما وقع في " صحيح مسلم " في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طاف على نسائه بعد ذلك ، ثم أصبح محرما

والذي يرد هذا الوهم قولها : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه وقولها : كأني أنظر إلى وبيص الطيب أي بريقه في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم وفي لفظ وهو يلبي بعد ثلاث من إحرامه وفي لفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك وكل هذه الألفاظ ألفاظ الصحيح

وأما الحديث الذي احتج به فإنه حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه عنها : كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف على نسائه ثم يصبح محرما وهذا ليس فيه ما يمنع الطيب الثاني عند إحرامه .

فصل

[ وهم ابن حزم أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قبل الظهر ]

ومنها : وهم آخر لأبي محمد ابن حزم أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قبل الظهر وهو وهم ظاهر لم ينقل في شيء من الأحاديث وإنما أهل عقيب صلاة الظهر في موضع مصلاه ثم ركب ناقته واستوت به على البيداء وهو يهل ، وهذا يقينا كان بعد صلاة الظهر والله أعلم .

فصل [ وهم ابن حزم أنه صلى الله عليه وسلم ساق الهدي مع نفسه وكان هدي تطوع]

ومنها وهم آخر له وهو قوله وساق الهدي مع نفسه وكان هدي تطوع وهذا بناء منه على أصله الذي انفرد به عن الأئمة أن القارن لا يلزمه هدي وإنما يلزم المتمتع وقد تقدم بطلان هذا القول .

فصل

ومنها : وهم آخر لمن قال إنه لم يعين في إحرامه نسكا ، بل أطلقه ووهم من قال إنه عين عمرة مفردة كان متمتعا بها ، كما قاله القاضي أبو يعلى ، وصاحب " المغني " وغيرهما ، ووهم من قال إنه عين حجا مفردا مجردا لم يعتمر معه ووهم من قال إنه عين عمرة ثم أدخل عليها الحج ووهم من قال إنه عين حجا مفردا ، ثم أدخل عليه العمرة بعد ذلك وكان من خصائصه وقد تقدم بيان مستند ذلك ووجه الصواب فيه . والله أعلم .

فصل

ومنها : وهم لأحمد بن عبد الله الطبري في " حجة الوداع " له أنهم لما كانوا ببعض الطريق صاد أبو قتادة حمارا وحشيا ولم يكن محرما ، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا إنما كان في عمرة الحديبية ، كما رواه البخاري .

فصل

ومنها : وهم آخر لبعضهم حكاه الطبري عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل مكة يوم الثلاثاء وهو غلط فإنما دخلها يوم الأحد صبح رابعة من ذي الحجة .

فصل

ومنها : وهم من قال إنه صلى الله عليه وسلم حل بعد طوافه وسعيه كما قاله القاضي أبو يعلى وأصحابه وقد بينا أن مستند هذا الوهم وهم معاوية ، أو من روى عنه أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة في حجته .

فصل

ومنها : وهم من زعم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني في طوافه وإنما ذلك الحجر الأسود ، وسماه اليماني لأنه يطلق عليه وعلى الآخر اليمانيين . فعبر بعض الرواة عنه باليماني منفردا .

فصل

ومنها : وهم فاحش لأبي محمد ابن حزم أنه رمل في السعي ثلاثة أشواط ومشى أربعة وأعجب من هذا الوهم وهمه في حكاية الاتفاق على هذا القول الذي لم يقله أحد سواه .

فصل

ومنها : وهم من زعم أنه طاف بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطا ، وكان ذهابه وإيابه مرة واحدة وقد تقدم بيان بطلانه .

فصل

ومنها : وهم من زعم أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر قبل الوقت ومستند هذا الوهم حديث ابن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر يوم النحر قبل ميقاتها وهذا إنما أراد به قبل ميقاتها الذي كانت عادته أن يصليها فيه فعجلها عليه يومئذ ولا بد من هذا التأويل وحديث ابن مسعود ، إنما يدل على هذا ، فإنه في " صحيح البخاري " عنه أنه قال هما صلاتان تحولان عن وقتهما : صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة والفجر حين يبزغ الفجر وقال في حديث جابر في حجة الوداع فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة


فصل ومنها وهم من وهم في أنه صلى الظهر والعصر يوم عرفة ، والمغرب والعشاء تلك الليلة بأذانين وإقامتين

ووهم من قال صلاهما بإقامتين بلا أذان أصلا ، ووهم من قال جمع بينهما بإقامة واحدة والصحيح أنه صلاهما بأذان واحد وإقامة لكل صلاة .

فصل

ومنها : وهم من زعم أنه خطب بعرفة خطبتين جلس بينهما ، ثم أذن المؤذن فلما فرغ أخذ في الخطبة الثانية فلما فرغ منها ، أقام الصلاة وهذا لم يجئ في شيء من الأحاديث البتة وحديث جابر صريح في أنه لما أكمل خطبته أذن بلال ، وأقام الصلاة فصلى الظهر بعد الخطبة .

فصل

ومنها : وهم لأبي ثور أنه لما صعد أذن المؤذن فلما فرغ قام فخطب وهذا وهم ظاهر فإن الأذان إنما كان بعد الخطبة .

فصل

ومنها : وهم من روى ، أنه قدم أم سلمة ليلة النحر وأمرها أن توافيه صلاة الصبح بمكة وقد تقدم بيانه .

فصل

ومنها : وهم من زعم أنه أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل وقد تقدم بيان ذلك وأن الذي أخره إلى الليل إنما هو طواف الوداع ومستند هذا الوهم - والله أعلم - أن عائشة قالت أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه كذلك قال عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها ، فحمل عنها على المعنى ، وقيل أخر طواف الزيارة إلى الليل .

فصل

ومنها : وهم من وهم وقال إنه أفاض مرتين مرة بالنهار ومرة مع نسائه بالليل ومستند هذا الوهم ما رواه عمر بن قيس ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا وهذا غلط والصحيح عن عائشة خلاف هذا : أنه أفاض نهارا إفاضة واحدة وهذه طريقة وخيمة جدا ، سلكها ضعاف أهل العلم المتمسكون بأذيال التقليد والله أعلم .

فصل

ومنها : وهم من زعم أنه طاف للقدوم يوم النحر ثم طاف بعده للزيارة وقد تقدم مستند ذلك وبطلانه .

فصل

ومنها وهم من زعم أنه يومئذ سعى مع هذا الطواف . واحتج بذلك على أن القارن يحتاج إلى سعيين وقد تقدم بطلان ذلك عنه وأنه لم يسع إلا سعيا واحدا ، كما قالت عائشة وجابر رضي الله عنهما .

فصل

ومنها : على القول الراجح وهم من قال إنه صلى الظهر يوم النحر بمكة ، والصحيح أنه صلاها بمنى كما تقدم .

فصل

ومنها : وهم من زعم أنه لم يسرع في وادي محسر حين أفاض من جمع إلى منى ، وأن ذلك إنما هو فعل الأعراب ، ومستند هذا الوهم قول ابن عباس : إنما كان بدء الإيضاع من قبل أهل البادية كانوا يقفون حافتي الناس حتى قد علقوا القعاب والعصي والجعاب فإذا أفاضوا ، تقعقعت تلك فنفروا بالناس ولقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ذفرى ناقته ليمس حاركها وهو يقول يا أيها الناس عليكم السكينة وفي رواية إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل ، فعليكم بالسكينة فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى رواه أبو داود " . ولذلك أنكره طاووس والشعبي ، قال الشعبي : حدثني أسامة بن زيد أنه أفاض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ، فلم ترفع راحلته رجلها عادية حتى بلغ جمعا . قال وحدثني الفضل بن عباس ، أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع ، فلم ترفع راحلته رجلها عادية حتى رمى الجمرة . وقال عطاء إنما أحدث هؤلاء الإسراع يريدون أن يفوتوا الغبار .

ومنشأ هذا الوهم اشتباه الإيضاع وقت الدفع من عرفة الذي يفعله الأعراب وجفاة الناس بالإيضاع في وادي محسر ، فإن الإيضاع هناك بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نهى عنه والإيضاع في وادي محسر سنة نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر وعلي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان ابن الزبير يوضع أشد الإيضاع وفعلته عائشة وغيرهم من الصحابة والقول في هذا قول من أثبت لا قول من نفى . والله أعلم .

فصل

ومنها وهم طاووس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة من ليالي منى إلى البيت وقال البخاري في " صحيحه " ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى ورواه ابن عرعرة قال دفع إلينا معاذ بن هشام كتابا قال سمعته من أبي ولم يقرأه قال وكان فيه عن أبي حسان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما دام بمنى قال وما رأيت أحدا واطأه عليه انتهى . ورواه الثوري في " جامعه " عن ابن طاووس عن أبيه مرسلا ، وهو وهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى مكة بعد أن طاف للإفاضة وبقي في منى إلى حين الوداع والله أعلم .

فصل

ومنها وهم من قال إنه ودع مرتين . ووهم من قال إنه جعل مكة دائرة في دخوله وخروجه فبات بذي طوى ، ثم دخل من أعلاها ، ثم خرج من أسفلها ، ثم رجع إلى المحصب عن يمين مكة ، فكملت الدائرة .

فصل

ومنها وهم من زعم أنه انتقل من المحصب إلى ظهر العقبة ، فهذه كلها من الأوهام نبهنا عليها مفصلا ومجملا وبالله التوفيق .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الهدايا والضحايا والعقيقة
وهي مختصة بالأزواج الثمانية المذكورة في سورة ( الأنعام ) ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة هدي ولا أضحية ولا عقيقة من غيرها ، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع أربع آيات .

إحداها : قوله تعالى : أحلت لكم بهيمة الأنعام [ المائدة 1 ] .

والثانية قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ الحج : 28 ] .

والثالثة قوله تعالى : ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج [ الأنعام 142 ، 143 ] ثم ذكرها .

الرابعة قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة [ المائدة 95 ] .

فدل على أن الذي يبلغ الكعبة من الهدي هو هذه الأزواج الثمانية وهذا استنباط علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

والذبائح التي هي قربة إلى الله وعبادة هي ثلاثة الهدي والأضحية والعقيقة .

فأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم وأهدى الإبل وأهدى عن نسائه البقر وأهدى في مقامه وفي عمرته وفي حجته وكانت سنته تقليد الغنم دون إشعارها .

وكان إذا بعث بهديه وهو مقيم لم يحرم عليه شيء كان منه حلالا .

وكان إذا أهدى الإبل قلدها وأشعرها ، فيشق صفحة سنامها الأيمن يسيرا حتى يسيل الدم . قال الشافعي : والإشعار في الصفحة اليمنى ، كذلك أشعر النبي صلى الله عليه وسلم .

وكان إذا بعث بهديه أمر رسوله إذا أشرف على عطب شيء منه أن ينحره ثم يصبغ نعله في دمه ثم يجعله على صفحته ولا يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته ثم يقسم لحمه ومنعه من هذا الأكل سدا للذريعة فإنه لعله ربما قصر في حفظه ليشارف العطب فينحره ويأكل منه فإذا علم أنه لا يأكل منه شيئا ، اجتهد في حفظه .

وشرك بين أصحابه في الهدي كما تقدم البدنة عن سبعة والبقرة كذلك .

وأباح لسائق الهدي ركوبه بالمعروف إذا احتاج إليه حتى يجد ظهرا غيره وقال علي رضي الله عنه يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها

وكان هديه صلى الله عليه وسلم نحر الإبل قياما ، مقيدة معقولة اليسرى ، على ثلاث وكان يسمي الله عند نحره ويكبر وكان يذبح نسكه بيده وربما وكل في بعضه كما أمر عليا رضي الله عنه أن يذبح ما بقي من المائة .

وكان إذا ذبح الغنم وضع قدمه على صفاحها ثم سمى ، وكبر وذبح وقد تقدم أنه نحر بمنى وقال إن فجاج مكة كلها منحر وقال ابن عباس : مناحر البدن بمكة ، ولكنها نزهت عن الدماء ومنى من مكة ، وكان ابن عباس ينحر بمكة .

وأباح صلى الله عليه وسلم لأمته أن يأكلوا من هداياهم وضحاياهم ويتزودوا منها ، ونهاهم مرة أن يدخروا منها بعد ثلاث لدافة دفت عليهم ذلك العام من الناس فأحب أن يوسعوا عليهم وذكر أبو داود من حديث جبير بن نفير عن ثوبان قال ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال يا ثوبان أصلح لنا لحم هذه الشاة قال فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة .

وروى مسلم هذه القصة ولفظه فيها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع أصلح هذا اللحم " قال فأصلحته فلم يزل يأكل منه حتى بلغ المدينة

وكان ربما قسم لحوم الهدي وربما قال من شاء اقتطع فعل هذا ، وفعل هذا ، واستدل بهذا على جواز النهبة في النثار في العرس ونحوه وفرق بينهما بما لا يتبين .


فصل [هديه صلى الله عليه وسلم في ذبح هدي العمرة والقران ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ذبح هدي العمرة عند المروة ، وهدي القران بمنى ، وكذلك كان ابن عمر يفعل ولم ينحر هديه صلى الله عليه وسلم قط إلا بعد أن حل ولم ينحره قبل يوم النحر ولا أحد من الصحابة البتة ولم ينحره أيضا إلا بعد طلوع الشمس وبعد الرمي فهي أربعة أمور مرتبة يوم النحر أولها : الرمي ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف وهكذا رتبها صلى الله عليه وسلم ولم يرخص في النحر قبل طلوع الشمس البتة ولا ريب أن ذلك مخالف لهديه فحكمه حكم الأضحية إذا ذبحت قبل طلوع الشمس .




فصل وأما هديه في الأضاحي
[ وقت الذبح ]

فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الأضحية وكان يضحي بكبشين وكان ينحرهما بعد صلاة العيد وأخبر أن من ذبح قبل الصلاة ، فليس من النسك في شيء وإنما هو لحم قدمه لأهله هذا الذي دلت عليه سنته وهديه لا الاعتبار بوقت الصلاة والخطبة بل بنفس فعلها ، وهذا هو الذي ندين الله به وأمرهم أن يذبحوا الجذع من الضأن والثني مما سواه وهي المسنة .

وروي عنه أنه قال كل أيام التشريق ذبح لكن الحديث منقطع لا يثبت وصله .

وأما نهيه عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فلا يدل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط لأن الحديث دليل على نهي الذابح أن يدخر شيئا فوق ثلاثة أيام من يوم ذبحه فلو أخر الذبح إلى اليوم الثالث لجاز له الادخار وقت النهي ما بينه وبين ثلاثة أيام والذين حددوه بالثلاث فهموا من نهيه عن الادخار فوق ثلاث أن أولها من يوم النحر قالوا : وغير جائز أن يكون الذبح مشروعا في وقت يحرم فيه الأكل قالوا : ثم نسخ تجريم الأكل فبقي وقت الذبح بحاله .

فيقال لهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن الادخار فوق ثلاث لم ينه عن التضحية بعد ثلاث فأين أحدهما من الآخر ولا تلازم بين ما نهى عنه وبين اختصاص الذبح بثلاث لوجهين .

أحدهما : أنه يسوغ الذبح في اليوم الثاني والثالث فيجوز له الادخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح ولا يتم لكم الاستدلال حتى يثبت النهي عن الذبح بعد يوم النحر ولا سبيل لكم إلى هذا .

الثاني : أنه لو ذبح في آخر جزء من يوم النحر لساغ له حينئذ الادخار ثلاثة أيام بعده بمقتضى الحديث وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أيام النحر يوم الأضحى ، وثلاثة أيام بعده وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن ، وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح ، وإمام أهل الشام الأوزاعي ، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي رحمه الله واختاره ابن المنذر ، ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى ، وأيام الرمي وأيام التشريق ويحرم صيامها ، فهي إخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع . وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل منى منحر ، و كل أيام التشريق ذبح روي من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع ومن حديث أسامة بن زيد ، عن عطاء عن جابر .

قال يعقوب بن سفيان : أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون .

وفي هذه المسألة أربعة أقوال هذا أحدها .
والثاني : أن وقت الذبح يوم النحر ويومان بعده وهذا مذهب أحمد ، ومالك ، وأبي حنيفة رحمهم الله قال أحمد هو قول غير واحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذكره الأثرم عن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم .

الثالث أن وقت النحر يوم واحد وهو قول ابن سيرين ، لأنه اختص بهذه التسمية فدل على اختصاص حكمها به ولو جاز في الثلاثة لقيل لها : أيام النحر كما قيل لها : أيام الرمي وأيام منى ، وأيام التشريق ولأن العيد يضاف إلى النحر وهو يوم واحد كما يقال عيد الفطر .

الرابع قول سعيد بن جبير ، وجابر بن زيد : أنه يوم واحد في الأمصار وثلاثة أيام في منى ، لأنها هناك أيام أعمال المناسك من الرمي والطواف والحلق فكانت أياما للذبح بخلاف أهل الأمصار .

فصل [ مسائل تتعلق بالأضحية ]

ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن من أراد التضحية ودخل يوم العشر ، فلا يأخذ من شعره وبشره شيئا ثبت النهي عن ذلك في " صحيح مسلم " . وأما الدارقطني فقال الصحيح عندي أنه موقوف على أم سلمة .

يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 02:55 AM
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم اختيار الأضحية واستحسانها ، وسلامتها من العيوب ونهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن أي مقطوعة الأذن ومكسورة القرن النصف فما زاد ذكره أبو داود

وأمر أن تستشرف العين والأذن أي ينظر إلى سلامتها ، وأن لا يضحى بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء . والمقابلة هي التي قطع مقدم أذنها ، والمدابرة التي قطع مؤخر أذنها ، والشرقاء التي شقت أذنها ، والخرقاء التي خرقت أذنها . ذكره أبو داود . وذكر عنه أيضا

أربع لا تجزئ في الأضاحي : العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين عرجها ، والكسيرة التي لا تنقي ، والعجفاء التي لا تنقي أي من هزالها لا مخ فيها .

وذكر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المصفرة والمستأصلة ، والبخقاء والمشيعة والكسراء فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها ، والمستأصلة التي استوصل قرنها من أصله والبخقاء التي بخقت عينها ، والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا ، والكسراء الكسيرة والله أعلم .

فصل [ كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالمصلى ]

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يضحي بالمصلى ، ذكره أبو داود عن جابر أنه شهد معه الأضحى بالمصلى ، فلما قضى خطبته نزل من منبره وأتي بكبش فذبحه بيده وقال بسم الله والله أكبر هذا عني وعمن لم يضح من أمتي

وفي " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح وينحر بالمصلى

[ دعاؤه صلى الله عليه وسلم قبل الذبح ]

وذكر أبو داود عنه أنه ذبح يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين فلما وجههما قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر ثم ذبح .

وأمر الناس إذا ذبحوا أن يحسنوا ، وإذا قتلوا أن يحسنوا القتلة وقال إن الله كتب الإحسان على كل شيء



[ تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته ]

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته ولو كثر عددهم كما قال عطاء بن يسار : سألت أبا أيوب الأنصاري : كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال إن كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون

قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العقيقة
في " الموطأ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال لا أحب العقوق كأنه كره الاسم ذكره عن زيد بن أسلم ، عن رجل من بني ضمرة ، عن أبيه . قال ابن عبد البر : وأحسن أسانيده ما ذكره عبد الرزاق : أنبأ داود بن قيس ، قال سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال لا أحب العقوق وكأنه كره الاسم قالوا : يا رسول الله ينسك أحدنا عن ولده ؟ فقال من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة

وصح عنه من حديث عائشة رضي الله عنها عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة

[ معنى كل غلام رهينة بعقيقته ]

" وقال كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويسمى

قال الإمام أحمد معناه أنه محبوس عن الشفاعة في أبويه والرهن في اللغة الحبس قال تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة [ المدثر 38 ] وظاهر الحديث أنه رهينة في نفسه ممنوع محبوس عن خير يراد به ولا يلزم من ذلك أن يعاقب على ذلك في الآخرة وإن حبس بترك أبويه العقيقة عما يناله من عق عنه أبواه وقد يفوت الولد خير بسبب تفريط الأبوين وإن لم يكن من كسبه كما أنه عند الجماع إذا سمى أبوه لم يضر الشيطان ولده وإذا ترك التسمية لم يحصل للولد هذا الحفظ .

وأيضا فإن هذا إنما يدل على أنها لازمة لا بد منها ، فشبه لزومها وعدم انفكاك المولود عنها بالرهن . وقد يستدل بهذا من يرى وجوبها كالليث بن سعد والحسن البصري ، وأهل الظاهر . والله أعلم .

[ هل التدمية من العقيقة صحيحة أو غلط ؟]

فإن قيل فكيف تصنعون في رواية همام عن قتادة في هذا الحديث " ويدمى " قال همام سئل قتادة عن قوله و " يدمى " كيف يصنع بالدم ؟ فقال إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها ، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى تسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق

قيل اختلف الناس في ذلك فمن قائل هذا من رواية الحسن عن سمرة ولا يصح سماعه عنه ومن قائل سماع الحسن عن سمرة حديث العقيقة هذا صحيح صححه الترمذي وغيره وقد ذكره البخاري في " صحيحه " عن حبيب بن الشهيد قال قال لي محمد بن سيرين : اذهب فسل الحسن ممن سمع حديث العقيقة ؟ فسأله فقال سمعته من سمرة . ثم اختلف في التدمية بعد هل هي صحيحة أو غلط ؟ على قولين . فقال أبو داود في " سننه " : هي وهم من همام بن يحيى . وقوله ويدمى ، إنما هو " ويسمى " وقال غيره كان في لسان همام لثغة فقال " ويدمى " وإنما أراد أن يسمى ، وهذا لا يصح ، فإن هماما وإن كان وهم في اللفظ ولم يقمه لسانه فقد حكى عن قتادة صفة التدمية وأنه سئل عنها فأجاب بذلك وهذا لا تحتمله اللثغة بوجه . فإن كان لفظ التدمية هنا وهما ، فهو من قتادة ، أو من الحسن والذين أثبتوا لفظ التدمية قالوا : إنه من سنة العقيقة وهذا مروي عن الحسن وقتادة ، والذين منعوا التدمية كمالك ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، قالوا : " ويدمى " غلط وإنما هو " ويسمى " قالوا : وهذا كان من عمل أهل الجاهلية فأبطله الإسلام بدليل ما رواه أبو داود ، عن بريدة بن الحصيب قال كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها ، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران

قالوا : وهذا وإن كان في إسناده الحسين بن واقد ، ولا يحتج به فإذا انضاف إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم أميطوا عنه الأذى والدم أذى ، فكيف يأمرهم أن يلطخوه بالأذى ؟

قالوا : ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش ولم يدمهما ، ولا كان ذلك من هديه وهدي أصحابه قالوا : وكيف يكون من سنته تنجيس رأس المولود وأين لهذا شاهد ونظير في سنته وإنما يليق هذا بأهل الجاهلية .


فصل [ هل عقيقة الغلام شاتان ؟ ]
فإن قيل عقه عن الحسن والحسين بكبش كبش يدل على أن هديه أن على الرأس رأسا ، وقد صحح عبد الحق الإشبيلي من حديث ابن عباس وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن بكبش ، وعن الحسين بكبش وكان مولد الحسن عام أحد والحسين في العام القابل منه .

وروى الترمذي من حديث علي رضي الله عنه قال عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة وقال يا فاطمة احلقي رأسه ، وتصدقي بزنة شعره فضة فوزناه فكان وزنه درهما أو بعض درهم وهذا وإن لم يكن إسناده متصلا فحديث أنس وابن عباس يكفيان .

قالوا : لأنه نسك فكان على الرأس مثله كالأضحية ودم التمتع . فالجواب أن أحاديث الشاتين عن الذكر والشاة عن الأنثى ، أولى أن يؤخذ بها لوجوه .

أحدها : كثرتها ، فإن رواتها : عائشة وعبد الله بن عمرو ، وأم كرز الكعبية ، وأسماء .

فروى أبو داود عن أم كرز قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعن الجارية شاة .

قال أبو داود : وسمعت أحمد يقول مكافئتان مستويتان أو مقاربتان قلت : هو مكافأتان بفتح الفاء ومكافئتان بكسرها ، والمحدثون يختارون الفتح قال الزمخشري لا فرق بين الروايتين لأن كل من كافأته ، فقد كافأك . وروي أيضا عنها ترفعه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أقروا الطير على مكناتها وسمعته يقول عن الغلام شاتان مكافئتان ، وعن الجارية شاة لا يضركم أذكرانا كن أم إناثا وعنها أيضا ترفعه عن الغلام شاتان مثلان ، وعن الجارية شاة وقال الترمذي حديث صحيح .

وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده في ذلك وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة . قال الترمذي حديث حسن صحيح .

وروى إسماعيل بن عياش عن ثابت بن عجلان ، عن مجاهد عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة . قال مهنا قلت لأحمد من أسماء ؟ فقال ينبغي أن تكون أسماء بنت أبي بكر .

وفي كتاب الخلال قال مهنا قلت لأحمد حدثنا خالد بن خداش ، قال حدثنا عبد الله بن وهب ، قال حدثنا عمرو بن الحارث أن أيوب بن موسى حدثه أن يزيد بن عبد المزني حدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم وقال في الإبل الفرع ، وفي الغنم الفرع فقال أحمد ما أعرفه ولا أعرف عبد بن يزيد المزني ، ولا هذا الحديث . فقلت له أتنكره ؟ فقال لا أعرفه وقصة الحسن والحسين رضي الله عنهما حديث واحد .

الثاني : أنها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث الشاتين من قوله وقوله عام ، وفعله يحتمل الاختصاص .

الثالث أنها متضمنة لزيادة فكان الأخذ بها أولى .

الرابع أن الفعل يدل على الجواز والقول على الاستحباب والأخذ بهما ممكن فلا وجه لتعطيل أحدهما .

الخامس أن قصة الذبح عن الحسن والحسين كانت عام أحد والعام الذي بعده وأم كرز سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ما روته عام الحديبية سنة ست بعد الذبح عن الحسن والحسين قاله النسائي في كتابه الكبير .

السادس أن قصة الحسن والحسين يحتمل أن يراد بها بيان جنس المذبوح وأنه من الكباش لا تخصيصه بالواحد كما قالت عائشة ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة وكن تسعا ، ومرادها : الجنس لا التخصيص بالواحدة .

السابع أن الله سبحانه فضل الذكر على الأنثى ، كما قال وليس الذكر كالأنثى [ آل عمران 37 ] ومقتضى هذا التفاضل ترجيحه عليها في الأحكام وقد جاءت الشريعة بهذا التفضيل في جعل الذكر كالأنثيين في الشهادة والميراث والدية فكذلك ألحقت العقيقة بهذه الأحكام .

الثامن أن العقيقة تشبه العتق عن المولود فإنه رهين بعقيقته فالعقيقة تفكه وتعتقه وكان الأولى أن يعق عن الذكر بشاتين وعن الأنثى بشاة كما أن عتق الأنثيين يقوم مقام عتق الذكر . كما في " جامع الترمذي " وغيره عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما امرئ مسلم أعتق امرءا مسلما ، كان فكاكه من النار يجزي كل عضو منه عضوا منه وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزي كل عضو منهما عضوا منه وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار ، يجزي كل عضو منها عضوا منها وهذا حديث صحيح .

فصل

ذكر أبو داود في " المراسيل " عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهما ، أن ابعثوا إلى بيت القابلة برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظما .

فصل [ هل عق صلى الله عليه وسلم عن نفسه ؟ ]
وذكر ابن أيمن من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد أن جاءته النبوة وهذا الحديث قال أبو داود في " مسائله " : سمعت أحمد حدثهم بحديث الهيثم بن جميل ، عن عبد الله بن المثنى صلى الله عليه وسلم عن ثمامة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه فقال أحمد عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه قال مهنا قال أحمد هذا منكر وضعف عبد الله بن المحرر .



فصل [ الأذان في أذن المولود ]
ذكر أبو داود عن أبي رافع قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته أمه فاطمة رضي الله عنها بالصلاة .




فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تسمية المولود وختانه
قد تقدم قوله في حديث قتادة عن الحسن عن سمرة في العقيقة تذبح يوم سابعه ويسمى قال الميموني : تذاكرنا لكم يسمى الصبي ؟ قال لنا أبو عبد الله يروى عن أنس أنه يسمى لثلاثة وأما سمرة فقال يسمى في اليوم السابع .

فأما الختان فقال ابن عباس : كانوا لا يختنون الغلام حتى يدرك . قال الميموني : سمعت أحمد يقول كان الحسن يكره أن يختن الصبي يوم سابعه وقال حنبل إن أبا عبد الله قال وإن ختن يوم السابع فلا بأس وإنما كره الحسن ذلك لئلا يتشبه باليهود وليس في هذا شيء .

قال مكحول : ختن إبراهيم ابنه إسحاق لسبعة أيام وختن إسماعيل لثلاث عشرة سنة ذكره الخلال . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فصار ختان إسحاق سنة في ولده وختان إسماعيل سنة في ولده وقد تقدم الخلاف في ختان النبي صلى الله عليه وسلم متى كان ذلك .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله

وثبت عنه أنه قال أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة

وثبت عنه أنه قال لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثمت هو ؟ فلا يكون فيقال لا

وثبت عنه أنه غير اسم عاصية وقال أنت جميلة وكان اسم جويرية برة فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم جويرية . وقالت زينب بنت أم سلمة : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمى بهذا الاسم فقال لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم .

وغير اسم أصرم بزرعة وغير اسم أبي الحكم بأبي شريح وغير اسم حزن جد سعيد بن المسيب وجعله سهلا فأبى ، وقال " السهل يوطأ ويمتهن " .

قال أبو داود : وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب وشهاب ، فسماه هشاما ، وسمى حربا سلما ، وسمى المضطجع المنبعث وأرضا عفرة سماها خضرة ، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى ، وبنو الزنية سماهم بني الرشدة ، وسمى بني مغوية بني رشدة



فصل في فقه هذا الباب

[ اختيار الأسماء الحسنة لأن الأسماء قوالب للمعاني ]

لما كانت الأسماء قوالب للمعاني ، ودالة عليها ، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها ، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك والواقع يشهد بخلافه بل للأسماء تأثير في المسميات وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح والخفة والثقل واللطافة والكثافة كما قيل

وقلما أبصرت عيناك ذا لقب

إلا ومعناه إن فكرت في لقبه


وكان صلى الله عليه وسلم يستحب الاسم الحسن وأمر إذا أبردوا إليه بريدا أن يكون حسن الاسم حسن الوجه

وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة كما رأى أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع فأتوا برطب من رطب ابن طاب فأوله بأن لهم الرفعة في الدنيا ، والعاقبة في الآخرة وأن الدين الذي قد اختاره الله لهم قد أرطب وطاب وتأول سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجيء سهيل بن عمرو إليه

وندب جماعة إلى حلب شاة فقام رجل يحلبها ، فقال " ما اسمك ؟ " قال " مرة فقال اجلس فقام آخر فقال " ما اسمك ؟ " قال أظنه حرب فقال اجلس فقام آخر فقال " ما اسمك ؟ " فقال يعيش فقال " احلبها "

وكان يكره الأمكنة المنكرة الأسماء ويكره العبور فيها ، كما مر في بعض غزواته بين جبلين فسأل عن اسميهما فقالوا : فاضح ومخز ، فعدل عنهما ، ولم يجز بينهما .

ولما كان بين الأسماء والمسميات من الارتباط والتناسب والقرابة ما بين قوالب الأشياء وحقائقها ، وما بين الأرواح والأجسام عبر العقل من كل منهما إلى الآخر كما كان إياس بن معاوية وغيره يرى الشخص فيقول ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت فلا يكاد يخطئ وضد هذا العبور من الاسم إلى مسماه كما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا عن اسمه فقال جمرة فقال واسم أبيك ؟ قال شهاب ، قال ممن ؟ قال من الحرقة ، قال فمنزلك ؟ قال بحرة النار قال فأين مسكنك ؟ قال بذات لظى : قال اذهب فقد احترق مسكنك ، فذهب فوجد الأمر كذلك فعبر عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها ، كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم من اسم سهيل إلى سهولة أمرهم يوم الحديبية ، فكان الأمر كذلك

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتحسين أسمائهم وأخبر أنهم يدعون يوم القيامة بها ، وفي هذا - والله أعلم - تنبيه على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء لتكون الدعوة على رءوس الأشهاد بالاسم الحسن والوصف المناسب له .

وتأمل كيف اشتق للنبي صلى الله عليه وسلم من وصفه اسمان مطابقان لمعناه وهما أحمد ومحمد فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمد ولشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد فارتبط الاسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد وكذلك تكنيته صلى الله عليه وسلم لأبي الحكم بن هشام بأبي جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه وهو أحق الخلق بهذه الكنية ، وكذلك تكنية الله عز وجل لعبد العزى بأبي لهب لما كان مصيره إلى نار ذات لهب كانت هذه الكنية أليق به وأوفق وهو بها أحق وأخلق .

ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، واسمها يثرب لا تعرف بغير هذا الاسم غيره بطيبة لما زال عنها ما في لفظ يثرب من التثريب بما في معنى طيبة من الطيب استحقت هذا الاسم وازدادت به طيبا آخر فأثر طيبها في استحقاق الاسم وزادها طيبا إلى طيبها .

ولما كان الاسم الحسن يقتضي مسماه ويستدعيه من قرب قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده يا بني عبد الله إن الله قد حسن اسمكم واسم أبيكم فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بحسن اسم أبيهم وبما فيه من المعنى المقتضي للدعوة وتأمل أسماء الستة المتبارزين يوم بدر كيف اقتضى القدر مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ فكان الكفار شيبة وعتبة والوليد ثلاثة أسماء من الضعف فالوليد له بداية الضعف وشيبة له نهاية الضعف كما قال تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة [ الروم : 54 ] وعتبة من العتب فدلت أسماؤهم على عتب يحل بهم وضعف ينالهم وكان أقرانهم من المسلمين علي ، وعبيدة والحارث رضي الله عنهم ثلاثة أسماء تناسب أوصافهم وهي العلو ، والعبودية والسعي الذي هو الحرث فعلوا عليهم بعبوديتهم وسعيهم في حرث الآخرة .

ولما كان الاسم مقتضيا لمسماه ومؤثرا فيه كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه كعبد الله وعبد الرحمن وكان إضافة العبودية إلى اسم الله واسم الرحمن أحب إليه من إضافتها إلى غيرهما ، كالقاهر والقادر فعبد الرحمن أحب إليه من عبد القادر وعبد الله أحب إليه من عبد ربه وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة والتعلق الذي بين الله وبين العبد بالرحمة المحضة فبرحمته كان وجوده وكمال وجوده والغاية التي أوجده لأجلها أن يتأله له وحده محبة وخوفا ، ورجاء وإجلالا وتعظيما ، فيكون عبدا لله وقد عبده لما في اسم الله من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره ولما غلبت رحمته غضبه وكانت الرحمة أحب إليه من الغضب كان عبد الرحمن أحب إليه من عبد القاهر .

فصل

ولما كان كل عبد متحركا بالإرادة والهم مبدأ الإرادة ويترتب على إرادته حركته وكسبه كان أصدق الأسماء اسم همام واسم حارث إذ لا ينفك مسماهما عن حقيقة معناهما ، ولما كان الملك الحق لله وحده ولا ملك على الحقيقة سواه كان أخنع اسم وأوضعه عند الله وأغضبه له اسم " شاهان شاه " أي ملك الملوك وسلطان السلاطين فإن ذلك ليس لأحد غير الله فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل والله لا يحب الباطل .

وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا " قاضي القضاة " وقال ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين الذي إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون . ويلي هذا الاسم في الكراهة والقبح والكذب سيد الناس وسيد الكل وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره إنه سيد الناس وسيد الكل كما لا يجوز أن يقول إنه سيد ولد آدم .

فصل

ولما كان مسمى الحرب والمرة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها ، كان أقبح الأسماء حربا ومرة وعلى قياس هذا حنظلة وحزن وما أشبههما ، وما أجدر هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها ، كما أثر اسم " حزن " الحزونة في سعيد بن المسيب وأهل بيته


فصل [علة النهي عن التسمية بيسار وأفلح ونجيح ورباح ]
وأما النهي عن تسمية الغلام ب : يسار وأفلح ونجيح ورباح فهذا لمعنى آخر قد أشار إليه في الحديث وهو قوله فإنك تقول أثمت هو ؟ فيقال : لا - والله أعلم - هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع أو مدرجة من قول الصحابي وبكل حال فإن هذه الأسماء لما كانت قد توجب تطيرا تكرهه النفوس ويصدها عما هي بصدده كما إذا قلت لرجل أعندك يسار أو رباح أو أفلح ؟ قال لا ، تطيرت أنت وهو من ذلك ، وقد تقع الطيرة لا سيما على المتطيرين فقل من تطير إلا ووقعت به طيرته وأصابه طائره كما قيل

تعلم أنه لا طير إلا

على متطير فهو الثبور


اقتضت حكمة الشارع الرءوف بأمته الرحيم بهم أن يمنعهم من أسباب توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه وأن يعدل عنها إلى أسماء تحصل المقصود من غير مفسدة هذا أولى ، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه بأن يسمى يسارا من هو من أعسر الناس ونجيحا من لا نجاح عنده ورباحا من هو من الخاسرين فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى الله وأمر آخر أيضا وهو أن يطالب المسمى بمقتضى اسمه فلا يوجد عنده فيجعل ذلك سببا لذمه وسبه كما قيل

سموك من جهلهم سديدا

والله ما فيك من سداد

أنت الذي كونه فسادا

في عالم الكون والفساد


فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمى به . ولي من أبيات

وسميته صالحا فاغتدى

بضد اسمه في الورى سائرا

وظن بأن اسمه ساتر

لأوصافه فغدا شاهرا


وهذا كما أن من المدح ما يكون ذما وموجبا لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس فإنه يمدح بما ليس فيه فتطالبه النفوس بما مدح به وتظنه عنده فلا تجده كذلك فتنقلب ذما ، ولو ترك بغير مدح لم تحصل له هذه المفسدة ويشبه حاله حال من ولي ولاية سيئة ثم عزل عنها ، فإنه تنقص مرتبته عما كان عليه قبل الولاية وينقص في نفوس الناس عما كان عليه قبلها ، وفي هذا قال القائل

إذا ما وصفت امرءا لامرئ

فلا تغل في وصفه واقصد

فإنك إن تغل تغل الظنو

ن فيه إلى الأمد الأبعد

فينقص من حيث عظمته

لفضل المغيب عن المشهد


وأمر آخر وهو ظن المسمى واعتقاده في نفسه أنه كذلك فيقع في تزكية نفسه وتعظيمها وترفعها على غيره وهذا هو المعنى الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجله أن تسمى " برة " وقال لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم وعلى هذا فتكره التسمية ب : التقي والمتقي ، والمطيع والطائع والراضي ، والمحسن والمخلص والمنيب والرشيد والسديد . وأما تسمية الكفار بذلك فلا يجوز التمكين منه ولا دعاؤهم بشيء من هذه الأسماء ولا الإخبار عنهم بها ، والله عز وجل يغضب من تسميتهم بذلك .




فصل [ الكنية ]
وأما الكنية فهي نوع تكريم للمكنى وتنويه به كما قال الشاعر

أكنيه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقبه والسوأة اللقب


وكنى النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا بأبي يحيى ، وكنى عليا رضي الله عنه بأبي تراب إلى كنيته بأبي الحسن وكانت أحب كنيته إليه وكنى أخا أنس بن مالك وكان صغيرا دون البلوغ بأبي عمير

[ حكم التكني بأبي القاسم ]

وكان هديه صلى الله عليه وسلم تكنية من له ولد ومن لا ولد له ولم يثبت عنه أنه نهى عن كنية إلا الكنية بأبي القاسم فصح عنه أنه قال تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فاختلف الناس في ذلك على أربعة أقوال .

أحدها : أنه لا يجوز التكني بكنيته مطلقا ، سواء أفردها عن اسمه أو قرنها به وسواء محياه وبعد مماته وعمدتهم عموم هذا الحديث الصحيح وإطلاقه وحكى البيهقي ذلك عن الشافعي ، قالوا : لأن النهي إنما كان لأن معنى هذه الكنية والتسمية مختصة به صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك بقوله والله لا أعطي أحدا ، ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت قالوا : ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره . واختلف هؤلاء في جواز تسمية المولود بقاسم فأجازه طائفة ومنعه آخرون والمجيزون نظروا إلى أن العلة عدم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم فيما اختص به من الكنية وهذا غير موجود في الاسم والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذي نهى عنه في الكنية موجود مثله هنا في الاسم سواء أو هو أولى بالمنع قالوا : وفي قوله إنما أنا قاسم إشعار بهذا الاختصاص .

القول الثاني : أن النهي إنما هو عن الجمع بين اسمه وكنيته فإذا أفرد أحدهما عن الآخر فلا بأس . قال أبو داود باب من رأى أن لا يجمع بينهما ، ثم ذكر حديث أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تسمى باسمي فلا يتكن بكنيتي ، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسم باسمي ورواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقد رواه الترمذي أيضا من حديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة وقال حسن صحيح ولفظه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع أحد بين اسمه وكنيته ويسمي محمدا أبا القاسم قال أصحاب هذا القول فهذا مقيد مفسر لما في " الصحيحين " من نهيه عن التكني بكنيته قالوا : ولأن في الجمع بينهما مشاركة في الاختصاص بالاسم والكنية فإذا أفرد أحدهما عن الآخر زال الاختصاص .

القول الثالث جواز الجمع بينهما وهو المنقول عن مالك ، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه أبو داود والترمذي من حديث محمد بن الحنفية ، عن علي رضي الله عنه قال قلت : يا رسول الله إن ولد لي ولد من بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك ؟ قال " نعم " قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وفي " سنن أبي داود " عن عائشة قالت جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني ولدت غلاما فسميته محمدا وكنيته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك ؟ فقال ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي أو " ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي قال هؤلاء وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين .

القول الرابع إن التكني بأبي القاسم كان ممنوعا منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو جائز بعد وفاته قالوا : وسبب النهي إنما كان مختصا بحياته فإنه قد ثبت في " الصحيح " من حديث أنس قال نادى رجل بالبقيع : يا أبا القاسم فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني لم أعنك إنما دعوت فلانا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي قالوا : وحديث علي فيه إشارة إلى ذلك بقوله إن ولد لي من بعدك ولد ولم يسأله عمن يولد له في حياته ولكن قال علي رضي الله عنه في هذا الحديث " وكانت رخصة لي " وقد شذ من لا يؤبه لقوله فمنع التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم قياسا على النهي عن التكني بكنيته والصواب أن التسمي باسمه جائز والتكني بكنيته ممنوع منه والمنع في حياته أشد ، والجمع بينهما ممنوع منه وحديث عائشة غريب لا يعارض بمثله الحديث الصحيح وحديث علي رضي الله عنه في صحته نظر والترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح وقد قال علي : إنها رخصة له وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه والله أعلم .




فصل [ التكني بأبي عيسى ]
وقد كره قوم من السلف والخلف الكنية بأبي عيسى ، وأجازها آخرون فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب ابنا له يكنى أبا عيسى ، وأن المغيرة بن شعبة تكنى بأبي عيسى ، فقال له عمر أما يكفيك أن تكنى بأبي عبد الله ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني ، فقال إن رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنا لفي جلجتنا فلم يزل يكنى بأبي عبد الله حتى هلك

[ كنى أمهات المؤمنين ]

وقد كنى عائشة بأم عبد الله وكان لنسائه أيضا كنى كأم حبيبة وأم سلمة .


فصل [ النهي عن تسمية العنب كرما ]
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب كرما وقال الكرم قلب المؤمن وهذا لأن هذه اللفظة تدل على كثرة الخير والمنافع في المسمى بها ، وقلب المؤمن هو المستحق لذلك دون شجرة العنب ولكن هل المراد النهي عن تخصيص شجرة العنب بهذا الاسم وأن قلب المؤمن أولى به منه فلا يمنع من تسميته بالكرم كما قال في " المسكين " و " الرقوب " و " المفلس " أو المراد أن تسميته بهذا مع اتخاذ الخمر المحرم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيث المحرم وذلك ذريعة إلى مدح ما حرم الله وتهييج النفوس إليه ؟ هذا محتمل والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم والأولى أن لا يسمى شجر العنب كرما .



فصل [ هل تجوز تسمية صلاة العشاء بصلاة العتمة ]
[ محافظته صلى الله عليه وسلم على الأسماء التي سمى الله بها العبادات ]

قال صلى الله عليه وسلم لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا وإنها العشاء وإنهم يسمونها العتمة وصح عنه أنه قال لو يعلمون ما في العتمة والصبح ، لأتوهما ولو حبوا فقيل هذا ناسخ للمنع وقيل بالعكس والصواب خلاف القولين فإن العلم بالتاريخ متعذر ولا تعارض بين الحديثين فإنه لم ينه عن إطلاق اسم العتمة بالكلية وإنما نهى عن أن يجهر اسم العشاء وهو الاسم الذي سماها الله به في كتابه ويغلب عليها اسم العتمة فإذا سميت العشاء وأطلق عليها أحيانا العتمة فلا بأس والله أعلم

وهذا محافظة منه صلى الله عليه وسلم على الأسماء التي سمى الله بها العبادات فلا تهجر ويؤثر عليها غيرها ، كما فعله المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص وإيثار المصطلحات الحادثة عليها ، ونشأ بسبب هذا من الجهل والفساد ما الله به عليم وهذا كما كان يحافظ على تقديم ما قدمه الله وتأخير ما أخره كما بدأ بالصفا ، وقال أبدأ بما بدأ الله به وبدأ في العيد بالصلاة ثم جعل النحر بعدها ، وأخبر أن من ذبح قبلها ، فلا نسك له تقديما لما بدأ الله به في قوله فصل لربك وانحر وبدأ في أعضاء الوضوء بالوجه ثم اليدين ثم الرأس ثم الرجلين تقديما لما قدمه الله وتأخيرا لما أخره وتوسيطا لما وسطه وقدم زكاة الفطر على صلاة العيد تقديما لما قدمه في قوله قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ الأعلى : 13 ] ونظائره كثيرة .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ
كان يتخير في خطابه ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأجملها ، وألطفها ، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش فلم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا ولا فظا .

وكان يكره أن يستعمل اللفظ الشريف المصون في حق من ليس كذلك وأن يستعمل اللفظ المهين المكروه في حق من ليس من أهله .

[ كراهة استعمال اللفظ الشريف في حق من ليس كذلك ]

فمن الأول منعه أن يقال للمنافق " يا سيدنا " وقال فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل ومنعه أن تسمى شجرة العنب كرما ، ومنعه تسمية أبي جهل بأبي الحكم وكذلك تغييره لاسم أبي الحكم من الصحابة بأبي شريح وقال إن الله هو الحكم وإليه الحكم

ومن ذلك نهيه للمملوك أن يقول لسيده أو لسيدته ربي وربتي ، وللسيد أن يقول لمملوكه عبدي ، ولكن يقول المالك فتاي وفتاتي ، ويقول المملوك سيدي وسيدتي ، وقال لمن ادعى أنه طبيب أنت رجل رفيق ، وطبيبها الذي خلقها والجاهلون يسمون الكافر الذي له علم بشيء من الطبيعة حكيما ، وهو من أسفه الخلق .

ومن هذا قوله للخطيب الذي قال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى بئس الخطيب أنت

ومن ذلك قوله لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم ما شاء فلان وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال : أجعلتني لله ندا ؟ قل ما شاء الله وحده

وفي معنى هذا الشرك المنهي عنه قول من لا يتوقى الشرك أنا بالله وبك وأنا في حسب الله وحسبك وما لي إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ، وهذا من الله ومنك ، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض ووالله وحياتك ، وأمثال هذا من الألفاظ التي يجعل فيها قائلها المخلوق ندا للخالق وهي أشد منعا وقبحا من قوله ما شاء الله وشئت .

فأما إذا قال أنا بالله ثم بك ، وما شاء الله ثم شئت ، فلا بأس بذلك كما في حديث الثلاثة لا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك وكما في الحديث المتقدم الإذن أن يقال ما شاء الله ثم شاء فلان .


فصل [ كراهة إطلاق ألفاظ الذم على من ليس من أهلها ]
وأما القسم الثاني وهو أن تطلق ألفاظ الذم على من ليس من أهلها ، فمثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن سب الدهر وقال إن الله هو الدهر وفي حديث آخر يقول الله عز وجل يؤذيني ابن آدم فيسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وفي حديث آخر لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر

في هذا ثلاث مفاسد عظيمة .

إحداها : سبه من ليس بأهل أن يسب فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله منقاد لأمره مذلل لتسخيره فسابه أولى بالذم والسب منه .

الثانية أن سبه متضمن للشرك فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق الضرر وأعطى من لا يستحق العطاء ورفع من لا يستحق الرفعة وحرم من لا يستحق الحرمان وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جدا . وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه .

الثالثة أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السماوات والأرض وإذا وقعت أهواؤهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه . وفي حقيقة الأمر فرب الدهر تعالى هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل ، والدهر ليس له من الأمر شيء فمسبتهم للدهر مسبة لله عز وجل ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى ، كما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما . إما سبه لله أو الشرك به فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسب من فعله فقد سب الله .

ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يكون مثل البيت فيقول بقوتي صرعته ولكن ليقل بسم الله فإنه يتصاغر حتى يكون مثل الذباب

وفي حديث آخر إن العبد إذا لعن الشيطان يقول : إنك لتلعن ملعنا

ومثل هذا قول القائل أخزى الله الشيطان وقبح الله الشيطان فإن ذلك كله يفرحه ويقول علم ابن آدم أني قد نلته بقوتي ، وذلك مما يعينه على إغوائه ولا يفيده شيئا ، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من مسه شيء من الشيطان أن يذكر الله تعالى ، ويذكر اسمه ويستعيذ بالله منه فإن ذلك أنفع له وأغيظ للشيطان .

فصل

من ذلك " نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل خبثت نفسي ، ولكن ليقل لقست نفسي " ومعناهما واحد أي غثت نفسي ، وساء خلقها ، فكره لهم لفظ الخبث لما فيه من القبح والشناعة وأرشدهم إلى استعمال الحسن وهجران القبيح وإبدال اللفظ المكروه بأحسن منه .

[ النهي عن قول القائل بعد فوات الأوان " لو أني فعلت كذا ] "
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فوات الأمر لو أني فعلت كذا وكذا ، وقال إن لو تفتح عمل الشيطان وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة وهو أن يقول قدر الله وما شاء فعل وذلك لأن قوله لو كنت فعلت كذا وكذا ، لم يفتني ما فاتني ، أو لم أقع فيما وقعت فيه كلام لا يجدي عليه فائدة البتة فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره وغير مستقيل عثرته ب " لو " وفي ضمن " لو " ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه فإن ما وقع مما يتمنى خلافه إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته فإذا قال لو أني فعلت كذا ، لكان خلاف ما وقع فهو محال إذ خلاف المقدر المقضي محال فقد تضمن كلامه كذبا وجهلا ومحالا ، وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله لو أني فعلت كذا ، لدفعت ما قدر الله علي .

فإن قيل ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر فهو يقول لو وقفت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر فإن القدر يدفع بعضه ببعض كما يدفع قدر المرض بالدواء وقدر الذنوب بالتوبة وقدر العدو بالجهاد فكلاهما من القدر .

قيل هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله لو كنت فعلته ، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف أثر ما وقع ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه فإنه عجز محض والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به

والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده فهذه تفتح عمل الخير وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأماني الباطلة بقوله لو كان كذا وكذا ، ولو فعلت كذا ، يفتح عليه عمل الشيطان فإن بابه العجز والكسل ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منهما ، وهما مفتاح كل شر ويصدر عنهما الهم ، والحزن والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فمصدرها كلها عن العجز والكسل وعنوانها " لو " فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فإن " لو " تفتح عمل الشيطان فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم فإن التمني رأس أموال المفاليس والعجز مفتاح كل شر .

وأصل المعاصي كلها العجز فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي ، وتحول بينه وبينها ، فيقع في المعاصي ، فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره وهو مشتمل على ثماني خصال كل خصلتين منها قرينتان فقال أعوذ بك من الهم والحزن وهما قرينان فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين فإنه إما أن يكون سببه أمرا ماضيا ، فهو يحدث الحزن وإما أن يكون توقع أمر مستقبل فهو يحدث الهم وكلاهما من العجز فإن ما مضى لا يدفع بالحزن بل بالرضى ، والحمد والصبر والإيمان بالقدر وقول العبد قدر الله وما شاء فعل .

وما يستقبل لا يدفع أيضا بالهم بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه فلا يجزع منه ويلبس له لباسه ويأخذ له عدته ويتأهب له أهبته اللائقة به ويستجن بجنة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى ، والاستسلام له والرضى به ربا في كل شيء ولا يرضى به ربا فيما يحب دون ما يكره فإذا كان هكذا ، لم يرض به ربا على الإطلاق فلا يرضاه الرب له عبدا على الإطلاق فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة بل مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ويوهنان القلب ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه ويقطعان عليه طريق السير أو ينكسانه إلى وراء أو يعوقانه ويقفانه أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه وجد في سيره فهما حمل ثقيل على ظهر السائر بل إن عاقه الهم والحزن عن شهواته وإراداته التي تضره في معاشه ومعاده انتفع به من هذا الوجه

وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه الفارغة من محبته وخوفه ورجائه والإنابة إليه والتوكل عليه والأنس به والفرار إليه والانقطاع إليه ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار وإن أريد بها الخير كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله والأنس به

وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره هو المستولي على القلب الغالب عليه الذي متى فقده فقد قوته الذي لا قوام له إلا به ولا بقاء له بدونه ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام التي هي أعظم أمراضه وأفسدها له إلا بذلك ولا بلاغ إلا بالله وحده فإنه لا يوصل إليه إلا هو ولا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يصرف السيئات إلا هو ولا يدل عليه إلا هو وإذا أراد عبده لأمر هيأه له فمنه الإيجاد ومنه الإعدام ومنه الإمداد وإذا أقامه في مقام أي مقام كان فبحمده أقامه فيه وبحكمته أقامه فيه ولا يليق به غيره ولا يصلح له سواه ولا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع ولا يمنع عبده حقا هو للعبد فيكون بمنعه ظالما له بل إنما منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعبده وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه ويعطي فقره إليه حقه بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه على تعاقب الأنفاس وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده العبد فلم يمنع الرب عبده ما العبد محتاج إليه بخلا منه ولا نقصا من خزائنه ولا استئثارا عليه بما هو حق للعبد بل منعه ليرده إليه وليعزه بالتذلل له وليغنيه بالافتقار إليه وليجبره بالانكسار بين يديه وليذيقه بمرارة المنع حلاوة الخضوع له ولذة الفقر إليه وليلبسه خلعة العبودية ويوليه بعزله أشرف الولايات وليشهده حكمته في قدرته ورحمته في عزته وبره ولطفه في قهره .

وأن منعه عطاء وعزله تولية . وعقوبته تأديب وامتحانه محبة وعطية وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه به إليه .

وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ولا يحسن أن يتخطاه والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه وفضله و الله أعلم حيث يجعل رسالته وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين [ الأنعام 53 ] فهو سبحانه أعلم بمواقع الفضل ومحال التخصيص ومحال الحرمان فبحمده وحكمته أعطى ، وبحمده وحكمته حرم فمن رده المنع إلى الافتقار إليه والتذلل له وتملقه انقلب المنع في حقه عطاء ومن شغله عطاؤه وقطعه عنه انقلب العطاء في حقه منعا ، فكل ما شغل العبد عن الله فهو مشئوم عليه

وكل ما رده إليه فهو رحمة به والرب تعالى يريد من عبده أن يفعل ولا يقع الفعل حتى يريد سبحانه من نفسه أن يعينه فهو سبحانه أراد منا الاستقامة دائما ، واتخاذ السبيل إليه وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا عليها ومشيئته لنا ، فهما إرادتان إرادة من عبده أن يفعل وإرادة من نفسه أن يعينه ولا سبيل له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة ولا يملك منها شيئا ، كما قال تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ التكوير 29 ] فإن كان مع العبد روح أخرى ، نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى بدنه يستدعي بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلا ، وإلا فمحله غير قابل للعطاء وليس معه إناء يوضع فيه العطاء فمن جاء بغير إناء رجع بالحرمان ولا يلومن إلا نفسه .

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الهم والحزن وهما قرينان ومن العجز والكسل وهما قرينان فإن تخلف كمال العبد وصلاحه عنه إما أن يكون لعدم قدرته عليه فهو عجز أو يكون قادرا عليه لكن لا يريد فهو كسل وينشأ عن هاتين الصفتين فوات كل خير وحصول كل شر ومن ذلك الشر تعطيله عن النفع ببدنه وهو الجبن وعن النفع بماله وهو البخل ثم ينشأ له بذلك غلبتان . غلبة بحق وهي غلبة الدين وغلبة بباطل وهي غلبة الرجال وكل هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل

ومن هذا قوله في الحديث الصحيح للرجل الذي قضى عليه فقال حسبي الله ونعم الوكيل فقال : إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل فهذا قال حسبي الله ونعم الوكيل بعد عجزه عن الكيس الذي لو قام به لقضي له على خصمه فلو فعل الأسباب التي يكون بها كيسا ، ثم غلب فقال حسبي الله ونعم الوكيل لكانت الكلمة قد وقعت موقعها ، كما أن إبراهيم الخليل ، لما فعل الأسباب المأمور بها ، ولم يعجز بتركها ، ولا بترك شيء منها ، ثم غلبه عدوه وألقوه في النار قال في تلك الحال حسبي الله ونعم الوكيل فوقعت الكلمة موقعها ، واستقرت في مظانها ، فأثرت أثرها ، وترتب عليها مقتضاها .

[ التوكل ]

وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم أحد لما قيل لهم بعد انصرافهم من أحد : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فتجهزوا وخرجوا للقاء عدوهم وأعطوهم الكيس من نفوسهم ثم قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل فأثرت الكلمة أثرها ، واقتضت موجبها ، ولهذا قال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق 2 ] فجعل التوكل بعد التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها ، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه وكما قال في موضع آخر واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ المائدة 11 ] فالتوكل والحسب بدون قيام الأسباب المأمور بها عجز محض فإن كان مشوبا بنوع من التوكل فهو توكل عجز فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ، ولا يجعل عجزه توكلا ، بل يجعل توكله من جملة الأسباب المأمور بها التي لا يتم المقصود إلا بها كلها .

ومن هاهنا غلط طائفتان من الناس إحداهما : زعمت أن التوكل وحده سبب مستقل كاف في حصول المراد فعطلت له الأسباب التي اقتضتها حكمة الله الموصلة إلى مسبباتها ، فوقعوا في نوع تفريط وعجز بحسب ما عطلوا من الأسباب وضعف توكلهم من حيث ظنوا قوته بانفراده عن الأسباب فجمعوا الهم كله وصيروه هما واحدا ، وهذا وإن كان فيه قوة من هذا الوجه ففيه ضعف من جهة أخرى ، فكلما قوي جانب التوكل بإفراده أضعفه التفريط في السبب الذي هو محل التوكل فإن التوكل محله الأسباب وكماله بالتوكل على الله فيها ، وهذا كتوكل الحراث الذي شق الأرض وألقى فيها البذر فتوكل على الله في زرعه وإنباته فهذا قد أعطى التوكل حقه ولم يضعف توكله بتعطيل الأرض وتخليتها بورا ، وكذلك توكل المسافر في قطع المسافة مع جده في السير وتوكل الأكياس من النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه مع اجتهادهم في طاعته فهذا هو التوكل الذي يترتب عليه أثره ويكون الله حسب من قام به .

وأما توكل العجز والتفريط فلا يترتب عليه أثره وليس الله حسب صاحبه فإن الله إنما يكون حسب المتوكل عليه إذا اتقاه وتقواه فعل الأسباب المأمور بها ، لا إضاعتها .

والطائفة الثانية التي قامت بالأسباب ورأت ارتباط المسببات بها شرعا وقدرا ، وأعرضت عن جانب التوكل وهذه الطائفة وإن نالت بما فعلته من الأسباب ما نالته فليس لها قوة أصحاب التوكل ولا عون الله لهم وكفايته إياهم ودفاعه عنهم بل هي مخذولة عاجزة بحسب ما فاتها من التوكل .

فالقوة كل القوة في التوكل على الله كما قال بعض السلف من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله فالقوة مضمونة للمتوكل والكفاية والحسب والدفع عنه وإنما ينقص عليه من ذلك بقدر ما ينقص من التقوى والتوكل وإلا فمع تحققه بهما لا بد أن يجعل الله له مخرجا من كل ما ضاق على الناس ويكون الله حسبه وكافيه .

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد العبد إلى ما فيه غاية كماله ونيل مطلوبه أن يحرص على ما ينفعه ويبذل فيه جهده وحينئذ ينفعه التحسب وقول حسبي الله ونعم الوكيل بخلاف من عجز وفرط حتى فاتته مصلحته ثم قال حسبي الله ونعم الوكيل فإن الله يلومه ولا يكون في هذا الحال حسبه ، فإنما هو حسب من اتقاه وتوكل عليه .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكرا منه له وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه وفي مشيه وركوبه ومسيره ونزوله وظعنه وإقامته .

وكان إذا استيقظ قال الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور

[ الذكر عند الاستيقاظ من الليل ]

وقالت عائشة كان إذا هب من الليل كبر الله عشرا ، وحمد الله عشرا ، وقال سبحان الله وبحمده عشرا ، سبحان الملك القدوس عشرا ، واستغفر الله عشرا ، وهلل عشرا ثم قال اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا ، وضيق يوم القيامة عشرا ، ثم يستفتح الصلاة .

وقالت أيضا : كان إذا استيقظ من الليل قال لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ذكرهما أبو داود .

وأخبر أن من استيقظ من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله [ العلي العظيم ] ثم قال " اللهم اغفر لي أو دعا بدعاء آخر استجيب له فإن توضأ وصلى ، قبلت صلاته ذكره البخاري .

وقال ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم ليلة مبيته عنده إنه لما استيقظ رفع رأسه إلى السماء وقرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة ( آل عمران ) إن في خلق السماوات والأرض . .. إلى آخرها . ثم قال اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي ، لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

وقد قالت عائشة كان إذا قام من الليل قال ا للهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ربما قالت كان يفتتح صلاته بذلك .

وكان إذا أوتر ختم وتره بعد فراغه بقوله سبحان الملك القدوس ثلاثا ، ويمد بالثالثة صوته .

[ الذكر عند الخروج من البيت ]

وكان إذا خرج من بيته يقول بسم الله توكلت على الله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي حديث صحيح .

وقال صلى الله عليه وسلم من قال إذا خرج من بيته : بسم الله توكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان حديث حسن .

وقال ابن عباس عنه ليلة مبيته عنده إنه خرج إلى صلاة الفجر وهو يقول اللهم اجعل في قلبي نورا ، واجعل في لساني نورا ، واجعل في سمعي نورا ، واجعل في بصري نورا ، واجعل من خلفي نورا ، ومن أمامي نورا ، واجعل من فوقي نورا ، واجعل من تحتي نورا ، اللهم أعظم لي نورا

وقال فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ، ولا رياء ولا سمعة وإنما خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت إلا وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته

[ دعاء دخول المسجد]

وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم

وقال صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك فإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك ذكر عنه أنه كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وآله وسلم ثم يقول اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، فإذا خرج صلى على محمد وآله وسلم ثم يقول اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك

وكان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل .



[ أدعية الصباح والمساء ]
وكان يقول إذا أصبح اللهم بك أصبحنا ، وبك أمسينا ، وبك نحيا ، وبك نموت وإليك النشور حديث صحيح .

وكان يقول أصبحنا وأصبح الملك لله . والحمد لله ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر وإذا أمسى قال : أمسينا وأمسى الملك لله . .. إلى آخره . ذكره مسلم .

وقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت قال قل اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه ومالكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم قال قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك حديث صحيح .

وقال صلى الله عليه وسلم ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات إلا لم يضره شيء حديث صحيح .

وقال من قال حين يصبح وحين يمسي : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، كان حقا على الله أن يرضيه صححه الترمذي والحاكم .

وقال من قال حين يصبح وحين يمسي : اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت " وأن محمدا عبدك ورسولك أعتق الله ربعه من النار وإن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار وإن قالها ثلاثا ، أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار وإن قالها أربعا ، أعتقه الله من النار حديث حسن .

وقال من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك لك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر يومه ومن قال مثل ذلك حين يمسي ، فقد أدى شكر ليلته حديث حسن .

وكان يدعو حين يصبح وحين يمسي بهذه الدعوات اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن روعاتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي صححه الحاكم .

وقال إذا أصبح أحدكم فليقل أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه ونصره ونوره وبركته وهدايته وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده ثم إذا أمسى ، فليقل مثل ذلك حديث حسن .

وذكر أبو داود عنه أنه قال لبعض بناته قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ، فإنه من قالهن حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهن حين يمسي حفظ حتى يصبح

وقال لرجل من الأنصار : ألا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك ؟ قلت بلى يا رسول الله قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال قال فقلتهن فأذهب الله همي ، وقضى عني ديني

وكان إذا أصبح قال أصبحنا على فطرة الإسلام ، وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين

[ الرسول مرسل إلى نفسه وأمته ]

هكذا في الحديث ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقد استشكله بعضهم وله حكم نظائره كقوله في الخطب والتشهد في الصلاة أشهد أن محمدا رسول الله فإنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالإيمان بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه ووجوب ذلك عليه أعظم من وجوبه على المرسل إليهم فهو نبي إلى نفسه وإلى الأمة التي هو منهم وهو رسول الله إلى نفسه وإلى أمته .

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة ابنته ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به : أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حي ، يا قيوم بك أستغيث فأصلح لي شأني ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل شكا إليه إصابة الآفات قل إذا أصبحت بسم الله على نفسي ، وأهلي ومالي ، فإنه لا يذهب عليك شيء

ويذكر عنه أنه كان إذا أصبح قال اللهم إني أسألك علما نافعا ، ورزقا طيبا ، وعملا متقبلا

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا قال حين يصبح ثلاث مرات اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر فأتمم علي نعمتك وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة وإذا أمسى ، قال ذلك ، كان حقا على الله أن يتم عليه

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه من قال هذه الكلمات في أول نهاره ، لم تصبه مصيبة حتى يمسي ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح " اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ، وشر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم وقد قيل لأبي الدرداء قد احترق بيتك فقال ما احترق ولم يكن الله عز وجل ليفعل لكلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرها .

وقال سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها حين يصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها حين يمسي موقنا بها ، فمات من ليلته دخل الجنة

ومن قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه " . وقال " من قال حين يصبح عشر مرات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله بها عشر حسنات ومحا عنه بها عشر سيئات وكانت كعدل عشر رقاب وأجاره الله يومه من الشيطان الرجيم وإذا أمسى فمثل ذلك حتى يصبح

وقال من قال حين يصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه

وفي " المسند " وغيره أنه صلى الله عليه وسلم علم زيد بن ثابت ، وأمره أن يتعاهد به أهله في كل صباح لبيك اللهم لبيك لبيك وسعديك ، والخير في يديك ومنك وبك وإليك اللهم ما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بك إنك على كل شيء قدير اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ، وأشهدك - وكفى بك شهيدا - بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك وأشهد أن وعدك حق ، ولقاءك حق ، والساعة حق آتية لا ريب فيها ، وأنك تبعث من في القبور وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لي ذنوبي كلها إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وتب علي إنك أنت التواب الرحيم



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر عند لبس الثوب ونحوه
كان صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا ، أو رداء ثم يقول اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه ، أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له حديث صحيح .

ويذكر عنه أنه قال من لبس ثوبا فقال : " الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر الله له ما تقدم من ذنبه

وفي " جامع الترمذي " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من لبس ثوبا جديدا فقال " الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي ، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في حفظ الله وفي كنف الله وفي سبيل الله حيا وميتا

وصح عنه أنه قال لأم خالد لما ألبسها الثوب الجديد أبلي وأخلقي ، ثم أبلي وأخلقي مرتين

وفي " سنن ابن ماجه " أنه صلى الله عليه وسلم رأى على عمر ثوبا فقال أجديد هذا ،أم غسيل ؟ فقال بل غسيل فقال " البس جديدا ، وعش حميدا ، ومت شهيدا




فصل في هديه صلى الله عليه وسلم عند دخوله إلى منزله
لم يكن صلى الله عليه وسلم ليفجأ أهله بغتة يتخونهم ولكن كان يدخل على أهله على علم منهم بدخوله وكان يسلم عليهم وكان إذا دخل بدأ بالسؤال أو سأل عنهم وربما قال هل عندكم من غداء ؟ وربما سكت حتى يحضر بين يديه ما تيسر .

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا انقلب إلى بيته الحمد لله الذي كفاني ، وآواني ، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني ، والحمد لله الذي من علي فأفضل أسألك أن تجيرني من النار

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأنس إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهلك قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وفي " السنن " عنه صلى الله عليه وسلم إذا ولج الرجل بيته فليقل : اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا ، وعلى الله ربنا توكلنا ، ثم ليسلم على أهله

وفيها عنه صلى الله عليه وسلم ثلاثة كلهم ضامن على الله رجل خرج غازيا في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله حديث صحيح .

وصح عنه صلى الله عليه وسلم إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء ذكره مسلم .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر عند دخوله الخلاء
ثبت عنه في " الصحيحين " أنه كان يقول عند دخوله الخلاء اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث .

وذكر أحمد عنه أنه أمر من دخل الخلاء أن يقول ذلك . ويذكر عنه لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم .

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم قال ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الكنيف أن يقول بسم الله .

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلا سلم عليه وهو يبول فلم يرد عليه .

وأخبر أن الله سبحانه يمقت الحديث على الغائط فقال لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عوراتهما يتحدثان فإن الله عز وجل يمقت على ذلك .

[ النهي عن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط ]

وقد تقدم أنه كان لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول ولا بغائط وأنه نهى عن ذلك في حديث أبي أيوب وسلمان الفارسي ، وأبي هريرة ، ومعقل بن أبي معقل ، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنه وعامة هذه الأحاديث صحيحة وسائرها حسن والمعارض لها إما معلول السند وإما ضعيف الدلالة فلا يرد صريح نهيه المستفيض عنه بذلك كحديث عراك عن عائشة ، ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أوقد فعلوها حولوا مقعدتي قبل القبلة رواه الإمام أحمد .

وقال هو أحسن ما روي في الرخصة وإن كان مرسلا ، ولكن هذا الحديث قد طعن فيه البخاري وغيره من أئمة الحديث ولم يثبتوه ولا يقتضي كلام الإمام أحمد تثبيته ولا تحسينه قال الترمذي في كتاب " العلل الكبير " له سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال هذا حديث فيه اضطراب والصحيح عندي عن عائشة من قولها انتهى .

قلت : وله علة أخرى ، وهي انقطاعه بين عراك وعائشة ، فإنه لم يسمع منها ، وقد رواه عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن رجل عن عائشة ، وله علة أخرى ، وهي ضعف خالد بن أبي الصلت .

ومن ذلك حديث جابر : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها وهذا الحديث استغربه الترمذي بعد تحسينه وقال الترمذي في كتاب " العلل " : سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال هذا حديث صحيح رواه غير واحد عن ابن إسحاق ، فإن كان مراد البخاري صحته عن ابن إسحاق ، لم يدل على صحته في نفسه وإن كان مراده صحته في نفسه فهي واقعة عين حكمها حكم حديث ابن عمر لما رأى " رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر الكعبة " ، وهذا يحتمل وجوها ستة نسخ لمكان أو غيره وأن يكون بيانا ، لأن النهي ليس على التحريم ولا سبيل إلى الجزم بواحد من هذه الوجوه على التعيين وإن كان حديث جابر لا يحتمل الوجه الثاني منها ، فلا سبيل إلى ترك أحاديث النهي الصحيحة الصريحة المستفيضة بهذا المحتمل .

وقول ابن عمر : إنما نهي عن ذلك في الصحراء فهم منه لاختصاص النهي بها ، وليس بحكاية لفظ النهي وهو معارض بفهم أبي أيوب للعموم مع سلامة قول أصحاب العموم من التناقض الذي يلزم المفرقين بين الفضاء والبنيان فإنه يقال لهم ما حد الحاجز الذي يجوز ذلك معه في البنيان ؟ ولا سبيل إلى ذكر حد فاصل وإن جعلوا مطلق البنيان مجوزا لذلك لزمهم جوازه في الفضاء الذي يحول بين البائل وبينه جبل قريب أو بعيد كنظيره في البنيان وأيضا فإن النهي تكريم لجهة القبلة وذلك لا يختلف بفضاء ولا بنيان وليس مختصا بنفس البيت فكم من جبل وأكمة حائل بين البائل وبين البيت بمثل ما تحول جدران البنيان وأعظم وأما جهة القبلة فلا حائل بين البائل وبينها ، وعلى الجهة وقع النهي لا على البيت نفسه فتأمله .



فصل [ دعاء الخروج من الخلاء ]
وكان إذا خرج من الخلاء قال غفرانك ويذكر عنه أنه كان يقول الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ، وعافاني ذكره ابن ماجه .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار الوضوء
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه وضع يديه في الإناء الذي فيه الماء ثم قال للصحابة توضئوا بسم الله

وثبت عنه أنه قال لجابر رضي الله عنه ناد بوضوء " فجيء بالماء فقال " خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله " قال فصببت عليه وقلت بسم الله قال فرأيت الماء يفور من بين أصابعه

وذكر أحمد عنه من حديث أبي هريرة ، وسعيد بن زيد ، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه وفي أسانيدها لين .

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من أسبغ الوضوء ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ذكره مسلم .

وزاد الترمذي بعد التشهد اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين وزاد الإمام أحمد : ثم رفع نظره إلى السماء وزاد ابن ماجه مع أحمد قول ذلك ثلاث مرات .

وذكر بقي بن مخلد في " مسنده " من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا من توضأ ففرغ من وضوئه ، ثم قال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق وطبع عليها بطابع ثم رفعت تحت العرش فلم يكسر إلى يوم القيامة ورواه النسائي في " كتابه الكبير " من كلام أبي سعيد الخدري وقال النسائي : باب ما يقول بعد فراغه من وضوئه فذكر بعض ما تقدم .

ثم ذكر بإسناد صحيح من حديث أبي موسى الأشعري قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فسمعته يقول ويدعو : اللهم اغفر لي ذنبي ، ووسع لي في داري ، وبارك لي في رزقي فقلت يا نبي الله سمعتك تدعو بكذا وكذا ، قال " وهل تركت من شيء ؟ وقال ابن السني : باب ما يقول بين ظهراني وضوئه . .. فذكره .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأذان وأذكاره
[ هديه صلى الله عليه وسلم في الأذان ]

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سن التأذين بترجيع وبغير ترجيع وشرع الإقامة مثنى وفرادى ، ولكن الذي صح عنه تثنية كلمة الإقامة " قد قامت الصلاة " ولم يصح عنه إفرادها البتة وكذلك صح عنه تكرار لفظ التكبير في أول الأذان أربعا ، ولم يصح عنه الاقتصار على مرتين وأما حديث أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة فلا ينافي الشفع بأربع وقد صح التربيع صريحا في حديث عبد الله بن زيد ، وعمر بن الخطاب ، وأبي محذورة ، رضي الله عنهم .

وأما إفراد الإقامة فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما استثناء كلمة الإقامة فقال إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين والإقامة مرة مرة غير أنه يقول " قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة وفي " صحيح البخاري " عن أنس : أمر بلال أن يشفع الأذان ، ويوتر الإقامة إلا الإقامة وصح من حديث عبد الله بن زيد وعمر في الإقامة قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة

وصح من حديث أبي محذورة تثنية كلمة الإقامة مع سائر كلمات الأذان . وكل هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة في شيء منها ، وإن كان بعضها أفضل من بعض فالإمام أحمد أخذ بأذان بلال وإقامته والشافعي أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة ومالك أخذ بما رأى عليه عمل أهل المدينة من الاقتصار على التكبير في الأذان مرتين وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة رحمهم الله كلهم فإنهم اجتهدوا في متابعة السنة .


فصل [ الذكر عند الأذان وبعده ]
وأما هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر عند الأذان وبعده فشرع لأمته منه خمسة أنواع .

أحدها : أن يقول السامع كما يقول المؤذن إلا في لفظ " حي على الصلاة " " حي على الفلاح " فإنه صح عنه إبدالهما ب " لا حول ولا قوة إلا بالله " ولم يجئ عنه الجمع بينها وبين " حي على الصلاة " " حي على الفلاح " ولا الاقتصار على الحيعلة وهديه صلى الله عليه وسلم الذي صح عنه إبدالهما بالحوقلة وهذا مقتضى الحكمة المطابقة لحال المؤذن والسامع فإن كلمات الأذان ذكر فسن للسامع أن يقولها ، وكلمة الحيعلة دعاء إلى الصلاة لمن سمعه فسن للسامع أن يستعين على هذه الدعوة بكلمة الإعانة وهي " لا حول ولا قوة إلا بالله " العلي العظيم .

الثاني : أن يقول وأنا أشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا وأخبر أن من قال ذلك غفر له ذنبه .

الثالث أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من إجابة المؤذن وأكمل ما يصلى عليه به ويصل إليه هي الصلاة الإبراهيمية كما علمه أمته أن يصلوا عليه فلا صلاة عليه أكمل منها وإن تحذلق المتحذلقون .

الرابع أن يقول بعد صلاته عليه اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد هكذا جاء بهذا اللفظ " مقاما محمودا " بلا ألف ولا لام وهكذا صح عنه صلى الله عليه وسلم .

الخامس أن يدعو لنفسه بعد ذلك ويسأل الله من فضله فإنه يستجاب له كما في " السنن " عنه صلى الله عليه وسلم قل كما يقولون يعني المؤذنين فإذا انتهيت فسل تعطه

وذكر الإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم من قال حين ينادي المنادي : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضى لا سخط بعده استجاب الله له دعوته

وقالت أم سلمة رضي الله عنها : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب اللهم إن هذا إقبال ليلك ، وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي ذكره الترمذي .

وذكر الحاكم في " المستدرك " من حديث أبي أمامة يرفعه أنه كان إذا سمع الأذان قال اللهم رب هذه الدعوة التامة المستجابة ، والمستجاب لها ، دعوة الحق وكلمة التقوى ، توفني عليها وأحيني عليها ، واجعلني من صالحي أهلها عملا يوم القيامة وذكره البيهقي من حديث ابن عمر موقوفا عليه .

وذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند كلمة الإقامة أقامها الله وأدامها

وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة " قالوا : فما نقول يا رسول الله ؟ قال " سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة حديث صحيح .

وفيها عنه ساعتان يفتح الله فيهما أبواب السماء ، وقلما ترد على داع دعوته عند حضور النداء والصف في سبيل الله

وقد تقدم هديه في أذكار الصلاة مفصلا والأذكار بعد انقضائها ، والأذكار في العيدين والجنائز والكسوف وأنه أمر في الكسوف بالفزع إلى ذكر الله تعالى ، وأنه كان يسبح في صلاتها قائما رافعا يديه يهلل ويكبر ويحمد ويدعو حتى حسر عن الشمس والله أعلم .

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الذكر عند رؤية الهلال
يذكر عنه أنه كان يقول اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ربي وربك الله قال الترمذي : حديث حسن .

ويذكر عنه أنه كان يقول عند رؤيته الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى ، ربنا وربك الله ذكره الدارمي .

وذكر أبو داود عن قتادة أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال هلال خير ورشد ، هلال خير ورشد ، آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات ثم يقول الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا ، وجاء بشهر كذا وفي أسانيدها لين .

ويذكر عن أبي داود وهو في بعض نسخ سننه أنه قال ليس في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مسند صحيح .
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار الطعام قبله وبعده
كان إذا وضع يده في الطعام قال " بسم الله " ويأمر الآكل بالتسمية ويقول : إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى ، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله في أوله وآخره حديث صحيح .

والصحيح وجوب التسمية عند الأكل وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد ، وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة ولا معارض لها ، ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرجها عن ظاهرها ، وتاركها شريكه الشيطان في طعامه وشرابه .




فصل [ هل تزول مشاركة الشيطان للآكلين بتسمية أحدهم ] ؟
وهاهنا مسألة تدعو الحاجة إليها ، وهي أن الآكلين إذا كانوا جماعة

فسمى أحدهم هل تزول مشاركة الشيطان لهم في طعامهم بتسميته وحده أم لا تزول إلا بتسمية الجميع ؟ فنص الشافعي على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين وجعله أصحابه كرد السلام وتشميت العاطس وقد يقال لا ترفع مشاركة الشيطان للآكل إلا بتسميته هو ولا يكفيه تسمية غيره ولهذا جاء في حديث حذيفة إنا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما ، فجاءت جارية كأنما تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها ، فأخذت بيدها ، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع يديهما ثم ذكر اسم الله وأكل ولو كانت تسمية الواحد تكفي ، لما وضع الشيطان يده في ذلك الطعام .

ولكن قد يجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد وضع يده وسمى بعد ولكن الجارية ابتدأت بالوضع بغير تسمية وكذلك الأعرابي ، فشاركهما الشيطان فمن أين لكم أن الشيطان شارك من لم يسم بعد تسمية غيره ؟ فهذا مما يمكن أن يقال لكن قد روى الترمذي وصححه من حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاما في ستة من أصحابه فجاء أعرابي ، فأكله بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه لو سمى لكفاكم ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولئك الستة سموا ، فلما جاء هذا الأعرابي فأكل ولم يسم شاركه الشيطان في أكله فأكل الطعام بلقمتين ولو سمى لكفى الجميع .




وأما مسألة رد السلام وتشميت العاطس

ففيها نظر وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا عطس أحدكم فحمد الله فحق على كل من سمعه أن يشمته وإن سلم الحكم فيهما ، فالفرق بينهما وبين مسألة الأكل ظاهر فإن الشيطان إنما يتوصل إلى مشاركة الآكل في أكله إذا لم يسم فإذا سمى غيره لم تجز تسمية من سمى عمن لم يسم من مقارنة الشيطان له فيأكل معه بل تقل مشاركة الشيطان بتسمية بعضهم وتبقى الشركة بين من لم يسم وبينه والله أعلم .

ويذكر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم من نسي أن يسمي على طعامه ، فليقرأ قل هو الله أحد إذا فرغ وفي ثبوت هذا الحديث نظر .




وكان إذا رفع الطعام من بين يديه يقول الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا عز وجل ذكره البخاري .وربما كان يقول الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين وكان يقول الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا وذكر البخاري عنه أنه كان يقول الحمد لله الذي كفانا وآوانا وذكر الترمذي عنه أنه قال من أكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا من غير حول مني ولا قوة غفر الله له ما تقدم من ذنبه حديث حسن .

ويذكر عنه أنه كان إذا قرب إليه الطعام قال بسم الله فإذا فرغ من طعامه قال " اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت فلك الحمد على ما أعطيت " وإسناده صحيح . وفي " السنن " عنه أنه كان يقول إذا فرغ " الحمد لله الذي من علينا وهدانا ، والذي أشبعنا وأروانا ، ومن كل الإحسان آتانا " حديث حسن .

وفي " السنن " عنه أيضا إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه . ومن سقاه الله لبنا ، فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء ويجزئ عن الطعام والشراب غير اللبن حديث حسن .

ويذكر عنه أنه كان إذا شرب في الإناء تنفس ثلاثة أنفاس ويحمد الله في كل نفس ويشكره في آخرهن

فصل [ أحكام الدعوة إلى الطعام ]
وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أهله ربما يسألهم هل عندكم طعام ؟ وما عاب طعاما قط ، بل كان إذا اشتهاه أكله وإن كرهه تركه وسكت وربما قال أجدني أعافه إني لا أشتهيه

وكان يمدح الطعام أحيانا ، كقوله لما سأل أهله الإدام فقالوا : ما عندنا إلا خل ، فدعا به فجعل يأكل منه ويقول نعم الأدم الخل وليس في هذا تفضيل له على اللبن واللحم والعسل والمرق وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها ، ولو حضر لحم أو لبن كان أولى بالمدح منه وقال هذا جبرا وتطييبا لقلب من قدمه لا تفضيلا له على سائر أنواع الإدام .

وكان إذا قرب إليه طعام وهو صائم قال إني صائم وأمر من قرب إليه الطعام وهو صائم أن يصلي أي يدعو لمن قدمه وإن كان مفطرا أن يأكل منه .

وكان إذا دعي لطعام وتبعه أحد ، أعلم به رب المنزل وقال إن هذا تبعنا ، فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع وكان يتحدث على طعامه كما تقدم في حديث الخل وكما قال لربيبه عمر بن أبي سلمة وهو يؤاكله سم الله وكل مما يليك .

وربما كان يكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مرارا ، كما يفعله أهل الكرم كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة شرب اللبن وقوله له مرارا : اشرب " ، فما زال يقول اشرب حتى قال والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا

وكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم فدعا في منزل عبد الله بن بسر ، فقال اللهم بارك لهم فيما رزقتهم ، واغفر لهم وارحمهم ذكره مسلم . ودعا في منزل سعد بن عبادة فقال أفطر عندكم الصائمون ، وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دعاه أبو الهيثم بن التيهان هو وأصحابه فأكلوا ، فلما فرغوا قال أثيبوا أخاكم " قالوا : يا رسول الله وما إثابته ؟ قال " إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فذلك إثابته . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل منزله ليلة فالتمس طعاما فلم يجده فقال اللهم أطعم من أطعمني ، واسق من سقاني . وذكر عنه أن عمرو بن الحمق سقاه لبنا فقال اللهم أمتعه بشبابه فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء .

وكان يدعو لمن يضيف المساكين ويثني عليهم فقال مرة ألا رجل يضيف هذا رحمه الله وقال للأنصاري وامرأته اللذين آثرا بقوتهما وقوت صبيانهما ضيفهما : لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة

[ عدم الأنفة من مؤاكلة أي إنسان ]

وكان لا يأنف من مؤاكلة أحد صغيرا كان أو كبيرا ، حرا أو عبدا ، أعرابيا أو مهاجرا ، حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة فقال كل بسم الله ثقة بالله ، وتوكلا عليه

[ الأكل باليمين ]

وكان يأمر بالأكل باليمين وينهى عن الأكل بالشمال ويقول إن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ومقتضى هذا تحريم الأكل بها ، وهو الصحيح فإن الآكل بها ، إما شيطان وإما مشبه به . وصح عنه أنه قال لرجل أكل عنده فأكل بشماله كل بيمينك ، فقال لا أستطيع فقال لا استطعت فما رفع يده إلى فيه بعدها فلو كان ذلك جائزا ، لما دعا عليه بفعله وإن كان كبره حمله على ترك امتثال الأمر فذلك أبلغ في العصيان واستحقاق الدعاء عليه .

وأمر من شكوا إليه أنهم لا يشبعون أن يجتمعوا على طعامهم ولا يتفرقوا ، وأن يذكروا اسم الله عليه يبارك لهم فيه وصح عنه أنه قال إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة يحمده عليها ، ويشرب الشربة يحمده عليها وروي عنه أنه قال أذيبوا طعامكم بذكر الله عز وجل والصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحا والواقع في التجربة يشهد به .

يتبع ..

اخت مسلمة
04-09-2009, 03:05 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السلام والاستئذان وتشميت العاطس
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في " الصحيحين " عن أبي هريرة أن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف . وفيهما أن آدم عليه الصلاة والسلام لما خلقه الله قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم واستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله فزادوه " ورحمة الله .

وفيهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإفشاء السلام وأخبرهم أنهم إذا أفشوا السلام بينهم تحابوا ، وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يؤمنوا ، ولا يؤمنون حتى يتحابوا . وقال البخاري في " صحيحه " قال عمار ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار

[ فضائل الإنصاف ]

وقد تضمنت هذه الكلمات أصول الخير وفروعه فإن الإنصاف يوجب عليه أداء حقوق الله كاملة موفرة وأداء حقوق الناس كذلك وأن لا يطالبهم بما ليس له ولا يحملهم فوق وسعهم ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه به ويعفيهم مما يحب أن يعفوه منه ويحكم لهم وعليهم بما يحكم به لنفسه وعليها ، ويدخل في هذا إنصافه نفسه من نفسه فلا يدعي لها ما ليس لها ، ولا يخبثها بتدنيسه لها ، وتصغيره إياها ، وتحقيرها بمعاصي الله وينميها ويكبرها ويرفعها بطاعة الله وتوحيده وحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه وإيثار مرضاته ومحابه على مراضي الخلق ومحابهم ولا يكون بها مع الخلق ولا مع الله بل يعزلها من البين كما عزلها الله ويكون بالله لا بنفسه في حبه وبغضه وعطائه ومنعه وكلامه وسكوته ومدخله ومخرجه فينجي نفسه من البين ولا يرى لها مكانة يعمل عليها ، فيكون ممن ذمهم الله بقوله اعملوا على مكانتكم [ الأنعام 135 ]

فالعبد المحض ليس له مكانة يعمل عليها ، فإنه مستحق المنافع والأعمال لسيده ونفسه ملك لسيده فهو عامل على أن يؤدي إلى سيده ما هو مستحق له عليه ليس له مكانة أصلا ، بل قد كوتب على حقوق منجمة كلما أدى نجما حل عليه نجم آخر ولا يزال المكاتب عبدا ما بقي عليه شيء من نجوم الكتابة .

والمقصود أن إنصافه من نفسه يوجب عليه معرفة ربه وحقه عليه ومعرفة نفسه وما خلقت له وأن لا يزاحم بها مالكها ، وفاطرها ويدعي لها الملكة والاستحقاق ويزاحم مراد سيده ويدفعه بمراده هو أو يقدمه ويؤثره عليه أو يقسم إرادته بين مراد سيده ومراده وهي قسمة ضيزى ، مثل قسمة الذين قالوا : هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون [ الأنعام 136 ] .

فلينظر العبد لا يكون من أهل هذه القسمة بين نفسه وشركائه وبين الله لجهله وظلمه وإلا لبس عليه وهو لا يشعر فإن الإنسان خلق ظلوما جهولا ، فكيف يطلب الإنصاف ممن وصفه الظلم والجهل ؟ وكيف ينصف الخلق من لم ينصف الخالق ؟ كما في أثر إلهي يقول الله عز وجل ابن آدم ما أنصفتني ، خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح .
وفي أثر آخر ابن آدم ما أنصفتني ، خلقتك وتعبد غيري ، وأرزقك وتشكر سواي .

ثم كيف ينصف غيره من لم ينصف نفسه وظلمها أقبح الظلم وسعى في ضررها أعظم السعي ومنعها أعظم لذاتها من حيث ظن أنه يعطيها إياها ، فأتعبها كل التعب وأشقاها كل الشقاء من حيث ظن أنه يريحها ويسعدها ، وجد كل الجد في حرمانها حظها من الله وهو يظن أنه ينيلها حظوظها ، ودساها كل التدسية وهو يظن أنه يكبرها وينميها ، وحقرها كل التحقير وهو يظن أنه يعظمها ، فكيف يرجى الإنصاف ممن هذا إنصافه لنفسه ؟ إذا كان هذا فعل العبد بنفسه فماذا تراه بالأجانب يفعل .
والمقصود أن قول عمار رضي الله عنه ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار كلام جامع لأصول الخير وفروعه .

[ بذل السلام ]

وبذل السلام للعالم يتضمن تواضعه وأنه لا يتكبر على أحد ، بل يبذل السلام للصغير والكبير والشريف والوضيع ومن يعرفه ومن لا يعرفه والمتكبر ضد هذا ، فإنه لا يرد السلام على كل من سلم عليه كبرا منه وتيها ، فكيف يبذل السلام لكل أحد .

[ الإنفاق من الإقتار ]

وأما الإنفاق من الإقتار فلا يصدر إلا عن قوة ثقة بالله وأن الله يخلفه ما أنفقه وعن قوة يقين وتوكل ورحمة وزهد في الدنيا ، وسخاء نفس بها ، ووثوق بوعد من وعده مغفرة منه وفضلا ، وتكذيبا بوعد من يعده الفقر ويأمر بالفحشاء والله المستعان .




فصل [ السلام على الصبيان والنسوان ]
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بصبيان فسلم عليهم ذكره مسلم . وذكر الترمذي في " جامعه " عنه صلى الله عليه وسلم مر يوما بجماعة نسوة فألوى بيده بالتسليم وقال أبو داود : عن أسماء بنت يزيد مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا وهي رواية حديث الترمذي ، والظاهر أن القصة واحدة وأنه سلم عليهن بيده .

وفي " صحيح البخاري " : أن الصحابة كانوا ينصرفون من الجمعة فيمرون على عجوز في طريقهم فيسلمون عليها ، فتقدم لهم طعاما من أصول السلق والشعير وهذا هو الصواب في مسألة السلام على النساء يسلم على العجوز وذوات المحارم دون غيرهن .




فصل

وثبت عنه في " صحيح البخاري " وغيره تسليم الصغير على الكبير ، والمار على القاعد والراكب على الماشي ، والقليل على الكثير وفي " جامع الترمذي " عنه يسلم الماشي على القائم وفي " مسند البزار " عنه يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد والماشيان أيهما بدأ فهو أفضل

وفي " سنن أبي داود " عنه إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام وكان من هديه صلى الله عليه وسلم السلام عند المجيء إلى القوم والسلام عند الانصراف عنهم وثبت عنه أنه قال إذا قعد أحدكم فليسلم ، وإذا قام فليسلم وليست الأولى أحق من الآخرة

وذكر أبو داود عنه إذا لقي أحدكم صاحبه فليسلم عليه ، فإن حال بينهما شجرة أو جدار ثم لقيه فليسلم عليه أيضا وقال أنس : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشون فإذا استقبلتهم شجرة أو أكمة تفرقوا يمينا وشمالا ، وإذا التقوا من ورائها ، سلم بعضهم على بعض .

[ تحية المسجد قبل السلام ]

ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ثم يجيء فيسلم على القوم فتكون تحية المسجد قبل تحية أهله فإن تلك حق الله تعالى ، والسلام على الخلق هو حق لهم وحق الله في مثل هذا أحق بالتقديم بخلاف الحقوق المالية فإن فيها نزاعا معروفا ، والفرق بينهما حاجة الآدمي وعدم اتساع الحق المالي لأداء الحقين بخلاف السلام .

وكانت عادة القوم معه هكذا ، يدخل أحدهم المسجد فيصلي ركعتين ثم يجيء فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا جاء في حديث رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد يوما قال رفاعة ونحن معه إذ جاء رجل كالبدوي فصلى ، فأخف صلاته ثم انصرف فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل . .. وذكر الحديث فأنكر عليه صلاته ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه صلى الله عليه وسلم إلى ما بعد الصلاة . وعلى هذا : فيسن لداخل المسجد إذا كان فيه جماعة ثلاث تحيات مترتبة أن يقول عند دخوله بسم الله والصلاة على رسول الله . ثم يصلي ركعتين تحية المسجد . ثم يسلم على القوم .

فصل

وكان إذا دخل على أهله بالليل يسلم تسليما لا يوقظ النائم . ويسمع اليقظان ذكره مسلم



فصل

وذكر الترمذي عنه عليه السلام السلام قبل الكلام وفي لفظ آخر لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلم وهذا وإن كان إسناده وما قبله ضعيفا ، فالعمل عليه .

[ السلام قبل السؤال ]

وقد روى أبو أحمد بإسناد أحسن منه حديث عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قبل السؤال ، فمن بدأكم بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه

ويذكر عنه أنه كان لا يأذن لمن لم يبدأ بالسلام . ويذكر عنه : لا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام وأجود منها ما رواه الترمذي عن كلدة بن حنبل ، أن صفوان بن أمية بعثه بلبن ولبإ وجداية وضغابيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي قال فدخلت عليه ولم أسلم ، ولم أستأذن فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فقل السلام عليكم أأدخل ؟ قال هذا حديث حسن غريب .

وكان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول السلام عليكم السلام عليكم

فصل [ تحميل السلام للغائبين ]
وكان يسلم بنفسه على من يواجهه ، ويحمل السلام لمن يريد السلام عليه من الغائبين عنه ويتحمل السلام لمن يبلغه إليه كما تحمل السلام من الله عز وجل على صديقة النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لما قال له جبريل هذه خديجة قد أتتك بطعام ، فاقرأ [ عليها ] السلام من ربها ، [ ومني ] وبشرها ببيت في الجنة

وقال للصديقة الثانية بنت الصديق عائشة رضي الله عنها : هذا جبريل يقرأ عليك السلام " فقالت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته يرى ما لا أرى

فصل [ صيغة السلام ]
وكان هديه انتهاء السلام إلى " وبركاته " فذكر النسائي عنه أن رجلا جاء فقال السلام عليكم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " عشرة " ثم جلس ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " عشرون " ثم جلس وجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " ثلاثون " رواه النسائي ، والترمذي من حديث عمران بن حصين وحسنه .

وذكره أبو داود من حديث معاذ بن أنس ، وزاد فيه ثم أتى آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال " أربعون " فقال هكذا تكون الفضائل . ولا يثبت هذا الحديث . فإن له ثلاث علل إحداها : أنه من رواية أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون ، ولا يحتج به .

الثانية إن فيه أيضا سهل بن معاذ وهو أيضا كذلك . الثالثة أن سعيد بن أبي مريم أحد رواته لم يجزم بالرواية بل قال أظن أني سمعت نافع بن يزيد . وأضعف من هذا الحديث الآخر عن أنس : كان رجل يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول السلام عليك يا رسول الله ، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم " وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه " فقيل له يا رسول الله تسلم على هذا سلاما ما تسلمه على أحد من أصحابك ؟ فقال " وما يمنعني من ذلك وهو ينصرف بأجر بضعة عشر رجلا ، وكان يرعى على أصحابه


فصل [ السلام ثلاثا ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يسلم ثلاثا كما في " صحيح البخاري " عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم ثلاثا ولعل هذا كان هديه في السلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغهم سلام واحد أو هديه في إسماع السلام الثاني والثالث إن ظن أن الأول لم يحصل به الإسماع كما سلم لما انتهى إلى منزل سعد بن عبادة ثلاثا ، فلما لم يجبه أحد رجع وإلا فلو كان هديه الدائم التسليم ثلاثا لكان أصحابه يسلمون عليه كذلك وكان يسلم على كل من لقيه ثلاثا ، وإذا دخل بيته ثلاثا ، ومن تأمل هديه علم أن الأمر ليس كذلك وأن تكرار السلام كان منه أمرا عارضا في بعض الأحيان والله أعلم .




فصل [ رد السلام ]
وكان يبدأ من لقيه بالسلام وإذا سلم عليه أحد ، رد عليه مثل تحيته أو أفضل منها على الفور من غير تأخير إلا لعذر مثل حالة الصلاة وحالة قضاء الحاجة .

وكان يسمع المسلم رده عليه ولم يكن يرد بيده ولا رأسه ولا أصبعه إلا في الصلاة فإنه كان يرد على من سلم عليه إشارة ثبت ذلك عنه في عدة أحاديث ولم يجئ عنه ما يعارضها إلا بشيء باطل لا يصح عنه كحديث يرويه أبو غطفان رجل مجهول عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته قال الدارقطني : قال لنا ابن أبي داود أبو غطفان هذا رجل مجهول .

والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير في الصلاة رواه أنس وجابر وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم .




فصل [ كراهية قول المبتدئ " عليك السلام "]
وكان هديه في ابتداء السلام أن يقول " السلام عليكم ورحمة الله " وكان يكره أن يقول المبتدئ عليك السلام . قال أبو جري الهجيمي : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت عليك السلام يا رسول الله فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى حديث صحيح .

وقد أشكل هذا الحديث على طائفة وظنوه معارضا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في السلام على الأموات بلفظ السلام عليكم بتقديم السلام فظنوا أن قوله فإن عليك السلام تحية الموتى إخبار عن المشروع وغلطوا في ذلك غلطا أوجب لهم ظن التعارض وإنما معنى قوله فإن عليك السلام تحية الموتى إخبار عن الواقع لا المشروع أي إن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة كقول قائلهم

عليك سلام الله قيس بن عاصم

ورحمته ما شاء أن يترحما

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما


< النبي صلى الله عليه وسلم أن يحي بتحية الأموات ومن كراهته لذلك لم يرد على المسلم بها .

[ بحث في الرد على المسلم ب " وعليك السلام " والفرق بينهما وبين الرد على أهل الكتاب ]

وكان يرد على المسلم " وعليك السلام " بالواو وبتقديم " عليك " على لفظ السلام . وتكلم الناس هاهنا في مسألة وهي لو حذف الراد " الواو " فقال " عليك السلام " هل يكون صحيحا ؟ فقالت طائفة منهم المتولي وغيره لا يكون جوابا ، ولا يسقط به فرض الرد لأنه مخالف لسنة الرد ولأنه لا يعلم هل هو رد ، أو ابتداء تحية ؟ فإن صورته صالحة لهما ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سلم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : " وعليكم فهذا تنبيه منه على وجوب الواو في الرد على أهل الإسلام فإن " الواو " في مثل هذا الكلام تقتضي تقرير الأول وإثبات الثاني ، فإذا أمر بالواو في الرد على أهل الكتاب الذين يقولون السام عليكم فقال إذا سلم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : " وعليكم فذكرها في الرد على المسلمين أولى وأحرى .

وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك رد صحيح كما لو كان بالواو ونص عليه الشافعي رحمه الله في كتابه الكبير واحتج لهذا القول بقوله تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام ( الذاريات : 24 ) ،

أي سلام عليكم لا بد من هذا ، ولكن حسن الحذف في الرد لأجل الحذف في الابتداء واحتجوا بما في " الصحيحين " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله آدم طوله ستون ذراعا ، فلما خلقه قال له اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله فزادوه " ورحمة الله فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه تحيته وتحية ذريته قالوا : ولأن المسلم عليه مأمور أن يحي المسلم بمثل تحيته عدلا ، وبأحسن منها فضلا ، فإذا رد عليه بمثل سلامه كان قد أتى بالعدل .

وأما قوله إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم فهذا الحديث قد اختلف في لفظة " الواو " فيه فروي على ثلاثة أوجه أحدها : بالواو قال أبو داود :
كذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينار ، ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار ، فقال فيه فعليكم وحديث سفيان في " الصحيحين " ورواه النسائي من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن دينار بإسقاط " الواو " ، وفي لفظ لمسلم والنسائي : فقل عليك بغير واو .

وقال الخطابي : عامة المحدثين يروونه وعليكم بالواو وكان سفيان بن عيينة يرويه عليكم بحذف الواو وهو الصواب وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودا عليهم وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوا ; لأن الواو حرف للعطف والاجتماع بين الشيئين . انتهى كلامه .

وما ذكره من أمر الواو ليس بمشكل فإن " السام " الأكثرون على أنه الموت والمسلم والمسلم عليه مشتركون فيه فيكون في الإتيان بالواو بيان لعدم الاختصاص وإثبات المشاركة وفي حذفها إشعار بأن المسلم أحق به وأولى من المسلم عليه وعلى هذا فيكون الإتيان بالواو هو الصواب وهو أحسن من حذفها ، كما رواه مالك وغيره ولكن قد فسر السام بالسآمة وهي الملالة وسآمة الدين قالوا : وعلى هذا فالوجه حذف الواو ولا بد ولكن هذا خلاف المعروف من هذه اللفظة في اللغة ولهذا جاء في الحديث إن الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام ولا يختلفون أنه الموت . وقد ذهب بعض المتحذلقين إلى أنه يرد عليهم السلام بكسر السين وهي الحجارة جمع سلمة ورد هذا الرد متعين .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في السلام على أهل الكتاب
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تبدءوهم بالسلام وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق لكن قد قيل إن هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريظة قال لا تبدءوهم بالسلام فهل هذا حكم عام لأهل الذمة مطلقا ، أو يختص بمن كانت حاله بمثل حال أولئك ؟ هذا موضع نظر ولكن قد روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه والظاهر أن هذا حكم عام .

وقد اختلف السلف والخلف في ذلك فقال أكثرهم لا يبدءون بالسلام وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يرد عليهم روي ذلك عن ابن عباس ، وأبي أمامة وابن محيريز ، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله لكن صاحب هذا الوجه قال يقال له السلام عليك فقط بدون ذكر الرحمة وبلفظ الإفراد وقالت طائفة يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة تكون له إليه أو خوف من أذاه أو لقرابة بينهما ، أو لسبب يقتضي ذلك يروى ذلك عن إبراهيم النخعي ، وعلقمة .

وقال الأوزاعي : إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون .

واختلفوا في وجوب الرد عليهم فالجمهور على وجوبه وهو الصواب وقالت طائفة لا يجب الرد عليهم كما لا يجب على أهل البدع وأولى ، والصواب الأول والفرق أنا مأمورون بهجر أهل البدع تعزيرا لهم وتحذيرا منهم بخلاف أهل الذمة .

فصل وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين ، والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، فسلم عليهم . وصح عنه أنه كتب إلى هرقل وغيره السلام على من اتبع الهدى





فصل [ هل رد السلام فرض كفاية ]
؟ ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم فذهب إلى هذا الحديث من قال إن – 390 – الرد فرض كفاية يقوم فيه الواحد مقام الجميع لكن ما أحسنه لو كان ثابتا ، فإن هذا الحديث رواه أبو داود من رواية سعيد بن خالد الخزاعي المدني .

قال أبو زرعة الرازي مدني ضعيف . وقال أبو حاتم الرازي ضعيف الحديث وقال البخاري فيه نظر . وقال الدارقطني ليس بالقوي .



فصل [ رد السلام على المرسل والمبلغ ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أحد السلام عن غيره أن يرد عليه وعلى المبلغ كما في " السنن أن رجلا قال له إن أبي يقرئك السلام فقال له عليك وعلى أبيك السلام

[ ترك السلام ابتداء وردا على من أحدث حدثا ]

وكان من هديه ترك السلام ابتداء وردا على من أحدث حدثا حتى يتوب منه كما هجر كعب بن مالك وصاحبيه ، وكان كعب يسلم عليه ولا يدري هل حرك شفتيه برد السلام عليه أم لا ؟ وسلم عليه عمار بن ياسر ، وقد خلقه أهله بزعفران فلم يرد عليه فقال اذهب فاغسل هذا عنك وهجر زينب بنت جحش شهرين وبعض الثالث لما قال لها : أعطي صفية ظهرا لما اعتل بعيرها فقالت أنا أعطي تلك اليهودية ؟ ذكرهما أبو داود



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستئذان
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما جعل الاستئذان من أجل البصر

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يفقأ عين الذي نظر إليه من جحر في حجرته وقال إنما جعل الاستئذان من أجل البصر وصح عنه أنه قال لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح

وصح عنه أنه قال من اطلع على قوم في بيتهم بغير إذنهم ، فقد حل لهم أن يفقئوا عينه وصح عنه أنه قال من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ، ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص

[ التسليم قبل الاستئذان ]

وصح عنه التسليم قبل الاستئذان فعلا وتعليما ، واستأذن عليه رجل فقال أألج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل اخرج إلى هذا ، فعلمه الاستئذان " . فقال له قل السلام عليكم أأدخل ؟ فسمعه الرجل فقال السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ولما استأذن عليه عمر رضي الله عنه وهو في مشربته مؤليا من نسائه قال السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليكم أيدخل عمر ؟ وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لكلدة بن حنبل لما دخل عليه ولم يسلم ارجع فقل السلام عليكم أأدخل ؟

وفي هذه السنن رد على من قال ويقدم الاستئذان على السلام ورد على من قال إن وقعت عينه على صاحب المنزل قبل دخوله بدأ بالسلام وإن لم تقع عينه عليه بدأ بالاستئذان والقولان مخالفان للسنة .

[ الاستئذان ثلاثا ]

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا استأذن ثلاثا ولم يؤذن له انصرف وهو رد على من يقول إن ظن أنهم لم يسمعوا ، زاد على الثلاث ورد على من قال يعيده بلفظ آخر والقولان مخالفان للسنة .




فصل [ ذكر المستأذن ما يدل عليه ]
وكان من هديه أن المستأذن إذا قيل له من أنت ؟ يقول : فلان بن فلان أو يذكر كنيته أو لقبه ولا يقول أنا ، كما قال جبريل للملائكة في ليلة المعراج لما استفتح باب السماء فسألوه من ؟ فقال جبريل . واستمر ذلك في كل سماء سماء . وكذلك في " الصحيحين " لما جلس النبي صلى الله عليه وسلم في البستان وجاء أبو بكر رضي الله عنه فاستأذن فقال من ؟ قال أبو بكر ، ثم جاء عمر ، فاستأذن فقال من ؟ قال عمر ثم عثمان كذلك

وفي " الصحيحين " ، عن جابر ، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب فقال " من ذا ؟ " فقلت : أنا ، فقال " أنا أنا " ، كأنه كرهها ولما استأذنت أم هانئ ، قال لها : " من هذه ؟ " قالت أم هانئ فلم يكره ذكرها الكنية

وكذلك لما قال لأبي ذر : " من هذا ؟ " قال أبو ذر وكذلك لما قال لأبي قتادة " من هذا ؟ " قال أبو قتادة


فصل [ رسول الرجل إلى الرجل إذنه ]
< روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم من حديث قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة : رسول الرجل إلى الرجل إذنه وفي لفظ إذا دعي أحدكم إلى طعام ، ثم جاء مع الرسول فإن ذلك إذن له

وهذا الحديث فيه مقال قال أبو علي اللؤلؤي : سمعت أبا داود يقول قتادة لم يسمع من أبي رافع . وقال البخاري في " صحيحه " : وقال سعيد عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " هو إذنه " فذكره تعليقا لأجل الانقطاع في إسناده .

وذكر البخاري في هذا الباب حديثا يدل على أن اعتبار الاستئذان بعد الدعوة وهو حديث مجاهد عن أبي هريرة دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت لبنا في قدح فقال اذهب إلى أهل الصفة فادعهم إلي " قال فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا ، فاستأذنوا ، فأذن لهم فدخلوا وقد قالت طائفة بأن الحديثين على حالين فإن جاء الداعي على الفور من غير تراخ لم يحتج إلى استئذان وإن تراخى مجيئه عن الدعوة وطال الوقت احتاج إلى استئذان .

وقال آخرون إن كان عند الداعي من قد أذن له قبل مجيء المدعو لم يحتج إلى استئذان آخر وإن لم يكن عنده من قد أذن له لم يدخل حتى يستأذن . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل إلى مكان يحب الانفراد فيه أمر من يمسك الباب فلم يدخل عليه أحد إلا بإذن .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار العطاس
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب ، فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله ، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان ذكره البخاري .

وثبت عنه في " صحيحه " : إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل له أخوه أو صاحبه يرحمك الله ، فإذا قال له يرحمك الله ، فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم

وفي " الصحيحين " عن أنس : أنه عطس عنده رجلان فشمت أحدهما ، ولم يشمت الآخر فقال الذي لم يشمته عطس فلان فشمته وعطست فلم تشمتني ، فقال هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله

وثبت عنه في " صحيح مسلم " : إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه ، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه

وثبت عنه في " صحيحه " : من حديث أبي هريرة حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته ، فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس وحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه

وروى أبو داود عنه بإسناد صحيح إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك الله ، وليقل هو يهديكم الله ويصلح بالكم

وروى الترمذي ، أن رجلا عطس عند ابن عمر ، فقال الحمد لله والسلام على رسول الله . فقال ابن عمر وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن علمنا أن نقول الحمد لله على كل حال

وذكر مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر " كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله ، قال يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا ولكم

[ حكم التشميت ]

فظاهر الحديث المبدوء به أن التشميت فرض عين على كل من سمع العاطس يحمد الله ولا يجزئ تشميت الواحد عنهم وهذا أحد قولي العلماء واختاره ابن أبي زيد ، وأبو بكر بن العربي المالكيان ، ولا دافع له .

[ ليس محل السلام عند العطاس ]

وقد روى أبو داود : أن رجلا عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام وعلى أمك " ثم قال " إذا عطس أحدكم فليحمد الله " قال فذكر بعض المحامد وليقل له من عنده يرحمك الله ، وليرد - يعني عليهم - يغفر الله لنا ولكم

وفي السلام على أم هذا المسلم نكتة لطيفة وهي إشعاره بأن سلامه قد وقع في غير موقعه اللائق به كما وقع هذا السلام على أمه فكما أن سلامه هذا في غير موضعه كذلك سلامه هو .

[ معاني كلمة أمي ]

ونكتة أخرى ألطف منها ، وهي تذكيره بأمه ونسبه إليها ، فكأنه أمي محض منسوب إلى الأم باق على تربيتها لم تربه الرجال وهذا أحد الأقوال في الأمي أنه الباقي على نسبته إلى الأم . وأما النبي الأمي : فهو الذي لا يحسن الكتابة ولا يقرأ الكتاب . وأما الأمي الذي لا تصح الصلاة خلفه فهو الذي لا يصحح الفاتحة ولو كان عالما بعلوم كثيرة .

ونظير ذكر الأم هاهنا ذكر هن الأب لمن تعزى بعزاء الجاهلية فيقال له اعضض هن أبيك وكان ذكر هن الأب هاهنا أحسن تذكيرا لهذا المتكبر بدعوى الجاهلية بالعضو الذي خرج منه وهو هن أبيه فلا ينبغي له أن يتعدى طوره كما أن ذكر الأم هاهنا أحسن تذكيرا له بأنه باق على أميته . والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم .

[ علة الحمد بعد العطاس ]

[ معنى التشميت ]

ولما كان العاطس قد حصلت له بالعطاس نعمة ومنفعة بخروج الأبخرة المحتقنة في دماغه التي لو بقيت فيه أحدثت له أدواء عسرة شرع له حمد الله على هذه النعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها ، ولهذا يقال سمته وشمته بالسين والشين فقيل هما بمعنى واحد قاله أبو عبيدة وغيره .

قال وكل داع بخير فهو مشمت ومسمت . وقيل بالمهملة دعاء له بحسن السمت وبعوده إلى حالته من السكون والدعة فإن العطاس يحدث في الأعضاء حركة وانزعاجا . وبالمعجمة دعاء له بأن يصرف الله عنه ما يشمت به أعداءه فشمته إذا أزال عنه الشماتة " ك " قرد البعير إذا أزال قراده عنه . وقيل هو دعاء له بثباته على قوائمه في طاعة الله مأخوذ من الشوامت وهي القوائم .

وقيل هو تشميت له بالشيطان لإغاظته بحمد الله على نعمة العطاس وما حصل له به من محاب الله فإن الله يحبه فإذا ذكر العبد الله وحمده ساء ذلك الشيطان من وجوه

منها : نفس العطاس الذي يحبه الله وحمد الله عليه ودعاء المسلمين له بالرحمة ودعاؤه لهم بالهداية وإصلاح البال وذلك كله غائظ للشيطان محزن له فتشميت المؤمن بغيظ عدوه وحزنه وكآبته فسمي الدعاء له بالرحمة تشميتا له لما في ضمنه من شماتته بعدوه وهذا معنى لطيف إذا تنبه له العاطس والمشمت انتفعا به وعظمت عندهما منفعة نعمة العطاس في البدن والقلب وتبين السر في محبة الله له فلله الحمد الذي هو أهله كما ينبغي لكريم وجهه وعز جلاله .



فصل [ آداب العطاس ]
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في العطاس ما ذكره أبو داود والترمذي ، عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض أو غض به صوته قال الترمذي : حديث صحيح . ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم إن التثاؤب الشديد والعطسة الشديدة من الشيطان

ويذكر عنه إن الله يكره رفع الصوت بالتثاؤب والعطاس

[ متى يقطع التشميت ]

وصح عنه إنه عطس عنده رجل فقال له " يرحمك الله " . ثم عطس أخرى ، فقال الرجل مزكوم . هذا لفظ مسلم أنه قال في المرة الثانية وأما الترمذي : فقال فيه عن سلمة بن الأكوع : عطس رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحمك الله " ، ثم عطس الثانية والثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا رجل مزكوم .

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقد روى أبو داود عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة موقوفا عليه شمت أخاك ثلاثا ، فما زاد ، فهو زكام

وفي رواية عن سعيد قال لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه . قال أبو داود رواه أبو نعيم ، عن موسى بن قيس ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى . وموسى بن قيس هذا الذي رفعه هو الحضرمي الكوفي يعرف بعصفور الجنة . قال يحيى بن معين : ثقة . وقال أبو حاتم الرازي : لا بأس به .

وذكر أبو داود عن عبيد بن رفاعة الزرقي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تشمت العاطس ثلاثا ، فإن شئت فشمته وإن شئت فكف ولكن له علتان

إحداهما : إرساله فإن عبيدا هذا ليست له صحبة

والثانية أن فيه أبا خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالاني ، وقد تكلم فيه . وفي الباب حديث آخر عن أبي هريرة يرفعه إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه فإن زاد على الثلاثة فهو مزكوم ولا تشمته بعد الثلاث وهذا الحديث هو حديث أبي داود الذي قال فيه رواه أبو نعيم ، عن موسى بن قيس ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد عن أبي هريرة وهو حديث حسن .

فإن قيل إذا كان به زكام فهو أولى أن يدعى له ممن لا علة به ؟ قيل يدعى له كما يدعى للمريض ومن به داء ووجع .

وأما سنة العطاس الذي يحبه الله وهو نعمة ويدل على خفة البدن وخروج الأبخرة المحتقنة فإنما يكون إلى تمام الثلاث وما زاد عليها يدعى لصاحبه

بالعافية .

وقوله في هذا الحديث الرجل مزكوم تنبيه على الدعاء له بالعافية لأن الزكمة علة وفيه اعتذار من ترك تشميته بعد الثلاث وفيه تنبيه له على هذه العلة ليتداركها ولا يهملها ، فيصعب أمرها ، فكلامه صلى الله عليه وسلم كله حكمة ورحمة وعلم وهدى .

[ هل التشميت على من سمع حمد العاطس ] ؟

وقد اختلف الناس في مسألتين إحداهما : أن العاطس إذا حمد الله فسمعه بعض الحاضرين دون بعض هل يسن لمن لم يسمعه تشميته ؟

فيه قولان والأظهر أنه يشمته إذا تحقق أنه حمد الله وليس المقصود سماع المشمت للحمد وإنما المقصود نفس حمده فمتى تحقق ترتب عليه التشميت كما لو كان المشمت أخرس ورأى حركة شفتيه بالحمد . والنبي صلى الله عليه وسلم قال فإن حمد الله فشمتوه هذا هو الصواب .

[ هل يستحب تذكير العاطس بالحمد ]

الثانية إذا ترك الحمد فهل يستحب لمن حضره أن يذكره الحمد ؟ قال ابن العربي : لا يذكره قال وهذا جهل من فاعله . وقال النووي : أخطأ من زعم ذلك بل يذكره وهو مروي عن إبراهيم النخعي . قال وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف والتعاون على البر والتقوى ، وظاهر السنة يقوي قول ابن العربي لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشمت الذي عطس ولم يحمد الله ولم يذكره وهذا تعزير له وحرمان لبركة الدعاء لما حرم نفسه بركة الحمد فنسي الله فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له ولو كان تذكيره سنة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمها ، والإعانة عليها .

فصل [ الرد على من عطس من اليهود ]

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن اليهود كانوا يتعاطسون عنده يرجون أن يقول لهم يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار السفر وآدابه
[ الاستخارة ]

صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ، وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ، ويسره لي ، وبارك لي فيه وإن كنت تعلمه شرا لي في ديني ومعاشي ، وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني ، واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به " قال ويسمي حاجته قال رواه البخاري .

فعوض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب ولهذا سمي ذلك استقساما ، وهو استفعال من القسم والسين فيه للطلب وعوضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكل وسؤال لمن بيده الخير كله الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يصرف السيئات إلا هو الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه . فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد طالع أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون .

فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة والإقرار بربوبيته وتفويض الأمر إليه والاستعانة به والتوكل عليه والخروج من عهدة نفسه والتبري من الحول والقوة إلا به واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها ، وإرادته لها ، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق .

وفي " مسند الإمام أحمد " من حديث سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله وسخطه بما قضى الله

فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفا بأمرين التوكل الذي هو مضمون الاستخارة قبله والرضى بما يقضي الله له بعده وهما عنوان السعادة . وعنوان الشقاء أن يكتنفه ترك التوكل والاستخارة قبله والسخط بعده والتوكل قبل القضاء . فإذا أبرم القضاء وتم انتقلت العبودية إلى الرضى بعده كما في " المسند " ، وزاد النسائي في الدعاء المشهور وأسألك الرضى بعد القضاء وهذا أبلغ من الرضى بالقضاء فإنه قد يكون عزما فإذا وقع القضاء تنحل العزيمة فإذا حصل الرضى بعد القضاء كان حالا أو مقاما .

والمقصود أن الاستخارة توكل على الله وتفويض إليه واستقسام بقدرته وعلمه وحسن اختياره لعبده وهي من لوازم الرضى به ربا ، الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك ، وإن رضي بالمقدور بعدها ، فذلك علامة سعادته .

وذكر البيهقي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم سفرا قط إلا قال حين ينهض من جلوسه اللهم بك انتشرت وإليك توجهت ، وبك اعتصمت وعليك توكلت اللهم أنت ثقتي ، وأنت رجائي ، اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم له وما أنت أعلم به مني ، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك اللهم زودني التقوى ، واغفر لي ذنبي ، ووجهني للخير أينما توجهت ثم يخرج


فصل [ الذكر عند ركوب الراحلة ]
وكان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ، ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون . ثم يقول اللهم إني أسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا سفرنا هذا ، واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في سفرنا ، واخلفنا في أهلنا . وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون ، عابدون لربنا حامدون .

وذكر أحمد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من الضبنة في السفر والكآبة في المنقلب اللهم اقبض لنا الأرض وهون علينا السفر . وإذا أراد الرجوع قال آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون . وإذا دخل أهله قال توبا توبا ، لربنا أوبا ، لا يغادر علينا حوبا .

وفي " صحيح مسلم " : أنه كان إذا سافر يقول اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ومن الحور بعد الكور ومن دعوة المظلوم ومن سوء المنظر في الأهل والمال .

فصل

وكان إذا وضع رجله في الركاب لركوب دابته قال بسم الله فإذا استوى على ظهرها ، قال الحمد لله ثلاثا الله أكبر ثلاثا ، ثم يقول سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم يقول الحمد لله ثلاثا ، الله أكبر ثلاثا ، ثم يقول سبحان الله ثلاثا ، ثم يقول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين سبحانك إني ظلمت نفسي ، فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .

[ توديع المسافر ]

وكان إذا ودع أصحابه في السفر يقول لأحدهم أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك .

وجاء إليه رجل وقال يا رسول الله إني أريد سفرا ، فزودني . فقال زودك الله التقوى . قال زدني . قال وغفر لك ذنبك . قال زدني . قال ويسر لك الخير حيثما كنت .

وقال له رجل إني أريد سفرا ، فقال أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف " فلما ولى ، قال " اللهم ازو له الأرض وهون عليه السفر .

[ الذكر عند علو الثنايا والهبوط ]

وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا علوا الثنايا ، كبروا ، وإذا هبطوا ، سبحوا ، فوضعت الصلاة على ذلك .

وقال أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا علا شرفا من الأرض أو نشزا ، قال اللهم لك الشرف على كل شرف ، ولك الحمد على كل حمد

[ كيفية السير ]

وكان سيره في حجه العنق فإذا وجد فجوة رفع السير فوق ذلك وكان يقول لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس .

[ كراهة السفر وحيدا ]

وكان يكره للمسافر وحده أن يسير بالليل فقال لو يعلم الناس ما في الوحدة ما سار أحد وحده بليل . بل كان يكره السفر للواحد بلا رفقة وأخبر أن الواحد شيطان . والاثنان شيطانان والثلاثة ركب

[ دعاء النزول ]

وكان يقول إذا نزل أحدكم منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه .

ولفظ مسلم من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك .

[ دعاء إدراك المسافر الليل ]

وذكر أحمد عنه أنه كان إذا غزا أو سافر فأدركه الليل قال يا أرض ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما دب عليك أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود وحية وعقرب ومن شر ساكن البلد ومن شر والد وما ولد .

[ التعريس والسفر في الخصب ]

وكان يقول إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في السنة فبادروا نقيها .

وفي لفظ فأسرعوا عليها السير وإذا عرستم ، فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل .

[ دعاء الدخول إلى قرية ]

وكان إذا رأى قرية يريد دخولها قال حين يراها : اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الريح وما ذرين إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها .

[ دعاء بدو الفجر في السفر ]

وكان إذا بدا له الفجر في السفر قال سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار

وكان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو . وكان ينهى المرأة أن تسافر بغير محرم ولو مسافة بريد .

[ السرعة في الإياب ]

وكان يأمر المسافر إذا قضى نهمته من سفره أن يعجل الأوبة إلى أهله .

[ دعاء الإياب ]

وكان إذا قفل من سفره يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون ، عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .

[ النهي عن طروق الأهل ليلا ]

وكان ينهى أن يطرق الرجل أهله ليلا إذا طالت غيبته عنهم . وفي " الصحيحين " : كان لا يطرق أهله ليلا يدخل عليهن غدوة أو عشية .

[ مسائل تتعلق بالقدوم من السفر ]

وكان إذا قدم من سفره يلقى بالولدان من أهل بيته . قال عبد الله بن جعفر وإنه قدم مرة من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة إما حسن وإما حسين فأردفه خلفه . قال فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة .

وكان يعتنق القادم من سفره ويقبله إذا كان من أهله . قال الزهري عن عروة عن عائشة قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فأتاه فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله .

قالت عائشة لما قدم جعفر وأصحابه تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم فقبل معا بين عينيه واعتنقه .

قال الشعبي وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدموا من سفر تعانقوا . وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد ، فركع فيه ركعتين

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار النكاح
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه علمهم خطبة الحاجة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يقرأ الآيات الثلاث يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ آل عمران 102 ] ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [ النساء 1 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [ الأحزاب 70 - 71 ] .

قال شعبة : قلت لأبي إسحاق هذه في خطبة النكاح أو في غيرها ؟ قال في كل حاجة .

وقال إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادما ، أو دابة فليأخذ بناصيتها ، وليدع الله بالبركة ويسمي الله عز وجل وليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه

وكان يقول للمتزوج بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير .

وقال لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله ، قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا




فصل في هديه صلى الله عليه وسلم فيما يقول من رأى ما يعجبه من أهله وماله
يذكر عن أنس عنه أنه قال ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ولا مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت وقد قال تعالى : ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله [ الكهف 39 ] .


فصل فيما يقول من رأى مبتلى
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من رجل رأى مبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا إلا لم يصبه ذلك البلاء كائنا ما كان




فصل فيما يقوله من لحقته الطيرة
ذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكرت الطيرة عنده فقال أحسنها الفأل ولا ترد مسلما ، فإذا رأيت من الطيرة ما تكره فقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك

وكان كعب يقول اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ولا رب غيرك ولا حول ولا قوة إلا بك والذي نفسي بيده إنها لرأس التوكل وكنز العبد في الجنة ولا يقولهن عبد عند ذلك ثم يمضي إلا لم يضره شيء




فصل فيما يقوله من رأى في منامه ما يكرهه
صح عنه صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان ، فمن رأى رؤيا يكره منها شيئا ، فلينفث عن يساره ثلاثا ، وليتعوذ بالله من الشيطان فإنها لا تضره ولا يخبر بها أحدا . وإن رأى رؤيا حسنة فليستبشر ولا يخبر بها إلا من يحب

و أمر من رأى ما يكرهه أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه وأمره أن يصلي

فأمره بخمسة أشياء أن ينفث عن يساره وأن يستعيذ بالله من الشيطان وأن لا يخبر بها أحدا ، وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه وأن يقوم يصلي ، ومتى فعل ذلك لم تضره الرؤيا المكروهة بل هذا يدفع شرها .

وقال الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت ولا يقصها إلا على واد أو ذي رأي

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا قصت عليه الرؤيا ، قال اللهم إن كان خيرا فلنا ، وإن كان شرا ، فلعدونا

ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم من عرضت عليه رؤيا ، فليقل لمن عرض عليه خيرا

ويذكر عنه أنه كان يقول للرائي قبل أن يعبرها له خيرا رأيت ، ثم يعبرها .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين ، قال كان أبو بكر الصديق إذا أراد أن يعبر رؤيا ، قال إن صدقت رؤياك يكون كذا وكذا




فصل فيما يقوله ويفعله من ابتلي بالوسواس وما يستعين به على الوسوسة
روى صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن مسعود يرفعه إن للملك الموكل بقلب ابن آدم لمة ، وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ورجاء صالح ثوابه . ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق وقنوط من الخير فإذا وجدتم لمة الملك فاحمدوا الله وسلوه من فضله وإذا وجدتم لمة الشيطان فاستعيذوا بالله فاستغفروه

وقال له عثمان بن أبي العاص : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي ، قال ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا

وشكا إليه الصحابة أن أحدهم يجد في نفسه - يعرض بالشيء - لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة

وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين إذا قيل له هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ أن يقرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [ الحديد 3 ] .

كذلك قال ابن عباس لأبي زميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله ما شيء أجده في صدري ؟ قال ما هو ؟ قال قلت والله لا أتكلم به . قال فقال لي : أشيء من شك ؟ قلت بلى ، فقال لي : ما نجا من ذلك أحد ، حتى أنزل الله عز وجل فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك [ يونس 94 ] قال فقال لي : فإذا وجدت في نفسك شيئا ، فقل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم

فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء ولو كان قبله شيء يكون مؤثرا فيه لكان ذلك هو الرب الخلاق ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق وغني عن غيره وكل شيء فقير إليه قائم بنفسه وكل شيء قائم به موجود بذاته وكل شيء موجود به . قديم لا أول له وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه باق بذاته وبقاء كل شيء به فهو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء الظاهر الذي ليس فوقه شيء الباطن الذي ليس دونه شيء .

وقال صلى الله عليه وسلم لا يزال الناس يتساءلون حتى يقول قائلهم هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليستعذ بالله ولينته

وقد قال تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت 36 ] .

ولما كان الشيطان على نوعين نوع يرى عيانا ، وهو شيطان الإنس ونوع لا يرى ، وهو شيطان الجن ، أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه والعفو والدفع بالتي هي أحسن ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه والعفو وجمع بين النوعين في سورة الأعراف وسورة المؤمنين وسورة فصلت والاستعاذة في القراءة والذكر أبلغ في دفع شر شياطين الجن ، والعفو والإعراض والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شر شياطين الإنس . قال

فما هو إلا الاستعاذة ضارعا

أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب

فهذا دواء الداء من شر ما يرى

وذاك دواء الداء من شر محجوب


فصل فيما يقوله ويفعله من اشتد غضبه
أمره صلى الله عليه وسلم أن يطفئ عنه جمرة الغضب بالوضوء والقعود إن كان قائما ، والاضطجاع إن كان قاعدا ، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم . ولما كان الغضب والشهوة جمرتين من نار في قلب ابن آدم أمر أن يطفئهما بالوضوء والصلاة والاستعاذة من الشيطان الرجيم كما قال تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة 44 ] .

وهذا إنما يحمل عليه شدة الشهوة فأمرهم بما يطفئون بها جمرتها ، وهو الاستعانة بالصبر والصلاة وأمر تعالى بالاستعاذة من الشيطان عند نزغاته . ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة وكان نهاية قوة الغضب القتل ونهاية قوة الشهوة الزنا ، جمع الله تعالى بين القتل والزنا ، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام وسورة الإسراء ، وسورة الفرقان وسورة الممتحنة .

والمقصود أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة .



فصل [ الدعاء لرؤية ما يحب وما يكره ]
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب ، قال " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . وإذا رأى ما يكره قال " الحمد لله على كل حال .




فصل [ ما يفعل مع من صنع إليه معروفا ]
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لمن تقرب إليه بما يحب وبما يناسب فلما وضع له ابن عباس وضوءه قال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل

ولما دعمه أبو قتادة في مسيره بالليل لما مال عن راحلته قال حفظك الله بما حفظت به نبيه

وقال من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا ، فقد أبلغ في الثناء

واستقرض من عبد الله بن أبي ربيعة مالا ، ثم وفاه إياه وقال "بارك الله لك في أهلك ومالك ، إنما جزاء السلف الحمد والأداء

ولما أراحه جرير بن عبد الله البجلي من ذي الخلصة صنم دوس ، برك على خيل قبيلته أحمس ورجالها خمس مرات

[ الإثابة على الهدية ]

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أهديت إليه هدية فقبلها ، كافأ عليها بأكثر منها ، وإن ردها اعتذر إلى مهديها ، كقوله صلى الله عليه وسلم للصعب بن جثامة لما أهدى إليه لحم الصيد " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم والله أعلم .




فصل

وأمر صلى الله عليه وسلم أمته إذا سمعوا نهيق الحمار أن يتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم وإذا سمعوا صياح الديكة أن يسألوا الله من فضله .

ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بالتكبير عند رؤية الحريق فإن التكبير يطفئه .

[ الذكر في المجلس ]

وكره صلى الله عليه وسلم لأهل المجلس أن يخلوا مجلسهم من ذكر الله عز وجل وقال ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة الحمار

وقال من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة والترة الحسرة .

وفي لفظ وما سلك أحد طريقا لم يذكر الله فيه ، إلا كانت عليه ترة وقال صلى الله عليه وسلم من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك

وفي " سنن أبي داود " و " مستدرك الحاكم " أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك إذا أراد أن يقوم من المجلس فقال له رجل يا رسول الله إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى . قال ذلك كفارة لما يكون في المجلس




فصل [ الدعاء عند الأرق ]
وشكا إليه خالد بن الوليد الأرق بالليل فقال له " إذا أويت إلى فراشك فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا من أن يفرط أحد منهم علي أو أن يطغى علي عز جارك وجل ثناؤك ولا إله إلا أنت

[ الدعاء عند الفزع ]

وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه من الفزع أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه ومن شر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون

ويذكر أن رجلا شكا إليه صلى الله عليه وسلم أنه يفزع في منامه فقال " إذا أويت إلى فراشك فقل . .. " ثم ذكرها ، فقالها فذهب عنه




فصل في ألفاظ كان صلى الله عليه وسلم يكره أن تقال
فمنها : أن يقول خبثت نفسي ، أو جاشت نفسي ، وليقل لقست .
ومنها : أن يسمي شجر العنب كرما ، نهى عن ذلك وقال لا تقولوا : الكرم ولكن قولوا : العنب والحبلة .

وكره أن يقول الرجل هلك الناس . وقال " إذا قال ذلك فهو أهلكهم . وفي معنى هذا : فسد الناس وفسد الزمان ونحوه .

ونهى أن يقال ما شاء الله وشاء فلان بل يقال ما شاء الله ثم شاء فلان . فقال له رجل ما شاء الله وشئت . فقال أجعلتني لله ندا ؟ قل ما شاء الله وحده .

وفي معنى هذا : لولا الله وفلان لما كان كذا ، بل وهو أقبح وأنكر وكذلك أنا بالله وبفلان وأعوذ بالله وبفلان وأنا في حسب الله وحسب فلان وأنا متكل على الله وعلى فلان فقائل هذا ، قد جعل فلانا ندا لله عز وجل .

ومنها : أن يقال مطرنا بنوء كذا وكذا ، بل يقول مطرنا بفضل الله ورحمته .
ومنها : أن يحلف بغير الله . صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف بغير الله فقد أشرك .
ومنها : أن يقول في حلفه هو يهودي ، أو نصراني ، أو كافر إن فعل كذا .

ومنها : أن يقول لمسلم يا كافر .
ومنها : أن يقول للسلطان ملك الملوك . وعلى قياسه قاضي القضاة .
ومنها : أن يقول السيد لغلامه وجاريته عبدي ، وأمتي ، ويقول الغلام لسيده ربي ، وليقل السيد فتاي وفتاتي ، وليقل الغلام سيدي وسيدتي .
ومنها : سب الريح إذا هبت بل يسأل الله خيرها ، وخير ما أرسلت به ويعوذ بالله من شرها وشر ما أرسلت به .
ومنها : سب الحمى ، نهى عنه وقال إنها تذهب خطايا بني آدم ، كما يذهب الكير خبث الحديد .

ومنها : النهي عن سب الديك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة .

ومنها : الدعاء بدعوى الجاهلية والتعزي بعزائهم كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ وتفضيل بعضها على بعض بالهوى والعصبية وكونه منتسبا إليه فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه ويزن الناس به كل هذا من دعوى الجاهلية .

ومنها : تسمية العشاء بالعتمة تسمية غالبة يهجر فيها لفظ العشاء .
ومنها : النهي عن سباب المسلم وأن يتناجى اثنان دون الثالث . وأن تخبر المرأة زوجها بمحاسن امرأة أخرى .
ومنها : أن يقول في دعائه " اللهم اغفر لي إن شئت وارحمني إن شئت " . ومنها : الإكثار من الحلف .
ومنها : كراهة أن يقول قوس قزح لهذا الذي يرى في السماء .
ومنها : أن يسأل أحدا بوجه الله .
ومنها : أن يسمي المدينة بيثرب .
ومنها : أن يسأل الرجل فيم ضرب امرأته إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
ومنها أن يقول صمت رمضان كله أو قمت الليل كله

فصل ومن الألفاظ المكروهة الإفصاح عن الأشياء التي ينبغي الكناية عنها بأسمائها الصريحة .
ومنها : أن يقول أطال الله بقاءك ، وأدام أيامك وعشت ألف سنة ونحو ذلك .
ومنها : أن يقول الصائم وحق الذي خاتمه على فم الكافر .
ومنها : أن يقول للمكوس حقوقا . وأن يقول لما ينفقه في طاعة الله غرمت أو خسرت كذا وكذا : وأن يقول أنفقت في هذه الدنيا مالا كثيرا .
ومنها : أن يقول المفتي : أحل الله كذا ، وحرم الله كذا في المسائل الاجتهادية وإنما يقوله فيما ورد النص بتحريمه .

[ كراهة تسمية أدلة القرآن والسنة ظواهر لفظية ومجازات ]

ومنها : أن يسمي أدلة القرآن والسنة ظواهر لفظية ومجازات فإن هذه التسمية تسقط حرمتها من القلوب ولا سيما إذا أضاف إلى ذلك تسمية شبه المتكلمين والفلاسفة قواطع عقلية فلا إله إلا الله كم حصل بهاتين التسميتين من فساد في العقول والأديان والدنيا والدين .

فصل ومنها : أن يحدث الرجل بجماع أهله وما يكون بينه وبينها ، كما يفعله السفلة . ومما يكره من الألفاظ زعموا وذكروا ، وقالوا ، ونحوه .
ومما يكره منها أن يقول للسلطان خليفة الله أو نائب الله في أرضه فإن الخليفة والنائب إنما يكون عن غائب والله سبحانه وتعالى خليفة الغائب في أهله ووكيل عبده المؤمن .

فصل [ التحذير من " أنا " و " لي " و " عندي " ]

وليحذر كل الحذر من طغيان " أنا " ، " ولي " ، " وعندي " ، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون ، وقارون ، فأنا خير منه لإبليس ولي ملك مصر لفرعون و إنما أوتيته على علم عندي لقارون . وأحسن ما وضعت " أنا " في قول العبد أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحوه . " ولي " ، في قوله لي الذنب ولي الجرم ولي المسكنة ولي الفقر والذل : " وعندي " في قوله " اغفر لي جدي ، وهزلي ، وخطئي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي " .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والمغازي والسرايا والبعوث
لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة كما لهم الرفعة في الدنيا فهم الأعلون في الدنيا والآخرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده . ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا وأعظمهم عند الله قدرا .

[ كان الجهاد في أول الإسلام بتبليغ الحجة ]

وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا [ الفرقان : 52 ] فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام قال تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير [ التوبة 73 ] فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل والقائمون به أفراد في العالم والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا فهم الأعظمون عند الله قدرا .

ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه كان للرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - من ذلك الحظ الأوفر وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكمل الجهاد وأتمه .

[ جهاد أعداء الله فرع على جهاد النفس ]

ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج وأصلا له فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج .

[ هناك جهاد ثالث هو جهاد الشيطان ]

فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويرجف به ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ وفوت اللذات والمشتهيات ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده فكان جهاده هو الأصل لجهادهما وهو الشيطان قال تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ فاطر 6 ] والأمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته كأنه عدو لا يفتر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس .

[ جهاد هؤلاء الأعداء الثلاثة ليمتحن من يتولاه ]

فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها وجهادها وقد بلي بمحاربتها في هذه الدار وسلطت عليه امتحانا من الله له وابتلاء فأعطى الله العبد مددا وعدة وأعوانا وسلاحا لهذا الجهاد وأعطى أعداءه مددا وعدة وأعوانا وسلاحا وبلا أحد الفريقين بالآخر وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه كما قال تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا [ الفرقان : 20 ]

وقال تعالى ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [ محمد 4 ] وقال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ محمد 31 ] فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى وأنزل عليهم كتبه وأرسل إليهم رسله وأمدهم بملائكته وقال لهم أني معكم فثبتوا الذين آمنوا [ الأنفال 12 ] وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم وأنه إن سلطه عليهم فلتركهم بعض ما أمروا به ولمعصيتهم له ثم لم يؤيسهم ولم يقنطهم بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم ويداووا جراحهم ويعودوا إلى مناهضة عدوهم فينصرهم عليه ويظفرهم بهم فأخبرهم أنه مع المتقين منهم ومع المحسنين ومع الصابرين ومع المؤمنين وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم ولولا دفاعه عنهم لتخطفهم عدوهم واجتاحهم .

وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم وعلى قدره فإن قوي الإيمان قويت المدافعة فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .

[ معنى وجاهدوا في الله حق جهاده ]

وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله فيكون كله لله وبالله لا لنفسه ولا بنفسه ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره وارتكاب نهيه فإنه يعد الأماني ويمني الغرور ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء وينهى عن التقى والهدى والعفة والصبر وأخلاق الإيمان كلها فجاهده بتكذيب وعده ومعصية أمره فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان وعدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله لتكون كلمة الله هي العليا .

واختلفت عبارات السلف في حق الجهاد فقال ابن عباس : هو استفراغ الطاقة فيه وألا يخاف في الله لومة لائم . وقال مقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته . وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى . ولم يصب من قال إن الآيتين منسوختان لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يطاق وحق تقاته وحق جهاده هو ما يطيقه كل عبد في نفسه وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز والعلم والجهل . فحق التقوى وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء وتأمل كيف عقب الأمر بذلك بقوله هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج 78 ] والحرج الضيق بل جعله واسعا يسع كل أحد كما جعل رزقه يسع كل حي وكلف العبد بما يسعه العبد ورزق العبد ما يسع العبد فهو يسع تكليفه ويسعه رزقه وما جعل على عبده في الدين من حرج بوجه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة أي بالملة فهي حنيفية في التوحيد سمحة في العمل .

وقد وسع الله سبحانه وتعالى على عباده غاية التوسعة في دينه ورزقه وعفوه ومغفرته وبسط عليهم التوبة ما دامت الروح في الجسد وفتح لهم بابا لها لا يغلقه عنهم إلى أن تطلع الشمس من مغربها وجعل لكل سيئة كفارة تكفرها من توبة أو صدقة أو حسنة ماحية أو مصيبة مكفرة وجعل بكل ما حرم عليهم عوضا من الحلال أنفع لهم منه وأطيب وألذ فيقوم مقامه ليستغني العبد عن الحرام ويسعه الحلال فلا يضيق عنه وجعل لكل عسر يمتحنهم به يسرا قبله ويسرا بعده " فلن يغلب عسر يسرين " فإذا كان هذا شأنه سبحانه مع عباده فكيف يكلفهم ما لا يسعهم فضلا عما لا يطيقونه ولا يقدرون عليه .

فصل [ مراتب الجهاد ]
إذا عرف هذا فالجهاد أربع مراتب جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين .

مراتب جهاد النفس فجهاد النفس أربع مراتب أيضا :

إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين .

الثانية أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .

الثالثة أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله .

الرابعة أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله . فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات .


فصل [مراتب جهاد الشيطان ]
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان إحداهما : جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان .

الثانية جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات فالجهاد الأول يكون بعده اليقين والثاني يكون بعده الصبر . قال تعالى : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ السجدة 24 ] فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة واليقين يدفع الشكوك والشبهات .

فصل [ مراتب جهاد الكفار والمنافقين ]
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب بالقلب واللسان والمال والنفس وجهاد الكفار أخص باليد وجهاد المنافقين أخص باللسان .

فصل [ جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات ]
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب الأولى : باليد إذا قدر فإن عجز انتقل إلى اللسان فإن عجز جاهد بقلبه فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد و من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق

فصل [ شرط الجهاد ]
ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة . قال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم [ البقرة 218 ]

وكما أن الإيمان فرض على كل أحد ففرض عليه هجرتان في كل وقت هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد والإخلاص والإنابة والتوكل والخوف والرجاء والمحبة والتوبة وهجرة إلى رسوله بالمتابعة والانقياد لأمره والتصديق بخبره وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله وجهاد شيطانه فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد .

وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد .


فصل [ أكمل الخلق من كمل مراتب الجهاد وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم ]
وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله فإنه كمل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل فإنه لما نزل عليه يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر [ المدثر ا - 4 ] شمر عن ساق الدعوة وقام في ذات الله أتم قيام ودعا إلى الله ليلا ونهارا وسرا وجهارا ولما نزل عليه فاصدع بما تؤمر [ الحجر : 94 ] فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم فدعا إلى الله الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى والأحمر والأسود والجن والإنس .

ولما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة وناداهم بسب آلهتهم وعيب دينهم اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ فصلت 43 ] وقال وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن [ الأنعام 112 ] وقال كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ الذاريات 52- 53 ]

فعزى سبحانه نبيه بذلك وأن له أسوة بمن تقدمه من المرسلين وعزى أتباعه بقوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [ البقرة 214 ]

وقوله الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين [ العنكبوت 1 - 11 ]

[ ذكر الابتلاء في أول الدعوة ]
فليتأمل العبد سياق هذه الآيات وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول أحدهم آمنا وإما ألا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر فمن قال آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فإنه إنما يطوي المراحل في يديه .

وكيف يفر المرء عنه بذنبه

إذا كان تطوى في يديه المراحل


فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة فحصل له ما يؤلمه وكان هذا المؤلم له أعظم ألما وأدوم من ألم اتباعهم فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير إلى الألم الدائم . وسئل الشافعي رحمه الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال لا يمكن حتى يبتلى والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول فأعقلهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم منقطع يسير وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر .

فإن قيل كيف يختار العاقل هذا ؟ قيل الحامل له على هذا النقد والنسيئة .

و النفس موكلة بحب العاجل


[ من أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا ]

كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة [ القيامة 20 ] إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا [ الدهر 27 ] وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية : من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا

ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرا فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربا من عقوبتهم فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عدوانهم ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم .

[ تعزية الله عباده المؤمنين بأن الحياة الدنيا قصيرة ]

ولما كان الألم لا محيص منه البتة عزى الله - سبحانه - من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم [ العنكبوت 5 ] فضرب لمدة هذا الألم أجلا لا بد أن يأتي وهو يوم لقائه فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه الشوق إلى لقائه فقال في الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان : اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين

فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه ويقرب عليه الطريق ويطوي له البعيد ويهون عليه الآلام والمشاق وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال هما السبب الذي تنال به والله سبحانه سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها ويعرف قدرها ويحب المنعم عليه فتصلح عنده هذه النعمة ويصلح بها كما قال تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين [ الأنعام 53 ] فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه
أليس الله بأعلم بالشاكرين

[ من جاهد فإنما يجاهد لنفسه ]

ثم عزاهم تعالى بعزاء آخر وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم وثمرته عائدة عليهم وأنه غني عن العالمين ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين .

[ معنى فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ]

ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك في فراره منهم وتركه السبب الذي ناله كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب وهذا لضعف بصيرته فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق .

والمقصود أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة .


فصل [ ذكر السابقين إلى الإسلام ]
[ أبوبكر الصديق ]

ولما دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل استجاب له عباد الله من كل قبيلة فكان حائز قصب سبقهم صديق الأمة وأسبقها إلى الإسلام أبو بكر رضي الله عنه فآزره في دين الله ودعا معه إلى الله على بصيرة فاستجاب لأبي بكر عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص .

[ خديجة الكبرى ]

وبادر إلى الاستجابة له صلى الله عليه وسلم صديقة النساء خديجة بنت خويلد وقامت بأعباء الصديقية وقال لها : لقد خشيت على نفسي فقالت له أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ثم استدلت بما فيه من الصفات الفاضلة والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدا فعلمت بكمال عقلها وفطرتها أن الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والشيم الشريفة تناسب أشكالها من كرامة الله وتأييده وإحسانه ولا تناسب الخزي والخذلان وإنما يناسبه أضدادها فمن ركبه الله على أحسن الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليق به كرامته وإتمام نعمته عليه ومن ركبه على أقبح الصفات وأسوإ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبها وبهذا العقل والصديقية استحقت أن يرسل إليها ربها بالسلام منه مع رسوليه جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم .

فصل [ من السابقين إلى الإسلام علي وزيد ]

وبادر إلى الإسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان ابن ثمان سنين وقيل أكثر من ذلك وكان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه من عمه أبي طالب إعانة له في سنة محل .

وبادر زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلاما لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها وقدم أبوه وعمه في فدائه فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل هو في المسجد فدخلا عليه فقالا : يا ابن عبد المطلب يا ابن هاشم يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه قال ومن هو ؟ " قالوا : زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فهلا غير ذلك " قالوا : ما هو ؟ قال " أدعوه فأخيره فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا " قالا : قد رددتنا على النصف وأحسنت فدعاه فقال " هل تعرف هؤلاء ؟ " قال نعم قال " من هذا ؟ " قال هذا أبي وهذا عمي قال " فأنا من قد علمت ورأيت وعرفت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما " قال ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أبدا أنت مني مكان الأب والعم فقالا : ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وعلى أهل بيتك ؟ قال نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال " أشهدكم أن زيدا ابني يرثني وأرثه " فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا ودعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فنزلت ادعوهم لآبائهم [ الأحزاب 5 ] فدعي من يومئذ زيد بن حارثة . قال معمر في " جامعه " عن الزهري : ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة وهو الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه أنعم عليه وأنعم عليه رسوله وسماه باسمه .

[ ورقة بن نوفل ]

وأسلم القس ورقة بن نوفل وتمنى أن يكون جذعا إذ يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وفي " جامع الترمذي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في المنام في هيئة حسنة وفي حديث آخر أنه رآه في ثياب بياض .

ودخل الناس في الدين واحدا بعد واحد وقريش لا تنكر ذلك حتى بادأهم بعيب دينهم وسب آلهتهم وأنها لا تضر ولا تنفع فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب لأنه كان شريفا معظما في قريش مطاعا في أهله وأهل مكة لا يتجاسرون على مكاشفته بشيء من الأذى .

وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها .

وأما أصحابه فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته وسائرهم تصدوا له بالأذى والعذاب منهم عمار بن ياسر وأمه سمية وأهل بيته عذبوا في الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة

ومنهم بلال بن رباح فإنه عذب في الله أشد العذاب فهان على قومه وهانت عليه نفسه في الله وكان كلما اشتد عليه العذاب يقول أحد أحد فيمر به ورقة بن نوفل . فيقول إي والله يا بلال أحد أحد أما والله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا .




فصل

ولما اشتد أذى المشركين على من أسلم وفتن منهم من فتن حتى يقولوا لأحدهم اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول نعم وحتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون وهذا إلهك من دون الله فيقول نعم ومر عدو الله أبو جهل بسمية أم عمار بن ياسر وهي تعذب وزوجها وابنها فطعنها بحربة في فرجها حتى قتلها .

[ شراء الصديق للعبيد المعذبين ]

كان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه منهم وأعتقه منهم بلال وعامر بن فهيرة وأم عبيس وزنيرة والنهدية وابنتها وجارية لبني عدي كان عمر يعذبها على الإسلام قبل إسلامه وقال له أبوه يا بني أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت قوما جلدا يمنعونك فقال له أبو بكر إني أريد ما أريد

[ الهجرة الأولى إلى الحبشة ]
[ هل قدم ابن مسعود مكة من الهجرة الأولى إلى الحبشة ]

فلما اشتد البلاء أذن الله سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وكان أول من هاجر إليها عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلا وأربع نسوة عثمان وامرأته وأبو حذيفة وامرأته سهلة بنت سهيل وأبو سلمة وامرأته أم سلمة هند بنت أبي أمية والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة وأبو سبرة بن أبي رهم وحاطب بن عمرو وسهيل بن وهب وعبد الله بن مسعود .

وخرجوا متسللين سرا فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار فحملوهم فيهما إلى أرض الحبشة وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من المبعث وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحدا ثم بلغهم أن قريشا قد كفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فرجعوا فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار بلغهم أن قريشا أشد ما كانوا عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل من دخل بجوار وفي تلك المرة دخل ابن مسعود فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فلم يرد عليه فتعاظم ذلك على ابن مسعود حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم ؟ : إن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة هذا هو الصواب وزعم ابن سعد وجماعة أن ابن مسعود لم يدخل وأنه رجع إلى الحبشة حتى قدم في المرة الثانية إلى المدينة مع من قدم ورد هذا بأن ابن مسعود شهد بدرا وأجهز على أبي جهل وأصحاب هذه الهجرة إنما قدموا المدينة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه بعد بدر بأربع سنين أو خمس .

قالوا : فإن قيل بل هذا الذي ذكره ابن سعد يوافق قول زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين [ البقرة 238 ] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وزيد بن أرقم من الأنصار والسورة مدنية وحينئذ فابن مسعود سلم عليه لما قدم وهو في الصلاة فلم يرد عليه حتى سلم وأعلمه بتحريم الكلام فاتفق حديثه وحديث ابن أرقم .

قيل يبطل هذا شهود ابن مسعود بدرا وأهل الهجرة الثانية إنما قدموا عام خيبر مع جعفر وأصحابه ولو كان ابن مسعود ممن قدم قبل بدر لكان لقدومه ذكر ولم يذكر أحد قدوم مهاجري الحبشة إلا في القدمة الأولى بمكة والثانية عام خيبر مع جعفر فمتى قدم ابن مسعود في غير هاتين المرتين ومع من ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق قال وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم من ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا . فكان ممن قدم منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد بدرا وأحدا فذكر منهم عبد الله بن مسعود .

فإن قيل فما تصنعون بحديث زيد بن أرقم ؟ قيل قد أجيب عنه بجوابين

أحدهما : أن يكون النهي عنه قد ثبت بمكة ثم أذن فيه بالمدينة ثم نهي عنه .

والثاني : أن زيد بن أرقم كان من صغار الصحابة وكان هو وجماعة يتكلمون في الصلاة على عادتهم ولم يبلغهم النهي فلما بلغهم انتهوا وزيد لم يخبر عن جماعة المسلمين كلهم بأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة إلى حين نزول هذه الآية ولو قدر أنه أخبر بذلك لكان وهما منه .

[ الهجرة الثانية إلى الحبشة ]
ثم اشتد البلاء من قريش على من قدم من مهاجري الحبشة وغيرهم وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية وكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب ولقوا من قريش تعنيفا شديدا ونالوهم بالأذى وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم وكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا إن كان فيهم عمار بن ياسر فإنه يشك فيه قاله ابن إسحاق ومن النساء تسع عشرة امرأة .

قلت قد ذكر في هذه الهجرة الثانية عثمان بن عفان وجماعة ممن شهد بدرا فإما أن يكون هذا وهما وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر فيكون لهم ثلاث قدمات قدمة قبل الهجرة وقدمة قبل بدر وقدمة عام خيبر ولذلك قال ابن سعد وغيره إنهم لما سمعوا مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ومن النساء ثمان نسوة فمات منهم رجلان بمكة وحبس بمكة سبعة وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلا .

فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري فلما قرئ عليه الكتاب أسلم وقال لئن قدرت أن آتيه لآتينه .

وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت فيمن هاجر إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصر هناك ومات فزوجه النجاشي إياها وأصدقها عنه أربعمائة دينار وكان الذي ولي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص .

وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فوجدوه قد فتحها فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهامهم ففعلوا .

وعلى هذا فيزول الإشكال الذي بين حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ويكون ابن مسعود قدم في المرة الوسطى بعد الهجرة قبل بدر إلى المدينة وسلم عليه حينئذ فلم يرد عليه وكان العهد حديثا بتحريم الكلام كما قال زيد بن أرقم ويكون تحريم الكلام بالمدينة لا بمكة وهذا أنسب بالنسخ الذي وقع في الصلاة والتغيير بعد الهجرة كجعلها أربعا بعد أن كانت ركعتين ووجوب الاجتماع لها .

فإن قيل ما أحسنه من جمع وأثبته لولا أن محمد بن إسحاق قد قال ما حكيتم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة بعد رجوعه من الحبشة حتى هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وهذا يدفع ما ذكر .

قيل إن كان محمد بن إسحاق قد قال هذا فقد قال محمد بن سعد في " طبقاته " : إن ابن مسعود مكث يسيرا بعد مقدمه ثم رجع إلى أرض الحبشة وهذا هو الأظهر لأن ابن مسعود لم يكن له بمكة من يحميه وما حكاه ابن سعد قد تضمن زيادة أمر خفي على ابن إسحاق وابن إسحاق لم يذكر من حدثه ومحمد بن سعد أسند ما حكاه إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب فاتفقت الأحاديث وصدق بعضها بعضا وزال عنها الإشكال و لله الحمد والمنة .

وقد ذكر ابن إسحاق في هذه الهجرة إلى الحبشة أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس وقد أنكر عليه ذلك أهل السير منهم محمد بن عمر الواقدي وغيره وقالوا : كيف يخفى ذلك على ابن إسحاق أو على من دونه ؟

قلت وليس ذلك مما يخفى على من دون محمد بن إسحاق فضلا عنه وإنما نشأ الوهم أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى أرض الحبشة إلى عند جعفر وأصحابه لما سمع بهم ثم قدم معهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر كما جاء مصرحا به في " الصحيح " فعد ذلك ابن إسحاق لأبي موسى هجرة ولم يقل إنه هاجر من مكة إلى أرض الحبشة لينكر عليه .

فصل [ محاولة المشركين رد النجاشي المهاجرين ]
فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النجاشي آمنين فلما علمت قريش بذلك بعثت في أثرهم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا وتحف من بلدهم إلى النجاشي ليردهم عليهم فأبى ذلك عليهم وشفعوا إليه بعظماء بطارقته فلم يجبهم إلى ما طلبوا فوشوا إليه إن هؤلاء يقولون في عيسى قولا عظيما يقولون إنه عبد الله فاستدعى المهاجرين إلى مجلسه ومقدمهم جعفر بن أبي طالب فلما أرادوا الدخول عليه قال جعفر يستأذن عليك حزب الله فقال للآذن قل له يعيد استئذانه فأعاده عليه فلما دخلوا عليه قال ما تقولون في عيسى ؟ فتلا عليه جعفر صدرا من سورة " كهيعص " فأخذ النجاشي عودا من الأرض فقال ما زاد عيسى على هذا ولا هذا العود فتناخرت بطارقته عنده فقال وإن نخرتم قال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي من سبكم غرم والسيوم الآمنون في لسانهم ثم قال للرسولين لو أعطيتموني دبرا من ذهب يقول جبلا من ذهب ما أسلمتهم إليكما ثم أمر فردت عليهما هداياهما ورجعا مقبوحين .

فصل [ مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب ]
ثم أسلم حمزة عمه وجماعة كثيرون وفشا الإسلام فلما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو والأمور تتزايد أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة يقال كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم ويقال النضر بن الحارث والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب فإنه ظاهر قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشعب شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة وبقوا محبوسين ومحصورين مضيقا عليهم جدا مقطوعا عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب وهناك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة أولها :

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا

عقوبة شر عاجلا غير آجل


[ نقض الصحيفة ]
وكانت قريش في ذلك بين راض وكاره فسعى في نقض الصحيفة من كان كارها لها وكان القائم بذلك هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك مشى في ذلك إلى المطعم بن عدي وجماعة من قريش فأجابوه إلى ذلك ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل فأخبر بذلك عمه فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا فإن كان كاذبا خلينا بينكم وبينه وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا قالوا : قد أنصفت فأنزلوا الصحيفة فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا كفرا إلى كفرهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب .

قال ابن عبد البر : بعد عشرة أعوام من المبعث ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام وقيل غير ذلك .


فصل [ الخروج إلى الطائف ]
فلما نقضت الصحيفة وافق موت أبي طالب وموت خديجة وبينهما يسير فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه وتجرءوا عليه فكاشفوه بالأذى فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم ودعاهم إلى الله عز وجل فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرا وآذوه مع ذلك أشد الأذى ونالوا منه ما لم ينله قومه وكان معه زيد بن حارثة مولاه فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه فقالوا : اخرج من بلدنا وأغروا به سفهاءهم فوقفوا له سماطين وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه فانصرف راجعا من الطائف إلى مكة محزونا وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور دعاء الطائف : اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني ؟ أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك .

فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة وهما جبلاها اللذان هي بينهما فقال لا بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا

[ استماع الجن لقراءته صلى الله عليه وسلم]

فلما نزل بنخلة مرجعه قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من الجن فاستمعوا قراءته ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين [ الأحقاف 29 - 32 ] .

وأقام بنخلة أياما فقال له زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك ؟ يعني قريشا فقال يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه

[ دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بجوار المطعم ]

ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي أدخل في جوارك ؟ فقال نعم ودعا بنيه وقومه فقال البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا فلا يهجه أحد منكم فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته .

فصل [ الإسراء ]
ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما وربط البراق بحلقة باب المسجد .

وقد قيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولم يصح ذلك عنه البتة .

[المعراج ]

ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا فاستفتح له جبريل ففتح له فرأى هنالك آدم أبا البشر فسلم عليه فرد عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم فلقيهما وسلم عليهما فردا عليه ورحبا به وأقرا بنبوته ثم عرج به إلى السماء الثالثة فرأى فيها يوسف فسلم عليه فرد عليه ورحب به وأقر بنبوته ثم عرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته فلما جاوزه بكى موسى فقيل له ما يبكيك ؟ فقال أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ثم رفع إلى سدرة المنتهى ثم رفع له البيت المعمور ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليه خمسين صلاة . فرجع حتى مر على موسى فقال له بم أمرت ؟ قال بخمسين صلاة قال إن أمتك لا تطيق ذلك ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم إن شئت فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه . هذا لفظ البخاري في بعض الطرق فوضع عنه عشرا ثم أنزل حتى مر بموسى فأخبره فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل حتى جعلها خمسا فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف فقال قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم فلما بعد نادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي .


هل رأى صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج ]
واختلف الصحابة هل رأى ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه وصح عنه أنه قال رآه بفؤاده

وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا : إن قوله ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى [ النجم 13 ] إنما هو جبريل . وصح عن أبي ذر أنه سأله هل رأيت ربك ؟ فقال نور أنى أراه أي حال بيني وبين رؤيته النور كما قال في لفظ آخر رأيت نورا

وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره . قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وليس قول ابن عباس : " إنه رآه " مناقضا لهذا ولا قوله رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال " رأيت ربي تبارك وتعالى " ولكن لم يكن هذا في الإسراء ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله تعالى وقال نعم رآه حقا فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى : إنه رآه بعيني رأسه يقظة ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه ولكن قال مرة رآه ومرة قال رآه بفؤاده فحكيت عنه روايتان وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك . وأما قول ابن عباس : أنه رآه بفؤاده مرتين فإن كان استناده إلى قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى [ النجم 11 ] ثم قال ولقد رآه نزلة أخرى [ النجم 13 ] والظاهر أنه مستنده فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خلق عليها وقول ابن عباس هذا هو مستند الإمام أحمد في قوله رآه بفؤاده والله أعلم . وأما قوله تعالى في سورة النجم ثم دنا فتدلى [ النجم 8 ] فهو غير الدنو والتدلي في قصة الإسراء فإن الذي في ( سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه كما قالت عائشة وابن مسعود والسياق يدل عليه فإنه قال علمه شديد القوى [ النجم 5 ] وهو جبريل ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى [ النجم 6 - 8 ] فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى وهو ذو المرة أي القوة وهو الذي استوى بالأفق الأعلى وهو الذي دنى فتدلى فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين أو أدنى فأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتدليه ولا تعرض في ( سورة النجم لذلك بل فيها أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى وهذا هو جبريل رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى والله أعلم .

فصل [ إخباره صلى الله عليه وسلم لقريش بالإسراء ]
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى فاشتد تكذيبهم له وأذاهم وضراوتهم عليه وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له حتى عاينه فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا .

وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه وأخبرهم عن وقت قدومها وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال فلم يزدهم ذلك إلا نفورا وأبى الظالمون إلا كفورا .


فصل [ الفرق بين من قال كان الإسراء بالروح وبين أن يقال كان الإسراء مناما ]
وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا : إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال كان الإسراء مناما وبين أن يقال كان بروحه دون جسده وبينهما فرق عظيم وعائشة ومعاوية لم يقولا : كان مناما وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده وفرق بين الأمرين فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض وروحه لم تصعد ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال والذين قالوا : عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان طائفة قالت عرج بروحه وبدنه وطائفة قالت عرج بروحه ولم يفقد بدنه وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة فتقف بين يدي الله عز وجل فيأمر فيها بما يشاء ثم تنزل إلى الأرض والذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة .

ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد حتى شق بطنه وهو حي لا يتألم بذلك عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومع هذا فلها إشراف على البدن وإشراق وتعلق به بحيث يرد السلام على من سلم عليه وبهذا التعلق رأى موسى قائما يصلي في قبره ورآه في السماء السادسة .

ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها فرآه يصلي في قبره ورآه في السماء السادسة كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرا هناك وبدنه في ضريحه غير مفقود وإذا سلم عليه المسلم رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ولم يفارق الملأ الأعلى ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا فلينظر إلى الشمس في علو محلها وتعلقها وتأثيرها في الأرض وحياة النبات والحيوان بها هذا وشأن الروح فوق هذا فلها شأن وللأبدان شأن وهذه النار تكون في محلها وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف .

فقل للعيون الرمد إياك أن تري

سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا


فصل [ الصحيح أن الإسراء كان مرة ]

قال موسى بن عقبة عن الزهري : عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة . وقال ابن عبد البر وغيره كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى .

وكان الإسراء مرة واحدة . وقيل مرتين مرة يقظة ومرة مناما وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله ثم استيقظت وبين سائر الروايات ومنهم من قال بل كان هذا مرتين مرة قبل الوحي لقوله في حديث شريك " وذلك قبل أن يوحى إليه " ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث . منهم من قال بل ثلاث مرات مرة قبل الوحي ومرتين بعده وكل هذا خبط وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة .

ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مرارا كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا ثم يقول " أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها عشرا عشرا وقد غلط الحفاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء ومسلم أورد المسند منه ثم قال فقدم وأخر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث فأجاد رحمه الله .

يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 03:23 AM
فصل في مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه
وجعلها مبدأ لإعزاز دينه ونصر عبده ورسوله

[ دعوته صلى الله عليه وسلم القبائل ]
قال الواقدي : حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم بها العجم فإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة وأبو لهب وراءه يقول لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ويؤذونه ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك وهو يدعوهم إلى الله ويقول اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا قال وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم بنو عامر بن صعصعة ومحارب بن حصفة وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو النضر وبنو البكاء وكندة وكلب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة فلم يستجب منهم أحد

فصل [ لقياه صلى الله عليه وسلم لمن قدم من الأوس والخزرج ]
وكان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبيا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم وكانت الأنصار يحجون البيت كما كانت العرب تحجه دون اليهود فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله عز وجل وتأملوا أحواله قال بعضهم لبعض تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه . وكان سويد بن الصامت من الأوس قد قدم مكة فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبعد ولم يجب حتى قدم أنس بن رافع أبو الحيسر في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال إياس بن معاذ وكان شابا حدثا : يا قوم هذا والله خير مما جئنا له فضربه أبو الحيسر وانتهره فسكت ثم لم يتم لهم الحلف فانصرفوا إلى المدينة

[ فصل لقي النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الخزرج ]

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله بن رئاب فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلموا

[ بيعة العقبة الأولى ]

ثم رجعوا إلى المدينة فدعوهم إلى الإسلام ففشا الإسلام فيها حتى لم يبق دار إلا وقد دخلها الإسلام فلما كان العام المقبل جاء منهم اثنا عشر رجلا الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم وذكوان بن عبد القيس وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة فيقال إنه مهاجري أنصاري وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويمر بن مالك هم اثنا عشر .

وقال أبو الزبير عن جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم ومجنة وعكاظ يقول من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له احذر غلام قريش لا يفتنك ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عز وجل وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام وبعثنا الله إليه فائتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدنا بيعة العقبة فقال له عمه العباس يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك إني ذو معرفة بأهل يثرب فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين فلما نظر العباس في وجوهنا قال هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال " تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فقمنا نبايعه فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين فقال رويدا يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله فقالوا : يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا وشرط يعطينا بذلك الجنة ثم انصرفوا إلى المدينة وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان من أسلم منهم القرآن ويدعوان إلى الله عز وجل فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة وكان مصعب بن عمير يؤمهم وجمع بهم لما بلغوا أربعين فأسلم على يديهما بشر كثير منهم أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل الرجال والنساء إلا أصيرم عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد وأسلم حينئذ وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله سجدة فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمل قليلا وأجر كثيرا

[ بيعة العقبة الثانية ]

وكثر الإسلام بالمدينة وظهر ثم رجع مصعب إلى مكة ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين وزعيم القوم البراء بن معرور فلما كانت ليلة العقبة الثلث الأول من الليل تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية من قومهم ومن كفار مكة على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم فكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور وكانت له اليد البيضاء إذ أكد العقد وبادر إليه وحضر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدا لبيعته كما تقدم وكان إذ ذاك على دين قومه واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيبا وهم أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك والبراء بن معرور
وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر وكان إسلامه تلك الليلة وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وعبادة بن الصامت فهؤلاء تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس : أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر . وقيل بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه .

وأما المرأتان فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو وهي التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد وأسماء بنت عمرو بن عدي . فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل العقبة بأسيافهم فلم يأذن لهم في ذلك وصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمع يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم فلما أصبح القوم غدت عليهم جلة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار فقالوا : يا معشر الخزرج إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا وايم الله ما حي من العرب أبغض إلينا من أن ينشب بيننا وبينه الحرب منكم فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين يحلفون لهم بالله ما كان هذا وما علمنا وجعل عبد الله بن أبي ابن سلول يقول هذا باطل وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا علي مثل هذا لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني فرجعت قريش من عندهم ورحل البراء بن معرور فتقدم إلى بطن يأجج وتلاحق أصحابه من المسلمين وتطلبتهم قريش فأدركوا سعد بن عبادة فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجذبونه بجمته حتى أدخلوه مكة فجاء مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه فإذا سعد قد طلع عليهم فوصل القوم جميعا إلى المدينة .

[ بدء الهجرة إلى المدينة ]
فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة فبادر الناس إلى ذلك فكان أول من خرج إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة ولكنها احتبست دونه ومنعت من اللحاق به سنة وحيل بينها وبين ولدها سلمة ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى المدينة وشيعها عثمان بن أبي طلحة . ثم خرج الناس أرسالا يتبع بعضهم بعضا ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي أقاما بأمره لهما وإلا من احتبسه المشركون كرها وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج وأعد أبو بكر جهازه .

افتراضي

فصل [ ائتمار قريش به صلى الله عليه وسلم لقتله ]
فلما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج وعرفوا أن الدار دار منعة وأن القوم أهل حلقة وشوكة وبأس فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم فيشتد عليهم أمره فاجتمعوا في دار الندوة ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره وحضرهم وليهم وشيخهم إبليس في صورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصماء في كسائه فتذاكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار كل أحد منهم برأي والشيخ يرده ولا يرضاه إلى أن قال أبو جهل : قد فرق لي فيه رأي ما أراكم قد وقعتم عليه قالوا : ما هو ؟ قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما نهدا جلدا ثم نعطيه سيفا صارما فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنع ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ونسوق إليهم ديته فقال الشيخ لله در الفتى هذا والله الرأي قال فتفرقوا على ذلك واجتمعوا عليه فجاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى فأخبره بذلك وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة .

[ قصة هجرته صلى الله عليه وسلم ]
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها متقنعا فقال له " أخرج من عندك " فقال إنما هم أهلك يا رسول الله فقال إن الله قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر الصحابة يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فقال أبو بكر فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن

[ نوم علي في مضجعه صلى الله عليه وسلم ]

وأمر عليا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ويريدون بياته ويأتمرون أيهم يكون أشقاها فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم وهم لا يرونه وهو يتلو وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون [ يس : 9 ]

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا وجاء رجل ورأى القوم ببابه فقال ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدا قال خبتم وخسرتم قد والله مر بكم وذر على رءوسكم التراب قالوا : والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم وهم أبو جهل والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وطعيمة بن عدي وأبو لهب وأبي بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج فلما أصبحوا قام علي عن الفراش فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا علم لي به .

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه وضرب العنكبوت على بابه .

وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي وكان هاديا ماهرا بالطريق وكان على دين قومه من قريش وأمناه على ذلك وسلما إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث وجدت قريش في طلبهما وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه .

ففي " الصحيحين أن أبا بكر قال يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن فإن الله معنا وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعان كلامهم فوق رءوسهما ولكن الله سبحانه عمى عليهم أمرهما وكان عامر بن فهيرة يرعى عليهما غنما لأبي بكر ويتسمع ما يقال بمكة ثم يأتيهما بالخبر فإذا كان السحر سرح مع الناس .

قالت عائشة وجهزناهما أحسن الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فأوكت به الجراب وقطعت الأخرى فصيرتها عصاما لفم القربة فلذلك لقبت ذات النطاقين .

وذكر الحاكم في " مستدركه " عن عمر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك فقال يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني ؟ قال نعم والذي بعثك بالحق فلما انتهى إلى الغار قال أبو بكر مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار فدخل فاستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة ثم قال انزل يا رسول الله فنزل فمكثا في الغار ثلاث ليال حتى خمدت عنهما نار الطلب فجاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين فارتحلا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة وسار الدليل أمامهما وعين الله تكلؤهما وتأييده يصحبهما وإسعاده يرحلهما وينزلهما .

[ قصة سراقة ]

ولما يئس المشركون من الظفر بهما جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما فجد الناس في الطلب والله غالب على أمره فلما مروا بحي بني مدلج مصعدين من قديد بصر بهم رجل من الحي فوقف على الحي فقال لقد رأيت آنفا بالساحل أسودة ما أراها إلا محمدا وأصحابه ففطن بالأمر سراقة بن مالك فأراد أن يكون الظفر له خاصة وقد سبق له من الظفر ما لم يكن في حسابه فقال بل هم فلان وفلان خرجا في طلب حاجة لهما ثم مكث قليلا ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه اخرج بالفرس من وراء الخباء وموعدك وراء الأكمة ثم أخذ رمحه وخفض عاليه يخط به الأرض حتى ركب فرسه فلما قرب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يكثر الالتفات ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت فقال أبو بكر يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض فقال قد علمت أن الذي أصابني بدعائكما فادعوا الله لي ولكما علي أن أرد الناس عنكما فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابا فكتب له أبو بكر بأمره في أديم وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة فجاءه بالكتاب فوفاه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يوم وفاء وبر وعرض عليهما الزاد والحملان فقالا : لا حاجة لنا به ولكن عم عنا الطلب فقال قد كفيتم ورجع فوجد الناس في الطلب فجعل يقول قد استبرأت لكم الخبر وقد كفيتم ما ها هنا وكان أول النهار جاهدا عليهما وآخره حارسا لهما .

افتراضي

فصل [ أم معبد ]
ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك حتى مر بخيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة ثم تطعم وتسقي من مر بها فسألاها : هل عندها شيء ؟ فقالت والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى والشاء عازب وكانت مسنة شهباء فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ قالت شاة خلفها الجهد عن الغنم فقال هل بها من لبن ؟ قالت هي أجهد من ذلك فقال أتأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها وسمى الله ودعا فتفاجت عليه ودرت فدعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه حتى علته الرغوة فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا ثم شرب وحلب فيه ثانيا حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها فارتحلوا فقلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزالا لا نقي بهن فلما رأى اللبن عجب فقال من أين لك هذا والشاة عازب ؟ ولا حلوبة في البيت ؟ فقالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت ومن حاله كذا وكذا قال والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه صفيه لي يا أم معبد قالت ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي صوته صحل وفي عنقه سطع أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر إذا صمت علاه الوقار وإن تكلم علاه البهاء أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنه وأحلاه من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ربعة لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إذا قال استمعوا لقوله وإذا أمر تبادروا إلى أمره محفود محشود لا عابس ولا مفند فقال أبو معبد والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا لقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعونه ولا يرون القائل


جزى الله رب العرش خير جزائه

رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر وارتحلا به

وأفلح من أمسى رفيق محمد

فيالقصي ما زوى الله عنكم

به من فعال لا يجازى وسودد

ليهن بني كعب مكان فتاتهم

ومقعدها للمؤمنين بمرصد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها

فإنكم إن تسألوا الشاء تشهد


قالت أسماء بنت أبي بكر : ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه حتى خرج من أعلاها قالت فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وجهه إلى المدينة .

فصل [ وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ]
وبلغ الأنصار مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وقصده المدينة وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار فإذا اشتد حر الشمس رجعوا على عادتهم إلى منازلهم فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة خرجوا على عادتهم فلما حمي حر الشمس رجعوا وصعد رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شأنه فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء هذا جدكم الذي تنتظرونه فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف وكبر المسلمون فرحا بقدومه وخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة فأحدقوا به مطيفين حوله والسكينة تغشاه والوحي ينزل عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير [ التحريم 4 ] فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف فنزل على كلثوم بن الهدم وقيل بل على سعد بن خيثمة والأول أثبت فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء وهو أول مسجد أسس بعد النبوة .

فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر الله له فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي . ثم ركب فأخذوا بخطام راحلته هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة فقال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فلم تزل ناقته سائرة به لا تمر بدار من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم ويقول دعوها فإنها مأمورة فسارت حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم وبركت ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا ثم التفتت فرجعت فبركت في موضعها الأول فنزل عنها وذلك في بني النجار أخواله صلى الله عليه وسلم .

وكان من توفيق الله لها فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله بيته فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المرء مع رحله وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته وكانت عنده وأصبح كما قال أبو قيس صرمة الأنصاري وكان ابن عباس يختلف إليه يتحفظ منه هذه الأبيات


ثوى في قريش بضع عشرة حجة

يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه

فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا واستقرت به النوى

وأصبح مسرورا بطيبة راضيا

وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم

بعيد ولا يخشى من الناس باغيا

بذلنا له الأموال من حل مالنا

وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم

جميعا وإن كان الحبيب المصافيا

ونعلم أن الله لا رب غيره

وأن كتاب الله أصبح هاديا



[ معنى أدخلني مدخل صدق ]

قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأمر بالهجرة وأنزل عليه وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا [ الإسراء 80 ] .

قال قتادة : أخرجه الله من مكة إلى المدينة مخرج صدق ونبي الله يعلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل الله سلطانا نصيرا وأراه الله عز وجل دار الهجرة وهو بمكة فقال أريت دار هجرتكم بسبخة ذات نخل بين لابتين

وذكر الحاكم في " مستدركه " عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل من يهاجر معي ؟ قال أبو بكر الصديق قال البراء أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئان الناس القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عشرين راكبا ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون هذا رسول الله قد جاء

وقال أنس شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة علينا وشهدته يوم مات فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات


قدوم أهله صلى الله عليه وسلم من مكة ]
فأقام في منزل أبي أيوب حتى بنى حجره ومسجده وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة بنت زمعة زوجته وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن وأما زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمكنها زوجها أبو العاص بن الربيع من الخروج وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر ومنهم عائشة فنزلوا في بيت حارثة بن النعمان .

فصل في بناء المسجد
قال الزهري : بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم موضع مسجده وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين وكان مربدا لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار كانا في حجر أسعد بن زرارة فساوم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتاعه منهما بعشرة دنانير وكان جدارا ليس له سقف وقبلته إلى بيت المقدس وكان يصلي فيه ويجمع أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه شجرة غرقد وخرب ونخل وقبور للمشركين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل والشجر فقطعت وصفت في قبلة المسجد وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع والجانبين مثل ذلك أو دونه وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع ثم بنوه باللبن وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني معهم وينقل اللبن والحجارة بنفسه ويقول


اللهم لا عيش إلا عيش الآخره

فاغفر للأنصار والمهاجره


وكان يقول


هذا الحمال لا حمال خيبر

هذا أبر ربنا وأطهر


وجعلوا يرتجزون وهم ينقلون اللبن ويقول بعضهم في رجزه


لئن قعدنا والرسول يعمل

لذاك منا العمل المضلل


وجعل قبلته إلى بيت المقدس وجعل له ثلاثة أبواب بابا في مؤخره وبابا يقال له باب الرحمة والباب الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عمده الجذوع وسقفه بالجريد وقيل له ألا تسقفه فقال لا عريش كعريش موسى وبنى إلى جنبه بيوت أزواجه باللبن وسقفها بالجريد والجذوع فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد قبليه وهو مكان حجرته اليوم وجعل لسودة بنت زمعة بيتا آخر .

فصل [ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ]
ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك وكانوا تسعين رجلا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار آخى بينهم على المواساة يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر فلما أنزل الله عز وجل وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [ الأحزاب 6 ] رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة .

وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية واتخذ فيها عليا أخا لنفسه والثبت الأول والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار ولو آخى بين المهاجرين كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه ورفيقه في الهجرة وأنيسه في الغار وأفضل الصحابة وأكرمهم عليه أبو بكر الصديق وقد قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام أفضل
وفي لفظ ولكن أخي وصاحبي وهذه الأخوة في الإسلام وإن كانت عامة كما قال وددت أن قد رأينا إخواننا قالوا : ألسنا إخوانك ؟ قال أنتم أصحابي وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني فللصديق من هذه الأخوة أعلى مراتبها كما له من الصحبة أعلى مراتبها فالصحابة لهم الأخوة ومزية الصحبة ولأتباعه بعدهم الأخوة دون الصحبة .

افتراضي

فصل [ معاهدته صلى الله عليه وسلم مع اليهود ]
ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بالمدينة من اليهود وكتب بينه وبينهم كتابا وبادر حبرهم وعالمهم عبد الله بن سلام فدخل في الإسلام وأبى عامتهم إلا الكفر .

وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وحاربه الثلاثة فمن على بني قينقاع وأجلى بني النضير وقتل بني قريظة وسبى ذريتهم ونزلت ( سورة الحشر ) في بني النضير و ( سورة الأحزاب ) في بني قريظة .

فصل [ تحويل القبلة ]
وكان يصلي إلى قبلة بيت المقدس ويحب أن يصرف إلى الكعبة وقال لجبريل وددت أن يصرف الله وجهي عن قبلة اليهود فقال إنما أنا عبد فادع ربك واسأله س فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام [ البقرة 144 ] وذلك بعد ستة عشر شهرا من مقدمه المدينة قبل وقعة بدر بشهرين .

قال محمد بن سعد أخبرنا هاشم بن القاسم قال أنبأنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال ما خالف نبي نبيا قط في قبلة ولا في سنة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهرا ثم قرأ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك [ الشورى : 13 ]

وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين . فأما المسلمون فقالوا : سمعنا وأطعنا وقالوا : آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران 7 ] وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم . وأما المشركون فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا وما رجع إليها إلا أنه الحق .

وأما اليهود فقالوا : خالف قبلة الأنبياء قبله ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء . وأما المنافقون فقالوا : ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقا فقد تركها وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل وكثرت أقاويل السفهاء من الناس وكانت كما قال الله تعالى : وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله [ البقرة 143 ] وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه .

ولما كان أمر القبلة وشأنها عظيما وطأ - سبحانه - قبلها أمر النسخ وقدرته عليه وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ثم عقب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء وحذر عباده المؤمنين من موافقتهم واتباع أهوائهم ثم ذكر كفرهم وشركهم به وقولهم إن له ولدا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا ثم أخبر أن له المشرق والمغرب وأينما يولي عباده وجوههم فثم وجهه وهو الواسع العليم فلعظمته وسعته وإحاطته أينما يوجه العبد فثم وجه الله . ثم أخبر أنه لا يسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم وأنه إن فعل وقد أعاذه الله من ذلك فما له من الله من ولي ولا نصير ثم ذكر أهل الكتاب بنعمته عليهم وخوفهم من بأسه يوم القيامة ثم ذكر خليله باني بيته الحرام وأثنى عليه ومدحه وأخبر أنه جعله إماما للناس يأتم به أهل الأرض ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له وفي ضمن هذا أن باني البيت كما هو إمام للناس فكذلك البيت الذي بناه إمام لهم ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس ثم أمر عباده أن يأتموا برسوله الخاتم ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم وإلى سائر النبيين ثم رد على من قال إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هودا أو نصارى وجعل هذا كله توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة ومع هذا كله فقد كبر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة بعد ثالثة وأمر به رسوله حيثما كان ومن حيث خرج وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذي هداهم إلى هذه القبلة وأنها هي القبلة التي تليق بهم وهم أهلها لأنها أوسط القبل وأفضلها وهم أوسط الأمم وخيارهم فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب وأخرجهم في خير القرون وخصهم بأفضل الشرائع ومنحهم خير الأخلاق وأسكنهم خير الأرض وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل وموقفهم في القيامة خير المواقف فهم على تل عال والناس تحتهم فسبحان من يختص برحمته من يشاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة ولكن الظالمون الباغون يحتجون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت ولا يعارض الملحدون الرسل إلا بها وبأمثالها من الحجج الداحضة وكل من قدم على أقوال الرسول سواها فحجته من جنس حجج هؤلاء .

وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليتم نعمته عليهم وليهديهم ثم ذكرهم نعمه عليهم بإرسال رسوله إليهم وإنزال كتابه عليهم ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ثم أمرهم بذكره وبشكره إذ بهذين الأمرين يستوجبون إتمام نعمه والمزيد من كرامته ويستجلبون ذكره لهم ومحبته لهم ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به وهو الصبر والصلاة وأخبرهم أنه مع الصابرين .

فصل [ الأذان وزيادة الصلاة إلى رباعية ]

وأتم نعمته عليهم مع القبلة بأن شرع لهم الأذان في اليوم والليلة خمس مرات وزادهم في الظهر والعصر والعشاء ركعتين أخريين بعد أن كانت ثنائية فكل هذا كان بعد مقدمه المدينة .



فصل [ الإذن بالقتال ]
فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأيده الله بنصره بعباده المؤمنين الأنصار وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر وبذلوا نفوسهم دونه وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج وكان أولى بهم من أنفسهم رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة وصاحوا بهم من كل جانب والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح فأذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم فقال تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [ الحج 39 ] .

وقد قالت طائفة إن هذا الإذن كان بمكة والسورة مكية وهذا غلط لوجوه

أحدها : أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة .

الثاني : أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة وإخراجهم من ديارهم فإنه قال الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ الحج 40 ] وهؤلاء هم المهاجرون .

الثالث قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم [ الحج 19 ] نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين .

الرابع أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله يا أيها الذين آمنوا والخطاب بذلك كله مدني فأما الخطاب ( يا أيها الناس فمشترك .

الخامس أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد وغيره ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله فلا تطع الكافرين وجاهدهم به أي بالقرآن جهادا كبيرا [ الفرقان : 52 ] فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ وجهاد الحجة وأما الجهاد المأمور به في ( سورة الحج فيدخل فيه الجهاد بالسيف .

السادس أن الحاكم روى في " مستدركه " من حديث الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن فأنزل الله عز وجل أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [ الحج 39 ] وهي أول آية نزلت في القتال . وإسناده على شرط " الصحيحين " وسياق السورة يدل على أن فيها المكي والمدني فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنية الرسول مكية والله أعلم .

فصل [ فرض القتال ]
ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم [ البقرة 190 ] . ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة وكان محرما ثم مأذونا به ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال ثم مأمورا به لجميع المشركين إما فرض عين على أحد القولين أو فرض كفاية على المشهور .

[ التحقيق في مسألة فرضية الجهاد ]

والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع .

أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء كما قال تعالى : انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [ التوبة 41 ] وعلق النجاة من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة فقال يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم [ الصف 15 ]



وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب فقال وأخرى تحبونها [ الصف 12 ] أي ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد وهي نصر من الله وفتح قريب وأخبر سبحانه أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة 110 ] وأعاضهم عليها الجنة وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي التوراة والإنجيل والقرآن ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى ثم أكد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم.

فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجله فإن الله عز وجل هو المشتري والثمن جنات النعيم والفوز برضاه والتمتع برؤيته هناك. والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم. عليه من الملائكة والبشر وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم

قد هيئوك لأمر لو فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل


مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة بالله ما هزلت فيستامها المفلسون ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس فتأخر البطالون وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ المائدة 54 ] .

[ شراؤه صلى الله عليه وسلم بعيرا من جابر ]

لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران 31 ] فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة وقيل لا تقبل العدالة إلا بتزكية يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم [ المائدة 54 ] فتأخر أكثر المدعين للمحبة وقام المجاهدون فقيل لهم إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه العقد فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد عرفوا أن للسلعة قدرا وشأنا ليس لغيرها من السلع فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضى واختيارا من غير ثبوت خيار وقالوا : والله لا نقيلك ولا نستقيلك فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [ آل عمران 69 ] لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن .

تأمل قصة جابر بن عبد الله " وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيره ثم وفاه الثمن وزاده ورد عليه البعير وكان أبوه قد قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد فذكره بهذا الفعل حال أبيه مع الله وأخبره أن الله أحياه وكلمه كفاحا وقال يا عبدي تمن علي " فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن ووفق لتكميل العقد وقبل المبيع على عيبه وأعاض عليه أجل الأثمان واشترى عبده من نفسه بماله وجمع له بين الثمن والمثمن وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه .

فحيهلا إن كنت ذا همة فقد

حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا

وقل لمنادي حبهم ورضاهم

إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا

ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن

نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا

ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد

ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا

وخذ منهم زادا إليهم وسر على

طريق الهدى والحب تصبح واصلا

وأحيي بذكراهم شراك إذا دنت

ركابك فالذكرى تعيدك عاملا

وأما تخافن الكلال فقل لها

أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا

وخذ قبسا من نورهم ثم سر به

فنورهم يهديك ليس المشاعلا

وحي على وادي الأراك فقل به

عساك تراهم ثم إن كنت قائلا

وإلا ففي نعمان عندي معرف ال

أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا

وإلا ففي جمع بليلته فإن

تفت فمنى يا ويح من كان غافلا

وحي على جنات عدن فإنها

منازلك الأولى بها كنت نازلا

ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا

وقفت على الأطلال تبكي المنازلا

وحي على يوم المزيد بجنة ال

خلود فجد بالنفس إن كنت باذلا

فدعها رسوما دارسات فما بها

مقيل وجاوزها فليست منازلا

رسوما عفت ينتابها الخلق كم بها

قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا

وخذ يمنة عنها على المنهج الذي

عليه سرى وفد الأحبة آهلا

وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة

فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي

ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا


لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية وأسمع الله من كان حيا فهزه السماع إلى منازل الأبرار وحدا به في طريق سيره فما حطت به رحاله إلا بدار . القرار فقال انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل

وقال مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة

وقال غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها

وقال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة "

وقال جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم

وقال " أنا زعيم - والزعيم الحميل - لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة من فعل ذلك لم يدع للخير مطلبا ولا من الشر مهربا يموت حيث شاء أن يموت

وقال من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة

وقال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة

وقال لأبي سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وجبت له الجنة " فعجب لها أبو سعيد فقال أعدها علي يا رسول الله ففعل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال وما هي يا رسول الله ؟ قال " الجهاد في سبيل الله


وقال من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي فل هلم فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال " نعم وأرجو أن تكون منهم

وقال من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ومن أنفق على نفسه وأهله وعاد مريضا أو أماط الأذى عن طريق فالحسنة بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله في جسده فهو له حطة

وذكر ابن ماجه عنه من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم " ثم تلا هذه الآية والله يضاعف لمن يشاء [ البقرة 261 ] .

وقال من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غارما في غرمه أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله

وقال من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار

وقال لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل واحد ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد وفي لفظ " في قلب عبد " وفي لفظ " في جوف امرئ " وفي لفظ " في منخري مسلم

وذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى : من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار فهما حرام على النار

وذكر عنه أيضا أنه قال لا يجمع الله في جوف رجل غبارا في سبيل الله ودخان جهنم ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله سائر جسده على النار ومن صام يوما في سبيل الله باعد الله عنه النار مسيرة ألف سنة للراكب المستعجل ومن جرح جراحة في سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء له نور يوم القيامة لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك يعرفه بها الأولون والآخرون ويقولون فلان عليه طابع الشهداء ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة

وذكر ابن ماجه عنه من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكا يوم القيامة

وذكر أحمد - رحمه الله - عنه ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار

وقال رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها

وقال رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان

وقال كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر

وقال رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل

وذكر ابن ماجه عنه من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها

وقال مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة جاهدوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة

وذكر أحمد عنه من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة

وذكر عنه أيضا : حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها

وقال حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله

وذكر أحمد عنه من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم فإن الله يقول وإن منكم إلا واردها

وقال لرجل حرس المسلمين ليلة في سفرهم من أولها إلى الصباح على ظهر فرسه لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها

افتراضي

[ فضل الرمي ]
وقال من بلغ بسهم في سبيل الله فله درجة في الجنة

وقال من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة وعند النسائي تفسير الدرجة بمائة عام .

وقال إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الخير والممد به والرامي به وارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وكل شيء يلهو به الرجل فباطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه وملاعبته امرأته ومن علمه الله الرمي فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها رواه أحمد وأهل السنن وعند ابن ماجه من تعلم الرمي ثم تركه فقد عصاني وذكر أحمد عنه أن رجلا قال له أوصني فقال أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكر لك في الأرض " .

وقال ذروة سنام الإسلام الجهاد

وقال ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف

وقال من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق وذكر أبو داود عنه من لم يغز أو يجهز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة

وقال إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم

وذكر ابن ماجه عنه من لقي الله عز وجل وليس له أثر في سبيل الله لقي الله وفيه ثلمة

وقال تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ البقرة 195 ] وفسر أبو أيوب الأنصاري الإلقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهاد وصح عنه صلى الله عليه وسلم إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف

وصح عنه من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وصح عنه إن النار أول ما تسعر بالعالم والمنفق والمقتول في الجهاد إذا فعلوا ذلك ليقال وصح عنه أن من جاهد يبتغي عرض الدنيا فلا أجر له وصح عنه أنه قال لعبد الله بن عمرو : إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا وإن قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا يا عبد الله بن عمرو على أي وجه قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال








فصل

وكان يستحب القتال أول النهار كما يستحب الخروج للسفر أوله فإن لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر .

فصل

قال والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك

وفي الترمذي عنه ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين أو أثرين قطرة دمعة من خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله وأما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله

[ فضل الشهيد ]
وصح عنه أنه قال ما من عبد يموت له عند الله خير لا يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى وفي لفظ فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة

وقال لأم حارثة بنت النعمان وقد قتل ابنها معه يوم بدر فسألته أين هو ؟
قال إنه في الفردوس الأعلى

وقال إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا

وقال إن للشهيد عند الله خصالا أن يغفر له من أول دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلية الإيمان ويزوج من الحور العين ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها . ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه ذكره أحمد وصححه الترمذي .

وقال لجابر : ألا أخبرك ما قال الله لأبيك ؟ " قال بلى قال ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحا فقال يا عبدي تمن علي أعطك قال يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال إنه سبق مني ( أنهم إليها لا يرجعون قال يا رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [ آل عمران 169 ] وقال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله على رسوله هذه الآيات ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا

وفي " المسند مرفوعا : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية

وقال لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى يبتدره زوجتاه كأنهما طيران أضلتا فصيليهما ببراح من الأرض بيد كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها

وفي " المستدرك " والنسائي مرفوعا : لأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل المدر والوبر

وفيهما : ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة

وفي " السنن " : يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته

وفي " المسند " : أفضل الشهداء الذين إن يلقوا في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة ويضحك إليهم ربك وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه

وفيه الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك الذي يرفع إليه الناس أعناقهم ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه حتى وقعت قلنسوته ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما يضرب جلده بشوك الطلح أتاه سهم غرب فقتله هو في الدرجة الثانية ورجل مؤمن جيد الإيمان خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الثالثة ورجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافا كثيرا لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الرابعة

وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " : القتلى ثلاثة رجل مؤمن جاهد بماله ونفسه في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذاك الشهيد الممتحن في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة ورجل مؤمن فرق على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل فتلك ممصمصة محت ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء الخطايا وأدخل من أي أبواب الجنة شاء فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب وبعضها أفضل من بعض ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى يقتل فإن ذلك في النار إن السيف لا يمحو النفاق

وصح عنه أنه لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا وسئل أي الجهاد أفضل ؟ فقال من جاهد المشركين بماله ونفسه قيل . فأي القتل أفضل ؟ قال من أهريق دمه وعقر جواده في سبيل الله

وفي " سنن ابن ماجه " : إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر وهو لأحمد والنسائي مرسلا .

وصح عنه أنه لا تزال طائفة من أمته يقاتلون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة وفي لفظ حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال



فصل [ مبايعته صلى الله عليه وسلم أصحابه ]

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في الحرب على ألا يفروا وربما بايعهم على الموت وبايعهم على الجهاد كما بايعهم على الإسلام وبايعهم على الهجرة قبل الفتح وبايعهم على التوحيد والتزام طاعة الله ورسوله وبايع نفرا من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا .

وكان السوط يسقط من يد أحدهم فينزل عن دابته فيأخذه ولا يقول لأحد ناولني إياه

[ مشورته صلى الله عليه وسلم في الجهاد ]
وكان يشاور أصحابه في أمر الجهاد وأمر العدو وتخير المنازل وفي " المستدرك " عن أبي هريرة : ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

وكان يتخلف في ساقتهم في المسير فيزجي الضعيف ويردف المنقطع وكان أرفق الناس بهم في المسير

وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها فيقول مثلا إذا أراد غزوة حنين : كيف طريق نجد ومياهها ومن بها من العدو ونحو ذلك .

وكان يقول الحرب خدعة

وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوه ويطلع الطلائع ويبيت الحرس

وكان إذا لقي عدوه وقف ودعا واستنصر الله وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله وخفضوا أصواتهم

وكان يرتب الجيش والمقاتلة ويجعل في كل جنبة كفئا لها وكان يبارز بين يديه بأمره وكان يلبس للحرب عدته وربما ظاهر بين درعين وكان له الألوية والرايات

وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا ثم قفل

وكان إذا أراد أن يغير انتظر فإن سمع في الحي مؤذنا لم يغر وإلا أغار

وكان ربما بيت عدوه وربما فاجأهم نهارا

وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرة النهار وكان العسكر إذا نزل انضم بعضه إلى بعض حتى لو بسط عليهم كساء لعمهم .

وكان يرتب الصفوف ويعبئهم عند القتال بيده ويقول تقدم يا فلان تأخر يا فلان وكان يستحب للرجل منهم أن يقاتل تحت راية قومه .

[ دعاء لقاء العدو ]

وكان إذا لقي العدو قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم وربما قال سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر

وكان يقول اللهم أنزل نصرك وكان يقول " اللهم أنت عضدي وأنت نصيري وبك أقاتل

وكان إذا اشتد له بأس وحمي الحرب وقصده العدو يعلم بنفسه ويقول

أنا النبي لا كذب


أنا ابن عبد المطلب


وكان الناس إذا اشتد الحرب اتقوا به صلى الله عليه وسلم وكان أقربهم إلى العدو .

وكان يجعل لأصحابه شعارا في الحرب يعرفون به إذا تكلموا وكان شعارهم مرة أمت أمت ومرة يا منصور ومرة حم لا ينصرون


[ عدته صلى الله عليه وسلم في الحرب ]
وكان يلبس الدرع والخوذة ويتقلد السيف ويحمل الرمح والقوس العربية وكان يتترس بالترس وكان يحب الخيلاء في الحرب وقال إن منها ما يحبه الله ومنها ما يبغضه الله فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند اللقاء واختياله عند الصدقة وأما التي يبغض الله عز وجل فاختياله في البغي والفخر

وقاتل مرة بالمنجنيق نصبه على أهل الطائف .

وكان ينهى عن قتل النساء والولدان وكان ينظر في المقاتلة ، فمن رآه أنبت قتله ومن لم ينبت استحياه .

وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله ويقول سيروا بسم الله وفي سبيل الله ، وقاتلوا من كفر بالله ولا تمثلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا وليدا

وكان ينهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو .

[ الدعوة قبل القتل ]

وكان يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إما إلى الإسلام والهجرة أو إلى الإسلام دون الهجرة ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيب أو بذل الجزية فإن هم أجابوا إليه قبل منهم وإلا استعان بالله وقاتلهم .

[ الأسلاب والغنائم ]
وكان إذا ظفر بعدوه أمر مناديا ، فجمع الغنائم كلها ، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها ، ثم أخرج خمس الباقي ، فوضعه حيث أراه الله وأمره به من مصالح الإسلام ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وللراجل سهم هذا هو الصحيح الثابت عنه .

[ حكم الأنفال ]

وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة وقيل بل كان النفل من الخمس ، وقيل وهو أضعف الأقوال بل كان من خمس الخمس . وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس فأعطاه أربعة أسهم لعظم غنائه في تلك الغزوة . وكان يسوي الضعيف والقوي في القسمة ما عدا النفل .

وكان إذا أغار في أرض العدو ، بعث سرية بين يديه فما غنمت أخرج خمسه ونفلها ربع الباقي ، وقسم الباقي بينها وبين سائر الجيش وإذا رجع فعل ذلك ونفلها الثلث ومع ذلك فكان يكره النفل ويقول ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم

و كان له صلى الله عليه وسلم سهم من الغنيمة يدعى الصفي إن شاء عبدا ، وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس .

قالت عائشة : وكانت صفية من الصفي رواه أبو داود . ولهذا جاء في كتابه إلى بني زهير بن أقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله وكان سيفه ذو الفقار من الصفي .

[ السهم لمن غاب لمصلحة المسلمين ]

وكان يسهم لمن غاب عن الوقعة لمصلحة المسلمين كما أسهم لعثمان سهمه من بدر ، ولم يحضرها لمكان تمريضه لامرأته رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله فضرب له سهمه وأجره .

[ التجارة في الغزو ]

وكانوا يشترون معه في الغزو ويبيعون وهو يراهم ولا ينهاهم وأخبره رجل أنه ربح ربحا لم يربح أحد مثله فقال ما هو ؟ قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية فقال أنا أنبئك بخير رجل ربح قال ما هو يا رسول الله ؟ قال ركعتين بعد الصلاة

وكانوا يستأجرون الأجراء للغزو على نوعين أحدهما : أن يخرج الرجل ويستأجر من يخدمه في سفره . والثاني : أن يستأجر من ماله من يخرج في الجهاد ويسمون ذلك الجعائل وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي .

[ التشارك في الغنيمة ]

وكانوا يتشاركون في الغنيمة على نوعين أيضا . أحدهما : شركة الأبدان والثاني : أن يدفع الرجل بعيره إلى الرجل أو فرسه يغزو عليه على النصف مما يغنم حتى ربما اقتسما السهم فأصاب أحدهما قدحه والآخر نصله وريشه .

وقال ابن مسعود : اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر ، فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء

وكان يبعث بالسرية فرسانا تارة ورجالا أخرى ، وكان لا يسهم لمن قدم من المدد بعد الفتح .

فصل [ سهم ذي القربى ]

وكان يعطي سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب دون إخوتهم من بني عبد شمس وبني نوفل ، وقال إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد وشبك بين أصابعه وقال إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام

فصل [ لا يخمس الطعام ]
وكان المسلمون يصيبون معه في مغازيهم العسل والعنب والطعام فيأكلونه ولا يرفعونه في المغانم قال ابن عمر : إن جيشا غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا ، ولم يؤخذ منهم الخمس ذكره أبو داود .

وانفرد عبد الله بن المغفل يوم خيبر بجراب شحم وقال لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا ، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسم ولم يقل له شيئا

وقيل لابن أبي أوفى : كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أصبنا طعاما يوم خيبر ، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف

وقال بعض الصحابة " كنا نأكل الجوز في الغزو ، ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأجربتنا منه مملوءة

فصل [ حكم النهبة والمثلة ]
وكان ينهى في مغازيه عن النهبة والمثلة وقال من انتهب نهبة فليس منا وأمر بالقدور التي طبخت من النهبى فأكفئت

وذكر أبو داود عن رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما ، فانتهبوها وإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال " إن النهبة ليست بأحل من الميتة ، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة

[ النهي عن استعمال الفيء في غير حال الحرب ]

وكان ينهى أن يركب الرجل دابة من الفيء حتى إذا أعجفها ، ردها فيه وأن يلبس الرجل ثوبا من الفيء حتى إذا أخلقه رده فيه ولم يمنع من الانتفاع به حال الحرب .

فصل [ الغلول ]
وكان يشدد في الغلول جدا ، ويقول هو عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة

ولما أصيب غلامه مدعم قالوا : هنيئا له الجنة قال كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا " فجاء رجل بشراك أو شراكين لما سمع ذلك فقال " شراك أو شراكان من نار

وقال أبو هريرة : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول وعظمه وعظم أمره فقال لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك

وقال لمن كان على ثقله وقد مات هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلها

وقالوا في بعض غزواتهم فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا : وفلان شهيد فقال كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذهب يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون

وتوفي رجل يوم خيبر ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال إن صاحبكم غل في سبيل الله شيئا ففتشوا متاعه فوجدوا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين وكان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا ، فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سمعت بلالا نادى ثلاثا ؟ " قال نعم قال " فما منعك أن تجيء به ؟ " فاعتذر فقال " كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك

فصل [ تحريق متاع الغال وضربه ]

وأمر بتحريق متاع الغال وضربه ، وحرقه الخليفتان الراشدان بعده فقيل هذا منسوخ بسائر الأحاديث التي ذكرت فإنه لم يجئ التحريق في شيء منها ، وقيل - وهو الصواب - إن هذا من باب التعزيز والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة بحسب المصلحة فإنه حرق وترك وكذلك خلفاؤه من بعده ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة فليس بحد ولا منسوخ وإنما هو تعزيز يتعلق باجتهاد الإمام .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى
كان يمن على بعضهم ويقتل بعضهم ويفادي بعضهم بالمال وبعضهم بأسرى المسلمين وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة ففادى أسارى بدر بمال وقال لو كان المطعم بن عدي حيا ، ثم كلمني في هؤلاء النتنى ، لتركتهم له

وهبط عليه في صلح الحديبية ثمانون متسلحون يريدون غرته فأسرهم ثم من عليهم .

وأسر ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ، فربطه بسارية المسجد ثم أطلقه فأسلم .

[ أسارى بدر ]
واستشار الصحابة في أسارى بدر ، فأشار عليه الصديق أن يأخذ منهم فدية تكون لهم قوة على عدوهم ويطلقهم لعل الله أن يهديهم إلى الإسلام وقال عمر : لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر فلما كان من الغد أقبل عمر فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي هو وأبو بكر فقال يا رسول الله من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، وأنزل الله ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض [ الأنفال 67 ] .

وقد تكلم الناس في أي الرأيين كان أصوب فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب ولتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى ، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى ، ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ولموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أولا ، ولموافقة الله له آخرا حيث استقر الأمر على رأيه ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرا ، وغلب جانب الرحمة على جانب العقوبة .

قالوا : وأما بكاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنما كان رحمة لنزول العذاب لمن أراد بذلك عرض الدنيا ، ولم يرد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وإن أراده بعض الصحابة فالفتنة كانت تعم ولا تصيب من أراد ذلك خاصة كما هزم العسكر يوم حنين بقول أحدهم ( لن نغلب اليوم من قلة ) وبإعجاب كثرتهم لمن أعجبته منهم فهزم الجيش بذلك فتنة ومحنة ثم استقر الأمر على النصر والظفر والله أعلم .

واستأذنه الأنصار أن يتركوا للعباس عمه فداءه فقال " لا تدعوا منه درهما

واستوهب من سلمة بن الأكوع جارية نفله إياها أبو بكر في بعض مغازيه فوهبها له فبعث بها إلى مكة ، ففدى بها ناسا من المسلمين وفدى رجلين من المسلمين برجل من عقيل ورد سبي هوازن عليهم بعد القسمة ، واستطاب قلوب الغانمين فطيبوا له وعوض من لم يطيب من ذلك بكل إنسان ست فرائض وقتل عقبة بن أبي معيط من الأسرى ، وقتل النضر بن الحارث لشدة عداوتهما لله ورسوله .

وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال كان ناس من الأسرى لم يكن لهم مال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة وهذا يدل على جواز الفداء بالعملكما يجوز بالمال .

[ الاسترقاق ]

وكان هديه أن من أسلم قبل الأسر لم يسترق وكان يسترق سبي العرب ، كما يسترق غيرهم من أهل الكتاب وكان عند عائشة سبية منهم فقال أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل

وفي الطبراني مرفوعا : من كان عليه رقبة من ولد إسماعيل ، فليعتق من بلعنبر

ولما قسم سبايا بني المصطلق ، وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس ، فكاتبته على نفسها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ، فأعتق بتزوجه إياها مئة من أهل بيت بني المصطلق إكراما لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهي من صريح العرب ، ولم يكونوا يتوقفون في وطء سبايا العرب على الإسلام بل كانوا يطئونهن بعد الاستبراء وأباح الله لهم ذلك ولم يشترط الإسلام بل قال تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء 24 ] فأباح وطء ملك اليمين وإن كانت محصنة إذا انقضت عدتها بالاستبراء وقال له سلمة بن الأكوع ، لما استوهبه الجارية الفزارية من السبي والله يا رسول الله لقد أعجبتني ، وما كشفت لها ثوبا ولو كان وطؤها حراما قبل الإسلام عندهم لم يكن لهذا القول معنى ، ولم تكن قد أسلمت لأنه قد فدى بها ناسا من المسلمين بمكة ، والمسلم لا يفادى به وبالجملة فلا نعرف في أثر واحد قط اشتراط الإسلام منهم قولا أو فعلا في وطء المسبية فالصواب الذي كان عليه هديه وهدي أصحابه استرقاق العرب ، ووطء إمائهن المسبيات بملك اليمين من غير اشتراط الإسلام .

فصل [ لا يفرق في السبي بين الوالدة وولدها ]
وكان صلى الله عليه وسلم يمنع التفريق في السبي بين الوالدة وولدها ، ويقول من فرق بين والدة وولدها ، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة وكان يؤتى بالسبي فيعطي أهل البيت جميعا كراهية أن يفرق بينهم .

فصل في هديه فيمن جس عليه
ثبت عنه أنه قتل جاسوسا من المشركين . وثبت عنه أنه لم يقتل حاطبا ، وقد جس عليه واستأذنه عمر في قتله فقال وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فاستدل به من لا يرى قتل المسلم الجاسوس كالشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة رحمهم الله واستدل به من يرى قتله كمالك ، وابن عقيل من أصحاب أحمد - رحمه الله - وغيرهما قالوا : لأنه علل بعلة مانعة من القتل منتفية في غيره ولو كان الإسلام مانعا من قتله لم يعلل بأخص منه لأن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير وهذا أقوى . والله أعلم .

فصل

وكان هديه صلى الله عليه وسلم عتق عبيد المشركين إذا خرجوا إلى المسلمين وأسلموا ، ويقول هم عتقاء الله عز وجل

[ من أسلم على شيء في يده فهو له ولم ينظر إلى سببه قبل الإسلام ]

وكان هديه أن من أسلم على شيء في يده فهو له ولم ينظر إلى سببه قبل الإسلام بل يقره في يده كما كان قبل الإسلام ولم يكن يضمن المشركين إذا أسلموا ما أتلفوه على المسلمين من نفس أو مال حال الحرب ولا قبله وعزم الصديق على تضمين المحاربين من أهل الردة ديات المسلمين وأموالهم فقال عمر تلك دماء أصيبت في سبيل الله ، وأجورهم على الله ولا دية لشهيد فاتفق الصحابة على ما قال عمر ولم يكن أيضا يرد على المسلمين أعيان أموالهم التي أخذها منهم الكفار قهرا بعد إسلامهم بل كانوا يرونها بأيديهم ولا يتعرضون لها سواء في ذلك العقار والمنقول هذا هديه الذي لا شك فيه .

ولما فتح مكة ، قام إليه رجال من المهاجرين يسألونه أن يرد عليهم دورهم التي استولى عليها المشركون فلم يرد على واحد منهم داره وذلك لأنهم تركوها لله وخرجوا عنها ابتغاء مرضاته فأعاضهم عنها دورا خيرا منها في الجنة فليس لهم أن يرجعوا فيما تركوه لله بل أبلغ من ذلك أنه لم يرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد نسكه أكثر من ثلاث لأنه قد ترك بلده لله وهاجر منه فليس له أن يعود يستوطنه ولهذا رثى لسعد بن خولة ، وسماه بائسا أن مات بمكة ودفن بها بعد هجرته منها .



فصل في هديه في الأرض المغنومة
ثبت عنه أنه قسم أرض بني قريظة وبني النضير وخيبر بين الغانمين وأما المدينة ، ففتحت بالقرآن وأسلم عليها أهلها ، فأقرت بحالها . وأما مكة ، ففتحها عنوة ولم يقسمها ، فأشكل على كل طائفة من العلماء الجمع بين فتحها عنوة وترك قسمتها ، فقالت طائفة لأنها دار المناسك وهي وقف على المسلمين كلهم وهم فيها سواء فلا يمكن قسمتها ، ثم من هؤلاء من منع بيعها وإجارتها ، ومنهم من جوز بيع رباعها ، ومنع إجارتها ، والشافعي لما لم يجمع بين العنوة وبين عدم القسمة قال إنها فتحت صلحا ، فلذلك لم تقسم . قال ولو فتحت عنوة لكانت غنيمة فيجب قسمتها كما تجب قسمة الحيوان والمنقول ولم ير بأسا من بيع رباع مكة ، وإجارتها ، واحتج بأنها ملك لأربابها تورث عنهم وتوهب وقد أضافها الله سبحانه إليهم إضافة الملك إلى مالكه واشترى عمر بن الخطاب دارا من صفوان بن أمية ، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم أين تنزل غدا في دارك بمكة ؟ فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب ، فلما كان أصل الشافعي أن الأرض من الغنائم وأن الغنائم تجب قسمتها ، وأن مكة تملك وتباع ورباعها ودورها لم تقسم لم يجد بدا من القول بأنها فتحت صلحا .

[ هل الأرض تدخل في الغنائم ]

لكن من تأمل الأحاديث الصحيحة وجدها كلها دالة على قول الجمهور أنها فتحت عنوة . ثم اختلفوا لأي شيء لم يقسمها ؟ فقالت طائفة لأنها دار النسك ومحل العبادة فهي وقف من الله على عباده المسلمين . وقالت طائفة الإمام مخير في الأرض بين قسمتها وبين وقفها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر ، ولم يقسم مكة ، فدل على جواز الأمرين . قالوا : والأرض لا تدخل في الغنائم المأمور بقسمتها ، بل الغنائم هي الحيوان والمنقول لأن الله تعالى لم يحل الغنائم لأمة غير هذه الأمة وأحل لهم ديار الكفر وأرضهم كما قال تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إلى قوله يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم [ المائدة 20 21 ، ] وقال في ديار فرعون وقومه وأرضهم كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ الشعراء 59 ] فعلم أن الأرض لا تدخل في الغنائم والإمام مخير فيها بحسب المصلحة وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك وعمر لم يقسم بل أقرها على حالها وضرب عليها خراجا مستمرا في رقبتها يكون للمقاتلة فهذا معنى وقفها ، ليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة بل يجوز بيع هذه الأرض كما هو عمل الأمة وقد أجمعوا على أنها تورث والوقف لا يورث وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - على أنها يجوز أن تجعل صداقا ، والوقف لا يجوز أن يكون مهرا في النكاح ولأن الوقف إنما امتنع بيعه ونقل الملك في رقبته لما في ذلك من إبطال حق البطون الموقوف عليهم من منفعته والمقاتلة حقهم في خراج الأرض فمن اشتراها صارت عنده خراجية كما كانت عند البائع سواء فلا يبطل حق أحد من المسلمين بهذا البيع كما لم يبطل بالميراث والهبة والصداق ونظير هذا بيع رقبة المكاتب وقد انعقد فيه سبب الحرية بالكتابة فإنه ينتقل إلى المشتري مكاتبا كما كان عند البائع ولا يبطل ما انعقد في حقه من سبب العتق ببيعه والله أعلم .

ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم نصف أرض خيبر خاصة ولو كان حكمها حكم الغنيمة لقسمها كلها بعد الخمس ففي " السنن " و " المستدرك " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما ، جمع كل سهم مائة سهم فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس هذا لفظ أبي داود وفي لفظ عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما ، وهو الشطر لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين وكان ذلك الوطيح والكتيبة ، والسلالم وتوابعها . وفي لفظ له أيضا : عزل نصفها لنوائبه وما نزل به : الوطحية والكتيبة ، وما أحيز معهما ، وعزل النصف الآخر فقسمه بين المسلمين الشق والنطاة ، وما أحيز معهما ، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيز معهما
فصل [ الأدلة على أن مكة فتحت عنوة ]
والذي يدل على أن مكة فتحت عنوة وجوه أحدها : أنه لم ينقل أحد قط أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح ولا جاءه أحد منهم صالحه على البلد وإنما جاءه أبو سفيان فأعطاه الأمان لمن دخل داره أو أغلق بابه أو دخل المسجد أو ألقى سلاحه .

ولو كانت قد فتحت صلحا ، لم يقل من دخل داره أو أغلق بابه أو دخل المسجد فهو آمن فإن الصلح يقتضي الأمان العام .

الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنه أذن لي فيها ساعة من نهار وفي لفظ إنها لا تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وفي لفظ فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس . وهذا صريح في أنها فتحت عنوة .

وأيضا ، فإنه ثبت في " الصحيح أنه جعل يوم الفتح خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى ، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى ، وجعل أبا عبيدة على الحسر وبطن الوادي ، فقال يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فجاءوا يهرولون فقال يا معشر الأنصار ، هل ترون أوباش قريش ؟ قالوا : نعم قال انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا ، وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا ، قال فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ، وجاءت الأنصار ، فأطافوا بالصفا ، فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن .

وأيضا ، فإن أم هانئ أجارت رجلا ، فأراد علي بن أبي طالب قتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وفي لفظ عنها : لما كان يوم فتح مكة ، أجرت رجلين من أحمائي ، فأدخلتهما بيتا ، وأغلقت عليهما بابا ، فجاء ابن أمي علي فتفلت عليهما بالسيف فذكرت حديث الأمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وذلك ضحى بجوف مكة بعد الفتح . فإجارتها له وإرادة علي رضي الله عنه قتله وإمضاء النبي صلى الله عليه وسلم إجارتها صريح في أنها فتحت عنوة .

وأيضا فإنه أمر بقتل مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، وجاريتين ولو كانت فتحت صلحا ، لم يأمر بقتل أحد من أهلها ، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح وأيضا ففي " السنن " بإسناد صحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم فتح مكة ، قال أمنوا الناس إلا امرأتين ، وأربعة نفر . اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة والله أعلم .



فصل [ الإقامة بين المشركين ]
ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة المسلم بين المشركين إذا قدر على الهجرة من بينهم وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قيل يا رسول الله ولم ؟ قال لا تراءى ناراهما .

وقال من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله . وقال لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها وقال ستكون هجرة بعد هجرة ، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها ، تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله وتحشرهم النار مع القردة والخنازير .




فصل في هديه في الأمان والصلح ومعاملة رسل الكفار
وأخذ الجزية ومعاملة أهل الكتاب والمنافقين وإجارة من جاءه من الكفار حتى يسمع كلام الله ورده إلى مأمنه ووفائه بالعهد وبراءته من الغدر ثبت عنه أنه قال ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلما ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا

وقال المسلمون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده من أحدث حدثا فعلى نفسه ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين

وثبت عنه أنه قال من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء وقال من أمن رجلا على نفسه فقتله ، فأنا بريء من القاتل وفي لفظ أعطي لواء غدرة وقال لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدره فلان بن فلان

ويذكر عنه أنه قال ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو




فصل [ تقرير مصير الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ]
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، صار الكفار معه ثلاثة أقسام قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم . وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة . وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقون فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى .

[ محاربة بنو قينقاع للمسلمين ]

فصالح يهود المدينة ، وكتب بينهم وبينه كتاب أمن وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر ، وشرقوا بوقعة بدر ، وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره وكان حلفاء عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين وكانوا أشجع يهود المدينة ، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب ، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، وحاصرهم خمسة عشر ليلة إلى هلال ذي القعدة وهم أول من حارب من اليهود ، وتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا ، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألح عليه فوهبهم له وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، ولا يجاوروه بها ، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام ، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم وكانوا صاغة وتجارا ، وكانوا نحو الستمائة مقاتل وكانت دارهم في طرف المدينة ، وقبض منهم أموالهم فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة .



فصل [ نقض بني النضير العهد ]
ثم نقض العهد بنو النضير ، قال البخاري : وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر قاله عروة وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه ، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، فقالوا : نفعل يا أبا القاسم اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك ، وخلا بعضهم ببعض وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحا ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا ، فقال لهم سلام بن مشكم : لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به فنهض مسرعا ، وتوجه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه فقالوا : نهضت ولم نشعر بك فأخبرهم بما همت يهود به وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرجوا من المدينة ، ولا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشرا ، فمن وجدت بعد ذلك بها ، ضربت عنقه فأقاموا أياما يتجهزون وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي :
أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان ، وطمع رئيسهم حي بن أخطب فيما قال له وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدا لك ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونهضوا إليه وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء فلما انتهى إليهم قاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ، ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم وجعل مثلهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك [ الحشر 16 ] ، فإن سورة الحشر هي سورة بني النضير ، وفيها مبدأ قصتهم ونهايتها ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم وحرق ، فأرسلوا إليها : نحن نخرج عن المدينة ، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح وقبض النبي صلى الله عليه وسلم الأموال والحلقة وهي السلاح وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليه ، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب .

وخمس قريظة . قال مالك : خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة ، ولم يخمس بني النضير . لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم ولا ركابهم على بني النضير كما أوجفوا على قريظة وأجلاهم إلى خيبر ، وفيهم حي بن أخطب كبيرهم وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم فوجد من السلاح خمسين درعا ، وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا ، وقال هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في قريش وكانت قصتهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة .

فصل [ نقض قريظة العهد ]
وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظهم كفرا ، ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم .

وكان سبب غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم فقال قد جئتكم بعز الدهر جئتكم بقريش على سادتها ، وغطفان على قادتها ، وأنتم أهل الشوكة والسلاح فهلم حتى نناجز محمدا ونفرغ منه فقال له رئيسهم بل جئتني والله بذل الدهر جئتني بسحاب قد أراق ماءه فهو يرعد ويبرق فلم يزل حيي يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم ففعل ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا سبه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فأرسل يستعلم الأمر فوجدهم قد نقضوا العهد فكبر وقال أبشروا يا معشر المسلمين

[ الاختلاف في قوله صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ]

فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لم يكن إلا أن وضع سلاحه فجاءه جبريل فقال أوضعت السلاح والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها ؟ فانهض بمن معك إلى بني قريظة ، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب فسار جبريل في موكبه من الملائكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار وقال لأصحابه يومئذ لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة فبادروا إلى امتثال أمره ونهضوا من فورهم فأدركتهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا ، فصلوها بعد عشاء الآخرة وقال بعضهم لم يرد منا ذلك وإنما أراد سرعة الخروج فصلوها في الطريق فلم يعنف واحدة من الطائفتين .

واختلف الفقهاء أيهما كان أصوب ؟ فقالت طائفة الذين أخروها هم المصيبون ولو كنا معهم لأخرناها كما أخروها ، ولما صليناها إلا في بني قريظة امتثالا لأمره وتركا للتأويل المخالف للظاهر .

وقالت طائفة أخرى : بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قصب السبق وكانوا أسعد بالفضيلتين فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج وبادروا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها ، ثم بادروا إلى اللحاق بالقوم فحازوا فضيلة الجهاد وفضيلة الصلاة في وقتها ، وفهموا ما يراد منهم وكانوا أفقه من الآخرين ولا سيما تلك الصلاة فإنها كانت صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مدفع له ولا مطعن فيه ومجيء السنة بالمحافظة عليها ، والمبادرة إليها ، والتبكير بها ، وأن من فاتته فقد وتر أهله وماله أو قد حبط عمله فالذي جاء فيها أمر لم يجئ مثله في غيرها ، وأما المؤخرون لها ، فغايتهم أنهم معذورون بل مأجورون أجرا واحدا لتمسكهم بظاهر النص وقصدهم امتثال الأمر وأما أن يكونوا هم المصيبين في نفس الأمر ومن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئا ، فحاشا وكلا ، والذين صلوا في الطريق جمعوا بين الأدلة وحصلوا الفضيلتين فلهم أجران والآخرون مأجورون أيضا رضي الله عنهم .

فإن قيل كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزا مشروعا ، ولهذا كان عقب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلى الليل فتأخيرهم صلاة العصر إلى الليل كتأخيره صلى الله عليه وسلم لها يوم الخندق إلى الليل سواء ولا سيما أن ذلك كان قبل شروع صلاة الخوف .

قيل هذا سؤال قوي وجوابه من وجهين .

أحدهما : أن يقال لم يثبت أن تأخير الصلاة عن وقتها كان جائزا بعد بيان المواقيت ولا دليل على ذلك إلا قصة الخندق ، فإنها هي التي استدل بها من قال ذلك ولا حجة فيها لأنه ليس فيها بيان أن التأخير من النبي صلى الله عليه وسلم كان عن عمد بل لعله كان نسيانا ، وفي القصة ما يشعر بذلك فإن عمر لما قال له يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله ما صليتها ثم قام فصلاها . وهذا مشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسيا بما هو فيه من الشغل والاهتمام بأمر العدو المحيط به وعلى هذا يكون قد أخرها بعذر النسيان كما أخرها بعذر النوم في سفره وصلاها بعد استيقاظه وبعد ذكره لتتأسى أمته به .

والجواب الثاني : أن هذا على تقدير ثبوته إنما هو في حال الخوف والمسايفة عند الدهش عن تعقل أفعال الصلاة والإتيان بها ، والصحابة في مسيرهم إلى بني قريظة ، لم يكونوا كذلك بل كان حكمهم حكم أسفارهم إلى العدو قبل ذلك وبعده ومعلوم أنهم لم يكونوا يؤخرون الصلاة عن وقتها ، ولم تكن قريظة ممن يخاف فوتهم فإنهم كانوا مقيمين بدارهم فهذا منتهى أقدام الفريقين في هذا الموضع .

فصل

وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسا وعشرين ليلة ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه وإما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا إليه بالسيوف مصلتة يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون وقالوا : يا أبا لبابة كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال نعم وأشار بيده إلى حلقه يقول إنه الذبح ثم علم من فوره أنه قد خان الله ورسوله فمضى على وجهه ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد مسجد المدينة ، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال دعوه حتى يتوب الله عليه ثم تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه الأوس ، فقالوا : يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج ، وهؤلاء موالينا ، فأحسن فيهم فقال ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا : بلى . قال : فذاك إلى سعد بن معاذ . قا لوا : قد رضينا ، فأرسل إلى سعد بن معاذ ، وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به فأركب حمارا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يقولون له وهم كنفتاه يا سعد أجمل إلى مواليك ، فأحسن فيهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك فيهم لتحسن فيهم وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة ، فنعى إليهم القوم فلما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة قوموا إلى سيدكم فلما أنزلوه قالوا : يا سعد إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك ، قال وحكمي نافذ عليهم ؟ . قالوا : نعم . قال وعلى المسلمين ؟ قالوا : نعم . قال على من ها هنا وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما ؟ قال نعم وعلي . قال فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات

وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول وهرب عمرو بن سعد ، فانطلق فلم يعلم أين ذهب وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ومن لم ينبت ألحق بالذرية فحفر لهم خنادق في سوق المدينة ، وضربت أعناقهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة ولم يقتل من النساء أحد سوى امرأة واحدة كانت طرحت على رأس سويد بن الصامت رحى ، فقتلته وجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالا أرسالا ، فقالوا لرئيسهم كعب بن أسد : يا كعب ما تراه يصنع بنا ؟ فقال أفي كل موطن لا تعقلون ؟ أما ترون الداعي لا ينزع والذاهب منكم لا يرجع هو والله القتل .

قال مالك في رواية ابن القاسم : قال عبد الله بن أبي ل سعد بن معاذ في أمرهم إنهم أحد جناحي وهم ثلاثمائة دارع وستمائة حاسر فقال قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ولما جيء بحيي بن أخطب إلى بين يديه ووقع بصره عليه قال أما والله ما لمت نفسي في معاداتك ، ولكن من يغالب الله يغلب ثم قال يا أيها الناس لا بأس قدر الله وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم حبس فضربت عنقه . واستوهب ثابت بن قيس الزبير بن باطا وأهله وماله من رسول الله فوهبهم له فقال له ثابت بن قيس : قد وهبك لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووهب لي مالك وأهلك ، فهم لك . فقال سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة فضرب عنقه وألحقه بالأحبة من اليهود ، فهذا كله في يهود المدينة ، وكانت غزوة كل طائفة منهم عقب كل غزوة من الغزوات الكبار .

فغزوة بني قينقاع عقب بدر ، وغزوة بني النضير عقب غزوة أحد ، وغزوة بني قريظة عقب الخندق .

وأما يهود خيبر ، فسيأتي ذكر قصتهم إن شاء الله تعالى .



فصل [ حكم من نقض العهد وأقر به الباقون ]
وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوما فنقض بعضهم عهده وصلحه وأقرهم الباقون ورضوا به غزا الجميع وجعلهم كلهم ناقضين كما فعل بقريظة ، والنضير ، وبني قينقاع وكما فعل في أهل مكة ، فهذه سنته في أهل العهد وعلى هذا ينبغي أن يجري الحكم في أهل الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وخالفهم أصحاب الشافعي ، فخصوا نقض العهد بمن نقضه خاصة دون من رضي به وأقر عليه وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوى وآكد ولهذا كان موضوعا على التأبيد بخلاف عقد الهدنة والصلح .

والأولون يقولون لا فرق بينهما ، وعقد الذمة لم يوضع للتأبيد بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه فهو كعقد الصلح الذي وضع للهدنة بشرط التزامهم أحكام ما وقع عليه العقد قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة ، بل أطلقه ما داموا كافين عنه غير محاربين له فكانت تلك ذمتهم غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد فلما نزل فرضها ، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة في العقد ولم يغير حكمه وصار مقتضاها التأبيد فإذا نقض بعضهم العهد وأقرهم الباقون ورضوا بذلك ولم يعلموا به المسلمين صاروا في ذلك كنقض أهل الصلح وأهل العهد والصلح سواء في هذا المعنى ، ولا فرق بينهما فيه وإن افترقا من وجه آخر يوضح هذا أن المقر الراضي الساكت إن كان باقيا على عهده وصلحه لم يجز قتاله ولا قتله في الموضعين وإن كان بذلك خارجا عن عهده وصلحه راجعا إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح لم يفترق الحال بين عقد الهدنة وعقد الذمة في ذلك فكيف يكون عائدا إلى حاله في موضع دون موضع هذا أمر غير معقول . توضيحه أن تجدد أخذ الجزية منه لا يوجب له أن يكون موفيا بعهده مع رضاه وممالأته ومواطأته لمن نقض وعدم الجزية يوجب له أن يكون ناقضا غادرا غير موف بعهده هذا بين الامتناع .

فالأقوال ثلاثة النقض في الصورتين وهو الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفار وعدم النقض في الصورتين وهو أبعد الأقوال عن السنة والتفريق بين الصورتين والأولى أصوبها ، وبالله التوفيق .

وبهذا القول أفتينا ولي الأمر لما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته وكاد - لولا دفع الله - أن يحترق كله وعلم بذلك من علم من النصارى ، وواطئوا عليه وأقروه ورضوا به ولم يعلموا ولي الأمر فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء فأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك وأعان عليه بوجه من الوجوه أو رضي به وأقر عليه وأن حده القتل حتما ، لا تخيير للإمام فيه كالأسير بل صار القتل له حدا ، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدا ممن هو تحت الذمة ملتزما لأحكام الله بخلاف الحربي إذا أسلم ، فإن الإسلام يعصم دمه وماله ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام فهذا له حكم والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وأفتى به في غير موضع .


فصل [ من دخل في عقد المصالحين ثم حارب المسلمين فقد نقض العهد ]
وكان هديه وسنته إذا صالح قوما وعاهدهم فانضاف إليهم عدو له سواهم فدخلوا معهم في عقدهم وانضاف إليه قوم آخرون فدخلوا معه في عقده صار حكم من حارب من دخل معه في عقده من الكفار حكم من حاربه وبهذا السبب غزا أهل مكة ، فإنه لما صالحهم على وضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين تواثبت بنو بكر بن وائل ، فدخلت في عهد قريش ، وعقدها ، وتواثبت خزاعة ، فدخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده ثم عدت بنو بكر على خزاعة فبيتتهم وقتلت منهم وأعانتهم قريش في الباطن بالسلاح فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ناقضين للعهد بذلك واستجاز غزو بني بكر بن وائل لتعديهم على حلفائه وسيأتي ذكر القصة إن شاء الله تعالى .

وبهذا أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بغزو نصارى المشرق لما أعانوا عدو المسلمين على قتالهم فأمدوهم بالمال والسلاح وإن كانوا لم يغزونا ولم يحاربونا ، ورآهم بذلك ناقضين للعهد كما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم بإعانتهم بني بكر بن وائل على حرب حلفائه فكيف إذا أعان أهل الذمة المشركين على حرب المسلمين . والله أعلم .

فصل [ رسل الأعداء لا يتعرض لها ]
وكانت تقدم عليه رسل أعدائه وهم على عداوته فلا يهيجهم ولا يقتلهم ولما قدم عليه رسولا مسيلمة الكذاب : وهما عبد الله بن النواحة وابن أثال ، قال لهما : فما تقولان أنتما ؟ " قالا : نقول كما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما

فجرت سنته ألا يقتل رسول .

وكان هديه أيضا ألا يحبس الرسول عنده إذا اختار دينه فلا يمنعه من اللحاق بقومه بل يرده إليهم كما قال أبو رافع بعثتني قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتيته وقع في قلبي الإسلام فقلت : يا رسول الله لا أرجع إليهم . فقال إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع

قال أبو داود : وكان هذا في المدة التي شرط لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم من جاء منهم وإن كان مسلما ، وأما اليوم فلا يصلح هذا انتهى .

وفي قوله لا أحبس البرد إشعار بأن هذا حكم يختص بالرسل مطلقا ، وأما رده لمن جاء إليه منهم وإن كان مسلما ، فهذا إنما يكون مع الشرط كما قال أبو داود ، وأما الرسل فلهم حكم آخر ألا تراه لم يتعرض لرسولي مسيلمة وقد قالا له في وجهه نشهد أن مسيلمة رسول الله .

وكان من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحدا من أصحابه على عهد لا يضر بالمسلمين من غير رضاه أمضاه لهم كما عاهدوا حذيفة وأباه الحسيل أن لا يقاتلاهم معه صلى الله عليه وسلم فأمضى لهم ذلك وقال لهما : انصرفا نفي لهم بعهدهم ، ونستعين الله عليهم

فصل [ صلحه صلى الله عليه وسلم مع قريش ]
وصالح قريشا على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين على أن من جاءه منهم مسلما رده إليهم ومن جاءهم من عنده لا يردونه إليه وكان اللفظ عاما في الرجال والنساء فنسخ الله ذلك في حق النساء وأبقاه في حق الرجال وأمر الله نبيه والمؤمنين أن يمتحنوا من جاءهم من النساء فإن علموها مؤمنة لم يردوها إلى الكفار وأمرهم برد مهرها إليهم لما فات على زوجها من منفعة بضعها ، وأمر المسلمين أن يردوا على من ارتدت امرأته إليهم مهرها إذا عاقبوا ، بأن يجب عليهم رد مهر المهاجرة فيردونه إلى من ارتدت امرأته ولا يردونها إلى زوجها المشرك فهذا هو العقاب وليس من العذاب في شيء وكان في هذا دليل على أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم ، وأنه متقوم بالمسمى الذي هو ما أنفق الزوج لا بمهر المثل وأن أنكحة الكفار لها حكم الصحة لا يحكم عليها بالبطلان وأنه لا يجوز رد المسلمة المهاجرة إلى الكفار ولو شرط ذلك وأن المسلمة لا يحل لها نكاح الكافر وأن المسلم له أن يتزوج المرأة المهاجرة إذا انقضت عدتها ، وآتاها مهرها ، وفي هذا أبين دلالة على خروج بضعها من ملك الزوج وانفساخ نكاحها منه بالهجرة والإسلام .

[ تحريم نكاح المشركة على المسلم ]

وفيه دليل على تحريم نكاح المشركة على المسلم كما حرم نكاح المسلمة على الكافر .

وهذه أحكام استفيدت من هاتين الآيتين وبعضها مجمع عليه وبعضها مختلف فيه وليس مع من ادعى نسخها حجة ألبتة فإن الشرط الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار في رد من جاءه مسلما إليهم إن كان مختصا بالرجال لم تدخل النساء فيه وإن كان عاما للرجال والنساء فالله سبحانه وتعالى خصص منه رد النساء ونهاهم عن ردهن وأمرهم برد مهورهن وأن يردوا منها على من ارتدت امرأته إليهم من المسلمين المهر الذي أعطاها ، ثم أخبر أن ذلك حكمه الذي يحكم به بين عباده وأنه صادر عن علمه وحكمته ولم يأت عنه ما ينافي هذا الحكم ويكون بعده حتى يكون ناسخا .

ولما صالحهم على رد الرجال كان يمكنهم أن يأخذوا من أتى إليه منهم ولا يكرهه على العود ولا يأمره به وكان إذا قتل منهم أو أخذ مالا ، وقد فصل عن يده ولما يلحق بهم لم ينكر عليه ذلك ولم يضمنه لهم لأنه ليس تحت قهره ولا في قبضته ولا أمره بذلك ولم يقتض عقد الصلح الأمان على النفوس والأموال إلا عمن هو تحت قهره وفي قبضته كما ضمن لبني جذيمة ما أتلفه عليهم خالد من نفوسهم وأموالهم وأنكره وتبرأ منه . ولما كان إصابته لهم عن نوع شبهة إذ لم يقولوا : أسلمنا ، وإنما قالوا : صبأنا ، فلم يكن إسلاما صريحا ، ضمنهم بنصف دياتهم لأجل التأويل والشبهة وأجراهم في ذلك مجرى أهل الكتاب الذين قد عصموا نفوسهم وأموالهم بعقد الذمة ولم يدخلوا في الإسلام ولم يقتض عهد الصلح أن ينصرهم على من حاربهم ممن ليس في قبضة النبي صلى الله عليه وسلم وتحت قهره فكان في هذا دليل على أن المعاهدين إذا غزاهم قوم ليسوا تحت قهر الإمام وفي يده وإن كانوا من المسلمين أنه لا يجب على الإمام ردهم عنهم ولا منعهم من ذلك ولا ضمان ما أتلفوه عليهم .

وأخذ الأحكام المتعلقة بالحرب ومصالح الإسلام وأهله وأمره وأمور السياسات الشرعية من سيره ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال فهذا لون وتلك لون وبالله التوفيق .

فصل [ الصلح مع أهل خيبر ]
[ قصة حيي في تغييبه المسك والحلي ]

وكذلك صالح أهل خيبر لما ظهر عليهم على أن يجليهم منها ، ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح . واشترط في عقد الصلح ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا ، فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب ، واسمه سعية ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ فقال أذهبته النفقات والحروب فقال " العهد قريب والمال أكثر من ذلك وقد كان حيي قتل مع بني قريظة لما دخل معهم فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه إلى الزبير ليستقره فمسه بعذاب فقال " قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا ، فذهبوا فطافوا ، فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا ، وأراد أن يجليهم من خيبر ، فقالوا : دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ، فنحن أعلم بها منكم ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يكفونهم مؤنتها ، فدفعها إليهم على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشطر من كل شيء يخرج منها من ثمر أو زرع ولهم الشطر وعلى أن يقرهم فيها ما شاء .

ولم يعمهم بالقتل كما عم قريظة لاشتراك أولئك في نقض العهد وأما هؤلاء فالذين علموا بالمسك وغيبوه وشرطوا له إن ظهر فلا ذمة لهم ولا عهد فإنه قتلهم بشرطهم على أنفسهم ولم يتعد ذلك إلى سائر أهل خيبر ، فإنه معلوم قطعا أن جميعهم لم يعلموا بمسك حيي وأنه مدفون في خربة فهذا نظير الذمي والمعاهد إذا نقض العهد ولم يمالئه عليه غيره فإن حكم النقض مختص به .


[ جواز المساقاة والمزارعة ]

ثم في دفعه إليهم الأرض على النصف دليل ظاهر على جواز المساقاة والمزارعة وكون الشجر نخلا لا أثر له ألبتة فحكم الشيء حكم نظيره فبلد شجرهم الأعناب والتين وغيرهما من الثمار في الحاجة إلى ذلك حكمه حكم بلد شجرهم النخل سواء ولا فرق .

وفي ذلك دليل على أنه لا يشترط كون البذر من رب الأرض فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحهم عن الشطر ولم يعطهم بذرا ألبتة ولا كان يرسل إليهم ببذر وهذا مقطوع به من سيرته حتى قال بعض أهل العلم إنه لو قيل باشتراط كونه من العامل لكان أقوى من القول باشتراط كونه من رب الأرض لموافقته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل خيبر .

والصحيح أنه يجوز أن يكون من العامل وأن يكون من رب الأرض ولا يشترط أن يختص به أحدهما ، والذين شرطوه من رب الأرض ليس معهم حجة أصلا أكثر من قياسهم المزارعة على المضاربة قالوا : كما يشترط في المضاربة أن يكون رأس المال من المالك والعمل من المضارب فهكذا في المزارعة وكذلك في المساقاة يكون الشجر من أحدهما ، والعمل عليها من الآخر وهذا القياس إلى أن يكون حجة عليهم أقرب من أن يكون حجة لهم فإن في المضاربة يعود رأس المال إلى المالك ويقتسمان الباقي ولو شرط ذلك في المزارعة فسدت عندهم فلم يجروا البذر مجرى رأس المال بل أجروه مجرى سائر البقل فبطل إلحاق المزارعة بالمضاربة على أصلهم .

وأيضا فإن البذر جار مجرى الماء ومجرى المنافع فإن الزرع لا يتكون وينمو به وحده بل لا بد من السقي والعمل والبذر يموت في الأرض وينشئ الله الزرع من أجزاء أخر تكون معه من الماء والريح والشمس والتراب والعمل فحكم البذر حكم هذه الأجزاء .

وأيضا فإن الأرض نظير رأس المال في القراض وقد دفعها مالكها إلى المزارع وبذرها وحرثها وسقيها نظير عمل المضارب وهذا يقتضي أن يكون المزارع أولى بالبذر من رب الأرض تشبيها له بالمضارب فالذي جاءت به السنة هو الصواب الموافق لقياس الشرع وأصوله .

[ جواز عقد الهدنة ]
وفي القصة دليل على جواز عقد الهدنة مطلقا من غير توقيت بل ما شاء الإمام ولم يجئ بعد ذلك ما ينسخ هذا الحكم ألبتة فالصواب جوازه وصحته وقد نص عليه الشافعي في رواية المزني ، ونص عليه غيره من الأئمة ولكن لا ينهض إليهم ويحاربهم حتى يعلمهم على سواء ليستووا هم وهو في العلم بنقض العهد .

[ جواز تعزير المتهم ]

وفيها دليل على جواز تعزير المتهم بالعقوبة وأن ذلك من السياسات الشرعية فإن الله سبحانه كان قادرا على أن يدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الكنز بطريق الوحي ولكن أراد أن يسن للأمة عقوبة المتهمين ويوسع لهم طرق الأحكام رحمة بهم وتيسيرا لهم .

[ جواز الأخذ بالقرائن ]

وفيها دليل على الأخذ بالقرائن في الاستدلال على صحة الدعوى وفسادها ، لقوله صلى الله عليه وسلم لسعية لما ادعى نفاد المال العهد قريب والمال أكثر من ذلك

[ اعتبار القرائن ]

وكذلك فعل نبي الله سليمان بن داود في استدلاله بالقرينة على تعيين أم الطفل الذي ذهب به الذئب وادعت كل واحدة من المرأتين أنه ابنها ، واختصمتا في الآخر فقضى به داود للكبرى ، فخرجتا إلى سليمان ، فقال بم قضى بينكما نبي الله ، فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : لا تفعل رحمك الله هو ابنها ، فقضى به للصغرى فاستدل بقرينة الرحمة والرأفة التي في قلبها ، وعدم سماحتها بقتله وسماحة الأخرى بذلك لتصير أسوتها في فقد الولد على أنه ابن الصغرى .

فلو اتفقت مثل هذه القضية في شريعتنا ، لقال أصحاب أحمد والشافعي ومالك رحمهم الله عمل فيها بالقافة وجعلوا القافة سببا لترجيح المدعي للنسب رجلا كان أو امرأة .

قال أصحابنا : وكذلك لو ولدت مسلمة وكافرة ولدين وادعت الكافرة ولد المسلمة وقد سئل عنها أحمد ، فتوقف فيها . فقيل له ترى القافة ؟ فقال ما أحسنها ، فإن لم توجد قافة وحكم بينهما حاكم بمثل حكم سليمان ، لكان صوابا ، وكان أولى من القرعة فإن القرعة إنما يصار إليها إذا تساوى المدعيان من كل وجه ولم يترجح أحدهما على الآخر فلو ترجح بيد أو شاهد واحد أو قرينة ظاهرة من لوث أو نكول خصمه عن اليمين أو موافقة شاهد الحال لصدقه كدعوى كل واحد من الزوجين ما يصلح له من قماش البيت والآنية ودعوى كل واحد من الصانعين آلات صنعته ودعوى حاسر الرأس عن العمامة عمامة من بيده عمامة وهو يشتد عدوا ، وعلى رأسه أخرى ، ونظائر ذلك قدم ذلك كله على القرعة .

ومن تراجم أبي عبد الرحمن النسائي على قصة سليمان ( هذا باب الحكم يوهم خلاف الحق ليستعلم به الحق ) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقص علينا هذه القصة لنتخذها سمرا ، بل لنعتبر بها في الأحكام بل الحكم بالقسامة وتقديم أيمان مدعي القتل هو من هذا استنادا إلى القرائن الظاهرة بل ومن هذا رجم الملاعنة إذا التعن الزوج ونكلت عن الالتعان . فالشافعي ومالك رحمهما الله يقتلانها بمجرد التعان الزوج ونكولها استنادا إلى اللوث الظاهر الذي حصل بالتعانه ونكولها .

[ قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر ]
ومن هذا ما شرعه الله سبحانه وتعالى لنا من قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر وأن وليي الميت إذا اطلعا على خيانة من الوصيين جاز لهما أن يحلفا ويستحقا ما حلفا عليه وهذا لوث في الأموال وهذا نظير اللوث في الدماء وأولى بالجواز منه وعلى هذا إذا اطلع الرجل المسروق ماله على بعضه في يد خائن معروف بذلك ولم يتبين أنه اشتراه من غيره جاز له أن يحلف أن بقية ماله عنده وأنه صاحب السرقة استنادا إلى اللوث الظاهر والقرائن التي تكشف الأمر وتوضحه وهو نظير حلف أولياء المقتول في القسامة أن فلانا قتله سواء بل أمر الأموال أسهل وأخف ولذلك ثبت بشاهد ويمين وشاهد وامرأتين ودعوى ونكول بخلاف الدماء . فإذا جاز إثباتها باللوث فإثبات الأموال به بالطريق الأولى والأحرى .

والقرآن والسنة يدلان على هذا وهذا ، وليس مع من ادعى نسخ ما دل عليه القرآن من ذلك حجة أصلا ، فإن هذا الحكم في ( سورة المائدة ) ، وهي من آخر ما نزل من القرآن وقد حكم بموجبها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده كأبي موسى الأشعري وأقره الصحابة .

[ استدلال الشاهد في قصة يوسف بقرينة قد القميص ]

ومن هذا أيضا ما حكاه الله سبحانه في قصة يوسف من استدلال الشاهد بقرينة قد القميص من دبر على صدقه وكذب المرأة وأنه كان هاربا موليا ، فأدركته المرأة من ورائه فجبذته فقدت قميصه من دبر فعلم بعلها والحاضرون صدقه وقبلوا هذا الحكم وجعلوا الذنب ذنبها ، وأمروها بالتوبة وحكاه الله - سبحانه وتعالى - حكاية مقرر له غير منكر والتأسي بذلك وأمثاله في إقرار الله له وعدم إنكاره لا في مجرد حكايته فإنه إذا أخبر به مقرا عليه ومثنيا على فاعله ومادحا له دل على رضاه به وأنه موافق لحكمه ومرضاته فليتدبر هذا الموضع فإنه نافع جدا ، ولو تتبعنا ما في القرآن والسنة وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك لطال وعسى أن نفرد فيه مصنفا شافيا إن شاء الله تعالى . والمقصود التنبيه على هديه واقتباس الأحكام من سيرته ومغازيه ووقائعه صلوات الله عليه وسلامه .

ولما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في الأرض كان يبعث كل عام من يخرص عليهم الثمار فينظر كم يجنى منها ، فيضمنهم نصيب المسلمين ويتصرفون فيها

[ جواز خرص الثمار البادي صلاحها ]

وكان يكتفي بخارص واحد . ففي هذا دليل على جواز خرص الثمار البادي صلاحها كثمر النخل وعلى جواز قسمة الثمار خرصا على رءوس النخل ويصير نصيب أحد الشريكين معلوما وإن لم يتميز بعد لمصلحة النماء وعلى أن القسمة إفراز لا بيع وعلى جواز الاكتفاء بخارص واحد وقاسم واحد وعلى أن لمن الثمار في يده أن يتصرف فيها بعد الخرص ويضمن نصيب شريكه الذي خرص عليه .

فلما كان في زمن عمر ، ذهب عبد الله ابنه إلى ماله بخيبر ، فعدوا عليه فألقوه من فوق بيت ففكوا يده فأجلاهم عمر منها إلى الشام ، وقسمها بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية .


فصل [ عقد الذمة وأخذ الجزية ]
وأما هديه في عقد الذمة وأخذ الجزية فإنه لم يأخذ من أحد من الكفار جزية إلا بعد نزول ( سورة براءة ) في السنة الثامنة من الهجرة فلما نزلت آية الجزية أخذها من المجوس ، وأخذها من أهل الكتاب وأخذها من النصارى ، وبعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن ، فعقد لمن لم يسلم من يهودها الذمة وضرب عليهم الجزية ولم يأخذها من يهود خيبر ، فظن بعض الغالطين المخطئين أن هذا حكم مختص بأهل خيبر ، وأنه لا يؤخذ منهم جزية وإن أخذت من سائر أهل الكتاب وهذا من عدم فقهه في السير والمغازي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم وصالحهم على أن يقرهم في الأرض ما شاء ولم تكن الجزية نزلت بعد فسبق عقد صلحهم وإقرارهم في أرض خيبر نزول الجزية ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية فلم يدخل في هذا يهود خيبر إذ ذاك لأن العقد كان قديما بينه وبينهم على إقرارهم وأن يكونوا عمالا في الأرض بالشطر فلم يطالبهم بشيء غير ذلك وطالب سواهم من أهل الكتاب ممن لم يكن بينه وبينهم عقد كعقدهم بالجزية كنصارى نجران ، ويهود اليمن ، وغيرهم فلما أجلاهم عمر إلى الشام ، تغير ذلك العقد الذي تضمن إقرارهم في أرض خيبر ، وصار لهم حكم غيرهم من أهل الكتاب .

[ بيان تزوير طائفة من اليهود كتابا فيه إسقاطه صلى الله عليه وسلم الجزية ]

ولما كان في بعض الدول التي خفيت فيها السنة وأعلامها ، أظهر طائفة منهم كتابا قد عتقوه وزوروه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عن يهود خيبر الجزية وفيه شهادة علي بن أبي طالب ، وسعد بن معاذ ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم فراج ذلك على من جهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه وسيره وتوهموا ، بل ظنوا صحته فجروا على حكم هذا الكتاب المزور حتى ألقي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - وطلب منه أن يعين على تنفيذه والعمل عليه فبصق عليه واستدل على كذبه بعشرة أوجه

منها : أن فيه شهادة سعد بن معاذ ، وسعد توفي قبل خيبر قطعا .

ومنها : أن في الكتاب أنه أسقط عنهم الجزية والجزية لم تكن نزلت بعد ولا يعرفها الصحابة حينئذ فإن نزولها كان عام تبوك بعد خيبر بثلاثة أعوام .

ومنها : أنه أسقط عنهم الكلف والسخر وهذا محال فلم يكن في زمانه كلف ولا سخر تؤخذ منهم ولا من غيرهم وقد أعاذه الله وأعاذ أصحابه من أخذ الكلف والسخر وإنما هي من وضع الملوك الظلمة واستمر الأمر عليها . ومنها : أن هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافهم فلم يذكره أحد من أهل المغازي والسير ولا أحد من أهل الحديث والسنة ولا أحد من أهل الفقه والإفتاء ولا أحد من أهل التفسير ولا أظهروه في زمان السلف لعلمهم أنهم إن زوروا مثل ذلك عرفوا كذبه وبطلانه فلما استخفوا بعض الدول في وقت فتنة وخفاء بعض السنة زوروا ذلك وعتقوه وأظهروه وساعدهم على ذلك طمع بعض الخائنين لله ولرسوله ولم يستمر لهم ذلك حتى كشف الله أمره وبين خلفاء الرسل بطلانه وكذبه .

فصل [ هل يجوز أخذ الجزية من غير المجوس واليهود والنصارى ]
فلما نزلت آية الجزية أخذها صلى الله عليه وسلم من ثلاث طوائف من المجوس ، واليهود ، والنصارى ، ولم يأخذها من عباد الأصنام . فقيل لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان بدينهم اقتداء بأخذه وتركه . وقيل بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب ، والأول قول الشافعي رحمه الله وأحمد ، في إحدى روايتيه . والثاني : قول أبي حنيفة ، وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى .

وأصحاب القول الثاني : يقولون إنما لم يأخذها من مشركي العرب ; لأنها إنما نزل فرضها بعد أن أسلمت دارة العرب ، ولم يبق فيها مشرك فإنها نزلت بعد فتح مكة ، ودخول العرب في دين الله أفواجا ، فلم يبق بأرض العرب مشرك ولهذا غزا بعد الفتح تبوك ، وكانوا نصارى ، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين .

ومن تأمل السير وأيام الإسلام علم أن الأمر كذلك فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه لا لأنهم ليسوا من أهلها ، قالوا : وقد أخذها من المجوس ، وليسوا بأهل كتاب ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورفع وهو حديث لا يثبت مثله ولا يصح سنده .

ولا فرق بين عباد النار وعباد الأصنام بل أهل الأوثان أقرب حالا من عباد النار وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل ، فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من عباد الأصنام أولى ، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في " صحيح مسلم " أنه قال إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث فأيتهن أجابوك إليها ، فاقبل منهم وكف عنهم " . ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو يقاتلهم

وقال المغيرة لعامل كسرى : أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله ، أو تؤدوا الجزية

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش : هل لكم في كلمة تدين لكم بها العرب ، وتؤدي العجم إليكم بها الجزية . قالوا : ما هي ؟ قال " لا إله إلا الله

فصل

ولما كان في مرجعه من تبوك ، أخذت خيله أكيدر دومة ، فصالحه على الجزية وحقن له دمه " .

[ صلحه صلى الله عليه وسلم مع أهل نجران ]
وصالح أهل نجران من النصارى على ألفي حلة . النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدرة على ألا تهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا

وفي هذا دليل على انتقاض عهد الذمة بإحداث الحدث وأكل الربا إذا كان مشروطا عليهم . ولما وجه معاذا إلى اليمن ، أمره أن يأخذ من كل محتلم دينارا أو قيمته من المعافري وهي ثياب تكون باليمن

[ الجزية تقدر بحسب حاجة المسلمين ]
وفي هذا دليل على أن الجزية غير مقدرة الجنس ولا القدر بل يجوز أن تكون ثيابا وذهبا وحللا ، وتزيد وتنقص بحسب حاجة المسلمين واحتمال من تؤخذ منه وحاله في الميسرة وما عنده من المال .

[ تؤخذ الجزية من العرب والعجم بغير اعتبار لآبائهم ]
ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه في الجزية بين العرب والعجم ، بل أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب ، وأخذها من مجوس هجر ، وكانوا عربا ، فإن العرب أمة لي لها في الأصل كتاب وكانت كل طائفة منهم تدين بدين من جاورها من الأمم فكانت عرب البحرين مجوسا لمجاورتها فارس ، وتنوخ ، وبهرة ، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم وكانت قبائل من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن ، فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الجزية ولم يعتبر آباءهم ولا متى دخلوا في دين أهل الكتاب هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده ومن أين يعرفون ذلك وكيف ينضبط وما الذي دل عليه ؟ وقد ثبت في السير والمغازي ، أن من الأنصار من تهود أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى ، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام فأنزل الله تعالى : لا إكراه في الدين [ البقرة 256 ] وفي قوله لمعاذ : خذ من كل حالم دينارا دليل على أنها لا تؤخذ من صبي ولا امرأة .

فإن قيل فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه عبد الرزاق في " مصنفه " وأبو عبيد في " الأموال " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذ بن جبل أن يأخذ من اليمن الجزية من كل حالم أو حالمة زاد أبو عبيد : عبدا أو أمة دينارا أو قيمته من المعافري " فهذا فيه أخذها من الرجل والمرأة والحر والرقيق ؟ قيل هذا لا يصح وصله وهو منقطع وهذه الزيادة مختلف فيها ، لم يذكرها سائر الرواة ولعلها من تفسير بعض الرواة . وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وغيرهم هذا الحديث فاقتصروا على قوله أمره " أن يأخذ من حالم دينارا " ولم يذكروا هذه الزيادة وأكثر من أخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم الجزية العرب من النصارى واليهود ، والمجوس ، ولم يكشف عن أحد منهم متى دخل في دينه وكان يعتبرهم بأديانهم لا بآبائهم .



يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 03:38 AM
فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين
من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ثم أنزل عليه يا أيها المدثر قم فأنذر [ المدثر 1 ، 2 ] فنبأه بقوله اقرأ وأرسله ب يا أيها المدثر ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ثم أنذر قومه ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام أهل صلح وهدنة وأهل حرب وأهل ذمة فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد وأمر أن يقاتل من نقض عهده . ولما نزلت ( سورة براءة ) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن " يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان والمنافقين بالحجة واللسان .

[ الفرق بين أشهر التسيير الحرم وبين الأشهر الحرم ]

وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له فحاربهم وظهر عليهم . وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ التوبة 2 ] وهي الحرم المذكورة في قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين [ التوبة 5 ] فالحرم ها هنا : هي أشهر التسيير أولها يوم الأذان وهو اليوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك وآخرها العاشر من ربيع الآخر وليست هي الأربعة المذكورة في قوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم [ التوبة 36 ] فإن تلك واحد فرد وثلاثة سرد رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم . ولم يسير المشركين في هذه الأربعة فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم فقتل الناقض لعهده وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم وضرب على أهل الذمة الجزية .

فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام محاربين له وأهل عهد وأهل ذمة ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين محاربين وأهل ذمة والمحاربون له خائفون منه فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام مسلم مؤمن به ومسالم له آمن وخائف محارب .

وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله وأن يجاهدهم بالعلم والحجة وأمره أن يعرض عنهم ويغلظ عليهم وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ونهاه أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين .

فصل [ سيرته صلى الله عليه وسلم في أوليائه وحزبه ]
وأما سيرته في أوليائه وحزبه ، فأمره أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وألا تعدو عيناه عنهم وأمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الأمر وأن يصلي عليهم . وأمره بهجر من عصاه وتخلف عنه حتى يتوب ويراجع طاعته كما هجر الثلاثة الذين . خلفوا . وأمره أن يقيم الحدود على من أتى موجباتها منهم وأن يكونوا عنده في ذلك سواء شريفهم ودنيئهم .

[ معنى خذ العفو وأمر بالعرف ]

وأمره في دفع عدوه من شياطين الإنس بأن يدفع بالتي هي أحسن فيقابل إساءة من أساء إليه بالإحسان وجهله بالحلم وظلمه بالعفو وقطيعته بالصلة وأخبره أنه إن فعل ذلك عاد عدوه كأنه ولي حميم .

وأمره في دفعه عدوه من شياطين الجن بالاستعاذة بالله منهم وجمع له هذين الأمرين في ثلاثة مواضع من القرآن في ( سورة الأعراف ) و ( المؤمنون ) و ( سورة حم فصلت ) فقال في سورة الأعراف خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف 199 - 200 ] فأمره باتقاء شر الجاهلين بالإعراض عنهم وباتقاء شر الشيطان بالاستعاذة منه وجمع له في هذه الآية مكارم الأخلاق والشيم كلها ، فإن ولي الأمر له مع الرعية ثلاثة أحوال فإنه لا بد له من حق عليهم يلزمهم القيام به وأمر يأمرهم به ولا بد من تفريط وعدوان يقع منهم في حقه فأمر بأن يأخذ من الحق الذي عليهم ما طوعت به أنفسهم وسمحت به وسهل عليهم ولم يشق وهو العفو الذي لا يلحقهم ببذله ضرر ولا مشقة وأمر أن يأمرهم بالعرف وهو المعروف الذي تعرفه العقول السليمة والفطر المستقيمة وتقر بحسنه ونفعه وإذا أمر به يأمر بالمعروف أيضا لا بالعنف والغلظة . وأمره أن يقابل جهل الجاهلين منهم بالإعراض عنه دون أن يقابله بمثله فبذلك يكتفي شرهم . وقال تعالى في سورة المؤمنين قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون 93 - 97 ]

وقال تعالى في سورة حم فصلت ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت 134 ] فهذه سيرته مع أهل الأرض إنسهم وجنهم مؤمنهم وكافرهم .


فصل في سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار
[ سرية حمزة إلى سيف البحر ]
وكان أول لواء عقده رسو ل الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره وكان لواء أبيض وكان حامله أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي حليف حمزة وبعثه في ثلاثين رجلا من المهاجرين خاصة يعترض عيرا لقريش جاءت من الشام ، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل . فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص ، فالتقوا واصطفوا للقتال فمشى مجدي بن عمرو الجهني ، وكان حليفا للفريقين جميعا ، بين هؤلاء وهؤلاء حتى حجز بينهم ولم يقتتلوا .

فصل [ سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب]
[ سعد هو أول من رمى بسهم في سبيل الله ]

ثم بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب في سرية إلى بطن رابغ في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة وعقد له لواء أبيض وحمله مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وكانوا في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري فلقي أبا سفيان بن حرب ، وهو في مائتين على بطن رابغ ، على عشرة أميال من الجحفة ، وكان بينهم الرمي ولم يسلوا السيوف ولم يصطفوا للقتال وإنما كانت مناوشة وكان سعد بن أبي وقاص فيهم وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله ثم انصرف الفريقان على حاميتهم .

قال ابن إسحاق : وكان على القوم عكرمة بن أبي جهل ، وقدم سرية عبيدة على سرية حمزة .

فصل [ سرية سعد إلى بطن رابغ ]
ثم بعث سعد بن أبي وقاص إلى الخرار في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر وعقد له لواء أبيض وحمله المقداد بن عمرو ، وكانوا عشرين راكبا يعترضون عيرا لقريش ، وعهد أن لا يجاوز الخرار ، فخرجوا على أقدامهم فكانوا يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل حتى صبحوا المكان صبيحة خمس فوجدوا العير قد مرت بالأمس

فصل [ غزوة الأبواء وهي أول غزوة غزاها بنفسه صلى الله عليه وسلم ]
ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء ، ويقال لها : ودان ، وهي أول غزوة غزاها بنفسه وكانت في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مهاجره وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب ، وكان أبيض واستخلف على المدينة سعد بن عبادة ، وخرج في المهاجرين خاصة يعترض عيرا لقريش ، فلم يلق كيدا ، وفي هذه الغزوة وادع مخشي بن عمرو الضمري وكان سيد بني ضمرة في زمانه على ألا يغزو بني ضمرة ، ولا يغزوه ولا أن يكثروا عليه جمعا ، ولا يعينوا عليه عدوا ، وكتب بينه وبينهم كتابا ، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة .

فصل [ غزوة بواط ]
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره وحمل لواءه سعد بن أبي وقاص ، وكان أبيض واستخلف على المدينة سعد بن معاذ ، وخرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرا لقريش ، فيها أمية بن خلف الجمحي ، ومائة رجل من قريش ، وألفان وخمسمائة بعير فبلغ بواطا ، وهما جبلان فرعان أصلهما واحد من جبال جهينة ، مما يلي طريق الشام ، وبين بواط والمدينة نحو أربعة برد فلم يلق كيدا فرجع .

فصل [ خروجه في طلب كرز الفهري ]
ثم خرج على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره يطلب كرز بن جابر الفهري ، وحمل لواءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان أبيض واستخلف على المدينة زيد بن حارثة ، وكان كرز قد أغار على سرح المدينة ، فاستاقه وكان يرعى بالحمى ، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر ، وفاته كرز ولم يلحقه فرجع إلى المدينة .

فصل [ غزوة العشيرة ]
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهرا ، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب ، وكان أبيض واستخلف على المدينة أبا سلمة بن - عبد الأسد المخزومي ، وخرج في خمسين ومائة ويقال في مائتين من المهاجرين ولم يكره أحدا على الخروج وخرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها يعترضون عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام ، وقد كان جاءه الخبر بفصولها من مكة فيها أموال لقريش ، فبلغ ذا العشيرة ، وقيل العشيراء بالمد . وقيل العسيرة بالمهملة وهي بناحية ينبع ، وبين ينبع والمدينة تسعة برد فوجد العير قد فاتته بأيام وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام ، وهي التي وعده الله إياها ، أو المقاتلة وذات الشوكة ووفى له بوعده .

وفي هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة .

قال عبد المؤمن بن خلف الحافظ : وفي هذه الغزوة كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا أبا تراب وليس كما قال فإن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ إنما كناه أبا تراب بعد نكاحه فاطمة ، وكان نكاحها بعد بدر ، فإنه لما دخل عليها وقال " أين ابن عمك ؟ " قالت خرج مغاضبا ، فجاء إلى المسجد فوجده مضطجعا فيه وقد لصق به التراب فجعل ينفضه عنه ويقول " اجلس أبا تراب اجلس أبا تراب وهو أول يوم كني فيه أبا تراب .

فصل [ سرية نخلة ]
[ أول خمس وأول قتيل وأول أسيرين في الإسلام ]

[ القتال في الأشهر الحرم ]

[ معنى الفتنة أكبر من القتل ]

ثم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة في اثني عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش ، وفي هذه السرية سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا ، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ولما فتح الكتاب وجد فيه " إذا نظرت في كتابي هذا ، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم فقال سمعا وطاعة وأخبر أصحابه بذلك وبأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع وأما أنا فناهض فمضوا كلهم فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه وبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي ، وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة ، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ، ثم أجمعوا على ملاقاتهم فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا عثمان والحكم وأفلت نوفل ثم قدموا بالعير والأسيرين وقد عزلوا من ذلك الخمس وهو أول خمس كان في الإسلام وأول قتيل في الإسلام وأول أسيرين في الإسلام وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ما فعلوه واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا ، فقالوا : قد أحل محمد الشهر الحرام واشتد على المسلمين ذلك حتى أنزل الله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ؟ قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل [ البقرة 217 ] يقول سبحانه هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيرا ، فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن بيته وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه والشرك الذي أنتم عليه والفتنة التي حصلت منكم به أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام وأكثر السلف فسروا الفتنة ها هنا بالشرك كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ البقرة 193 ] ويدل عليه قوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام 23 ] أي لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلا أن تبرءوا منه وأنكروه .

وحقيقتها : أنها الشرك الذي يدعو صاحبه إليه ويقاتل عليه ويعاقب من لم يفتتن به ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها : ذوقوا فتنتكم قال ابن عباس : تكذيبكم .

وحقيقته ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ، ومصير أمرها ، كقوله ذوقوا ما كنتم تكسبون [ الزمر 24 ] وكما فتنوا عباده على الشرك فتنوا على النار وقيل لهم ذوقوا فتنتكم ومنه قوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا [ البروج 10 ] فسرت الفتنة ها هنا بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار واللفظ أعم من ذلك وحقيقته عذبوا المؤمنين ليفتتنوا عن دينهم فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين . وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه أو يضيفها رسوله إليه كقوله وكذلك فتنا بعضهم ببعض وقول موسى : إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء [ الأعراف 155 ] فتلك بمعنى آخر وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر بالنعم والمصائب فهذه لون وفتنة المشركين لون وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية ، وبين أهل الجمل وصفين ، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر وهي الفتنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي وأحاديث الفتنة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين هي هذه الفتنة .

وقد تأتي الفتنة مرادا بها المعصية كقوله تعالى : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني [ التوبة 49 ] ، يقوله الجد بن قيس ، لما ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، يقول ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات بني الأصفر فإني لا أصبر عنهن قال تعالى : ألا في الفتنة سقطوا [ التوبة 49 ] أي وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر . والمقصود أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام بل أخبر أنه كبير وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله فهم كما قيل


وإذا الحبيب أتى بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع


فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن .

فصل [ تحويل القبلة ]

ولما كان في شعبان من هذه السنة حولت القبلة وقد تقدم ذكر ذلك .


فصل في غزوة بدر الكبرى
فلما كان في رمضان من هذه السنة بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر العير المقبلة من الشام لقريش صحبة أبي سفيان ، وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة ، وكانوا نحو أربعين رجلا ، وفيها أموال عظيمة لقريش ، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها ، وأمر من كان ظهره حاضرا بالنهوض ولم يحتفل لها احتفالا بليغا ، لأنه خرج مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان فرس للزبير بن العوام ، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي ، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي ، يعتقبون بعيرا ، وزيد بن حارثة ، وابنه وكبشة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا وأبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، يعتقبون بعيرا ، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر ، واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب ، والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة ، وسار فلما قرب من الصفراء ، بعث بسبس بن عمرو الجهني ، وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير .

وأما أبو سفيان ، فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ، مستصرخا لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه وبلغ الصريخ أهل مكة ، فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، فإنه عوض عنه رجلا كان له عليه دين وحشدوا فيمن حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرج معهم منهم أحد ، وخرجوا من ديارهم كما قال تعالى : بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله [ الأنفال 47 ] وأقبلوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدهم وحديدهم تحاده وتحاد رسوله وجاءوا على حرد قادرين وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم وقتل من فيها ، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي ، والعير التي كانت معه فجمعهم الله على غير ميعاد كما قال الله تعالى : ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا [ الأنفال 42 ] ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش ، استشار أصحابه فتكلم المهاجرون فأحسنوا ، ثم استشارهم ثانيا ، فتكلم المهاجرون فأحسنوا ، ثم استشارهم ثالثا ، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم فبادر سعد بن معاذ ، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك تعرض بنا ؟ وكان إنما يعنيهم لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم فقال له سعد لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها ، وإني أقول عن الأنصار ، وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان ، لنسيرن معك ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك .

وقال له المقداد : لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك . فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسر بما سمع من أصحابه وقال سيروا وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين وإني قد رأيت مصارع القوم

[ لم يشهد بدرا زهري ]

فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر ولما رأى أنه قد نجا ، وأحرز العير كتب إلى قريش : أن ارجعوا ، فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم فأتاهم الخبر وهم بالجحفة فهموا بالرجوع فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نقدم بدرا ، فنقيم بها ، ونطعم من حضرنا من العرب ، وتخافنا العرب بعد ذلك فأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع فعصوه فرجع هو وبنو زهرة ، فلم يشهد بدرا زهري فاغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس فلم يزل فيهم مطاعا معظما ، وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع فساروا ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عشيا أدنى ماء من مياه بدر ، فقال أشيروا علي في المنزل فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله أنا عالم بها وبقلبها ، إن رأيت أن نسير إلى قلب قد عرفناها ، فهي كثيرة الماء عذبة فننزل عليها ونسبق القوم إليها ونغور ما سواها من المياه .

وسار المشركون سراعا يريدون الماء وبعث عليا وسعدا والزبير إلى بدر يلتمسون الخبر فقدموا بعبدين لقريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ، فسألهما أصحابه من أنتما ؟ قالا : نحن سقاة لقريش ، فكره ذلك أصحابه وودوا لو كانا لعير أبي سفيان فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : أخبراني أين قريش ؟ قالا : وراء هذا الكثيب . فقال كم القوم ؟ فقالا : لا علم لنا ، فقال كم ينحرون كل يوم ؟ فقالا : يوما عشرا ، ويوما تسعا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم ما بين تسعمائة إلى الألف فأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا ، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلا طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان ووطأ به الأرض وصلب به الرمل وثبت الأقدام ومهد به المنزل وربط به على قلوبهم فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض . وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيها على تل يشرف على المعركة ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان إن شاء الله فما تعدى أحد منهم موضع إشارته

فلما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها ، جاءت تحادك ، وتكذب رسولك " ، وقام ورفع يديه واستنصر ربه وقال اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك " ، فالتزمه الصديق من ورائه وقال يا رسول الله أبشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك

[ معنى مردفين ]

واستنصر المسلمون الله واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه فأوحى الله إلى ملائكته أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب [ الأنفال 12 ] ، وأوحى الله إلى رسوله أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [ الأنفال 9 ] قرئ بكسر الدال وفتحها ، فقيل المعنى إنهم ردف لكم . وقيل يردف بعضهم بعضا أرسالا لم يأتوا دفعة واحدة . فإن قيل ها هنا ذكر أنه أمدهم بألف وفي ( سورة آل عمران ) قال إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين [ آل عمران 124 ] فكيف الجمع بينهما ؟

[ الاختلاف في إمداد الله لهم ]

قيل قد اختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف والذي بالخمسة على قولين أحدهما : أنه كان يوم أحد ، وكان إمدادا معلقا على شرط فلما فات شرطه فات الإمداد وهذا قول الضحاك ومقاتل وإحدى الروايتين عن عكرمة .

والثاني : أنه كان يوم بدر ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

والرواية الأخرى عن عكرمة ، اختاره جماعة من المفسرين . وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك فإنه سبحانه قال ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا [ آل عمران 123 - 125 ] إلى أن قال وما جعله الله أي هذا الإمداد إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به قال هؤلاء فلما استغاثوا ، أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا ، فكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعا ، وأقوى لنفوسهم وأسر لها من أن يأتي به مرة واحدة وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة .

وقالت الفرقة الأولى : القصة في سياق أحد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها ، فإنه سبحانه قال وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ آل عمران 121 ] ثم قال ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون [ آل عمران 123 ] ، فذكرهم نعمته عليهم لما نصرهم ببدر وهم أذلة ثم عاد إلى قصة أحد ، وأخبر عن قول رسوله لهم ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا ، أمدهم بخمسة آلاف فهذا من قول رسوله والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف وإمداد بدر بألف وهذا معلق على شرط وذلك مطلق والقصة في ( سورة آل عمران ) هي قصة أحد مستوفاة مطولة وبدر ذكرت فيها اعتراضا ، والقصة في سورة الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة فالسياق في ( آل عمران ) غير السياق في الأنفال .

يوضح هذا أن قوله ويأتوكم من فورهم هذا [ آل عمران 125 ] قد قال مجاهد : إنه يوم أحد ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر ، وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد . والله أعلم .

فصل وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هناك وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية فلما أصبحوا ، أقبلت قريش في كتائبها ، واصطف الفريقان فمشى حكيم بن حزام ، وعتبة بن ربيعة في قريش ، أن يرجعوا ولا يقاتلوا ، فأبى ذلك أبو جهل ، وجرى بينه وبين عتبة كلام أحفظه وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب دم أخيه عمرو ، فكشف عن استه وصرخ واعمراه ، فحمي القوم ونشبت الحرب وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة وقام سعد بن معاذ في قوم من الأنصار على باب العريش يحمون رسول الله صلى الله عليه وسلم .


[ طلب المبارزة ]

وخرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، يطلبون المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار : عبد الله بن رواحة ، وعوف ومعوذ ابنا عفراء ، فقالوا لهم من أنتم ؟ فقالوا : من الأنصار . قالوا : أكفاء كرام وإنما نريد بني عمنا ، فبرز إليهم علي

وعبيدة بن الحارث وحمزة ، فقتل علي قرنه الوليد وقتل حمزة قرنه عتبة وقيل شيبة واختلف عبيدة وقرنه ضربتين فكر علي وحمزة على قرن عبيدة فقتلاه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله فلم يزل ضمنا حتى مات بالصفراء . وكان علي يقسم بالله لنزلت هذه الآية فيهم هذان خصمان اختصموا في ربهم الآية [ الحج 19 ] .

[ اشتداد القتال ]

ثم حمي الوطيس واستدارت رحى الحرب واشتد القتال وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء والابتهال ومناشدة ربه عز وجل حتى سقط رداؤه عن منكبيه فرده عليه الصديق وقال بغض مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك

فأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة وأخذ القوم النعاس في حال الحرب ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع

وجاء النصر وأنزل الله جنده وأيد رسوله والمؤمنين ومنحهم أكتاف المشركين أسرا وقتلا ، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين .

فصل [ ظهور إبليس في صورة سراقة الكناني ووسوسته لقريش ]

ولما عزموا على الخروج ذكروا ما بينهم وبين بني كنانة من الحرب فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي ، وكان من أشراف بني كنانة ، فقال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه فخرجوا والشيطان جار لهم لا يفارقهم فلما تعبئوا للقتال ورأى عدو الله جند الله قد نزلت من السماء فر ونكص على عقبيه فقالوا : إلى أين يا سراقة ؟ ألم تكن قلت إنك جار لنا لا تفارقنا ؟ فقال إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وصدق في قوله إني أرى ما لا ترون وكذب في قوله إني أخاف الله وقيل كان خوفه على نفسه أن يهلك معهم وهذا أظهر .

ولما رأى المنافقون ومن في قلبه مرض قلة حزب الله وكثرة أعدائه ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة وقالوا : غر هؤلاء دينهم [ الأنفال 149 ] ، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة ولا بالعدد والله عزيز لا يغالب حكيم ينصر من يستحق النصر وإن كان ضعيفا ، فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه .

[ استشهاد عمير بن الحمام ]

ولما دنا العدو وتواجه القوم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فوعظهم وذكرهم بما لهم في الصبر والثبات من النصر والظفر العاجل وثواب الله الآجل وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله فقام عمير بن الحمام ، فقال يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض ؟ قال نعم . قال بخ بخ يا رسول الله ، قال ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال فإنك من أهلها قال فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل . فكان أول قتيل

[ شأن وما رميت إذ رميت ]

وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء كفه من الحصباء فرمى بها وجوه العدو فلم تترك رجلا منهم إلا ملأت عينيه وشغلوا بالتراب في أعينهم وشغل المسلمون بقتلهم فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله . وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [ الأنفال 17 ]

وقد ظن طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله وأنه هو الفاعل حقيقة وهذا غلط منهم من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع . ومعنى الآية أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته فالرمي يراد به الحذف والإيصال فأثبت لنبيه الحذف ونفى عنه الإيصال .

[ مشاركة الملائكة ]

وكانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم قال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس فوقه يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا ، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة

وقال أبو داود المازني : إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيري .

وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا ، فقال العباس إن هذا والله ما أسرني ، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها ، على فرس أبلق ما أراه في القوم فقال الأنصاري أنا أسرته يا رسول الله فقال اسكت فقد أيدك الله بملك كريم وأسر من بني عبد المطلب ثلاثة العباس وعقيل ونوفل بن الحارث .

[ قصة إبليس مع أبي جهل ]

وذكر الطبراني في " معجمه الكبير " عن رفاعة بن رافع ، قال لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر ، أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يظنه سراقة بن مالك فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه وقال اللهم إني أسألك نظرتك إياي وخاف أن يخلص إليه القتل فأقبل أبو جهل بن هشام فقال يا معشر الناس لا ، يهزمنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على ميعاد من محمد ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد فإنهم قد عجلوا ، فواللات والعزى ، لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال ولا ألفين رجلا منكم قتل رجلا منهم ولكن خذوهم أخذا حتى نعرفهم سوء صنيعهم

[ دعاء أبي جهل لربه ]

واستفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم فأنزل الله عز وجل إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين [ الأنفال 19 ]

[ كراهة سعد بن معاذ لأسر المشركين ]

ولما وضع المسلمون أيديهم في العدو يقتلون ويأسرون وسعد بن معاذ واقف على باب الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العريش متوشحا بالسيف في ناس من الأنصار ، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك تكره ما يصنع الناس ؟ قال أجل والله كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين وكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال

[ إجهاز ابن مسعود على أبي جهل ]

ولما بردت الحرب وولى القوم منهزمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينظر لنا ما صنع أبو جهل ؟ " فانطلق ابن مسعود ، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد وأخذ بلحيته فقال أنت أبو جهل ؟ فقال لمن الدائرة اليوم ؟ فقال لله ولرسوله وهل أخزاك الله يا عدو الله ؟ فقال وهل فوق رجل قتله قومه ؟ فقتله عبد الله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قتلته فقال الله الذي لا إله إلا هو فرددها ثلاثا ، ثم قال الله أكبر الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده انطلق أرنيه " فانطلقنا فأريته إياه فقال سس هذا فرعون هذه الأمة

[ قتل أمية بن خلف وابنه ]

وأسر عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف وابنه عليا ، فأبصره بلال وكان أمية يعذبه بمكة فقال رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا ، ثم استوخى جماعة من الأنصار ، واشتد عبد الرحمن بهما يحرزهما منهم فأدركوهم فشغلهم عن أمية بابنه ففرغوا منه ثم لحقوهما ، فقال له عبد الرحمن ابرك فبرك فألقى نفسه عليه فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه وأصاب بعض السيوف رجل عبد الرحمن بن عوف ، قال له أمية قبل ذلك من الرجل المعلم في صدره بريشة نعامة ؟ فقال ذلك حمزة بن عبد المطلب فقال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل وكان مع عبد الرحمن أدراع قد استلبها ، فلما رآه أمية قال له أنا خير لك من هذه الأدراع فألقاها وأخذه فلما قتله الأنصار ، كان يقول يرحم الله بلالا ، فجعني بأدراعي وبأسيري

[ انقطاع سيف عكاشة ]

وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب فقال دونك هذا فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفا طويلا شديدا أبيض فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر .

[ قتل الزبير عبيدة بحربته وما كان من أمر هذه الحربة ]

ولقي الزبير عبيدة بن سعيد بن العاص ، وهو مدجج في السلاح لا يرى منه إلا الحدق فحمل عليه الزبير بحربته فطعنه في عينه فمات فوضع رجله على الحربة ثم تمطى ، فكان الجهد أن نزعها ، وقد انثنى طرفاها ، قال عروة فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها ، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها ، فلما قبض عمر أخذها ، ثم طلبها عثمان فأعطاه إياها ، فلما قبض عثمان وقعت عند آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير ، وكانت عنده حتى قتل .

[ فقء عين رفاعة بن رافع ]

وقال رفاعة بن رافع : رميت بسهم يوم بدر ففقئت عيني ، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي ، فما آذاني منها شيء

[ وقوفه صلى الله عليه وسلم على القتلى ]

ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ، كذبتموني ، وصدقني الناس وخذلتموني ونصرني الناس وأخرجتموني وآواني الناس ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر ، فطرحوا فيه ثم وقف عليهم فقال يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ، ويا فلان ويا فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا ؟ فقال والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون الجواب ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثا ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا

[ رجوعه صلى الله عليه وسلم من بدر ]

ثم ارتحل مؤيدا منصورا ، قرير العين بنصر الله له ومعه الأسارى والمغانم فلما كان بالصفراء ، قسم الغنائم وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة ، ثم لما نزل بعرق الظبية ، ضرب عنق عقبة بن أبي معيط .

ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مؤيدا مظفرا منصورا قد خافه كل عدو له المدينة وحولها ، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة ، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهرا .

[ جملة من حضر بدرا ]

وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، من المهاجرين ستة وثمانون ومن الأوس أحد وستون ومن الخزرج مائة وسبعون وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج ، وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة وأصبر عند اللقاء لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة ، وجاء النفير بغتة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضرا فاستأذنه رجال ظهورهم في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم فأبى ولم يكن عزمهم على اللقاء ولا أعدوا له عدته ولا تأهبوا له أهبته ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .

[ شهداء المسلمين ]

واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا : ستة من المهاجرين وستة من الخزرج ، واثنان من الأوس ، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدر والأسارى في شوال .


افتراضي

فصل [ غزوة بني سليم ]
ثم نهض بنفسه صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه بسبعة أيام إلى غزو بني سليم ، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة ، وقيل ابن أم مكتوم ، فبلغ ماء يقال له الكدر ، فأقام عليه ثلاثا ، ثم انصرف ولم يلق كيدا .

فصل [ غزوة السويق ]
ولما رجع فل المشركين إلى مكة موتورين محزونين نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في مائتي راكب حتى أتى العريض في طرف المدينة ، وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس فلما أصبح قطع أصوارا من النخل وقتل رجلا من الأنصار وحليفا له ثم كر راجعا ، ونذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه فبلغ قرقرة الكدر ، وفاته أبو سفيان وطرح الكفار سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فأخذها المسلمون فسميت غزوة السويق ، وكان ذلك بعد بدر بشهرين . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية ذي الحجة ثم غزا نجدا يريد غطفان ، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقام هناك صفرا كله من السنة الثالثة ثم انصرف ولم يلق حربا .


فصل في قتل كعب بن الأشرف
وكان رجلا من اليهود وأمه من بني النضير وكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يشبب في أشعاره بنساء الصحابة فلما كانت وقعة بدر ذهب إلى مكة وجعل يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين ثم رجع الى المدينة على تلك الحال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله " فانتدب له محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة واسمه سلكان بن سلامة وهو أخو كعب من الرضاع والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ما شاءوا من كلام يخدعونه به فذهبوا إليه في ليلة مقمرة وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد فلما انتهوا إليه قدموا سلكان بن سلامة إليه فأظهر له موافقته على الانحراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ضيق حاله فكلمه في أن يبيعه وأصحابه طعاما ويرهنونه سلاحهم فأجابهم إلى ذلك . ورجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم فأتوه فخرج إليهم من حصنه فتماشوا فوضعوا عليه سيوفهم ووضع محمد بن مسلمة مغولا كان معه في ثنته فقتله وصاح عدو الله صيحة شديدة أفزعت من حوله . وأوقدوا النيران وجاء الوفد حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل وهو قائم يصلي وجرح الحارث بن أوس ببعض سيوف أصحابه فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرئ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل من وجد من اليهود لنقضهم عهده ومحاربتهم الله ورسوله
ه عنه فأقام هناك صفرا كله من السنة الثالثة ثم انصرف ولم يلق حربا .

فصل [ غزوة الفرع ]
فأقام بالمدينة ربيعا الأول ثم خرج يريد قريشا ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، فبلغ بحران معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ، ولم يلق حربا ، فأقام هنالك ربيعا الآخر وجمادى الأولى ، ثم انصرف إلى المدينة .

فصل [ غزوة بني قينقاع ]
ثم غزا بني قينقاع ، وكانوا من يهود المدينة ، فنقضوا عهده فحاصرهم خمسة عشر ليلة حتى نزلوا على حكمه فشفع فيهم عبد الله بن أبي ، وألح عليه فأطلقهم له وهم قوم عبد الله بن سلام ، وكانوا سبعمائة مقاتل وكانوا صاغة وتجارا .



فصل في [ غزوة أحد ]
[ مشورته صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج ]

ولما قتل الله أشراف قريش ببدر وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم وجاء كما ذكرنا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ولم ينل ما في نفسه أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ويجمع الجموع فجمع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا وليحاموا عنهن ثم أقبل بهم نحو المدينة . فنزل قريبا من جبل أحد بمكان يقال له عينين وذلك في شوال من السنة الثالثة

واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي وكان هو الرأي فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر وأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة

وتابعه على ذلك بعض الصحابة فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهض ودخل بيته ولبس لامته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فقالوا : يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه

[ رؤياه صلى الله عليه وسلم ]

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة وكان رسول الله رأى رؤيا وهو بالمدينة رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون وتأول الدرع بالمدينة .

[ انخزال بن أبي بنحو ثلث العسكر ]

فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر وقال تخالفني وتسمع من غيري فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله يوبخهم ويحضهم على العسكر الرجوع ويقول تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع فرجع عنهم وسبهم وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى وسلك حرة بني حارثة وقال من رجل يخرج بنا على القوم من كثب ؟ فخرج به بعض الأنصار حتى سلك في حائط لبعض المنافقين وكان أعمى فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول لا أحل لك أن تدخل في حائطي إن كنت رسول الله فابتدره القوم ليقتلوه فقال لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر

ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارسا واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله بن جبير وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم وألا يفارقوه ولو رأى الطير تتخطف العسكر وكانوا خلف الجيش وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم .

[ مشاركة الشباب ]

فظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يومئذ وأعطى اللواء مصعب بن عمير وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو واستعرض الشباب يومئذ فرد من استصغره عن القتال وكان منهم عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزم وأجاز من رآه مطيقا وكان منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة . فقيل أجاز من أجاز لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ورد من رد لصغره عن سن البلوغ وقالت طائفة إنما أجاز من أجاز لإطاقته ورد من رد لعدم إطاقته ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك قالوا : وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر فلما رآني مطيقا أجازني وتعبت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب .

[ خبر أبي عامر الفاسق ]

وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق واسمه عبد عمرو بن صيفي وكان يسمى : الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق وكان رأس الأوس في الجاهلية فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه فكان أول من لقي المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم فقالوا له لا أنعم الله بك عينا يا فاسق . فقال لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا وكان شعار المسلمين يومئذ أمت

وأبلى يومئذ أبو دجانة الأنصاري وطلحة بن عبيد الله وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر وسعد بن الربيع .

عصيان الرماة لأمره صلى الله عليه وسلم وانتهاز

المشركين هذه الفرصة

[ ما أصيب به صلى الله عليه وسلم ]

وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار فانهزم عدو الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه وقالوا : يا قوم الغنيمة فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة فذهبوا في طلب الغنيمة وأخلو الثغر وكر فرسان المشركين فوجدوا الثغر خاليا قد خلا من الرماة فجازوا منه وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة وهم سبعون وتولى الصحابة وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى وكادت السفلى وهشموا البيضة على رأسه ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة بن عبيد الله وكان الذي تولى أذاه صلى الله عليه وسلم عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص وقيل إن عبد الله بن شهاب الزهري عم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري هو الذي شجه .

[ قتل مصعب بن عمير ]
[ شأن مالك بن سنان ]

وقتل مصعب بن عمير بين يديه فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته وأدركه المشركون يريدون ما الله حائل بينهم وبينه فحال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها عليه بيده وكانت أصح عينيه وأحسنهما

وصرخ الشيطان بأعلى صوته إن محمدا قد قتل ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم وكان أمر الله قدرا مقدورا .

[ قتل أنس بن النضر ]

[ وجرح عبد الرحمن بن عوف ]

ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال ما تنتظرون ؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون في الحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل الناس ولقي سعد بن معاذ فقال يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوا من عشرين جراحة

[ قتله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف ]
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه أن اسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه وفيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف على جواد له يقال له العوذ زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اقترب منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته فكر عدو الله منهزما فقال له المشركون والله ما بك من بأس فقال والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون وكان يعلف فرسه بمكة ويقول أقتل عليه محمدا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى فلما طعنه تذكر عدو الله قوله أنا قاتله فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح فمات منه في طريقه بسرف مرجعه إلى مكة .

وجاء علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء ليشرب منه فوجده آجنا فرده وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه . فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هنالك فلم يستطع لما به فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالسا وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار .

[ حنظلة غسيل الملائكة ]

وشد حنظلة الغسيل وهو حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد بن الأسود فقتله وكان جنبا فإنه سمع الصيحة وهو على امرأته فقام من فوره إلى الجهاد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله ثم قال سلوا أهله ؟ ما شأنه ؟ فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر . وجعل الفقهاء هذا حجة أن الشهيد إذا قتل جنبا يغسل اقتداء بالملائكة .

[ أم عمارة ]

وقتل المسلمون حامل لواء المشركين فرفعته لهم عمرة بنت علقمة الحارثيه حتى اجتمعوا إليه وقاتلت أم عمارة وهي نسيبة بنت كعب المازنية قتالا شديدا وضربت عمرو بن قمئة بالسيف ضربات فوقته درعان كانتا عليه وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها .

[ شهادة الأصيرم مع أنه لم يصل صلاة قط ]
وكان عمرو بن ثابت المعروف بالأصيرم من بني عبد الأشهل يأبى الإسلام فلما كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي سبقت له منه فأسلم وأخذ سيفه ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقاتل فأثبت بالجراح ولم يعلم أحد بأمره فلما انجلت الحرب طاف بنو عبد الأشهل في القتلى يلتمسون قتلاهم فوجدوا الأصيرم وبه رمق يسير فقالوا : والله إن هذا الأصيرم ما جاء به لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ثم سألوه ما الذي جاء بك ؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام ؟ فقال بل رغبة في الإسلام آمنت بالله ورسوله ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون ومات من وقته فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو من أهل الجنة قال أبو هريرة : ولم يصل لله صلاة قط .


[مناداة أبي سفيان للمسلمين ]
ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى : أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه فقال أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه . فقال أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قوام الإسلام بهم فقال أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوءك فقال قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم قال اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبونه ؟ فقالوا : ما نقول ؟ قال قولوا : الله أعلى وأجل ثم قال لنا العزى ولا عزى لكم . قال ألا تجيبونه ؟ قالوا : ما نقول ؟ قال قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم

فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته وبشركه تعظيما للتوحيد وإعلاما بعزة من عبده المسلمون وقوة جانبه وأنه لا يغلب ونحن حزبه وجنده ولم يأمرهم بإجابته حين قال أفيكم محمد ؟ أفيكم ابن أبي قحافة ؟ أفيكم عمر ؟ بل قد روي أنه نهاهم عن إجابته وقال لا تجيبوه لأن كلمهم لم يكن برد بعد في طلب القوم ونار غيظهم بعد متوقدة فلما قال لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم حمي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال كذبت يا عدو الله فكان في هذا الإعلام من الإذلال والشجاعة وعدم الجبن والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم وقد أبقى الله لهم ما يسوءهم منهم وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنه وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة وغيظ العدو وحزبه والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدا واحدا فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده فصبر له النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوفى كيده ثم انتدب له عمر فرد سهام كيده عليه وكان ترك الجواب أولا عليه أحسن وذكره ثانيا أحسن وأيضا فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانة له وتصغيرا لشأنه فلما منته نفسه موتهم وظن أنهم قد قتلوا وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل كان في جوابه إهانة له وتحقير وإذلال ولم يكن هذا مخالفا لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل أفيكم محمد ؟ أفيكم فلان ؟ أفيكم فلان ؟ ولم ينه عن إجابته حين قال أما هؤلاء فقد قتلوا وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولا ولا أحسن من إجابته ثانيا .

ثم قال أبو سفيان يوم بيوم بدر والحرب سجال فأجابه عمر فقال لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار

[ نصر الله رسوله يوم أحد ]
وقال ابن عباس : ما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موطن نصره يوم أحد فأنكر ذلك عليه فقال بيني وبين من ينكر كتاب الله إن الله يقول ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه [ آل عمران 152 ] قال ابن عباس : والحس القتل ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب المشركين سبعة أو تسعة

وذكر الحديث .

[ النعاس في أحد ]
وأنزل الله عليهم النعاس أمنة منه في غزاة بدر وأحد والنعاس في الحرب وعند الخوف دليل على الأمن وهو من الله وفي الصلاة ومجالس الذكر والعلم من الشيطان .

دفاع ملكين عنه صلى الله عليه وسلم

وقاتلت الملائكة يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي " الصحيحين " : عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد

دفاع سبعة من الأنصار عنه صلى الله عليه وسلم

وفي " صحيح مسلم " : أنه صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه فقال من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنصفنا أصحابنا وهذا يروى على وجهين بسكون الفاء ونصب " أصحابنا " على المفعولية وفتح الفاء ورفع " أصحابنا " على الفاعلية .

ووجه النصب أن الأنصار لما خرجوا للقتال واحدا بعد واحد حتى قتلوا ولم يخرج القرشيان قال ذلك أي ما أنصفت قريش الأنصار .

ووجه الرفع أن يكون المراد بالأصحاب الذين فروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفرد في النفر القليل فقتلوا واحدا بعد واحد فلم ينصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثبت معه .

دفاع طلحة عنه صلى الله عليه وسلم ونزع أبي عبيدة

حلقة المغفر من جبينه صلى الله عليه وسلم

وفي " صحيح ابن حبان " عن عائشة قالت قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه قلت كن طلحة فداك أبي وأمي كن طلحة فداك أبي وأمي . فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا طلحة بين يديه صريعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم دونكم أخاكم فقد أوجب وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في جبينه وروي في وجنته حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني ؟ قال فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه فندرت ثنية أبي عبيدة قال أبو بكر ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني ؟ قال فأخذه فجعل ينضنضه حتى استله فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دونكم أخاكم فقد أوجب قال فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابته بضعة عشر ضربة

[ سهم سعد ]

وفي " مغازي الأموي " : أن المشركين صعدوا على الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد " اجنبهم " يقول ارددهم . فقال كيف أجنبهم وحدي ؟ فقال ذلك ثلاثا فأخذ سعد سهما من كنانته فرمى به رجلا فقتله قال ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر فقتلته ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم فقلت هذا سهم مبارك فجعلته في كنانتي فكان عند سعد حتى مات ثم كان عند بنيه .

[ غسل علي وفاطمة جرح النبي ]

صلى الله عليه وسلم وفي " الصحيحين " عن أبي حازم أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم

نزول قوله تعالى ليس لك من الأمر شيء

وفي " الصحيح " : أنه كسرت رباعيته وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم فأنزل الله عز وجل ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون [ آل عمران 128 ] .

[ عدم انهزام أنس بن النضر عندما انهزم الناس ]

ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر . وقال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم

وانهزم المشركون أول النهار كما تقدم فصرخ فيهم إبليس أي عباد الله أخزاكم الله فارجعوا من الهزيمة فاجتلدوا .

[ قتل المسلمين والد حذيفة وهم يظنونه مشركا ]

ونظر حذيفة إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله وهم يظنونه من المشركين فقال أي عباد الله أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال يغفر الله لكم فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فقال قد تصدقت بديته على المسلمين فزاد ذلك حذيفة خيرا عند النبي صلى الله عليه وسلم

[ إقراؤه صلى الله عليه وسلم السلام لسعد بن الربيع وهو بين القتلى ]

وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي : إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك ؟ قال فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت : يا سعد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ فقال وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قل له يا رسول الله أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف وفاضت نفسه من وقته

[ نزول قوله تعالى وما محمد إلا رسول ]

ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاري إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فنزل وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية [ آل عمران 142 ]

[ تعبيره صلى الله عليه وسلم رؤيا والد جابر بالشهادة ]

وقال عبد الله بن عمرو بن حرام : رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي : أنت قادم علينا في أيام فقلت وأين أنت ؟ فقال في الجنة نسرح فيها كيف نشاء . قلت له ألم تقتل يوم بدر ؟ قال بلى ثم أحييت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذه الشهادة يا أبا جابر

[ دعاؤه صلى الله عليه وسلم لخيثمة بالشهادة ]

وقال خيثمة أبو سعد وكان ابنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر : لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصا حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول الحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بأحد شهيدا

[ دعاء عبد الله بن جحش لنفسه بالشهادة ]

وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألني : فيم ذلك فأقول فيك

[ استشهاد عمرو بن الجموح ]

وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد . فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد وقال لبنيه وما ليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا .

[ أنس بن النضر وقتاله ]

وانتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال ما يجلسكم ؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فما تصنعون بالحياة بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل

[ طعنه صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف بحربة ]
وأقبل أبي بن خلف عدو الله وهو مقنع في الحديد يقول لا نجوت إن نجا محمد وكان حلف بمكة أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبله مصعب بن عمير فقتل مصعب وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه بحربته فوقع عن فرسه فاحتمله أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا : ما أجزعك ؟ إنما هو خدش فذكر لهم قول النبي صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى فمات برابغ .

[ رؤية ابن عمر أبي بن خلف ]

قال ابن عمر : إني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل إذا نار تأجج لي فيممتها وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش وإذا رجل يقول لا تسقه هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبي بن خلف

[ صرف الله نظر عبد الله بن شهاب الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم]

وقال نافع بن جبير : سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان فقال والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع فخرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك .

[ مص مالك والد أبي سعيد الخدري جرح النبي صلى الله عليه وسلم ]

ولما مص مالك أبو أبي سعيد الخدري جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه قال له مجه " قال والله لا أمجه أبدا ثم أدبر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا

[ يوم أحد يوم تمحيص ]
قال الزهري وعاصم بن عمر ومحمد بن يحيى بن حبان وغيرهم كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص اختبر الله عز وجل به المؤمنين وأظهر به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه وهو مستخف بالكفر فأكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران أولها : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال [ آل عمران 121 ] إلى آخر القصة .


فصل فيما اشتملت عليه هذه الغزاة من الأحكام والفقه
[ الجهاد يلزم بالشروع فيه ]

منها : أن الجهاد يلزم بالشروع فيه حتى إن من لبس لامته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج ليس له أن يرجع عن الخروج حتى يقاتل عدوه ومنها :

أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم ويقاتلوهم فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم كما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم يوم أحد .

ومنها : جواز سلوك الإمام بالعسكر في بعض أملاك رعيته إذا صادف ذلك طريقه وإن لم يرض المالك .

ومنها : أنه لا يأذن لمن لا يطيق القتال من الصبيان غير البالغين بل يردهم إذا خرجوا كما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر ومن معه .

ومنها : جواز الغزو بالنساء والاستعانة بهن في الجهاد .

ومنها : جواز الانغماس في العدو كما انغمس أنس بن النضر وغيره .

ومنها : أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعدا وصلوا وراءه قعودا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته

[ جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله ]

ومنها : جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه كما قال عبد الله بن جحش : اللهم لقني من المشركين رجلا عظيما كفره شديدا حرده فأقاتله فيقتلني فيك ويسلبني ثم يجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك فقلت يا عبد الله بن جحش فيم جدعت ؟ قلت : فيك يا رب

[ المنتحر من أهل النار ]

ومنها : أن المسلم إذا قتل نفسه فهو من أهل النار لقوله صلى الله عليه وسلم في

قزمان الذي أبلى يوم أحد بلاء شديدا فلما اشتدت به الجراح نحر نفسه فقال صلى الله عليه وسلم هو من أهل النار

[ لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه ]

ومنها : أن السنة في الشهيد أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن في غير ثيابه بل يدفن فيها بدمه وكلومه إلا أن يسلبها فيكفن في غيرها .

ومنها : أنه إذا كان جنبا غسل كما غسلت الملائكة حنظلة بن أبي عامر .

[ يدفن الشهداء في مصارعهم ]

ومنها : أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم ولا ينقلوا إلى مكان آخر فإن قوما من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر برد القتلى إلى مصارعهم قال جابر بينا أنا في النظارة إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح فدخلت بهما المدينة لندفنهما في مقابرنا وجاء رجل ينادي : ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت . قال فرجعنا بهما فدفناهما في القتلى حيث قتلا فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال يا جابر والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدا فخرج طائفة منه قال فأتيته فوجدته على النحو الذي تركته لم يتغير منه شيء . قال فواريته فصارت سنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم

[ يجوز دفن الثلاثة في القبر الواحد ]

ومنها : جواز دفن الرجلين أو الثلاثة في القبر الواحد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر ويقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد

ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فقال ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد

[ حفر قبر والد جابر بعد ست وأربعين سنة ]

ثم حفر عنهما بعد زمن طويل ويد عبد الله بن عمرو بن حرام على جرحه كما وضعها حين جرح فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم فردت إلى مكانها فسكن الدم . وقال جابر رأيت أبي في حفرته حين حفر عليه كأنه نائم وما تغير من حاله قليل ولا كثير . وقيل له أفرأيت أكفانه ؟ فقال إنما دفن في نمرة خمر وجهه وعلى رجليه الحرمل فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته وبين ذلك ست وأربعون سنة

[ هل دفن الشهداء في ثيابهم على الوجوب ]

وقد اختلف الفقهاء في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفن شهداء أحد في ثيابهم هل هو على وجه الاستحباب والأولويه أو على وجه الوجوب ؟ على قولين الثاني : أظهرهما وهو المعروف عن أبي حنيفة والأول هو المعروف عن أصحاب الشافعي وأحمد فإن قيل فقد روى يعقوب بن شيبة وغيره بإسناد جيد أن صفيه أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن فيهما حمزة فكفنه في أحدهما وكفن في الآخر رجلا آخر .

قيل حمزة كان الكفار قد سلبوه ومثلوا به وبقروا عن بطنه واستخرجوا كبده فلذلك كفن في كفن آخر . وهذا القول في الضعف نظير قول من قال يغسل الشهيد وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع .

[ شهيد المعركة لا يصلى عليه ]

ومنها : أن شهيد المعركة لا يصلى عليه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد ولم يعرف عنه أنه صلى على أحد ممن استشهد معه في مغازيه وكذلك خلفاؤه الراشدون ونوابهم من بعدهم .

فإن قيل فقد ثبت في " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر

وقال ابن عباس : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد

قيل أما صلاته عليهم فكانت بعد ثمان سنين من قتلهم قرب موته كالمودع لهم ويشبه هذا خروجه إلى البقيع قبل موته يستغفر لهم كالمودع للأحياء والأموات فهذه كانت توديعا منه لهم لا أنها سنة الصلاة على الميت ولو كان ذلك كذلك لم يؤخرها ثمان سنين لا سيما عند من يقول لا يصلى على القبر أو يصلى عليه إلى شهر .

ومنها : أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج يجوز له الخروج إليه وإن لم يجب عليه كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج .

[ من قتل في الجهاد مظنونا كفره فعلى بيت المال ديته ]

ومنها : أن المسلمين إذا قتلوا واحدا منهم في الجهاد يظنونه كافرا فعلى الإمام ديته من بيت المال لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة فامتنع حذيفة من أخذ الدية وتصدق بها على المسلمين .


فصل في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد
وقد أشار الله - سبحانه وتعالى - إلى أمهاتها وأصولها في سورة ( آل عمران حيث افتتح القصة بقوله وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال [ آل عمران 121 ] إلى تمام ستين آية .

[ تعريفهم سوء عاقبة المعصية ]

فمنها : تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم [ آل عمران 152 ] . فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة وتحرزا من أسباب الخذلان .

[ وتلك الأيام نداولها بين الناس ]

ومنها : أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى لكن تكون لهم العاقبة فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المؤمنون وغيرهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة .

[ الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة ]

ومنها : أن هذا من أعلام الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان هل قاتلتموه ؟ قال نعم قال كيف الحرب بينكم وبينه ؟ قال سجال يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى قال كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة

[ تميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ]

ومنها : أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة وتكلموا بما كانوا يكتمونه وظهرت مخبآتهم وعاد تلويحهم تصريحا وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم . قال الله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء [ آل عمران 179 ]

أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء فإنهم متميزون في غيبه وعلمه وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة . وقوله ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب سوى الرسل فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه كما قال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول [ الجن : 27 ] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة .

[ استخراج عبودية أوليائه في السراء والضراء ]

ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقا وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية .

[ حكمة تبدل الأحوال ]

ومنها : أنه سبحانه لو نصرهم دائما وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته إنه بهم خبير بصير .

[ الخضوع لجبروته تعالى ]

ومنها : أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [ آل عمران 123 ]

وقال ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا [ التوبة 25 ] فهو - سبحانه - إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولا ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره .

[ رفع منازلهم ]

ومنها : أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها .

[ تحريضهم على الجد في العبودية لله ]

ومنها : أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه .

ومنها : أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في محبته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو .

[ إهلاك الأعداء بعد ازدياد بغيهم ]

[ بسط الآيات ولا تهنوا ولا تحزنوا ]

ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين [ آل عمران 139 140 ] فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وهممهم وبين حسن التسلية وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [ آل عمران 140 ] فقد استويتم في القرح والألم وتباينتم في الرجاء والثواب كما قال إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون [ النساء 104 ] فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي .

[ وتلك الأيام نداولها بين الناس ]

ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس وأنها عرض حاضر يقسمها دولا بين أوليائه وأعدائه بخلاف الآخرة فإن عزها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا .

[ وليعلم الله الذين آمنوا ]

ثم ذكر حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب وإنما يترتب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس .

[ حب الله للشهداء ]

ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء فإنه يحب الشهداء من عباده وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها وقد اتخذهم لنفسه فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة .

وقوله والله لا يحب الظالمين [ آل عمران 140 ] تنبيه لطيف الموقع جدا على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ولم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنين في ذلك اليوم وما أعطاه من استشهد منهم فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه .

[ وليمحص الله الذين آمنوا ]

ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم وهو تمحيص الذين آمنوا وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب ومن آفات النفوس

وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين فتميزوا منهم فحصل لهم تمحيصان تمحيص من نفوسهم وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوهم .

[ ويمحق الكافرين ]

[ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما . ...]

[ ولقد كنتم تمنون الموت . ..... ]

ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بطغيانهم وبغيهم وعدوانهم ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم أن يدخلوا الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه وإن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه . فقال أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ آل عمران 142 ] أي ولما يقع ذلك منكم فيعلمه فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة فيكون الجزاء على الواقع المعلوم لا على مجرد العلم فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه فقال ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [ آل عمران 143 ] .

قال ابن عباس : ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة رغبوا في الشهادة فتمنوا قتالا يستشهدون فيه فيلحقون إخوانهم فأراهم الله ذلك يوم أحد وسببه لهم فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم فأنزل الله تعالى : ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون

[ وما محمد إلا رسول ...... أفإن مات ]

[ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله . ...]

[ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير . ....]

ومنها : أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه أو يقتلوا فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد لا هو ولا هم بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد فإن الموت لا بد منه سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان إن محمدا قد قتل فقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [ آل عمران 144 ] والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد على عقبيه وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله وأعزهم وظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلا لا بد أن تستوفيه ثم تلحق به فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا وإن تنوعت أسبابه ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى فريق في الجنة وفريق في السعير ثم أخبر سبحانه أن جماعة كثيرة من أنبيائه قتلوا وقتل معهم أتباع لهم كثيرون فما وهن من بقي منهم لما أصابهم في سبيله وما ضعفوا وما استكانوا وما وهنوا عند القتل ولا ضعفوا ولا استكانوا بل تلقوا الشهادة بالقوة والعزيمة والإقدام فلم يستشهدوا مدبرين مستكينين أذلة بل استشهدوا أعزة كراما مقبلين غير مدبرين والصحيح أن الآية تتناول الفريقين كليهما .

ثم أخبر سبحانه عما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على أعدائهم فقال وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين [ آل عمران 147 ]

لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها وأنها نوعان تقصير في حق أو تجاوز لحد وأن النصرة منوطة بالطاعة قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسراف ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد .

ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين وهو خير الناصرين فمن والاه فهو المنصور .

[ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب . .. ]

ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله وعلى قدر الشرك يكون الرعب فالمشرك بالله أشد شيء خوفا ورعبا والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح والمشرك له الخوف والضلال والشقاء .

[ ولقد صدقكم الله وعده ]

ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في نصرتهم على عدوهم وهو الصادق الوعد وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزوم أمر الرسول لاستمرت نصرتهم ولكن انخلعوا عن الطاعة وفارقوا مركزهم فانخلعوا عن عصمة الطاعة ففارقتهم النصرة فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم بسوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة .

ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كله وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين . قيل للحسن كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا ومثلوا بهم ونالوا منهم ما نالوه ؟ فقال لولا عفوه عنهم لاستأصلهم ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم

[ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد . ...]

[ شرح فأثابكم غما بغم ]

ثم ذكرهم بحالهم وقت الفرار مصعدين أي جادين في الهرب والذهاب في الأرض أو صاعدين في الجبل لا يلوون على أحد من نبيهم ولا أصحابهم والرسول يدعوهم في أخراهم إلى عباد الله أنا رسول الله فأثابهم بهذا الهرب والفرار غما بعد غم غم الهزيمة والكسرة وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قد قتل .

وقيل جازاكم غما بما غممتم رسوله بفراركم عنه وأسلمتموه إلى عدوه فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه والقول الأول أظهر لوجوه

أحدها : أن قوله لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح فنسوا بذلك السبب وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر .

الثاني : أنه مطابق للواقع فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة ثم أعقبه غم الهزيمة ثم غم الجراح التي أصابتهم ثم غم القتل ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم وليس المراد غمين اثنين خاصة بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان .

الثالث أن قوله " بغم " من تمام الثواب لا أنه سبب جزاء الثواب والمعنى : أثابكم غما متصلا بغم جزاء على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه وترك استجابتهم له وهو يدعوهم ومخالفتهم له في لزوم مركزهم وتنازعهم في الأمر وفشلهم وكل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه فترادفت عليهم الغموم كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر .

ومن لطفه بهم ورأفته ورحمته أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من موجبات الطباع وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل فترتب عليها آثارها المكروهة فعلموا حينئذ أن التوبة منها والاحتراز من أمثالها ودفعها بأضدادها أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به فكانوا أشد حذرا بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها .


وربما صحت الأجسام بالعلل


[ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا]

[ معنى ظن الجاهلية ]

ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته وخفف عنهم ذلك الغم وغيبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه ورحمة والنعاس في الحرب علامة النصرة والأمن كما أنزله عليهم يوم بدر وأخبر أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه وأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ولا حكمة له فيه ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهره على الدين كله وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في ( سورة الفتح حيث يقول ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ الفتح 6 ] وإنما كان هذا ظن السوء وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهيه وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ولجنده بأنهم هم الغالبون فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم وأنه لا ينصر دينه وكتابه وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا فقد ظن بالله ظن السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى ولا أنشأها عبثا ولا خلقها باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ ص : 27 ] وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته وعرف موجب حمده وحكمته فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء .

ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملا كالأنعام فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد أو أنه يعاقبه بما لا صنع فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة في حصوله بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزا بعيدة وأشار إليه إشارات ملغزة لم يصرح به وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل وأراد من خلقه ان يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان فقد ظن به ظن السوء فإنه إن قال إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز وإن قال إنه قادر ولم يبين وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم .

وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق وهذا من أسوأ الظن بالله فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية .

ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن به أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ولا عدد السماوات والأرض ولا النجوم ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم ولا يعلم شيئا من الموجودات في الأعيان فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم له ولا إرادة ولا كلام يقول به وأنه لم يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا ولا قال ولا يقول ولا له أمر ولا نهي يقوم به فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن به أنه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها وأنه أسفل كما أنه أعلى فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .

ومن ظن به أنه ليس يحب الكفر والفسوق والعصيان ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا يسخط ولا يوالي ولا يعادي ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب منه أحد وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين أو يفرق بين المتساويين من كل وجه أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبد الآبدين بتلك الكبيرة ويحبط بها جميع طاعاته ويخلده في العذاب كما يخلد من لا يؤمن به طرفة عين وقد استنفد ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء .

وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسله أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ووصفته به رسله فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن أن له ولدا أو شريكا أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويتوسلون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه فيدعونهم ويحبونهم كحبه ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .

ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يناله بطاعته والتقرب إليه فقد ظن به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته وهو من ظن السوء .

ومن ظن به أنه إذا ترك لأجله شيئا لم يعوضه خيرا منه أو من فعل لأجله شيئا لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء .

ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء وظن به خلاف ما هو أهله .

ومن ظن به أنه يثيبه إذا عصاه بما يثيبه به إذا أطاعه وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله .

ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه وليا ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به ظن السوء وذلك زيادة في بعده من الله وفي عذابه .

ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته وفي مماته وابتلاه بهم لا يفارقونه فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية وظلموا أهل بيته وسلبوهم حقهم وأذلوهم وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق وهو يرى قهرهم لهم وغصبهم إياهم حقهم وتبديلهم دين نبيهم وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه وجنده ولا ينصرهم ولا يديلهم بل يديل أعداءهم عليهم أبدا أو أنه لا يقدر على ذلك بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه سواء قالوا : إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر أو أنه غير قادر على ذلك فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده وذلك من ظن السوء به ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك غير محمود عندهم وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه واستجاروا من الرمضاء بالنار فقالوا : لم يكن هذا بمشيئة الله ولا له قدرة على دفعه ونصر أوليائه فإنه لا يقدر على أفعال عباده ولا هي داخلة تحت قدرته فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم وكل مبطل وكافر ومبتدع مقهور مستذل فهو يظن بربه هذا الظن وأنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتبا على القدر وملامة له واقتراحا عليه خلاف ما جرى به وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك .

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة

وإلا فإني لا إخالك ناجيا


فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء ومنبع كل شر المركبة على الجهل والظلم فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كذلك كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل وأسماؤه كلها حسنى

فلا تظنن بربك ظن سوء

فإن الله أولى بالجميل

ولا تظنن بنفسك قط خيرا

وكيف بظالم جان جهول

وقل يا نفس مأوى كل سوء

أيرجى الخير من ميت بخيل

وظن بنفسك السوآى تجدها

كذاك وخيرها كالمستحيل

وما بك من تقى فيها وخير

فتلك مواهب الرب الجليل

وليس بها ولا منها ولكن

من الرحمن فاشكر للدليل


والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية [ آل عمران 154 ] ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم هل لنا من الأمر من شيء [ آل عمران 154 ] وقولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا [ آل عمران 154 ] فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه ولما حسن الرد عليه بقوله قل إن الأمر كله لله

[ سورة آل عمران ] ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية ولهذا قال غير واحد من المفسرين إن ظنهم الباطل ها هنا : هو التكذيب بالقدر وظنهم أن الأمر لو كان إليهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعا لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل ولكان النصر والظفر لهم فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء فأكذبهم الله بقوله قل إن الأمر كله لله فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره وجرى به علمه وكتابه السابق وما شاء الله كان ولا بد شاء الناس أم أبوا وما لم يشأ لم يكن شاءه الناس أم لم يشاءوه وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن لكم وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد سواء كان لهم من الأمر شيء أو لم يكن وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاؤه الله وأن يشاء ما لا يقع .

فصل [ وليبتلي الله ما في صدوركم ]

ثم أخبر سبحانه عن حكمة أخرى في هذا التقدير هي ابتلاء ما في صدورهم وهو اختبار ما فيها من الإيمان والنفاق فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانا وتسليما والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه .

[ وليمحص ما في قلوبكم ]

ثم ذكر حكمة أخرى : وهو تمحيص ما في قلوب المؤمنين وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع ؟ وميل النفوس وحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ولم تتمحص منه فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا .

[ إن الذين تولوا منكم ]

ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا فكانت أعمالهم جندا عليهم ازداد بها عدوهم قوة فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولا بد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاها من الخير والشر والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله بعثه له الشيطان واستزله به

[ ولقد عفا الله عنهم ]

[ أولما أصابتكم مصيبة ]

[ إثبات القدر والسبب ]

ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك وإنما كان عارضا عفا الله عنه فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير [ آل عمران 165 ] وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية فقال وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ الشورى : 30 ] وقال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ النساء 79 ] فالحسنة والسيئة ها هنا : النعمة والمصيبة فالنعمة من الله من بها عليك والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك فالأول فضله والثاني عدله والعبد يتقلب بين فضله وعدله جار عليه فضله ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه .

وختم الآية الأولى بقوله إن الله على كل شيء قدير بعد قوله قل هو من عند أنفسكم إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله وأنه عادل قادر وفي ذلك إثبات القدر والسبب فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه فالأول ينفي الجبر والثاني ينفي القول بإبطال القدر فهو يشاكل قوله لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ التكوير 30 ] .

[ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ]

[ وليعلم الذين نافقوا ]

وفي ذكر قدرته ها هنا نكتة لطيفة وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره ولا تتكلوا على سواه وكشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وهو الإذن الكوني القدري لا الشرعي الديني كقوله في السحر وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ البقرة 102 ] ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير وهي أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تمييزا ظاهرا وكان من حكمة هذا التقدير تكلم المنافقين بما في نفوسهم فسمعه المؤمنون وسمعوا رد الله عليهم وجوابه لهم وعرفوا مؤدى النفاق وما يئول إليه وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة ونعمة على المؤمنين سابغة وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه وتعريف بأسباب الخير والشر وما لهما وعاقبتهما .

[ ولا تحسبن الذين قتلوا ]

[ يستبشرون بنعمة من الله ]

[ لقد من الله على المؤمنين ]

ثم عزى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضى بما قضاه لها فقال ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ آل عمران 169 - 170 ] فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلة القرب منه وأنهم عنده وجريان الرزق المستمر عليهم وفرحهم بما آتاهم من فضله وهو فوق الرضى بل هو كمال الرضى واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة ولم يبق لها أثر البتة وهي منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله إلى الهدى ومن الشقاء إلى الفلاح ومن الظلمة إلى النور ومن الجهل إلى العلم فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا وأنها بقضائه وقدره ليوحدوا ويتكلوا ولا يخافوا غيره وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم لئلا يتهموه في قضائه وقدره وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته وسلاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته لينافسوهم فيه ولا يحزنوا عليهم فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .

يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 08:05 PM
فصل [ خروج علي في آثار المشركين ]
ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال فشق ذلك عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم فيها

قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف على المسلمين أبو سفيان ثم ناداهم موعدكم الموسم ببدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا : نعم قد فعلنا " قال أبو سفيان " فذلكم الموعد " ثم انصرف هو وأصحابه فلما كان في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال " لا يخرج معنا إلا من شهد القتال " فقال له عبد الله بن أبي : أركب معك ؟ قال " لا فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القرح الشديد والخوف وقالوا : سمعا وطاعة . واستأذنه جابر بن عبد الله وقال يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهدا إلا كنت معك وإنما خلفني أبي على بناته . فأذن لي أسير معك فأذن له فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد " وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه فقال ما وراءك يا معبد ؟ فقال محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله . وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم فقال ما تقول ؟ فقال ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة . فقال أبو سفيان والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم . قال فلا تفعل فإني لك ناصح فرجعوا على أعقابهم إلى مكة ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة فقال هل لك أن تبلغ محمدا رسالة وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة ؟ قال نعم . قال أبلغ محمدا أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه فلما بلغهم قوله قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم [ آل عمران 174 ]

فصل [ سرية أبي سلمة إلى بني أسد ]
وكانت وقعة أحد يوم السبت في سابع شوال سنة ثلاث كما تقدم فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم فلما استهل هلال المحرم بلغه أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث أبا سلمة وعقد له لواء وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار والمهاجرين فأصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا كيدا فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة .

فصل بعثه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس لقتل ابن نبيح الهذلي فلما كان خامس المحرم بلغه أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي قد جمع له الجموع فبعث إليه عبد الله بن أنيس فقتله قال عبد المؤمن بن خلف : وجاءه برأسه فوضعه بين يديه فأعطاه عصا فقال هذه آية بيني وبينك يوم القيامة فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم

[ يوم الرجيع ]

[ سنة صلاة القتل ]

فلما كان صفر قدم عليه قوم من عضل والقارة وذكروا أن فيهم إسلاما وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن فبعث معهم ستة نفر في قول ابن إسحاق وقال البخاري : كانوا عشرة وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي وفيهم خبيب بن عدي فذهبوا معهم فلما كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا فجاءوا حتى أحاطوا بهم فقتلوا عامتهم واستأسروا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما وباعوهما بمكة وكانا قتلا من رءوسهم يوم بدر فأما خبيب فمكث عندهم مسجونا ثم أجمعوا قتله فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم فلما أجمعوا على صلبه قال دعوني حتى أركع ركعتين فتركوه فصلاهما فلما سلم قال والله لولا أن تقولوا إن ما بي جزع لزدت ثم قال " اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم قال

لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا

قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وكلهم مبدي العداوة جاهد

علي لأني في وثاق بمضيع

وقد قربوا أبناءهم ونساءهم

وقربت من جذع طويل ممنع

إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي

وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي

فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي

وقد خيروني الكفر والموت دونه

فقد ذرفت عيناي من غير مجزع

وما بي حذار الموت إني لميت

وإن إلى ربي إيابي ومرجعي

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي شق كان في الله مضجعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع

فلست بمبد للعدو تخشعا

ولا جزعا إني إلى الله مرجعي


فقال له أبو سفيان أيسرك أن محمدا عندنا تضرب عنقه وإنك في أهلك فقال لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه .

وفي " الصحيح " : أن خبيبا أول من سن الركعتين عند القتل . وقد نقل أبو عمر بن عبد البر عن الليث بن سعد أنه بلغه عن زيد بن حارثة أنه صلاهما في قصة ذكرها وكذلك صلاهما حجر بن عدي حين أمر معاوية بقتله بأرض عذراء من أعمال دمشق .

ثم صلبوا خبيبا ووكلوا به من يحرس جثته فجاء عمرو بن أمية الضمري فاحتمله بجذعه ليلا فذهب به فدفنه .

ورؤي خبيب وهو أسير يأكل قطفا من العنب وما بمكة ثمرة وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه .

وأما موسى بن عقبة فذكر سبب هذه الوقعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث هؤلاء الرهط يتحسسون له أخبار قريش فاعترضهم بنو لحيان .



فصل [ بئر معونة ]
وفي هذا الشهر بعينه وهو صفر من السنة الرابعة كانت وقعة بئر معونة وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك المدعو ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم . فقال إني أخاف عليهم أهل نجد فقال أبو براء : أنا جار لهم فبعث معه أربعين رجلا في قول ابن إسحاق . وفي الصحيح " أنهم كانوا سبعين " والذي في الصحيح هو الصحيح . وأمر عليهم المنذر بن عمرو - أحد بني ساعدة الملقب بالمعنق ليموت - وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فنزلوا هناك ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلم ينظر فيه وأمر رجلا فطعنه بالحربة من خلفه فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال فزت ورب الكعبة ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء فاستنفر بني سليم فأجابته عصية ورعل وذكوان فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار فإنه ارتث بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة فنزل المنذر بن محمد فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه وأسر عمرو بن أمية الضمري فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه ورجع عمرو بن أمية فلما كان بالقرقرة من صدر قناة نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأرا من أصحابه وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل فقال لقد قتلت قتيلين لأدينهما

[ غزوة بني النضير ]
فكان هذا سبب غزوة بني النضير فإنه خرج إليهم ليعينوه في ديتهما لما بينه وبينهم من الحلف فقالوا : نعم وجلس هو وأبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه فاجتمع اليهود وتشاوروا وقالوا : من رجل يلقي على محمد هذه الرحى فيقتله ؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جحاش لعنه الله ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله يعلمه بما هموا به فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقته راجعا إلى المدينة ثم تجهز وخرج بنفسه لحربهم فحاصرهم ست ليال واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في ربيع الأولى .

[ تحريم الخمر ]
قال ابن حزم : وحينئذ حرمت الخمر ونزلوا على أن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح ويرحلون من ديارهم فترحل أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر وذهبت طائفة منهم إلى الشام وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب فأحرزا أموالهما وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين خاصة لأنها كانت مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما .

[ نزول سورة الحشر ]
وفي هذه الغزوة نزلت سورة الحشر هذا الذي ذكرناه هو الصحيح عند أهل المغازي والسير .

[ غزواته صلى الله عليه وسلم مع اليهود ]
وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر وهذا وهم منه أو غلط عليه بل الذي لا شك فيه أنها كانت بعد أحد والتي كانت بعد بدر بستة أشهر هي غزوة بني قينقاع وقريظة بعد الخندق وخيبر بعد الحديبية وكان له مع اليهود أربع غزوات أولها : غزوة بني قينقاع بعد بدر والثانية بني النضير بعد أحد والثالثة قريظة بعد الخندق والرابعة خيبر بعد الحديبية .

فصل

وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على الذين قتلوا القراء أصحاب بئر معونة بعد الركوع ثم تركه لما جاءوا تائبين مسلمين .


فصل [ غزوة ذات الرقاع ]
[ متى شرعت صلاة الخوف ]
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة ذات الرقاع وهي غزوة نجد فخرج في جمادى الأولى من السنة الرابعة وقيل في المحرم يريد محارب وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل عثمان بن عفان وخرج في أربعمائة من أصحابه . وقيل سبعمائة فلقي جمعا من غطفان فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال إلا أنه صلى بهم يومئذ صلاة الخوف هكذا قال ابن إسحاق وجماعة من أهل السير والمغازي في تاريخ هذه الغزاة وصلاة الخوف بها وتلقاه الناس عنهم وهو مشكل جدا فإنه قد صح أن المشركين حبسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غابت الشمس

وفي " السنن " و " مسند أحمد " والشافعي رحمهما الله أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعا .

وذلك قبل نزول صلاة الخوف والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس .

والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة صلاها للخوف بعسفان كما قال أبو عياش الزرقي : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان فصلى بنا الظهر وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد فقالوا : لقد أصبنا منهم غفلة ثم قالوا : إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر فصلى بنا العصر ففرقنا فرقتين وذكر الحديث رواه أحمد وأهل السنن .

وقال أبو هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا بين ضجنان وعسفان محاصرا للمشركين فقال المشركون إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأموالهم أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة فجاء جبريل فأمره أن يقسم أصحابه نصفين وذكر الحديث قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

ولا خلاف بينهم أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق وقد صح عنه أنه صلى صلاة الخوف بذات الرقاع فعلم أنها بعد الخندق وبعد عسفان ويؤيد هذا أن أبا هريرة وأبا موسى الأشعري شهدا ذات الرقاع كما في " الصحيحين " عن أبي موسى أنه شهد غزوة ذات الرقاع وأنهم كانوا يلفون على أرجلهم الخرق لما نقبت .

وأما أبو هريرة ففي " المسند " و " السنن " أن مروان بن الحكم سأله هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ قال نعم قال متى ؟ قال عام غزوة نجد .

[ ترجيح المصنف أن ذات الرقاع كانت بعد خيبر ]

وهذا يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر وأن من جعلها قبل الخندق فقد وهم وهما ظاهرا ولما لم يفطن بعضهم لهذا ادعى أن غزوة ذات الرقاع كانت مرتين فمرة قبل الخندق ومرة بعدها على عادتهم في تعديد الوقائع إذا اختلفت ألفاظها أو تاريخها ولو صح لهذا القائل ما ذكره ولا يصح لم يمكن أن يكون قد صلى بهم صلاة الخوف في المرة الأولى لما تقدم من قصة عسفان وكونها بعد الخندق ولهم أن يجيبوا عن هذا بأن تأخير يوم الخندق جائز غير منسوخ وأن في حال المسايفة يجوز تأخير الصلاة إلى أن يتمكن من فعلها وهذا أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله وغيره لكن لا حيلة لهم في قصة عسفان أن أول صلاة صلاها للخوف بها وأنها بعد الخندق . فالصواب تحويل غزوة ذات الرقاع من هذا الموضع إلى ما بعد الخندق بل بعد خيبر وإنما ذكرناها ها هنا تقليدا لأهل المغازي والسير ثم تبين لنا وهمهم وبالله التوفيق .

ومما يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد الخندق ما رواه مسلم في " صحيحه " عن جابر قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع قال كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فأخذ السيف فاخترطه فذكر القصة وقال فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان

وصلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق بل هذا يدل على أنها بعد عسفان والله أعلم .

[ قصة بيع جابر جمله منه صلى الله عليه وسلم ]
وقد ذكروا أن قصة بيع جابر جمله من النبي صلى الله عليه وسلم كانت في غزوة ذات الرقاع . وقيل في مرجعه من تبوك ولكن في إخباره للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك القضية أنه تزوج امرأة ثيبا تقوم على أخواته وتكفلهن إشعار بأنه بادر إلى ذلك بعد مقتل أبيه ولم يؤخر إلى عام تبوك و الله أعلم .

[ حرص الصحابة على إتمام الصلاة ]

وفي مرجعهم من غزوة ذات الرقاع سبوا امرأة من المشركين فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فجاء ليلا وقد أرصد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين ربيئة للمسلمين من العدو وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر فضرب عبادا وهو قائم يصلي بسهم فنزعه ولم يبطل صلاته حتى رشقه بثلاثة أسهم فلم ينصرف منها حتى سلم فأيقظ صاحبه فقال سبحان الله هلا أنبهتني ؟ فقال إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها .

[ الرد على موسى بن عقبة ]

وقال موسى بن عقبة في " مغازيه " : ولا يدرى متى كانت هذه الغزوة قبل بدر أو بعدها أو فيما بين بدر وأحد أو بعد أحد .

ولقد أبعد جدا إذ جوز أن تكون قبل بدر وهذا ظاهر الإحالة ولا قبل أحد ولا قبل الخندق كما تقدم بيانه .

فصل [ غزوة بدر الآخرة ]
وقد تقدم أن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد : موعدكم وإيانا العام القابل ببدر فلما كان شعبان وقيل ذو القعدة من العام القابل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة وكانت الخيل عشرة أفراس وحمل لواءه علي بن أبي طالب واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة فانتهى إلى بدر فأقام بها ثمانية أيام ينتظر المشركين وخرج أبو سفيان بالمشركين من مكة وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا فلما انتهوا إلى مر الظهران - على مرحلة من مكة - قال لهم أبو سفيان : إن العام عام جدب وقد رأيت أني أرجع بكم فانصرفوا راجعين وأخلفوا الموعد فسميت هذه بدر الموعد وتسمى بدر الثانية .

فصل في غزوة دومة الجندل
وهي بضم الدال وأما دومة بالفتح فمكان آخر .

خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة خمس وذلك أنه بلغه أن بها جمعا كثيرا يريدون أن يدنوا من المدينة وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة وهي من دمشق على خمس ليال فاستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري وخرج في ألف من المسلمين ومعه دليل من بني عذرة يقال له مذكور فلما دنا منهم إذا هم مغربون وإذا آثار النعم والشاء فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد فيها أحدا فأقام بها أياما وبث السرايا وفرق الجيوش فلم يصب منهم أحدا فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن .

فصل في غزوة المريسيع
[ غزوة بني المصطلق ]

وكانت في شعبان سنة خمس وسببها : أنه لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم له ذلك فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأسرعوا في الخروج وخرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها واستعمل على المدينة زيد بن حارثة وقيل أبا ذر وقيل نميلة بن عبد الله الليثي وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان وبلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله عينه الذي كان وجهه ليأتيه بخبره وخبر المسلمين فخافوا خوفا شديدا وتفرق عنهم من كان معهم من العرب وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع وهو مكان الماء فضرب عليه قبته ومعه عائشة وأم سلمة فتهيئوا للقتال وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق وراية الأنصار مع سعد بن عبادة فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فحملوا حملة رجل واحد فكانت النصرة وانهزم المشركون وقتل من قتل منهم وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد هكذا قال عبد المؤمن بن خلف في " سيرته " وغيره وهو وهم فإنه لم يكن بينهم قتال وإنما أغار عليهم على الماء فسبى ذراريهم وأموالهم كما في " الصحيح أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وذكر الحديث . .. " .

[ زواجه صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث ]
وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث سيد القوم وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا وقالوا : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم .



[ فقد عائشة العقد وما تلاه من أمور ]
قال ابن سعد : وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه فنزلت آية التيمم .

وذكر الطبراني في " معجمه " من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت ولما كان من أمر عقدي ما كان قال أهل الإفك ما قالوا فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس ولقيت من أبي بكر ما شاء الله وقال لي : يا بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء وليس مع الناس ماء فأنزل الله الرخصة في التيمم وهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة وهو الظاهر ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى ونحن نشير إلى قصة الإفك .

[ حادثة الإفك ]
استشارته صلى الله عليه وسلم أصحابه في فراقها وذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها وكانت تلك عادته مع نسائه فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل فخرجت عائشة لحاجتها ثم رجعت ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها فظنوها فيه فحملوا الهودج ولا ينكرون خفته لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها وأيضا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين لم يخف عليهما الحال فرجعت عائشة إلى منازلهم وقد أصابت العقد فإذا ليس بها داع ولا مجيب فقعدت في المنزل وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في " صحيح أبي حاتم " .

وفي " السنن " : فلما رآها عرفها وكان يراها قبل نزول الحجاب فاسترجع وأناخ راحلته فقربها إليها فركبتها وما كلمها كلمة واحدة ولم تسمع منه إلا استرجاعه ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه وكان أصحابه يتقربون به إليه فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم ثم استشار أصحابه في فراقها فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها تلويحا لا تصريحا وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها وألا يلتفت إلى كلام الأعداء فعلي لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس فأشار بحسم الداء وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ما هي فوق ذلك وأعظم منه وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته من النساء وبنت صديقه بالمنزلة التي أنزلها به أرباب الإفك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله ومن قويت معرفته لله ومعرفته لرسوله وقدره عند الله في قلبه قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة لما سمعوا ذلك سبحانك هذا بهتان عظيم [ النور 16 ] .

وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في هذا المقام من المعرفة به وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه امرأة خبيثة بغيا فمن ظن به سبحانه هذا الظن فقد ظن به ظن السوء وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها كما قال تعالى : الخبيثات للخبيثين [ النور 26 ] فقطعوا قطعا لا يشكون فيه أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة .

[ الحكم من توقفه صلى الله عليه وسلم في أمرها ]

فإن قيل فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده وبما يليق به وهلا قال سبحانك هذا بهتان عظيم كما قاله فضلاء الصحابة ؟

[ الامتحان له صلى الله عليه وسلم ]

فالجواب أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة ليرفع بهذه القصة أقواما ويضع بها آخرين ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ولا يزيد الظالمين إلا خسارا واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها لا يوحى إليه في ذلك شيء لتتم حكمته التي قدرها وقضاها وتظهر على أكمل الوجوه ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها وتتم نعمة الله عليهم ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبويها والافتقار إلى الله والذل له وحسن الظن به والرجاء له ولينقطع رجاؤها من المخلوقين وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق ولهذا وفت هذا المقام حقه لما قال لها أبواها : قومي إليه وقد أنزل الله عليه براءتها فقالت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي

[ حبس الوحي لتمحيص القضية وازدياد حاجته صلى الله عليه وسلم له ]

وأيضا فكان من حكمة حبس الوحي شهرا أن القضية محصت وتمحضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه والمؤمنون فورد عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه فوقع منهم أعظم موقع وألطفه وسروا به أتم السرور وحصل لهم به غاية الهناء فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة وأنزل الوحي على الفور بذلك لفاتت هذه الحكم وأضعافها بل أضعاف أضعافها .

إظهار الله منزلته صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عنده وأيضا فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه والرد على أعدائه وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه بل يكون هو وحده المتولي لذلك الثائر لرسوله وأهل بيته .

[ ثبوت براءة عائشة الصديقة ]
وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى والتي رميت زوجته فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ولم يظن بها سوءا قط وحاشاه وحاشاها ولذلك لما استعذر من أهل الإفك قال من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه وثقته به وفى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه حتى جاءه الوحي بما أقر عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه .

[ حد القذف والسبب في عدم حد ابن أبي ]
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك فحدوا ثمانين ثمانين ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك فقيل لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة والخبيث ليس أهلا لذلك وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فيكفيه ذلك عن الحد وقيل بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه ولم يكن يذكره بين المؤمنين .

وقيل حد القذف حق الآدمي لا يستوفى إلا بمطالبته وإن قيل إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبي .

وقيل بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده ولعله ترك لهذه الوجوه كلها .

[ من حد في حادثة الإفك ]
فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا وترك عبد الله بن أبي إذا فليس هو من أهل ذاك .

فصل [ قوة إيمان عائشة ]
ومن تأمل قول الصديقة وقد نزلت براءتها فقال لها أبواها : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها وإفراده بالحمد في ذلك المقام وتجريدها التوحيد وقوة جأشها وإدلالها ببراءة ساحتها وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له وثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قالت ما قالت إدلالا للحبيب على حبيبه ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال فوضعته موضعه ولله ما كان أحبها إليه حين قالت لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي ولله ذلك الثبات والرزانة منها وهو أحب شيء إليها ولا صبر لها عنه وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرا ثم صادفت الرضى منه والإقبال فلم تبادر إلى القيام إليه والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له وهذا غاية الثبات والقوة .



فصل
الاختلاف فيمن أجاب طلبه صلى الله عليه وسلم بعذره في رجل بلغه أذاه في أهل بيته وكذا في متى كانت غزوة بني المصطلق

[ نزول الحجاب ]

وفي هذه القضية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ " قام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال أنا أعذرك منه يا رسول الله وقد أشكل هذا على كثير من أهل العلم فإن سعد بن معاذ لا يختلف أحد من أهل العلم أنه توفي عقيب حكمه في بني قريظة عقيب الخندق وذلك سنة خمس على الصحيح وحديث الإفك لا شك أنه في غزوة بني المصطلق هذه وهي غزوة المريسيع والجمهور عندهم أنها كانت بعد الخندق سنة ست فاختلفت طرق الناس في الجواب عن هذا الإشكال فقال موسى بن عقبة : غزوة المريسيع كانت سنة أربع قبل الخندق حكاه عنه البخاري .

وقال الواقدي : كانت سنة خمس . قال وكانت قريظة والخندق بعدها . وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق : اختلفوا في ذلك والأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق وعلى هذا فلا إشكال ولكن الناس على خلافه . وفي حديث الإفك ما يدل على خلاف ذلك أيضا لأن عائشة قالت إن القضية كانت بعدما أنزل الحجاب وآية الحجاب نزلت في شأن زينب بنت جحش وزينب إذ ذاك كانت تحته فإنه صلى الله عليه وسلم سألها عن عائشة فقالت " أحمي سمعي وبصري " قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد ذكر أرباب التواريخ أن تزويجه بزينب كان في ذي القعدة سنة خمس وعلى هذا فلا يصح قول موسى بن عقبة . وقال محمد بن إسحاق إن غزوة بني المصطلق كانت في سنة ست بعد الخندق وذكر فيها حديث الإفك إلا أنه قال عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة فذكر الحديث .

فقال فقام أسيد بن الحضير فقال أنا أعذرك منه فرد عليه سعد بن عبادة ولم يذكر سعد بن معاذ . قال أبو محمد بن حزم : وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه وذكر سعد بن معاذ وهم لأن سعد بن معاذ مات إثر فتح بني قريظة بلا شك وكانت في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة بعد سنة وثمانية أشهر من موت سعد وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة .

قلت : الصحيح أن الخندق كان في سنة خمس كما سيأتي .

فصل

ومما وقع في حديث الإفك أن في بعض طرق البخاري عن أبي وائل عن مسروق قال سألت أم رومان عن حديث الإفك فحدثتني . قال غير واحد وهذا غلط ظاهر فإن أم رومان ماتت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها وقال من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه قالوا : ولو كان مسروق قدم المدينة في حياتها وسألها للقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ومسروق إنما قدم المدينة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : وقد روى مسروق عن أم رومان حديثا غير هذا فأرسل الرواية عنها فظن بعض الرواة أنه سمع منها فحمل هذا الحديث على السماع قالوا : ولعل مسروقا قال سئلت أم رومان فتصحفت على بعضهم سألت لأن من الناس من يكتب الهمزة بالألف على كل حال . وقال آخرون كل هذا لا يرد الرواية الصحيحة التي أدخلها البخاري في " صحيحه " وقد قال إبراهيم الحربي وغيره إن مسروقا سألها وله خمس عشرة سنة ومات وله ثمان وسبعون سنة وأم رومان أقدم من حدث عنه قالوا : وأما حديث موتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزوله في قبرها فحديث لا يصح وفيه علتان تمنعان صحته إحداهما : رواية علي بن زيد بن جدعان له وهو ضعيف الحديث لا يحتج بحديثه والثانية أنه رواه عن القاسم بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم والقاسم لم يدرك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يقدم هذا على حديث إسناده كالشمس يرويه البخاري في " صحيحه " ويقول فيه مسروق : سألت أم رومان فحدثتني وهذا يرد أن يكون اللفظ سئلت . وقد قال أبو نعيم في كتاب " معرفة الصحابة " : قد قيل إن أم رومان توفيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وهم .

فصل [ هل الجارية الشاهدة على عائشة هي بريرة ]

ومما وقع في حديث الإفك أن في بعض طرقه أن عليا قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما استشاره سل الجارية تصدقك فدعا بريرة فسألها فقالت ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على التبر أو كما قالت وقد استشكل هذا فإن بريرة إنما كاتبت وعتقت بعد هذا بمدة طويلة وكان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في المدينة والعباس إنما قدم المدينة بعد الفتح ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد شفع إلى بريرة : أن تراجع زوجها فأبت . أن تراجعه يا عباس " ألا تعجب من بغض بريرة مغيثا وحبه لها

ففي قصة الإفك لم تكن بريرة عند عائشة وهذا الذي ذكروه إن كان لازما فيكون الوهم من تسميته الجارية بريرة ولم يقل له علي سل بريرة وإنما قال فسل الجارية تصدقك فظن بعض الرواة أنها بريرة فسماها بذلك وإن لم يلزم بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى بعد الفتح ولم ييأس منها زال الإشكال والله أعلم .

فصل

[ قول ابن أبي ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ] وفي مرجعهم من هذه الغزوة قال رأس المنافقين ابن أبي : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء ابن أبي يعتذر ويحلف ما قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تصديق زيد في سورة المنافقين فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذنه فقال أبشر فقد صدقك الله ثم قال هذا الذي وفى لله بأذنه فقال له عمر يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال " فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه

فصل في سرية نجد
[ إسلام ثمامة بن أثال ]

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت بثمامة بن أثال الحنيفي سيد بني حنيفة فربطه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سارية من سواري المسجد ومر به فقال " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه ثم مر به مرة أخرى فقال له مثل ذلك فرد عليه كما رد عليه أولا ثم مر مرة ثالثة فقال " أطلقوا ثمامة " فأطلقوه فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم جاءه فأسلم وقال والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض علي من دينك فقد أصبح دينك أحب الأديان إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم على قريش قالوا : صبوت يا ثمامة ؟ قال لا والله ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت اليمامة ريف مكة فانصرف إلى بلاده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .



فصل في غزوة الغابة
ثم أغار عيينة بن حصن الفزاري في بني عبد الله بن غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم التي بالغابة فاستاقها وقتل راعيها وهو رجل من عسفان واحتملوا امرأته قال عبد المؤمن بن خلف وهو ابن أبي ذر وهو غريب جدا فجاء الصريخ ونودي يا خيل الله اركبي وكان أول ما نودي بها وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنعا في الحديد فكان أول من قدم إليه المقداد بن عمرو في الدرع والمغفر فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء في رمحه وقال " امض حتى تلحقك الخيول إنا على أثرك " واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم وأدرك سلمة بن الأكوع القوم وهو على رجليه فجعل يرميهم بالنبل ويقول


خذها وأنا ابن الأكوع

واليوم يوم الرضع


حتى انتهى إلى ذي قرد وقد استنقذ منهم جميع اللقاح وثلاثين بردة قال سلمة فلحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيل عشاء فقلت يا رسول الله إن القوم عطاش فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما في أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكت فأسجح " ثم قال " إنهم الآن ليقرون في غطفان " .

وذهب الصريخ بالمدينة إلى بني عمرو بن عوف فجاءت الأمداد ولم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد .

قال عبد المؤمن بن خلف فاستنقذوا عشر لقاح وأفلت القوم بما بقي وهو عشر . قلت : وهذا غلط بين والذي في " الصحيحين " : أنهم استنقذوا اللقاح كلها ولفظ مسلم في " صحيحه " عن سلمة حتى ما خلق الله من شيء من لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري واستلبت منهم ثلاثين بردة


فصل [ كانت هذه الغزوة بعد الحديبية وتوهيم من قال بخلاف ذلك ]

وهذه الغزوة كانت بعد الحديبية وقد وهم فيها جماعة من أهل المغازي والسير فذكروا أنها كانت قبل الحديبية والدليل على صحة ما قلناه ما رواه الإمام أحمد والحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة قال حدثنا هاشم بن القاسم قال حدثنا عكرمة بن عمار قال حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال قدمت المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خرجت أنا ورباح بفرس لطلحة أندبه مع الإبل فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيها وساق القصة رواها مسلم في " صحيحه " بطولها

ووهم عبد المؤمن بن خلف في " سيرته " في ذلك وهما بينا فذكر غزاة بني لحيان بعد قريظة بستة أشهر ثم قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لم يمكث إلا ليالي حتى أغار عبد الرحمن بن عيينة وذكر القصة .

والذي أغار عبد الرحمن وقيل أبوه عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فأين هذا من قول سلمة قدمت المدينة زمن الحديبية ؟ .

[ سرايا سنة ست ]
[ سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر ]
وقد ذكر الواقدي عدة سرايا في سنة ست من الهجرة قبل الحديبية فقال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول - أو قال الآخر - سنة ست من قدومه المدينة عكاشة بن محصن الأسدي في أربعين رجلا إلى الغمر وفيهم ثابت بن أقرم وسباع بن وهب فأجد السير ونذر القوم بهم فهربوا فنزل على مياههم وبعث الطلائع فأصابوا من دلهم على بعض ماشيتهم فوجدوا مائتي بعير فساقوها إلى المدينة .

[ سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة ]
وبعث سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة فساروا ليلتهم مشاة ووافوها مع الصبح فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربا في الجبال وأصابوا رجلا واحدا فأسلم .

[ سرية محمد بن مسلمة ]
وبعث محمد بن مسلمة في ربيع الأول في عشرة نفر سرية فكمن القوم لهم حتى ناموا فما شعروا إلا بالقوم فقتل أصحاب محمد بن مسلمة وأفلت محمد جريحا .

[ سرية زيد إلى الجموم ]
وفي هذه السنة - وهي سنة ست - كانت سرية زيد بن حارثة بالجموم فأصاب امرأة من مزينة يقال لها : حليمة فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا نعما وشاء وأسرى وكان في الأسرى زوج حليمة فلما قفل زيد بن حارثة بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية نفسها وزوجها .

[ سرية زيد إلى الطرف ]
وفيها - يعني : سنة ست - كانت سرية زيد بن حارثة إلى الطرف في جمادى الأولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا فهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا وغاب أربع ليال .

[ سرية زيد إلى العيص ]
[ إجارة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم أبا العاص وهو على شركه ]

وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص في جمادى الأولى وفيها : أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع زوج زينب مرجعه من الشام وكانت أموال قريش قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن محمد بن حزم قال خرج أبو العاص بن الربيع تاجرا إلى الشام وكان رجلا مأمونا وكانت معه بضائع لقريش فأقبل قافلا فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقوا عيره وأفلت وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أصابوا فقسمه بينهم وأتى أبو العاص المدينة فدخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجار بها وسألها أن تطلب له من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ماله عليه وما كان معه من أموال الناس فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم السرية فقال إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم وقد أصبتم له مالا ولغيره وهو فيء الله الذي أفاء عليكم فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا وإن كرهتم فأنتم وحقكم فقالوا : بل نرده عليه يا رسول الله فردوا عليه ما أصابوا حتى إن الرجل ليأتي بالشن والرجل بالإداوة والرجل بالحبل فما تركوا قليلا أصابوه ولا كثيرا إلا ردوه عليه ثم خرج حتى قدم مكة فأدى إلى الناس بضائعهم حتى إذا فرغ قال يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم معي مال لم أرده عليه ؟ قالوا : لا فجزاك الله خيرا قد وجدناك وفيا كريما فقال أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا تخوفا أن تظنوا أني إنما أسلمت لأذهب بأموالكم فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله .

[ رواية موسى بن عقبة لقصة أبي العاص ]

وهذا القول من الواقدي وابن إسحاق يدل على أن قصة أبي العاص كانت قبل الحديبية وإلا فبعد الهدنة لم تتعرض سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش . ولكن زعم موسى بن عقبة أن قصة أبي العاص كانت بعد الهدنة وأن الذي أخذ الأموال أبو بصير وأصحابه ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا منحازين بسيف البحر وكانت لا تمر بهم عير لقريش إلا أخذوها هذا قول الزهري .

قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب في قصة أبي بصير : ولم يزل أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليهما هنالك حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع وكانت تحته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش فأخذوهم وما معهم وأسروهم ولم يقتلوا منهم أحدا لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي العاص وأبو العاص يومئذ مشرك وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأبيها وأمها وخلوا سبيل أبي العاص فقدم المدينة على امرأته زينب فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم فكلمت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس فقال إنا صاهرنا أناسا وصاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحدا وإن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه ؟ " فقال الناس نعم فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم وألا يتعرضوا لأحد من قريش وعيرها فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بصير وهو في الموت فمات وهو على صدره ودفنه أبو جندل مكانه وأقبل أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمنت عير قريش وذكر باقي الحديث .

[ ترجيح المصنف لرواية ابن عقبة ]

وقول موسى بن عقبة : أصوب وأبو العاص إنما أسلم زمن الهدنة وقريش إنما انبسطت عيرها إلى الشام زمن الهدنة وسياق الزهري للقصة بين ظاهر أنها كانت في زمن الهدنة .

[ سرية زيد إلى حسمى وهي بعد الحديبية ]
قال الواقدي : وفيها أقبل دحية بن خليفة الكلبي من عند قيصر وقد أجازه بمال وكسوة فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم يتركوا معه شيئا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بيته فأخبره فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمى . قلت : وهذا بعد الحديبية بلا شك .

[ سرية علي إلى فدك ]
قال الواقدي : وخرج علي في مائة رجل إلى فدك إلى حي من بني سعد بن بكر وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر فسار إليهم يسير الليل ويكمن النهار فأصاب عينا لهم فأقر له أنهم بعثوه إلى خيبر فعرضوا عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم ثمر خيبر .

[ سرية ابن عوف إلى دومة الجندل ]
قال وفيها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ وهي أم أبي سلمة وكان أبوها رأسهم وملكهم .

[ سرية كرز إلى العرنيين وكانت قبل الحديبية ]
قال وكانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل في شوال سنة ست وكانت السرية عشرين فارسا . قلت : وهذا يدل على أنها كانت قبل الحديبية كانت في ذي القعدة كما سيأتي وقصة العرنيين في " الصحيحين " من حديث أنس أن رهطا من عكل وعرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله إنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف فاستوخمنا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم . وفي لفظ لمسلم سملوا عين الراعي فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا

وفي حديث أبي الزبير عن جابر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم عم عليهم الطريق واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل فعمى الله عليهم السبيل فأدركوا . وذكر القصة .

[ الفقه المستنبط من حديث العرنيين ]
وفيها من الفقه جواز شرب أبوال الإبل وطهارة بول مأكول اللحم والجمع للمحارب إذا أخذ المال وقتل بين قطع يده ورجله وقتله وأنه يفعل بالجاني كما فعل فإنهم لما سملوا عين الراعي سمل أعينهم وقد ظهر بهذا أن القصة محكمة ليست منسوخة وإن كانت قبل أن تنزل الحدود والحدود نزلت بتقريرها لا بإبطالها . والله أعلم .



فصل في قصة الحديبية
[ متى حدثت ]

قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة وهذا هو الصحيح وهو قول الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وغيرهم .

وقال هشام بن عروة عن أبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان وكانت في شوال وهذا وهم وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان وقد قال أبو الأسود عن عروة إنها كانت في ذي القعدة على الصواب .

[ كم اعتمر صلى الله عليه وسلم في حياته ]

وفي " الصحيحين " عن أنس أن النبي . صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة فذكر منها عمرة الحديبية .

[ كم كان معه صلى الله عليه وسلم ]

وكان معه ألف وخمسمائة هكذا في " الصحيحين " عن جابر وعنه فيهما : كانوا ألفا وأربعمائة وفيهما : عن عبد الله بن أبي أوفى : " كنا ألفا وثلاثمائة " قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال خمس عشرة مائة . قال قلت فإن جابر بن عبد الله قال كانوا أربع عشرة مائة قال يرحمه الله أوهم هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة . قلت : وقد صح عن جابر القولان وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة البدنة عن سبعة فقيل له كم كنتم ؟ قال ألفا وأربعمائة بخيلنا ورجلنا يعني فارسهم وراجلهم والقلب إلى هذا أميل وهو قول البراء بن عازب ومعقل بن يسار وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين وقول المسيب بن حزن قال شعبة : عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة .

وغلط غلطا بينا من قال كانوا سبعمائة وعذره أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنه والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة وعن عشرة وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه العمرة عن سبعة فلو كانت السبعون عن جميعهم لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا وقد قال في تمام الحديث بعينه إنهم كانوا ألفا وأربعمائة



فصل [ تقليده صلى الله عليه وسلم الهدي بذي الحليفة وبعثه
عينا له ابن خزاعة إلى قريش ]
[ استشارته صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعله ]

[ رؤيتهم لخالد بن الوليد وفراره منهم ]

[ بروك القصواء ]

[ نزولهم بالحديبية ]

فلما كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش حتى إذا كان قريبا من عسفان أتاه عينه فقال إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن يجيئوا تكن عنقا قطعها الله أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ فقال أبو بكر : الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال النبي صلى الله عليه وسلم فروحوا إذا فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين " فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس حل حل فألحت فقالوا : خلأت القصواء خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت به فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبثه الناس أن نزحوه فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه قال فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه .

[ إرسال عثمان إلى قريش ]

وفزعت قريش لنزوله عليهم فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم فقال يا رسول الله ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وإنه مبلغ ما أردت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فأرسله إلى قريش وقال أخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا وادعهم إلى الإسلام وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان فانطلق عثمان فمر على قريش ببلدح فقالوا : أين تريد ؟ فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام وأخبركم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا فقالوا : قد سمعنا ما تقول فانفذ لحاجتك وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأسرج فرسه فحمل عثمان على الفرس وأجاره وأردفه أبان حتى جاء مكة وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان ؟ خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال " ذاك ظني به ألا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه

[ بيعة الرضوان ]
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر وكانت معركة وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل فدعا إلى البيعة فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال هذه عن عثمان

[ رجوع عثمان ]

ولما تمت البيعة رجع عثمان فقال له المسلمون اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت فقال بئس ما ظننتم بي والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت فقال المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله وأحسننا ظنا وكان عمر آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس

وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي

وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات في أول الناس وأوسطهم وآخرهم .

[ بديل بن ورقاء ]

فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره

[ إرسال عروة الثقفي إليه صلى الله عليه وسلم ]

قال بديل سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال إني قد جئتكم من عند هذا الرجل وقد سمعته يقول قولا فإن شئتم عرضته عليكم . فقال سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته قال سمعته يقول كذا وكذا . فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته فقالوا : ائته فأتاه فجعل يكلمه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل فقال له عروة عند ذلك أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه . قال من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه وقال من ذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . فقال أي غدر أولست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء

[ إرسال مكرز إليه صلى الله عليه وسلم ]

[ رد أبي جندل إلى المشركين ]

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه فوالله ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها جلده ووجهه وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك على كسرى وقيصر والنجاشي والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة دعوني آته فقالوا : ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فلان " وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثوها له واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال " سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فرجع إلى أصحابه فقال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص فقال دعوني آته . فقالوا : ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد سهل لكم من أمركم فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا الكاتب فقال " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال سهيل أما الرحمن فوالله ما ندري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم " ثم قال اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل فوالله لو كنا نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما بينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنا لم نقض الكتاب بعد فقال فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فأجزه لي " قال ما أنا بمجيزه لك . قال " بلى فافعل " قال ما أنا بفاعل . قال مكرز بلى قد أجزناه فقال أبو جندل يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت وكان قد عذب في الله عذابا شديدا قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألست نبي الله حقا ؟ قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال بلى . فقلت علام نعطي الدنية في ديننا إذا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه قلت أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال " بلى أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ " قلت لا . قال " فإنك آتيه ومطوف به " . قال فأتيت أبا بكر فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورد علي أبو بكر كما رد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء وزاد فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى الحق . قال عمر فعملت لذلك أعمالا .

فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا فانحروا ثم احلقوا فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن حتى بلغ بعصم الكوافر [ الممتحنة 10 ] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية والأخرى صفوان بن أمية ثم رجع إلى المدينة وفي مرجعه أنزل الله عليه إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا [ الفتح 31 ] فقال عمر أوفتح هو يا رسول الله ؟ قال نعم فقال الصحابة هنيئا لك يا رسول الله فما لنا ؟ فأنزل الله عز وجل هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين [ الفتح 4 ]

[ قصة أبي بصير]
ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير رجل من قريش مسلما فأرسلوا في طلبه رجلين وقالوا : العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد وفر الآخر يعدو حتى بلغ المدينة فدخل المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه " لقد رأى هذا ذعرا " فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد " فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأنزل الله عز وجل وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم حتى بلغ حمية الجاهلية [ الفتح 24 ] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت .

[ فور بئر الحديبية بالماء ببركته صلى الله عليه وسلم ]
قلت في " الصحيح " : أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومج في بئر الحديبية من فمه فجاشت بالماء كذلك قال البراء بن عازب وسلمة بن الأكوع في " الصحيحين " .

وقال عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنه غرز فيها سهما من كنانته وهو في " الصحيحين " أيضا .

وفي مغازي أبي الأسود عن عروة توضأ في الدلو ومضمض فاه ثم مج فيه وأمر أن يصب في البئر ونزع سهما من كنانته وألقاه في البئر ودعا الله تعالى ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شقها فجمع بين الأمرين وهذا أشبه والله أعلم .

[ فور الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ]

وفي " صحيح البخاري " : عن جابر قال عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضأ منها إذ جهش الناس نحوه فقال ما لكم ؟ قالوا : يا رسول الله ما عندنا ماء نشرب ولا ما نتوضأ إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه أمثال العيون فشربوا وتوضئوا وكانوا خمس عشرة مائة وهذه غير قصة البئر .

[ هطول المطر ]

وفي هذه الغزوة أصابهم ليلة مطر فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قال أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب


افتراضي

فصل [ ما جرى عليه الصلح ]
وجرى الصلح بين المسلمين وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين وأن يأمن الناس بعضهم من بعض وأن يرجع عنهم عامه ذلك حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثا وأن لا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب وأن من أتانا من أصحابك لم نرده عليك ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال فقالوا : يا رسول الله نعطيهم هذا ؟ فقال من أتاهم منا فأبعده الله ومن أتانا منهم فرددناه إليهم جعل الله له فرجا ومخرجا

[ فدية الأذى لمن حلق رأسه ]

وفي قصة الحديبية أنزل الله - عز وجل - فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام أو الصدقة أو النسك في شأن كعب بن عجرة .

وفيها دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين بالمغفرة ثلاثا وللمقصرين مرة .

وفيها نحروا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة .

وفيها أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة هديه جملا كان لأبي جهل كان في أنفه برة من فضة ليغيظ به المشركين .

وفيها أنزلت سورة الفتح ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم وكان في الشرط أن من شاء أن يدخل في عقده صلى الله عليه وسلم دخل ومن شاء أن يدخل في عقد قريش دخل .

[ عدم رده صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة إلى المشركين ]

ولما رجع إلى المدينة جاءه نساء مؤمنات منهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فجاء أهلها يسألونها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرط الذي كان بينهم فلم يرجعها إليهم ونهاه الله عز وجل عن ذلك فقيل هذا نسخ للشرط في النساء . وقيل تخصيص للسنة بالقرآن وهو عزيز جدا . وقيل لم يقع الشرط إلا على الرجال خاصة وأراد المشركون أن يعمموه في الصنفين فأبى الله ذلك .

فصل في بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية
فمنها : اعتمار النبي صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج فإنه خرج إليها في ذي القعدة .

[ الإحرام بالعمرة من الميقات أفضل ]

ومنها : أن الإحرام بالعمرة من الميقات أفضل كما أن الإحرام بالحج كذلك فإنه أحرم بهما من ذي الحليفة وبينها وبين المدينة ميل أو نحوه وأما حديث من أحرم بعمرة من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفي لفظ كانت كفارة لما قبلها من الذنوب فحديث لا يثبت وقد اضطرب فيه إسنادا ومتنا اضطرابا شديدا .

ومنها : أن سوق الهدي مسنون في العمرة المفردة كما هو مسنون في القران .

ومنها : أن إشعار الهدي سنة لا مثلة منهي عنها .

[ استحباب مغايظة أعداء الله ]

ومنها : استحباب مغايظة أعداء الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في جملة هديه جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين وقد قال تعالى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار [ الفتح 29 ] وقال عز وجل ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين [ التوبة 120 ] .

ومنها : أن أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو .

[ الاستعانة بالمشرك ]

ومنها : أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة لأن عينه الخزاعي كان كافرا إذ ذاك وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم .

[ استحباب الشورى ]

ومنها : استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجا لوجه الرأي واستطابة لنفوسهم وأمنا لعتبهم وتعرفا لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض وامتثالا لأمر الرب في قوله تعالى : وشاورهم في الأمر [ آل عمران 159 ] وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله وأمرهم شورى بينهم [ الشورى : 38 ] .

[ رد الكلام الباطل ولو نسب إلى غير المكلف ]

ومنها : جواز سبي ذراري المشركين إذا انفردوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال .

ومنها : رد الكلام الباطل ولو نسب إلى غير مكلف فإنهم لما قالوا : خلأت القصواء يعني حرنت وألحت فلم تسر والخلاء في الإبل بكسر الخاء والمد نظير الحران في الخيل فلما نسبوا إلى الناقة ما ليس من خلقها وطبعها رده عليهم وقال ما خلأت وما ذاك لها بخلق ثم أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبب بروكها وأن الذي حبس الفيل عن مكة حبسها للحكمة العظيمة التي ظهرت بسبب حبسها وما جرى بعده .

ومنها : أن تسمية ما يلابسه الرجل من مراكبه ونحوها سنة .

[ استحباب الحلف على الخبر الديني الذي يراد تأكيده ]

ومنها : جواز الحلف بل استحبابه على الخبر الديني الذي يريد تأكيده وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعا وأمره الله تعالى بالحلف على تصديق ما أخبر به في ثلاثة مواضع في ( سورة يونس ) و ( سبأ ) و ( التغابن ) .

إذا طلب المشركون وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة أمرا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله أعينوا عليه

ومنها : أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه وإن منعوا غيره فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى لا على كفرهم وبغيهم ويمنعون مما سوى ذلك فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له أجيب إلى ذلك كائنا من كان ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق وقال عمر ما قال حتى عمل له أعمالا بعده والصديق تلقاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه فيه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجاب عمر عما سأل عنه من ذلك بعين جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على أن الصديق رضي الله عنه أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابه وأشدهم موافقة له ولذلك لم يسأل عمر عما عرض له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه خاصة دون سائر أصحابه .

ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل ذات اليمين إلى الحديبية . قال الشافعي : بعضها من الحل وبعضها من الحرم .

[ مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد ]

وروى الإمام أحمد في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف وأن قوله صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي كقوله تعالى : فلا يقربوا المسجد الحرام [ التوبة 28 ] وقوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام [ الإسراء : 1 ] وكان الإسراء من بيت أم هانئ .

ومنها : أن من نزل قريبا من مكة فإنه ينبغي له أن ينزل في الحل ويصلي في الحرم وكذلك كان ابن عمر يصنع .

ومنها : جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم .

[ سنية القيام بالسيف على رأس القائد عند قدوم رسل العدو ]

وفي قيام المغيرة بن شعبة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ولم يكن عادته أن يقام على رأسه وهو قاعد سنة يقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر وتعظيم الإمام وطاعته ووقايته بالنفوس وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين وليس هذا من هذا النوع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليسا من هذا النوع المذموم في غيره وفي بعث البدن في وجه الرسول الآخر دليل على استحباب إظهار شعائر الإسلام لرسل الكفار .

[ مال المشرك المعاهد معصوم ]

وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء دليل على أن مال المشرك المعاهد معصوم وأنه لا يملك بل يرد عليه فإن المغيرة كان قد صحبهم على الأمان ثم غدر بهم وأخذ أموالهم فلم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لأموالهم ولا ذب عنها ولا ضمنها لهم لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة .

[ جواز التصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة ]

وفي قول الصديق لعروة امصص بظر اللات دليل على جواز التصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرح لمن ادعى دعوى الجاهلية بهن أبيه ويقال له اعضض أير أبيك ولا يكنى له فلكل مقام مقال .

[ احتمال قلة أدب رسول الكفار ]

ومنها : احتمال قلة أدب رسول الكفار وجهله وجفوته ولا يقابل على ذلك لما فيه من المصلحة العامة ولم يقابل النبي صلى الله عليه وسلم عروة على أخذه بلحيته وقت خطابه وإن كانت تلك عادة العرب لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك .

وكذلك لم يقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولي مسيلمة حين قالا : نشهد أنه رسول الله وقال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما

ومنها : طهارة النخامة سواء كانت من رأس أو صدر .

ومنها : طهارة الماء المستعمل .

ومنها : استحباب التفاؤل وأنه ليس من الطيرة المكروهة لقوله لما جاء سهيل " سهل أمركم " .

[ يغني في المشهود عليه إذا عرف باسمه واسم أبيه عن ذكر الجد ]

ومنها : أن المشهود عليه إذا عرف باسمه واسم أبيه أغنى ذلك عن ذكر الجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على محمد بن عبد الله وقنع من سهيل بذكر اسمه واسم أبيه خاصة واشتراط ذكر الجد لا أصل له ولما اشترى العداء بن خالد منه صلى الله عليه وسلم الغلام فكتب له هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة فذكر جده فهو زيادة بيان تدل على أنه جائز لا بأس به ولا تدل على اشتراطه ولما لم يكن في الشهرة بحيث يكتفى باسمه واسم أبيه ذكر جده فيشترط ذكر الجد عند الاشتراك في الاسم واسم الأب وعند عدم الاشتراك اكتفي بذكر الاسم واسم الأب والله أعلم .

ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما .

ومنها : أن من حلف على فعل شيء أو نذره أو وعد غيره به ولم يعين وقتا لا بلفظه ولا بنيته لم يكن على الفور بل على التراخي .

ومنها : أن الحلاق نسك وأنه أفضل من التقصير وأنه نسك في العمرة كما هو نسك في الحج وأنه نسك في عمرة المحصور كما هو نسك في عمرة غيره .

[ لا يجب على المحصر القضاء ]

ومنها : أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحل أو الحرم وأنه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله بدليل قوله تعالى : والهدي معكوفا أن يبلغ محله [ الفتح 25 ] .

ومنها : أن الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل لا من الحرم لأن الحرم كله محل الهدي .

ومنها : أن المحصر لا يجب عليه القضاء لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالحلق والنحر ولم يأمر أحدا منهم بالقضاء والعمرة من العام القابل لم تكن واجبة ولا قضاء عن عمرة الإحصار فإنهم كانوا في عمرة الإحصار ألفا وأربعمائة وكانوا في عمرة القضية دون ذلك وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأنها العمرة التي قاضاهم عليها فأضيفت العمرة إلى مصدر فعله .

[ الأمر المطلق على الفور ]

ومنها : أن الأمر المطلق على الفور وإلا لم يغضب لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنهم كانوا يرجون النسخ فأخروا متأولين لذلك وهذا الاعتذار أولى أن يعتذر عنه وهو باطل فإنه صلى الله عليه وسلم لو فهم منهم ذلك لم يشتد غضبه لتأخير أمره ويقول ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع وإنما كان تأخيرهم من السعي المغفور لا المشكور وقد رضي الله عنهم وغفر لهم وأوجب لهم الجنة .

[ الأصل مشاركة أمته له صلى الله عليه وسلم في الأحكام إلا ما خصه الدليل ]

ومنها : أن الأصل مشاركة أمته له في الأحكام إلا ما خصه الدليل ولذلك قالت أم سلمة اخرج ولا تكلم أحدا حتى تحلق رأسك وتنحر هديك وعلمت أن الناس سيتابعونه .

فإن قيل فكيف فعلوا ذلك اقتداء بفعله ولم يمتثلوه حين أمرهم به ؟ قيل هذا هو السبب الذي لأجله ظن من ظن أنهم أخروا الامتثال طمعا في النسخ فلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علموا حينئذ أنه حكم مستقر غير منسوخ وقد تقدم فساد هذا الظن ولكن لما تغيظ عليهم وخرج ولم يكلمهم وأراهم أنه بادر إلى امتثال ما أمر به وأنه لم يؤخر كتأخيرهم وأن اتباعهم له وطاعتهم توجب اقتداءهم به بادروا حينئذ إلى الاقتداء به وامتثال أمره .

ومنها : جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين وألا يرد من ذهب من المسلمين إليهم هذا في غير النساء وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب .

[ خروج البضع من ملك الزوج متقوم ]

ومنها : أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم ولذلك أوجب الله سبحانه رد المهر على من هاجرت امرأته وحيل بينه وبينها وعلى من ارتدت امرأته من المسلمين إذا استحق الكفار عليهم رد مهور من هاجر إليهم من أزواجهم وأخبر أن ذلك حكمه الذي حكم به بينهم ثم لم ينسخه شيء وفي إيجابه رد ما أعطى الأزواج من ذلك دليل على تقومه بالمسمى لا بمهر المثل .

ومنها : أن رد من جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول من خرج منهم مسلما إلى غير بلد الإمام وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه رده بدون الطلب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أبا بصير حين جاءه ولا أكرهه على الرجوع ولكن لما جاءوا في طلبه مكنهم من أخذه ولم يكرهه على الرجوع .

ومنها أن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه فقتل أحدا منهم لم يضمنه بدية ولا قود ولم يضمنه الإمام بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة وهي من حكم المدينة ولكن كان قد تسلموه وفصل عن يد الإمام وحكمه .

ومنها : أن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم ولم يتحيزوا إلى الإمام لم يجب على الإمام دفعهم عنهم ومنعهم منهم وسواء دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه أو لم يدخلوا والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لم يكن عهدا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم مستدلا بقصة أبي بصير مع المشركين .


يتبع ........

اخت مسلمة
04-09-2009, 08:20 PM
فصل في الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة
وهي أكبر وأجل من أن يحيط بها إلا الله الذي أحكم أسبابها فوقعت الغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمده .

[ مقدمة للفتح ]

فمنها : أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده ودخل الناس به في دين الله أفواجا فكانت هذه الهدنة بابا له ومفتاحا ومؤذنا بين يديه وهذه عادة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدرا وشرعا أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها .

[ هي من أعظم الفتوح ]

ومنها : أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح فإن الناس أمن بعضهم بعضا واختلط المسلمون بالكفار وبادءوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين وظهر من كان مختفيا بالإسلام ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل ولهذا سماه الله فتحا مبينا . قال ابن قتيبة : قضينا لك قضاء عظيما وقال مجاهد : هو ما قضى الله له بالحديبية .

وحقيقة الأمر أن الفتح - في اللغة - فتح المغلق والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا مغلقا حتى فتحه الله وكان من أسباب فتحه صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت وكان في الصورة الظاهرة ضيما وهضما للمسلمين وفي الباطن عزا وفتحا ونصرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورءوسهم وهو صلى الله عليه وسلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة 216 ] .


وربما كان مكروه النفوس إلى

محبوبها سببا ما مثله سبب


فكان يدخل على تلك الشروط دخول واثق بنصر الله له وتأييده وأن العاقبة له وأن تلك الشروط واحتمالها هو عين النصرة وهو من أكبر الجند الذي أقامه المشترطون ونصبوه لحربهم وهم لا يشعرون فذلوا من حيث طلبوا العز وقهروا من حيث أظهروا القدرة والفخر والغلبة وعز رسول الله صلى الله عليه وسلم وعساكر الإسلام من حيث انكسروا لله واحتملوا الضيم له وفيه فدار الدور وانعكس الأمر وانقلب العز بالباطل ذلا بحق وانقلبت الكسرة لله عزا بالله وظهرت حكمة الله وآياته وتصديق وعده ونصرة رسوله على أتم الوجوه وأكملها التي لا اقتراح للعقول وراءها .

[زيادة الإيمان والإذعان ]

ومنها : ما سببه سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد على ما أحبوا وكرهوا وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله وتصديق موعوده وانتظار ما وعدوا به وشهود منة الله ونعمته عليهم بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تزعزع لها الجبال فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبهم وقويت به نفوسهم وازدادوا به إيمانا .

ومنها : أنه سبحانه جعل هذا الحكم الذي حكم به لرسوله وللمؤمنين سببا لما ذكره من المغفرة لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولإتمام نعمته عليه ولهدايته الصراط المستقيم ونصره النصر العزيز ورضاه به ودخوله تحته وانشراح صدره به مع ما فيه من الضيم وإعطاء ما سألوه كان من الأسباب التي نال بها الرسول وأصحابه ذلك ولهذا ذكره الله سبحانه جزاء وغاية وإنما يكون ذلك على فعل قام بالرسول والمؤمنين عند حكمه تعالى وفتحه .

وتأمل كيف وصف - سبحانه - النصر بأنه عزيز في هذا الموطن ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشد القلق فهي أحوج ما كانت إلى السكينة فازدادوا بها إيمانا إلى إيمانهم ثم ذكر سبحانه بيعتهم لرسوله وأكدها بكونها بيعة له سبحانه وأن يده تعالى كانت فوق أيديهم إذ كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك وهو رسوله ونبيه فالعقد معه عقد مع مرسله وبيعته بيعته فمن بايعه فكأنما بايع الله ويد الله فوق يده وإذا كان الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه فيد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أولى بهذا من الحجر الأسود ثم أخبر أن ناكث هذه البيعة إنما يعود نكثه على نفسه وأن للموفي بها أجرا عظيما فكل مؤمن فقد بايع الله على لسان رسوله بيعة على الإسلام وحقوقه فناكث وموف .

ثم ذكر حال من تخلف عنه من الأعراب وظنهم أسوأ الظن بالله أنه يخذل رسوله وأولياءه وجنده ويظفر بهم عدوهم فلن ينقلبوا إلى أهليهم وذلك من جهلهم بالله وأسمائه وصفاته وما يليق به وجهلهم برسوله وما هو أهل أن يعامله به ربه ومولاه .

ثم أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البيعة لرسوله وأنه سبحانه علم ما في قلوبهم حينئذ من الصدق والوفاء وكمال الانقياد والطاعة وإيثار الله ورسوله على ما سواه فأنزل الله السكينة والطمأنينة والرضى في قلوبهم وأثابهم على الرضى بحكمه والصبر لأمره فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان أول الفتح والمغانم فتح خيبر ومغانمها ثم استمرت الفتوح والمغانم إلى انقضاء الدهر .

[ معنى فعجل لكم هذه ]

ووعدهم سبحانه مغانم كثيرة يأخذونها وأخبرهم أنه عجل لهم هذه الغنيمة وفيها قولان . أحدهما : أنه الصلح الذي جرى بينهم وبين عدوهم والثاني : أنها فتح خيبر وغنائمها ثم قال وكف أيدي الناس عنكم [ الفتح 20 ] فقيل أيدي أهل مكة أن يقاتلوهم وقيل أيدي اليهود حين هموا بأن يغتالوا من بالمدينة بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من الصحابة منها . وقيل هم أهل خيبر وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسد وغطفان . والصحيح تناول الآية للجميع .

وقوله ولتكون آية للمؤمنين قيل هذه الفعلة التي فعلها بكم وهي كف أيدي أعدائكم عنكم مع كثرتهم فإنهم حينئذ كان أهل مكة ومن حولها وأهل خيبر ومن حولها وأسد وغطفان وجمهور قبائل العرب أعداء لهم وهم بينهم كالشامة فلم يصلوا إليهم بسوء فمن آيات الله سبحانه كف أيدي أعدائهم عنهم فلم يصلوا إليهم بسوء مع كثرتهم وشدة عداوتهم وتولي حراستهم وحفظهم في مشهدهم ومغيبهم وقيل هي فتح خيبر جعلها آية لعباده المؤمنين وعلامة على ما بعدها من الفتوح فإن الله سبحانه وعدهم مغانم كثيرة وفتوحا عظيمة فعجل لهم فتح خيبر وجعلها آية لما بعدها وجزاء لصبرهم ورضاهم يوم الحديبية وشكرانا ولهذا خص بها وبغنائمها من شهد الحديبية . ثم قال ويهديكم صراطا مستقيما فجمع لهم إلى النصر والظفر والغنائم والهداية فجعلهم مهديين منصورين غانمين ثم وعدهم مغانم كثيرة وفتوحا أخرى لم يكونوا ذلك الوقت قادرين عليها فقيل هي مكة وقيل هي فارس والروم وقيل الفتوح التي بعد خيبر من مشارق الأرض ومغاربها .

ثم أخبر سبحانه أن الكفار لو قاتلوا أولياءه لولى الكفار الأدبار غير منصورين وأن هذه سنته في عباده قبلهم ولا تبديل لسنته .

فإن قيل فقد قاتلوهم يوم أحد وانتصروا عليهم ولم يولوا الأدبار ؟ قيل هذا وعد معلق بشرط مذكور في غير هذا الموضع وهو الصبر والتقوى وفات هذا الشرط يوم أحد بفشلهم المنافي للصبر وتنازعهم وعصيانهم المنافي للتقوى فصرفهم عن عدوهم ولم يحصل الوعد لانتفاء شرطه .

ثم ذكر - سبحانه - أنه هو الذي كف أيدي بعضهم عن بعض من بعد أن أظفر المؤمنين بهم لما له في ذلك من الحكم البالغة التي منها : أنه كان فيهم رجال ونساء قد آمنوا وهم يكتمون إيمانهم لم يعلم بهم المسلمون فلو سلطكم عليهم لأصبتم أولئك بمعرة الجيش وكان يصيبكم منهم معرة العدوان والإيقاع بمن لا يستحق الإيقاع به وذكر سبحانه حصول المعرة بهم من هؤلاء المستضعفين المستخفين بهم لأنها موجب المعرة الواقعة منهم بهم وأخبر سبحانه أنهم لو زايلوهم وتميزوا منهم لعذب أعداءه عذابا أليما في الدنيا إما بالقتل والأسر وإما بغيره ولكن دفع عنهم هذا العذاب لوجود هؤلاء المؤمنين بين أظهرهم كما كان يدفع عنهم عذاب الاستئصال ورسوله بين أظهرهم .

ثم أخبر سبحانه عما جعله الكفار في قلوبهم من حمية الجاهلية التي مصدرها الجهل والظلم التي لأجلها صدوا رسوله وعباده عن بيته ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ولم يقروا لمحمد بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تحققهم صدقه وتيقنهم صحة رسالته بالبراهين التي شاهدوها وسمعوا بها في مدة عشرين سنة وأضاف هذا الجعل إليهم وإن كان بقضائه وقدره كما يضاف إليهم سائر أفعالهم التي هي بقدرتهم وإرادتهم .

ثم أخبر - سبحانه - أنه أنزل في قلب رسوله وأوليائه من السكينة ما هو مقابل لما في قلوب أعدائه من حمية الجاهلية فكانت السكينة حظ رسوله وحزبه وحمية الجاهلية حظ المشركين وجندهم ثم ألزم عباده المؤمنين كلمة التقوى وهي جنس يعم كل كلمة يتقى الله بها وأعلى نوعها كلمة الإخلاص وقد فسرت ببسم الله الرحمن الرحيم وهي الكلمة التي أبت قريش أن تلتزمها فألزمها الله أولياءه وحزبه وإنما حرمها أعداءه صيانة لها عن غير كفئها وألزمها من هو أحق بها وأهلها فوضعها في موضعها ولم يضيعها بوضعها في غير أهلها وهو العليم بمحال تخصيصه ومواضعه .

ثم أخبر سبحانه أنه صدق رسوله رؤياه في دخولهم المسجد آمنين وأنه سيكون ولا بد ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك في هذا العام والله سبحانه علم من مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم فأنتم أحببتم استعجال ذلك والرب تعالى يعلم من مصلحة التأخير وحكمته ما لم تعلموه فقدم بين يدي ذلك فتحا قريبا توطئة له وتمهيدا .

ثم أخبرهم بأنه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فقد تكفل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض ففي هذا تقوية لقلوبهم وبشارة لهم وتثبيت وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن ينجزه فلا تظنوا أن ما وقع من الإغماض والقهر يوم الحديبية نصرة لعدوه ولا تخليا عن رسوله ودينه كيف وقد أرسله بدينه الحق ووعده أن يظهره على كل دين سواه .

ثم ذكر - سبحانه - رسوله وحزبه الذين اختارهم له ومدحهم بأحسن المدح وذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل فكان في هذا أعظم البراهين على صدق من جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم لا كما يقول الكفار عنهم إنهم متغلبون طالبو ملك ودنيا ولهذا لما رآهم نصارى الشام وشاهدوا هديهم وسيرتهم وعدلهم وعلمهم ورحمتهم وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة قالوا : ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء وكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم والرافضه تصفهم بضد ما وصفهم الله به في هذه الآية وغيرها و : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا [ الكهف 17 ] .



فصل في غزوة خيبر
قال موسى بن عقبة : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة أو قريبا منها ثم خرج غازيا إلى خيبر وكان الله عز وجل وعده إياها وهو بالحديبية .

وقال مالك : كان فتح خيبر في السنة السادسة والجمهور على أنها في السابعة . وقطع أبو محمد بن حزم : بأنها كانت في السادسة بلا شك ولعل الخلاف مبني على أول التاريخ هل هو شهر ربيع الأول شهر مقدمه المدينة أو من المحرم في أول السنة ؟ وللناس في هذا طريقان . فالجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم وأبو محمد بن حزم : يرى أنه من شهر ربيع الأول حين قدم وكان أول من أرخ بالهجرة يعلى بن أمية باليمن كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح وقيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ست عشرة من الهجرة .

وقال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنهما حدثاه جميعا قالا : انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة فأعطاه الله عز وجل فيها خيبر وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه [ الفتح 20 ] خيبر فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجيع واد بين خيبر وغطفان فتخوف أن تمدهم غطفان فبات به حتى أصبح فغدا إليهم انتهى

[ قدوم أبي هريرة ]

واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة وقدم أبو هريرة حينئذ المدينة فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصبح فسمعه يقرأ في الركعة الأولى - كهيعص وفي الثانية ويل للمطففين فقال في نفسه ويل لأبي فلان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي وإذا كال كال بالناقص فلما فرغ من صلاته أتى سباعا فزوده حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم .

[ قصة عامر بن الأكوع ]

وقال سلمة بن الأكوع : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا ؟ فنزل يحدو بالقوم يقول


اللهم لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداء لك ما اقتفينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا

إنا إذا صيح بنا أتينا

صياح عولوا علينا

وبالوإن أرادوا فتنة أبينا


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا السائق " ؟ قالوا : عامر . فقال " رحمه الله فقال رجل من القوم : وجبت يا رسول الله لولا أمتعتنا به . قال فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة ثم إن الله تعالى فتح عليهم فلما أمسوا أوقدوا نيرانا كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذه النيران على أي شيء توقدون ؟ " قالوا : على لحم . قال " على أي لحم ؟ قالوا : على لحم حمر إنسية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أهريقوها واكسروها " فقال رجل يا رسول الله أونهريقها ونغسلها ؟ فقال " أو ذاك فلما تصاف القوم خرج مرحب يخطر بسيفه وهو يقول


قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب


إذا الحروب أقبلت تلهب


فنزل إليه عامر وهو يقول


قد علمت خيبر أني عامر

شاكي السلاح بطل مغامر


فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب عامر يسفل له وكان سيف عامر فيه قصر فرجع عليه ذباب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه فقال سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم زعموا أن عامرا حبط عمله فقال كذب من قاله إن له أجرين وجمع بين أصبعيه إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله " .



فصل [ القدوم إلى خيبر ]
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر صلى بها الصبح وركب المسلمون فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ولا يشعرون بل خرجوا لأرضهم فلما رأوا الجيش قالوا : محمد والله محمد والخميس ثم رجعوا هاربين إلى حصونهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر خربت خيبر الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين

ولما دنا النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف عليها قال " قفوا " فوقف الجيش فقال اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها أقدموا بسم الله

[ إعطاء الراية لعلي ]

ولما كانت ليلة الدخول قال لأعطين هذ الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا : يا رسول الله هو يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ قال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم

[ من قتل مرحبا اليهودي ]

فخرج مرحب وهو يقول


أنا الذي سمتني أمي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب


إذا الحروب أقبلت تلهب


فبرز إليه علي وهو يقول


أنا الذي سمتني أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظره


أوفيهم بالصاع كيل السندره


فضرب مرحبا ففلق هامته وكان الفتح .

ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن فقال من أنت ؟ فقال أنا علي بن أبي طالب . فقال اليهودي علوتم وما أنزل على موسى .

هكذا في " صحيح مسلم " أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قتل مرحبا

وقال موسى بن عقبة : عن الزهري وأبي الأسود عن عروة . ويونس بن بكير عن ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة عن جابر بن عبد الله أن محمد بن مسلمة هو الذي قتله قال جابر في حديثه خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر قد جمع سلاحه وهو يرتجز ويقول من يبارز ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لهذا ؟ فقال محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر قتلوا أخي بالأمس يعني محمود بن مسلمة وكان قتل بخيبر فقال قم إليه اللهم أعنه عليه فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة فجعل كل واحد منهما يلوذ بها من صاحبه كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن ثم حمل على محمد فضربه فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته وضربه محمد بن مسلمة فقتله وكذلك قال سلمة بن سلامة ومجمع بن حارثة : إن محمد بن مسلمة قتل مرحبا .

قال الواقدي : وقيل إن محمد بن مسلمة ضرب ساقي مرحب فقطعهما فقال مرحب : أجهز علي يا محمد فقال محمد : ذق الموت كما ذاقه أخي محمود وجاوزه ومر به علي رضي الله عنه فضرب عنقه وأخذ سلبه فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه فقال محمد بن مسلمة : يا رسول الله ما قطعت رجليه ثم تركته إلا ليذوق الموت وكنت قادرا أن أجهز عليه فقال علي رضي الله عنه صدق ضربت عنقه بعد أن قطع رجليه فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه ورمحه ومغفره وبيضته وكان عند آل محمد بن مسلمة سيفه فيه كتاب لا يدرى ما فيه حتى قرأه يهودي فإذا فيه

هذا سيف مرحب

من يذقه يعطب


[قتل الزبير أخا مرحب ]

ثم خرج [ بعد مرحب أخوه ] ياسر فبرز إليه الزبير فقالت صفية أمه يا رسول الله يقتل ابني ؟ قال " بل ابنك يقتله إن شاء الله " فقتله الزبير .

[ حصار حصن القموص وفيه النهي عن أكل الحمر الأهلية ]

[ قصة العبد الذي أسلم ثم استشهد ولم يصل سجدة قط ]

قال موسى بن عقبة : ثم دخل اليهود حصنا لهم منيعا يقال له القموص فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من عشرين ليلة وكانت أرضا وخمة شديدة الحر فجهد المسلمون جهدا شديدا فذبحوا الحمر فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلها وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر كان في غنم لسيده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم ما تريدون ؟ قالوا : نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي فوقع في نفسه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأ قبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماذا تقول وما تدعو إليه ؟ قال أدعو إلى الإسلام وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن لا تعبد إلا الله . قال العبد فما لي إن شهدت وآمنت بالله عز وجل ؟ قال لك الجنة إن مت على ذلك فأسلم ثم قال يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجها من عندك وارمها بالحصباء فإن الله سيؤدي عنك أمانتك ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فوعظهم وحضهم على الجهاد فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود فاحتمله المسلمون إلى معسكرهم فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط ثم أقبل على أصحابه وقال لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ولم يصل لله سجدة قط

[ قصة استشهاد رجل ]

قال حماد بن سلمة : عن ثابت عن أنس أ تى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني رجل أسود اللون قبيح الوجه منتن الريح لا مال لي فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أأدخل الجنة ؟ قال نعم فتقدم فقاتل حتى قتل فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال لقد أحسن الله وجهك وطيب ريحك وكثر مالك ثم قال لقد رأيت زوجتيه من الحور العين ينزعان جبته عنه يدخلان فيما بين جلده وجبته

[ قصة أعرابي استشهد ]

وقال شداد بن الهاد : جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه فقال أهاجر معك فأوصى به بعض أصحابه فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقسمه وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسمه له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا يا رسول الله ؟ قال قسم قسمته لك قال ما على هذا اتبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال إن تصدق الله يصدقك ثم نهض إلى قتال العدو فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال أهو هو ؟ قالوا : نعم . قال صدق الله فصدقه فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته ثم قدمه فصلى عليه وكان من دعائه له اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا وأنا عليه شهيد

[ فتح قلعة الزبير ]

[ الصلح مع من كان في حصن ابن أبي الحقيق
ثم نكثهم العهد بتغييب مسك حيي بن أخطب ]

قال الواقدي وتحولت اليهود إلى قلعة الزبير : حصن منيع في رأس قلة فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام فجاء رجل من اليهود يقال له عزال فقال يا أبا القاسم إنك لو أقمت شهرا ما بالوا إن لهم شرابا وعيونا تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مائهم فقطعه عليهم فلما قطع عليهم خرجوا فقاتلوا أشد القتال وقتل من المسلمين نفر وأصيب نحو العشرة من اليهود وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتيبة والوطيح والسلالم حصن ابن أبي الحقيق فتحصن أهله أشد التحصن وجاءهم كل فل كان انهزم من النطاة والشق فإن خيبر كانت جانبين الأول الشق والنطاة وهو الذي افتتحه أولا والجانب الثاني : الكتيبة والوطيح والسلالم فجعلوا لا يخرجون من حصونهم حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انزل فأكلمك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة إلا ثوبا على ظهر إنسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا " فصالحوه على ذلك

قال حماد بن سلمة : أنبأنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الزرع والنخل والأرض فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ . قال أذهبته النفقات والحروب فقال العهد قريب والمال أكثر من ذلك " فدفعه رسول الله إلى الزبير فمسه بعذاب وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال " قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا وأراد أن يجليهم منها فقالوا : يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها فنحن أعلم بها منكم ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها وكانوا لا يفرغون يقومون عليها فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وكل ثمر ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم . وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم كما تقدم . ولم يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلح إلا ابني أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا فإنهم شرطوا إن غيبوا أو كتموا فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله فغيبوا فقال لهم أين المال الذي خرجتم به من المدينة حين أجليناكم ؟ قالوا : ذهب فحلفوا على ذلك فاعترف ابن عم كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير يعذبه فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله ويقال إن كنانة هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمة خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وكل ثمر ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم

وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم كما تقدم . ولم يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلح إلا ابني أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا فإنهم شرطوا إن غيبوا أو كتموا فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله فغيبوا فقال لهم أين المال الذي خرجتم به من المدينة حين أجليناكم ؟ قالوا : ذهب فحلفوا على ذلك فاعترف ابن عم كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير يعذبه فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله ويقال إن كنانة هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمة .

[ زواجه صلى الله عليه وسلم بصفية ]
وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب وابنة عمتها وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق وكانت عروسا حديثة عهد بالدخول فأمر بلالا أن يذهب بها إلى رحله فمر بها بلال وسط القتلى فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أذهبت الرحمة منك يا بلال

وعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت فاصطفاها لنفسه وأعتقها وجعل عتقها صداقها وبنى بها في الطريق وأولم عليها ورأى بوجهها خضرة فقال ما هذا ؟ قالت يا رسول الله أريت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه فسقط في حجري ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا فقصصتها على زوجي فلطم وجهي وقال تمنين هذا الملك الذي بالمدينة

وشك الصحابة هل اتخذها سرية أو زوجة ؟ فقالوا : انظروا إن حجبها فهي إحدى نسائه وإلا فهي مما ملكت يمينه فلما ركب جعل ثوبه الذي ارتدى به على ظهرها ووجهها ثم شد طرفه تحته فتأخروا عنه في المسير وعلموا أنها إحدى نسائه ولما قدم ليحملها على الرحل أجلته أن تضع قدمها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه ثم ركبت . ولما بنى بها بات أبو أيوب ليلته قائما قريبا من قبته آخذا بقائم السيف حتى أصبح فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أبو أيوب حين رآه قد خرج فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك يا أبا أيوب ؟ فقال له أرقت ليلتي هذه يا رسول الله لما دخلت بهذه المرأة ذكرت أنك قتلت أباها وأخاها وزوجها وعامة عشيرتها فخفت أن تغتالك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له معروفا



فصل [ قسم خيبر على المسلمين ]
[هل فتحت خيبر صلحا أم عنوة ؟]

وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين وعزل النصف الآخر وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين.

قال البيهقي : وهذا لأن خيبر فتح شطرها عنوة وشطرها صلحا فقسم ما فتح عنوة بين أهل الخمس والغانمين وعزل ما فتح صلحا لنوائبه وما يحتاج إليه من أمور المسلمين .

قلت : وهذا بناء منه على أصل الشافعي رحمه الله أنه يجب قسم الأرض المفتتحة عنوة كما تقسم سائر المغانم فلما لم يجده قسم النصف من خيبر قال إنه فتح صلحا . ومن تأمل السير والمغازي حق التأمل تبين له أن خيبر إنما فتحت عنوة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استولى على أرضها كلها بالسيف عنوة ولو فتح شيء منها صلحا لم يجلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فإنه لما عزم على إخراجهم منها قالوا : نحن أعلم بالأرض منكم دعونا نكون فيها ونعمرها لكم بشطر ما يخرج منها وهذا صريح جدا في أنها إنما فتحت عنوة وقد حصل بين اليهود والمسلمين بها من الحراب والمبارزة والقتل من الفريقين ما هو معلوم ولكن لما ألجئوا إلى حصنهم نزلوا على الصلح الذي بذلوه أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة والسلاح ولهم رقابهم وذريتهم ويجلوا من الأرض فهذا كان الصلح ولم يقع بينهم صلح أن شيئا من أرض خيبر لليهود ولا جرى ذلك البتة ولو كان كذلك لم يقل نقركم ما شئنا فكيف يقرهم في أرضهم ما شاء ؟ ولما كان عمر أجلاهم كلهم من الأرض ولم يصالحهم أيضا على أن الأرض للمسلمين وعليها خراج يؤخذ منهم هذا لم يقع فإنه لم يضرب على خيبر خراجا البتة .

[ ترجيح المصنف فتحها عنوة وبيان حكم الأرض المفتوحة عنوة ]

فالصواب الذي لا شك فيه أنها فتحت عنوة والإمام مخير في أرض العنوة بين قسمها ووقفها أو قسم بعضها ووقف البعض وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنواع الثلاثة فقسم قريظة والنضير ولم يقسم مكة وقسم شطر خيبر وترك شطرها وقد تقدم تقرير كون مكة فتحت عنوة بما لا مدفع له .

[ لم يغب عن خيبر من أهل الحديبية إلا جابر ]

وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب وكانوا ألفا وأربعمائة وكان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان فقسمت على ألف وثمانمائة سهم ولم يغب عن خيبر من أهل الحديبية إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضرها .

[ الاختلاف في أسهم الراجل والفارس ]

وقسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما وكانوا ألفا وأربعمائة وفيهم مائتا فارس هذا هو الصحيح الذي لا ريب فيه .

وروى عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر أنه أعطى الفارس سهمين والراجل سهما

قال الشافعي رحمه الله كأنه سمع نافعا يقول للفرس سهمين وللراجل سهما فقال للفارس وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدم عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ وقد أنبأنا الثقة من أصحابنا عن إسحاق الأزرق الواسطي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب للفرس بسهمين وللفارس بسهم . ثم روى من حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وهو في " الصحيحين " وكذلك رواه الثوري وأبو أسامة عن عبيد الله .
ضرب للفرس بسهمين وللفارس بسهم ثم روى من حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ا بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ثلاثة أسهم : سهم له وسهمان لفرسه وهو في " الصحيحين " وكذلك رواه الثوري وأبو أسامة عن عبيد الله .

قال الشافعي رحمه الله وروى مجمع بن جارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سهام خيبر على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما

قال الشافعي رحمه الله ومجمع بن يعقوب يعني راوي هذا الحديث عن أبيه عن عمه عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مجمع بن جارية شيخ لا يعرف فأخذنا في ذلك بحديث عبيد الله ولم نر له مثله خبرا يعارضه ولا يجوز رد خبر إلا بخبر مثله .

قال البيهقي : والذي رواه مجمع بن يعقوب بإسناده في عدد الجيش وعدد الفرسان قد خولف فيه ففي رواية جابر وأهل المغازي : أنهم كانوا ألفا وأربعمائة وهم أهل الحديبية وفي رواية ابن عباس وصالح بن كيسان وبشير بن يسار وأهل المغازي : أن الخيل كانت مائتي فرس وكان للفرس سهمان ولصاحبه سهم ولكل راجل سهم .

وقال أبو داود : حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس .

وقد روى أبو داود أيضا من حديث أبي عمرة عن أبيه قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ومعنا فرس فأعطى كل إنسان منا سهما وأعطى الفرس سهمين وهذا الحديث في إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود وهو المسعودي وفيه ضعف . وقد روي الحديث عنه على وجه آخر فقال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر معنا فرس فكان للفارس ثلاثة أسهم ذكره أبو داود أيضا .

فصل [ قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين ]
وفي هذه الغزوة قدم عليه صلى الله عليه وسلم ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه ومعهم الأشعريون عبد الله بن قيس أبو موسى وأصحابه وكان فيمن قدم معهم أسماء بنت عميس . قال أبو موسى : بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين أنا وأخوان لي أنا أصغرهما أحدهما أبو رهم والآخر أبو بردة في بضع وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده فقال جعفر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا فأقمنا معه حتي قدمنا جميعا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم وكان ناس يقولون لنا : سبقناكم بالهجرة قال ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة فدخل عليها عمر فقال من هذه ؟ قالت أسماء . فقال عمر : سبقناكم بالهجرة نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم فغضبت وقالت يا عمر كلا والله لقد كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في أرض البعداء البغضاء وذلك في الله وفي رسوله وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت له ؟ قالت : قلت له كذا وكذا . فقال ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان وكان أبو موسى وأصحاب السفينة يأتون أسماء أرسالا يسألونها عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقبل جبهته وقال والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟ .

[ ضعف قصة حجلان جعفر إعظاما له صلى الله عليه وسلم
وبطلان جعلها مستندا للرقص ]

وأما ما روي في هذه القصة أن جعفرا لما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حجل يعني : مشى على رجل واحدة إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله أشباه الدباب الرقاصون أصلا لهم في الرقص فقال البيهقي وقد رواه من طريق الثوري عن أبي الزبير عن جابر وفي إسناده إلى الثوري من لا يعرف .

قلت : ولو صح لم يكن في هذا حجة على جواز التشبه بالدباب والتكسر والتخنث في المشي المنافي لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا لعله كان من عادة الحبشة تعظيما لكبرائها كضرب الجوك عند الترك ونحو ذلك فجرى جعفر على تلك العادة وفعلها مرة ثم تركها لسنة الإسلام فأين هذا من القفز والتكسر والتثني والتخنث وبالله التوفيق .

[ عدم إعانة بني فزارة أهل خيبر اتفاقا معه صلى الله عليه وسلم ]

قال موسى بن عقبة : كانت بنو فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم ولكم من خيبر كذا وكذا فأبوا عليه فلما فتح الله عليه خيبر أتاه من كان ثم من بني فزارة فقالوا : وعدك الذي وعدتنا فقال لكم ذو الرقيبة جبل من جبال خيبر فقالوا : إذا نقاتلك . فقال موعدكم كذا فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا هاربين


[ قصة عيينة بن حصن ]

وقال الواقدي : قال أبو شييم المزني - وكان قد أسلم فحسن إسلامه - لما نفرنا إلى أهلنا مع عيينة بن حصن رجع بنا عيينة فلما كان دون خيبر عرسنا من الليل ففزعنا . فقال عيينة : أبشروا إني أرى الليلة في النوم أنني أعطيت ذا الرقيبة جبلا بخيبر قد والله أخذت برقبة محمد فلما قدمنا خيبر قدم عيينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر . فقال يا محمد أعطني ما غنمت من حلفائي فإني انصرفت عنك وقد فرغنا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت ولكن الصياح الذي سمعت نفرك إلى أهلك " . قال أجزني : يا محمد ؟ قال " لك ذو الرقيبة . قال وما ذو الرقيبة ؟ قال الجبل الذي رأيت في النوم أنك أخذته فانصرف عيينة فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف فقال ألم أقل لك : إنك توضع في غير شيء والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب يهود كانوا يخبروننا بهذا أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول إنا نحسد محمدا على النبوة حيث خرجت من بني هارون وهو نبي مرسل ويهود لا تطاوعني على هذا ولنا منه ذبحان واحد بيثرب وآخر بخيبر قال الحارث : قلت لسلام : يملك الأرض جميعا ؟ قال نعم والتوراة التي أنزلت على موسى وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه .



فصل [ قصة سم يهودية النبي صلى الله عليه وسلم ]
وفي هذه الغزاة سم رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم شاة مشوية قد سمتها وسألت أي اللحم أحب إليه ؟ فقالوا : الذراع فأكثرت من السم في الذراع فلما انتهش من ذراعها أخبره الذراع بأنه مسموم فلفظ الأكلة ثم قال " اجمعوا لي من ها هنا من اليهود فجمعوا له فقال لهم " إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي فيه ؟ " قالوا : نعم يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أبوكم ؟ " قالوا : أبونا فلان . قال " كذبتم أبوكم فلان " . قالوا : صدقت وبررت قال " هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ " قالوا : نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أهل النار ؟ " فقالوا : نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " اخسئوا فيها فوالله لا نخلفكم فيها أبدا " ثم قال " هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه ؟ " قالوا : نعم . قال " أجعلتم في هذه الشاة سما ؟ " قالوا : نعم . قال " فما حملكم على ذلك ؟ " قالوا : أردنا إن كنت كاذبا نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك .

[ قتل اليهودية لما مات بشر بن البراء ]

وجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أردت قتلك . فقال ما كان الله ليسلطك علي " قالوا : ألا نقتلها ؟ قال لا ولم يتعرض لها ولم يعاقبها واحتجم على الكاهل وأمر من أكل منها فاحتجم فمات بعضهم واختلف في قتل المرأة فقال الزهري : أسلمت فتركها ذكره عبد الرزاق عن معمر عنه ثم قال معمر والناس تقول قتلها النبي صلى الله عليه وسلم .

قال أبو داود : حدثنا وهب بن بقية قال حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية وذكر القصة وقال فمات بشر بن البراء بن معرور فأرسل إلى اليهودية ما حملك على الذي صنعت ؟ قال جابر فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت

قلت : كلاهما مرسل ورواه حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة متصلا " أنه قتلها لما مات بشر بن البراء " .

وقد وفق بين الروايتين بأنه لم يقتلها أولا فلما مات بشر قتلها .

وقد اختلف هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منها أو لم يأكل ؟ وأكثر الروايات أنه أكل منها وبقي بعد ذلك ثلاث سنين حتى قال في وجعه الذي مات فيه ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر فهذا أوان انقطاع الأبهر مني

قال الزهري : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا .

[ التراهن بين قريش فيمن ينتصر في خيبر ]

قال موسى بن عقبة وغيره وكان بين قريش حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر تراهن عظيم وتبايع فمنهم من يقول يظهر محمد وأصحابه ومنهم يقول يظهر الحليفان ويهود خيبر وكان الحجاج بن علاط السلمي قد أسلم وشهد فتح خيبر وكانت تحته أم شيبة أخت بني عبد الدار بن قصي وكان الحجاج مكثرا من المال كانت له معادن بأرض بني سليم فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر قال الحجاج بن علاط : إن لي ذهبا عند امرأتي وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي فأذن لي فلأسرع السير وأسبق الخبر ولأخبرن أخبارا إذا قدمت أدرأ بها عن مالي ونفسي فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم مكة قال لامرأته أخفي علي واجمعي ما كان لي عندك من مال فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم وإن محمدا قد أسر وتفرق عنه أصحابه وإن اليهود قد أقسموا : لتبعثن به إلى مكة ثم لتقتلنه بقتلاهم بالمدينة وفشا ذلك بمكة واشتد على المسلمين وبلغ منهم وأظهر المشركون الفرح والسرور فبلغ العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم زجلة الناس وجلبتهم وإظهارهم السرور فأراد أن يقوم ويخرج فانخزل ظهره فلم يقدر على القيام فدعا ابنا له يقال له قثم وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل العباس يرتجز ويرفع صوته لئلا يشمت به أعداء الله

حبي قثم حبي قثم

شبيه ذي الأنف الأشم

نبي ربي ذي النعم

برغم أنف من رغم


وحشر إلى باب داره رجال كثيرون من المسلمين والمشركين منهم المظهر للفرح والسرور ومنهم الشامت المغري ومنهم من به مثل الموت من الحزن والبلاء فلما سمع المسلمون رجز العباس وتجلده طابت نفوسهم وظن المشركون أنه قد أتاه ما لم يأتهم ثم أرسل العباس غلاما له إلى الحجاج وقال له اخل به وقل له ويلك ما جئت به وما تقول فالذي وعد الله خير مما جئت به ؟ فلما كلمه الغلام قال له اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له فليخل بي في بعض بيوته حتى آتيه فإن الخبر على ما يسره فلما بلغ العبد باب الدار قال أبشر يا أبا الفضل فوثب العباس فرحا كأنه لم يصبه بلاء قط حتى جاءه وقبل ما بين عينيه فأخبره بقول الحجاج فأعتقه ثم قال أخبرني . قال يقول لك الحجاج : اخل به في بعض بيوتك حتى يأتيك ظهرا فلما جاءه الحجاج وخلا به أخذ عليه لتكتمن خبري فوافقه عباس على ذلك فقال له الحجاج : جئت وقد افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وغنم أموالهم وجرت فيها سهام الله وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى صفية بنت حيي لنفسه وأعرس بها ولكن جئت لمالي أردت أن أجمعه وأذهب به وإني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول فأذن لي أن أقول ما شئت فأخف علي ثلاثا ثم اذكر ما شئت . قال فجمعت له امرأته متاعه ثم انشمر راجعا فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال ما فعل زوجك ؟ قالت ذهب وقالت لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك . فقال أجل لا يحزنني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحب فتح الله على رسوله خيبر وجرت فيها سهام الله واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به . قالت أظنك والله صادقا . قال فإني والله صادق والأمر على ما أقول لك . قالت فمن أخبرك بهذا ؟ قال الذي أخبرك بما أخبرك ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش فلما رأوه قالوا : هذا والله التجلد يا أبا الفضل ولا يصيبك إلا خير . قال أجل لم يصبني إلا خير والحمد لله أخبرني الحجاج بكذا وكذا وقد سألني أن أكتم عليه ثلاثا لحاجة فرد الله ما كان للمسلمين من كآبة وجزع على المشركين وخرج المسلمون من مواضعهم حتى دخلوا على العباس فأخبرهم الخبر فأشرقت وجوه المسلمين .



فصل فيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية
[جواز القتال في الأشهر الحرم ]

فمنها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة فمكث بها أياما ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك قال الزهري عن عروة عن مروان والمسور بن مخرمة وكذلك قال الواقدي : خرج في أول سنة سبع من الهجرة ولكن في الاستدلال بذلك نظر فإن خروجه كان في أواخر المحرم لا في أوله وفتحها إنما كان في صفر . وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند الشجرة بيعة الرضوان على القتال وألا يفروا وكانت في ذي القعدة ولكن لا دليل في ذلك لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله فحينئذ بايع الصحابة ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام إذا بدأ العدو إنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء فالجمهور جوزوه وقالوا : تحريم القتال فيه منسوخ وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله .

وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ تحريمه شيء . وأقوى من هذين الاستدلالين الاستدلال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة فبعضها كان في ذي القعدة فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوما ففتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصرها بضعا وعشرين ليلة وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك .

وقد قيل إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة . قال ابن حزم : وهو الصحيح بلا شك وهذا عجيب منه فمن أين له هذا التصحيح والجزم به ؟ وفي " الصحيحين " عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال فحاصرناهم أربعين يوما فاستعصوا وتمنعوا وذكر الحديث فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب ومع هذا فلا دليل في القصة لأن غزو الطائف كان من تمام غزوة هوازن وهم بدءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال ولما انهزموا دخل ملكهم وهو مالك بن عوف النضري مع ثقيف في حصن الطائف محاربين رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان غزوهم من تمام الغزوة التي شرع فيها والله أعلم .

[ ليس في سورة المائدة منسوخ ]

وقال الله تعالى في ( سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد [ المائدة 2 ] . وقال في سورة البقرة يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله [ البقرة 217 ] فهاتان آيتان مدنيتان بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمهما ولا أجمعت الأمة على نسخه ومن استدل على نسخه بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة [ التوبة 36 ] ونحوها من العمومات فقد استدل على النسخ بما لا يدل عليه ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة فقد استدل بغير دليل لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام .

فصل

ومنها : قسمة الغنائم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم وقد تقدم تقريره .

ومنها : أنه يجوز لآحاد الجيش إذا وجد طعاما أن يأكله ولا يخمسه كما أخذ عبد الله بن المغفل جراب الشحم الذي دلي يوم خيبر واختص به بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم .

ومنها : أنه إذا لحق مدد بالجيش بعد تقضي الحرب فلا سهم له إلا بإذن الجيش ورضاهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أصحابه في أهل السفينة حين قدموا عليه بخيبر - جعفر وأصحابه - أن يسهم لهم فأسهم لهم .

فصل [ تحريم لحوم الحمر الإنسية ]

ومنها تحريم لحوم الحمر الإنسية صح عنه تحريمها يوم خيبر وصح عنه تعليل التحريم بأنها رجس وهذا مقدم على قول من قال من الصحابة إنما حرمها لأنها كانت ظهر القوم وحمولتهم فلما قيل له فني الظهر وأكلت الحمر حرمها وعلى قول من قال إنما حرمها لأنها لم تخمس وعلى قول من قال إنما حرمها لأنها كانت حول القرية وكانت تأكل العذرة وكل هذا في " الصحيح " لكن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها رجس مقدم على هذا كله لأنه من ظن الراوي وقوله بخلاف التعليل بكونها رجسا .

ولا تعارض بين هذا التحريم وبين قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله [ الأنعام : 145 ] فإنه لم يكن قد حرم حين نزول هذه الآية من المطاعم إلا هذه الأربعة والتحريم كان يتجدد شيئا فشيئا فتحريم الحمر بعد ذلك تحريم مبتدأ لما سكت عنه النص لا أنه رافع لما أباحه القرآن ولا مخصص لعمومه فضلا عن أن يكون ناسخا . والله أعلم .

فصل [ ترجيح المصنف تحريم المتعة عام الفتح ]

ولم تحرم المتعة يوم خيبر وإنما كان تحريمها عام الفتح هذا هو الصواب وقد ظن طائفة من أهل العلم أنه حرمها يوم خيبر واحتجوا بما في " الصحيحين " من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية . وفي " الصحيحين " أيضا : أن عليا رضي الله عنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال مهلا يا ابن عباس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية وفي لفظ للبخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية .

ولما رأى هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباحها عام الفتح ثم حرمها قالوا : حرمت ثم أبيحت ثم حرمت .

قال الشافعي : لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة قالوا : نسخت مرتين وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا : لم تحرم إلا عام الفتح وقبل ذلك كانت مباحة . قالوا : وإنما جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين الإخبار بتحريمها وتحريم الحمر الأهلية لأن ابن عباس كان يبيحهما فروى له علي تحريمهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ردا عليه وكان تحريم الحمر يوم خيبر بلا شك وقد ذكر يوم خيبر ظرفا لتحريم الحمر وأطلق تحريم المتعة ولم يقيده بزمن كما جاء ذلك في " مسند الإمام أحمد " بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر وحرم متعة النساء وفي لفظ حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلا مميزا فظن بعض الرواة أن يوم خيبر زمن للتحريمين فقيدهما به ثم جاء بعضهم فاقتصر على أحد المحرمين وهو تحريم الحمر وقيده بالظرف فمن ها هنا نشأ الوهم .

وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات ولا استأذنوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة لا فعلا ولا تحريما بخلاف غزاة الفتح فإن قصة المتعة كانت فيها فعلا وتحريما مشهورة وهذه الطريقة أصح الطريقتين .

وفيها طريقة ثالثة وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرمها تحريما عاما البتة بل حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها عند الحاجة إليها وهذه كانت طريقة ابن عباس حتى كان يفتي بها ويقول هي كالميتة والدم ولحم الخنزير تباح عند الضرورة وخشية العنت فلم يفهم عنه أكثر الناس ذلك وظنوا أنه أباحها إباحة مطلقة وشببوا في ذلك بالأشعار فلما رأى ابن عباس ذلك رجع إلى القول بالتحريم .



فصل [جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض ]

ومنها : جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع كما عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على ذلك واستمر ذلك إلى حين وفاته لم ينسخ البتة واستمر عمل خلفائه الراشدين عليه وليس هذا من باب المؤاجرة في شيء بل من باب المشاركة وهو نظير المضاربة سواء فمن أباح المضاربة وحرم ذلك فقد فرق بين متماثلين .

فصل [عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض ]

ومنها أنه دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من أموالهم ولم يدفع إليهم البذر ولا كان يحمل إليهم البذر من المدينة قطعا فدل على أن هديه عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض وأنه يجوز أن يكون من العامل وهذا كان هدي خلفائه الراشدين من بعده وكما أنه هو المنقول فهو الموافق للقياس فإن الأرض بمنزلة رأس المال في القراض والبذر يجري مجرى سقي الماء ولهذا يموت في الأرض ولا يرجع إلى صاحبه ولو كان بمنزلة رأس مال المضاربة لاشترط عوده إلى صاحبه وهذا يفسد المزارعة فعلم أن القياس الصحيح هو الموافق لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في ذلك . والله أعلم .

فصل

ومنها : خرص الثمار على رءوس النخل وقسمتها كذلك وأن القسمة ليست بيعا .

ومنها : الاكتفاء بخارص واحد وقاسم واحد .

ومنها : جواز عقد المهادنة عقدا جائزا للإمام فسخه متى شاء .

ومنها : جواز تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط كما عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط أن لا يغيبوا ولا يكتموا .

ومنها : جواز تقرير أرباب التهم بالعقوبة وأن ذلك من الشريعة العادلة لا من السياسة الظالمة .

[جواز نسخ الأمر قبل فعله ]

ومنها : الأخذ في الأحكام بالقرائن والأمارات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكنانة المال كثير والعهد قريب فاستدل بهذا على كذبه في قوله أذهبته الحروب والنفقة .

ومنها : أن من كان القول قوله إذا قامت قرينة على كذبه لم يلتفت إلى قوله ونزل منزلة الخائن .

[إذا خالف أهل الذمة شيئا مما شرط عليهم لم يبق لهم ذمة ]

ومنها : أن أهل الذمة إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم لم يبق لهم ذمة وحلت دماؤهم وأموالهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهؤلاء الهدنة وشرط عليهم أن لا يغيبوا ولا يكتموا فإن فعلوا حلت دماؤهم وأموالهم فلما لم يفوا بالشرط استباح دماءهم وأموالهم وبهذا اقتدى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الشروط التي اشترطها على أهل الذمة فشرط عليهم أنهم متى خالفوا شيئا منها فقد حل له منهم ما يحل من أهل الشقاق والعداوة .

[جواز الأخذ في الأحكام بالقرائن ]

ومنها : جواز نسخ الأمر قبل فعله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بكسر القدور ثم نسخه عنهم بالأمر بغسلها .

ومنها : أن ما لا يؤكل لحمه لا يطهر بالذكاة لا جلده ولا لحمه وأن ذبيحته بمنزلة موته وأن الذكاة إنما تعمل في مأكول اللحم .

[الغلول قبل القسم لا يملك وإن كان دون الحق ]

ومنها : أن من أخذ من الغنيمة شيئا قبل قسمتها لم يملكه وإن كان دون حقه وأنه إنما يملكه بالقسمة ولهذا قال في صاحب الشملة التي غلها : إنها تشتعل عليه نارا وقال لصاحب الشراك الذي غله شراك من نار

ومنها : أن الإمام مخير في أرض العنوة بين قسمتها وتركها وقسم بعضها وترك بعضها .

[استحباب التفاؤل ]

ومنها : جواز التفاؤل بل استحبابه بما يراه أو يسمعه مما هو من أسباب ظهور الإسلام وإعلامه كما تفاءل النبي صلى الله عليه وسلم برؤية المساحي والفؤوس والمكاتل مع أهل خيبر فإن ذلك فأل في خرابها .

[جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغني عنهم ]

ومنها : جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغني عنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نقركم ما أقركم الله وقال لكبيرهم كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما وأجلاهم عمر بعد موته صلى الله عليه وسلم وهذا مذهب محمد بن جرير الطبري وهو قول قوي يسوغ العمل به إذا رأى الإمام فيه المصلحة .

ولا يقال أهل خيبر لم تكن لهم ذمة بل كانوا أهل هدنة فهذا كلام لا حاصل تحته فإنهم كانوا أهل ذمة قد أمنوا بها على دمائهم وأموالهم أمانا مستمرا نعم لم تكن الجزية قد شرعت ونزل فرضها وكانوا أهل ذمة بغير جزية فلما نزل فرض الجزية استؤنف ضربها على من يعقد له الذمة من أهل الكتاب والمجوس فلم يكن عدم أخذ الجزية منهم لكونهم ليسوا أهل ذمة بل لأنها لم تكن نزل فرضها بعد .

وأما كون العقد غير مؤبد فذاك لمدة إقرارهم في أرض خيبر لا لمدة حقن دمائهم ثم يستبيحها الإمام متى شاء فلهذا قال نقركم ما أقركم الله أو ما شئنا ولم يقل نحقن دماءكم ما شئنا وهكذا كان عقد الذمة لقريظة والنضير عقدا مشروطا بأن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ومتى فعلوا فلا ذمة لهم وكانوا أهل ذمة بلا جزية إذ لم يكن نزل فرضها إذ ذاك واستباح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي نسائهم وذراريهم وجعل نقض العهد ساريا في حق النساء والذرية وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب وهذا موجب هديه صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة بعد الجزية أيضا أن يسري نقض العهد في ذريتهم ونسائهم ولكن هذا إذا كان الناقضون طائفة لهم شوكة ومنعة أما إذا كان الناقض واحدا من طائفة لم يوافقه بقيتهم فهذا لا يسري النقض إلى زوجته وأولاده كما أن من أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم ممن كان يسبه لم يسب نساءهم وذريتهم فهذا هديه في هذا وهو الذي لا محيد عنه وبالله التوفيق .

[جواز جعل عتق الرجل أمته صداقا لها بغير إذنها وبلا شهود ولا ولي غيره ]

ومنها : جواز عتق الرجل أمته وجعل عتقها صداقا لها ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره ولا لفظ إنكاح ولا تزويج كما فعل صلى الله عليه وسلم بصفية ولم يقل قط هذا خاص بي ولا أشار إلى ذلك مع علمه باقتداء أمته به ولم يقل أحد من الصحابة إن هذا لا يصلح لغيره بل رووا القصة ونقلوها إلى الأمة ولم يمنعوهم ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاقتداء به في ذلك والله سبحانه لما خصه في النكاح بالموهوبة قال خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب 50 ] ; فلو كانت هذه خالصة له من دون أمته لكان هذا التخصيص أولى بالذكر لكثرة ذلك من السادات مع إمائهم بخلاف المرأة التي تهب نفسها للرجل لندرته وقلته أو مثله في الحاجة إلى البيان ولا سيما والأصل مشاركة الأمة له واقتداؤها به فكيف يسكت عن منع الاقتداء به في ذلك الموضع الذي لا يجوز مع قيام مقتضى الجواز هذا شبه المحال ولم تجتمع الأمة على عدم الاقتداء به في ذلك فيجب المصير إلى إجماعهم وبالله التوفيق .

والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك فإنه يملك رقبتها ومنفعة وطئها وخدمتها فله أن يسقط حقه من ملك الرقبة ويستبقي ملك المنفعة أو نوعا منها كما لو أعتق عبده وشرط عليه أن يخدمه ما عاش فإذا أخرج المالك رقبة ملكه واستثنى نوعا من منفعته لم يمنع من ذلك في عقد البيع فكيف يمنع منه في عقد النكاح ولما كانت منفعة البضع لا تستباح إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وكان إعتاقها يزيل ملك اليمين عنها كان من ضرورة استباحة هذه المنفعة جعلها زوجة وسيدها كان يلي نكاحها وبيعها ممن شاء بغير رضاها فاستثنى لنفسه ما كان يملكه منها ولما كان من ضرورته عقد النكاح ملكه لأن بقاء ملكه المستثنى لا يتم إلا به فهذا محض القياس الصحيح الموافق للسنة الصحيحة والله أعلم .

[جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ما لم يتضمن ضرر ذلك الغير ]

ومنها : جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب ولا سيما تكميل الفرح والسرور وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب فكان الكذب سببا في حصول هذه المصلحة الراجحة ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصم خلاف الحق ليتوصل بذلك إلى استعلام الحق كما أوهم سليمان بن داود إحدى المرأتين بشق الولد نصفين حتى توصل بذلك إلى معرفة عين الأم

ومنها : جواز بناء الرجل بامرأته في السفر وركوبها معه على دابة بين الجيش .

ومنها : أن من قتل غيره بسم يقتل مثله قتل به قصاصا كما قتلت اليهودية ببشر بن البراء .

ومنها : جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب وحل طعامهم .

[الاختلاف في موجب قتل اليهودية ]

ومنها : قبول هدية الكافر . فإن قيل فلعل المرأة قتلت لنقض العهد لحرابها بالسم لا قصاصا قيل لو كان قتلها لنقض العهد لقتلت من حين أقرت أنها سمت الشاة ولم يتوقف قتلها على موت الآكل منها .

فإن قيل فهلا قتلت بنقض العهد ؟ قيل هذا حجة من قال إن الإمام مخير في ناقض العهد كالأسير .

فإن قيل فأنتم توجبون قتله حتما كما هو منصوص أحمد وإنما القاضي أبو يعلى ومن تبعه قالوا : يخير الإمام فيه قيل إن كانت قصة الشاة قبل الصلح فلا حجة فيها وإن كانت بعد الصلح فقد اختلف في نقض العهد بقتل المسلم على قولين فمن لم ير النقض به فظاهر ومن رأى النقض به فهل يتحتم قتله أو يخير فيه أو يفصل بين بعض الأسباب الناقضة وبعضها فيتحتم قتله بسبب السبب ويخير فيه إذا نقضه بحرابه ولحوقه بدار الحرب وإن نقضه بسواهما كالقتل والزنى بالمسلمة والتجسس على المسلمين وإطلاع العدو على عوراتهم ؟ فالمنصوص تعين القتل وعلى هذا فهذه المرأة لما سمت الشاة صارت بذلك محاربة وكان قتلها مخيرا فيه فلما مات بعض المسلمين من السم قتلت حتما إما قصاصا وإما لنقض العهد بقتلها المسلم فهذا محتمل . والله أعلم .

[هل فتحت خيبر عنوة أم صلحا ؟ والأحكام المترتبة على ذلك ]
واختلف في فتح خيبر : هل كان عنوة أو كان بعضها صلحا وبعضها عنوة ؟

فروى أبو داود من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فأصبناها عنوة فجمع السبي

وقال ابن إسحاق : سألت ابن شهاب فأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال

وذكر أبو داود عن ابن شهاب : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال

قال ابن عبد البر : هذا هو الصحيح في أرض خيبر أنها كانت عنوة كلها مغلوبا عليها بخلاف فدك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم جميع أرضها على الغانمين لها الموجفين عليها بالخيل والركاب وهم أهل الحديبية ولم يختلف العلماء أن أرض خيبر مقسومة وإنما اختلفوا : هل تقسم الأرض إذا غنمت البلاد أو توقف ؟

فقال الكوفيون : الإمام مخير بين قسمتها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض خيبر ومن إيقافها كما فعل عمر بسواد العراق .

وقال الشافعي : تقسم الأرض كلها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر لأن الأرض غنيمة كسائر أموال الكفار .

وذهب مالك إلى إيقافها اتباعا لعمر لأن الأرض مخصوصة من سائر الغنيمة بما فعل عمر في جماعة من الصحابة من إيقافها لمن يأتي بعده من المسلمين وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر يقول لولا أن يترك آخر الناس لا شيء لهم ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانا كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر سهمانا

وهذا يدل على أن أرض خيبر قسمت كلها سهمانا كما قال ابن إسحاق .

وأما من قال إن خيبر كان بعضها صلحا وبعضها عنوة فقد وهم وغلط وإنما دخلت عليهم الشبهة بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما في حقن دمائهم فلما لم يكن أهل ذينك الحصنين من الرجال والنساء والذرية مغنومين ظن أن ذلك لصلح ولعمري إن ذلك في الرجال والنساء والذرية كضرب من الصلح ولكنهم لم يتركوا أرضهم إلا بالحصار والقتال فكان حكم أرضهما حكم سائر أرض خيبر كلها عنوة غنيمة مقسومة بين أهلها .

وربما شبه على من قال إن نصف خيبر صلح ونصفها عنوة بحديث يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خيبر نصفين : نصفا له ونصفا للمسلمين

قال أبو عمر : ولو صح هذا لكان معناه أن النصف له مع سائر من وقع في ذلك النصف معه لأنها قسمت على ستة وثلاثين سهما فوقع السهم للنبي صلى الله عليه وسلم وطائفة معه في ثمانية عشر سهما ووقع سائر الناس في باقيها وكلهم ممن شهد الحديبية ثم خيبر وليست الحصون التي أسلمها أهلها بعد الحصار والقتال صلحا ولو كانت صلحا لملكها أهلها كما يملك أهل الصلح أرضهم وسائر أموالهم فالحق في هذا ما قاله ابن إسحاق دون ما قاله موسى بن عقبة وغيره عن ابن شهاب هذا آخر كلام أبي عمر .

قلت : ذكر مالك عن ابن شهاب أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحا والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح . قال مالك : والكتيبة أرض خيبر وهو أربعون ألف عذق .

وقال مالك : عن الزهري عن ابن المسيب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح بعض خيبر عنوة



فصل في فقه هذه القصة
فيها : أن من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها .

[ السنن الرواتب تقضى ]

وفيها : أن السنن الرواتب تقضى كما تقضى الفرائض وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الفجر معها وقضى سنة الظهر وحدها وكان هديه صلى الله عليه وسلم قضاء السنن الرواتب مع الفرائض .

[ الفائتة يؤذن لها ويقام ]

وفيها : أن الفائتة يؤذن لها ويقام فإن في بعض طرق هذه القصة أنه أمر بلالا فنادى بالصلاة وفي بعضها فأمر بلالا فأذن وأقام ذكره أبو داود .

وفيها : قضاء الفائتة جماعة .

[ القضاء على الفور ]

وفيها : قضاؤها على الفور لقوله فليصلها إذا ذكرها وإنما أخرها عن مكان معرسهم قليلا لكونه مكانا فيه شيطان فارتحل منه إلى مكان خير منه وذلك لا يفوت المبادرة إلى القضاء فإنهم في شغل الصلاة وشأنها .

[ اجتناب الصلاة في أمكنة الشيطان ]

وفيها : تنبيه على اجتناب الصلاة في أمكنة الشيطان كالحمام والحش بطريق الأولى فإن هذه منازله التي يأوي إليها ويسكنها فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ترك المبادرة إلى الصلاة في ذلك الوادي وقال إن به شيطانا فما الظن بمأوى الشيطان وبيته .

فصل [ رد المهاجرين منائح الأنصار ]
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل فكانت أم سليم - وهي أم أنس بن مالك - أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا فأعطاهن أم أيمن مولاته وهي أم أسامة بن زيد فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سليم عذاقها وأعطى أم أيمن مكانهن من حائطه مكان كل عذق عشرة " .

فصل [السرايا بين مقدمه من خيبر إلى شوال ]
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد مقدمه من خيبر إلى شوال وبعث في خلال ذلك السرايا .

[سرية الصديق إلى بني فزارة ]
فمنها : " سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى نجد قبل بني فزارة ومعه سلمة بن الأكوع فوقع في سهمه جارية حسناء فاستوهبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفادى بها أسرى من المسلمين كانوا بمكة " .

[سرية عمر نحو هوازن ]
ومنها : سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاثين راكبا نحو هوازن فجاءهم الخبر فهربوا وجاءوا محالهم فلم يلق منهم أحدا فانصرف راجعا إلى المدينة فقال له الدليل هل لك في جمع من خثعم جاءوا سائرين وقد أجدبت بلادهم ؟ فقال عمر لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ولم يعرض لهم .

[سرية ابن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي ]
ومنها : سرية عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكبا فيهم عبد الله بن أنيس إلى يسير بن رزام اليهودي فإنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع غطفان ليغزوه بهم فأتوه بخيبر فقالوا : أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خيبر فلم يزالوا - حتى تبعهم في ثلاثين رجلا مع كل رجل منهم رديف من المسلمين فلما بلغوا قرقرة نيار - وهي من خيبر على ستة أميال - ندم يسير فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس ففطن له عبد الله بن أنيس فزجر بعيره ثم اقتحم عن البعير يسوق القوم حتى إذا استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها واقتحم يسير وفي يده مخرش من شوحط فضرب به وجه عبد الله فشجه مأمومة فانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله غير رجل من اليهود أعجزهم شدا ولم يصب من المسلمين أحد وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في شجة عبد الله بن أنيس فلم تقح ولم تؤذه حتى مات .

[سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بفدك ]
ومنها : سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بفدك في ثلاثين رجلا فخرج إليهم فلقي رعاء الشاء فاستاق الشاء والنعم ورجع إلى المدينة فأدركه الطلب عند الليل فباتوا يرمونهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه فولى منهم من ولى وأصيب منهم من أصيب وقاتل بشير قتالا شديدا ورجع القوم بنعمهم وشائهم وتحامل بشير حتى انتهى إلى فدك فأقام عند يهود حتى برئت جراحه فرجع إلى المدينة .

[سرية أسامة إلى الحرقة من جهينة ]
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقة من جهينة وفيهم أسامة بن زيد فلما دنا منهم بعث الأمير الطلائع فلما رجعوا بخبرهم أقبل حتى إذا دنا منهم ليلا وقد احتلبوا وهدءوا قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا أمري فإنه لا رأي لمن لا يطاع ثم رتبهم وقال يا فلان أنت وفلان ويا فلان أنت وفلان لا يفارق كل منكما صاحبه وزميله وإياكم أن يرجع أحد منكم فأقول أين صاحبك ؟ فيقول لا أدري فإذا كبرت فكبروا وجردوا السيوف ثم كبروا وحملوا حملة واحدة وأحاطوا بالقوم وأخذتهم سيوف الله فهم يضعونها منهم حيث شاءوا وشعارهم أمت أمت

[قتل أسامة رجلا قال لا إله إلا الله عندما لحمه بالسيف ]

وخرج أسامة في أثر رجل منهم يقال له مرداس بن نهيك فلما دنا منه ولحمه بالسيف قال لا إله إلا الله فقتله ثم استاقوا الشاء والنعم والذرية وكانت سهمانهم عشرة أبعرة لكل رجل أو عدلها من النعم فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بما صنع أسامة فكبر ذلك عليه وقال أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ فقال إنما قالها متعوذا قال فهلا شققت عن قلبه " ثم قال من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فما زال يكرر ذلك عليه حتى تمنى أن يكون أسلم يومئذ وقال يا رسول الله أعطي الله عهدا ألا أقتل رجلا يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدي فقال أسامة بعدك



فصل [سرية غالب الكلبي إلى بني الملوح ]
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني الملوح بالكديد وأمره أن يغير عليهم . قال ابن إسحاق : فحدثني يعقوب بن عتبة عن مسلم بن عبد الله الجهني عن جندب بن مكيث الجهني قال كنت في سريته فمضينا حتى إذا كنا بقديد لقينا به الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال إنما جئت لأسلم فقال له غالب بن عبد الله إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضرك رباط يوم وليلة وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك فأوثقه رباطا وخلف عليه رويجلا أسود وقال له امكث معه حتى نمر عليك فإذا عازك فاحتز رأسه فمضينا حتى أتينا بطن الكديد فنزلناه عشية بعد العصر فبعثني أصحابي إليه فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه وذلك قبل غروب الشمس فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته إني لأرى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك فنظرت فقالت لا والله لا أفقد شيئا . قال فناوليني قوسي وسهمين من نبلي فناولته فرماني بسهم فوضعه في جنبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك فقال لامرأته أما والله لقد خالطه سهامي ولو كان ربيئة لتحرك فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما الكلاب علي قال فأمهلناهم حتى إذا راحت روائحهم واحتلبوا وسكنوا وذهبت عتمة الليل شننا عليهم الغارة فقتلنا من قتلنا واستقنا النعم فوجهنا قافلين به وخرج صريخهم إلى قومهم وخرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك وصاحبه فانطلقنا به معنا وأتانا صريخ الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد أرسل الله عز وجل من حيث شاء سيلا لا والله ما رأينا قبل ذلك مطرا فجاء بما لا يقدر أحد يقدم علي فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه ونحن نحدوها فذهبنا سراعا حتى أسندناها في المشلل ثم حدرناها عنه فأعجزنا القوم بما في أيدينا .

وقد قيل إن هذه السرية هي السرية التي قبلها . والله أعلم .

فصل [سرية بشير بن سعد إلى جمع يمن وغطفان وحيان ]
ثم قدم حسيل بن نويرة وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ما وراءك ؟ " قال تركت جمعا من يمن وغطفان وحيان وقد بعث إليهم عيينة إما أن تسيروا إلينا وإما أن نسير إليكم فأرسلوا إليه أن سر إلينا وهم يريدونك أو بعض أطرافك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فذكر لهما ذلك فقالا جميعا : ابعث بشير بن سعد فعقد له لواء وبعث معه ثلاثمائة رجل وأمرهم أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار وخرج معهم حسيل دليلا فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا أسفل خيبر حتى دنوا من القوم فأغاروا على سرحهم وبلغ الخبر جمعهم فتفرقوا فخرج بشير في أصحابه حتى أتى محالهم فيجدها ليس بها أحد فرجع بالنعم فلما كانوا بسلاح لقوا عينا لعيينة فقتلوه ثم لقوا جمع عيينة وعيينة لا يشعر بهم فناوشوهم ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابوا منهم رجلين فقدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما فأرسلهما .

وقال الحارث بن عوف لعيينة وقد لقيه منهزما تعدو به فرسه قف . قال لا أقدر خلفي الطلب فقال له الحارث أما آن لك أن تبصر بعض ما أنت عليه وأن محمدا قد وطئ البلاد وأنت توضع في غير شيء ؟ قال الحارث فأقمت من حين زالت الشمس إلى الليل وما أرى أحدا ولا طلبوه إلا الرعب الذي دخله .

فصل [سرية ابن أبي حدرد ]
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي حدرد الأسلمي في سرية وكان من قصته ما ذكر ابن إسحاق أن رجلا من جشم بن معاوية يقال له قيس بن رفاعة أو رفاعة بن قيس أقبل في عدد كثير حتى نزلوا بالغابة يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذا اسم وشرف في جشم قال فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين فقال اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم فقدم إلينا شارفا عجفاء فحمل عليها أحدنا فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت وقال تبلغوا على هذه فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس فكمنت في ناحية وأمرت صاحبي فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم قلت لهما : إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في ناحية العسكر فكبرا وشدا معي فوالله إنا كذلك ننتظر أن نرى غرة أو نرى شيئا وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه فقام صاحبهم رفاعة بن قيس فأخذ سيفه فجعله في عنقه وقال والله لأتبعن أثر راعينا هذا والله لقد أصابه شر فقال نفر ممن معه والله لا تذهب نحن نكفيك فقال والله لا يذهب إلا أنا . قالوا : فنحن معك وقال والله لا يتبعني منكم أحد وخرج حتى يمر بي فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم فوثبت إليه فاحتززت رأسه ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباي فكبرا فوالله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه أحمله معي فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيرا في صداقي فجمعت إلي أهلي وكنت قد تزوجت امرأة من قومي فأصدقتها مائتي درهم فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي فقال والله ما عندي ما أعينك فلبثت أياما ثم ذكر هذه السرية .

فصل [سرية إلى إضم وقتل عامر بن الأضبط الأشجعي من قبل محلم بن جثامة بعد سلامه عليهم بتحية الإسلام ]
وبعث سرية إلى إضم وكان فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة في نفر من المسلمين فمر بهم عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع له ووطب من لبن فسلم عليهم بتحية الإسلام فأمسكوا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتيعه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فنزل فيهم القرآن يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا [ النساء : 94 ] فلما قدموا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلته بعدما قال آمنت بالله ؟ ولما كان عام خيبر جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي وهو سيد قيس وكان الأقرع بن حابس يرد عن محلم وهو سيد خندف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم عامر هل لكم أن تأخذوا الآن منا خمسين بعيرا وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ فقال عيينة بن بدر : والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحرقة مثل ما أذاق نسائي فلم يزل به حتى رضوا بالدية فجاءوا بمحلم حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام بين يديه قال اللهم لا تغفر لمحلم وقالها ثلاثا فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه

قال ابن إسحاق : وزعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك . قال ابن إسحاق : وحدثني سالم أبو النضر قال لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم فقال يا معشر قيس سألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه . أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب الله عليكم لغضبه أو يلعنكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلعنكم الله بلعنته والله لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل ما صلى قط فلأطلن دمه فلما قال ذلك أخذوا الدية .

فصل في سرية عبد الله بن حذافة السهمي
ثبت في " الصحيحين " من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال نزل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء 59 ] في عبد الله بن حذافة السهمي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية .

[ أمر ابن حذافة من معه دخول النار ]

وثبت في " الصحيحين " أيضا من حديث الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال فأغضبوه في شيء فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى قال فادخلوها قال فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف وهذا هو عبد الله بن حذافة السهمي .

[معنى قوله صلى الله عليه وسلم لو دخلوها ما خرجوا منها ]

فإن قيل فلو دخلوها دخلوها طاعة لله ورسوله في ظنهم فكانوا متأولين مخطئين فكيف يخلدون فيها ؟ قيل لما كان إلقاء نفوسهم في النار معصية يكونون بها قاتلي أنفسهم فهموا بالمبادرة إليها من غير اجتهاد منهم هل هو طاعة وقربة أو معصية ؟ كانوا مقدمين على ما هو محرم عليهم ولا تسوغ طاعة ولي الأمر فيه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فكانت طاعة من أمرهم بدخول النار معصية لله ورسوله فكانت هذه الطاعة هي سبب العقوبة لأنها نفس المعصية فلو دخلوها لكانوا عصاة لله ورسوله وإن كانوا مطيعين لولي الأمر فلم تدفع طاعتهم لولي الأمر معصيتهم لله ورسوله لأنهم قد علموا أن من قتل نفسه فهو مستحق للوعيد والله قد نهاهم عن قتل أنفسهم فليس لهم أن يقدموا على هذا النهي طاعة لمن لا تجب طاعته إلا في المعروف .

فإذا كان هذا حكم من عذب نفسه طاعة لولي الأمر فكيف من عذب مسلما لا يجوز تعذيبه طاعة لولي الأمر .

وأيضا فإذا كان الصحابة المذكورون لو دخلوها لما خرجوا منها مع قصدهم طاعة الله ورسوله بذلك الدخول فكيف بمن حمله على ما لا يجوز من الطاعة الرغبة والرهبة الدنيوية .

وإذا كان هؤلاء لو دخلوها لما خرجوا منها مع كونهم قصدوا طاعة الأمير وظنوا أن ذلك طاعة لله ورسوله فكيف بمن دخلها من هؤلاء الملبسين إخوان الشياطين وأوهموا الجهال أن ذلك ميراث من إبراهيم الخليل وأن النار قد تصير عليهم بردا وسلاما كما صارت على إبراهيم وخيار هؤلاء ملبوس عليه يظن أنه دخلها بحال رحماني وإنما دخلها بحال شيطاني فإذا كان لا يعلم بذلك فهو ملبوس عليه وإن كان يعلم به فهو ملبس على الناس يوهمهم أنه من أولياء الرحمن وهو من أولياء الشيطان وأكثرهم يدخلها بحال بهتاني وتحيل إنساني فهم في دخولها في الدنيا ثلاثة أصناف ملبوس عليه وملبس ومتحيل ونار الآخرة أشد عذابا وأبقى .



فصل في عمرة القضية
قال نافع كانت في ذي القعدة سنة سبع وقال سليمان التيمي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر بعث السرايا وأقام بالمدينة حتى استهل ذو القعدة ثم نادى في الناس بالخروج .

قال موسى بن عقبة : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل من عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع وهو الشهر الذي صده فيه المشركون عن المسجد الحرام حتى إذا بلغ يأجج وضع الأداة كلها الحجف والمجان والنبل والرماح ودخلوا بسلاح الراكب السيوف وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حزن العامرية فخطبها إليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب وكانت أختها أم الفضل تحته فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه فقال اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدهم وقوتهم .

وكان يكايدهم بكل ما استطاع فوقف أهل مكة : الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز متوشحا بالسيف يقول


خلوا بني الكفار عن سبيله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله

يا رب إني مؤمن بقيله

إني رأيت الحق في قبوله

اليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله


وتغيب رجال من المشركين كراهية أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنقا وغيظا فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا فلما أصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة فصاح حويطب نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث فقال سعد بن عبادة : كذبت لا أم لك ليست بأرضك ولا أرض آبائك والله لا نخرج ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم حويطبا أو سهيلا فقال إني قد نكحت منكم امرأة فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونضع الطعام فنأكل وتأكلون معنا فقالوا : نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بطن سرف فأقام بها وخلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمسي فأقام حتى قدمت ميمونة ومن معها وقد لقوا أذى وعناء من سفهاء المشركين وصبيانهم بناؤه صلى الله عليه وسلم بميمونة بسرف فبنى بها بسرف ثم أدلج وسار حتى قدم المدينة وقدر الله أن يكون قبر ميمونة بسرف حيث بنى بها .

[فصل بيان خطإ من قال تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم ]
وأما قول ابن عباس : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال فمما استدرك عليه وعد من وهمه قال سعيد بن المسيب : ووهم ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل ذكره البخاري .

وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف رواه مسلم .

وقال أبو رافع تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما صح ذلك عنه . وقال سعيد بن المسيب : هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم وإنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وكان الحل والنكاح جميعا فشبه ذلك على الناس .

وقد قيل إنه تزوجها قبل أن يحرم وفي هذا نظر إلا أن يكون وكل في العقد عليها قبل إحرامه وأظن الشافعي ذكر ذلك قولا فالأقوال ثلاثة . أحدها : أنه تزوجها بعد حله من العمرة وهو قول ميمونة نفسها وقول السفير بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو رافع وقول سعيد بن المسيب وجمهور أهل النقل .

والثاني : أنه تزوجها وهو محرم وهو قول ابن عباس وأهل الكوفة وجماعة .

والثالث أنه تزوجها قبل أن يحرم .

وقد حمل قول ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم على أنه تزوجها في الشهر الحرام لا في حال الإحرام قالوا : ويقال أحرم الرجل إذا عقد الإحرام وأحرم إذا دخل في الشهر الحرام وإن كان حلالا بدليل قول الشاعر


قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

ورعا فلم أر مثله مقتولا


وإنما قتلوه في المدينة حلالا في الشهر الحرام .

وقد روى مسلم في " صحيحه " من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب

ولو قدر تعارض القول والفعل ها هنا لوجب تقديم القول لأن الفعل موافق للبراءة الأصلية والقول ناقل عنها فيكون رافعا لحكم البراءة الأصلية وهذا موافق لقاعدة الأحكام ولو قدم الفعل لكان رافعا لموجب القول والقول رافع لموجب البراءة الأصلية فيلزم تغيير الحكم مرتين وهو خلاف قاعدة الأحكام والله أعلم .



فصل [ اختلاف علي وزيد وجعفر في حضانة بنت حمزة ]
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي : يا عم يا عم فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك فحملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر فقال علي أنا أخذتها وهي ابنة عمي وقال جعفر ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها : وقال الخالة بمنزلة الأم وقال لعلي أنت مني وأنا منك وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي وقال لزيد أنت أخونا ومولانا متفق على صحته .

[الفقه المستنبط من هذه القصة الخالة مقدمة في الحضانة ]

وفي هذه القصة من الفقه أن الخالة مقدمة في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين .

[ تزوج الحاضنة بقريب من الطفل لا يسقط حضانتها ]

وأن تزوج الحاضنة بقريب من الطفل لا يسقط حضانتها . نص أحمد رحمه الله تعالى في رواية عنه على أن تزويجها لا يسقط حضانتها في الجارية خاصة واحتج بقصة بنت حمزة هذه ولما كان ابن العم ليس محرما لم يفرق بينه وبين الأجنبي في ذلك وقال تزوج الحاضنة لا يسقط حضانتها للجارية وقال الحسن البصري : لا يكون تزوجها مسقطا لحضانتها بحال ذكرا كان الولد أو أنثى .

[ الاختلاف في سقوط الحضانة بالنكاح ]

وقد اختلف في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال .

أحدها : تسقط به ذكرا كان أو أنثى وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه . والثاني : لا تسقط بحال وهو قول الحسن وابن حزم . والثالث إن كان الطفل بنتا لم تسقط الحضانة وإن كان ذكرا سقطت وهذه رواية عن أحمد رحمه الله تعالى وقال في رواية مهنا : إذا تزوجت الأم وابنها صغير أخذ منها قيل له والجارية مثل الصبي ؟ قال لا الجارية تكون معها إلى سبع سنين وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى عنه أنها أحق بالبنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ .

والرابع أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها وإن تزوجت بأجنبي سقطت ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال أحدها : أنه يكفي كونه نسيبا فقط محرما كان أو غير محرم وهذا ظاهر كلام أصحاب أحمد وإطلاقهم .

الثاني : أنه يشترط كونه مع ذلك ذا رحم محرم وهو قول الحنفية .

الثالث أنه يشترط مع ذلك أن يكون بينه وبين الطفل ولادة بأن يكون جدا للطفل وهذا قول بعض أصحاب أحمد ومالك والشافعي .

[ الاختلاف في تقديم الخالة على العمة ]

وفي القصة حجة لمن قدم الخالة على العمة وقرابة الأم على قرابة الأب فإنه قضى بها لخالتها وقد كانت صفية عمتها موجودة إذ ذاك وهذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه .

[ حجة من قدم العمة على الخالة ]

وعنه رواية ثانية أن العمة مقدمة على الخالة - وهي اختيار شيخنا - وكذلك نساء الأب يقدمن على نساء الأم لأن الولاية على الطفل في الأصل للأب وإنما قدمت عليه الأم لمصلحة الطفل وكمال تربيته وشفقتها وحنوها والإناث أقوم بذلك من الرجال فإذا صار الأمر إلى النساء فقط أو الرجال فقط كانت قرابة الأب أولى من قرابة الأم كما يكون الأب أولى من كل ذكر سواه وهذا قوي جدا .

ويجاب عن تقديم خالة ابنة حمزة على عمتها بأن العمة لم تطلب الحضانة والحضانة حق لها يقضى لها به بطلبه بخلاف الخالة فإن جعفرا كان نائبا عنها في طلب الحضانة ولهذا قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لها في غيبتها . وأيضا فكما أن لقرابة الطفل أن يمنع الحاضنة من حضانة الطفل إذا تزوجت فللزوج أن يمنعها من أخذه وتفرغها له فإذا رضي الزوج بأخذه حيث لا تسقط حضانتها لقرابته أو لكون الطفل أنثى على رواية مكنت من أخذه وإن لم يرض فالحق له والزوج ها هنا قد رضي وخاصم في القصة وصفية لم يكن منها طلب .

وأيضا فابن العم له حضانة الجارية التي لا تشتهى في أحد الوجهين بل وإن كانت تشتهى فله حضانتها أيضا وتسلم إلى امرأة ثقة يختارها هو أو إلى محرمه وهذا هو المختار لأنه قريب من عصباتها وهو أولى من الأجانب والحاكم وهذه إن كانت طفلة فلا إشكال وإن كانت ممن يشتهى فقد سلمت إلى خالتها فهي وزوجها من أهل الحضانة والله أعلم .

[معنى قول زيد ابنة أخي وبيان أنه صلى الله عليه وسلم واخى بين المهاجرين قبل الهجرة مرة وبينهم وبين الأنصار في المرة الثانية]

وقول زيد ابنة أخي يريد الإخاء الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة لما واخى بين المهاجرين فإنه واخى بين أصحابه مرتين فواخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض قبل الهجرة على الحق والمواساة وآخى بين أبي بكر وعمر وبين حمزة وزيد بن حارثة وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف وبين الزبير وابن مسعود وبين عبيدة بن الحارث وبلال وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله .

والمرة الثانية آخى بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك بعد مقدمه المدينة .

فصل [ الاختلاف في تسميتها بعمرة القضاء هل من القضاء أو من المقاضاة ]
واختلف في تسمية هذه العمرة بعمرة القضاء هل هو لكونها قضاء للعمرة التي صدوا عنها أو من المقاضاة ؟ على قولين تقدما قال الواقدي : حدثني عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن كان شرطا على المسلمين أن يعتمروا في الشهر الذي حاصرهم فيه المشركون .

[ اختلاف الفقهاء فيما يترتب على من أحصر عن العمرة وبيان حججهم ]

واختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال أحدها : أن من أحصر عن العمرة يلزمه الهدي والقضاء وهذا إحدى الروايات عن أحمد بل أشهرها عنه .

والثاني : لا قضاء عليه وعليه الهدي وهو قول الشافعي ومالك في ظاهر مذهبه ورواية أبي طالب عن أحمد .

والثالث يلزمه القضاء ولا هدي عليه وهو قول أبي حنيفة .

والرابع لا قضاء عليه ولا هدي وهو إحدى الروايات عن أحمد . فمن أوجب عليه القضاء والهدي احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا الهدي حين صدوا عن البيت ثم قضوا من قابل قالوا : والعمرة تلزم بالشروع فيها ولا يسقط الوجوب إلا بفعلها ونحر الهدي لأجل التحلل قبل تمامها وقالوا : وظاهر الآية يوجب الهدي لقوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ البقرة 196 ] .

ومن لم يوجبهما قالوا : لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذين أحصروا معه بالقضاء ولا أحدا منهم ولا وقف الحل على نحرهم الهدي بل أمرهم أن يحلقوا رءوسهم وأمر من كان معه هدي أن ينحر هديه .

ومن أوجب الهدي دون القضاء احتج بقوله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي

ومن أوجب القضاء دون الهدي احتج بأن العمرة تلزم بالشروع فإذا أحصر جاز له تأخيرها لعذر الإحصار فإذا زال الحصر أتى بها بالوجوب السابق ولا يوجب تخلل التحلل بين الإحرام بها أولا وبين فعلها في وقت الإمكان شيئا وظاهر القرآن يرد هذا القول ويوجب الهدي دون القضاء لأنه جعل الهدي هو جميع ما على المحصر فدل على أنه يكتفى به منه . والله أعلم .



فصل [ الاختلاف في وقت النحر للمحصر ]
وفي نحره صلى الله عليه وسلم لما أحصر بالحديبية دليل على أن المحصر ينحر هديه وقت حصره وهذا لا خلاف فيه إذا كان محرما بعمرة وإن كان مفردا أو قارنا ففيه قولان أحدهما : أن الأمر كذلك وهو الصحيح لأنه أحد النسكين فجاز الحل منه ونحر هديه وقت حصره كالعمرة لأن العمرة لا تفوت وجميع الزمان وقت لها فإذا جاز الحل منها ونحر هديها من غير خشية فواتها فالحج الذي يخشى فواته أولى وقد قال أحمد في رواية حنبل إنه لا يحل ولا ينحر الهدي إلى يوم النحر ووجه هذا أن للهدي محل زمان ومحل مكان فإذا عجز عن محل المكان لم يسقط عنه محل الزمان لتمكنه من الإتيان بالواجب في محله الزماني وعلى هذا القول لا يجوز له التحلل قبل يوم النحر لقوله ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ البقرة 196 ] .

فصل [ هل يتحلل المحصر بعمرة ]
وفي نحره صلى الله عليه وسلم وحله دليل على أن المحصر بالعمرة يتحلل وهذا قول الجمهور . وقد روي عن مالك رحمه الله أن المعتمر لا يتحلل لأنه لا يخاف الفوت وهذا تبعد صحته عن مالك رحمه الله لأن الآية إنما نزلت في الحديبية وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كلهم محرمين بعمرة وحلوا كلهم وهذا مما لا يشك فيه أحد من أهل العلم .

فصل [ هل ينحر المحصر هديه حيث أحصر من حل أو حرم ؟ ]
وفي ذبحه صلى الله عليه وسلم بالحديبية وهي من الحل بالاتفاق دليل على أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من حل أو حرم وهذا قول الجمهور وأحمد ومالك والشافعي .

وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه ليس له نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه إلى الحرم ويواطئ رجلا على أن ينحره في وقت يتحلل فيه وهذا يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه وجماعة من التابعين وهو قول أبي حنيفة .

وهذا إن صح عنهم فينبغي حمله على الحصر الخاص وهو أن يتعرض ظالم لجماعة أو لواحد وأما الحصر العام فالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على خلافه والحديبية من الحل باتفاق الناس وقد قال الشافعي : بعضها من الحل وبعضها من الحرم قلت : ومراده أن أطرافها من الحرم وإلا فهي من الحل باتفاقهم .

وقد اختلف أصحاب أحمد رحمه الله في المحصر إذا قدر على أطراف الحرم هل يلزمه أن ينحر فيه ؟ فيه وجهان لهم . والصحيح أنه لا يلزمه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه مع قدرته على أطراف الحرم وقد أخبر الله سبحانه أن الهدي كان محبوسا عن بلوغ محله ونصب الهدي بوقوع فعل الصد عليه أي صدوكم عن المسجد الحرام وصدوا الهدي عن بلوغ محله ومعلوم أن صدهم وصد الهدي استمر ذلك العام ولم يزل فلم يصلوا فيه إلى محل إحرامهم ولم يصل الهدي إلى محل نحره والله أعلم .



فصل في غزوة مؤتة
وهي بأدنى البلقاء من أرض الشام وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بصرى فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر فبعث البعوث واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال إن أصيب فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة

فتجهز الناس وهم ثلاثة آلاف فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم فبكى عبد الله بن رواحة فقالوا : ما يبكيك ؟ فقال أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [ مريم : 71 ] فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ فقال المسلمون صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين فقال عبد الله بن رواحة :

لكنني أسأل الرحمن مغفرة

وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حران مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي

يا أرشد الله من غاز وقد رشدا


ثم مضوا حتى نزلوا معان فبلغ الناس أن هرقل بالبلقاء في مائة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال يا قوم والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا به الله فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظفر وإما شهادة .

فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم الجموع بقرية يقال لها : مشارف فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى مؤتة فالتقى الناس عندها فتعبى المسلمون ثم اقتتلوا والراية في يد زيد بن حارثة فلم يزل يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخر صريعا وأخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها ثم قاتل حتى قتل فكان جعفر أول من عقر فرسه في الإسلام عند القتال فقطعت يمينه فأخذ الراية بيساره . فقطعت يساره فاحتضن الراية حتى قتل وله ثلاث وثلاثون سنة ثم أخذها عبد الله بن رواحة وتقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال شد بها صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت فأخذها من يده فانتهس منها نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني عجلان فقال يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم قالوا : أنت قال ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فلما أخذ الراية دافع القوم وحاش بهم ثم انحاز بالمسلمين وانصرف بالناس .

[ من المنتصر ؟ ]

وقد ذكر ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين . والذي في " صحيح البخاري " أن الهزيمة كانت على الروم . والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أن كل فئة انحازت عن الأخرى .

[ إطلاع الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر أصحابه ]

[ إخباره صلى الله عليه وسلم عن دخول الأمراء الثلاثة الجنة ]

وأطلع الله سبحانه على ذلك رسوله من يومهم ذلك فأخبر به أصحابه وقال

لقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير صاحبيه " فقلت : " عم هذا ؟ " فقيل لي : مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى .

وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن جدعان عن ابن المسيب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل لي جعفر وزيد وابن رواحة في خيمة من در كل واحد منهم على سرير فرأيت زيدا وابن رواحة في أعناقهما صدود ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود قال فسألت أو قيل لي : إنهما حين غشيهما الموت أعرضا أو كأنهما صدا بوجوههما وأما جعفر فإنه لم يفعل

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جعفر إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء

[ جراحات جعفر ]

قال أبو عمر وروينا عن ابن عمر أنه قال وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح

[ إخباره صلى الله عليه وسلم رسول مؤتة عما حدث فيها ]

وقال موسى بن عقبة : قدم يعلى بن منية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك قال أخبرني يا رسول الله فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفهم له فقال والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم

[ شهداء مؤتة ]

واستشهد يومئذ جعفر وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ومسعود بن الأوس ووهب بن سعد بن أبي سرح وعباد بن قيس وحارثة بن النعمان وسراقة بن عمرو بن عطية وأبو كليب وجابر ابنا عمرو بن زيد وعامر وعمرو ابنا سعيد بن الحارث وغيرهم .

[ إنشاد ابن رواحة ]

قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد

إذا أدنيتني وحملت رحلي

مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك فانعمي وخلاك ذم

ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وغادروني

بأرض الشام مستنهى الثواء



فصل [ وهم في الترمذي بإنشاد ابن رواحة يوم الفتح ]

وقد وقع في الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعبد الله بن رواحة بين يديه ينشد .

خلوا بني الكفار عن سبيله


الأبيات . وهذا وهم فإن ابن رواحة قتل في هذه الغزوة وهي قبل الفتح بأربعة أشهر وإنما كان ينشد بين يديه شعر ابن رواحة وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل النقل .



فصل في غزوة ذات السلاسل
وهي وراء وادي القرى بضم السين الأولى وفتحها لغتان وبينها وبين المدينة عشرة أيام وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان .

قال ابن سعد : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف المدينة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا وأمره أن يستعين بمن مر به من بلي وعذرة وبلقين فسار الليل وكمن النهار فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين وعقد له لواء وبعث له سراة المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا جميعا ولا يختلفا فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو : إنما قدمت علي مددا وأنا الأمير فأطاعه أبو عبيدة فكان عمرو يصلي بالناس وسار حتى وطئ بلاد قضاعة فدوخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم . ولقي في آخر ذلك جمعا فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم .

وذكر ابن إسحاق نزولهم على ماء لجذام يقال له السلسل قال وبذلك سميت ذات السلاسل .

قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عامر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش ذات السلاسل فاستعمل أبا عبيدة على المهاجرين واستعمل عمرو بن العاص على الأعراب وقال لهما : " تطاوعا " قال وكانوا أمروا أن يغيروا على بكر فانطلق عمرو وأغار على قضاعة لأن بكرا أخواله قال فانطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك علينا وإن ابن فلان قد اتبع أمر القوم فليس لك معه أمر فقال أبو عبيدة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتطاوع فأنا أطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عصاه عمرو .

فصل [ قصة تيمم ابن العاص من الجنابة ]
وفي هذه الغزوة احتلم أمير الجيش عمرو بن العاص وكانت ليلة باردة فخاف على نفسه من الماء فتيمم وصلى بأصحابه الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " . فأخبره بالذي منعه من الاغتسال وقال إني سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء 29 ] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا وقد احتج بهذه القصة من قال إن التيمم لا يرفع الحدث لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جنبا بعد تيممه وأجاب من نازعهم في ذلك بثلاثة أجوبة

أحدها : أن الصحابة لما شكوه قالوا : صلى بنا الصبح وهو جنب فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ استفهاما واستعلاما فلما أخبره بعذره وأنه تيمم للحاجة أقره على ذلك .

الثاني : أن الرواية اختلفت عنه فروي عنه فيها أنه غسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم ولم يذكر التيمم وكأن هذه الرواية أقوى من رواية التيمم قال عبد الحق وقد ذكرها وذكر رواية التيمم قبلها ثم قال وهذا أوصل من الأول لأنه عن عبد الرحمن بن جبير المصري عن أبي القيس مولى عمرو عن عمرو . والأولى التي فيها التيمم من رواية عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص لم يذكر بينهما أبا قيس .

الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستعلم فقه عمرو في تركه الاغتسال فقال له صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فلما أخبره أنه تيمم للحاجة علم فقهه فلم ينكر عليه ويدل عليه أن ما فعله عمرو من التيمم - والله أعلم - خشية الهلاك بالبرد كما أخبر به والصلاة بالتيمم في هذه الحال جائزة غير منكر على فاعلها فعلم أنه أراد استعلام فقهه وعلمه . والله أعلم .



فصل في سرية الخبط
وكان أميرها أبا عبيدة بن الجراح وكانت في رجب سنة ثمان فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيد الناس في كتاب " عيون الأثر " له وهو عندي وهم كما سنذكره إن شاء الله تعالى .

قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار وفيهم عمر بن الخطاب إلى حي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وبينها وبين المدينة خمس ليال فأصابهم في الطريق جوع شديد فأكلوا الخبط وألقى إليهم البحر حوتا عظيما فأكلوا منه ثم انصرفوا ولم يلقوا كيدا وفي هذا نظر فإن في " الصحيحين " من حديث جابر قال " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمي جيش الخبط فنحر رجل ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه فألقى إلينا البحر دابة يقال لها : العنبر فأكلنا منها نصف شهر وادهنا من ودكها حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل فحمل عليه ومر تحته وتزودنا من لحمه وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا ؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل .

[ ترجيح المصنف أنها قبل عمرة الحديبية وليست سنة ثمان ]

قلت وهذا السياق يدل على أن هذه الغزوة كانت قبل الهدنة وقبل عمرة الحديبية فإنه من حين صالح أهل مكة بالحديبية لم يكن يرصد لهم عيرا بل كان زمن أمن وهدنة إلى حين الفتح ويبعد أن تكون سرية الخبط على هذا الوجه مرتين مرة قبل الصلح ومرة بعده والله أعلم .



فصل في سرية الخبط
وكان أميرها أبا عبيدة بن الجراح وكانت في رجب سنة ثمان فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيد الناس في كتاب " عيون الأثر " له وهو عندي وهم كما سنذكره إن شاء الله تعالى .

قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار وفيهم عمر بن الخطاب إلى حي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وبينها وبين المدينة خمس ليال فأصابهم في الطريق جوع شديد فأكلوا الخبط وألقى إليهم البحر حوتا عظيما فأكلوا منه ثم انصرفوا ولم يلقوا كيدا وفي هذا نظر فإن في " الصحيحين " من حديث جابر قال " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمي جيش الخبط فنحر رجل ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه فألقى إلينا البحر دابة يقال لها : العنبر فأكلنا منها نصف شهر وادهنا من ودكها حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل فحمل عليه ومر تحته وتزودنا من لحمه وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا ؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل .

[ ترجيح المصنف أنها قبل عمرة الحديبية وليست سنة ثمان ]

قلت وهذا السياق يدل على أن هذه الغزوة كانت قبل الهدنة وقبل عمرة الحديبية فإنه من حين صالح أهل مكة بالحديبية لم يكن يرصد لهم عيرا بل كان زمن أمن وهدنة إلى حين الفتح ويبعد أن تكون سرية الخبط على هذا الوجه مرتين مرة قبل الصلح ومرة بعده والله أعلم .


افتراضي

فصل في سرية الخبط
وكان أميرها أبا عبيدة بن الجراح وكانت في رجب سنة ثمان فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيد الناس في كتاب " عيون الأثر " له وهو عندي وهم كما سنذكره إن شاء الله تعالى .

قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار وفيهم عمر بن الخطاب إلى حي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وبينها وبين المدينة خمس ليال فأصابهم في الطريق جوع شديد فأكلوا الخبط وألقى إليهم البحر حوتا عظيما فأكلوا منه ثم انصرفوا ولم يلقوا كيدا وفي هذا نظر فإن في " الصحيحين " من حديث جابر قال " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمي جيش الخبط فنحر رجل ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه فألقى إلينا البحر دابة يقال لها : العنبر فأكلنا منها نصف شهر وادهنا من ودكها حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل فحمل عليه ومر تحته وتزودنا من لحمه وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا ؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل .

[ ترجيح المصنف أنها قبل عمرة الحديبية وليست سنة ثمان ]

قلت وهذا السياق يدل على أن هذه الغزوة كانت قبل الهدنة وقبل عمرة الحديبية فإنه من حين صالح أهل مكة بالحديبية لم يكن يرصد لهم عيرا بل كان زمن أمن وهدنة إلى حين الفتح ويبعد أن تكون سرية الخبط على هذا الوجه مرتين مرة قبل الصلح ومرة بعده والله أعلم .

يتبع ........

اخت مسلمة
04-09-2009, 08:41 PM
افتراضي

فصل في فقه هذه القصة

لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام
ولا أغار فيه ولا بعث فيه

سرية ففيها جواز القتال في الشهر الحرام إن كان ذكر التاريخ فيها برجب محفوظا والظاهر - والله أعلم - أنه وهم غير محفوظ إذ لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية وقد عير المشركون المسلمين بقتالهم في أول رجب في قصة العلاء بن الحضرمي فقالوا : استحل محمد الشهر الحرام وأنزل الله في ذلك يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير الآية [ البقرة 217 ] ولم يثبت نسخ هذا بنص يجب المصير إليه ولا أجمعت الأمة على نسخه وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة 5 ] ولا حجة في هذا لأن الأشهر الحرم ها هنا هي أشهر التسيير الأربعة التي سير الله فيها المشركين في الأرض يأمنون فيها وكان أولها يوم الحج الأكبر عاشر ذي الحجة وآخرها عاشر ربيع الآخر هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة ليس هذا موضعها .

وفيها : جواز أكل ورق الشجر عند المخمصة وكذلك عشب الأرض .

وفيها : جواز نهي الإمام وأمير الجيش للغزاة عن نحر ظهورهم وإن احتاجوا إليه خشية أن يحتاجوا إلى ظهرهم عند لقاء عدوهم ويجب عليهم الطاعة إذا نهاهم .

[ جواز أكل ميتة البحر ]

وفيها : جواز أكل ميتة البحر وأنها لم تدخل في قوله عز وجل حرمت عليكم الميتة والدم [ المائدة 3 ] وقد قال تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم [ المائدة 5 ] وقد صح عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس وجماعة من الصحابة أن صيد البحر ما صيد منه وطعامه ما مات فيه وفي السنن عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا : أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال حديث حسن . وهذا الموقوف في حكم المرفوع لأن قول الصحابي أحل لنا كذا وحرم علينا ينصرف إلى إحلال النبي صلى الله عليه وسلم وتحريمه .

فإن قيل فالصحابة في هذه الواقعة كانوا مضطرين ولهذا لما هموا بأكلها قالوا : إنها ميتة وقالوا : نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مضطرون فأكلوا وهذا دليل على أنهم لو كانوا مستغنين عنها لما أكلوا منها . قيل لا ريب أنهم كانوا مضطرين ولكن هيأ الله لهم من الرزق أطيبه وأحله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد أن قدموا : " هل بقي معكم من لحمه شيء ؟ " قالوا : نعم فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " إنما هو رزق ساقه الله لكم " ولو كان هذا رزق مضطر لم يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال الاختيار ثم لو كان أكلهم منها للضرورة فكيف ساغ لهم أن يدهنوا من ودكها وينجسوا به ثيابهم وأبدانهم وأيضا فكثير من الفقهاء لا يجوز الشبع من الميتة إنما يجوزون منها سد الرمق والسرية أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم وسمنوا وتزودوا منها .

فإن قيل إنما يتم لكم الاستدلال بهذه القصة إذا كانت تلك الدابة قد ماتت في البحر ثم ألقاها ميتة ومن المعلوم أنه كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون البحر قد جزر عنها وهي حية فماتت بمفارقة الماء وذلك ذكاتها وذكاة حيوان البحر ولا سبيل إلى دفع هذا الاحتمال كيف وفي بعض طرق الحديث فجزر البحر عن حوت كالظرب قيل هذا الاحتمال مع بعده جدا فإنه يكاد يكون خرقا للعادة فإن مثل هذه الدابة إذا كانت حية إنما تكون في لجة البحر وثبجه دون ساحله وما رق منه ودنا من البر وأيضا فإنه لا يكفي ذلك في الحل لأنه إذا شك في السبب الذي مات به الحيوان هل هو سبب مبيح له أو غير مبيح ؟ لم يحل الحيوان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد يرمى بالسهم ثم يوجد في الماء وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك فلو كان الحيوان البحري حراما إذا مات في البحر لم يبح . وهذا مما لا يعلم فيه خلاف بين الأئمة .

وأيضا فلو لم تكن هذه النصوص مع المبيحين لكان القياس الصحيح معهم فإن الميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل وإلا فالموت لا يقتضي التحريم فإنه حاصل بالذكاة كما يحصل بغيرها واذا لم يكن في الحيوان دم وفضلات تزيلها الذكاة لم يحرم بالموت ولم يشترط لحله ذكاة كالجراد ولهذا لا ينجس بالموت ما لا نفس له سائلة كالذباب والنحلة ونحوهما والسمك من هذا الضرب فإنه لو كان له دم وفضلات تحتقن بموته لم يحل لموته بغير ذكاة ولم يكن فرق بين موته في الماء وموته خارجه إذ من المعلوم أن موته في البر لا يذهب تلك الفضلات التي تحرمه عند المحرمين إذا مات في البحر ولو لم يكن في المسألة نصوص لكان هذا القياس كافيا والله أعلم .



فصل [ جواز الاجتهاد في الوقائع في حياته صلى الله عليه وسلم ]
وفيها دليل على جواز الاجتهاد في الوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره على ذلك لكن هذا كان في حال الحاجة إلى الاجتهاد وعدم تمكنهم من مراجعة النص وقد اجتهد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة من الوقائع وأقرهما على ذلك لكن في قضايا جزئية معينة لا في أحكام عامة وشرائع كلية فإن هذا لم يقع من أحد من الصحابة في حضوره صلى الله عليه وسلم البتة .



فصل في الفتح الأعظم
الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس به في دين الله أفواجا وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا خرج له رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن سنة ثمان لعشر مضين من رمضان واستعمل على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري . وقال ابن سعد : بل استعمل عبد الله بن أم مكتوم

[سببه هو إعانة قريش بني بكر على خزاعة الداخلة في عهده صلى الله عليه وسلم]

وكان السبب الذي جر إليه وحدا إليه فيما ذكر إمام أهل السير والمغازي والأخبار محمد بن إسحاق بن يسار أن بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة عدت على خزاعة وهم على ماء يقال له الوتير : فبيتوهم وقتلوا منهم وكان الذي هاج ذلك أن رجلا من بني الحضرمي يقال له مالك بن عباد خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه فعدت خزاعة على بني الأسود وهم سلمى وكلثوم وذؤيب فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم هذا كله قبل المبعث فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء الإسلام حجز بينهم وتشاغل الناس بشأنه فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش وقع الشرط أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فلما استمرت الهدنة اغتنمها بنو بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم الثأر القديم

[ خروج عمرو الخزاعي لطلب النصرة منه صلى الله عليه وسلم]

فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر فبيت خزاعة

وهم على الوتير فأصابوا منهم رجالا وتناوشوا واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفيا ليلا ذكر ابن سعد منهم صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك . فقال كلمة عظيمة لا إله له اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟ فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع ويخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني أصحابه فقال

يا رب إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولدا وكنا والدا

ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أبدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

أبيض مثل البدر يسمو صعدا

إن سيم خسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا

وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هجدا


وقتلونا ركعا وسجدا

يقول قتلنا وقد أسلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم ثم عرضت سحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم رجعوا إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس كأنكم بأبي سفيان وقد جاء ليشد العقد ويزيد في المدة .

ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا الذي صنعوا فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء قال من أين أقبلت يا بديل ؟ فظن أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي قال أوما جئت محمدا ؟ قال لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيها النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا .

[خروج أبي سفيان إلى المدينة ليثبت العقد ورجوعه بالخيبة ]

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس فقال والله لقد أصابك بعدي شر . ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما أنا بفاعل ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديهما فقال يا علي إنك أمس القوم بي رحما وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا اشفع لي إلى محمد فقال ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة فقال " هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني قال والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال أوترى ذلك مغنيا عني شيئا قال لا والله ما أظنه ولكني ما أجد لك غير ذلك فقام أبو سفيان في المسجد فقال أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا : ما وراءك ؟ قال جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أعدى العدو ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم قد أشار علي بشيء صنعته فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال أمرني أن أجير بين الناس ففعلت فقالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال لا . قالوا : ويلك والله إن زاد الرجل على أن لعب بك قال لا والله ما وجدت غير ذلك .

[ تجهيز الجيش ]

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أي بنية أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه ؟ قالت نعم فتجهز قال فأين ترينه يريد قالت لا والله ما أدري . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة فأمرهم بالجد والتجهيز وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها فتجهز الناس .

كتابة حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بمسيره صلى الله عليه وسلم إليهم
وإخبار الوحي له صلى الله عليه وسلم بذلك

فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلته في قرون في رأسها ثم خرجت به وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث عليا والزبير . وغير ابن إسحاق يقول بعث عليا والمقداد والزبير فقال انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش فانطلقا تعادى بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان فاستنزلاها وقالا : معك كتاب ؟ فقالت ما معي كتاب ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي - رضي الله عنه - أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد منه قالت أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليهما فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال ما هذا يا حاطب ؟ فقال لا تعجل علي يا رسول الله والله إني لمؤمن بالله ورسوله وما ارتددت ولا بدلت ولكني كنت امرءا ملصقا في قريش لست من أنفسهم ولي فيهم أهل وعشيرة وولد وليس لي فيهم قرابة يحمونهم وكان من معك لهم قرابات يحمونهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله وقد نافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فذرفت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم .

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم والناس صيام حتى إذا كانوا بالكديد - وهو الذي تسميه الناس اليوم قديدا - أفطر وأفطر الناس معه .

[ لقاؤه صلى الله عليه وسلم العباس وأبا سفيان بن الحارث ابن عمه وعبد الله ابن أبي أمية ابن عمته ]

ثم مضى حتى نزل مر الظهران وهو بطن مر ومعه عشرة آلاف وعمى الله الأخبار عن قريش فهم على وجل وارتقاب وكان أبو سفيان يخرج يتحسس الأخبار فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة وقيل فوق ذلك وكان ممن لقيه في الطريق ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية لقياه بالأبواء وهما ابن عمه وابن عمته فأعرض عنهما لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو فقالت له أم سلمة لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك وقال علي لأبي سفيان فيما حكاه أبو عمر ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين [ يوسف 91 ] . فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين [ يوسف 92 ] فأنشده أبو سفيان أبياتا منها :

لعمرك إني حين أحمل راية

لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله

فهذا أواني حين أهدى فأهتدي

هداني هاد غير نفسي ودلني

على الله من طردت كل مطرد


فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال أنت طردتني كل مطرد وحسن إسلامه بعد ذلك .

ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه وشهد له بالجنة وقال أرجو أن يكون خلفا من حمزة ولما حضرته الوفاة قال لا تبكوا علي فوالله ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت

[إيقاد النيران بمر الظهران ]

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران نزله عشاء فأمر الجيش فأوقدوا النيران فأوقدت عشرة آلاف نار وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه

[ لقاء العباس أبا سفيان وركوبه معه إليه صلى الله عليه وسلم ]

وركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحدا يخبر قريشا ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها عنوة قال والله إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا قال يقول بديل هذه والله خزاعة حمشتها الحرب فيقول أبو سفيان خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها قال فعرفت صوته فقلت : أبا حنظلة فعرف صوتي فقال أبا الفضل ؟ قلت نعم قال ما لك فداك أبي وأمي ؟ قال قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس واصباح قريش والله قال فما الحيلة فداك أبي وأمي ؟ قلت : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك فركب خلفي ورجع صاحباه قال فجئت به فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا : " من هذا ؟ " فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا : عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا ؟ وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة فسبقت فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت والله لا يناجيه الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا قال مهلا يا عباس " فوالله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به فذهبت فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ " قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ " قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا فقال له العباس ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فأسلم وشهد شهادة الحق فقال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن

وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ففعل فمرت القبائل على راياتها كلما مرت به قبيلة قال يا عباس من هذه ؟ فأقول سليم قال فيقول ما لي ولسليم ثم تمر به القبيلة فيقول يا عباس من هؤلاء ؟ فأقول مزينة فيقول ما لي ولمزينة حتى نفدت القبائل ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها فإذا أخبرته بهم قال ما لي ولبني فلان حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال سبحان الله يا عباس من هؤلاء ؟ قال قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ثم قال والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما قال قلت يا أبا سفيان إنها النبوة قال فنعم إذا قال قلت النجاء إلى قومك . وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة فلما مر بأبي سفيان قال له اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا . فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد ؟ قال وما قال فقال كذا وكذا فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة اليوم يوم أعز الله فيه قريشا .

ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى قيس ابنه ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه قال أبو عمر وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزع منه الراية دفعها إلى الزبير .



[رجوع أبي سفيان إلى قريش ]

ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قريشا صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت اقتلوا الحميت الدسم الأحمش الساقين قبح من طليعة قوم قال ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن قالوا : قاتلك الله وما تغني عنا دارك قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد .

[دخوله صلى الله عليه وسلم مكة ]
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة من أعلاها وضربت له هنالك قبة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخلها من أسفلها وكان على المجنبة اليمنى وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر وهم الذين لا سلاح معهم وقال لخالد ومن معه إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا فما عرض لهم أحد إلا أناموه .

[مقاتلة المسلمين بعض سفهاء قريش ]

وتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين وكان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له امرأته لماذا تعد ما أرى ؟ قال لمحمد وأصحابه قالت والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء قال إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم ثم قال

إن يقبلوا اليوم فمالي عله

هذا سلاح كامل وأله


وذو غرارين سريع السله

ثم شهد الخندمة مع صفوان وعكرمة وسهيل بن عمرو فلما لقيهم المسلمون ناوشوهم شيئا من قتال فقتل كرز بن جابر الفهري وخنيس بن خالد بن ربيعة من المسلمين وكانا في خيل خالد بن الوليد فشذا عنه فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا وأصيب من المشركين نحو اثني عشر رجلا ثم انهزموا وانهزم حماس صاحب السلاح حتى دخل بيته فقال لامرأته أغلقي علي بابي فقالت وأين ما كنت تقول ؟ فقال

إنك لو شهدت يوم الخندمه

إذ فر صفوان وفر عكرمه

واستقبلتنا بالسيوف المسلمه

يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضربا فلا نسمع إلا غمغمه

لهم نهيت حولنا وهمهمه


لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

وقال أبو هريرة : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة فبعث الزبير على إحدى المجنبتين وبعث خالد بن الوليد على المجنبة الأخرى وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر وأخذوا بطن الوادي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته قال وقد وبشت قريش أوباشا لها فقالوا : نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ؟ فقلت لبيك رسول الله وسعديك فقال اهتف لي بالأنصار ولا يأتيني إلا أنصاري فهتف بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم " ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : " احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا " فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم إلا شاء وما أحد منهم وجه إلينا شيئا وركزت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد الفتح .

[ دخول المسجد ]

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله حتى دخل المسجد فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بالقوس ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا الإسراء : 81 ] جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [ سبأ 49 ] والأصنام تتساقط على وجوهها .

[دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة ]
وكان طوافه على راحلته ولم يكن محرما يومئذ فاقتصر على الطواف فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة فأمر بها ففتحت فدخلها فرأى فيها الصور ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام فقال قاتلهم الله والله إن استقسما بها قط ورأى في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده وأمر بالصور فمحيت . ثم أغلق عليه الباب وعلى أسامة وبلال فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف وصلى هناك ثم دار في البيت وكبر في نواحيه ووحد الله ثم فتح الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتل الخطإ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب " ثم تلا هذه الآية يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [ الحجرات 13 ] ثم قال " يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ " قالوا : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال " فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء .

[إبقاء مفتاح الكعبة في آل عثمان بن طلحة ]

ثم جلس في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين عثمان بن طلحة " ؟ فدعي له فقال له " هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء .

وذكر ابن سعد في الطبقات عن عثمان بن طلحة قال كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت له ونلت منه فحلم عني ثم قال " يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال بل عمرت وعزت يومئذ ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال فلما كان يوم الفتح قال يا عثمان ائتني بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف " قال فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال " ألم يكن الذي قلت لك ؟ " قال فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت فقلت بلى أشهد أنك رسول الله

وذكر سعيد بن المسيب أن العباس تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة

[أذان بلال على الكعبة ]

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته فقال أبو سفيان أما والله لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم " قد علمت الذي قلتم " ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب نشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك

فصل [صلاة الفتح ]
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أم هانئ بنت أبي طالب فاغتسل وصلى ثمان ركعات في بيتها وكانت ضحى فظنها من ظنها صلاة الضحى وإنما هذه صلاة الفتح وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصنا أو بلدا صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكرا لله عليه فإنها قالت ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها .



[إجارة أم هانئ حموين لها ]

وأجارت أم هانئ حموين لها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ

فصل [ من أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم ]
ولما استقر الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كلهم إلا تسعة نفر فإنه أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة وهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل وعبد العزى بن خطل والحارث بن نفيل بن وهب ومقيس بن صبابة وهبار بن الأسود وقينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب .

[ابن أبي السرح ]

فأما ابن أبي سرح فأسلم فجاء به عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر ثم ارتد ورجع إلى مكة .

[عكرمة بن أبي جهل ]

وأما عكرمة بن أبي جهل فاستأمنت له امرأته بعد أن فر فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم فقدم وأسلم وحسن إسلامه .

أما ابن خطل والحارث ومقيس وإحدى القينتين فقتلوا وكان مقيس قد أسلم ثم ارتد وقتل ولحق بالمشركين وأما هبار بن الأسود فهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ففر ثم أسلم وحسن إسلامه . واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسارة ولإحدى القينتين فأمنهما فأسلمتا .

[خطبة الفتح ]
فلما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما حلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب

[إيثاره صلى الله عليه وسلم المدينة على مكة ]

ولما فتح الله مكة على رسوله وهي بلده ووطنه ومولده قال الأنصار فيما بينهم أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها وهو يدعو على الصفا رافعا يديه ؟ فلما فرغ من دعائه قال ماذا قلتم ؟ قالوا : لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم

[ من هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ]

وهم فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضالة ؟ قال نعم فضالة يا رسول الله قال ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال لا شيء كنت أذكر الله فضحك النبي صلى الله عليه وسلم قال " استغفر الله " ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه وكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه قال فضالة فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت هلم إلى الحديث فقلت : لا وانبعث فضالة يقول

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا

يأبى عليك الله والإسلام

لو قد رأيت محمدا وقبيله

بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بينا

والشرك يغشى وجهه الإظلام


[فرار صفوان وعكرمة ]

وفر يومئذ صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل فأما صفوان فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فرده فقال اجعلني فيه بالخيار شهرين فقال أنت بالخيار فيه أربعة أشهر .

[إسلام زوجة عكرمة ]

وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت واستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه فلحقت به باليمن فأمنته فردته وأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصفوان على نكاحهما الأول . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسيد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم .

[كسر الأوثان ]

وبث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة فكسرت كلها منها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونادى مناديه بمكة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره

[هدم خالد للعزى ]

فبعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان ليهدمها فخرج إليها في ثلاثين فارسا من أصحابه حتى انتهوا إليها فهدمها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال هل رأيت شيئا ؟ " قال لا قال " فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها فرجع خالد وهو متغيظ فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل السادن يصيح بها فضربها خالد فجزلها باثنتين ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال " نعم تلك العزى وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا " وكانت بنخلة وكانت لقريش وجميع بني كنانة وكانت أعظم أصنامهم وكان سدنتها بني شيبان .

[هدم ابن العاص لسواع ]

ثم بعث عمرو بن العاص إلى سواع وهو صنم لهذيل ليهدمه قال عمرو : فانتهيت إليه وعنده السادن فقال ما تريد ؟ قلت أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه فقال لا تقدر على ذلك قلت : لم ؟ قال تمنع . قلت حتى الآن أنت على الباطل ويحك فهل يسمع أو يبصر ؟ قال فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم نجد فيه شيئا ثم قلت للسادن كيف رأيت ؟ قال أسلمت لله .

[هدم سعد بن زيد الأشهلي لمناة]

ثم بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعندها سادن فقال السادن ما تريد ؟ قلت هدم مناة قال أنت وذاك فأقبل سعد يمشي إليها وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها فقال لها السادن مناة دونك بعض عصاتك فضربها سعد فقتلها وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدمه وكسروه ولم يجدوا في خزانته شيئا .

ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة
قال ابن سعد : ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بمكة بعثه إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام ولم يبعثه مقاتلا فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم فانتهى إليهم فقال ما أنتم ؟ قالوا : مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا وأذنا فيها قال فما بال السلاح عليكم ؟ قالوا : إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم وقد قيل إنهم قالوا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا قال فضعوا السلاح فوضعوه فقال لهم استأسروا فاستأسر القوم فأمر بعضهم فكتف بعضا وفرقهم في أصحابه فلما كان في السحر نادى خالد بن الوليد : من كان معه أسير فليضرب عنقه فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد فقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " وبعث عليا يودي لهم قتلاهم وما ذهب منهم وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال مهلا يا خالد دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته



فصل [ إنشاد حسان في عمرة الحديبية ]
وكان حسان بن ثابت رضي الله عنه قد قال في عمرة الحديبية :

عفت ذات الأصابع فالجواء

إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر

تعفيها الروامس والسماء

وكانت لا يزال بها أنيس

خلال مروجها نعم وشاء

فدع هذا ولكن من لطيف

يؤرقني إذا ذهب العشاء

لشعثاء التي قد تيمته

فليس لقلبه منها شفاء

كأن خبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

إذا ما الأشربات ذكرن يوما

فهن لطيب الراح الفداء

نوليها الملامة إن ألمنا

إذا ما كان مغث أو لحاء

ونشربها فتتركنا ملوكا

وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

عدمنا خيلنا إن لم تروها

تثير النقع موعدها كداء

ينازعن الأعنة مصعدات

على أكتافها الأسل الظماء

تظل جيادنا متمطرات

تلطمهن بالخمر النساء

فإما تعرضوا عنا اعتمرنا

وكان الفتح وانكشف الغطاء

وإلا فاصبروا لجلاد يوم

يعز الله فيه من يشاء

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس له كفاء

وقال الله قد أرسلت عبدا

يقول الحق إن نفع البلاء

شهدت به فقوموا صدقوه

فقلتم لا نقوم ولا نشاء

وقال الله قد سيرت جندا

هم الأنصار عرضتها اللقاء

لنا في كل يوم من معد

سباب أو قتال أو هجاء

فنحكم بالقوافي من هجانا

ونضرب حين تختلط الدماء

ألا أبلغ أبا سفيان عني

مغلغلة فقد برح الخفاء

بأن سيوفنا تركتك عبدا

وعبد الدار سادتها الإماء

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

هجوت مباركا برا حنيفا

أمين الله شيمته الوفاء

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد . منكم وقاء

لساني صارم لا عيب فيه

وبحري لا تكدره الدلاء

فصل في الإشارة إلى ما في الغزوة من الفقه واللطائف
[ من شأنه سبحانه تقديم مقدمات بين يدي الأمور العظيمة تكون كالمدخل إليها المنبهة لها كقصة المسيح ونسخ القبلة وغيرهما ]

كانت صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم أمن الناس به وكلم بعضهم بعضا وناظره في الإسلام وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام ولهذا سماه الله فتحا في قوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ الفتح : 1 ] ، نزلت في شأن الحديبية ، فقال عمر : يا رسول الله أوفتح هو ؟ قال " نعم " . وأعاد سبحانه وتعالى ذكر كونه فتحا ، فقال لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق إلى قوله فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ الفتح 27 ] وهذا شأنه - سبحانه - أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها ، المنبهة عليها ، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا ، وخلق الولد له مع كونه كبيرا لا يولد لمثله وكما قدم بين يدي نسخ القبلة قصة البيت وبنائه وتعظيمه والتنويه به وذكر بانيه وتعظيمه ومدحه ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له وقدرته الشاملة له وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسوله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل وبشارات الكهان به وغير ذلك ، وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة وكذلك الهجرة كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد ومن تأمل أسرار الشرع والقدر رأى
من ذلك ما تبهر حكمته الألباب .



وفيها : أن أهل العهد إذا حاربوا من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حربا له بذلك ولم يبق بينهم وبينه عهد فله أن يبيتهم في ديارهم ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة فإذا تحققها ، صاروا نابذين لعهده .

فصل [ انتقاض عهد الردء والمباشرين إذا رضوا بذلك ]
وفيها : انتقاض عهد جميعهم بذلك ، ردئهم ومباشريهم إذا رضوا بذلك وأقروا عليه ولم ينكروه فإن الذين أعانوا بني بكر من قريش بعضهم لم يقاتلوا كلهم معهم ومع هذا فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم وهذا كما أنهم دخلوا في عقد الصلح تبعا ، ولم ينفرد كل واحد منهم بصلح إذ قد رضوا به وأقروا عليه فكذلك حكم نقضهم للعهد هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا شك فيه كما ترى .

وطرد هذا جريان هذا الحكم على ناقضي العهد من أهل الذمة إذا رضي جماعتهم به وإن لم يباشر كل واحد منهم ما ينقض عهده كما أجلى عمر يهود خيبر لما عدا بعضهم على ابنه ورموه من ظهر دار ففدعوا يده بل قد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع مقاتلة بني قريظة ، ولم يسأل عن كل رجل منهم هل نقض العهد أم لا ؟ وكذلك أجلى بني النضير كلهم وإنما كان الذي هم بالقتل رجلان وكذلك فعل ببني قينقاع حتى استوهبهم منه عبد الله بن أبي ، فهذه سيرته وهديه الذي لا شك فيه وقد أجمع المسلمون على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد ولا يشترط في قسمة الغنيمة ولا في الثواب مباشرة كل واحد واحد القتال .

وهذا حكم قطاع الطريق حكم ردئهم حكم مباشرهم لأن المباشر إنما باشر الإفساد بقوة الباقين ولولاهم ما وصل إلى ما وصل إليه وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه وهو مذهب أحمد ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وغيرهم .

فصل

وفيها : جواز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين وهل يجوز فوق ذلك ؟ الصواب أنه يجوز للحاجة والمصلحة الراجحة كما إذا كان بالمسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة للإسلام .

فصل

وفيها : أن الإمام وغيره إذا سئل ما لا يجوز بذله أو لا يجب فسكت عن بذله لم يكن سكوته بذلا له فإن أبا سفيان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم تجديد العهد فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبه بشيء ولم يكن بهذا السكوت معاهدا له .

فصل [ رسول الكفار لا يقتل ]
وفيها : أن رسول الكفار لا يقتل فإن أبا سفيان كان ممن جرى عليه حكم انتقاض العهد ولم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان رسول قومه إليه .

فصل

وفيها : جواز تبييت الكفار ومغافضتهم في ديارهم إذا كانت قد بلغتهم الدعوة وقد كانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيتون الكفار ويغيرون عليهم بإذنه بعد أن بلغتهم دعوته .



فصل [ جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما ]
وفيها : جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما لأن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حاطب بن أبي بلتعة لما بعث يخبر أهل مكة بالخبر ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل قتله إنه مسلم بل قال وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فأجاب بأن فيه مانعا من قتله وهو شهوده بدرا ، وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع وهذا مذهب مالك ، وأحد الوجهين في مذهب أحمد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يقتل وهو ظاهر مذهب أحمد والفريقان يحتجون بقصة حاطب والصحيح أن قتله راجع إلى رأي الإمام فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه . والله أعلم .

فصل [ جواز تجريد المرأة للمصلحة العامة ]
وفيها : جواز تجريد المرأة كلها وتكشيفها للحاجة والمصلحة العامة فإن عليا والمقداد قالا للظعينة لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك ، وإذا جاز تجريدها لحاجتها إلى ذلك حيث تدعو إليها ، فتجريدها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى .

فصل

وفيها : أن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولا وغضبا لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه فإنه لا يكفر بذلك بل لا يأثم به بل يثاب على نيته وقصده وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع فإنهم يكفرون ويبدعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه .

فصل

[ الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية ]

وفيها : أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية كما وقع الجس من حاطب مكفرا بشهوده بدرا ، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها ، وفرحه بها ، ومباهاته للملائكة بفاعلها ، أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة وتضمنته من بغض الله لها ، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات الموجبين لصحة القلب ومرضه وهي نظير حكمته تعالى في الصحة والمرض اللاحقين للبدن فإن الأقوى منهما يقهر المغلوب ويصير الحكم له حتى يذهب أثر الأضعف فهذه حكمته في خلقه وقضائه وتلك حكمته في شرعه وأمره .

وهذا كما أنه ثابت في محو السيئات بالحسنات لقوله تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات [ هود : 14 ] ، وقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ النساء 31 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم وأتبع السيئة الحسنة تمحها فهو ثابت في عكسه لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ البقرة 264 ] ، وقوله يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ الحجرات 2 ] . وقول عائشة ، عن زيد بن أرقم أنه لما باع بالعينة إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في " صحيحه " من ترك صلاة العصر حبط عمله إلى غير ذلك من النصوص والآثار الدالة على تدافع الحسنات والسيئات وإبطال بعضها بعضا ، وذهاب أثر القوي منها بما دونه وعلى هذا مبنى الموازنة والإحباط .

وبالجملة فقوة الإحسان ومرض العصيان متصاولان ومتحاربان ولهذا المرض مع هذه القوة حالة تزايد وترام إلى الهلاك وحالة انحطاط وتناقص وهي خير حالات المريض وحالة وقوف وتقابل إلى أن يقهر أحدهما الآخر وإذا دخل وقت البحران وهو ساعة المناجزة فحظ القلب أحد الخطتين إما السلامة وإما العطب وهذا البحران يكون وقت فعل الواجبات التي توجب رضى الرب تعالى ومغفرته أو توجب سخطه وعقوبته وفي الدعاء النبوي أسألك موجبات رحمتك وقال عن طلحة يومئذ أوجب طلحة ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وقالوا : يا رسول الله إنه قد أوجب فقال أعتقوا عنه

وفي الحديث الصحيح أتدرون ما الموجبتان ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار يريد أن التوحيد والشرك رأس الموجبات وأصلها ، فهما بمنزلة السم القاتل قطعا ، والترياق المنجي قطعا .

وكما أن البدن قد تعرض له أسباب رديئة لازمة توهن قوته وتضعفها ، فلا ينتفع معها بالأسباب الصالحة والأغذية النافعة بل تحيلها تلك المواد الفاسدة إلى طبعها وقوتها ، فلا يزداد بها إلا مرضا ، وقد تقوم به مواد صالحة وأسباب موافقة توجب قوته وتمكنه من الصحة وأسبابها ، فلا تكاد تضره الأسباب الفاسدة بل تحيلها تلك المواد الفاضلة إلى طبعها ، فهكذا مواد صحة القلب وفساده .

[ قوة إيمان حاطب في شهود بدر محت ما صنع ]

فتأمل قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر ، وبذله نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم ولم يثن ذلك عنان عزمه ولا فل من حد إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم فلما جاء مرض الجس برزت إليه هذه القوة وكان البحران صالحا فاندفع المرض وقام المريض كأن لم يكن به قلبة ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه وقهرته قال لمن أراد فصده لا يحتاج هذا العارض إلى فصاد وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم وعكس هذا ذو الخويصرة التميمي وأضرابه من الخوارج الذين بلغ اجتهادهم في الصلاة والصيام والقراءة إلى حد يحقر أحد الصحابة عمله معه كيف قال فيهم " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وقال اقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم . وقال شر قتلى تحت أديم السماء فلم ينتفعوا بتلك الأعمال العظيمة مع تلك المواد الفاسدة المهلكة واستحالت فاسدة .

وتأمل في حال إبليس لما كانت المادة المهلكة كامنة في نفسه لم ينتفع معها بما سلف من طاعاته ورجع إلى شاكلته وما هو أولى به وكذلك الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين وأضرابه وأشكاله فالمعول على السرائر والمقاصد والنيات والهمم فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهبا ، أو يردها خبثا ، وبالله التوفيق .

ومن له لب وعقل يعلم قدر هذه المسألة وشدة حاجته إليها ، وانتفاعه بها ، ويطلع منها على باب عظيم من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وأحكام الموازنة وإيصال اللذة والألم إلى الروح والبدن في المعاش والمعاد وتفاوت المراتب في ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائم على كل نفس بما كسبت .

فصل [ جواز مباغتة المعاهدين إذا نقضوا العهد ]

وفي هذه القصة جواز مباغتة المعاهدين إذا نقضوا العهد والإغارة عليهمألا يعلمهم بمسيره إليهم وأما ما داموا قائمين بالوفاء بالعهد فلا يجوز ذلك حتى ينبذ إليهم على سواء .

فصل [ استحباب كثرة المسلمين لرسل العدو إذا جاءوا إلى الإمام ]

وفيها : جواز بل استحباب كثرة المسلمين وقوتهم وشوكتهم وهيئتهم لرسل العدو إذا جاءوا إلى الإمام كما يفعل ملوك الإسلام كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإيقاد النيران ليلة الدخول إلى مكة ، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل وهو ما تضايق منه حتى عرضت عليه عساكر الإسلام وعصابة التوحيد وجند الله وعرضت عليه خاصكية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في السلاح منهم إلا الحدق ثم أرسله فأخبر قريشا بما رأى .





فصل [ جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام ]
[ هل يجوز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحج والعمرة ]

وفيها : جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وهذا لا خلاف فيه ولا خلاف أنه لا يدخلها من أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام واختلف فيما سوى ذلك إذا لم يكن الدخول لحاجة متكررة كالحشاش والحطاب على ثلاثة أقوال

أحدها : لا يجوز دخولها إلا بإحرام وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنه وأحمد في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه .

والثاني : أنه كالحشاش والحطاب فيدخلها بغير إحرام وهذا القول الآخر للشافعي ورواية عن أحمد .

والثالث أنه إن كان داخل المواقيت جاز دخوله بغير إحرام وإن كان خارج المواقيت لم يدخل إلا بإحرام وهذا مذهب أبي حنيفة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم في المجاهد ومريد النسك وأما من عداهما فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله أو أجمعت عليه الأمة .

فصل [ فتحت مكة عنوة والخلاف في قسم الغنائم ]
وفيها البيان الصريح بأن مكة فتحت عنوة كما ذهب إليه جمهور أهل العلم ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه وسياق القصة أوضح شاهد لمن تأمله لقول الجمهور ولما استهجن أبو حامد الغزالي القول بأنها فتحت صلحا ، حكى قول الشافعي أنها فتحت عنوة في " وسيطه " ، وقال هذا مذهبه .

قال أصحاب الصلح لو فتحت عنوة لقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغانمين كما قسم خيبر ، وكما قسم سائر الغنائم من المنقولات فكان يخمسها ويقسمها ، قالوا : ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم ، فأمنهم كان هذا عقد صلح معهم قالوا : ولو فتحت عنوة لملك الغانمون رباعها ودورها ، وكانوا أحق بها من أهلها ، وجاز إخراجهم منها ، فحيث لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بهذا الحكم بل لم يرد على المهاجرين دورهم التي أخرجوا منها ، وهي بأيدي الذين أخرجوهم وأقرهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها ، والانتفاع بها ، وهذا مناف لأحكام فتوح العنوة وقد صرح بإضافة الدور إلى أهلها ، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن

قال أرباب العنوة لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره وإغلاقه بابه وإلقائه سلاحه فائدة ولم يقاتلهم خالد بن الوليد حتى قتل منهم جماعة ولم ينكر عليه ولما قتل مقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل ومن ذكر معهما ، فإن عقد الصلح لو كان قد وقع لاستثني فيه هؤلاء قطعا ، ولنقل هذا وهذا ، ولو فتحت صلحا ، لم يقاتلهم وقد قال فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ومعلوم أن هذا الإذن المختص برسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو الإذن في القتال لا في الصلح فإن الإذن في الصلح عام .

وأيضا فلو كان فتحها صلحا ، لم يقل إن الله قد أحلها له ساعة من نهار فإنها إذا فتحت صلحا كانت باقية على حرمتها ، ولم تخرج بالصلح عن الحرمة وقد أخبر بأنها في تلك الساعة لم تكن حراما ، وأنها بعد انقضاء ساعة الحرب عادت إلى حرمتها الأولى .

وأيضا فإنها لو فتحت صلحا لم يعبئ جيشه خيالتهم ورجالتهم ميمنة وميسرة ومعهم السلاح وقال لأبي هريرة : اهتف لي بالأنصار " ، فهتف بهم فجاءوا ، فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم " ، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : " احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا " ، حتى قال أبو سفيان يا رسول الله أبيحت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أغلق بابه فهو آمن وهذا محال أن يكون مع الصلح فإن كان قد تقدم صلح - وكلا - فإنه ينتقض بدون هذا .

وأيضا فكيف يكون صلحا ، وإنما فتحت بإيجاف الخيل والركاب ولم يحبس الله خيل رسوله وركابه عنها ، كما حبسها يوم صلح الحديبية ، فإن ذلك اليوم كان يوم الصلح حقا ، فإن القصواء لما بركت به قالوا : خلأت القصواء قال ما خلأت وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمة من حرمات الله إلا أعطيتهموها وكذلك جرى عقد الصلح بالكتاب والشهود ومحضر ملإ من المسلمين والمشركين والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة فجرى مثل هذا الصلح في يوم الفتح ولا يكتب ولا يشهد عليه ولا يحضره أحد ، ولا ينقل كيفيته والشروط فيه هذا من الممتنع البين امتناعه وتأمل قوله إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين كيف يفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذي كان يدخلها عليهم عنوة فحبسه عنهم وسلط رسوله والمؤمنين عليهم حتى فتحوها عنوة بعد القهر وسلطان العنوة وإذلال الكفر وأهله وكان ذلك أجل قدرا ، وأعظم خطرا ، وأظهر آية وأتم نصرة وأعلى كلمة من أن يدخلهم تحت رق الصلح واقتراح العدو وشروطهم ويمنعهم سلطان العنوة وعزها وظفرها في أعظم فتح فتحه على رسوله وأعز به دينه وجعله آية للعالمين .

قالوا : وأما قولكم إنها لو فتحت عنوة لقسمت بين الغانمين فهذا مبني على أن الأرض داخلة في الغنائم التي قسمها الله سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها ، وجمهور الصحابة والأئمة بعدهم على خلاف ذلك وأن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي تجب قسمتها ، وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين فإن بلالا وأصحابه لما طلبوا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقسم بينهم الأرض التي افتتحوها عنوة وهي الشام وما حولها ، وقالوا له خذ خمسها واقسمها ، فقال عمر هذا غير المال ولكن أحبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين فقال بلال وأصحابه رضي الله عنهم اقسمها بيننا ، فقال عمر اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول ومنهم عين تطرف ثم وافق سائر الصحابة - رضي الله عنهم - عمر - رضي الله عنه - على ذلك وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق ، وأرض فارس ، وسائر البلاد التي فتحت عنوة لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة .

ولا يصح أن يقال إنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم فإنهم قد نازعوه في ذلك وهو يأبى عليهم ودعا على بلال وأصحابه - رضي الله عنهم - وكان الذي رآه وفعله عين الصواب ومحض التوفيق إذ لو قسمت لتوارثها ورثة أولئك وأقاربهم فكانت القرية والبلد تصير إلى امرأة واحدة أو صبي صغير والمقاتلة لا شيء بأيديهم فكان في ذلك أعظم الفساد وأكبره وهذا هو الذي خاف عمر رضي الله عنه منه فوفقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض وجعلها وقفا على المقاتلة تجري عليهم فيئا حتى يغزو منها آخر المسلمين وظهرت بركة رأيه ويمنه على الإسلام وأهله ووافقه جمهور الأئمة . واختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة لا تخيير شهوة فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها ، قسمها ، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها ، وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الأقسام الثلاثة فإنه قسم أرض قريظة والنضير وترك قسمة مكة ، وقسم بعض خيبر ، وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين .

وعن أحمد رواية ثانية أنها تصير وقفا بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن ينشئ الإمام وقفها ، وهي مذهب مالك .

وعنه رواية ثالثة أنه يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول إلا أن يتركوا حقوقهم منها ، وهي مذهب الشافعي .

وقال أبو حنيفة : الإمام مخير بين القسمة وبين أن يقر أربابها فيها بالخراج وبين أن يجليهم عنها وينفذ إليها قوما آخرين يضرب عليهم الخراج .

وليس هذا الذي فعل عمر - رضي الله عنه - بمخالف للقرآن فإن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها ، ولهذا قال عمر إنها غير المال ويدل عليه أن إباحة الغنائم لم تكن لغير هذه الأمة بل هو من خصائصها ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي وقد أحل الله سبحانه الأرض التي كانت بأيدي الكفار لمن قبلنا من أتباع الرسل إذا استولوا عليها عنوة كما أحلها لقوم موسى ، فلهذا قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين [ المائدة 21 ] فموسى وقومه قاتلوا الكفار واستولوا على ديارهم وأموالهم فجمعوا الغنائم ثم نزلت النار من السماء فأكلتها ، وسكنوا الأرض والديار ولم تحرم عليهم فعلم أنها ليست من الغنائم وأنها لله يورثها من يشاء .



فصل [ يمنع قسمة مكة لأنها دار نسك ]
وأما مكة ، فإن فيها شيئا آخر يمنع من قسمتها ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى ، وهي أنها لا تملك فإنها دار النسك ومتعبد الخلق وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد فهي وقف من الله على العالمين وهم فيها سواء ومنى مناخ من سبق قال تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ الحج 25 ] ، والمسجد الحرام هنا ، المراد به الحرم كله كقوله تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [ التوبة 28 ] ، فهذا المراد به الحرم كله وقوله سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى [ الإسراء : 1 ] ، وفي الصحيح إنه أسري به من بيت أم هانئ وقال تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ البقرة 196 ] ، وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة اتفاقا ، وإنما هو حضور الحرم والقرب منه وسياق آية الحج تدل على ذلك فإنه قال ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وهذا لا يختص بمقام الصلاة قطعا ، بل المراد به الحرم كله فالذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد هو الذي توعد من صد عنه ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة ، والمسعى ومنى ، وعرفة ، ومزدلفة ، لا يختص بها أحد دون أحد ، بل هي مشتركة بين الناس إذ هي محل نسكهم ومتعبدهم فهي مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بيت بمنى يظله من الحر وقال منى مناخ من سبق

[ جمهور الأئمة على عدم جواز بيع أراضي مكة ولا إجارة بيوتها ]

ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ، ولا إجارة بيوتها ، هذا مذهب مجاهد وعطاء في أهل مكة ، ومالك في أهل المدينة ، وأبي حنيفة في أهل العراق ، وسفيان الثوري ، والإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

وروى الإمام أحمد رحمه الله عن علقمة بن نضلة ، قال كانت رباع مكة تدعى السوائب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر من احتاج سكن ومن استغنى أسكن .

وروي أيضا عن عبد الله بن عمر : من أكل أجور بيوت مكة ، فإنما يأكل في بطنه نار جهنم رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إن الله حرم مكة ، فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها .

وقال الإمام أحمد حدثنا معمر عن ليث عن عطاء وطاووس ومجاهد ، أنهم قالوا : يكره أن تباع رباع مكة أو تكرى بيوتها .

وذكر الإمام أحمد عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال من أكل من كراء بيوت مكة ، فإنما يأكل في بطنه نارا .

وقال أحمد حدثنا هشيم ، حدثنا حجاج عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر ، قال نهي عن إجارة بيوت مكة وعن بيع رباعها .

وذكر عن عطاء قال نهي عن إجارة بيوت مكة . وقال أحمد حدثنا إسحاق بن يوسف قال حدثنا عبد الملك قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوت مكة ، وقال إنه حرام .

وحكى أحمد عن عمر أنه نهى أن يتخذ أهل مكة للدور أبوابا ، لينزل البادي حيث شاء وحكى عن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه نهى أن تغلق أبواب دور مكة ، فنهى من لا باب لداره أن يتخذ لها بابا ، ومن لداره باب أن يغلقه وهذا في أيام الموسم .

قال المجوزون للبيع والإجارة الدليل على جواز ذلك كتاب الله وسنة رسوله وعمل أصحابه وخلفائه الراشدين . قال الله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم [ الحشر 8 ] ، وقال فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم [ آل عمران 195 ] ، وقال إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم [ الممتحنة 9 ] فأضاف الدور إليهم وهذه إضافة تمليك وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له أين تنزل غدا بدارك بمكة ؟ فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع ولم يقل إنه لا دار لي ، بل أقرهم على الإضافة وأخبر أن عقيلا استولى عليها ولم ينزعها من يده وإضافة دورهم إليهم في الأحاديث أكثر من أن تذكر كدار أم هانئ ، ودار خديجة ، ودار أبي أحمد بن جحش
وغيرها ، وكانوا يتوارثونها كما يتوارثون المنقول ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل ترك لنا عقيل من منزل وكان عقيل هو ورث دور أبي طالب فإنه كان كافرا ، ولم يرثه علي رضي الله عنه لاختلاف الدين بينهما ، فاستولى عقيل على الدور . ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها ، بل قبل المبعث وبعده من مات ورثته داره إلى الآن وقد باع صفوان بن أمية دارا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأربعة آلاف درهم فاتخذها سجنا ، وإذا جاز البيع والميراث فالإجارة أجوز وأجوز فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى ، وحججهم في القوة والظهور لا تدفع وحجج الله وبيناته لا يبطل بعضها بعضا بل يصدق بعضها بعضا ، ويجب العمل بموجبها كلها ، والواجب اتباع الحق أين كان .

[ ترجيح المصنف منع الإجارة وجواز البيع ]

فالصواب القول بموجب الأدلة من الجانبين وأن الدور تملك وتوهب وتورث وتباع ويكون نقل الملك في البناء لا في الأرض والعرصة فلو زال بناؤه لم يكن له أن يبيع الأرض وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت وهو أحق بها يسكنها ويسكن فيها من شاء وليس له أن يعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة فإن هذه المنفعة إنما يستحق أن يقدم فيها على غيره ويختص بها لسبقه وحاجته فإذا استغنى عنها ، لم يكن له أن يعاوض عليها ، كالجلوس في الرحاب والطرق الواسعة والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التي من سبق إليها ، فهو أحق بها ما دام ينتفع فإذا استغنى ، لم يكن له أن يعاوض وقد صرح أرباب هذا القول بأن البيع ونقل الملك في رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض ذكره أصحاب أبي حنيفة .

[ نظائر في الشريعة لمنع الإجارة وجواز البيع ]

فإن قيل فقد منعتم الإجارة وجوزتم البيع فهل لهذا نظير في الشريعة والمعهود في الشريعة أن الإجارة أوسع من البيع فقد يمتنع البيع وتجوز الإجارة كالوقف والحر فأما العكس فلا عهد لنا به ؟ قيل كل واحد من البيع والإجارة عقد مستقل غير مستلزم للآخر في جوازه وامتناعه وموردهما مختلف وأحكامهما مختلفة وإنما جاز البيع لأنه وارد على المحل الذي كان البائع أخص به من غيره وهو البناء وأما الإجارة فإنما ترد على المنفعة وهي مشتركة وللسابق إليها حق التقدم دون المعاوضة فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة فإن أبيتم إلا النظير قيل هذا المكاتب يجوز لسيده بيعه ويصير مكاتبا عند مشتريه ولا يجوز له إجارته إذ فيها إبطال منافعه وأكسابه التي ملكها بعقد الكتابة والله أعلم .

على أنه لا يمنع البيع وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركة بين المسلمين فإنها تكون عند المشتري كذلك مشتركة المنفعة إن احتاج سكن وإن استغنى ، أسكن كما كانت عند البائع فليس في بيعها إبطال اشتراك المسلمين في هذه المنفعة كما أنه ليس في بيع المكاتب إبطال ملكه لمنافعه التي ملكها بعقد المكاتبة ونظير هذا جواز بيع أرض الخراج التي وقفها عمر رضي الله عنه على الصحيح الذي استقر الحال عليه من عمل الأمة قديما وحديثا ، فإنها تنتقل إلى المشتري خراجية كما كانت عند البائع وحق المقاتلة إنما هو في خراجها ، وهو لا يبطل بالبيع وقد اتفقت الأمة على أنها تورث فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفا ، فكذلك ينبغي أن تكون وقفيتها مبطلة لميراثها ، وقد نص أحمد على جواز جعلها صداقا في النكاح فإذا جاز نقل الملك فيها بالصداق والميراث والهبة جاز البيع فيها قياسا وعملا ، وفقها . والله أعلم .

فصل [ هل يضرب الخراج على مزارع مكة كسائر أرض العنوة ؟ ]
فإذا كانت مكة قد فتحت عنوة فهل يضرب الخراج على مزارعها كسائر أرض العنوة وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا ؟ قيل في هذه المسألة قولان لأصحاب العنوة

أحدهما : المنصوص المنصور الذي لا يجوز القول بغيره أنه لا خراج على مزارعها وإن فتحت عنوة فإنها أجل وأعظم من أن يضرب عليها الخراج لا سيما والخراج هو جزية الأرض وهو على الأرض كالجزية على الرءوس وحرم الرب أجل قدرا وأكبر من أن تضرب عليه جزية ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليه من كونها حرما آمنا يشترك فيه أهل الإسلام إذ هو موضع مناسكهم ومتعبدهم وقبلة أهل الأرض .

والثاني - وهو قول بعض أصحاب أحمد - أن على مزارعها الخراج كما هو على مزارع غيرها من أرض العنوة وهذا فاسد مخالف لنص أحمد رحمه الله ومذهبه ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده رضي الله عنهم فلا التفات إليه والله أعلم .

وقد بنى بعض الأصحاب تحريم بيع رباع مكة على كونها فتحت عنوة وهذا بناء غير صحيح فإن مساكن أرض العنوة تباع قولا واحدا ، فظهر بطلان هذا البناء والله أعلم .



[ تعيين قتل الساب له صلى الله عليه وسلم ]
وفيها : تعيين قتل الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن قتله حد لا بد من استيفائه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمن مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه مع أن نساء أهل الحرب لا يقتلن كما لا تقتل الذرية وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين وأهدر دم أم ولد الأعمى لما قتلها سيدها لأجل سبها النبي صلى الله عليه وسلم وقتل كعب بن الأشرف اليهودي ، وقال من لكعب فإنه قد آذى الله ورسوله " وكان يسبه وهذا إجماع من الخلفاء الراشدين ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف فإن الصديق - رضي الله عنه - قال لأبي برزة الأسلمي وقد هم بقتل من سبه لم يكن هذا لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومر عمر - رضي الله عنه - براهب فقيل له هذا يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لو سمعته لقتلته ، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه وسلم

ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذية ونكاية لنا من المحاربة باليد ومنع دينار جزية في السنة فكيف ينقض عهده ويقتل بذلك دون السب وأي نسبة لمفسدة منعه دينارا في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسب نبينا أقبح سب على رءوس الأشهاد بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينتقض عهده بشيء أعظم منه إلا سبه الخالق سبحانه فهذا محض القياس ومقتضى النصوص وإجماع الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلا .

[له صلى الله عليه وسلم الخيار في حياته لقتل من سبه ]

فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل عبد الله بن أبي وقد قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي وقد قال له اعدل فإنك لم تعدل ولم يقتل من قال له يقولون إنك تنهى عن الغي وتستخلي به ولم يقتل القائل له إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي أن كان ابن عمتك ، وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذى له وتنقص .

من أسباب عدم قتله صلى الله عليه وسلم من سبه تأليف الناس
وعدم بلوغهم أنه يقتل أصحابه

قيل الحق كان له فله أن يستوفيه وله أن يسقطه وليس لمن بعده أن يسقط حقه كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه وله أن يسقط وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرهم مصالح عظيمة في حياته زالت بعد موته من تأليف الناس وعدم تنفيرهم عنه فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا ، وقد أشار إلى هذا بعينه وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي : لا يبلغ الناس أن محمدا يقتل أصحابه

ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف وجمع القلوب عليه كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل وترجحت جدا ، قتل الساب كما فعل بكعب بن الأشرف ، فإنه جاهر بالعداوة والسب فكان قتله أرجح من إبقائه وكذلك قتل ابن خطل ، ومقيس والجاريتين وأم ولد الأعمى ، فقتل للمصلحة الراجحة وكف للمصلحة الراجحة فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه لم يكن لهم أن يسقطوا حقه .



فصل فيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم
[ تحريم الله لمكة ]

فمنها قوله إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس فهذا تحريم شرعي قدري سبق به قدره يوم خلق هذا العالم ثم ظهر به على لسان خليله إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما في " الصحيح " عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم إن إبراهيم خليلك حرم مكة ، وإني أحرم المدينة فهذا إخبار عن ظهور التحريم السابق يوم خلق السموات والأرض على لسان إبراهيم ولهذا لم ينازع أحد من أهل الإسلام في تحريمها ، وإن تنازعوا في تحريم المدينة ، والصواب المقطوع به تحريمها ، إذ قد صح فيه بضعة وعشرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مطعن فيها بوجه .

[ تحريم سفك الدم فيها ]

ومنها : قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها لكونها حرما ، كما أن تحريم عضد الشجر بها ، واختلاء خلائها ، والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ونظام واحد وإلا بطلت فائدة التخصيص وهذا أنواع

[ لا تقاتل الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام ]

أحدها - وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله - أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل لا سيما إن كان لها تأويل كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد وبايعوا ابن الزبير ، فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهما ، وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع وإنما خالف في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته وعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه فقال إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، فيقال له هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه وقام الإسلام على ذلك وإنما لم يعذ مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، ومن سمي معهما ، لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما ، بل حلا ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم ، فلا يهيجه وكان ذلك بينهم خاصية الحرم التي صار بها حرما ، ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل فقطع الإلحاق وقال لأصحابه فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : " إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك وعلى هذا فمن أتى حدا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل ثم لجأ إليه لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه

وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال لو لقيت فيه قاتل عمر ما ندهته وعن ابن عباس ، أنه قال لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق ، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث .

وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى منه في الحرم ، كما يستوفى منه في الحل وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة

وبما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا بخربة وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدا أو قصاصا ، لم يعذه الحرم ، ولم يمنع من إقامته عليه فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم ، وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه كالحية والحدأة والكلب العقور ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة وهي فسقهن ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل .

قال الأولون ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ولا سيما قوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ آل عمران 97 ] ، وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ العنكبوت 67 ] ، وقوله تعالى : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء [ القصص 57 ] وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم ومن دخله كان آمنا من النار وقول بعضهم كان آمنا من الموت على غير الإسلام ونحو ذلك فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام فلا يقول محصل إن قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء 24 ] مخصوص بالمنكوحة في عدتها ، أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه والحال المحرمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم ليس ذلك تخصيصا ، بل تقييدا لمطلقها ، كلنا لكم بهذا الصاع سواء بسواء .

وأما قتل ابن خطل ، فقد تقدم أنه كان في وقت الحل والنبي صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق ونص على أن ذلك من خصائصه وقوله صلى الله عليه وسلم وإنما أحلت لي ساعة من نهار صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة إذ لو كان حلالا في كل وقت لم يختص بتلك الساعة وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة وأما قوله الحرم لا يعيذ عاصيا فهو من كلام لفاسق عمرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث كما جاء مبينا في " الصحيح " فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما قولكم لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه فهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال سفك الدم إنما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريم ما دونه لأن حرمة النفس أعظم والانتهاك بالقتل أشد قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك قال أبو بكر هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل قال والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض فتحقق بطلانه على التقديرين .

قالوا : وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من انتهك فيه الحرمة إذ أتى فيه ما يوجب الحد فكذلك اللاجئ إليه فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما ، فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن ابن طاووس ، عن أبيه عن ابن عباس قال من سرق أو قتل في الحل ثم دخل الحرم ، فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ، ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد وإن سرق أو قتل في الحرم ، أقيم عليه في الحرم وذكر الأثرم ، عن ابن عباس أيضا : من أحدث حدثا في الحرم ، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء

وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم ، فقال ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم [ البقرة 191 ] .

[ الفرق بين اللاجئ والمنتهك ]

والفرق بين اللاجئ والمنتهك فيه من وجوه أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه فقياس أحدهما على الآخر باطل .

الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط السلطان وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرا .

الثالث أن الجاني في الحرم قد انتهك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .

الرابع أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم ، لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم ، لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .

والخامس أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى ، المتعلق بأستاره فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج بخلاف المقدم على انتهاك حرمته فظهر سر الفرق وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه . وأما قولكم إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات فإن الحرم يعصمها .

وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها .



فصل [ هل يجوز قلع شجر مكة الذي أنبته الآدمي ؟]
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم ولا يعضد بها شجر وفي اللفظ الآخر ولا يعضد شوكها وفي لفظ في " صحيح مسلم " : ولا يخبط شوكها لا خلاف بينهم أن الشجر البري الذي لم ينبته الآدمي على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللفظ واختلفوا فيما أنبته الآدمي من الشجر في الحرم على ثلاثة أقوال وهي في مذهب أحمد :

أحدها : أن له قلعه ولا ضمان عليه وهذا اختيار ابن عقيل ، وأبي الخطاب وغيرهما .

والثاني : أنه ليس له قلعه وإن فعل ففيه الجزاء بكل حال وهو قول الشافعي ، وهو الذي ذكره ابن البناء في " خصاله " .

الثالث الفرق بين ما أنبته في الحل ثم غرسه في الحرم ، وبين ما أنبته في الحرم أولا ، فالأول لا جزاء فيه والثاني : لا يقلع وفيه الجزاء بكل حال وهذا قول القاضي .

وفيه قول رابع وهو الفرق بين ما ينبت الآدمي جنسه كاللوز والجوز والنخل ونحوه وما لا ينبت الآدمي جنسه كالدوح والسلم ونحوه فالأول يجوز قلعه ولا جزاء فيه والثاني : لا يجوز وفيه الجزاء .

قال صاحب " المغني " : والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله إلا ما أنبت الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحشي كذا ها هنا ، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع فصار في مذهب أحمد أربعة أقوال .

والحديث ظاهر جدا في تحريم قطع الشوك والعوسج وقال الشافعي : لا يحرم قطعه لأنه يؤذي الناس بطبعه فأشبه السباع وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل ، وهو مروي عن عطاء ومجاهد وغيرهما . وقوله صلى الله عليه وسلم لا يعضد شوكها وفي اللفظ الآخر لا يختلى شوكها صريح في المنع ولا يصح قياسه على السباع العادية فإن تلك تقصد بطبعها الأذى ، وهذا لا يؤذي من لم يدن منه .

والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس ولكن قد جوزوا قطع اليابس قالوا : لأنه بمنزلة الميت ولا يعرف فيه خلاف وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد وليس في أخذ اليابس انتهاك حرمة الشجرة الخضراء التي تسبح بحمد ربها ، ولهذا غرس النبي صلى الله عليه وسلم على القبرين غصنين أخضرين وقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا

[ هل يجوز الانتفاع بما انقلع بنفسه أو بقلع قالع ؟ ]

وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها ، أو انكسر الغصن جاز الانتفاع به لأنه لم يعضده هو وهذا لا نزاع فيه .

فإن قيل فما تقولون فيما إذا قلعها قالع ثم تركها ، فهل يجوز له أو لغيره أن ينتفع بها ؟ قيل قد سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها ، وقال لم أسمع إذا قطعه ينتفع به .

وفيه وجه آخر أنه يجوز لغير القاطع الانتفاع به لأنه قطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به كما لو قلعته الريح وهذا بخلاف الصيد إذا قتله محرم حيث يحرم على غيره فإن قتل المحرم له جعله ميتة .

وقوله في اللفظ الآخر ولا يخبط شوكها صريح أو كالصريح في تحريم قطع الورق وهذا مذهب أحمد - رحمه الله - وقال الشافعي : له أخذه ويروى عن عطاء والأول أصح لظاهر النص والقياس فإن منزلته من الشجرة منزلة ريش الطائر منه وأيضا فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان فإنه لباسها ووقايتها .

[ لا يقلع حشيش مكة ما دام رطبا ]

وقوله صلى الله عليه وسلم ولا يختلى خلاها لا خلاف أن المراد من ذلك ما ينبت بنفسه دون ما أنبته الآدميون ولا يدخل اليابس في الحديث بل هو للرطب خاصة فإن الخلا بالقصر الحشيش الرطب ما دام رطبا ، فإذا يبس فهو حشيش وأخلت الأرض كثر خلاها ، واختلاء الخلى : قطعه ومنه الحديث كان ابن عمر يختلي لفرسه أي يقطع لها الخلى ، ومنه سميت المخلاة وهي وعاء الخلى ، والإذخر مستثنى بالنص وفي تخصيصه بالاستثناء دليل على إرادة العموم فيما سواه .

فإن قيل فهل يتناول الحديث الرعي أم لا ؟ قيل هذا فيه قولان أحدهما : لا يتناوله فيجوز الرعي وهذا قول الشافعي .

والثاني : يتناوله بمعناه وإن لم يتناوله بلفظه فلا يجوز الرعي وهو مذهب أبي حنيفة ، والقولان لأصحاب أحمد .

قال المحرمون وأي فرق بين اختلائه وتقديمه للدابة وبين إرسال الدابة عليه ترعاه ؟ قال المبيحون لما كانت عادة الهدايا أن تدخل الحرم ، وتكثر فيه ولم ينقل قط أنها كانت تسد أفواهها ، دل على جواز الرعي .

قال المحرمون الفرق بين أن يرسلها ترعى ، ويسلطها على ذلك وبين أن ترعى بطبعها من غير أن يسلطها صاحبها ، وهو لا يجب عليه أن يسد أفواهها ، كما لا يجب عليه أن يسد أنفه في الإحرام عن شم الطيب وإن لم يجز له أن يتعمد شمه وكذلك لا يجب عليه أن يمتنع من السير خشية أن يوطئ صيدا في طريقه وإن لم يجز له أن يقصد ذلك وكذلك نظائره .

فإن قيل فهل يدخل في الحديث أخذ الكمأة والفقع وما كان مغيبا في الأرض ؟ قيل لا يدخل فيه لأنه بمنزلة الثمرة وقد قال أحمد : يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق .



فصل [ لا ينفر صيدها ]

وقوله صلى الله عليه وسلم ولا ينفر صيدها صريح في تحريم التسبب إلى قتل الصيد واصطياده بكل سبب حتى إنه لا ينفره عن مكانه لأنه حيوان محترم في هذا المكان قد سبق إلى مكان فهو أحق به ففي هذا أن الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكان لم يزعج عنه .



فصل [ لا تملك لقطة الحرم ]
وقوله صلى الله عليه وسلم ولا يلتقط ساقطتها إلا من عرفها وفي لفظ ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد فيه دليل على أن لقطة الحرم لا تملك بحال وأنها لا تلتقط إلا للتعريف لا للتمليك وإلا لم يكن لتخصيص مكة بذلك فائدة أصلا ، وقد اختلف في ذلك فقال مالك وأبو حنيفة لقطة الحل والحرم سواء وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، وأحد قولي الشافعي ، ويروى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنهم وقال أحمد في الرواية الأخرى ، والشافعي في القول الآخر لا يجوز التقاطها للتمليك وإنما يجوز لحفظها لصاحبها ، فإن التقطها ، عرفها أبدا حتى يأتي صاحبها ، وهذا قول عبد الرحمن بن مهدي ، وأبي عبيد ، وهذا هو الصحيح والحديث صريح فيه والمنشد المعرف والناشد الطالب ومنه قوله

إصاخة الناشد للمنشد .


وقد روى أبو داود في " سننه " : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج وقال ابن وهب : يعني يتركها حتى يجدها صاحبها .

قال شيخنا : وهذا من خصائص مكة ، والفرق بينها وبين سائر الآفاق في ذلك أن الناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة فلا يتمكن صاحب الضالة من طلبها والسؤال عنها ، بخلاف غيرها من البلاد .



فصل [ لا يتعين في قتل العمد القصاص ]
وقوله صلى الله عليه وسلم في الخطبة ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل وإما أن يأخذ الدية فيه دليل على أن الواجب بقتل العمد لا يتعين في القصاص بل هو أحد شيئين إما القصاص وإما الدية .

وفي ذلك ثلاثة أقوال وهي روايات عن الإمام أحمد .

أحدها : أن الواجب أحد شيئين إما القصاص وإما الدية والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء العفو مجانا ، والعفو إلى الدية والقصاص ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة . والرابع المصالحة على أكثر من الدية فيه وجهان . أشهرهما مذهبا : جوازه . والثاني : ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها ، وهذا أرجح دليلا ، فإن اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه بعد وهذا مذهب الشافعي ، وإحدى الروايتين عن مالك .

والقول الثاني : أن موجبه القود عينا ، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدية إلا برضى الجاني ، فإن عدل إلى الدية ولم يرض الجاني ، فقوده بحاله وهذا مذهب مالك في الرواية الأخرى وأبي حنيفة .

والقول الثالث أن موجبه القود عينا مع التخيير بينه وبين الدية وإن لم يرض الجاني ، فإذا عفا عن القصاص إلى الدية فرضي الجاني ، فلا إشكال وإن لم يرض فله العود إلى القصاص عينا ، فإن عفا عن القود مطلقا ، فإن قلنا : الواجب أحد الشيئين فله الدية وإن قلنا : الواجب القصاص عينا ، سقط حقه منها .

فإن قيل فما تقولون فيما لو مات القاتل ؟ قلنا : في ذلك قولان أحدهما : تسقط الدية وهو مذهب أبي حنيفة لأن الواجب عندهم القصاص عينا ، وقد زال محل استيفائه بفعل الله تعالى ، فأشبه ما لو مات العبد الجاني ، فإن أرش الجناية لا ينتقل إلى ذمة السيد وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن حيث لا يسقط الحق لثبوته في ذمة الراهن والمضمون عنه فلم يسقط بتلف الوثيقة .

وقال الشافعي وأحمد تتعين الدية في تركته لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط فوجب الدية لئلا يذهب الورثة من الدم والدية مجانا . فإن قيل فما تقولون لو اختار القصاص ثم اختار بعده العفو إلى الدية هل له ذلك ؟ قلنا : هذا فيه وجهان أحدهما : أن له ذلك لأن القصاص أعلى ، فكان له الانتقال إلى الأدنى . والثاني : ليس له ذلك لأنه لما اختار القصاص فقد أسقط الدية باختياره له فليس له أن يعود إليها بعد إسقاطها .

فإن قيل فكيف تجمعون بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم من قتل عمدا ، فهو قود

قيل لا تعارض بينهما بوجه فإن هذا يدل على وجوب القود بقتل العمد وقوله " فهو بخير النظرين " يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له وبين أخذ بدله وهو الدية فأي تعارض ؟ وهذا الحديث نظير قوله تعالى : كتب عليكم القصاص [ البقرة 178 ] ، وهذا لا ينفي تخيير المستحق له بين ما كتب له وبين بدله . والله أعلم .

فصل [ إباحة قطع الإذخر ]
وقوله صلى الله عليه وسلم في الخطبة " إلا الإذخر " ، بعد قول العباس له إلا الإذخر يدل على مسألتين

إحداهما : إباحة قطع الإذخر .

[ لا يشترط في الاستثناء نيته من أول الكلام ولا قبل فراغه ]

والثانية أنه لا يشترط في الاستثناء أن ينويه من أول الكلام ولا قبل فراغه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان ناويا لاستثناء الإذخر من أول كلامه أو قبل تمامه لم يتوقف استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك وإعلامه أنهم لا بد لهم منه لقينهم وبيوتهم ونظير هذا استثناؤه صلى الله عليه وسلم لسهيل بن بيضاء من أسارى بدر بعد أن ذكره به ابن مسعود ، فقال لا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام فقال " إلا سهيل بن بيضاء " ومن المعلوم أنه لم يكن قد نوى الاستثناء في الصورتين من أول كلامه .

ونظيره أيضا قول الملك لسليمان لما قال لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله فقال له الملك قل إن شاء الله تعالى ، فلم يقل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قال إن شاء الله تعالى ، لقاتلوا في سبيل الله أجمعون وفي لفظ لكان دركا لحاجته فأخبر أن هذا الاستثناء لو وقع منه في هذه الحالة لنفعه ومن يشترط النية يقول لا ينفعه .

ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا ثلاثا ، ثم سكت ثم قال إن شاء الله فهذا استثناء بعد سكوت وهو يتضمن إنشاء الاستثناء بعد الفراغ من الكلام والسكوت عليه وقد نص أحمد على جوازه وهو الصواب بلا ريب والمصير إلى موجب هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة أولى . وبالله التوفيق .

فصل [ الدليل على كتابة العلم ]
وفي القصة أن رجلا من الصحابة يقال له أبو شاه ، قام فقال اكتبوا لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتبوا لأبي شاه يريد خطبته ففيه دليل على كتابة العلم ونسخ النهي عن كتابة الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي يتلى بالوحي الذي لا يتلى ، ثم أذن في الكتابة لحديثه .

وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه وكان مما كتبه صحيفة تسمى الصادقة وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب ، عن أبيه عنه وهي من أصح الأحاديث وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب عن نافع عن ابن عمر والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها .

فصل [ الصلاة في المكان المصور أشد كراهة من الصلاة في الحمام ]
وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت وصلى فيه ولم يدخله حتى محيت الصور منه . ففيه دليل على كراهة الصلاة في المكان المصور وهذا أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام لأن كراهة الصلاة في الحمام إما لكونه مظنة النجاسة وإما لكونه بيت الشيطان وهو الصحيح وأما محل الصور فمظنة الشرك غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور .

فصل [ جواز لبس السواد ]
وفي القصة أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء ، ففيه دليل على جواز لبس السواد أحيانا ، ومن ثم جعل خلفاء بني العباس لبس السواد شعارا لهم ولولاتهم وقضاتهم وخطبائهم والنبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه لباسا راتبا ، ولا كان شعاره في الأعياد والجمع والمجامع العظام البتة وإنما اتفق له لبس العمامة السوداء يوم الفتح دون سائر الصحابة ولم يكن سائر لباسه يومئذ السواد بل كان لواؤه أبيض .



فصل [ متى حرمت متعة النساء ؟]
ومما وقع في هذه الغزوة إباحة متعة النساء ثم حرمها قبل خروجه من مكة ، واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة على أربعة أقوال

أحدها : أنه يوم خيبر ، وهذا قول طائفة من العلماء . منهم الشافعي وغيره . والثاني : أنه عام فتح مكة ، وهذا قول ابن عيينة وطائفة . والثالث أنه عام حنين ، وهذا في الحقيقة هو القول الثاني ، لاتصال غزاة حنين بالفتح .

والرابع أنه عام حجة الوداع وهو وهم من بعض الرواة سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع كما سافر وهم معاوية من عمرة الجعرانة إلى حجة الوداع حيث قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة في حجته وقد تقدم في الحج وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن دونهم .

[ ترجيح المصنف تحريم المتعة عام الفتح ]

والصحيح أن المتعة إنما حرمت عام الفتح لأنه قد ثبت في " صحيح مسلم " أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه ولو كان التحريم زمن خيبر ، لزم النسخ مرتين وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة ولا يقع مثله فيها ، وأيضا : فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنما كن يهوديات وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة 5 ] ، وهذا متصل بقوله اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة 3 ] ، وبقوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم [ المائدة 3 ] ، وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع أو فيها ، فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابتة زمن خيبر ، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح وبعد الفتح استرق من استرق منهن وصرن إماء للمسلمين .

فإن قيل فما تصنعون بما ثبت في " الصحيحين " من حديث علي بن أبي طالب : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية " وهذا صحيح صريح ؟ .

قيل هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين هذا أحدهما . والثاني : الاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، هذه رواية ابن عيينة عن الزهري . قال قاسم بن أصبغ : قال سفيان بن عيينة : يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، لا عن نكاح المتعة ذكره أبو عمر وفي " التمهيد " : ثم قال على هذا أكثر الناس انتهى ، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف لتحريمهن فرواه حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر ، والحمر الأهلية واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث فقال حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر ، فجاء بالغلط البين .

فإن قيل فأي فائدة في الجمع بين التحريمين إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد وأين المتعة من تحريم الحمر ؟ قيل هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - محتجا به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر فناظره علي بن أبي طالب في المسألتين وروى له التحريمين وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر ، وأطلق تحريم المتعة وقال إنك امرؤ تائه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر كما قاله سفيان بن عيينة ، وعليه أكثر الناس فروى الأمرين محتجا عليه بهما ، لا مقيدا لهما بيوم خيبر والله الموفق .

ولكن هاهنا نظر آخر وهو أنه هل حرمها تحريم الفواحش التي لا تباح بحال أو حرمها عند الاستغناء عنها ، وأباحها للمضطر ؟ هذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة أمسك ابن عباس عن الإفتاء بحلها ، ورجع عنه . وقد كان ابن مسعود يرى إباحتها ويقرأ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ المائدة 87 ] ، ففي " الصحيحين " عنه قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [ المائدة 87 ] .

وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين أحدهما : الرد على من يحرمها ، وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني : أن يكون أراد آخر هذه الآية وهو الرد على من أباحها مطلقا ، وأنه معتد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رخص فيها للضرورة وعند الحاجة في الغزو وعند عدم النساء وشدة الحاجة إلى المرأة . فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء وإمكان النكاح المعتاد فقد اعتدى ، والله لا يحب المعتدين .

فإن قيل فكيف تصنعون بما روى مسلم في " صحيحه " من حديث جابر وسلمة بن الأكوع ، قالا : خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا يعني : متعة النساء قيل هذا كان زمن الفتح قبل التحريم ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما رواه مسلم في " صحيحه " ، عن سلمة بن الأكوع قال رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ، ثم نهى عنها . وعام أوطاس : هو عام الفتح لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .

فإن قيل فما تصنعون بما رواه مسلم في " صحيحه " ، عن جابر بن عبد الله ، قال كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث وفيما ثبت عن عمر أنه قال متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما : متعة النساء ومتعة الحج قيل الناس في هذا طائفتان طائفة تقول إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده وقد تكلم فيه ابن معين ، ولم ير البخاري إخراج حديث في " صحيحه " مع شدة الحاجة إليه وكونه أصلا من أصول الإسلام ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به قالوا : ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي أنهم فعلوها ، ويحتج بالآية وأيضا ولو صح لم يقل عمر إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنها ، وأعاقب عليها ، بل كان يقول إنه صلى الله عليه وسلم حرمها ونهى عنها . قالوا : ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقا . والطائفة الثانية رأت صحة حديث سبرة ولو لم يصح فقد صح حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر رضي الله عنه فلما وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها . وبالله التوفيق .

فصل [ جواز إجارة المرأة وأمانها للرجلين ]
وفي قصة الفتح من الفقه جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين كما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم أمان أم هانئ لحمويها .

[ جواز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة ]

وفيها من الفقه جواز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وهاجر ، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ولحق بمكة ، فلما كان يوم الفتح أتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه فأمسك عنه طويلا ، ثم بايعه وقال إنما أمسكت عنه ليقوم إليه بعضكم ، فيضرب عنقه فقال له رجل هلا أومأت إلي يا رسول الله ؟ فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين فهذا كان قد تغلظ كفره بردته بعد إيمانه وهجرته وكتابة الوحي ثم ارتد ولحق بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله فلما جاء به عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حياء من عثمان ولم يبايعه ليقوم إليه بعض أصحابه فيقتله فهابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدموا على قتله بغير إذنه واستحى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عثمان وساعد القدر السابق لما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح فبايعه وكان ممن استثنى الله بقوله كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ آل عمران 86 - 89 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف ظاهره باطنه ولا سره علانيته وإذا نفذ حكم الله وأمره لم يوم به بل صرح به واعلنه واظهره

يتبع

اخت مسلمة
04-09-2009, 09:18 PM
افتراضي

فصل في غزوة حنين
وتسمى غزوة أوطاس وهما موضعان بين مكة والطائف ، فسميت الغزوة باسم مكانها ، وتسمى غزوة هوازن ، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال ابن إسحاق : ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة ، جمعها مالك بن عوف النصري ، واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ، واجتمعت إليه مضر وجشم كلها ، وسعد بن بكر ، وناس من بني هلال ، وهم قليل ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعا مجربا ، وفي ثقيف سيدان لهم وفي الأحلاف قارب بن الأسود ، وفي بني مالك سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري ، فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة ، فلما نزل قال بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم . قال أين مالك ؟ قيل هذا مالك ودعي له . قال يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك ، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء ؟ قال سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم . قال ولم ؟ قال أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم . فقال راعي ضأن والله وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ، ثم قال ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها أحد منهم .

قال غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ؟ قال ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران . يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم ثم الق الصباة على متون الخيل فإن كانت لك ، لحق بك من وراءك ، إن كانت عليك ، ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك . قال والله لا أفعل إنك قد كبرت وكبر عقلك والله لتطيعنني يا معشر هوازن ، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي فقالوا : أطعناك ، فقال دريد هذا يوم لم أشهده ولم يفتني .


يا ليتني فيها جذع

أخب فيها وأضع

أقود وطفاء الزمع

كأنها شاة صدع


ثم قال مالك للناس إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد وبعث عيونا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم قال ويلكم ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالا بيضا على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى ، فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .

ولما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر .

فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا ، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال يا أبا أمية أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدا ، فقال صفوان أغصبا يا محمد ؟ قال " بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك " ، فقال ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها ، ففعل

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ألفان من أهل مكة ، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة ، وكانوا اثني عشر ألفا ، واستعمل عتاب بن أسيد على مكة أميرا ، ثم مضى يريد لقاء هوازن .

قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه جابر بن عبد الله ، قال لما استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا . قال وفي عماية الصبح وكان القوم سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه قد أجمعوا ، وتهيئوا ، وأعدوا فوالله ما راعنا - ونحن منحطون - إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ثم قال إلى أين أيها الناس ؟ هلم إلي أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس ، وربيعة بن الحارث ، وأسامة بن زيد ، وأيمن ابن أم أيمن ، وقتل يومئذ .

قال ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن ، وهوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه فبينا هو كذلك إذ أهوى عليه علي بن أبي طالب ، ورجل من الأنصار يريدانه قال فأتى علي من خلفه فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله قال فاجتلد الناس . قال فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر وإن الأزلام لمعه في كنانته وصرخ جبلة بن الحنبل - وقال ابن هشام : صوابه كلدة - ألا بطل السحر اليوم فقال له صفوان أخوه لأمه وكان بعد مشركا : اسكت فض الله فاك ، فوالله لأن يربني رجل من قريش ، أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن .

وذكر ابن سعد عن شيبة بن عثمان الحجبي ، قال لما كان عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قلت : أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها ، وأقول لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ، ما تبعته أبدا ، وكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته فأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه فرفع لي شواظ من نار كالبرق كاد يمحشني ، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداني : يا شيب ادن مني " فدنوت منه فمسح صدري ، ثم قال " اللهم أعذه من الشيطان " قال فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي ، وبصري ، ونفسي ، وأذهب الله ما كان في نفسي ، ثم قال " ادن فقاتل فتقدمت أمامه أضرب بسيفي ، الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيا لأوقعت به السيف فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون فكروا كرة رجل واحد وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوى عليها ، وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه ما دخل عليه أحد غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به فقال يا شيب الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك " ، ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي ما لم أكن أذكره لأحد قط قال فقلت فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلت : استغفر لي . فقال " غفر الله لك

وقال ابن إسحاق : وحدثني الزهري ، عن كثير بن العباس ، عن أبيه العباس بن عبد المطلب ، قال إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها ، وكنت امرءا جسيما شديد الصوت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس إلى أين أيها الناس ؟ " قال فلم أر الناس يلوون على شيء فقال " يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار ، يا معشر أصحاب السمرة " ، فأجابوا : لبيك لبيك قال فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا فكانت الدعوة أول ما كانت يا للأنصار ثم خلصت آخرا : يا للخزرج وكانوا صبرا عند الحرب فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون فقال الآن حمي الوطيس وزاد غيره .

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب


وفي " صحيح مسلم " : ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بها . في وجوه الكفار ثم قال انهزموا ورب محمد فما هو إلا أن رماهم فما زلت أرى حدهم كليلا ، وأمرهم مدبرا .

وفي لفظ له إنه نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل بها وجوههم وقال شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين .

وذكر ابن إسحاق عن جبير بن مطعم ، قال لقد رأيت - قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون يوم حنين - مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم فلم أشك أنها الملائكة .

قال ابن إسحاق : ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ، ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه القتال فرمي بسهم فقتل فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن أخيه فقاتلهم ففتح الله عليه فهزمهم الله وقتل قاتل أبي عامر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لعبيد أبي عامر وأهله واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك واستغفر لأبي موسى .

ومضى مالك بن عوف حتى تحصن بحصن ثقيف ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبي والغنائم أن تجمع فجمع ذلك كله ووجهوه إلى الجعرانة ، وكان السبي ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفا ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة فاستأنى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة ليلة .

[ أعطى صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم
أول الناس منهم أبو سفيان وحكيم بن حزام ]

ثم بدأ بالأموال فقسمها ، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل فقال ابني يزيد ؟ فقال " أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل " ، فقال ابني معاوية ؟ قال " أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل " ، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل ثم سأله مائة أخرى فأعطاه وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي خمسين وذكر أصحاب المائة - وأصحاب الخمسين - وأعطى العباس بن مرداس أربعين فقال في ذلك شعرا ، فكمل له المائة . ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس ثم فضها على الناس فكانت سهامهم لكل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة . فإن كان فارسا أخذ اثني عشر بعيرا وعشرين ومائة شاة .

[ إرضاؤه صلى الله عليه وسلم الأنصار ]

قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن أبي سعيد الخدري قال لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش ، وفي قبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء . قال فأين أنت من ذلك يا سعد " قال يا رسول الله ما أنا إلا من قومي . قال فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ؟ قال فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا ، أتى سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال " يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أمن وأفضل . ثم قال " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله لله ولرسوله المن والفضل . قال " أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك أوجدتم علي يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وواديا ، وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها ، الأنصار شعار والناس دثار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار " قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا

[ قدوم أخته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ]

وقدمت الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فقالت يا رسول الله إني أختك من الرضاعة قال وما علامة ذلك ؟ قالت عضة عضضتنيها في ظهري ، وأنا متوركتك . قال فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وخيرها ، فقال إن أحببت الإقامة فعندي محببة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك فترجعي إلى قومك " ؟ قالت بل تمتعني وتردني إلى قومي ، ففعل فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما يقال له مكحول وجارية فزوجت إحداهما من الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية . وقال أبو عمر فأسلمت فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما ، وشاء وسماها حذافة . وقال والشيماء لقب .


افتراضي

فصل [ قدوم وفد هوازن ]
وقدم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا ، ورأسهم زهير بن صرد ، وفيهم أبو برقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فسألوه أن يمن عليهم بالسبي والأموال فقال إن معي من ترون ، وإن أحب الحديث إلي أصدقه فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ " قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقال إذا صليت الغداة فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا علينا سبينا " ، فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب ، فهو لكم وسأسأل لكم الناس فقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأقرع بن حابس أما أنا وبنو تميم ، فلا ، وقال عيينة بن حصن أما أنا وبنو فزارة فلا وقال العباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم ، فلا ، فقالت بنو سليم : ما كان لنا ، فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال العباس بن مرداس : وهنتموني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين وقد كنت استأنيت سبيهم وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا ، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا ، فقال الناس قد طيبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم

ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يديه ثم ردها بعد ذلك وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية .

فصل في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية
[ تسببت حرب هوازن له صلى الله عليه وسلم في إظهار أمر الله ]

كان الله عز وجل قد وعد رسوله وهو صادق الوعد أنه إذا فتح مكة ، دخل الناس في دينه أفواجا ، ودانت له العرب بأسرها ، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام وأن يجمعوا ويتألبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ليظهر أمر الله وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح وليظهر الله - سبحانه - رسوله وعباده وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب ، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدو للمتوسمين .

واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم ليطامن رءوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته أن أحل له حرمه وبلده ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده وليبين سبحانه لمن قال لن نغلب اليوم عن قلة أن النصر إنما هو من عنده وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له غيره وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه لا كثرتكم التي أعجبتكم فإنها لم تغن عنكم شيئا ، فوليتم مدبرين فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [ القصص 6 ] .

[ الإكرام بالغنائم الكثيرة بعد أن منعوا غنائم مكة ]

ومنها : أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم مكة ، فلم يغنموا منها ذهبا ، ولا فضة ولا متاعا ، ولا سبيا ، ولا أرضا كما روى أبو داود ، عن وهب بن منبه ، قال سألت جابرا : هل غنموا يوم الفتح شيئا ؟ قال لا وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب وهم عشرة آلاف وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشائهم وسبيهم معهم نزلا ، وضيافة وكرامة لحزبه وجنده وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر وألاح لهم مبادئ النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه وبردت الغنائم لأهلها ، وجرت فيها سهام الله ورسوله قيل لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاءوا مسلمين . فقيل إن من شكر إسلامكم وإتيانكم أن نرد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم و إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم [ الأنفال 70 ] .

[ اشتراك الملائكة في غزوتي بدر وحنين ]

ومنها : أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوة بدر ، وختم غزوهم بغزوة حنين ، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر فيقال بدر وحنين ، وإن كان بينهما سبع سنين والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين والنبي صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما ، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فالأولى : خوفتهم وكسرت من حدهم والثانية استفرغت قواهم واستنفدت سهامهم وأذلت جمعهم حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله .

ومنها : أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة ، وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم وإن كان عين جبرهم وعرفهم تمام نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هوازن ، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة وإنما نصروا عليهم بالمسلمين ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تعالى .



فصل [ إيجاب بعث العيون والسير إلى العدو إذا سمع بقصده له ]
وفيها : من الفقه أن الإمام ينبغي له أن يبعث العيون ومن يدخل بين عدوه ليأتيه بخبرهم وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوه له وفي جيشه قوة ومنعة لا يقعد ينتظرهم بل يسير إليهم كما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوازن حتى لقيهم بحنين .

[ جواز استعارة سلاح المشركين ]

ومنها : أن الإمام له أن يستعير سلاح المشركين وعدتهم لقتال عدوه كما استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم أدراع صفوان وهو يومئذ مشرك .

[ من تمام التوكل استعمال الأسباب ]

ومنها : أن من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبباتها قدرا وشرعا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكمل الخلق توكلا ، وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، والبيضة على رأسه وقد أنزل الله عليه والله يعصمك من الناس [ المائدة 67 ] .

وكثير ممن لا تحقيق عنده ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا ، ويتكايس في الجواب تارة بأن هذا فعله تعليما للأمة وتارة بأن هذا كان قبل نزول الآية . ووقعت في مصر مسألة سأل عنها بعض الأمراء وقد ذكر له حديث ذكره أبو القاسم بن عساكر في " تاريخه الكبير " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد أن أهدت له اليهودية الشاة المسمومة لا يأكل طعاما قدم له حتى يأكل منه من قدمه .

قالوا : وفي هذا أسوة للملوك في ذلك . فقال قائل كيف يجمع بين هذا وبين قوله تعالى : والله يعصمك من الناس فإذا كان الله سبحانه قد ضمن له العصمة فهو يعلم أنه لا سبيل لبشر إليه .

وأجاب بعضهم بأن هذا يدل على ضعف الحديث وبعضهم بأن هذا كان قبل نزول الآية فلما نزلت لم يكن ليفعل ذلك بعدها . ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها ، لأغناهم عن هذا التكلف فإن هذا الضمان له من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه ومحاربته بأنواع الحرب والتورية فكان إذا أراد الغزوة ورى بغيرها ، وذلك لأن هذا إخبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى ذلك مقتضية له وهو صلى الله عليه وسلم أعلم بربه وأتبع لأمره من أن يعطل الأسباب التي جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر إظهار دينه وغلبته لعدوه وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياته حتى يبلغ رسالاته ويظهر دينه وهو يتعاطى أسباب الحياة من المأكل والمشرب والملبس والمسكن وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدعاء وزعم أنه لا فائدة فيه لأن المسئول إن كان قد قدر ناله ولا بد وإن لم يقدر لم ينله فأي فائدة في الاشتغال بالدعاء ؟ ثم تكايس في الجواب بأن قال الدعاء عبادة فيقال لهذا الغالط بقي عليك قسم آخر - وهو الحق - أنه قد قدر له مطلوبه بسبب إن تعاطاه حصل له المطلوب وإن عطل السبب فاته المطلوب والدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب وما مثل هذا الغالط إلا مثل من يقول وإن كان الله قد قدر لي الشبع فأنا أشبع أكلت أو لم آكل إن لم يقدر لي الشبع لم أشبع أكلت أو لم آكل فما فائدة الأكل ؟ وأمثال هذه الترهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه وبالله التوفيق .

فصل [ هل العارية مضمونة ]
؟ وفيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط لصفوان في العارية الضمان فقال بل عارية مضمونة فهل هذا إخبار عن شرعه في العارية ووصف لها بوصف شرعه الله فيها ، وأن حكمها الضمان كما يضمن المغصوب أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها ، ومعناه أني ضامن لك تأديتها ، وأنها لا تذهب بل أردها إليك بعينها ؟ هذا مما اختلف فيه الفقهاء .

فقال الشافعي وأحمد بالأول وأنها مضمونة بالتلف . وقال أبو حنيفة ومالك بالثاني ، وأنها مضمونة بالرد على تفصيل في مذهب مالك وهو أن العين إن كانت مما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار لم تضمن بالتلف إلا أن يظهر كذبه وإن كانت مما يغاب عليه كالحلي ونحوه ضمنت بالتلف إلا أن يأتي ببينة تشهد على التلف وسر مذهبه أن العارية أمانة غير مضمونة كما قال أبو حنيفة إلا أنه لا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر فلذلك فرق بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه .

ومأخذ المسألة أن قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان " بل عارية مضمونة هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف ؟ أي أضمنها إن تلفت أو أضمن لك ردها ، وهو يحتمل الأمرين وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه

أحدها : أن في اللفظ الآخر " بل عارية مؤداة " ، فهذا يبين أن قوله " مضمونة " ، المراد به المضمونة بالأداء .

الثاني : أنه لم يسأله عن تلفها ، وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها ؟ فقال " لا بل أخذ عارية أؤديها إليك " . ولو كان سأله عن تلفها وقال أخاف أن تذهب لناسب أن يقول أنا ضامن لها إن تلفت .

الثالث أنه جعل الضمان صفة لها نفسها ، ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها ، فلما وقع الضمان على ذاتها ، دل على أنه ضمان أداء .

فإن قيل ففي القصة أن بعض الدروع ضاع فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها ، فقال أنا اليوم في الإسلام أرغب قيل هل عرض عليه أمرا واجبا أو أمرا جائزا مستحبا الأولى فعله وهو من مكارم الأخلاق والشيم ومن محاسن الشريعة ؟ وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان ولو كان الضمان واجبا ، لم يعرضه عليه بل كان يفي له به ويقول : هذا حقك ، كما لو كان الذاهب بعينه موجودا ، فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله .

فصل [ جواز عقر مركوب العدو إذا كان عونا على قتله ]

وفيها : جواز عقر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عونا على قتله كما عقر علي - رضي الله عنه - جمل حامل راية الكفار وليس هذا من تعذيب الحيوان المنهي عنه .

[ عفوه صلى الله عليه وسلم عمن هم بقتله ]

وفيها : عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن هم بقتله ولم يعاجله بل دعا له ومسح صدره حتى عاد ، كأنه ولي حميم .

[ إخباره صلى الله عليه وسلم شيبة بما أضمر في نفسه وثباته وقد تولى عنه الناس ]

ومنها : ما ظهر في هذه الغزاة من معجزات النبوة وآيات الرسالة من إخباره لشيبة بما أضمر في نفسه ومن ثباته وقد تولى عنه الناس وهو يقول

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب


وقد استقبلته كتائب المشركين .

ومنها : إيصال الله قبضته التي رمى بها إلى عيون أعدائه على البعد منه وبركته في تلك القبضة حتى ملأت أعين القوم إلى غير ذلك من معجزاته فيها ، كنزول الملائكة للقتال معه حتى رآهم العدو جهرة ورآهم بعض المسلمين .

[ جواز انتظار إسلام الكفار حتى ترد عليهم أموالهم قبل قسمها ]

ومنها : جواز انتظار الإمام بقسم الغنائم إسلام الكفار ودخولهم في الطاعة فيرد عليهم غنائمهم وسبيهم وفي هذا دليل لمن يقول إن الغنيمة إنما تملك بالقسمة لا بمجرد الاستيلاء عليها ، إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء لم يستأن بهم النبي صلى الله عليه وسلم ليردها عليهم وعلى هذا فلو مات أحد من الغانمين قبل القسمة أو إحرازها بدار الإسلام رد نصيبه على بقية الغانمين دون ورثته وهذا مذهب أبي حنيفة ، لو مات قبل الاستيلاء لم يكن لورثته شيء ولو مات بعد القسمة فسهمه لورثته .

فصل [ هل العطاء الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم لقريش والمؤلفة قلوبهم من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس ]

؟ وهذا العطاء الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لقريش ، والمؤلفة قلوبهم هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس ؟ فقال الشافعي ومالك : هو من خمس الخمس وهو سهمه صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له من الخمس وهو غير الصفي وغير ما يصيبه من المغنم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستأذن الغانمين في تلك العطية . ولو كان العطاء من أصل الغنيمة لاستأذنهم لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها ، وليس من أصل الخمس لأنه مقسوم على خمسة فهو إذا من خمس الخمس . وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة وهذا العطاء هو من النفل نفل النبي صلى الله عليه وسلم به رءوس القبائل والعشائر ليتألفهم به وقومهم على الإسلام فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس والربع بعده لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته وأهله واستجلاب عدوه إليه هكذا وقع سواء كما قال بعض هؤلاء الذي نفلهم لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي فما ظنك بعطاء قوى الإسلام وأهله وأذل الكفر وحزبه واستجلب به قلوب رءوس القبائل والعشائر الذين إذا غضبوا ، غضب لغضبهم أتباعهم وإذا رضوا رضوا لرضاهم . فإذا أسلم هؤلاء لم يتخلف عنهم أحد من قومهم فلله ما أعظم موقع هذا العطاء وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله . ومعلوم أن الأنفال لله ولرسوله يقسمها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل ولما عميت أبصار ذي الخويصرة التميمي وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة . قال له قائلهم اعدل فإنك لم تعدل . وقال مشبهه إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ولعمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله ومعرفته بربه وطاعته له وتمام عدله وإعطائه لله ومنعه لله ولله - سبحانه - أن يقسم الغنائم كما يحب وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة ، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم وله أن يسلط عليها نارا من السماء تأكلها ، وهو في ذلك كله أعدل العادلين وأحكم الحاكمين وما فعل ما فعله من ذلك عبثا ، ولا قدره سدى ، بل هو عين المصلحة والحكمة والعدل والرحمة مصدره كمال علمه وعزته وحكمته ورحمته ولقد أتم نعمته على قوم ردهم إلى منازلهم برسوله صلى الله عليه وسلم يقودونه إلى ديارهم وأرضى من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه وهذا فضله وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه فيوجبون عليه بعقولهم ويحرمون ورسوله منفذ لأمره .

فإن قيل فلو دعت حاجة الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه هل يسوغ له ذلك ؟

قيل الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين . فإن تعين ذلك للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رءوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم ساغ له ذلك بل تعين عليه وهل تجوز الشريعة غير هذا ، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما ، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما ، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين . وبالله التوفيق .



فصل [ جواز بيع الرقيق والحيوان بعضه ببعض نسيئة ومتفاضلا ]
وفيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يطيب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا .

ففي هذا دليل على جواز بيع الرقيق بل الحيوان بعضه ببعض نسيئة ومتفاضلا .

وفي " السنن " من حديث عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا ، فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة

وفي " السنن " عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ورواه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة وصححه .

وفي الترمذي من حديث الحجاج بن أرطاة عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نسيئا ، ولا بأس به يدا بيد قال الترمذي حديث حسن .

فاختلف الناس في هذه الأحاديث على أربعة أقوال وهي روايات عن أحمد .

أحدها : جواز ذلك متفاضلا ، ومتساويا نسيئة ويدا بيد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي .

والثاني : لا يجوز ذلك نسيئة ولا متفاضلا .

والثالث يحرم الجمع بين النساء والتفاضل ويجوز البيع مع أحدهما ، وهو قول مالك - رحمه الله -

والرابع إن اتحد الجنس جاز التفاضل وحرم النساء وإن اختلف الجنس جاز التفاضل والنساء .

وللناس في هذه الأحاديث والتأليف بينها ثلاثة مسالك

أحدها : تضعيف حديث الحسن عن سمرة لأنه لم يسمع منه سوى حديثين ليس هذا منهما ، وتضعيف حديث الحجاج بن أرطاة . والمسلك

الثاني : دعوى النسخ وإن لم يتبين المتأخر منها من المتقدم ولذلك وقع الاختلاف .

والمسلك الثالث حملها على أحوال مختلفة وهو أن النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إنما كان لأنه ذريعة إلى النسيئة في الربويات فإن البائع إذا رأى ما في هذا البيع من الربح لم تقتصر نفسه عليه بل تجره إلى بيع الربوي كذلك ، فسد عليهم الذريعة وأباحه يدا بيد ومنع من النساء فيه وما حرم للذريعة يباح للمصلحة الراجحة كما أباح من المزابنة العرايا للمصلحة الراجحة وأباح ما تدعو إليه الحاجة منها ، وكذلك بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا في هذه القصة وفي حديث ابن عمر إنما وقع في الجهاد وحاجة المسلمين إلى تجهيز الجيش ، ومعلوم أن مصلحة تجهيزه أرجح من المفسدة في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة والشريعة لا تعطل المصلحة الراجحة لأجل المرجوحة ونظير هذا جواز لبس الحرير في الحرب وجواز الخيلاء فيها ، إذ مصلحة ذلك أرجح من مفسدة لبسه ونظير ذلك لباسه القباء الحرير الذي أهداه له ملك أيلة ساعة ثم نزعه للمصلحة الراجحة في تأليفه وجبره وكان هذا بعد النهي عن لباس الحرير كما بيناه مستوفى في كتاب " التخيير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير " وبينا أن هذا كان عام الوفود سنة تسع وأن النهي عن لباس الحرير كان قبل ذلك بدليل أنه نهى عمر عن لبس الحلة الحرير التي أعطاه إياها ، فكساها عمر أخا له مشركا بمكة وهذا كان قبل الفتح ولباسه صلى الله عليه وسلم هدية ملك أيلة كان بعد ذلك ونظير هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة قبل طلوع الشمس وبعد العصر سدا لذريعة التشبه بالكفار وأباح ما فيه مصلحة راجحة من قضاء الفوائت وقضاء السنن وصلاة الجنازة وتحية المسجد لأن مصلحة فعلها أرجح من مفسدة النهي . والله أعلم .

وفي القصة دليل على أن المتعاقدين إذا جعلا بينهما أجلا غير محدود جاز إذا اتفقا عليه ورضيا به وقد نص أحمد على جوازه في رواية عنه في الخيار مدة غير محدودة أنه يكون جائزا حتى يقطعاه وهذا هو الراجح إذ لا محذور في ذلك ولا عذر وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضى بموجب العقد فكلاهما في العلم به سواء فليس لأحدهما مزية على الآخر فلا يكون ذلك ظلما .
يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 09:31 PM
فصل [ هل الأسلاب مستحقة بالشرع أو بالشرط ؟ ]
وفي هذه الغزوة أنه قال من قتل قتيلا ، له عليه بينة فله سلبه وقاله في غزوة أخرى قبلها ، فاختلف الفقهاء هل هذ السلب مستحق بالشرع أو بالشرط ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد .

أحدهما : أنه له بالشرع شرطه الإمام أو لم يشرطه وهو قول الشافعي .

والثاني : أنه لا يستحق إلا بشرط الإمام وهو قول أبي حنيفة . وقال مالك رحمه الله لا يستحق إلا بشرط الإمام بعد القتال . فلو نص قبله لم يجز . قال مالك ولم يبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا يوم حنين ، وإنما نفل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن برد القتال .

ومأخذ النزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والحاكم ، والمفتي وهو الرسول فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة كقوله من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد

وقوله من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته وكحكمه بالشاهد واليمين وبالشفعة فيما لم يقسم

وقد يقول بمنصب الفتوى ، كقوله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان ، وقد شكت إليه شح زوجها ، وأنه لا يعطيها ما يكفيها : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فهذه فتيا لا حكم إذ لم يدع بأبي سفيان ولم يسأله عن جواب الدعوى ، ولا سألها البينة .

وقد يقوله بمنصب الإمامة فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان وعلى تلك الحال فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ومكانا وحالا ، ومن ها هنا تختلف الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله سلبه هل قاله بمنصب الإمامة فيكون حكمه متعلقا بالأئمة أو بمنصب الرسالة والنبوة فيكون شرعا عاما ؟

وكذلك قوله من أحيا أرضا ميتة فهي له هل هو شرع عام لكل أحد ، أذن فيه الإمام أو لم يأذن أو هو راجع إلى الأئمة فلا يملك بالإحياء إلا بإذن الإمام ؟ على القولين فالأول للشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما .

والثاني : لأبي حنيفة وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس وبين ما يقع فيه التشاح فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول .

فصل [الاكتفاء في الأسلاب بشاهد واحد من غير يمين ]
وقوله صلى الله عليه وسلم " له عليه بينة " دليل على مسألتين .

إحداهما : أن دعوى القاتل أنه قتل هذا الكافر لا تقبل في استحقاق سلبه .

الثانية الاكتفاء في ثبوت هذه الدعوى بشاهد واحد من غير يمين لما ثبت في الصحيح عن أبي قتادة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين ، فلما التقينا ، كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب فقال ما للناس ؟ فقلت : أمر الله ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه " ، قال فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك قال فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم قال ذلك الثالثة فقمت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما لك يا أبا قتادة ؟ " فقصصت عليه " القصة فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي ، فأرضه من حقه فقال أبو بكر الصديق : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق فأعطه إياه " ، فأعطاني ، فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام

وفي المسألة ثلاثة أقوال هذا أحدها ، وهو وجه في مذهب أحمد . والثاني : أنه لا بد من شاهد ويمين كإحدى الروايتين عن أحمد . والثالث - وهو منصوص الإمام أحمد - أنه لا بد من شاهدين لأنها دعوى قتل فلا تقبل إلا بشاهدين .

[ لا يشترط في الشهادة التلفظ بلفظ أشهد ]

وفي القصة دليل على مسألة أخرى ، وهي أنه لا يشترط في الشهادة التلفظ بلفظ " أشهد " وهذا أصح الروايات عن أحمد في الدليل وإن كان الأشهر عند أصحابه الاشتراط وهي مذهب مالك . قال شيخنا : ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط لفظ الشهادة وقد قال ابن عباس : شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح .

ومعلوم أنهم لم يتلفظوا له بلفظ أشهد إنما كان مجرد إخبار .

وفي حديث ماعز فلما شهد على نفسه أربع شهادات رجمه وإنما كان منه مجرد إخبار عن نفسه وهو إقرار وكذلك قوله تعالى : قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد [ الأنعام 19 ] ، وقوله قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين [ الأنعام 130 ] .

وقوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [ النساء 166 ] .

وقوله أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [ آل عمران 81 ] ، وقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط [ آل عمران 18 ] ، إلى أضعاف ذلك مما ورد في القرآن والسنة من إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرد عن لفظ أشهد .

وقد تنازع الإمام أحمد وعلي بن المديني في الشهادة للعشرة بالجنة فقال علي أقول هم في الجنة ، ولا أقول أشهد أنهم في الجنة . فقال الإمام أحمد متى قلت هم في الجنة فقد شهدت وهذا تصريح منه بأنه لا يشترط في الشهادة لفظ أشهد . وحديث أبي قتادة من أبين الحجج في ذلك .

فإن قيل إخبار من كان عنده السلب إنما كان إقرارا بقوله هو عندي ، وليس ذلك من الشهادة في شيء .

قيل تضمن كلامه شهادة وإقرارا بقوله " صدق " ، شهادة له بأنه قتله وقوله هو " عندي " إقرار منه بأنه عنده والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قضى بالسلب بعد البينة وكان تصديق هذا هو البينة .


افتراضي

فصل في غزوة الطائف
في شوال سنة ثمان قال ابن سعد : قالوا : ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف ، بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة الدوسي ، يهدمه وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف فخرج سريعا إلى قومه فهدم ذا الكفين وجعل يحش النار في وجهه ويحرقه ويقول

يا ذا الكفين لست من عبادكا

ميلادنا أقدم من ميلادكا


إني حششت النار في فؤادكا


وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا ، فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام وقدم بدبابة ومنجنيق .

قال ابن سعد : ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين يريد الطائف ، قدم خالد بن الوليد على مقدمته وكانت ثقيف قد رموا حصنهم وأدخلوا فيه ما يصلح لهم لسنة فلما انهزموا من أوطاس ، دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم وتهيئوا للقتال

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قريبا من حصن الطائف ، وعسكر هناك فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا ، كأنه رجل جراد حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا ، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب فضرب لهما قبتين وكان يصلي بين القبتين مدة حصار الطائف ، فحاصرهم ثمانية عشر يوما ، وقال ابن إسحاق : بضعا وعشرين ليلة .

[ أول منجنيق رمي به في الإسلام ]

ونصب عليهم المنجنيق وهو أول ما رمي به في الإسلام .

وقال ابن سعد : حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان عن ثور بن يزيد ، عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوما

[ قطع أعناب ثقيف ]

قال ابن إسحاق : حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف ، دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها ، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلوا منهم رجالا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف ، فوقع الناس فيها يقطعون .

قال ابن سعد : فسألوه أن يدعها لله وللرحم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإني أدعها لله وللرحم " فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر فخرج منهم بضعة عشر رجلا ، منهم أبو بكرة ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة .

[ رحيله صلى الله عليه وسلم من الطائف دون فتحها ]

ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف ، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلي ، فقال ما ترى ؟ فقال ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك .

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ، فأذن في الناس بالرحيل فضج الناس من ذلك وقالوا : نرحل ولم يفتح علينا الطائف ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغدوا على القتال فغدوا فأصابت المسلمين جراحات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قافلون غدا إن شاء الله فسروا بذلك وأذعنوا ، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فلما ارتحلوا واستقلوا ، قال قولوا : آيبون تائبون ، عابدون لربنا حامدون وقيل يا رسول الله ادع الله على ثقيف . فقال اللهم اهد ثقيفا وائت بهم

[ عمرة الجعرانة ]
واستشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف جماعة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى الجعرانة ، ثم دخل منها محرما بعمرة فقضى عمرته ثم رجع إلى المدينة .



فصل [ وفد ثقيف ]
قال ابن إسحاق : وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة ، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتحدث قومك أنهم قاتلوك ، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم فقال عروة يا رسول الله ؟ أنا أحب إليهم من أبكارهم وكان فيهم كذلك محببا مطاعا ، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله فقيل لعروة ما ترى في دمك ؟ قال كرامة أكرمني الله بها ، وشهادة ساقها الله إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم فادفنوني معهم فدفنوه معهم فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه

ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، وقد بايعوا وأسلموا ، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ، كما أرسلوا عروة فكلموا عبد ياليل بن عمرو بن عمير ، وكان في سن عروة بن مسعود وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشي أن يصنع به كما صنع بعروة فقال لست بفاعل حتى ترسلوا معي رجالا ، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونون ستة فبعثوا معه الحكم بن عمرو بن وهب ، وشرحبيل بن غيلان ، ومن بني مالك عثمان بن أبي العاص ، وأوس بن عوف ، ونمير بن خرشة ، فخرج بهم فلما دنوا من المدينة ، ونزلو قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة ، فاشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه فلقيه أبو بكر فقال أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه ففعل فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وأعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده كما يزعمون .

وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم وكان خالد هو الذي كتبه وكانوا لا يأكلون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا .

[ بعث المغيرة وأبي سفيان لهدم اللات ]

وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية ، وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى ، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها ، وقد كانوا يسألونه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما كسر أوثانكم بأيديكم ، فسنعفيكم منه وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه

فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا ، أمر عليهم عثمان بن أبي العاص ، وكان من أحدثهم سنا ، وذلك أنه كان من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن .

فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية ، فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف ، أراد المغيرة بن شعبة أن يقدم أبا سفيان فأبى ذلك عليه أبو سفيان فقال ادخل أنت على قومك ، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم فلما دخل المغيرة بن شعبة ، علاها يضربها بالمعول وقام دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ، ويقول أبو سفيان - والمغيرة يضربها بالفأس - " واها لك واها لك " فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها ، أرسل إلى أبي سفيان مجموع مالها من الذهب والفضة والجزع .

[ قدوم رجلين من ثقيف وقضاء الدين عنهما ]

وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف ، وأن لا يجامعاهم على شيء أبدا ، فأسلما ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم توليا من شئتما " قالا : نتولى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وخالكما أبا سفيان بن حرب " فقالا : وخالنا أبا سفيان

فلما أسلم أهل الطائف ، سأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فقال له قارب بن الأسود : وعن الأسود يا رسول الله فاقضه - وعروة والأسود أخوان لأب وأم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الأسود مات مشركا فقال قارب بن الأسود : يا رسول الله لكن تصل مسلما ذا قرابة يعني نفسه وإنما الدين علي وأنا الذي أطلب به فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية ، ففعل .

وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لهم بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين ، إن عضاه وج وصيده حرام لا يعضد من وجد يصنع شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به إلى النبي محمد وإن هذا أمر النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

فكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعداه أحد ، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله . فهذه قصة ثقيف من أولها إلى آخرها ، سقناها كما هي وإن تخلل بين غزوها وإسلامها غزاة تبوك وغيرها ، لكن آثرنا أن لا نقطع قصتهم وأن ينتظم أولها بآخرها ليقع الكلام على فقه هذه القصة وأحكامها في موضع واحد .

[ جواز القتال في الأشهر الحرم ]
فنقول فيها من الفقه جواز القتال في الأشهر الحرم ، ونسخ تحريم ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة في أواخر شهر رمضان بعد مضي ثمان عشرة ليلة منه والدليل عليه ما رواه أحمد في " مسنده " حدثنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان وهو آخذ بيدي فقال أفطر الحاجم والمحجوم وهذا أصح من قول من قال إنه خرج لعشر خلون من رمضان وهذا الإسناد على شرط مسلم فقد روى به بعينه إن الله كتب الإحسان على كل شيء

وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يقصر الصلاة ثم خرج إلى هوازن ، فقاتلهم وفرغ منهم ثم قصد الطائف ، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة في قول ابن إسحاق وثمان عشرة ليلة في قول ابن سعد ، وأربعين ليلة في قول مكحول .

فإذا تأملت ذلك علمت أن بعض مدة الحصار في ذي القعدة ولا بد ولكن قد يقال لم يبتدئ القتال إلا في شوال فلما شرع فيه لم يقطعه للشهر الحرام ولكن من أين لكم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ قتالا في شهر حرام وفرق بين الابتداء والاستدامة .

فصل

ومنها : جواز غزو الرجل وأهله معه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه في هذه الغزوة أم سلمة وزينب . ومنها : جواز نصب المنجنيق على الكفار ورميهم به وإن أفضى إلى قتل من لم يقاتل من النساء والذرية . ومنها : جواز قطع شجر الكفار إذا كان ذلك يضعفهم ويغيظهم وهو أنكى فيهم .

[ إذا أبق العبد من مشرك ولحق بالمسلمين صار حرا ] ؟

ومنها : أن العبد إذا أبق من المشركين ولحق بالمسلمين صار حرا . قال سعيد بن منصور : حدثنا يزيد بن هارون ، عن الحجاج عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم

وروى سعيد بن منصور أيضا ، قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فإن خرج سيده بعده لم يرد عليه وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده . وعن الشعبي ، عن رجل من ثقيف ، قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبدا لنا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر ثقيفا ، فأسلم فأبى أن يرده علينا ، فقال هو طليق الله ، ثم طليق رسوله فلم يرده علينا .

قال ابن المنذر : وهذا قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم .

فصل

ومنها : أن الإمام إذا حاصر حصنا ، ولم يفتح عليه ورأى مصلحة المسلمين في الرحيل عنه لم يلزمه مصابرته وجاز له ترك مصابرته وإنما تلزم المصابرة إذا كان فيها مصلحة راجحة على مفسدتها .

فصل

ومنها : أنه أحرم من الجعرانة بعمرة وكان داخلا إلى مكة ، وهذه هي السنة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه وأما ما يفعله كثير ممن لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجعرانة ليحرم منها بعمرة ثم يرجع إليها ، فهذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه البتة ولا استحبه أحد من أهل العلم وإنما يفعله عوام الناس زعموا أنه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وغلطوا ، فإنه إنما أحرم منها داخلا إلى مكة ، ولم يخرج منها إلى الجعرانة ليحرم منها ، فهذا لون وسنته لون وبالله التوفيق .

فصل [ استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم بإسلام ثقيف ]
ومنها : استجابة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم دعاءه لثقيف أن يهديهم ويأتي بهم وقد حاربوه وقاتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه وقتلوا رسول رسوله الذي أرسله إليهم يدعوهم إلى الله ومع هذا كله فدعا لهم ولم يدع عليهم وهذا من كمال رأفته ورحمته ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه .

فصل [ كمال محبة الصديق له صلى الله عليه وسلم ]

ومنها : كمال محبة الصديق له وقصده التقرب إليه والتحبب بكل ما يمكنه ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف ، ليكون هو الذي بشره وفرحه بذلك وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه وقول من قال من الفقهاء لا يجوز الإيثار بالقرب لا يصح .

وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم وسألها عمر ذلك فلم تكره له السؤال ولا لها البذل وعلى هذا ، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال ولا لذلك البذل ونظائره .

ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه وهل هذا إلا كرم وسخاء وإيثار على النفس بما هو أعظم محبوباتها تفريحا لأخيه المسلم وتعظيما لقدره وإجابة له إلى ما سأله وترغيبا له في الخير وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحا على ثواب تلك القربة فيكون المؤثر بها ممن تاجر فبذل قربة وأخذ أضعافها ، وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بد من تيمم أحدهما ، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب ولا يمنع هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزا ، ولم يقل إنه قاتل لنفسه ولا أنه فعل محرما ، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر 9 ] ، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام ، وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم وهل إهداء القرب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها ، وهو عين الإيثار بالقرب فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها ، وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها ، وبالله التوفيق .

فصل [ لا يجوز إبقاء مواضع الشرك بعد القدرة على هدمها ]

ومنها : أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا ، فإنها شعائر الكفر والشرك وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، أو أعظم شركا عندها ، وبها ، والله المستعان . ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي ، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم فصار المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، والسنة بدعة والبدعة سنة ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام وقل العلماء وغلب السفهاء وتفاقم الأمر واشتد البأس وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين .

فصل [ جواز صرف الأموال التي في مواضع الشرك في مصالح المسلمين ]
ومنها : جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين فيجوز للإمام بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها كلها ، ويصرفها على الجند والمقاتلة ومصالح الإسلام كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات ، وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها ، وقضى منها دين عروة والأسود وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا ، وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين وكذلك الحكم في أوقافها ، فإن وقفها ، فالوقف عليها باطل وهو مال ضائع فيصرف في مصالح المسلمين فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله فلا يصح الوقف على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له ويحج إليه ويعبد من دون الله ويتخذ وثنا من دونه وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتبع سبيلهم .

فصل [ وادي وج حرم ]
ومنها : أن وادي وج - وهو واد بالطائف - حرم يحرم صيده وقطع شجره وقد اختلف الفقهاء في ذلك والجمهور قالوا : ليس في البقاع حرم إلا مكة والمدينة ، وأبو حنيفة خالفهم في حرم المدينة ، وقال الشافعي - رحمه الله - في أحد قوليه وج حرم يحرم صيده وشجره واحتج لهذا القول بحديثين أحدهما هذا الذي تقدم والثاني : حديث عروة بن الزبير ، عن أبيه الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله رواه الإمام أحمد وأبو داود .

وهذا الحديث يعرف بمحمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عروة . قال البخاري في " تاريخه " : لا يتابع عليه . قلت : وفي سماع عروة من أبيه نظر وإن كان قد رآه والله أعلم .



فصل [ بعث المصدقين لجلب الصدقات ]
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ودخلت سنة تسع بعث المصدقين يأخذون الصدقات من الأعراب . قال ابن سعد : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدقين قالوا : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال المحرم سنة تسع بعث المصدقين يصدقون العرب فبعث عيينة بن حصن إلى بني تميم وبعث يزيد بن الحصين إلى أسلم وغفار وبعث عباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة وبعث عمرو بن العاص إلى بني فزارة وبعث الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب وبعث بشر بن سفيان إلى بني كعب وبعث ابن اللتبية الأزدي إلى بني ذبيان وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدقين أن يأخذوا العفو منهم ويتوقوا كرائم أموالهم . قيل ولما قدم ابن اللتبية حاسبه وكان في هذا حجة على محاسبة العمال والأمناء فإن ظهرت خيانتهم عزلهم وولى أمينا .

قال ابن إسحاق : وبعث المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء فخرج عليه العنسي وهو بها وبعث زياد بن لبيد إلى حضرموت وبعث عدي بن حاتم إلى طيئ وبني أسد وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة وفرق صدقات بني سعد على رجلين فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية وقيس بن عاصم على ناحية وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين وبعث عليا - رضوان الله عليه - إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم .



فصل في السرايا والبعوث في سنة تسع
[ سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم ]
[ وفد بني تميم ]
ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم وذلك في المحرم من هذه السنة بعثه إليهم في سرية ليغزوهم في خمسين فارسا ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري فكان يسير الليل ويكمن النهار فهجم عليهم في صحراء وقد سرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولوا فأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبيا فساقهم إلى المدينة فأنزلوا في دار رملة بنت الحارث فقدم فيهم عدة من رؤسائهم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم والأقرع بن حابس وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد وعمرو بن الأهتم ورباح بن الحارث فلما رأوا نساءهم وذراريهم بكوا إليهم فعجلوا فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا : يا محمد اخرج إلينا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بلال الصلاة وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر ثم جلس في صحن المسجد فقدموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم وأنزل الله فيهم إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم [ الحجرات 45 ] فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبي فقام الزبرقان شاعر بني تميم فأنشد مفاخرا :

نحن الكرام فلا حي يعادلنا

منا الملوك وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهم

عند النهاب وفضل العز يتبع

ونحن يطعم عند القحط مطعمنا

من الشواء إذا لم يؤنس القزع


بما ترى الناس تأتينا سراتهم

من كل أرض هويا ثم نصطنع

فننحر الكوم عبطا في أرومتنا

للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا

فلا ترانا إلى حي نفاخرهم

إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع

فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه

فيرجع القوم والأخبار تستمع

إنا أبينا ولا يأبى لنا أحد

إنا كذلك عند الفخر نرتفع



فقام شاعر الإسلام حسان بن ثابت فأجابه على البديهة

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كل من كانت سريرته

تقوى الإله وكل الخير مصطنع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك فيهم غير محدثة

إن الخلائق فاعلم شرها البدع

إن كانوا في الناس سباقون بعدهم

فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم

عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم

أو وزنوا أهل مجد بالندى متعوا

أعفة ذكرت في الوحي عفتهم

لا يطبعون ولا يرديهم الطمع

لا يبخلون على جار بفضلهم

ولا يمسهم من مطمع طبع

إذا نصبنا لحي لم ندب لهم

كما يدب إلى الوحشية الذرع

نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها

إذا الزعانف من أظفارها خشعوا


لا يفخرون إذا نالوا عدوهم

وإن أصيبوا فلا جور ولا هلع

كأنهم في الوغى والموت مكتنع

أسد بحلية في أرساغها فدع

خذ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا

ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

فإن في حربهم فاترك عداوتهم

شرا يخاض عليه السم والسلع

أكرم بقوم رسول الله شيعتهم

إذا تفاوتت الأهواء والشيع

أهدى لهم مدحتي قلب يوازره

فيما أحب لسان حائك صنع

فإنهم أفضل الأحياء كلهم

إن جد بالناس جد القول أو شمعوا



فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس إن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا ثم أسلموا فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم .

فصل [ رواية ابن إسحاق لوفد بني تميم ]
قال ابن إسحاق : فلما قدم وفد بني تميم دخلوا المسجد ونادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرج إلينا يا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم فخرج إليهم فقالوا : جئنا لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا قال نعم قد أذنت لخطيبكم فليقم فقام عطارد بن حاجب فقال الحمد لله الذي جعلنا ملوكا الذي له الفضل علينا والذي وهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدة فمن مثلنا في الناس ؟ ألسنا رءوس الناس وأولي فضلهم فمن فاخرنا فليعد مثل ما عددنا فلو شئنا لأكثرنا من الكلام ولكن نستحي من الإكثار لما أعطانا أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا أو أمر أفضل من أمرنا ثم جلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس : " قم فأجبه " فقام فقال الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه ولم يكن شيء قط إلا من فضله ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكا واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا وأصدقه حديثا وأفضله حسبا فأنزل عليه كتابا وائتمنه على خلقه وكان خيرة الله من العالمين ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله فآمن به المهاجرون من قومه ذوي رحمه أكرم الناس أحسابا وأحسنهم وجوها وخير الناس فعلا ثم كان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه ومن نكث جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا أقول هذا وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم ثم ذكر قيام الزبرقان وإنشاده وجواب حسان له بالأبيات المتقدمة فلما فرغ حسان من قوله قال الأقرع بن حابس إن هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا وأقوالهم أعلى من أقوالنا ثم أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم .

فصل في ذكر سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم
وكانت في صفر سنة تسع . قال ابن سعد : قالوا : بعث رسول الله قطبة بن عامر في عشرين رجلا إلى حي من خثعم بناحية تبالة وأمره أن يشن الغارة فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم فجعل يصيح بالحاضرة ويحذرهم فضربوا عنقه ثم أقاموا حتى نام الحاضرة فشنوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا وقتل قطبة بن عامر من قتل وساقوا النعم والنساء والشاء إلى المدينة وفي القصة أنه اجتمع القوم وركبوا في آثارهم فأرسل الله سبحانه عليهم سيلا عظيما حال بينهم وبين المسلمين فساقوا النعم والشاء والسبي وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروا إليهم حتى غابوا عنهم .


فصل ذكر سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى

بني كلاب في ربيع الأول سنة تسع

قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى بني كلاب وعليهم الضحاك بن سفيان بن عوف الطائي ومعه الأصيد بن سلمة فلقوهم بالزج زج لاوة فدعوهم إلى الإسلام فأبوا فقاتلوهم فهزموهم فلحق الأصيد أباه سلمة وسلمة على فرس له في غدير بالزج فدعاه إلى الإسلام وأعطاه الأمان فسبه وسب دينه فضرب الأصيد عرقوبي فرس أبيه فلما وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة على الرمح في الماء ثم استمسك حتى جاء أحدهم فقتله ولم يقتله ابنه .

فصل ذكر سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى

الحبشة سنة تسع في شهر ربيع الآخر

قالوا : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراياهم أهل جدة فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ثلاثمائة فانتهى إلى جزيرة في البحر وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهليهم فأذن لهم فتعجل عبد الله بن حذافة السهمي فأمره على من تعجل وكانت فيه دعابة فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها فقال عزمت عليكم إلا تواثبتم في هذه النار فقام بعض القوم فتجهزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها فقال اجلسوا إنما كنت أضحك معكم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أمركم بمعصية فلا تطيعوه

قلت : في " الصحيحين " عن علي بن أبي طالب قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا فقال أوقدوا نارا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي ؟ قالوا : بلى . قال فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا وقال لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف فهذا فيه أن الأمير كان من الأنصار وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره وأن الغضب حمله على ذلك . وقد روى الإمام أحمد في " مسنده " عن ابن عباس في قوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء 99 ] قال نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فإما أن يكونا واقعتين أو يكون حديث علي هو المحفوظ والله أعلم .

فصل في ذكر سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه

إلى صنم طيئ ليهدمه في هذه السنة

[ قصة عدي بن حاتم الطائي ]

قالوا : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في مائة وخمسين رجلا من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا ومعه راية سوداء لواء أبيض إلى الفلس وهو صنم طيئ ليهدمه فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر فهدموه وملئوا أيديهم من السبي والنعم والشاء وفي السبي أخت عدي بن حاتم وهرب عدي إلى الشام ووجدوا في خزانته ثلاثة أسياف وثلاثة أدراع فاستعمل على السبي أبا قتادة وعلى الماشية والرثة عبد الله بن عتيك وقسم الغنائم في الطريق وعزل الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقسم على آل حاتم حتى قدم بهم المدينة .

قال ابن إسحاق : قال عدي بن حاتم : ما كان رجل من العرب أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني حين سمعت به صلى الله عليه وسلم وكنت امرءا شريفا وكنت نصرانيا وكنت أسير في قومي بالمرباع وكنت في نفسي على دين وكنت ملكا في قومي فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته فقلت لغلام عربي كان لي وكان راعيا لإبلي : لا أبا لك اعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا فاحبسها قريبا مني فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ففعل ثم إنه أتاني ذات غداة فقال يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن فإني قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا : هذه جيوش محمد قال فقلت : فقرب إلي أجمالي فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ثم قلت : ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام وخلفت بنتا لحاتم في الحاضرة فلما قدمت الشام أقمت بها وتحالفني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيئ وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله غاب الوافد وانقطع الوالد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمن علي من الله عليك قال " من وافدك ؟ " قالت عدي بن حاتم . قال " الذي فر من الله ورسوله ؟ " قالت فمن علي . قال فلما رجع ورجل إلى جنبه يرى أنه علي قال سليه الحملان قالت فسألته فأمر لها به

قال عدي فأتتني أختي فقالت لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ائته راغبا أو راهبا فقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه . قال عدي فأتيته وهو جالس في المسجد فقال القوم هذا عدي بن حاتم وجئت بغير أمان ولا كتاب فلما دفعت إليه أخذ بيدي وقد كان قبل ذلك قال إني أرجو أن يجعل الله يده في يدي قال فقام لي فلقيته امرأة ومعها صبي فقالا : إن لنا إليك حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ثم أخذ بيدي حتى أتى داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها وجلست بين يديه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما يفرك أيفرك أن تقول لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله ؟ " قال قلت : لا . قال ثم تكلم ساعة ثم قال " إنما تفر أن يقال الله أكبر وهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ " قال قلت : لا . قال " فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضالون " قال فقلت : إني حنيف مسلم . قال فرأيت وجهه ينبسط فرحا . قال ثم أمرني فأنزلت عند رجل من الأنصار وجعلت أغشاه آتيه طرفي النهار قال فبينا أنا عنده إذ جاء قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار قال فصلى وقام فحث عليهم ثم قال " يا أيها الناس ارضخوا من الفضل ولو بصاع ولو بنصف صاع ولو بقبضة ولو ببعض قبضة يقي أحدكم وجهه حر جهنم أو النار ولو بتمرة ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة فإن أحدكم لاقي الله وقائل له ما أقول لكم ألم أجعل لك مالا وولدا ؟ فيقول بلى فيقول أين ما قدمت لنفسك فينظر قدامه وبعده وعن يمينه وعن شماله ثم لا يجد شيئا يقي به وجهه حر جهنم ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة فإني لا أخاف عليكم الفاقة فإن الله ناصركم ومعطيكم حتى تسير الظعينة ما بين يثرب والحيرة وأكثر ما يخاف على مطيتها السرق قال فجعلت أقول في نفسي : فأين لصوص طيئ



فصل ذكر قصة كعب بن زهير مع النبي صلى الله عليه وسلم
وكانت فيما بين رجوعه من الطائف وغزوة تبوك .

قال ابن إسحاق : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا مسلما وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك وكان كعب قد قال

ألا أبلغا عني بجيرا رسالة

فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا

فبين لنا إن كنت لست بفاعل

على أي شيء غير ذلك دلكا

على خلق لم تلف أما ولا أبا

عليه ولم تدرك عليه أخا لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف

ولا قائل إما عثرت لعا لكا

سقاك بها المأمون كأسا روية

فأنهلك المأمون منها وعلكا


قال وبعث بها إلى بجير فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سقاك المأمون صدق وإنه لكذوب أنا المأمون ولما سمع على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه " فقال أجل . قال لم يلف عليه أباه ولا أمه ثم قال بجير لكعب

من مبلغ كعبا فهل لك في التي

تلوم عليها باطلا وهي أحزم

إلى الله لا العزى ولا اللات وحده

فتنجو إذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت

من الناس إلا طاهر القلب مسلم

فدين زهير وهو لا شيء دينه

ودين أبي سلمى علي محرم


فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه فقال هو مقتول فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه فذكر لي أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه فوضع يده في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم . قال أنا يا رسول الله كعب بن زهير .

قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه وثب عليه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا عما كان عليه قال فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير فقال قصيدته اللامية التي يصف فيها محبوبته وناقته التي أولها :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرها لم يفد مكبول

يسعى الغواة جنابيها وقولهم

إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

وقال كل صديق كنت آمله

لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا طريقي لا أبا لكم

فكل ما قدر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

يوما على آلة حدباء محمول

نبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال

قرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

أذنب ولو كثرت في الأقاويل

لقد أقوم مقاما لو يقوم به

أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظل ترعد من خوف بوادره

إن لم يكن من رسول الله تنويل

حتى وضعت يميني ما أنازعها

في كف ذي نقمات قوله القيل

فلهو أخوف عندي إذ أكلمه

وقيل إنك منسوب ومسئول

من ضيغم بضراء الأرض مخدره

في بطن عثر غيل دونه غيل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما

لحم من الناس معفور خراديل

إذا يساور قرنا لا يحل له

أن يترك القرن إلا وهو مفلول

منه تظل سباع الجو نافرة

ولا تمشى بواديه الأراجيل

ولا يزال بواديه أخو ثقة

مضرج البز والدرسان مأكول

إن الرسول لنور يستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول

في عصبة من قريش قال قائلهم

ببطن مكة لما أسلموا زولوا

زالوا فما زال أنكاس ولا كشف

عند اللقاء ولا ميل معازيل

يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم

ضرب إذا عرد السود التنابيل

شم العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل

بيض سوابغ قد شكت لها حلق

كأنها حلق القفعاء مجدول

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم

قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

لا يقع الطعن إلا في نحورهم

وما لهم عن حياض الموت تهليل


قال ابن إسحاق : قال عاصم بن عمر بن قتادة : فلما قال كعب : " إذا عرد السود التنابيل " وإنما عنى معشر الأنصار لما كان صاحبنا صنع به ما صنع وخص المهاجرين بمدحته غضبت عليه الأنصار فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار في قصيدته التي يقول فيها :

من سره كرم الحياة فلا يزل

في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا المكارم كابرا عن كابر

إن الخيار هم بنو الأخيار

الباذلين نفوسهم لنبيهم

يوم الهياج وسطوة الجبار

والذائدين الناس عن أديانهم

بالمشرفي وبالقنا الخطار

والبائعين نفوسهم لنبيهم

للموت يوم تعانق وكرار

يتطهرون يرونه نسكا لهم

بدماء من علقوا من الكفار

وإذا حللت ليمنعوك إليهم

أصبحت عند معاقل الأعفار

قوم إذا خوت النجوم فإنهم

للطارقين النازلين مقاري


وكعب بن زهير من فحول الشعراء هو وأبوه وابنه عقبة وابن ابنه العوام بن عقبة ومما يستحسن لكعب قوله

لو كنت أعجب من شيء لأعجبني

سعي الفتى وهو مخبوء له القدر

يسعى الفتى لأمور ليس يدركها

فالنفس واحدة والهم منتشر

والمرء ما عاش ممدود له أمل

لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر


ومما يستحسن له أيضا قوله في النبي صلى الله عليه وسلم

تحدى به الناقة الأدماء معتجرا

للبرد كالبدر جلي ليلة الظلم

ففي عطافيه أو أثناء بردته

ما يعلم الله من دين ومن كرم



فصل في غزوة تبوك
وكانت في شهر رجب سنة تسع قال ابن إسحاق : وكانت في زمن عسرة من الناس وجدب من البلاد وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون شخوصهم على تلك الحال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وورى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك لبعد الشقة وشدة الزمان .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أحد بني سلمة : يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر ؟ فقال يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني ؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قد أذنت لك ففيه نزلت الآية ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني [ التوبة 49 ] .

وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر فأنزل الله فيهم وقالوا لا تنفروا في الحر الآية [ التوبة 81 ] .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها .

قلت : كانت ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها وألف دينار عينا .

[ استحمال البكائين النبي صلى الله عليه وسلم]

وذكر ابن سعد قال بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وجاء البكاءون وهم سبعة يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون . وهم سالم بن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى المازني وعمرو بن عنمة وسلمة بن صخر والعرباض بن سارية . وفي بعض الروايات وعبد الله بن مغفل : ومعقل بن يسار وبعضهم يقول البكاءون بنو مقرن السبعة وهم من مزينة

وابن إسحاق : يعد فيهم عمرو بن الحمام بن الجموح .

وأرسل أبا موسى أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم فوافاه غضبان فقال والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه ثم أتاه إبل فأرسل إليهم ثم قال ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير

فصل [ قصة علبة بن زيد ]
وقام علبة بن زيد فصلى من الليل وبكى وقال اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم أين المتصدق هذه الليلة . فلم يقم إليه أحد ثم قال أين المتصدق فليقم فقام إليه فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة

[ المعذرون من الأعراب ]

وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فلم يعذرهم . قال ابن سعد : وهم اثنان وثمانون رجلا وكان عبد الله بن أبي ابن سلول قد عسكر على ثنية الوداع في حلفائه من اليهود والمنافقين فكان يقال ليس عسكره بأقل العسكرين . واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري . وقال ابن هشام : سباع بن عرفظة والأول أثبت .

[ تخلف جمع ابن أبي وبعض الصحابة ]

فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب منهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وأبو خيثمة السالمي وأبو ذر ثم لحقه أبو خيثمة وأبو ذر وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفا من الناس والخيل عشرة آلاف فرس وأقام بها عشرين ليلة يقصر الصلاة وهرقل يومئذ بحمص .

[ استخلاف علي على المدينة ]
قال ابن إسحاق : ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج خلف علي بن أبي طالب على أهله فأرجف به المنافقون وقالوا : ما خلفه إلا استثقالا وتخففا منه فأخذ علي رضي الله عنه سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي فرجع علي إلى المدينة

[ لحاق أبي خيثمة به صلى الله عليه وسلم ]

ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ؟ ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة قالوا : يا رسول الله هو والله أبو خيثمة . فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لك يا أبا خيثمة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير

[ المرور بديار ثمود والنهي عن شرب مائه واستعماله للوضوء والأكل ]

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر بديار ثمود قال لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له ففعل الناس إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره فأما الذي خرج لحاجته فإنه خنق على مذهبه وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيئ فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألم أنهكم أن لا يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشفي وأما الآخر فأهدته طيئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة

قلت : والذي في " صحيح مسلم " من حديث أبي حميد : انطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم منكم أحد فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ

قال ابن هشام : بلغني عن الزهري أنه قال لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم

قلت : في " الصحيحين " من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم مثل ما أصابهم وفي " صحيح البخاري " : أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه

وفي " صحيح مسلم " : أنه أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين وأن يهريقوا الماء ويستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة وقد رواه البخاري أيضا وقد حفظ راويه ما لم يحفظه من روى الطرح .

وذكر البيهقي أنه نادى فيهم الصلاة جامعة فلما اجتمعوا قال علام تدخلون على قوم غضب الله عليهم " فناداه رجل فقال نعجب منهم يا رسول الله فقال ألا أنبئكم بما هو أعجب من ذلك ؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم استقيموا وسددوا فإن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا


افتراضي

فصل [استسقاؤه صلى الله عليه وسلم]
قال ابن إسحاق : وأصبح الناس ولا ماء معهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء .

[إخبار الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكان ناقته ]

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته فقال زيد بن اللصيت وكان منافقا : أليس يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلا يقول وذكر مقالته وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فأتوه بها

وفي طريقه تلك خرص حديقة المرأة بعشرة أوسق

[ تخلف بعضهم في الطريق ]

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون تخلف فلان . فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه

[إبطاء بعير أبي ذر ]

وتلوم على أبي ذر بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا ذر فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله والله هو أبو ذر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده

[ موت أبي ذر وحده ]

قال ابن إسحاق : فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود قال لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وأصابه بها قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما : أن غسلاني وكفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط معه من أهل العراق عمارا فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها وقام إليهم الغلام فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه قال فاستهل عبد الله يبكي ويقول صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك .

قلت : وفي هذه القصة نظر فقد ذكر أبو حاتم بن حبان في " صحيحه " وغيره في قصة وفاته عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر عن أبيه عن أم ذر قالت لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال ما يبكيك ؟ فقلت : ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفنا ولا يدان لي في تغييبك ؟ قال أبشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المسلمين وليس أحد من أولئك النفر إلا وقد مات في قرية وجماعة فأنا ذلك الرجل فوالله ما كذبت ولا كذبت فأبصري الطريق . فقلت : أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق ؟ فقال اذهبي فتبصري . قالت فكنت أسند إلى الكثيب أتبصر ثم أرجع فأمرضه فبينا أنا وهو كذلك إذ أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم قالت فأشرت إليهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي فقالوا : يا أمة الله ما لك ؟ قلت : امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر . قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فقال لهم أبشروا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد هلك في جماعة . والله ما كذبت ولا كذبت إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها فإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال إلا فتى من الأنصار قال أنا يا عم أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي . قال أنت فكفني فكفنه الأنصاري وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان

[ قصة رهط من المنافقين ]

رجعنا إلى قصة تبوك وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير قال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض ؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين . فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر : أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ؟ فإن أنكروا فقل بل قلتم كذا وكذا فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت : كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب [ التوبة 65 ] فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفي عنه في هذه الآية وتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه فقتل
يوم اليمامة فلم يوجد له أثر .
اليمامة فلم يوجد له أثر .

وذكر ابن عائذ في " مغازيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل تبوك في زمان قل ماؤها فيه فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت فهي كذلك حتى الساعة .

[ نهيه صلى الله عليه وسلم عن مس عين تبوك حتى يأتي ]
قلت : في " صحيح مسلم " إنه قال قبل وصوله إليها : إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها فلا يمسن من مائها شيئا حتى آتي قال فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا

فصل [ الصلح مع صاحب أيلة ]
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية وأتاه أهل جربا وأذرح فأعطوه الجزية وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم وكتب لصاحب أيلة : بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بحر أو بر .



فصل في بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة وهو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة وكان نصرانيا وكان ملكا عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد إنك ستجده يصيد البقر فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفي ليلة مقمرة صافية وهو على سطح له ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال لا والله . قالت فمن يترك هذه ؟ قال لا أحد فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان فركب وخرجوا معه بمطاردهم فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته .

وقال ابن سعد : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا في أربعمائة وعشرين فارسا فذكر نحو ما تقدم . قال وأجار خالد أكيدرا من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل ففعل وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح فعزل للنبي صلى الله عليه وسلم صفية خالصا ثم قسم الغنيمة فأخرج الخمس فكان للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قسم ما بقي في أصحابه فصار لكل واحد منهم خمس فرائض .

وذكر ابن عائذ في هذا الخبر أن أكيدرا قال عن البقر والله ما رأيتها قط أتتنا إلا البارحة ولقد كنت أضمر لها اليومين والثلاثة ولكن قدر الله .

قال موسى بن عقبة : واجتمع أكيدر ويحنة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما إلى الإسلام فأبيا وأقرا بالجزية فقاضاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية دومة وعلى تبوك وعلى أيلة وعلى تيماء وكتب لهما كتابا .

[ الرجوع من تبوك ]
[ هل قصة النهي عن الشرب من وادي المشقق وعين تبوك قصة واحدة ]

رجعنا إلى قصة تبوك : قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها ثم انصرف قافلا إلى المدينة وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه قال فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا فلم ير فيه شيئا فقال من سبقنا إلى هذا الماء ؟ فقيل له يا رسول الله فلان وفلان . فقال أولم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو به فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما إن له حسا كحس الصواعق فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه

قلت : ثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا الحديث وقد تقدم .

فإن كانت القصة واحدة فالمحفوظ حديث مسلم وإن كانت قصتين فهو ممكن .

[ قصة ذي البجادين ]
قال وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عبد الله بن مسعود كان يحدث قال قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول أدنيا إلي أخاكما فدلياه إليه فلما هيأه لشقه قال اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه قال يقول عبد الله بن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة .

[ ثواب من حبسهم العذر ]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من غزوة تبوك : إن بالمدينة لأقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بالمدينة ؟ قال " نعم حبسهم العذر

يتبع ,,,

اخت مسلمة
04-09-2009, 10:21 PM
فصل في خطبته صلى الله عليه وسلم بتبوك وصلاته
ذكر البيهقي في " الدلائل " والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فاسترقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة لما كان منها على ليلة فلم يستيقظ فيها حتى كانت الشمس قيد رمح قال ألم أقل لك يا بلال أكلأ لنا الفجر فقال يا رسول الله ذهب بي من النوم الذي ذهب بك فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك المنزل غير بعيد ثم صلى ثم ذهب بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة التقوى وخير الملل ملة إبراهيم وخير السنن سنة محمد وأشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن وخير الأمور عوازمها وشر الأمور محدثاتها وأحسن الهدي هدي الأنبياء وأشرف الموت قتل الشهداء وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى وخير الأعمال ما نفع وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وشر المعذرة حين يحضر الموت وشر الندامة يوم القيامة ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا ومن أعظم الخطايا اللسان الكذاب وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى ورأس الحكم مخافة الله عز وجل وخير ما وقر في القلوب اليقين والارتياب من الكفر والنياحة من عمل الجاهلية والغلول من جثا جهنم والسكر كي من النار والشعر من إبليس والخمر جماع الإثم وشر المأكل مال اليتيم والسعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والأمر إلى الآخرة وملاك العمل خواتمه وشر الروايا روايا الكذب وكل ما هو آت قريب وسباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه ومن يتأل على الله يكذبه ومن يغفر يغفر له ومن يعف يعف الله عنه ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يبتغ السمعة يسمع الله به ومن يتصبر يضعف الله له ومن يعص الله يعذبه الله ثم استغفر ثلاثا

[ قصة رجل مر بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فدعا بقطع أثره ]

وذكر أبو داود في " سننه " من حديث ابن وهب : أخبرني معاوية عن سعيد بن غزوان عن أبيه أنه نزل بتبوك وهو حاج فإذا رجل مقعد فسألته عن أمره قال سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أني حي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بتبوك إلى نخلة فقال هذه قبلتنا ثم صلى إليها قال فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها فقال قطع صلاتنا قطع الله أثره قال فما قمت عليهما إلى يومي هذا

ثم ساقه أبو داود من طريق وكيع عن سعيد بن عبد العزيز عن مولى ليزيد بن نمران عن يزيد بن نمران قال رأيت رجلا بتبوك مقعدا فقال مررت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار وهو يصلي فقال اللهم اقطع أثره فما مشيت عليهما بعد وفي هذا الإسناد والذي قبله ضعف .



فصل في جمعه بين الصلاتين في غزوة تبوك
قال أبو داود : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن عامر بن واثلة عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب

وقال الترمذي : إذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعا ; وقال حديث حسن غريب . وقال أبو داود : هذا حديث منكر وليس في تقديم الوقت حديث قائم .

وقال أبو محمد ابن حزم : لا يعلم أحد من أصحاب الحديث ليزيد بن أبي حبيب سماعا من أبي الطفيل . .

وقال الحاكم في حديث أبي الطفيل هذا : هو حديث رواته أئمة ثقات وهو شاذ الإسناد والمتن لا نعرف له علة نعلله بها فنظرنا فإذا الحديث موضوع وذكر عن البخاري : قلت لقتيبة بن سعيد : مع من كتبت عن الليث حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ؟ قال كتبته مع خالد المدائني وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ . ورواه أبو داود أيضا : حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرملي حدثنا مفضل بن فضالة والليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم يجمع بينهما .

وهشام بن سعد : ضعيف عندهم ضعفه الإمام أحمد وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة ويحيى بن سعيد وكان لا يحدث عنه وضعفه النسائي أيضا وقال أبو بكر البزار : لم أر أحدا توقف عن حديث هشام بن سعد ولا اعتل عليه بعلة توجب التوقف عنه . وقال أبو داود : حديث المفضل والليث حديث منكر


افتراضي

فصل في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وما هم المنافقون به من الكيد به وعصمة الله إياه
ذكر أبو الأسود في " مغازيه " عن عروة قال ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خبرهم فقال من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا وقد هموا بأمر عظيم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة أن يسوقها فبينا هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع ومعه محجن واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أدركه قال اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار فأسرعوا حتى استووا بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحدا ؟ قال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان وقال كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا ؟ قالوا : لا والله يا رسول الله قال فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا اطلعت في العقبة طرحوني منها قالوا : أولا تأمر بهم يا رسول الله إذا فنضرب أعناقهم قال أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمدا قد وضع يده في أصحابه فسماهم لهما وقال اكتماهم

وقال ابن إسحاق في هذه القصة إن الله قد أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبرك بهم إن شاء الله غدا عند وجه الصبح فانطلق حتى إذا أصبحت فاجمعهم فلما أصبح قال ادع عبد الله بن أبي وسعد بن أبي سرح وأبا خاطر الأعرابي وعامرا وأبا عامر والجلاس بن سويد بن الصامت وهو الذي قال لا ننتهي حتى نرمي محمدا من العقبة الليلة وإن كان محمد وأصحابه خيرا منا إنا إذا لغنم وهو الراعي ولا عقل لنا وهو العاقل وأمره أن يدعو مجمع بن حارثة ومليحا التيمي وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام وانطلق هاربا في الأرض فلا يدرى أين ذهب وأمره أن يدعو حصن بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك ما حملك على هذا ؟ فقال حملني عليه أني ظننت أن الله لا يطلعك عليه فأما إذا أطلعك الله عليه وعلمته فأنا أشهد اليوم أنك رسول الله وإني لم أؤمن بك قط قبل هذه الساعة فأقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عثرته وعفا عنه وأمره أن يدعو طعيمة بن أبيرق وعبد الله بن عيينة وهو الذي قال لأصحابه اسهروا هذه الليلة تسلموا الدهر كله فوالله ما لكم أمر دون أن تقتلوا هذا الرجل فدعاه فقال ويحك ما كان ينفعك من قتلي لو أني قتلت ؟ فقال عبد الله فوالله يا رسول الله لا نزال بخير ما أعطاك الله النصر على عدوك إنما نحن بالله وبك فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ادع مرة بن الربيع وهو الذي قال نقتل الواحد الفرد فيكون الناس عامة بقتله مطمئنين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ويحك ما حملك على أن تقول الذي قلت ؟ فقال يا رسول الله إن كنت قلت شيئا من ذلك إنك لعالم به وما قلت شيئا من ذلك فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا الذين حاربوا الله ورسوله وأرادوا قتله فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم وأطلع الله سبحانه نبيه على ذلك بعلمه ومات الاثنا عشر منافقين محاربين لله ولرسوله وذلك قوله عز وجل وهموا بما لم ينالوا [ التوبة 74 ]

وكان أبو عامر رأسهم وله بنوا مسجد الضرار وهو الذي كان يقال له الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة فأرسلوا إليه فقدم عليهم فلما قدم عليهم أخزاه الله وإياهم فانهارت تلك البقعة في نار جهنم .

فصل [ بيان وهم ابن إسحاق في روايته هذه ]

قلت : وفي سياق ما ذكره ابن إسحاق وهم من وجوه أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إلى حذيفة أسماء أولئك المنافقين ولم يطلع عليهم أحدا غيره وبذلك كان يقال لحذيفة إنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره ولم يكن عمر ولا غيره يعلم أسماءهم وكان إذا مات الرجل وشكوا فيه يقول عمر انظروا فإن صلى عليه حذيفة وإلا فهو منافق منهم

الثاني : ما ذكرناه من قوله فيهم عبد الله بن أبي وهو وهم ظاهر وقد ذكر ابن إسحاق نفسه أن عبد الله بن أبي تخلف في غزوة تبوك .

الثالث أن قوله وسعد بن أبي سرح وهم أيضا وخطأ ظاهر فإن سعد بن أبي سرح لم يعرف له إسلام البتة وإنما ابنه عبد الله كان قد أسلم وهاجر ثم ارتد ولحق بمكة حتى استأمن له عثمان النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فأمنه وأسلم فحسن إسلامه ولم يظهر منه بعد ذلك شيء ينكر عليه ولم يكن مع هؤلاء الاثني عشر البتة فما أدري ما هذا الخطأ الفاحش .

الرابع قوله وكان أبو عامر رأسهم وهذا وهم ظاهر لا يخفى على من دون ابن إسحاق بل هو نفسه قد ذكر قصة أبي عامر هذا في قصة الهجرة عن عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عامر لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام فمات بها طريدا وحيدا غريبا فأين كان الفاسق وغزوة تبوك ذهابا وإيابا .



فصل في أمر مسجد الضرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه

فهدمه صلى الله عليه وسلم

وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حتى نزل بذي أوان وبينها وبين المدينة ساعة وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه فلما نزل بذي أوان جاءه خبر المسجد من السماء فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سلمة بن عوف ومعن بن عدي العجلاني فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ودخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه - وفيه أهله - فحرقاه وهدماه فتفرقوا عنه فأنزل الله فيه والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين [ التوبة 107 ] إلى آخر القصة .

وذكر ابن إسحاق الذين بنوه وهم اثنا عشر رجلا منهم ثعلبة بن حاطب .

وذكر عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر ابنوا مسجدكم واستمدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فأنزل الله عز وجل لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم يعني مسجد قباء أحق أن تقوم فيه [ التوبة 108 ] إلى قوله فانهار به في نار جهنم [ التوبة 109 ] يعني قواعده لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم يعني : الشك إلا أن تقطع قلوبهم يعني بالموت .

فصل [استقبال الناس له صلى الله عليه وسلم]

فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داعي


[موضع ثنيات الوداع وغلط من قال إن الشعر أنشد عند قدومه من مكة ]

وبعض الرواة يهم في هذا ويقول إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة وهو وهم ظاهر لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام فلما أشرف على المدينة قال هذه طابة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه .

[سماعه صلى الله عليه وسلم مدح العباس له]

فلما دخل قال العباس يا رسول الله ائذن لي أمتدحك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل لا يفضض الله فاك فقال

من قبلها طبت في الظلال وفي

مستودع حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر

أنت ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد

ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صالب إلى رحم

إذا مضى عالم بدا طبق

حتى احتوى بيتك المهيمن من

خندف عليا تحتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت ال

أرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي الن

ور وسبل الرشاد نخترق


فصل [اعتذار المخلفين ]
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله .

[اعتذار كعب بن مالك ورفيقيه ]

وجاءه كعب بن مالك فلما سلم عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال له تعال . قال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " فقلت بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله عني والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك

فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني يؤنبوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك . قال فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت . فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي .

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار .

فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه

أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأتها : وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا ؟ قال لا ولكن اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه .

قال لا ولكن لا يقربك قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال كعب فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب ولبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا فعرفت أن قد جاء فرج من الله وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على ذروة الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك .

قال كعب حتى دخلت يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولست أنساها لطلحة فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك . قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال " لا بل من عند الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . فقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ما أبلاني والله ما تعمدت بعد ذلك إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت

فأنزل الله تعالى على رسوله لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار [ التوبة 117 ] إلى قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة 119 ] فوالله ما أنعم الله علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد قال سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم [ التوبة 95 ] إلى قوله فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [ التوبة 96 ] .

قال كعب وكان تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله وعلى الثلاثة الذين خلفوا [ التوبة 118 ] وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه .

وقال عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة 102 ] قال كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان يمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري ؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله أوثقوا أنفسهم حتى يطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم ويعذرهم . قال وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فأنزل الله عز وجل وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم وعسى من الله واجب إنه هو التواب الرحيم . فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم فجاءوا بأموالهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا قال ما أمرت أن آخذ أموالكم فأنزل الله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم [ التوبة 103 ] يقول استغفر لهم إن صلاتك سكن لهم فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم وكان ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا لا يدرون أيعذبون أم يتاب عليهم ؟ فأنزل الله تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله وعلى الثلاثة الذين خلفوا إلى قوله إن الله هو التواب الرحيم تابعه عطية بن سعد .



افتراضي

فصل في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد
[جواز القتال في الأشهر الحرم ]

فمنها : جواز القتال في الشهر الحرام إن كان خروجه في رجب محفوظا على ما قاله ابن إسحاق ولكن ها هنا أمر آخر وهو أن أهل الكتاب لم يكونوا يحرمون الشهر الحرام بخلاف العرب فإنها كانت تحرمه وقد تقدم أن في نسخ تحريم القتال فيه قولين وذكرنا حجج الفريقين . ومنها : تصريح الإمام للرعية وإعلامهم بالأمر الذي يضرهم ستره وإخفاؤه ليتأهبوا له ويعدوا له عدته وجواز ستر غيره عنهم والكناية عنه للمصلحة .

[ إذا استنفر الإمام الجيش لزمهم النفير ]

ومنها : أن الإمام إذا استنفر الجيش لزمهم النفير ولم يجز لأحد التخلف إلا بإذنه ولا يشترط في وجوب النفير تعيين كل واحد منهم بعينه بل متى استنفر الجيش لزم كل واحد منهم الخروج معه وهذا أحد المواضع الثلاثة التي يصير فيها الجهاد فرض عين . والثاني : إذا حضر العدو البلد . والثالث إذا حضر بين الصفين .

[وجوب الجهاد بالمال ]

ومنها : وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وهي الصواب الذي لا ريب فيه فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه بل جاء مقدما على الجهاد بالنفس في كل موضع إلا موضعا واحدا وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكد من الجهاد بالنفس ولا ريب أنه أحد الجهادين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من جهز غازيا فقد غزا فيجب على القادر عليه كما يجب على القادر بالبدن ولا يتم الجهاد بالبدن إلا ببذله ولا ينتصر إلا بالعدد والعدد فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه أن يمد بالمال والعدة وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى .

[نفقة عثمان العظيمة ]

ومنها : ما برز به عثمان بن عفان من النفقة العظيمة في هذه الغزوة وسبق به الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما أبديت . ثم قال ما ضر عثمان ما فعل بعداليوم وكان قد أنفق ألف دينار وثلاثمائة بعير بعدتها وأحلاسها وأقتابها .

[ لا يعذر العاجز بماله حتى يبذل جهده ]

ومنها : أن العاجز بماله لا يعذر حتى يبذل جهده ويتحقق عجزه فإن الله سبحانه إنما نفى الحرج عن هؤلاء العاجزين بعد أن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم فقال لا أجد ما أحملكم عليه فرجعوا يبكون لما فاتهم من الجهاد فهذا العاجز الذي لا حرج عليه .

[استخلاف الإمام إذا سافر رجلا من الرعية على من بقي ]

ومنها : استخلاف الإمام - إذا سافر - رجلا من الرعية على الضعفاء والمعذورين والنساء والذرية ويكون نائبه من المجاهدين لأنه من أكبر العون لهم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخلف ابن أم مكتوم فاستخلفه بضع عشرة مرة .

[خلف النبي صلى الله عليه وسلم عليا على أهله خاصة ومحمد بن مسلمة الأنصاري على المدينة ]

وأما في غزوة تبوك فالمعروف عند أهل الأثر أنه استخلف علي بن أبي طالب كما في " الصحيحين " عن سعد بن أبي وقاص قال خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه في غزوة تبوك فقال يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ولكن هذه كانت خلافة خاصة على أهله صلى الله عليه وسلم وأما الاستخلاف العام فكان لمحمد بن مسلمة الأنصاري ويدل على هذا أن المنافقين لما أرجفوا به وقالوا : خلفه استثقالا أخذ سلاحه ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك .

[جواز الخرص للرطب على رءوس النخل ]

ومنها : جواز الخرص للرطب على رءوس النخل وأنه من الشرع والعمل بقول الخارص وقد تقدم في غزاة خيبر وأن الإمام يجوز أن يخرص بنفسه كما خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم حديقة المرأة .

[ لا يجوز الشرب ولا الطبخ ولا العجن ولا الطهارة من آبار ثمود ]

ومنها : أن الماء الذي بآبار ثمود لا يجوز شربه ولا الطبخ منه ولا العجين به ولا الطهارة به ويجوز أن يسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة . وكانت معلومة باقية إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استمر علم الناس بها قرنا بعد قرن إلى وقتنا هذا فلا يرد الركوب بئرا غيرها وهي مطوية محكمة البناء واسعة الأرجاء آثار العتق عليها بادية لا تشتبه بغيرها .

[ الإسراع والبكاء حين المرور بديار المغضوب عليهم ]

ومنها : أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها ولا يقيم بها بل يسرع السير ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا .

ومن هذا إسراع النبي صلى الله عليه وسلم السير في وادي محسر بين منى وعرفة فإنه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل وأصحابه .

[جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ] . ..

ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في السفر وقد جاء جمع التقديم في هذه القصة في حديث معاذ كما تقدم وذكرنا علة الحديث .

ومن أنكره ولم يجئ جمع التقديم عنه في سفر إلا هذا وصح عنه جمع التقديم بعرفة قبل دخوله إلى عرفة فإنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر فقيل ذلك لأجل النسك كما قال أبو حنيفة . وقيل لأجل السفر الطويل كما قاله الشافعي وأحمد . وقيل لأجل الشغل وهو اشتغاله بالوقوف واتصاله إلى غروب الشمس . قال أحمد يجمع للشغل وهو قول جماعة من السلف والخلف وقد تقدم .

[جواز التيمم بالرمل ]

ومنها : جواز التيمم بالرمل فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قطعوا الرمال التي بين المدينة وتبوك ولم يحملوا معهم ترابا بلا شك وتلك مفاوز معطشة شكوا فيها العطش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعا كانوا يتيممون بالأرض التي هم فيها نازلون هذا كله مما لا شك فيه مع قوله صلى الله عليه وسلم فحيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره .

[ترجيح المصنف قصر الصلاة في السفر دون تحديد مدة الإقامة ]

ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ولم يقل للأمة لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ولكن اتفقت إقامته هذه المدة وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع .

وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافا كثيرا ففي " صحيح البخاري " عن ابن عباس قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا وظاهر كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح فإنه قال أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثمان عشرة زمن الفتح لأنه أراد حنينا ولم يكن ثم أجمع المقام وهذه إقامته التي رواها ابن عباس . وقال غيره بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك كما قال جابر بن عبد الله أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة رواه الإمام أحمد في " مسنده " .

وقال عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها .

وقال نافع أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول .

وقال حفص بن عبيد الله أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر .

وقال أنس أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة .

وقال الحسن أقمت مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل سنتين يقصر الصلاة ولا يجمع .

وقال إبراهيم كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وسجستان السنتين .

فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى وهو الصواب .

[مذاهب الناس في مدة الإقامة التي يجوز فيها القصر ]

وأما مذاهب الناس فقال الإمام أحمد إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر وحمل هذه الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يجمعوا الإقامة البتة بل كانوا يقولون اليوم نخرج غدا نخرج .

وفي هذا نظر لا يخفى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وهي ما هي وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام ويهدم قواعد الشرك ويمهد أمر ما حولها من العرب ومعلوم قطعا أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتى في يوم واحد ولا يومين وكذلك إقامته بتبوك فإنه أقام ينتظر العدو ومن المعلوم قطعا أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل يحتاج قطعها إلى أيام وهو يعلم أنهم لا يوافون في أربعة أيام وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة من أجل الثلج ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحلل ويذوب في أربعة أيام بحيث تنفتح الطرق وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر وإقامة الصحابة برامهرمز سبعة أشهر يقصرون ومن المعلوم أن مثل هذا الحصار والجهاد يعلم أنه لا ينقضي في أربعة أيام . وقد قال أصحاب أحمد إنه لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض قصر سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة وهذا هو الصواب لكن شرطوا فيه شرطا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة .

فقالوا : شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر وهي ما دون الأربعة الأيام فيقال من أين لكم هذا الشرط والنبي لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصر الصلاة بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئا ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته فلم يقل لهم حرفا واحدا : لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال وبيان هذا من أهم المهمات وكذلك اقتداء الصحابة به بعده ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئا من ذلك .

وقال مالك والشافعي إن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر .

وقال أبو حنيفة إن نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن نوى دونها قصر وهو مذهب الليث بن سعد وروي عن ثلاثة من الصحابة عمر وابنه وابن عباس . وقال سعيد بن المسيب إذا أقمت أربعا فصل أربعا وعنه كقول أبي حنيفة .

وقال علي بن أبي طالب إن أقام عشرا أتم وهو رواية عن ابن عباس .

وقال الحسن يقصر ما لم يقدم مصرا .

وقالت عائشة يقصر ما لم يضع الزاد والمزاد .

والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول اليوم أخرج غدا أخرج فإنه يقصر أبدا إلا الشافعي في أحد قوليه فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر أو ثمانية عشر يوما ولا يقصر بعدها وقد قال ابن المنذر في " إشرافه " أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون .

يتبع

اخت مسلمة
04-09-2009, 10:29 PM
فصل [ استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها ]

ومنها : جواز بل استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها فيكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير وإن شاء قدم الكفارة على الحنث وإن شاء أخرها . وقد روي حديث أبي موسى هذا إلا أتيت الذي هو أخير وتحللتها وفي لفظ إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو أخير وفي لفظ إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني وكل هذه الألفاظ في " الصحيحين " وهي تقتضي عدم الترتيب .

[ هل يجوز تقديم الكفارة على الحنث ]

وفي السنن من حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير وأصله في " الصحيحين " فذهب أحمد ومالك والشافعي إلى جواز تقديم الكفارة على الحنث واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال لا يجوز التقديم ومنع أبو حنيفة تقديم الكفارة مطلقا .

فصل [ انعقاد اليمين في حال الغضب إلا حين الإغلاق ]

ومنها : انعقاد اليمين في حال الغضب إذا لم يخرج بصاحبه إلى حد لا يعلم معه ما يقول وكذلك ينفذ حكمه وتصح عقوده فلو بلغ به الغضب إلى حد الإغلاق لم تنعقد يمينه ولا طلاقه قال أحمد في رواية حنبل في حديث عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا طلاق ولا عتاق في إغلاق يريد الغضب .

فصل
[لا متعلق للجبرية بقوله صلى الله عليه وسلم ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم ]

ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم قد يتعلق به الجبري ولا متعلق له به وإنما هذا مثل قوله والله لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنع وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فإنه عبد الله ورسوله إنما يتصرف بالأمر فإذا أمره ربه بشيء نفذه فالله هو المعطي والمانع والحامل والرسول منفذ لما أمر به . وأما قوله تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [ الأنفال 17 ] فالمراد به القبضة من الحصباء التي رمى بها وجوه المشركين فوصلت إلى عيون جميعهم فأثبت الله سبحانه له الرمي باعتبار النبذ والإلقاء فإنه فعله ونفاه عنه باعتبار الإيصال إلى جميع المشركين وهذا فعل الرب تعالى لا تصل إليه قدرة العبد والرمي يطلق على الخذف وهو مبدؤه وعلى الإيصال وهو نهايته .

فصل [ تركه صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين ]

ومنها : تركه قتل المنافقين وقد بلغه عنهم الكفر الصريح فاحتج به من قال لا يقتل الزنديق إذا أظهر التوبة لأنهم حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ما قالوا وهذا إذا لم يكن إنكارا فهو توبة وإقلاع وقد قال أصحابنا وغيرهم ومن شهد عليه بالردة فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء عنه بعد وقال بعض الفقهاء إذا جحد الردة كفاه جحدها . ومن لم يقبل توبة الزنديق قال هؤلاء لم تقم عليهم بينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم عليهم بعلمه والذي بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم قولهم لم يبلغهم إياه نصاب البينة بل شهد به عليهم واحد فقط كما شهد زيد بن أرقم وحده على عبد الله بن أبي وكذلك غيره أيضا إنما شهد عليه واحد .

وفي هذا الجواب نظر فإن نفاق عبد الله بن أبي وأقواله في النفاق كانت كثيرة جدا كالمتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبعضهم أقر بلسانه وقال إنما كنا نخوض ونلعب وقد واجهه بعض الخوارج في وجهه بقوله إنك لم تعدل . والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له ألا تقتلهم ؟ لم يقل ما قامت عليهم بينة بل قال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه

[ تركه صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين لتأليف القلوب ]

فالجواب الصحيح إذن أنه كان في ترك قتلهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة تتضمن تأليف القلوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع كلمة الناس عليه وكان في قتلهم تنفير والإسلام بعد في غربة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص شيء على تأليف الناس وأترك شيء لما ينفرهم عن الدخول في طاعته وهذا أمر كان يختص بحال حياته صلى الله عليه وسلم وكذلك ترك قتل من طعن عليه في حكمه بقوله في قصة الزبير وخصمه أن كان ابن عمتك .

وفي قسمه بقوله إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله . وقول الآخر له إنك لم تعدل فإن هذا محض حقه له أن يستوفيه وله أن يتركه وليس للأمة بعده ترك استيفاء حقه بل يتعين عليهم استيفاؤه ولا بد ولتقرير هذه المسائل موضع آخر والغرض التنبيه والإشارة .

فصل [إذا أحدث أحد من أهل الذمة حدثا فيه ضرر على المسلمين انتقض عهده]

ومنها : أن أهل العهد والذمة إذا أحدث أحد منهم حدثا فيه ضرر على الإسلام انتقض عهده في ماله ونفسه وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام فدمه وماله هدر وهو لمن أخذه كما قال في صلح أهل أيلة : فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وهو لمن أخذه من الناس وهذا لأنه بالأحداث صار محاربا حكمه حكم أهل الحرب .

فصل [جواز الدفن ليلا ]

ومنها : جواز الدفن بالليل كما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا البجادين ليلا . وقد سئل أحمد عنه فقال وما بأس بذلك . وقال أبو بكر دفن ليلا وعلي دفن فاطمة ليلا . وقالت عائشة : سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى . ودفن عثمان وعائشة وابن مسعود ليلا .

وفي الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة وقال رحمك الله إن كنت لأواها تلاء للقرآن قال الترمذي : حديث حسن .

وفي البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فقال من هذا ؟ قالوا : فلان دفن البارحة فصلى عليه

فإن قيل فما تصنعون بما رواه مسلم في " صحيحه " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ؟ قال الإمام أحمد : إليه أذهب .

قيل نقول بالحديثين بحمد الله ولا نرد أحدهما بالآخر فنكره الدفن بالليل بل نزجر عنه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة كميت مات مع المسافرين بالليل ويتضررون بالإقامة به إلى النهار وكما إذا خيف على الميت الانفجار ونحو ذلك من الأسباب المرجحة للدفن ليلا . وبالله التوفيق .

فصل [إذا بعث الإمام سرية فغنمت كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه ]

ومنها : أن الإمام إذا بعث سرية فغنمت غنيمة أو أسرت أسيرا أو فتحت حصنا كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم ما صالح عليه أكيدرا من فتح دومة الجندل بين السرية الذين بعثهم مع خالد وكانوا أربعمائة وعشرين فارسا وكانت غنائمهم ألفي بعير وثمانمائة رأس فأصاب كل رجل منهم خمس فرائض وهذا بخلاف ما إذا أخرجت السرية من الجيش في حال الغزو فأصابت ذلك بقوة الجيش فإن ما أصابوا يكون غنيمة للجميع بعد الخمس والنفل وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم .

فصل [ثواب من حبسه العذر ]

ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم لا كما يظنه طائفة من الجهال أنهم معهم بأبدانهم فهذا محال لأنهم قالوا له وهم بالمدينة ؟ قال وهم بالمدينة حبسهم العذر وكانوا معه بأرواحهم وبدار الهجرة بأشباحهم وهذا من الجهاد بالقلب وهو أحد مراتبه الأربع وهي القلب واللسان والمال والبدن . وفي الحديث جاهدوا المشركين بألسنتكم وقلوبكم وأموالكم



فصل [ تحريق أمكنة المعصية وهدمها ]

ومنها : تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ومأوى للمنافقين وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له . وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله أحق بالهدم وأوجب وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات .

وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكمالها يباع فيها الخمر وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقا وحرق قصر سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك .

[الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة ومنها هدم المساجد المبنية على القبور ]

ومنها : أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة كما لم يصح وقف هذا المسجد وعلى هذا : فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معا لم يجز ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجدا أو أوقد عليه سراجا فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى .

فصل [جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا به ]

ومنها : جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا وسرورا به ما لم يكن معه محرم من لهو كمزمار وشبابة وعود ولم يكن غناء يتضمن رقية الفواحش وما حرم الله فهذا لا يحرمه أحد وتعلق أرباب السماع الفسقي به كتعلق من يستحل شرب الخمر المسكر قياسا على أكل العنب وشرب العصير الذي لا يسكر ونحو هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا .

[استماعه صلى الله عليه وسلم مدح المادحين له ]

ومنها : استماع النبي صلى الله عليه وسلم مدح المادحين له وترك الإنكار عليهم ولا يصح قياس غيره عليه في هذا لما بين المادحين والممدوحين من الفروق وقد قال احثوا في وجوه المداحين التراب .



[ الفوائد المستنبطة من قصة المتخلفين الثلاثة ]
ومنها : ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة فنشير إلى بعضها :

[ جواز إخبار الرجل عن تفريطه ]

فمنها : جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره وفي ذلك من التحذير والنصيحة وبيان طرق الخير والشر وما يترتب عليها ما هو من أهم الأمور .

[ جواز مدح الرجل نفسه ]

ومنها : جواز مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع . ومنها : تسلية الإنسان نفسه عما لم يقدر له من الخير بما قدر له من نظيره أو خير منه .

[ بيعة العقبة من أفضل مشاهد الصحابة ]

ومنها : أن بيعة العقبة كانت من أفضل مشاهد الصحابة حتى إن كعبا كان لا يراها دون مشهد بدر .

[ لم يكن ديوان للجيش ]

ومنها : أن الإمام إذا رأى المصلحة في أن يستر عن رعيته بعض ما يهم به ويقصده من العدو ويوري به عنه استحب له ذلك أو يتعين بحسب المصلحة .

[ المبادرة إلى انتهاز فرصة الطاعة ]

ومنها : أن الستر والكتمان إذا تضمن مفسدة لم يجز .

ومنها : أن الجيش في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم ديوان وأول من دون الديوان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا من سنته التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها وظهرت مصلحتها وحاجة المسلمين إليها .

ومنها : أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها والعجز في تأخيرها والتسويف بها ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه بأن يحول بين قلبه وإرادته فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه حال بينه وبين قلبه وإرادته فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك . قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [ الأنفال 24 ] وقد صرح الله سبحانه بهذا في قوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [ الأنعام 110 ] وقال تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ الصف 5 ] . وقال وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم [ التوبة 115 ] وهو كثير في القرآن .

[ لم يكن يتخلف عنه صلى الله عليه وسلم إلا منافق أو معذور
أو من خلفه النبي صلى الله عليه وسلم ]

ومنها : أنه لم يكن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحد رجال ثلاثة إما مغموص عليه في النفاق أو رجل من أهل الأعذار أو من خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة أو خلفه لمصلحة .

ومنها : أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع الطاعة ويتوب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال بتبوك : ما فعل كعب ؟ ولم يذكر سواه من المخلفين استصلاحا له ومراعاة وإهمالا للقوم المنافقين .

[ تذكير الإمام والمطاع المتخلفين بالتوبة ]

ومنها : جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية أو ذبا عن الله ورسوله ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم .

[ جواز الطعن اجتهادا ]

ومنها : جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط كما قال معاذ للذي طعن في كعب بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على واحد منهما .

ومنها : أن السنة للقادم من السفر أن يدخل البلد على وضوء وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس للمسلمين عليه ثم ينصرف إلى أهله .

[ الحكم بالظاهر ]

ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين ويكل سريرته إلى الله ويجري عليه حكم الظاهر ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره .

[ ترك رد السلام على من أحدث حدثا ]

ومنها : ترك الإمام والحاكم رد السلام على من أحدث حدثا تأديبا له وزجرا لغيره فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه رد على كعب بل قابل سلامه بتبسم المغضب .

[ تبسم الغضب ]

ومنها : أن التبسم قد يكون عن الغضب كما يكون عن التعجب والسرور فإن كلا منهما يوجب انبساط دم القلب وثورانه ولهذا تظهر حمرة الوجه لسرعة ثوران الدم فيه فينشأ عن ذلك السرور والغضب تعجب يتبعه ضحك وتبسم فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه ولا سيما عند المعتبة كما قيل

إذا رأيت نيوب الليث بارزة

فلا تظنن أن الليث مبتسم


[ جواز معاتبة الإمام والمطاع أصحابه ]

ومنها : معاتبة الإمام والمطاع أصحابه ومن يعز عليه ويكرم عليه فإنه عاتب الثلاثة دون سائر من تخلف عنه وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه والسرور به فكيف بعتاب أحب الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه ولله ما كان أحلى ذلك العتاب وما أعظم ثمرته وأجل فائدته ولله ما نال به الثلاثة من أنواع المسرات وحلاوة الرضى وخلع القبول .

[ توفيق الله لكعب وصاحبيه ]

ومنها : توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاءوا به من الصدق ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم كل الفساد والصادقون تعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة والفلاح كل الفلاح وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة فمرارات المبادي حلاوات في العواقب وحلاوات المبادي مرارات في العواقب . وقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب أما هذا فقد صدق دليل ظاهر في التمسك بمفهوم اللقب عند قيام قرينة تقتضي تخصيص المذكور بالحكم كقوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان [ الأنبياء 78 و 79 ] وقوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا وقوله في هذا الحديث أما هذا فقد صدق وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم .

[ ينبغي للرجل أن يرد حر المصيبة بروح التأسي بمن لقي مثل ما لقي ]

[ وهم الزهري في جعله صاحبي كعب ممن شهد بدرا ولم يغلط إلا في هذا الموضع ]

وقول كعب : هل لقي هذا معي أحد ؟ فقالوا : نعم مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فيه أن الرجل ينبغي له أن يرد حر المصيبة بروح التأسي بمن لقي مثل ما لقي وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى : ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون [ النساء 104 ] وهذا هو الروح الذي منعه الله سبحانه أهل النار فيها بقوله ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ الزخرف 39 ] . وقوله " فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة " هذا الموضع مما عد من أوهام الزهري فإنه لا يحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير البتة ذكر هذين الرجلين في أهل بدر لا ابن إسحاق ولا موسى بن عقبة ولا الأموي ولا الواقدي ولا أحد ممن عد أهل بدر وكذلك ينبغي ألا يكونا من أهل بدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر حاطبا ولا عاقبه وقد جس عليه وقال لعمر لما هم بقتله وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأين ذنب التخلف من ذنب الجس .

قال أبو الفرج بن الجوزي : ولم أزل حريصا على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيت أبا بكر الأثرم قد ذكر الزهري وذكر فضله وحفظه وإتقانه وأنه لا يكاد يحفظ عليه غلط إلا في هذا الموضع فإنه قال إن مرارة بن الربيع وهلال بن أمية شهدا بدرا وهذا لم يقله أحد غيره والغلط لا يعصم منه إنسان .

فصل [ نهيه صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة لتأديبهم دليل على صدقهم ]

وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب الباقين فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق ولا فائدة فيه وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة فلا يزال مستيقظا حذرا وأما من سقط من عينه وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عاقبة معها كما في الحديث المشهور إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا وإذا أراد بعبد شرا أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيرد يوم القيامة بذنوبه

[ جواز الهجر للتأديب ]

وفيه دليل أيضا على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه إذ المراد تأديبه لا إتلافه .

[ التنكر والوحشة دليل على حياة القلب ]

وقوله حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف هذا التنكر يجده الخائف والحزين والمهموم في الأرض وفي الشجر والنبات حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس ويجده أيضا المذنب العاصي بحسب جرمه حتى في خلق زوجته وولده وخادمه ودابته ويجده في نفسه أيضا فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو ولا كأن أهله وأصحابه ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب وعلى حسب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة .

وما لجرح بميت إيلام


ومن المعلوم أن هذا التنكر والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به وهكذا القلب إذا استحكم مرضه واشتد ألمه بالذنوب والإجرام لم يجد هذه الوحشة والتنكر ولم يحس بها وهذه علامة الشقاوة وأنه قد أيس من عافية هذا المرض وأعيا الأطباء شفاؤه والخوف والهم مع الريبة والأمن والسرور مع البراءة من الذنب .

فما في الأرض أشجع من بريء

ولا في الأرض أخوف من مريب


وهذا القدر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتلي به ثم راجع فإنه ينتفع به نفعا عظيما من وجوه عديدة تفوت الحصر ولو لم يكن منها إلا استثماره من ذلك أعلام النبوة وذوقه نفس ما أخبر به الرسول فيصير تصديقه ضروريا عنده ويصير ما ناله من الشر بمعاصيه ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التي لا تتطرق إليها الاحتمالات وهذا كمن أخبرك أن في هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيت وكيت على التفصيل فخالفته وسلكتها فرأيت عين ما أخبرك به فإنك تشهد صدقه في نفس خلافك له وأما إذا سلكت طريق الأمن وحدها ولم تجد من تلك المخاوف شيئا فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلا فإن علمه بتلك يكون مجملا .

فصل [ علة تخلف صديقي كعب عن صلاة الجماعة ]

ومنها : أن هلال بن أمية ومرارة قعدا في بيوتهما وكانا يصليان في بيوتهما ولا يحضران الجماعة وهذا يدل على أن هجران المسلمين للرجل عذر يبيح له التخلف عن الجماعة أو يقال من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين لكن يقال فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا عتب عليهما على التخلف وعلى هذا فيقال لما أمر المسلمون بهجرهم تركوا : لم يؤمروا ولم ينهوا ولم يكلموا فكان من حضر منهم الجماعة لم يمنع ومن تركها لم يكلم أو يقال لعلهما ضعفا وعجزا عن الخروج ولهذا قال كعب وكنت أنا أجلد القوم وأشبهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين .

[ رد السلام على من يستحق الهجر غير واجب ]

وقوله وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ فيه دليل على أن الرد على من يستحق الهجر غير واجب إذ لو وجب الرد لم يكن بد من إسماعه .

[ دخول دار الصاحب من غير إذن ]

وقوله حتى إذا طال ذلك علي تسورت جدار حائط أبي قتادة فيه دليل على دخول الإنسان دار صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك وإن لم يستأذنه .

[ قول الله ورسوله أعلم ليس بخطاب ]

وفي قول أبي قتادة له الله ورسوله أعلم دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له فلو حلف لا يكلمه فقال مثل هذا الكلام جوابا له لم يحنث ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته وهو الظاهر من حال أبي قتادة .

[ إشارة الناس إلى النبطي على كعب دون نطقهم تحقيق لمقصود الهجران ]

وفي إشارة الناس إلى النبطي الذي كان يقول من يدل على كعب بن مالك دون نطقهم له تحقيق لمقصود الهجر وإلا فلو قالوا له صريحا : ذاك كعب بن مالك لم يكن ذلك كلاما له فلا يكونون به مخالفين للنهي ولكن لفرط تحريهم وتمسكهم بالأمر لم يذكروه له بصريح اسمه . وقد يقال إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه وهي ذريعة قريبة فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع وهذا أفقه وأحسن .

[ ابتلاء الله لكعب بمكاتبة ملك غسان له ]

وفي مكاتبة ملك غسان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى وامتحان لإيمانه ومحبته لله ورسوله وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانه بهجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين له ولا هو ممن تحمله الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه فهذا فيه من تبرئة الله له من النفاق وإظهار قوة إيمانه وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه ولطفه به وجبره لكسره وهذا البلاء يظهر لب الرجل وسره وما ينطوي عليه فهو كالكير الذي يخرج الخبيث من الطيب .

[ إتلاف ما يخشى منه المضرة في الدين ]

وقوله فتيممت بالصحيفة التنور فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره وهذا كالعصير إذا تخمر وكالكتاب الذي يخشى منه الضرر والشر فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه .

[ عداوة غسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه صلى الله عليه وسلم لهم ]

وكانت غسان إذ ذاك - وهم ملوك عرب الشام - حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ينعلون خيولهم لمحاربته وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى ملكهم الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام وكتب معه إليه قال شجاع فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيلياء فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا وجعل حاجبه - وكان روميا اسمه مري - يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه فيرق حتى يغلب عليه البكاء ويقول إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه فأنا أؤمن به وأصدقه فأخاف من الحارث أن يقتلني وكان يكرمني ويحسن ضيافتي .

وخرج الحارث يوما فجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ثم رمى به قال من ينتزع مني ملكي وقال أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته علي بالناس فلم تزل تعرض حتى قام وأمر بالخيول تنعل ثم قال أخبر صاحبك بما ترى وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه فكتب إليه قيصر أن لا تسر ولا تعبر إليه واله عنه ووافني بإيلياء فلما جاءه جواب كتابه دعاني فقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك ؟ فقلت : غدا فأمر لي بمائة مثقال ذهبا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة وقال اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال " باد ملكه " وأقرأته من حاجبه السلام وأخبرته بما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق " ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح ففي هذه المدة أرسل ملك غسان يدعو كعبا إلى اللحاق به فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه .

فصل [ أمره صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة باعتزال نسائهم كالبشارة بمقدمات الفرج من حيث إرساله لهم بذلك والجد في العبادة باعتزال النساء ]

في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة كالبشارة بمقدمات الفرج والفتح من وجهين

أحدهما : كلامه لهم وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله .

الثاني : من خصوصية أمرهم باعتزال النساء وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة وشد المئزر واعتزال محل اللهو واللذة والتعوض عنه بالإقبال على العبادة وفي هذا إيذان بقرب الفرج وأنه قد بقي من العتب أمر يسير .

وفقه هذه القصة أن زمن العبادات ينبغي فيه تجنب النساء كزمن الإحرام وزمن الاعتكاف وزمن الصيام فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر هذه المدة في حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام في توفرها على العبادة ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمة بهم وشفقة عليهم إذ لعلهم يضعف صبرهم عن نسائهم في جميعها فكان من اللطف بهم والرحمة أن أمروا بذلك في آخر المدة كما يؤمر به الحاج من حين يحرم لا من حين يعزم على الحج .

[ لفظ الطلاق والعتاق لا يقع إذا لم يرده ]

وقول كعب لامرأته الحقي بأهلك دليل على أنه لم يقع بهذه اللفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه . والصحيح إن لفظ الطلاق والعتاق والحرية كذلك إذا أراد به غير تسييب الزوجة وإخراج الرقيق عن ملكه لا يقع به طلاق ولا عتاق هذا هو الصواب الذي ندين الله به ولا نرتاب فيه البتة . فإذا قيل له إن غلامك فاجر أو جاريتك تزني فقال ليس كذلك بل هو غلام عفيف حر وجارية عفيفة حرة ولم يرد بذلك حرية العتق وإنما أراد حرية العفة فإن جاريته وعبده لا يعتقان بهذا أبدا وكذا إذا قيل له كم لغلامك عندك سنة ؟ فقال هو عتيق عندي وأراد قدم ملكه له لم يعتق بذلك وكذلك إذا ضرب امرأته الطلق فسئل عنها فقال هي طالق ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق وإنما أراد أنها في طلق الولادة لم تطلق بهذا وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أريد بها ودل السياق عليها فدعوى أنها صريحة في العتاق والطلاق مع هذه القرائن مكابرة ودعوى باطلة قطعا .



فصل [ كان سجود الشكر من عادة الصحابة ]

وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة وهي سجود الشكر عند النعم المتجددة والنقم المندفعة وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب

وسجد علي بن أبي طالب لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج

وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بشره جبريل أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا

وسجد حين شفع لأمته فشفعه الله فيهم ثلاث مرات

وأتاه بشير فبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة فقام فخر ساجدا

وقال أبو بكرة : كان رسول الله إذا أتاه أمر يسره خر لله ساجدا وهي آثار صحيحة لا مطعن فيها .

[ حرص الصحابة على الخير ]

وفي استباق صاحب الفرس والراقي على سلع ليبشرا كعبا دليل على حرص القوم على الخير واستباقهم إليه وتنافسهم في مسرة بعضهم بعضا .

[ إعطاء البشير من مكارم الأخلاق ]

وفي نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير دليل على أن إعطاء المبشرين من مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف وقد أعتق العباس غلامه لما بشره أن عند ا لحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسره وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه .

[ استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية ]

وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية والقيام إليه إذا أقبل ومصافحته فهذه سنة مستحبة وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية وأن الأولى أن يقال له ليهنك ما أعطاك الله وما من الله به عليك ونحو هذا الكلام فإن فيه تولية النعمة ربها والدعاء لمن نالها بالتهني بها .

[ يوم توبة المسلم خير الأيام ]

وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته لقول النبي صلى الله عليه وسلم أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك فإن قيل فكيف يكون هذا اليوم خيرا من يوم إسلامه ؟

قيل هو مكمل ليوم إسلامه ومن تمامه فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته كمالها وتمامها والله المستعان .

[ سروره صلى الله عليه وسلم بتوبة الله على المخلفين

دليل على شفقته على أمته ]

وفي سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة والرحمة بهم والرأفة حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحبيه .

[ استحباب الصدقة عند التوبة ]

وقول كعب يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي . دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال .

[ من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه ]

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه بل يجوز له أن يبقي له منه بقية وقد اختلفت الرواية في ذلك ففي " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أمسك عليك بعض مالك ولم يعين له قدرا بل أطلق ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية وهذا هو الصحيح فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به فنذره لا يكون طاعة فلا يجب الوفاء به وما زاد على قدر كفايته وحاجته فإخراجه والصدقة به أفضل فيجب إخراجه إذا نذره هذا قياس المذهب ومقتضى قواعد الشريعة ولهذا تقدم كفاية الرجل وكفاية أهله على أداء الواجبات المالية سواء كانت حقا لله كالكفارات والحج أو حقا للآدميين كأداء الديون فإنا نترك للمفلس ما لا بد منه من مسكن وخادم وكسوة وآلة حرفة أو ما يتجر به لمؤنته إن فقدت الحرفة ويكون حق الغرماء فيما بقي .

وقد نص الإمام أحمد على أن من نذر الصدقة بماله كله أجزاه ثلثه واحتج له أصحابه بما روي في قصة كعب هذه أنه قال يا رسول الله إن من توبتي إلى الله ورسوله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال " لا " قلت : فنصفه ؟ قال " لا " قلت : فثلثه قال " نعم " قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر

رواه أبو داود . وفي ثبوت هذا ما فيه فإن الصحيح في قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال أمسك عليك بعض مالك من غير تعيين لقدره وهم أعلم بالقصة من غيرهم فإنهم ولده وعنه نقلوها .

[ من نذر صدقة وعليه دين ]

فإن قيل فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد في " مسنده " أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجزئ - عنك الثلث

قيل هذا هو الذي احتج به أحمد لا بحديث كعب فإنه قال في رواية ابنه عبد الله إذا نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه وعليه دين أكثر مما يملكه فالذي أذهب إليه أنه يجزئه من ذلك الثلث لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا لبابة بالثلث وأحمد أعلم بالحديث أن يحتج بحديث كعب هذا الذي فيه ذكر الثلث إذ المحفوظ في هذا الحديث أمسك عليك بعض مالك وكأن أحمد رأى تقييد إطلاق حديث كعب هذا بحديث أبي لبابة .

وقوله فيمن نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه وعليه دين يستغرقه إنه يجزئه من ذلك الثلث دليل على انعقاد نذره وعليه دين يستغرق ماله ثم إذا قضى الدين أخرج مقدار ثلث ماله يوم النذر وهكذا قال في رواية ابنه عبد الله : إذا وهب ماله وقضى دينه واستفاد غيره فإنما يجب عليه إخراج ثلث ماله يوم حنثه يريد بيوم حنثه يوم نذره فينظر قدر الثلث ذلك اليوم فيخرجه بعد قضاء دينه .

وقوله أو ببعضه . يريد أنه إذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدار كألف ونحوها فيجزئه ثلثه كنذر الصدقة بجميع ماله والصحيح من مذهبه لزوم الصدقة بجميع المعين .

وفيه رواية أخرى أن المعين إن كان ثلث ماله فما دونه لزمه الصدقة بجميعه وإن زاد على الثلث لزمه منه بقدر الثلث وهي أصح عند أبي البركات .

وبعد فإن الحديث ليس فيه دليل على أن كعبا وأبا لبابة نذرا نذرا منجزا وإنما قالا : إن من توبتنا أن ننخلع من أموالنا وهذا ليس بصريح في النذر وإنما فيه العزم على الصدقة بأموالهما شكرا لله على قبول توبتهما فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض المال يجزئ من ذلك ولا يحتاجان إلى إخراجه كله وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يوصي بماله كله فأذن له في قدر الثلث .

فإن قيل هذا يدفعه أمران . أحدهما : قوله " يجزئك " والإجزاء إنما يستعمل في الواجب

والثاني : أن منعه من الصدقة بما زاد على الثلث دليل على أنه ليس بقربة إذ الشارع لا يمنع من القرب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به .

قيل أما قوله " يجزئك " فهو بمعنى يكفيك فهو من الرباعي وليس من " جزى عنه " إذا قضى عنه يقال أجزأني : إذا كفاني وجزى عني : إذا قضى عني وهذا هو الذي يستعمل في الواجب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في الأضحية تجزي عنك ولن تجزي عن أحد بعدك والكفاية تستعمل في الواجب والمستحب .

وأما منعه من الصدقة بما زاد على الثلث فهو إشارة منه عليه بالأرفق به وما يحصل له به منفعة دينه ودنياه فإنه لو مكنه من إخراج ماله كله لم يصبر على الفقر والعدم كما فعل بالذي جاءه بالصرة ليتصدق بها فضربه بها ولم يقبلها منه خوفا عليه من الفقر وعدم الصبر .

وقد يقال - وهو أرجح إن شاء الله تعالى - إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل كل واحد ممن أراد الصدقة بماله بما يعلم من حاله فمكن أبا بكر الصديق من إخراج ماله كله وقال ما أبقيت لأهلك ؟ " فقال أبقيت لهم الله ورسوله فلم ينكر عليه وأقر عمر على الصدقة بشطر ماله

ومنع صاحب الصرة من التصدق بها وقال لكعب أمسك عليك بعض مالك وهذا ليس فيه تعيين المخرج بأنه الثلث ويبعد جدا بأن يكون الممسك ضعفي المخرج في هذا اللفظ وقال لأبي لبابة يجزئك الثلث ولا تناقض بين هذه الأخبار وعلى هذا فمن نذر الصدقة بماله كله أمسك منه ما يحتاج إليه هو وأهله ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناس مدة حياتهم من رأس مال أو عقار أو أرض يقوم مغلها بكفايتهم وتصدق بالباقي . والله أعلم .

وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : يتصدق منه بقدر الزكاة ويمسك الباقي . وقال جابر بن زيد : إن كان ألفين فأكثر أخرج عشره وإن كان ألفا فما دون فسبعه وإن كان خمسمائة فما دون فخمسه .

وقال أبو حنيفة رحمه الله يتصدق بكل ماله الذي تجب فيه الزكاة وما لا تجب فيه الزكاة ففيه روايتان أحدهما : يخرجه والثانية لا يلزمه منه شيء .

وقال الشافعي : تلزمه الصدقة بماله كله وقال مالك والزهري وأحمد يتصدق بثلثه وقالت طائفة يلزمه كفارة يمين فقط .

فصل [ عظمة الصدق ]

ومنها : عظم مقدار الصدق وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين فقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة 119 ] .

وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين سعداء وأشقياء فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب وهو تقسيم حاصر مطرد منعكس . فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب .

وأخبر سبحانه وتعالى : أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صدقهم . وجعل علم المنافقين الذي تميزوا به هو الكذب في أقوالهم وأفعالهم فجميع ما نعاه عليهم أصله الكذب في القول والفعل فالصدق بريد الإيمان ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه بل هو لبه وروحه . والكذب بريد الكفر والنفاق ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه ولبه فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدهما صاحبه ويستقر موضعه والله سبحانه أنجى الثلاثة بصدقهم وأهلك غيرهم من المخلفين بكذبهم فما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده والله المستعان .

[ فضل التوبة ]

وقوله تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم [ التوبة 117 ] هذا من أعظم ما يعرف العبد قدر التوبة وفضلها عند الله وأنها غاية كمال المؤمن فإنه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزوات بعد أن قضوا نحبهم وبذلوا نفوسهم وأموالهم وديارهم لله وكان غاية أمرهم أن تاب عليهم ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم توبة كعب خير يوم مر عليه منذ ولدته أمه إلى ذلك اليوم ولا يعرف هذا حق معرفته إلا من عرف الله وعرف حقوقه عليه وعرف ما ينبغي له من عبوديته وعرف نفسه وصفاتها وأفعالها وأن الذي قام به من العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه كقطرة في بحر هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة فسبحان من لا يسع عباده غير عفوه ومغفرته وتغمده لهم بمغفرته ورحمته وليس إلا ذلك أو الهلاك فإن وضع عليهم عدله فعذب أهل سماواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم وإن رحمهم فرحمته خير لهم من أعمالهم ولا ينجي أحدا منهم عمله .

فصل [ معنى تكرير الله للفظ التوبة في الآية ]

وتأمل تكريره سبحانه توبته عليهم مرتين في أول الآية وآخرها فإنه تاب عليهم أولا بتوفيقهم للتوبة فلما تابوا تاب عليهم ثانيا بقبولها منهم وهو الذي وفقهم لفعلها وتفضل عليهم بقبولها فالخير كله منه وبه وله وفي يديه يعطيه من يشاء إحسانا وفضلا ويحرمه من يشاء حكمة وعدلا .

فصل [ معنى كلمة خلفوا في الآية ]

وقوله تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا [ التوبة 118 ] قد فسرها كعب بالصواب وهو أنهم خلفوا من بين حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذر من المتخلفين فخلف هؤلاء الثلاثة عنهم وأرجأ أمرهم دونهم وليس ذلك تخلفهم عن الغزو لأنه لو أراد ذلك لقال تخلفوا كما قال تعالى : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله [ التوبة 120 ] وذلك لأنهم تخلفوا بأنفسهم بخلاف تخليفهم عن أمر المتخلفين سواهم فإن الله سبحانه هو الذي خلفهم عنهم ولم يتخلفوا عنه بأنفسهم . والله أعلم .



فصل في حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة تسع
بعد مقدمه من تبوك قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك بقية رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم فخرج أبو بكر والمؤمنون .

قال ابن سعد : فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة قلدها وأشعرها بيده عليها ناجية بن جندب الأسلمي وساق أبو بكر خمس بدنات .

قال ابن إسحاق : فنزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء .

قال ابن سعد : فلما كان بالعرج - وابن عائذ يقول : بضجنان - لحقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على العضباء فلما رآه أبو بكر قال أمير أو مأمور قال لا بل مأمور ثم مضيا

وقال ابن سعد : فقال له أبو بكر أستعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج ؟ قال لا ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده فأقام أبو بكر للناس حجهم حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس عند الجمرة بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذ إلى كل ذي عهد عهده وقال أيها الناس لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته

وقال الحميدي حدثنا سفيان قال حدثني أبو إسحاق الهمداني عن زيد بن يثيع قال سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحجة ؟ قال بعثت بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربع أشهر

وفي " الصحيحين " : عن أبي هريرة قال بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأمره أن يؤذن ببراءة قال فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان

[ هل كانت حجة الصديق قبل فريضة الحج وإلغاء النسيء ]

وفي هذه القصة دليل على أن يوم الحج الأكبر يوم النحر واختلف في حجة الصديق هذه هل هي التي أسقطت الفرض أو المسقطة هي حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ على قولين أصحهما : الثاني والقولان مبنيان على أصلين

أحدهما : هل كان الحج فرض قبل عام حجة الوداع أو لا ؟ والثاني : هل كانت حجة الصديق رضي الله عنه في ذي الحجة أو وقعت في ذي القعدة من أجل النسيء الذي كان الجاهلية يؤخرون له الأشهر ويقدمونها ؟ على قولين . والثاني : قول مجاهد وغيره .

وعلى هذا فلم يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج بعد فرضه عاما واحدا بل بادر إلى الامتثال في العام الذي فرض فيه وهذا هو اللائق بهديه وحاله صلى الله عليه وسلم وليس بيد من ادعى تقدم فرض الحج سنة ست أو سبع أو ثمان أو تسع دليل واحد . وغاية ما احتج به من قال فرض سنة ست قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة 196 ] وهي قد نزلت بالحديبية سنة ست وهذا ليس فيه ابتداء فرض الحج وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شرع فيه فأين هذا من وجوب ابتدائه وآية فرض الحج وهي قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران 97 ] نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع .


افتراضي

فصل في قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم
[ وفد ثقيف ]
فقدم عليه وفد ثقيف وقد تقدم مع سياق غزوة الطائف . قال موسى بن عقبة : وأقام أبو بكر للناس حجهم وقدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرجع إلى قومه فذكر نحو ما تقدم وقال فقدم وفدهم وفيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغر الوفد فقال المغيرة بن شعبة : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل قومي علي فأكرمهم فإني حديث الجرح فيهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن " وكان من جرح المغيرة في قومه أنه كان أجيرا لثقيف وأنهم أقبلوا من مضر حتى إذا كانوا ببعض الطريق عدا عليهم وهم نيام فقتلهم ثم أقبل بأموالهم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما الإسلام فنقبل وأما المال فلا فإنا لا نغدر " وأبى أن يخمس ما معه وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لا يذكر نفسه فلما سمعه وفد ثقيف قالوا : يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به في خطبته فلما بلغه قولهم قال فإني أول من شهد أني رسول الله .

وكانوا يغدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم لأنه أصغرهم فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه في الدين وعلم وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبي بكر وكان يكتم ذلك من أصحابه فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا فقال كنانة بن عبد ياليل : هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ؟ قال " نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم " .

قال أفرأيت الزنى فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه ؟ قال " هو عليكم حرام فإن الله عز وجل يقول ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ الإسراء : 32 ] قالوا : أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها ؟ قال " لكم رءوس أموالكم إن الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين [ البقرة 278 ] . قالوا : أفرأيت الخمر فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها ؟

قال " إن الله قد حرمها وقرأ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ المائدة 90 ] فارتفع القوم فخلا بعضهم ببعض فقالوا : ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة انطلقوا نكاتبه على ما سألناه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : نعم لك ما سألت أرأيت الربة ماذا نصنع فيها ؟ قال " اهدموها " .

قالوا : هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلها فقال عمر بن الخطاب : ويحك يا ابن عبد ياليل ما أجهلك إنما الربة حجر . فقالوا : إنا لم نأتك يا ابن الخطاب وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تول أنت هدمها فأما نحن فإنا لا نهدمها أبدا .

قال " فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها " فكاتبوه فقال كنانة بن عبد ياليل : ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث في آثارنا فإنا أعلم بقومنا فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمهم وحباهم وقالوا : يا رسول الله أمر علينا رجلا يؤمنا من قومنا فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام وكان قد تعلم سورا من القرآن قبل أن يخرج فقال كنانة بن عبد ياليل : أنا أعلم الناس بثقيف فاكتموهم القضية وخوفوهم بالحرب والقتال وأخبروهم أن محمدا سألنا أمورا أبيناها عليه سألنا أن نهدم اللات والعزى وأن نحرم الخمر والزنى وأن نبطل أموالنا في الربا .

فخرجت ثقيف حين دنا منهم الوفد يتلقونهم فلما رأوهم قد ساروا العنق وقطروا الإبل وتغشوا ثيابهم كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا ولم يرجعوا بخير فقال بعضهم لبعض ما جاء وفدكم بخير ولا رجعوا به وترجل الوفد وقصدوا اللات ونزلوا عندها - واللات وثن كان بين ظهراني الطائف يستر ويهدى له الهدي كما يهدى لبيت الله الحرام - فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها : إنهم لا عهد لهم برؤيتها ثم رجع كل رجل منهم إلى أهله وجاء كلا منهم خاصته من ثقيف فسألوهم ماذا جئتم به وماذا رجعتم به ؟ قالوا : أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما يشاء قد ظهر بالسيف وداخ له العرب ودان له الناس فعرض علينا أمورا شدادا : هدم اللات والعزى وترك الأموال في الربا إلا رءوس أموالكم وحرم الخمر والزنى فقالت ثقيف : والله لا نقبل هذا أبدا .

فقال الوفد أصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال وتعبئوا له ورموا حصنكم . فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال ثم ألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب وقالوا : والله ما لنا به طاقة وقد داخ له العرب كلها فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه عليه .

فلما رأى الوفد أنهم قد رغبوا واختاروا الأمان على الخوف والحرب قال الوفد فإنا قد قاضيناه وأعطيناه ما أحببنا وشرطنا ما أردنا ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه فاقبلوا عافية الله فقالت ثقيف : فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا أشد الغم ؟ قالوا : أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان فأسلموا مكانهم ومكثوا أياما .

ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة فلما قدموا عمدوا إلى اللات ليهدموها واستكفت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة يظنون أنها ممتنعة فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه

والله لأضحكنكم من ثقيف فضرب بالكرزين ثم سقط يركض فارتج أهل الطائف بضجة واحدة وقالوا : أبعد الله المغيرة قتلته الربة وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا : من شاء منكم فليقرب وليجتهد على هدمها فوالله لا تستطاع فوثب المغيرة بن شعبة فقال قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر فاقبلوا عافية الله واعبدوه ثم ضرب الباب فكسره ثم علا سورها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض وجعل صاحب المفتاح يقول ليغضبن الأساس فليخسفن بهم فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد دعني أحفر أساسها فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليها ولباسها فبهتت ثقيف فقالت عجوز منهم أسلمها الرضاع وتركوا المصاع .

وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليها وكسوتها فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه وحمد الله على نصرة نبيه وإعزاز دينه

وقد تقدم أنه أعطاه لأبي سفيان بن حرب هذا لفظ موسى بن عقبة . وزعم ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من تبوك في رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف .

وروينا في " سنن أبي داود " عن جابر قال اشترطت ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم ألا صدقة عليها ولا جهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا

وروينا في " سنن أبي داود الطيالسي " عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم

وفي " المغازي " لمعتمر بن سليمان قال سمعت عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي يحدث عن عثمان بن عبد الله عن عمه عمرو بن أوس عن عثمان بن أبي العاص قال استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة فقلت : يا رسول الله إن القرآن يتفلت مني فوضع يده على صدري وقال " يا شيطان اخرج من صدر عثمان " فما نسيت شيئا بعده أريد حفظه

وفي " صحيح مسلم " عن عثمان بن أبي العاص قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي قال ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ففعلت فأذهبه الله عني .

فصل [ إذا قدم الحربي مسلما لا يضمن ما أخذه أو فعله قبل إسلامه ]

وفي قصة هذا الوفد من الفقه أن الرجل من أهل الحرب إذا غدر بقومه وأخذ أموالهم ثم قدم مسلما لم يتعرض له الإمام ولا لما أخذه من المال ولا يضمن ما أتلفه قبل مجيئه من نفس ولا مال كما لم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذه المغيرة من أموال الثقفيين ولا ضمن ما أتلفه عليهم وقال أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء .

[ جواز إنزال المشرك في المسجد ]

ومنها : جواز إنزال المشرك في المسجد ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه وتمكينه من سماع القرآن ومشاهدة أهل الإسلام وعبادتهم .

[ حسن سياسة الوفد ]

ومنها : حسن سياسة الوفد وتلطفهم حتى تمكنوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوروا لهم بصورة المنكر لما يكرهونه الموافق لهم فيما يهوونه حتى ركنوا إليهم واطمأنوا فلما علموا أنه ليس لهم بد من الدخول في دعوة الإسلام أذعنوا فأعلمهم الوفد أنهم بذلك قد جاءوهم ولو فاجئوهم به من أول وهلة لما أقروا به ولا أذعنوا وهذا من أحسن الدعوة وتمام التبليغ ولا يتأتى مع ألباء الناس وعقلاتهم .

ومنها : أن المستحق لإمرة القوم وإمامتهم أفضلهم وأعلمهم بكتاب الله وأفقههم في دينه .

[ هدم مواضع الشرك ]

ومنها : هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتا للطواغيت وهدمها أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويشرك بأربابها مع الله لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها ولا يصح وقفها ولا الوقف عليها وللإمام أن يقطعها وأوقافها لجند الإسلام ويستعين بها على مصالح المسلمين وكذلك ما فيها من الآلات والمتاع والنذور التي تساق إليها يضاهى بها الهدايا التي تساق إلى البيت الحرام للإمام أخذها كلها وصرفها في مصالح المسلمين كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال بيوت هذه الطواغيت وصرفها في مصالح الإسلام وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد سواء من النذور لها والتبرك بها والتمسح بها وتقبيلها واستلامها هذا كان شرك القوم بها ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السماوات والأرض بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه .

[ استحباب اتخاذ المساجد مكان بيوت الطواغيت ]

ومنها : استحباب اتخاذ المساجد مكان بيوت الطواغيت فيعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في الأمكنة التي كان يشرك به فيها وهكذا الواجب في مثل هذه المشاهد أن تهدم وتجعل مساجد إن احتاج إليها المسلمون وإلا أقطعها الإمام هي وأوقافها للمقاتلة وغيرهما .

[ التعوذ من الشيطان ]

ومنها : أن العبد إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتفل عن يساره لم يضره ذلك ولا يقطع صلاته بل هذا من تمامها وكمالها والله أعلم .

فصل [ الوفود ]

قال ابن إسحاق : ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه فدخلوا في دين الله أفواجا يضربون إليه من كل وجه .

فصل وقد تقدم ذكر وفد بني تميم ووفد طيئ .

[ وفد بني عامر ]
ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل وكفاية الله شره وشر أربد بن قيس بعد أن عصم منهما نبيه .

روينا في كتاب " الدلائل " للبيهقي عن يزيد بن عبد الله أبي العلاء قال وفد أبي في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنت سيدنا وذو الطول علينا فقال مه مه قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان السيد الله

روينا عن ابن إسحاق قال لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر وكان هؤلاء النفر رؤساء القوم وشياطينهم فقدم عدو الله عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به فقال له قومه يا عامر إن الناس قد أسلموا فقال والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ثم قال لأربد : إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف .

فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر يا محمد خالني . قال " لا والله حتى تؤمن بالله وحده " . قال يا محمد خالني . قال " حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له " فلم أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا . فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم اكفني عامر بن الطفيل " فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد ويحك يا أربد أين ما كنت أمرتك به ؟ والله ما كان على وجه الأرض أخوف عندي على نفسي منك وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا . قال لا أبا لك لا تعجل علي فوالله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل أفأضربك بالسيف ؟

ثم خرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول ثم خرج أصحابه حين رأوه حتى قدموا أرض بني عامر أتاهم قومهم فقالوا : ما وراءك يا أربد ؟ فقال لقد دعاني إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله فخرج بعد مقالته بيوم أو بيومين معه جمل يتبعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما وكان أربد أخا لبيد بن ربيعة لأمه فبكى ورثاه .

وفي " صحيح البخاري " أن عامر بن الطفيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أخيرك بين ثلاث خصال يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر أو أكون خليفتك من بعدك أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء فطعن في بيت امرأة فقال أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه



فصل في قدوم وفد عبد القيس
في " الصحيحين " من حديث ابن عباس : أن وفد عبد القيس قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ممن القوم ؟ " فقالوا : من ربيعة . فقال " مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى " . فقالوا : يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام فمرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة فقال " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم . وأنهاكم عن أربع عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاحفظوهن وادعوا إليهن من وراءكم زاد مسلم :

قالوا : يا رسول الله ما علمك بالنقير ؟ قال بلى جذع تنقرونه ثم تلقون فيه من التمر ثم تصبون عليه الماء حتى يغلي فإذا سكن شربتموه فعسى أحدكم أن يضرب ابن عمه بالسيف وفي القوم رجل به ضربة كذلك . قال وكنت أخبؤها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : ففيم نشرب يا رسول الله ؟ قال " اشربوا في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها " . قالوا : يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان لا تبقى فيها أسقية الأدم قال " وإن أكلها الجرذان " مرتين أو ثلاثا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس " إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة "

قال ابن إسحاق : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن بشر بن المعلى وكان نصرانيا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد عبد القيس فقال يا رسول الله إني على دين وإني تارك ديني لدينك فتضمن لي بما فيه ؟ قال " نعم أنا ضامن لذلك إن الذي أدعوك إليه خير من الذي كنت عليه " فأسلم وأسلم أصحابه ثم قال يا رسول الله احملنا . فقال " والله ما عندي ما أحملكم عليه " فقال يا رسول الله إن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس أفنتبلغ عليها ؟ قال " لا تلك حرق النار "

فصل [ الإيمان بالله يتضمن خصالا أخرى من قول وفعل ]

ففي هذه القصة أن الإيمان بالله هو مجموع هذه الخصال من القول والعمل كما على ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم كلهم ذكره الشافعي في " المبسوط " وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل من الكتاب والسنة

[ عدم عد الحج في هذه الخصال دليل على عدم فرضيته في ذلك الوقت ]

وفيها : أنه لم يعد الحج في هذه الخصال وكان قدومهم في سنة تسع وهذا أحد ما يحتج به على أن الحج لم يكن فرض بعد وأنه إنما فرض في العاشرة ولو كان فرض لعده من الإيمان كما عد الصوم والصلاة والزكاة .

[ لا يكره قول رمضان للشهر ]

وفيها : أنه لا يكره أن يقال رمضان للشهر خلافا لمن كره ذلك وقال لا يقال إلا شهر رمضان . وفي " الصحيحين " : من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه

وفيها : وجوب أداء الخمس من الغنيمة وأنه من الإيمان .

[ النهي عن الانتباذ في الأوعية المذكورة وبيان الاختلاف في ذلك ]

وفيها : النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية وهل تحريمه باق أو منسوخ ؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد . والأكثرون على نسخه بحديث بريدة الذي رواه مسلم وقال فيه وكنت نهيتكم عن الأوعية فانتبذوا فيما بدا لكم ولا تشربوا مسكرا

ومن قال بإحكام أحاديث النهي وأنها غير منسوخة قال هي أحاديث تكاد تبلغ التواتر في تعددها وكثرة طرقها وحديث الإباحة فرد فلا يبلغ مقاومتها وسر المسألة أن النهي عن الأوعية المذكورة من باب سد الذرائع إذ الشراب يسرع إليه الإسكار فيها .

وقيل بل النهي عنها لصلابتها وأن الشراب يسكر فيها ولا يعلم به بخلاف الظروف غير المزفتة فإن الشراب متى غلا فيها وأسكر انشقت فيعلم بأنه مسكر فعلى هذه العلة يكون الانتباذ في الحجارة والصفر أولى بالتحريم وعلى الأول لا يحرم إذ لا يسرع الإسكار إليه فيها كإسراعه في الأربعة المذكورة وعلى كلا العلتين فهو من باب سد الذريعة كالنهي أولا عن زيارة القبور سدا لذريعة الشرك فلما استقر التوحيد في نفوسهم وقوي عندهم أذن في زيارتها غير أن لا يقولوا هجرا .

وهكذا قد يقال في الانتباذ في هذه الأوعية إنه فطمهم عن المسكر وأوعيته وسد الذريعة إليه إذ كانوا حديثي عهد بشربه فلما استقر تحريمه عندهم واطمأنت إليه نفوسهم أباح لهم الأوعية كلها غير أن لا يشربوا مسكرا فهذا فقه المسألة وسرها .

[ مدح الحلم والأناة ]

وفيها : مدح صفتي الحلم والأناة وأن الله يحبهما وضدهما الطيش والعجلة وهما خلقان مذمومان مفسدان للأخلاق والأعمال .

[ قد يحصل الخلق بالتخلق ]

وفيه دليل على أن الله يحب من عبده ما جبله عليه من خصال الخير كالذكاء والشجاعة والحلم .

[ الله خالق أفعال العباد وأخلاقهم ]

وفيه دليل على أن الخلق قد يحصل بالتخلق والتكلف لقوله في هذا الحديث خلقين تخلقت بهما أو جبلني الله عليهما ؟ " فقال " بل جبلت عليهما

وفيه دليل على أنه سبحانه خالق أفعال العباد وأخلاقهم كما هو خالق ذواتهم وصفاتهم فالعبد كله مخلوق ذاته وصفاته وأفعاله ومن أخرج أفعاله عن خلق الله فقد جعل فيه خالقا مع الله ولهذا شبه السلف القدرية النفاة بالمجوس وقالوا : هم مجوس هذه الأمة صح ذلك عن ابن عباس .

[ إثبات الجبل لله والفرق بينه وبين الجبر ]

وفيه إثبات الجبل لا الجبر لله تعالى وأنه يجبل عبده على ما يريد كما جبل الأشج على الحلم والأناة وهما فعلان ناشئان عن خلقين في النفس فهو سبحانه الذي جبل العبد على أخلاقه وأفعاله ولهذا قال الأوزاعي وغيره من أئمة السلف نقول إن الله جبل العباد على أعمالهم ولا نقول جبرهم عليها

وهذا من كمال علم الأئمة ودقيق نظرهم فإن الجبر أن يحمل العبد على خلاف مراده كجبر البكر الصغيرة على النكاح وجبر الحاكم من عليه الحق على أدائه والله سبحانه أقدر من أن يجبر عبده بهذا المعنى ولكنه يجبله على أن يفعل ما يشاء الرب بإرادة عبده واختياره ومشيئته فهذا لون والجبر لون .

[ لا يجوز للرجل أن ينتفع بالضالة التي لا يجوز التقاطها ]

وفيها : أن الرجل لا يجوز له أن ينتفع بالضالة التي لا يجوز التقاطها كالإبل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجوز للجارود ركوب الإبل الضالة وقال ضالة المسلم حرق النار وذلك لأنه إنما أمر بتركها وأن لا يلتقطها حفظا على ربها حتى يجدها إذا طلبها فلو جوز له ركوبها والانتفاع بها لأفضى إلى أن لا يقدر عليها ربها وأيضا تطمع فيها النفوس وتتملكها فمنع الشارع من ذلك .


يتبع

اخت مسلمة
04-09-2009, 10:34 PM
فصل في قدوم وفد بني حنيفة
قال ابن إسحاق : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة الكذاب وكان منزلهم في دار امرأة من الأنصار من بني النجار فأتوا بمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستر بالثياب ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه في يده عسيب من سعف النخل فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك

قال ابن إسحاق : فقال لي شيخ من أهل اليمامة من بني حنيفة إن حديثه كان على غير هذا زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم فلما أسلموا ذكروا له مكانه فقالوا : يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أمر به للقوم وقال أما إنه ليس بشركم مكانا يعني حفظه ضيعة أصحابه وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم انصرفوا وجاءوه بالذي أعطاه فلما قدموا اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وقال إني أشركت في الأمر معه ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكانا وما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ثم جعل يسجع السجعات فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن لقد أنعم الله على الحبلى أخرج منها نسمة تسعى ومن بين صفاق وحشا .

ووضع عنهم الصلاة وأحل لهم الخمر والزنى وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك .

قال ابن إسحاق : وقد كان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر وليس قريش قوما يعدلون فقدم عليه رسوله بهذا الكتاب فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وكان ذلك في آخر سنة عشر .

قال ابن إسحاق : فحدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما : وأنتما تقولان بمثل ما يقول ؟ " قالا : نعم . فقال " أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما

وروينا في " مسند أبي داود الطيالسي " عن أبي وائل عن عبد الله قال جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله تشهدان أني رسول الله ؟ " فقالا : نشهد أن مسيلمة رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آمنت بالله ورسوله ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما قال عبد الله فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل .

وفي " صحيح البخاري " عن أبي رجاء العطاردي قال لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب فلحقنا بالنار وكنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه ألقينا ذلك وأخذناه فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا به وكنا إذا دخل رجب قلنا : جاء منصل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها وألقيناها .

قلت : وفي " الصحيحين " من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس قال قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته وقدمها في بشر كثير من قومه فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني أراك الذي أريت فيه ما أريت وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني ثم انصرف . قال ابن عباس : فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم إنك الذي أريت فيه ما أريت فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إلي في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي فهذان هما أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وهذا أصح من حديث ابن إسحاق المتقدم .

وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم إذا أتيت بخزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا علي وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة

فصل في فقه هذه القصة

فيها : جواز مكاتبة الإمام لأهل الردة إذا كان لهم شوكة ويكتب لهم ولإخوانهم من الكفار سلام على من اتبع الهدى .

ومنها : أن الرسول لا يقتل ولو كان مرتدا هذه السنة . ومنها : إن للإمام أن يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار .

ومنها : إن الإمام ينبغي له أن يستعين برجل من أهل العلم يجيب عنه أهل الاعتراض والعناد .

ومنها : توكيل العالم لبعض أصحابه أن يتكلم عنه ويجيب عنه . تأويل رؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الصديق يحبط أمر مسيلمة

ومنها : إن هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفخ السوارين بروحه فطارا وكان الصديق هو ذلك الروح الذي نفخ مسيلمة وأطاره .

قال الشاعر

فقلت له ارفعها إليك فأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا


[ تأويل رؤيا لباس الحلي للرجل وذكر قصص عبرها الشهاب العابر شيخ المصنف ]

ومن ها هنا دل لباس الحلي للرجل على نكد يلحقه وهم يناله وأنبأني أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة بن سرور المقدسي المعروف بالشهاب العابر . قال قال لي رجل رأيت في رجلي خلخالا فقلت له تتخلخل رجلك بألم وكان كذلك .

وقال لي آخر رأيت كأن في أنفي حلقة ذهب وفيها حب مليح أحمر فقلت له يقع بك رعاف شديد فجرى كذلك .

وقال آخر رأيت كلابا معلقا في شفتي قلت : يقع بك ألم يحتاج إلى الفصد في شفتك فجرى كذلك .

وقال لي آخر رأيت في يدي سوارا والناس يبصرونه فقلت له سوء يبصره الناس في يدك فعن قليل طلع في يده طلوع .

ورأى ذلك آخر لم يكن يبصره الناس فقلت له تتزوج امرأة حسنة وتكون رقيقة . قلت عبر له السوار بالمرأة لما أخفاه وستره عن الناس ووصفها بالحسن لحسن منظر الذهب وبهجته وبالرقة لشكل السوار .

والحلية للرجل تنصرف على وجوه . فربما دلت على تزويج العزاب لكونها من آلات التزويج وربما دلت على الإماء والسراري وعلى الغناء وعلى البنات وعلى الخدم وعلى الجهاز وذلك بحسب حال الرائي وما يليق به .

قال أبو العباس العابر وقال لي رجل رأيت كأن في يدي سوارا منفوخا لا يراه الناس فقلت له عندك امرأة بها مرض الاستسقاء فتأمل كيف عبر له السوار بالمرأة ثم حكم عليها بالمرض لصفرة السوار وأنه مرض الاستسقاء الذي ينتفخ معه البطن .

[ تعريف بالشهاب العابر ]

قال وقال لي آخر رأيت في يدي خلخالا وقد أمسكه آخر وأنا ممسك له وأصيح عليه وأقول اترك خلخالي فتركه فقلت له فكان الخلخال في يدك أملس ؟ فقال بل كان خشنا تألمت منه مرة بعد مرة وفيه شراريف فقلته له أمك وخالك شريفان ولست بشريف واسمك عبد القاهر وخالك لسانه نجس رديء يتكلم في عرضك ويأخذ مما في يدك قال نعم قلت : ثم إنه يقع في يد ظالم متعد ويحتمي بك فتشد منه وتقول خل خالي فجرى ذلك عن قليل .

قلت : تأمل أخذه الخال من لفظ " الخلخال " ثم عاد إلى اللفظ بتمامه حتى أخذ منه خل خالي وأخذ شرفه من شراريف الخلخال ودل على شرف أمه إذ هي شقيقة خاله وحكم عليه بأنه ليس بشريف إذ شرفات الخال الدالة على الشرف اشتقاقا هي في أمر خارج عن ذاته . واستدل على أن لسان خاله لسان رديء يتكلم في عرضه بالألم الذي حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة فهي خشونة لسان خاله في حقه .

واستدل على أخذ خاله ما في يديه بتأذيه به وبأخذه من يديه في النوم بخشونته . واستدل بإمساك الأجنبي للخلخال ومجاذبة الرائي على وقوع الخال في يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له . واستدل بصياحه على المجاذب له وقوله خل خالي على أنه يعين خاله على ظالمه وبشد منه .

واستدل على قهره لذلك المجاذب له وأنه القاهر يده عليه على أنه اسمه عبد القاهر وهذه كانت حال شيخنا هذا ورسوخه في علم التعبير وسمعت عليه عدة أجزاء ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه لصغر السن واخترام المنية له رحمه الله تعالى .

فصل في قدوم وفد طيئ على النبي صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ وفيهم زيد الخيل وهو سيدهم فلما انتهوا إليه كلمهم وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل : فإنه لم يبلغ كل ما فيه ثم سماه زيد الخير وقطع له فيدا وأرضين معه وكتب له بذلك فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه قال وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى وغير أم ملدم فلم يثبته . فلما انتهى إلى ماء من مياه نجد يقال له فردة أصابته الحمى بها فمات فلما أحس بالموت أنشد


أمرتحل قومي المشارق غدوة

وأترك في بيت بفردة منجد

ألا رب يوم لو مرضت لعادني

عوائد من لم يبر منهن يجهد


قال ابن عبد البر : وقيل مات في آخر خلافة عمر رضي الله عنه وله ابنان مكنف وحريث أسلما وصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدا قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد .



فصل في قدوم وفد كندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : حدثني الزهري قال قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانين أو ستين راكبا من كندة فدخلوا عليه صلى الله عليه وسلم مسجده قد رجلوا جممهم وتسلحوا ولبسوا جباب الحبرات مكففة بالحرير فلما دخلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم تسلموا ؟ " قالوا : بلى . قال " فما بال هذا الحرير في أعناقكم ؟ فشقوه ونزعوه وألقوه ثم قال الأشعث يا رسول الله نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال ناسبوا بهذا النسب ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب

قال الزهري وابن إسحاق : كانا تاجرين وكانا إذا سارا في أرض العرب فسئلا من أنتما ؟ قالا : نحن بنو آكل المرار يتعززون بذلك في العرب ويدفعون به عن أنفسهم لأن بني آكل المرار من كندة كانوا ملوكا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا

وفي " المسند " من حديث حماد بن سلمة عن عقيل بن طلحة عن مسلم بن هيضم عن الأشعث بن قيس قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد كندة ولا يرون إلا أني أفضلهم قلت يا رسول الله ألستم منا ؟ قال لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا وكان الأشعث يقول لا أوتى برجل نفى رجلا من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد

[ ولد النضر من قريش ]

وفي هذا من الفقه أن من كان من ولد النضر بن كنانة فهو من قريش .

[ جواز إتلاف المال المحرم استعماله ]

وفيه جواز إتلاف المال المحرم استعماله كثياب الحرير على الرجال وأن ذلك ليس بإضاعة .

[ من آكل المرار ؟ ]

والمرار هو شجر من شجر البوادي وآكل المرار هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن كندة وللنبي صلى الله عليه وسلم جدة من كندة مذكورة وهي أم كلاب بن مرة وإياها أراد الأشعث .

وفيه أن من انتسب إلى غير أبيه فقد انتفى من أبيه وقفى أمه أي رماها بالفجور .

وفيها : أن كندة ليسوا من ولد النضر بن كنانة .

وفيه أن من أخرج رجلا عن نسبه المعروف جلد حد القذف .

فصل في قدوم وفد الأشعريين وأهل اليمن
روى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقدم قوم هم أرق منكم قلوبا فقدم الأشعريون فجعلوا يرتجزون

غدا نلقى الأحبة

محمدا وحزبه


وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة وأضعف قلوبا والإيمان يمان والحكمة يمانية والسكينة في أهل الغنم والفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر قبل مطلع الشمس

وروينا عن يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب هم خيار من في الأرض " فقال رجل من الأنصار : إلا نحن يا رسول الله فسكت ثم قال إلا نحن يا رسول الله فسكت ثم قال " إلا أنتم كلمة ضعيفة .

وفي " صحيح البخاري " : أن نفرا من بني تميم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبشروا يا بني تميم " فقالوا : بشرتنا فأعطنا فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء نفر من أهل اليمن فقال " اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم " قالوا : قد قبلنا ثم قالوا : يا رسول الله جئنا لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال " كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء

فصل في قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبد الله الأزدي فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن فخرج صرد يسير بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بجرش وهي يومئذ مدينة مغلقة وبها قبائل من قبائل اليمن وقد ضوت إليهم خثعم فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم فحاصروهم فيها قريبا من شهر وامتنعوا فيها فرجع عنهم قافلا حتى إذا كان في جبل لهم يقال له شكر ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما فخرجوا في طلبه حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقاتلهم فقتلهم قتلا شديدا وقد كان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين منهم يرتادان وينظران فبينا هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد العصر إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي بلاد الله شكر ؟ " فقام الجرشيان فقالا : يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له . كشر وكذلك تسميه أهل جرش فقال " إنه ليس " ب " كشر ولكنه شكر " قالا : فما شأنه يا رسول الله ؟ قال فقال " إن بدن الله لتنحر عنده الآن " قال فجلس الرجلان إلى أبي بكر وإلى عثمان فقالا لهما : ويحكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينعى لكما قومكما فقوما إليه فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما فقاما إليه فسألاه ذلك فقال " اللهم ارفع عنهم فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما فوجدا قومهما أصيبوا في اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وحمى لهم حمى حول قريتهم .

فصل في قدوم وفد بني الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون

أيها الناس أسلموا لتسلموا فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل ويقبل معه وفدهم فأقبل وأقبل معه وفدهم فيهم قيس بن الحصين ذي الغضة ويزيد بن عبد المدان ويزيد بن المحجل وعبد الله بن قراد وشداد بن عبد الله وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية " ؟ قالوا : لم نكن نغلب أحدا . قال " بلى " . قالوا : كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم . قال " صدقتم وأمر عليهم قيس بن الحصين فرجعوا إلى قومهم في بقية من شوال أو من ذي القعدة فلم يمكثوا إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فصل في قدوم وفد همدان عليه صلى الله عليه وسلم
وقدم عليه وفد همدان منهم مالك بن النمط ومالك بن أيفع ; وضمام بن مالك وعمرو بن مالك فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية على الرواحل المهرية والأرحبية ومالك بن النمط يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول

إليك جاوزن سواد الريف

في هبوات الصيف والخريف


مخطمات بحبال الليف


وذكروا له كلاما حسنا فصيحا فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا أقطعهم فيه ما سألوه وأمر عليهم مالك بن النمط واستعمله على من أسلم من قومه وأمره بقتال ثقيف وكان لا يخرج لهم سرح إلا أغاروا عليه .

وقد روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام قال البراء فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يقفل خالدا إلا رجلا ممن كان مع خالد أحب أن يعقب مع علي رضي الله عنه فليعقب معه

قال البراء فكنت فيمن عقب مع علي فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي رضي الله عنه ثم صفنا صفا واحدا ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعا فكتب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال السلام على همدان السلام على همدان وأصل الحديث في " صحيح البخاري " . وهذا أصح مما تقدم ولم تكن همدان أن تقاتل ثقيفا ولا تغير على سرحهم فإن همدان باليمن وثقيفا بالطائف



فصل في قدوم وفد مزينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
روينا من طريق البيهقي عن النعمان بن مقرن قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة رجل من مزينة فلما أردنا أن ننصرف قال يا عمر زود القوم " فقال ما عندي إلا شيء من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعا قال " انطلق فزودهم " قال فانطلق بهم عمر فأدخلهم منزله ثم أصعدهم إلى علية فلما دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق فأخذ القوم منه حاجتهم قال النعمان فكنت في آخر من خرج فنظرت فما أفقد موضع تمرة من مكانها

فصل في قدوم وفد دوس على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بخيبر
قال ابن إسحاق : كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا قالوا له إنك قدمت بلادنا وإن هذا الرجل - وهو الذي بين أظهرنا - فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد حل علينا فلا تكلمه ولا تسمع منه قال فوا الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله .

قال فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي : واثكل أمياه والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ؟ فإن كان ما يقول حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت .

قال فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت يا محمد إن قومك قد قالوا لي : كذا وكذا فوا الله ما برحوا يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك فعرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام فادع الله لي أن يجعل لي آية تكون عونا لي عليهم فيما أدعوهم إليه فقال اللهم اجعل له آية قال فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح قلت اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم قال فتحول فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلق وأنا أنهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم وأصبحت فيهم فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت إليك عني يا أبت فلست مني ولست منك قال لم يا بني ؟ قلت قد أسلمت وتابعت دين محمد . قال يا بني فديني دينك . قال فقلت : اذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت .

قال فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم ثم أتتني صاحبتي فقلت لها : إليك عني فلست منك ولست مني . قالت لم بأبي أنت وأمي ؟ قلت فرق الإسلام بيني وبينك أسلمت وتابعت دين محمد . قالت فديني دينك . قال قلت فاذهبي فاغتسلي ففعلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا علي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس الزنى فادع الله عليهم فقال " اللهم اهد دوسا " ثم قال " ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم " فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين

قال ابن إسحاق : فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين حتى فرغوا من طليحة ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فقال لأصحابه إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي : رأيت أن رأسي قد حلق وأنه قد خرج من فمي طائر وأن امرأة لقيتني فأدخلتني في فرجها ورأيت أن ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني . قالوا : خيرا رأيت .

قال أما والله إني قد أولتها . قالوا : وما أولتها ؟ قال أما حلق رأسي فوضعه وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر فأغيب فيها وأما طلب ابني إياي وحبسه عني فإني أراه سيجهد لأن يصيبه من الشهادة ما أصابني فقتل الطفيل شهيدا باليمامة وجرح ابنه عمرو جرحا شديدا ثم قتل عام اليرموك شهيدا في زمن عمر رضي الله عنه .
اليرموك شهيدا في زمن عمر رضي الله عنه .

فصل في فقه هذه القصة

[ غسل الدخول في الإسلام ]

فيها : أن عادة المسلمين كانت غسل الإسلام قبل دخولهم فيه وقد صح أمر النبي صلى الله عليه وسلم به . وأصح الأقوال وجوبه على من أجنب في حال كفره ومن لم يجنب .

[ لا ينبغي للعاقل أن يقلد الناس في المدح والذم ]

وفيها : أنه لا ينبغي للعاقل أن يقلد الناس في المدح والذم ولا سيما تقليد من يمدح بهوى ويذم بهوى فكم حال هذا التقليد بين القلوب وبين الهدى ولم ينج منه إلا من سبقت له من الله الحسنى .

ومنها : أن المدد إذا لحق بالجيش قبل انقضاء الحرب أسهم لهم .

[ وقوع كرامات الأولياء ]

ومنها : وقوع كرامات الأولياء وأنها إنما تكون لحاجة في الدين أو لمنفعة للإسلام والمسلمين فهذه هي الأحوال الرحمانية سببها متابعة الرسول ونتيجتها إظهار الحق وكسر الباطل والأحوال الشيطانية ضدها سببا ونتيجة .

[ التأني والصبر في الدعوة إلى الله ]

ومنها : التأني والصبر في الدعوة إلى الله وأن لا يعجل بالعقوبة والدعاء على العصاة وأما تعبيره حلق رأسه بوضعه فهذا لأن حلق الرأس وضع شعره على الأرض وهو لا يدل بمجرده على وضع رأسه فإنه دال على خلاص من هم أو مرض أو شدة لمن يليق به ذلك وعلى فقر ونكد وزوال رياسة وجاه لمن لا يليق به ذلك ولكن في منام الطفيل قرائن اقتضت أنه وضع رأسه منها أنه كان في الجهاد ومقاتلة العدو ذي الشوكة والبأس .

[ بيان تأويل الطفيل لرؤياه ]

ومنها : أنه دخل في بطن المرأة التي رآها وهي الأرض التي هي بمنزلة أمه ورأى أنه قد دخل في الموضع الذي خرج منه وهذا هو إعادته إلى الأرض كما قال تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم [ طه : 155 ] فأول المرأة بالأرض إذ كلاهما محل الوطء وأول دخوله في فرجها بعوده إليها كما خلق منها وأول الطائر الذي خرج من فيه بروحه فإنها كالطائر المحبوس في البدن فإذا خرجت منه كانت كالطائر الذي فارق حبسه فذهب حيث شاء ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وهذا هو الطائر الذي رئي داخلا في قبر ابن عباس لما دفن وسمع قارئ يقرأ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية [ الفجر 27 ] . وعلى حسب بياض هذا الطائر وسواده وحسنه وقبحه تكون الروح ولهذا كانت أرواح آل فرعون في صورة طيور سود ترد النار بكرة وعشية وأول طلب ابنه له باجتهاده في أن يلحق به في الشهادة وحبسه عنه هو مدة حياته بين وقعة اليمامة واليرموك . والله أعلم .



فصل في قدوم رسول فروة بن عمرو الجذامي
ملك عرب الروم قال ابن إسحاق : وبعث فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب وكان منزله معان وما حوله من أرض الشام فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم فلما اجتمعت الروم لصلبه على ماء لهم يقال له عفراء بفلسطين قال


ألا هل أتى سلمى بأن حليلها

على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها

مشذبة أطرافها بالمناجل


قال ابن إسحاق : وزعم الزهري أنهم لما قدموه ليقتلوه قال


بلغ سراة المسلمين بأنني

سلم لربي أعظمي ومقامي


ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء يرحمه الله تعالى .

فصل في قدوم وفد بني سعد بن بكر
على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عليه فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في أصحابه فقال أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ابن عبد المطلب " فقال محمد ؟ فقال " نعم " فقال يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك . فقال " لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك " فقال أنشدك الله إلهك وإله أهلك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله بعثك إلينا رسولا ؟ قال " اللهم نعم " قال فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نعبده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم نعم " ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الصلاة والزكاة والصيام والحج وفرائض الإسلام كلها ينشده عند كل فريضة كما نشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقص ثم انصرف راجعا إلى بعيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى : " إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة

وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين ثم أتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا عليه وكان أول ما تكلم به أن قال بئست اللات والعزى فقالوا : مه يا ضمام اتق البرص والجنون والجذام . قال ويلكم إنهما ما يضران ولا ينفعان إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضرته رجل ولا امرأة إلا مسلما .

قال ابن إسحاق : فما سمعنا بوافد قوم أفضل من ضمام بن ثعلبة والقصة في " الصحيحين " من حديث أنس بنحو هذه .

وذكر الحج في هذه القصة يدل على أن قدوم ضمام كان بعد فرض الحج وهذا بعيد فالظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة والله أعلم .

فصل في قدوم طارق بن عبد الله وقومه على رسول الله
صلى الله عليه وسلم روينا في ذلك لأبي بكر البيهقي عن جامع بن شداد قال حدثني رجل يقال له طارق بن عبد الله . قال إني لقائم بسوق المجاز إذ أقبل رجل عليه جبة له وهو يقول يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه يرميه بالحجارة يقول يا أيها الناس لا تصدقوه فإنه كذاب فقلت من هذا ؟ فقالوا : هذا غلام من بني هاشم الذي يزعم أنه رسول الله قال قلت من هذا الذي يفعل به هذا ؟ قالوا : هذا عمه عبد العزى قال فلما أسلم الناس وهاجروا خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها فلما دنونا من حيطانها ونخلها قلنا : لو نزلنا فلبسنا ثيابا غير هذه فإذا رجل في طمرين له فسلم وقال من أين أقبل القوم ؟ قلنا : من الربذة . قال وأين تريدون ؟ قلنا : نريد هذه المدينة قال ما حاجتكم فيها ؟ قلنا : نمتار من تمرها . قال ومعنا ظعينة لنا ومعنا جمل أحمر مخطوم فقال أتبيعون جملكم هذا ؟ قالوا : نعم بكذا وكذا

صاعا من تمر قال فما استوضعنا مما قلنا شيئا فأخذ بخطام الجمل فانطلق فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها قلنا : ما صنعنا والله ما بعنا جملنا ممن نعرف ولا أخذنا له ثمنا قال تقول المرأة التي معنا : والله لقد رأيت رجلا كأن وجهه شقة القمر ليلة البدر أنا ضامنة لثمن جملكم . وفي رواية ابن إسحاق قالت الظعينة فلا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم ما رأيت شيئا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه فبينما هم كذلك إذ أقبل رجل فقال أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم هذا تمركم فكلوا واشبعوا واكتالوا واستوفوا فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا واستوفينا ثم دخلنا المدينة فدخلنا المسجد فإذا هو قائم على المنبر يخطب الناس فأدركنا من خطبته وهو يقول تصدقوا فإن الصدقة خير لكم اليد العليا خير من اليد السفلى أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك " إذ أقبل رجل من بني يربوع أو قال من الأنصار فقال يا رسول الله لنا في هؤلاء دماء في الجاهلية فقال " إن أما لا تجني على ولد " ثلاث مرات

فصل في قدوم وفد تجيب
وقدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد تجيب وهم من السكون ثلاثة عشر رجلا قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم وقالوا : يا رسول الله سقنا إليك حق الله في أموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوها فاقسموها على فقرائكم " قالوا : يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا فقال أبو بكر يا رسول الله ما وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الهدى بيد الله عز وجل فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان " وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم رغبة وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم فأقاموا أياما ولم يطيلوا اللبث فقيل لهم ما يعجبكم ؟ فقالوا : نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إياه وما رد علينا ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونه فأرسل إليهم بلالا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود . قال " هل بقي منكم أحد ؟ " قالوا : نعم . غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثنا سنا قال " أرسلوه إلينا " فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض حاجتك منه فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني امرؤ من بني أبذى يقول من الرهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم فاقض حاجتي يا رسول الله . قال " وما حاجتك ؟ " قال إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم وإني والله ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل غناي في قلبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل إلى الغلام اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه " ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه فانطلقوا راجعين إلى أهليهم ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم بمنى سنة عشر فقالوا : نحن بنو أبذى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل الغلام الذي أتاني معكم ؟ قالوا : يا رسول الله ما رأينا مثله قط ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا فقال رجل منهم أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك قالوا : فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزق فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام في قومه فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد وجعل أبو بكر الصديق يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله وما قام به فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا



فصل في قدوم وفد بلي
وقدم عليه وفد بلي في ربيع الأول من سنة تسع فأنزلهم رويفع بن ثابت البلوي عنده وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هؤلاء قومي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبا بك وبقومك " فأسلموا وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي هداكم للإسلام فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار " فقال له أبو الضبيب شيخ الوفد يا رسول الله إن لي رغبة في الضيافة فهل لي في ذلك أجر ؟ قال " نعم وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة " قال يا رسول الله ما وقت الضيافة ؟ قال " ثلاثة أيام فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحرجك " قال يا رسول الله أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض ؟ قال هي لك أو لأخيك أو للذئب " قال فالبعير ؟ قال " ما لك وله دعه حتى يجده صاحبه " قال رويفع ثم قاموا فرجعوا إلى منزلي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي منزلي يحمل تمرا فقال " استعن بهذا التمر " وكانوا يأكلون منه ومن غيره فأقاموا ثلاثا ثم ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجازهم ورجعوا إلى بلادهم

فصل [ حق الضيف ]

في هذه القصة من الفقه إن للضيف حقا على من نزل به وهو ثلاث مراتب حق واجب وتمام مستحب وصدقة من الصدقات . فالحق الواجب يوم وليلة وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المراتب الثلاثة في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي شريح الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته " قالوا : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه

[ جواز التقاط الغنم ]

وفيه جواز التقاط الغنم وأن الشاة إذ لم يأت صاحبها فهي ملك الملتقط واستدل بهذا بعض أصحابنا على أن الشاة ونحوها مما يجوز التقاطه يخير الملتقط بين أكله في الحال وعليه قيمته وبين بيعه وحفظ ثمنه وبين تركه والإنفاق عليه من ماله وهل يرجع به ؟ على وجهين لأنه صلى الله عليه وسلم جعلها له إلا أن يظهر صاحبها وإذا كانت له خير بين هذه الثلاثة فإذا ظهر صاحبها دفعها إليه أو قيمتها وأما متقدمو أصحاب أحمد فعلى خلاف هذا . قال أبو الحسين لا يتصرف فيها قبل الحول رواية واحدة قال وإن قلنا : يأخذ ما لا يستقل بنفسه كالغنم فإنه لا يتصرف بأكل ولا غيره رواية واحدة وكذلك قال ابن عقيل . ونص أحمد في رواية أبي طالب في الشاة يعرفها سنة فإن جاء صاحبها ردها إليه وكذلك قال الشريفان لا يملك الشاة قبل الحول رواية واحدة . وقال أبو بكر وضالة الغنم إذا أخذها يعرفها سنة وهو الواجب فإذا مضت السنة ولم يعرف صاحبها كانت له والأول أفقه وأقرب إلى مصلحة الملتقط والمالك إذ قد يكون تعريفها سنة مستلزما لتغريم مالكها أضعاف قيمتها إن قلنا : يرجع عليه بنفقتها وإن قلنا : لا يرجع استلزم تغريم الملتقط ذلك وإن قيل يدعها ولا يلتقطها كانت للذئب وتلفت والشارع لا يأمر بضياع المال .

فإن قيل فهذا الذي رجحتموه مخالف لنصوص أحمد وأقوال أصحابه وللدليل أيضا . أما مخالفة نصوص أحمد فمما تقدم حكايته في رواية أبي طالب ونص أيضا في روايته في مضطر وجد شاة مذبوحة وشاة ميتة قال يأكل من الميتة ولا يأكل من المذبوحة الميتة أحلت والمذبوحة لها صاحب قد ذبحها يريد أن يعرفها ويطلب صاحبها فإذا أوجب إبقاء المذبوحة على حالها فإبقاء الشاة الحية بطريق الأولى وأما مخالفة كلام الأصحاب فقد تقدم وأما مخالفة الدليل ففي حديث عبد الله بن عمرو : يا رسول الله كيف ترى في ضالة الغنم ؟ فقال هي لك أو لأخيك أو للذئب احبس على أخيك ضالته وفي لفظ رد على أخيك ضالته وهذا يمنع البيع والذبح .

قيل ليس في نص أحمد أكثر من التعريف ومن يقول إنه مخير بين أكلها وبيعها وحفظها لا يقول بسقوط التعريف بل يعرفها مع ذلك وقد عرف شيتها وعلامتها فإن ظهر صاحبها أعطاه القيمة . فقول أحمد يعرفها أعم من تعريفها وهي باقية أو تعريفها وهي مضمونة في الذمة لمصلحة صاحبها وملتقطها ولا سيما إذا التقطها في السفر فإن في إيجاب تعريفها سنة من الحرج والمشقة ما لا يرضى به الشارع وفي تركها من تعريضها للإضاعة والهلاك ما ينافي أمره بأخذها وإخباره إنه إن لم يأخذها كانت للذئب فيتعين ولا بد إما بيعها وحفظ ثمنها وإما أكلها وضمان قيمتها أو مثلها .

وأما مخالفة الأصحاب فالذي اختار التخيير من أكبر أئمة الأصحاب ومن يقاس بشيوخ المذهب الكبار الأجلاء وهو أبو محمد المقدسي قدس الله روحه ولقد أحسن في اختياره التخيير كل الإحسان .

وأما مخالفة الدليل فأين في الدليل الشرعي المنع من التصرف في الشاة الملتقطة في المفازة وفي السفر بالبيع والأكل وإيجاب تعريفها والإنفاق عليها سنة مع الرجوع بالإنفاق أو مع عدمه ؟ هذا ما لا تأتي به شريعة فضلا أن يقوم عليه دليل وقوله صلى الله عليه وسلم " احبس على أخيك ضالته " صريح في أن المراد به أن لا يستأثر بها دونه ويزيل حقه فإذا كان بيعها وحفظ ثمنها خيرا له من تعريفها سنة والإنفاق عليها وتغريم صاحبها أضعاف قيمتها كان حبسها وردها عليه هو بالتخيير الذي يكون له فيه الحظ والحديث يقتضيه بفحواه وقوته وهذا ظاهر وبالله التوفيق .

[ لا يجوز التقاط البعير إلا أن يكون فلوا صغيرا ]

ومنها : أن البعير لا يجوز التقاطه اللهم إلا أن يكون فلوا صغيرا لا يمتنع من الذئب ونحوه فحكمه حكم الشاة بتنبيه النص ودلالته .

فصل في قدوم وفد ذي مرة
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ذي مرة ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث بن عوف فقالوا : يا رسول الله إنا قومك وعشيرتك نحن قوم من بني لؤي بن غالب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للحارث أين تركت أهلك ؟ قال بسلاح وما والاها . قال وكيف البلاد ؟ قال والله إنا لمسنتون ما في المال مخ فادع الله لنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم اسقهم الغيث " فأقاموا أياما ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مودعين له فأمر بلالا أن يجيزهم فأجازهم بعشر أواق فضة وفضل الحارث بن عوف أعطاه اثنتي عشرة أوقية ورجعوا إلى بلادهم فوجدوا البلاد مطيرة فسألوا : متى مطرتم ؟ فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وأخصبت بعد ذلك بلادهم

فصل في قدوم وفد خولان
وقدم عليه صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان سنة عشر وفد خولان وهم عشرة فقالوا : يا رسول الله نحن على من وراءنا من قومنا ونحن مؤمنون بالله عز وجل ومصدقون برسوله وقد ضربنا إليك آباط الإبل وركبنا حزون الأرض وسهولها والمنة لله ولرسوله علينا وقدمنا زائرين لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما ما ذكرتم من مسيركم إلي فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة

وأما قولكم زائرين لك فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة " قالوا : يا رسول الله هذا السفر الذي لا توى عليه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما فعل عم أنس " . - وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه - قالوا : أبشر بدلنا الله به ما جئت به وقد بقيت منا بقايا - من شيخ كبير وعجوز كبيرة - متمسكون به ولو قدمنا عليه لهدمناه إن شاء الله فقد كنا منه في غرور وفتنة .

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما أعظم ما رأيتم من فتنته ؟ " قالوا : لقد رأيتنا أسنتنا حتى أكلنا الرمة فجمعنا ما قدرنا عليه وابتعنا به مائة ثور ونحرناها " لعم أنس " قربانا في غداة واحدة وتركناها تردها السباع ونحن أحوج إليها من السباع فجاءنا الغيث من ساعتنا ولقد رأينا العشب يواري الرجال ويقول قائلنا : أنعم علينا " عم أنس " وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءا له وجزءا لله بزعمهم قالوا : كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعا آخر حجرة لله فإذا مالت الريح فالذي سمينا لله جعلناه لعم أنس وإذا مالت الريح فالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل علي في ذلك وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا [ الأنعام 136 ] قالوا : وكنا نتحاكم إليه فيتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك الشياطين تكلمكم " وسألوه عن فرائض الدين فأخبرهم وأمرهم بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة وحسن الجوار لمن جاوروا وأن لا يظلموا أحدا . قال " فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " ثم ودعوه بعد أيام وأجازهم فرجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا " عم أنس

فصل في قدوم وفد محارب
و قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد محارب عام حجة الوداع وهم كانوا أغلظ العرب وأفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المواسم أيام عرضه نفسه على القبائل يدعوهم إلى الله فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عشرة نائبين عمن وراءهم من قومهم فأسلموا وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء إلى أن جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الظهر إلى العصر فعرف رجلا منهم فأمده النظر فلما رآه المحاربي يديم النظر إليه قال كأنك يا رسول الله توهمني ؟ قال " لقد رأيتك " قال المحاربي : أي والله لقد رأيتني وكلمتني وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " ثم قال المحاربي : يا رسول الله ما كان في أصحابي أشد عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام مني فأحمد الله الذي أبقاني حتى صدقت بك ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هذه القلوب بيد الله عز وجل " فقال المحاربي : يا رسول الله استغفر لي من مراجعتي إياك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الإسلام يجب ما كان قبله من الكفر " ثم انصرفوا إلى أهليهم



فصل في قدوم وفد صداء في سنة ثمان
صداء في سنة ثمان

وقدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد صداء وذلك أنه لما انصرف من الجعرانة بعث بعوثا وهيأ بعثا استعمل عليه قيس بن سعد بن عبادة وعقد له لواء أبيض ودفع إليه راية سوداء وعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منهم وعلم بالجيش فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله جئتك وافدا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بقومي فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد من صدر قناة وخرج الصدائي إلى قومه فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا منهم فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله دعهم ينزلوا علي فنزلوا عليه فحياهم وأكرمهم وكساهم ثم راح بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام فقالوا : نحن لك على من وراءنا من قومنا فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع ذكر هذا الواقدي عن بعض بني المصطلق وذكر من حديث زياد بن الحارث الصدائي أنه الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له اردد الجيش وأنا لك بقومي فردهم قال وقدم وفد قومي عليه فقال لي : يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك ؟ " قال قلت بل يا رسول الله من الله عز وجل ومن رسوله وكان زياد هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره قال فاعتشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي سار ليلا واعتشينا معه وكنت رجلا قويا قال فجعل أصحابه يتفرقون عنه ولزمت غرزه فلما كان في السحر قال " أذن يا أخا صداء " فأذنت على راحلتي ثم سرنا حتى ذهبنا فنزل لحاجته ثم رجع فقال يا أخا صداء هل معك ماء ؟ قلت : معي شيء في إداوتي فقال " هاته " فجئت به فقال " صب " فصببت ما في الإداوة في القعب فجعل أصحابه يتلاحقون ثم وضع كفه على الإناء فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور ثم قال " يا أخا صداء لولا أني أستحي من ربي عز وجل لسقينا واستقينا " ثم توضأ وقال " أذن في أصحابي من كانت له حاجة بالوضوء فليرد " قال فوردوا من آخرهم ثم جاء بلال يقيم فقال إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم فأقمت ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا وكنت سألته قبل أن يؤمرني على قومي ويكتب لي بذلك كتابا ففعل فلما فرغ من صلاته قام رجل يتشكى من عامله فقال يا رسول الله إنه أخذنا بذحول كانت بيننا وبينه في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في الإمارة لرجل مسلم ثم قام آخر فقال يا رسول الله أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت جزءا منها أعطيتك وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن " فقلت في نفسي : هاتان خصلتان حين سألت الإمارة وأنا رجل مسلم وسألته من الصدقة وأنا غني عنها فقلت يا رسول الله هذان كتاباك فاقبلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولم ؟ " فقلت : إني سمعتك تقول لا خير في الإمارة لرجل مسلم وأنا مسلم وسمعتك تقول من سأل من الصدقة وهو غني عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن وأنا غني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما إن الذي قلت كما قلت " فقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي : " دلني على رجل من قومك أستعمله " فدللته على رجل منهم فاستعمله قلت يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها وإذا كان الصيف قل علينا فتفرقنا على المياه والإسلام اليوم فينا قليل ونحن نخاف فادع الله عز وجل لنا في بئرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ناولني سبع حصيات " فناولته فعركهن بيده ثم دفعهن إلي وقال إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة حصاة وسم الله " قال ففعلت فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة .

فصل في فقه هذه القصة

ففيها : استحباب عقد الألوية والرايات للجيش واستحباب كون اللواء أبيض وجواز كون الراية سوداء من غير كراهة .

وفيها : قبول خبر الواحد فإن النبي صلى الله عليه وسلم رد الجيش من أجل خبر الصدائي وحده .

وفيها : جواز سير الليل كله في السفر إلى الأذان فإن قوله " اعتشى " أي سار عشية ولا يقال لما بعد نصف الليل .

وفيها : جواز الأذان على الراحلة .

وفيها : طلب الإمام الماء من أحد رعيته للوضوء وليس ذلك من السؤال .

وفيها : أنه لا يتيمم حتى يطلب الماء فيعوزه . فوران الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم لا من خلال اللحم والدم .

وفيها : المعجزة الظاهرة بفوران الماء من بين أصابعه لما وضعها فيه أمده الله به وكثره حتى جعل يفور من خلال الأصابع الكريمة والجهال تظن أنه كان يشق الأصابع ويخرج من خلال اللحم والدم وليس كذلك وإنما بوضعه أصابعه فيه حلت فيه البركة من الله والمدد فجعل يفور حتى خرج من بين الأصابع وقد جرى له هذا مرارا عديدة بمشهد أصحابه .

[ سنية الإقامة لمن أذن ]

وفيها : أن السنة أن يتولى الإقامة من تولى الأذان ويجوز أن يؤذن واحد ويقيم آخر كما ثبتت في قصة عبد الله بن زيد أنه لما رأى الأذان وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال ألقه على بلال " فألقاه عليه ثم أراد بلال أن يقيم فقال عبد الله بن زيد : يا رسول الله أنا رأيت أريد أن أقيم قال " فأقم " فأقام هو وأذن بلال ذكره الإمام أحمد رحمه الله .

[ جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفئا ]

وفيها : جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفئا ولا يكون سؤاله مانعا من توليته ولا يناقض هذا قوله في الحديث الآخر إنا لن نولي على عملنا من أراده فإن الصدائي إنما سأله أن يؤمره على قومه خاصة وكان مطاعا فيهم محببا إليهم وكان مقصوده إصلاحهم ودعاءهم إلى الإسلام فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن مصلحة قومه في توليته فأجابه إليها ورأى أن ذلك السائل إنما سأله الولاية لحظ نفسه ومصلحته هو فمنعه منها فولى للمصلحة ومنع للمصلحة فكانت توليته لله ومنعه لله .

وفيها : جواز شكاية العمال الظلمة ورفعهم إلى الإمام والقدح فيهم بظلمهم وأن ترك الولاية خير للمسلم من الدخول فيها وأن الرجل إذا ذكر أنه من أهل الصدقة أعطي منها بقوله ما لم يظهر منه خلافه .

ومنها : أن الشخص الواحد يجوز أن يكون وحده صنفا من الأصناف لقوله إن الله جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت جزءا منها أعطيتك

ومنها : جواز إقالة الإمام لولاية من ولاه إذا سأله ذلك .

ومنها : استشارة الإمام لذي الرأي من أصحابه فيمن يوليه .

[ جواز الوضوء بالماء المبارك ]

ومنها : جواز الوضوء بالماء المبارك وأن بركته لا توجب كراهة الوضوء منه وعلى هذا فلا يكره الوضوء من ماء زمزم ولا من الماء الذي يجري على ظهر الكعبة . والله أعلم .

فصل في قدوم وفد غسان
وقدموا في شهر رمضان سنة عشر وهم ثلاثة نفر فأسلموا وقالوا : لا ندري أيتبعنا قومنا أم لا ؟ وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز وانصرفوا راجعين فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم وكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام اليرموك فلقي أبا عبيدة فأخبره بإسلامه فكان يكرمه .

فصل في قدوم وفد سلامان
وقدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد سلامان سبعة نفر فيهم حبيب بن عمرو فأسلموا . قال حبيب فقلت : أي رسول الله ما أفضل الأعمال ؟ قال " الصلاة في وقتها ثم ذكر حديثا طويلا وصلوا معه يومئذ الظهر والعصر قال فكانت صلاة العصر أخف من القيام في الظهر ثم شكوا إليه جدب بلادهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده " اللهم اسقهم الغيث في دارهم " فقلت يا رسول الله ارفع يديك فإنه أكثر وأطيب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ثم قام وقمنا عنه فأقمنا ثلاثا وضيافته تجري علينا ثم ودعناه وأمر لنا بجوائز فأعطينا خمس أواق لكل رجل منا واعتذر إلينا بلال وقال ليس عندنا اليوم مال فقلنا : ما أكثر هذا وأطيبه ثم رحلنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة . قال الواقدي : وكان مقدمهم في شوال سنة عشر صلى الله عليه وسلم .

فصل في قدوم وفد بني عبس
وقدم عليه وفد بني عبس فقالوا : يا رسول الله قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ولنا أموال ومواش وهي معايشنا فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له فلا خير في أموالنا بعناها وهاجرنا من آخرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم الله من أعمالكم شيئا وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد بن سنان هل له عقب ؟ فأخبروه أنه لا عقب له كانت له ابنة فانقرضت وأنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان فقال نبي ضيعه قومه


افتراضي

فصل في قدوم وفد بني المنتفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم

588 - روينا عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه قال كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك فحدث بذلك عني قال حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي قال حدثنا عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر قال دلهم وحدثنيه أيضا أبي الأسود بن عبد الله عن عاصم بن لقيط أن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق .

قال لقيط فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الناس خطيبا فقال أيها الناس ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام ألا لتسمعوا اليوم ألا فهل من امرئ بعثه قومه " ؟ فقالوا له اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا ثم رجل لعله يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضال ألا إني مسئول هل بلغت ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا " فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده ونظره قلت : يا رسول الله ما عندك من علم الغيب ؟ فضحك لعمر الله . علم أني أبتغي السقطة فقال " ضن ربك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله " وأشار بيده فقلت : ما هن يا رسول الله ؟ قال " علم المنية قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه وما تعلمونه وعلم ما في غد قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين فيظل يضحك قد علم أن غوثكم إلى قريب قال لقيط فقلت لن نعدم من رب يضحك خيرا يا رسول الله .

قال " وعلم يوم الساعة " قلنا : يا رسول الله علمنا مما تعلم الناس وتعلم فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحدا من مذحج التي تربو علينا وخثعم التي توالينا وعشيرتنا التي نحن منها قال " تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلفه من عند رأسه فيستوي جالسا فيقول ربك : مهيم لما كان فيه يقول يا رب أمس اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله " فقلت يا رسول الله فكيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع ؟ قال " أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله الأرض أشرفت عليها وهي في مدرة بالية " فقلت : لا تحيا أبدا . ثم أرسل الله عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم "

قال قلت : يا رسول الله كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه ؟ قال " أنبئك بمثل هذا في آلاء الله الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة ولا تضارون في رؤيتهما " ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن تروا نورهما ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما قلت : يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه ؟ قال " تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من ماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحد منكم منها قطرة

فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء وأما الكافر فتنضحه أو قال فتخطمه بمثل الحمم الأسود ألا ثم ينصرف نبيكم ويفترق على أثره الصالحون فيسلكون جسرا من النار يطأ أحدكم الجمرة يقول حس يقول ربك عز وجل أو أنه ألا فتطلعون على حوض نبيكم على أظمأ - والله - ناهلة عليها قط رأيتها فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى وتخنس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا " . قال قلت يا رسول الله فبم نبصر ؟ قال " بمثل بصرك ساعتك هذه وذلك قبل طلوع الشمس في يوم أشرقت الأرض وواجهت به الجبال " قال قلت يا رسول الله فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم " الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يعفو " قال قلت يا رسول الله ما الجنة وما النار ؟ قال " لعمر إلهك إن النار لها سبعة أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما " وإن الجنة لها ثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما " .

قلت يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة ؟ قال " على أنهار من عسل مصفى وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن ما يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة ولعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهرة . قلت : يا رسول الله أولنا فيها أزواج أو منهن مصلحات ؟ قال المصلحات للصالحين " .

وفي لفظ الصالحات للصالحين تلذونهن ويلذونكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد " قال لقيط فقلت : يا رسول الله أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه ؟ فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله علام أبايعك ؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال " على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشرك وأن لا تشرك بالله إلها غيره " قال قلت : يا رسول الله وإن لنا ما بين المشرق والمغرب فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وظن أني مشترط ما لا يعطينيه قال قلت نحل منها حيث شئنا ولا يجني امرؤ إلا على نفسه فبسط يده .

وقال " لك ذلك تحل حيث شئت ولا يجني عليك إلا نفسك " قال فانصرفنا عنه ثم قال " ها إن ذين ها إن ذين - مرتين - لعمر إلهك من أتقى الناس في الأولى والآخرة " فقال له كعب بن الخدرية أحد بني بكر بن كلاب من هم يا رسول الله ؟ قال " بنو المنتفق بنو المنتفق بنو المنتفق أهل ذلك منهم " قال فانصرفنا وأقبلت عليه فقلت يا رسول الله هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم ؟ فقال رجل من عرض قريش والله إن أباك المنتفق لفي النار قال فكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رءوس الناس فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله ؟ ثم إذا الأخرى أجمل فقلت يا رسول الله وأهلك ؟ قال " وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت على قبر عامري أو قرشي من مشرك قل أرسلني إليك محمد فأبشرك بما يسوءك تجر على وجهك وبطنك في النار " .

قال قلت يا رسول الله وما فعل بهم ذلك وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه وكانوا يحسبون أنهم مصلحون ؟ قال صلى الله عليه وسلم " ذلك بأن الله بعث في آخر كل سبع أمم نبيا فمن عصى نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين .

هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته .

فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب " السنة " وقال كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك فحدث به عني .

ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب " السنة " له .

ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب " المعرفة " .

ومنهم حافظ زمانه ومحدث أوانه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في كثير من كتبه .

ومنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب " السنة " .

ومنهم الحافظ ابن الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده حافظ أصبهان .

ومنهم الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه .

ومنهم حافظ عصره أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم .

وقال ابن منده روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما وقد رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين جماعة من الأئمة منهم أبو زرعة الرازي وأبو حاتم وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده بل رووه على سبيل القبول والتسليم ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة هذا كلام أبي عبد الله بن منده .

وقوله تهضب أي تمطر . والأصواء القبور . والشربة - بفتح الراء - الحوض الذي يجتمع فيه الماء وبالسكون والياء الحنظلة يريد أن الماء قد كثر فمن حيث شئت تشرب . وعلى رواية السكون والياء يكون قد شبه الأرض بخضرتها بالنبات بخضرة الحنظلة واستوائها .

وقوله حس كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه على غفلة ما يحرقه أو يؤلمه قال الأصمعي وهي مثل أوه . وقوله يقول ربك عز وجل " أو أنه " . قال ابن قتيبة فيه قولان أحدهما : أن يكون " أنه " بمعنى " نعم " . والآخر أن يكون الخبر محذوفا كأنه قال أنتم كذلك أو أنه على ما يقول . والطوف الغائط .

وفي الحديث لا يصل أحدكم وهو يدافع الطوف والبول والجسر الصراط . وقوله " فيقول ربك . مهيم " : أي ما شأنك وما أمرك وفيم كنت . وقوله " يشرف عليكم أزلين " : الأزل - بسكون الزاي - الشدة والأزل على وزن كتف هو الذي قد أصابه الأزل واشتد به حتى كاد يقنط .

[ الضحك من صفات الله الفعلية وكذلك النزول وغيرهما ]

وقوله " فيظل يضحك " هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها وكذلك " فأصبح ربك يطوف في الأرض " هو من صفات فعله كقوله وجاء ربك والملك هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك و ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا و يدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل .

[ موت الملائكة ]

وقوله " والملائكة الذين عند ربك " : لا أعلم موت الملائكة جاء في حديث صريح إلا هذا وحديث إسماعيل بن رافع الطويل وهو حديث الصور وقد يستدل عليه بقوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ الزمر 68 ] .

يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 10:39 PM
فصل في قدوم وفد النخع على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقدم عليه وفد النخع وهم آخر الوفود قدوما عليه في نصف المحرم سنة إحدى عشرة في مائتي رجل فنزلوا دار الأضياف ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرين بالإسلام وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل فقال رجل منهم يقال له زرارة بن عمرو يا رسول الله إني رأيت في سفري هذا عجبا قال " وما رأيت " ؟ قال رأيت أتانا تركتها في الحي كأنها ولدت جديا أسفع أحوى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تركت أمة لك مصرة على حمل " ؟
قال نعم قال " فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك " قال يا رسول الله فما باله أسفع أحوى ؟ فقال " ادن مني " فدنا منه
فقال " هل بك من برص تكتمه ؟ " قال والذي بعثك بالحق ما علم به أحد ولا اطلع عليه غيرك قال " فهو ذلك " قال يا رسول الله ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان مدملجان ومسكتان قال " ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته " قال يا رسول الله ورأيت عجوزا شمطاء قد خرجت من الأرض .
قال " تلك بقية الدنيا " قال ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو وهي تقول لظى لظى بصير وأعمى أطعموني آكلكم أهلكم ومالكم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك فتنة تكون في آخر الزمان " .
قال يا رسول الله وما الفتنة ؟ قال " يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس " .

وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه - يحسب المسيء فيها أنه محسن - " ويكون دم المؤمن عند المؤمن فيها أحلى من شرب الماء إن مات ابنك أدركت الفتنة وإن مت أنت أدركها ابنك " فقال يا رسول الله ادع الله أن لا أدركها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم لا يدركها " فمات وبقي ابنه وكان ممن خلع عثمان .

فصل ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم
[ الكتاب إلى هرقل ]
ثبت في " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى هرقل : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

[ الكتاب إلى كسرى ]
وكتب إلى كسرى : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس " فلما قرئ عليه الكتاب مزقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مزق الله ملكه

[ الكتاب إلى النجاشي ]
وكتب إلى النجاشي : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة أسلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى

وبعث بالكتاب مع عمرو بن أمية الضمري فقال ابن إسحاق : إن عمرا قال له يا أصحمة إن علي القول وعليك الاستماع إنك كأنك في الرقة علينا وكأنا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه وقد أخذنا الحجة عليك من فيك الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاض لا يجور وفي ذلك موقع الحز وإصابة المفصل وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له وأمنك على ما خافهم عليه بخير سالف وأجر ينتظر .

فقال النجاشي : أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل وأن العيان ليس بأشفى من الخبر ثم كتب النجاشي جواب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا إنه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقد قربنا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين " . والثفروق علاقة ما بين النواة والقشر .

وتوفي النجاشي سنة تسع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته ذلك اليوم فخرج بالناس إلى المصلى فصلى عليه وكبر أربعا .

[ النجاشي الذي صلى عليه صلى الله عليه وسلم ليس

بالنجاشي الذي كتب إليه يدعوه ]

قلت : وهذا وهم - والله أعلم - وقد خلط راويه ولم يميز بين النجاشي الذي صلى عليه وهو الذي آمن به وأكرم أصحابه وبين النجاشي الذي كتب إليه يدعوه فهما اثنان وقد جاء ذلك مبينا في " صحيح مسلم " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي وليس بالذي صلى عليه .

فصل [ الكتاب إلى المقوقس ]
وكتب إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم القبط يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

[ آل عمران 64 ] وبعث به مع حاطب بن أبي بلتعة فلما دخل عليه قال له إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك . فقال إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه فقال حاطب ندعوك إلى دين الله وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته فالحق عليهم أن يطيعوه وأنت ممن أدركه هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به . فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك . ولم يزد على هذا ولم يسلم والجاريتان مارية وسيرين والبغلة دلدل بقيت إلى زمن معاوية .

فصل [ الكتاب إلى المنذر بن ساوى عامل البحرين ]
وكتب إلى المنذر بن ساوى فذكر الواقدي بإسناده عن عكرمة قال وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته فإذا فيه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إلي في ذلك أمرك فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية


فصل [ الكتاب إلى ملك عمان ]
وكتب إلى ملك عمان كتابا وبعثه مع عمرو بن العاص بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما .

وكتب أبي بن كعب وختم الكتاب . قال عمرو : فخرجت حتى انتهيت إلى عمان فلما قدمتها عمدت إلى عبد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا فقلت إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك فقال أخي المقدم علي بالسن والملك وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ثم قال وما تدعو إليه ؟ قلت : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وتخلع ما عبد من دونه وتشهد أن محمدا عبده ورسوله .

قال يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك فإن لنا فيه قدوة ؟ قلت مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ووددت أنه كان أسلم وصدق به وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام قال فمتى تبعته ؟ قلت قريبا فسألني أين كان إسلامك ؟ قلت : عند النجاشي وأخبرته أن النجاشي قد أسلم قال فكيف صنع قومه بملكه ؟ فقلت : أقروه واتبعوه قال والأساقفة والرهبان تبعوه ؟ قلت : نعم . قال انظر يا عمرو ما تقول إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب قلته : ما كذبت وما نستحله في ديننا ثم قال ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي قلت : بلى .
قال بأي شيء علمت ذلك ؟
قلت : كان النجاشي يخرج له خرجا فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته فبلغ هرقل قوله فقال له يناق أخوه أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين دينا محدثا ؟

قال هرقل رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ما أصنع به والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع قال انظر ما تقول يا عمرو قلت : والله صدقتك . قال عبد فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه ؟ قلت يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته ويأمر بالبر وصلة الرحم وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنى وعن الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب .

قال ما أحسن هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا قلت : إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم . قال إن هذا لخلق حسن وما الصدقة ؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل .

قال يا عمرو : وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه ؟ فقلت : نعم . فقال والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا قال فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري ثم إنه دعاني يوما فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعي فقال دعوه فأرسلت فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس فنظرت إليه فقال تكلم بحاجتك فدفعت إليه الكتاب مختوما ففض خاتمه وقرأ حتى انتهى إلى آخره ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته إلا أني رأيت أخاه أرق منه قال ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت ؟ فقلت : تبعوه إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف .

قال ومن معه ؟ قلت : الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الحرجة وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ويبيد خضراءك فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ولا تدخل عليك الخيل والرجال .

قال دعني يومي هذا وارجع إلي غدا فرجعت إلى أخيه فقال يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي فانصرفت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه فأوصلني إليه فقال إني فكرت فيما دعوتني إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله ها هنا وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى .

قلت : وأنا خارج غدا فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال ما نحن فيما قد ظهر عليه وكل من أرسل إليه قد أجابه فأصبح فأرسل إلي فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكانا لي عونا على من خالفني .

فصل [ الكتاب إلى صاحب اليمامة ]
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب اليمامة هوذة بن علي وأرسل به مع سليط بن عمرو العامري بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي سلام على من اتبع الهدى واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوما أنزله وحياه واقترأ عليه الكتاب فرد ردا دون رد وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله والعرب تهاب مكاني فاجعل إلي بعض الأمر أتبعك وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه فقال لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت باد وباد ما في يديه .
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة قد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي " فقال قائل يا رسول الله من يقتله ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت وأصحابك فكان كذلك .

وذكر الواقدي أن أركون دمشق عظيم من عظماء النصارى كان عند هوذة فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام فلم أجبه قال الأركون لم لا تجيبه ؟ قال ضننت بديني وأنا ملك قومي وإن تبعته لم أملك قال بلى والله لئن تبعته ليملكنك فإن الخيرة لك في اتباعه وإنه للنبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله .

فصل في كتابه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني
وكان بدمشق بغوطتها فكتب إليه كتابا مع شجاع بن وهب مرجعه من الحديبية بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله وصدق وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك وقد تقدم ذلك

بعونه تعالى تم طبع الجزء الثالث من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الرابع وأوله فصل في الطب النبوي


يتبع

اخت مسلمة
04-09-2009, 10:48 PM
فصل الطب النبوي
وقد أتينا على جمل من هديه صلى الله عليه وسلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم .
ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به ووصفه لغيره ونبين ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم فنقول وبالله المستعان ومنه نستمد الحول والقوة .

[ المرض نوعان ]

المرض نوعان مرض القلوب ومرض الأبدان وهما مذكوران في القرآن .

[ نوعا مرض القلب ]

ومرض القلوب نوعان مرض شبهة وشك ومرض شهوة وغي وكلاهما في القرآن . قال تعالى في مرض الشبهة في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ البقرة 10 ] وقال تعالى : وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر 31 ] وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون [ النور 48 و 49 ] فهذا مرض الشبهات والشكوك . وأما مرض الشهوات فقال تعالى : يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [ الأحزاب 32 ] . فهذا مرض شهوة الزنى والله أعلم .

فصل [ مرض الأبدان ]

وأما مرض الأبدان فقال تعالى : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ النور 61 ] وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع يبين لك عظمة القرآن والاستغناء به لمن فهمه وعقله عن سواه وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة .

فقال في آية الصوم فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة 184 ] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل فتخور القوة وتضعف فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها .

وقال في آية الحج فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة 196 ] فأباح للمريض ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر فإذا حلق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه . والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة الدم إذا هاج والمني إذا تبيغ والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش . وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه . وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى .

[ الحمية ]

وأما الحمية : فقال تعالى في آية الوضوء وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ النساء 43 ] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج فقد أرشد - سبحانه - عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ونبين أن هديه فيه أكمل هدي .

[ طب القلوب ]

فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابه متجنبة لمناهيه ومساخطه ولا صحة لها ولا حياة البتة إلا بذلك ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط ممن يظن ذلك وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل ومن لم يميز بين هذا وهذا فليبك على حياة قلبه فإنه من الأموات وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات .

فصل

[ طب الأبدان ]
وأما طب الأبدان فإنه نوعان
نوع قد فطر الله عليه الحيوان ناطقه وبهيمه فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب كطب الجوع والعطش والبرد والتعب بأضدادها وما يزيلها .
والثاني : ما يحتاج إلى فكر وتأمل كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة في المزاج بحيث يخرج بها عن الاعتدال إما إلى حرارة أو برودة أو يبوسة أو رطوبة أو ما يتركب من اثنين منها وهي نوعان إما مادية وإما كيفية أعني إما أن يكون بانصباب مادة أو بحدوث كيفية والفرق بينهما أن أمراض الكيفية تكون بعد زوال المواد التي أوجبتها فتزول موادها ويبقى أثرها كيفية في المزاج .

وأمراض المادة أسبابها معها تمدها وإذا كان سبب المرض معه فالنظر في السبب ينبغي أن يقع أولا ثم في المرض ثانيا ثم في الدواء ثالثا . أو الأمراض الآلية وهي التي تخرج العضو عن هيئته إما في شكل أو تجويف أو مجرى أو خشونة أو ملاسة أو عدد أو عظم أو وضع فإن هذه الأعضاء إذا تألفت وكان منها البدن سمي تألفها اتصالا والخروج عن الاعتدال فيه يسمى تفرق الاتصال أو الأمراض العامة التي تعم المتشابهة والآلية .

والأمراض المتشابهة هي التي يخرج بها المزاج عن الاعتدال وهذا الخروج يسمى مرضا بعد أن يضر بالفعل إضرارا محسوسا . وهي على ثمانية أضرب أربعة بسيطة وأربعة مركبة
فالبسيطة البارد والحار والرطب واليابس .
والمركبة الحار الرطب والحار اليابس والبارد الرطب والبارد اليابس .
وهي إما أن تكون بانصباب مادة أو بغير انصباب مادة وإن لم يضر المرض بالفعل يسمى خروجا عن الاعتدال صحة .

[ أحوال البدن ]

وللبدن ثلاثة أحوال حال طبيعية وحال خارجة عن الطبيعية وحال متوسطة بين الأمرين . فالأولى : بها يكون البدن صحيحا والثانية بها يكون مريضا . والحال الثالثة هي متوسطة بين الحالتين فإن الضد لا ينتقل إلى ضده إلا بمتوسط وسبب خروج البدن عن طبيعته إما من داخله لأنه مركب من الحار والبارد والرطب واليابس وإما من خارج فلأن ما يلقاه قد يكون موافقا وقد يكون غير موافق والضرر الذي يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال وقد يكون من فساد في العضو وقد يكون من ضعف في القوى أو الأرواح الحاملة لها ويرجع ذلك إلى زيادة ما الاعتدال في عدم زيادته أو نقصان ما الاعتدال في عدم نقصانه أو تفرق ما الاعتدال في اتصاله أو اتصال ما الاعتدال في تفرقه أو امتداد ما الاعتدال في انقباضه أو خروج ذي وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يخرجه عن اعتداله .

[ وظيفة الطبيب ]

فالطبيب هو الذي يفرق ما يضر بالإنسان جمعه أو يجمع فيه ما يضره تفرقه أو ينقص منه ما يضره زيادته أو يزيد فيه ما يضره نقصه فيجلب الصحة المفقودة أو يحفظها بالشكل والشبه ويدفع العلة الموجودة بالضد والنقيض ويخرجها أو يدفعها بما يمنع من حصولها بالحمية وسترى هذا كله في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شافيا كافيا بحول الله وقوته وفضله ومعونته .


افتراضي

فصل [ التداوي ]
فكان من هديه صلى الله عليه وسلم فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه ولكن لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه استعمال هذه الأدوية المركبة التي تسمى أقرباذين بل كان غالب أدويتهم بالمفردات وربما أضافوا إلى المفرد ما يعاونه أو يكسر سورته وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها من العرب والترك وأهل البوادي قاطبة وإنما عني بالمركبات الروم واليونانيون وأكثر طب الهند بالمفردات .

وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل عنه إلى الدواء ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل عنه إلى المركب .
قالوا : وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية لم يحاول دفعه بالأدوية .
قالوا : ولا ينبغي للطبيب أن يولع بسقي الأدوية فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داء يحلله أو وجد داء لا يوافقه أو وجد ما يوافقه فزادت كميته عليه أو كيفيته تشبث بالصحة وعبث بها . وأرباب التجارب من الأطباء طبهم بالمفردات غالبا وهم أحد فرق الطب الثلاث .

والتحقيق في ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية فالأمة والطائفة التي غالب أغذيتها المفردات أمراضها قليلة جدا وطبها بالمفردات وأهل المدن الذين غلبت عليهم الأغذية المركبة يحتاجون إلى الأدوية المركبة وسبب ذلك أن أمراضهم في الغالب مركبة فالأدوية المركبة أنفع لها وأمراض أهل البوادي والصحاري مفردة فيكفي في مداواتها الأدوية المفردة فهذا برهان بحسب الصناعة الطبية .

[ فضل طبه صلى الله عليه وسلم على طب الأطباء ]

ونحن نقول إن ها هنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم فإن ما عندهم من العلم بالطب منهم من يقول هو قياس . ومنهم من يقول هو تجربة . ومنهم من يقول هو إلهامات ومنامات وحدس صائب . ومنهم من يقول أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج فتلغ في الزيت تتداوى به وكما رئيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد عشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانج فتمر عيونها عليها . وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب .

وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه والانطراح والانكسار بين يديه والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه .

وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأغلظهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رقي بها فقام حتى كأن ما به قلبة .

فهذان نوعان من الطب النبوي نحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة ومبلغ علومنا القاصرة ومعارفنا المتلاشية جدا وبضاعتنا المزجاة ولكنا نستوهب من بيده الخير كله ونستمد من فضله فإنه العزيز الوهاب .

فصل [ الحث على التداوي وربط الأسباب بالمسببات ]
روى مسلم في " صحيحه " : من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل
وفي " الصحيحين " : عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وفي " مسند الإمام أحمد " : من حديث زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال " نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد " قالوا : ما هو ؟ قال " الهرم وفي لفظ إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله
وفي " المسند " : من حديث ابن مسعود يرفعه إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله وفي " المسند " و " السنن عن أبي خزامة قال قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال " هي من قدر الله

[ معنى لكل داء دواء ]

فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها ويجوز أن يكون قوله لكل داء دواء على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل لهم إليه سبيلا لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء وهذا قدر زائد على مجرد وجوده فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته وكان العلاج قاصرا ومتى لم يقع المداوي على الدواء أو لم يقع الدواء على الداء لم يحصل الشفاء ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء لعدم المصادفة ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد وهذا أحسن المحملين في الحديث .

والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه وهذا يستعمل في كل لسان ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف 25 ] أي كل شيء يقبل التدمير ومن شأن الريح أن تدمره ونظائره كثيرة . ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض ودفع بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض تبين له كمال قدرة الرب تعالى وحكمته وإتقانه ما صنعه وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه كما أنه الغني بذاته وكل ما سواه محتاج بذاته .


افتراضي

[الأمر بالتداوي وبأنه لا ينافي التوكل ]
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا .

[التداوي والشفاء مقدر والرد على الجبرية ]

وفيها رد على من أنكر التداوي وقال إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد وإن لم يكن قد قدر فكذلك . وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله وقدر الله لا يدفع ولا يرد وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى فقال هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله فما خرج شيء عن قدره بل يرد قدره بقدره وهذا الرد من قدره فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله الدافع والمدفوع والدفع .

ويقال لمورد هذا السؤال هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة أو تدفع بها مضرة لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما وفي ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه كالمشركين الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا [ الأنعام 148 ] و لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا [ النحل 35 ] فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل .

وجواب هذا السائل أن يقال بقي قسم ثالث لم تذكره وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب فإن أتيت بالسبب حصل المسبب وإلا فلا فإن قال إن كان قدر لي السبب فعلته وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله . قيل فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته فلا تلم من عصاك وأخذ مالك وقذف عرضك وضيع حقوقك وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك . وقد روي في أثر إسرائيلي أن إبراهيم الخليل قال يا رب ممن الداء ؟ قال " مني " . قال فممن الدواء " ؟ قال " مني " . قال فما بال الطبيب ؟ . قال " رجل أرسل الدواء على يديه " .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم لكل داء دواء تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء وبردت عنده حرارة اليأس وانفتح له باب الرجاء ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية وكان ذلك سببا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها فقهرت المرض ودفعته . وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضا إلا جعل له شفاء بضده فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى .

افتراضي

فصل [أنواع علاجه صلى الله عليه وسلم ]
وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع
أحدها : بالأدوية الطبيعية .
والثاني : بالأدوية الإلهية .
والثالث بالمركب من الأمرين .
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ثم نذكر الأدوية الإلهية ثم المركبة .

وهذا إنما نشير إليه إشارة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث هاديا وداعيا إلى الله وإلى جنته ومعرفا بالله ومبينا للأمة مواقع رضاه وآمرا لهم بها ومواقع سخطه وناهيا لهم عنها ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم وأخبار تخليق العالم وأمر المبدأ والمعاد وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك .

وأما طب الأبدان فجاء من تكميل شريعته ومقصودا لغيره بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه فإذا قدر على الاستغناء عنه كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدا وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة وبالله التوفيق .


ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل في هديه في علاج الحمى
ثبت في " الصحيحين " : عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء

[ خطابه صلى الله عليه وسلم نوعان عام لأهل الأرض وخاص ببعضهم ]

وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ورأوه منافيا لدواء الحمى وعلاجها ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه فنقول خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان عام لأهل الأرض وخاص ببعضهم فالأول كعامة خطابه والثاني : كقوله لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ولكن لأهل المدينة وما على سمتها كالشام وغيرها . وكذلك قوله ما بين المشرق والمغرب قبلة

[ حديث الحمى خاص بأهل الحجاز ]

وإذا عرف هذا فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز ما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن فتشتعل فيه اشتعالا يضر بالأفعال الطبيعية أسباب الحمى
وهي تنقسم إلى قسمين
عرضية وهي الحادثة إما عن الورم أو الحركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك .
ومرضية وهي ثلاثة أنواع وهي لا تكون إلا في مادة أولى ثم منها يسخن جميع البدن . فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم لأنها في الغالب تزول في يوم ونهايتها ثلاثة أيام وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي أربعة أصناف صفراوية وسوداوية وبلغمية ودموية . وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية سميت حمى دق وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة .

وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعا عظيما لا يبلغه الدواء وكثيرا ما يكون حمى يوم وحمى العفن سببا لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها وسببا لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة .

[ تبرئ الحمى كثيرا من الأمراض ]

وأما الرمد الحديث والمتقادم فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءا عجيبا سريعا وتنفع من الفالج واللقوة والتشنج الامتلائي وكثيرا من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة .

[ تأكيد هذا القول للمصنف من قبل بعض الأطباء ]

وقال لي بعض فضلاء الأطباء إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها فأخرجها فكانت سببا للشفاء . وإذا عرف هذا فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد وسقي الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج .

[ اعتراف جالينوس بأن الماء البارد ينفع في الحمى ]

ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها قال في المقالة العاشرة من كتاب " حيلة البرء " : ولو أن رجلا شابا حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لانتفع بذلك . قال ونحن نأمر بذلك لا توقف

[ قول الرازي ]

وقال الرازي في كتابه الكبير إذا كانت القوة قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتادا لاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن فيه .

[ معنى الحمى من فيح جهنم ]

وقوله الحمى من فيح جهنم هو شدة لهبها وانتشارها ونظيره قوله شدة الحر من فيح جهنم وفيه وجهان

أحدهما : أن ذلك أنموذج ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها كما أن الروح والفرح والسرور واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة وقدر ظهورها بأسباب توجبها .

والثاني : أن يكون المراد التشبيه فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم وشبه شدة الحر به أيضا تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها .

[ معنى فأبردوها ]

وقوله " فأبردوها " روي بوجهين بقطع الهمزة وفتحها رباعي من أبرد الشيء إذا صيره باردا مثل أسخنه إذا صيره سخنا .
والثاني : بهمزة الوصل مضمومة من برد الشيء يبرده وهو أفصح لغة واستعمالا والرباعي لغة رديئة عندهم قال



إذا وجدت لهيب الحب في كبدي

أقبلت نحو سقاء القوم أبترد

هبني بردت ببرد الماء ظاهره

فمن لنار على الأحشاء تتقد



[ معنى بالماء ]

وقوله " بالماء " فيه قولان . أحدهما : أنه كل ماء وهو الصحيح .
والثاني : أنه ماء زمزم واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في " صحيحه " عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال أبردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو قال بماء زمزم وراوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمرا لأهل مكة بماء زمزم إذ هو متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من الماء .

ثم اختلف من قال إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله ؟ على قولين . والصحيح أنه استعمال وأظن أن الذي حمل من قال المراد الصدقة به أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى ولم يفهم وجهه مع أن لقوله وجها حسنا وهو أن الجزاء من جنس العمل فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقا ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته وأما المراد به فاستعماله .

وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنس يرفعه إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر وفي " سنن ابن ماجه " عن أبي هريرة يرفعه الحمى كير من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد وفي " المسند " وغيره من حديث الحسن عن سمرة يرفعه الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل وفي " السنن " : من حديث أبي هريرة قال ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبها رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد

لما كانت الحمى يتبعها حمية عن الأغذية الرديئة وتناول الأغذية والأدوية النافعة وفي ذلك إعانة على تنقية البدن ونفي أخباثه وفضوله وتصفيته من مواده الرديئة وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد في نفي خبثه وتصفية جوهره كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تصفي جوهر الحديد وهذا القدر هو المعلوم عند أطباء الأبدان .

[ الحمى تنفع البدن والقلب ]

وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه وإخراجها خبائثه فأمر يعلمه أطباء القلوب ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن مرض القلب إذا صار مأيوسا من برئه لم ينفع فيه هذا العلاج .

فالحمى تنفع البدن والقلب وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان وذكرت مرة وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبها :



زارت مكفرة الذنوب وودعت

تبا لها من زائر ومودع

قالت وقد عزمت على ترحالها

ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي


فقلت : تبا له إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه ولو قال

زارت مكفرة الذنوب لصبها

أهلا بها من زائر ومودع

قالت وقد عزمت على ترحالها

ماذا تريد فقلت : أن لا تقلعي


لكان أولى به ولأقلعت عنه فأقلعت عني سريعا . وقد روي في أثر لا أعرف حاله حمى يوم كفارة سنة وفيه قولان أحدهما : أن الحمى تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعدتها ثلاثمائة وستون مفصلا فتكفر عنه - بعدد كل مفصل - ذنوب يوم .

والثاني : أنها تؤثر في البدن تأثيرا لا يزول بالكلية إلى سنة كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد وعروقه وأعضائه أربعين يوما والله أعلم

قال أبو هريرة : ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى لأنها تدخل في كل عضو مني وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر

وقد روى الترمذي في " جامعه " من حديث رافع بن خديج يرفعه إذا أصابت أحدكم الحمى - وإن الحمى قطعة من النار - فليطفئها بالماء البارد ويستقبل نهرا جاريا فليستقبل جرية الماء بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وليقل بسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك وينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام فإن برئ وإلا ففي خمس فإن لم يبرأ في خمس فسبع فإن لم يبرأ في سبع فتسع فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله

قلت : وهو ينفع فعله في فصل الصيف في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لما أفادها النوم والسكون وبرد الهواء فتجتمع فيه قوة القوى وقوة الدواء وهو الماء البارد على حرارة الحمى العرضية أو الغب الخالصة أعني التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة فيطفئها بإذن الله لا سيما في أحد الأيام المذكورة في الحديث وهي الأيام التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة كثيرا سيما في البلاد المذكورة لرقة أخلاط سكانها وسرعة انفعالهم عن الدواء النافع .


افتراضي

فصل في هديه في علاج استطلاق البطن
[ علاجه بالعسل ]

في " الصحيحين " : من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنه وفي رواية استطلق بطنه فقال اسقه عسلا " فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فلم يغن عنه شيئا وفي لفظ فلم يزده إلا استطلاقا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول له اسقه عسلا " فقال له في الثالثة أو الرابعة صدق الله وكذب بطن أخيك
وفي " صحيح مسلم " في لفظ له " إن أخي عرب بطنه " أي فسد هضمه واعتلت معدته والاسم العرب بفتح الراء والذرب أيضا .

[ منافع العسل ]

والعسل فيه منافع عظيمة فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها محلل للرطوبات أكلا وطلاء نافع للمشايخ وأصحاب البلغم ومن كان مزاجه باردا رطبا وهو مغذ ملين للطبيعة حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه مذهب لكيفيات الأدوية الكريهة منق للكبد والصدر مدر للبول موافق للسعال الكائن عن البلغم وإذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون وإن شرب وحده ممزوجا بماء نفع من عضة الكلب الكلب وأكل الفطر القتال وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر وكذلك إن جعل فيه القثاء والخيار والقرع والباذنجان ويحفظ كثيرا من الفاكهة ستة أشهر ويحفظ جثة الموتى ويسمى الحافظ الأمين . وإذا لطخ به البدن المقمل والشعر قتل قمله وصئبانه وطول الشعر وحسنه ونعمه وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر وإن استن به بيض الأسنان وصقلها وحفظ صحتها وصحة اللثة ويفتح أفواه العروق ويدر الطمث ولعقه على الريق يذهب البلغم ويغسل خمل المعدة ويدفع الفضلات عنها ويسخنها تسخينا معتدلا ويفتح سددها ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة وهو أقل ضررا لسدد الكبد والطحال من كل حلو . وهو مع هذا كله مأمون الغائلة قليل المضار مضر بالعرض للصفراويين ودفعها بالخل ونحوه فيعود حينئذ نافعا له جدا .

وهو غذاء مع الأغذية ودواء مع الأدوية وشراب مع الأشربة وحلو مع الحلوى وطلاء مع الأطلية ومفرح مع المفرحات فما خلق لنا شيء في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريبا منه ولم يكن معول القدماء إلا عليه وأكثر كتب القدماء لا ذكر فيها للسكر البتة ولا يعرفونه فإنه حديث العهد حدث قريبا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل وسنذكر ذلك إن شاء الله عند ذكر هديه في حفظ الصحة .

وفي " سنن ابن ماجه " مرفوعا من حديث أبي هريرة من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء وفي أثر آخر عليكم بالشفاءين العسل والقرآن فجمع بين الطب البشري والإلهي وبين طب الأبدان وطب الأرواح وبين الدواء الأرضي والدواء السمائي .

إذا عرف هذا فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء فأمره بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء فإن العسل فيه جلاء ودفع للفضول وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها فإن المعدة لها خمل كخمل القطيفة فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط والعسل جلاء والعسل من أحسن ما عولج به هذا الداء لا سيما إن مزج بالماء الحار .

[ فائدة تكرار سقي العسل ]

وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب حال الداء إن قصر عنه لم يزله بالكلية وإن جاوزه . أوهى القوى فأحدث ضررا آخر فلما أمره أن يسقيه العسل سقاه مقدارا لا يفي بمقاومة الداء ولا يبلغ الغرض فلما أخبره علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار الحاجة فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ومقدار قوة المرض مرض من أكبر قواعد الطب .

[ معنى صدق الله وكذب بطن أخيك ]

" وفي قوله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكذب البطن وكثرة المادة الفاسدة فيه فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة .

وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل . وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور - إن لم يتلق هذا التلقي - لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها بل لا يزيد المنافقين إلا رجسا إلى رجسهم ومرضا إلى مرضهم وأين يقع طب الأبدان منه فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع وليس ذلك لقصور في الدواء ولكن لخبث الطبيعة وفساد المحل وعدم قبوله والله الموفق .

فصل

[ بيان أن العسل فيه شفاء للناس ]

وقد اختلف الناس في قوله تعالى : يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس [ النحل 69 ] هل الضمير في " فيه " راجع إلى الشراب أو راجع إلى القرآن ؟ على قولين الصحيح رجوعه إلى الشراب وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأكثرين فإنه هو المذكور والكلام سيق لأجله ولا ذكر للقرآن في الآية وهذا الحديث الصحيح وهو قوله " صدق الله " كالصريح فيه والله تعالى أعلم .


افتراضي

فصل في هديه في الطاعون وعلاجه والاحتراز منه
في " الصحيحين " عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون ؟ فقال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه

وفي " الصحيحين " أيضا : عن حفصة بنت سيرين قالت قال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون شهادة لكل مسلم

[ ما هو الطاعون ]

الطاعون - من حيث اللغة - نوع من الوباء قاله صاحب " الصحاح " وهو عند أهل الطب : ورم رديء قتال يخرج معه تلهب شديد مؤلم جدا يتجاوز المقدار في ذلك ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد ويئول أمره إلى التقرح سريعا . وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع في الإبط وخلف الأذن والأرنبة وفي اللحوم الرخوة .

وفي أثر عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط

قال الأطباء إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة والمغابن وخلف الأذن والأرنبة وكان من جنس فاسد سمي طاعونا وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد مستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه وربما رشح دما وصديدا ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والخفقان والغشي وهذا الاسم وإن كان يعم كل ورم يؤدي إلى القلب كيفية رديئة حتى يصير لذلك قتالا فإنه يختص به الحادث في اللحم الغددي لأنه لرداءته لا يقبله من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأردؤه ما حدث في الإبط وخلف الأذن لقربهما من الأعضاء التي هي أرأس وأسلمه الأحمر ثم الأصفر . والذي إلى السواد فلا يفلت منه أحد .

ولما كان الطاعون يكثر في الوباء وفي البلاد الوبيئة عبر عنه بالوباء كما قال الخليل الوباء الطاعون . وقيل هو كل مرض يعم والتحقيق أن بين الوباء والطاعون عموما وخصوصا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون فإنه واحد منها والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها .

[ آثار الطاعون ]

قلت : هذه القروح والأورام والجراحات هي آثار الطاعون وليست نفسه ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون . والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور
أحدها : هذا الأثر الظاهر وهو الذي ذكره الأطباء .
والثاني : الموت الحادث عنه وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله الطاعون شهادة لكل مسلم
والثالث السبب الفاعل لهذا الداء وقد ورد في الحديث الصحيح أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل وورد فيه " أنه وخز الجن " وجاء أنه دعوة نبي .

[ بيان ما للجن من تأثير في الطاعون - وكيفية دفعه ]

وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها كما ليس عندهم ما يدل عليها والرسل تخبر بالأمور الغائبة وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسط الأرواح فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها وانفعال الأجسام وطبائعها عنها والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفا في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء وفساد الهواء كما يجعل لها تصرفا عند بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة ولا سيما عند هيجان الدم والمرة السوداء وعند هيجان المني فإن الأرواح الشيطانية تتمكن من فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكن من غيره ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر والدعاء والابتهال والتضرع والصدقة وقراءة القرآن فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ويبطل شرها ويدفع تأثيرها وقد جربنا نحن وغيرنا هذا مرارا لا يحصيها إلا الله ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيرا عظيما في تقوية الطبيعة ودفع المواد الرديئة وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ولا يكاد ينخرم فمن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه وهي له من أنفع الدواء وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها فلا يشعر بها ولا يريدها ليقضي الله فيه أمرا كان مفعولا .

وسنزيد هذا المعنى إن شاء الله تعالى إيضاحا وبيانا عند الكلام على التداوي بالرقى والعوذ النبوية والأذكار والدعوات وفعل الخيرات ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم كما اعترف به حذاقهم وأئمتهم ونبين أن الطبيعة الإنسانية أشد شيء انفعالا عن الأرواح وأن قوى العوذ والرقى والدعوات فوق قوى الأدوية حتى إنها تبطل قوى السموم القاتلة .

[ فساد الهواء جزء من أسباب الطاعون وبيان حاله في الفصول ]

والمقصود أن فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام والعلة الفاعلة للطاعون فإن فساد جوهر الهواء الموجب لحدوث الوباء وفساده يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه كالعفونة والنتن والسمية في أي وقت كان من أوقات السنة وإن كان أكثر حدوثه في أواخر الصيف وفي الخريف غالبا لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها في فصل الصيف وعدم تحللها في آخره وفي الخريف لبرد الجو وردغة الأبخرة والفضلات التي كانت تتحلل في زمن الصيف . فتنحصر فتسخن وتعفن فتحدث الأمراض العفنة ولا سيما إذا صادفت البدن مستعدا قابلا رهلا قليل الحركة كثير المواد فهذا لا يكاد يفلت من العطب .

وأصح الفصول فيه فصل الربيع . قال إبقراط : إن في الخريف أشد ما تكون من الأمراض وأقتل وأما الربيع فأصح الأوقات كلها وأقلها موتا وقد جرت عادة الصيادلة ومجهزي الموتى أنهم يستدينون ويتسلفون في الربيع والصيف على فصل الخريف فهو ربيعهم وهم أشوق شيء إليه وأفرح بقدومه وقد روي في حديث إذا طلع النجم ارتفعت العاهة عن كل بلد . وفسر بطلوع الثريا وفسر بطلوع النبات زمن الربيع ومنه والنجم والشجر يسجدان [ الرحمن 7 ] فإن كمال طلوعه وتمامه يكون في فصل الربيع وهو الفصل الذي ترتفع فيه الآفات .

وأما الثريا فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها .
قال التميمي في كتاب " مادة البقاء " : أشد أوقات السنة فسادا وأعظمها بلية على الأجساد وقتان
أحدهما : وقت سقوط الثريا للمغيب عند طلوع الفجر .
والثاني : وقت طلوعها من المشرق قبل طلوع الشمس على العالم بمنزلة من منازل القمر وهو وقت تصرم فصل الربيع وانقضائه غير أن الفساد الكائن عند طلوعها أقل ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها . وقال أبو محمد بن قتيبة يقال ما طلعت الثريا ولا نأت إلا بعاهة في الناس والإبل وغروبها أعوه من طلوعها . وفي الحديث قول ثالث - ولعله أولى الأقوال به - أن المراد بالنجم الثريا وبالعاهة الآفة التي تلحق الزروع والثمار في فصل الشتاء وصدر فصل الربيع فحصل الأمن عليها عند طلوع الثريا في الوقت المذكور ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدو صلاحها . والمقصود الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم عند وقوع الطاعون .

فصل

[النهي عن الدخول إلى أرض الطاعون أو الخروج منها ]
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال التحرز منه فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضا للبلاء وموافاة له في محل سلطانه وإعانة للإنسان على نفسه وهذا مخالف للشرع والعقل بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها وهي حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية .

[ معنى النهي عن الخروج من البلد ]

وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه معنيان أحدهما : حمل النفوس على الثقة بالله والتوكل عليه والصبر على أقضيته والرضى بها .

[ يجب على المطعون السكون والدعة وهو مناف للسفر ]

والثاني : ما قاله أئمة الطب : أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية ويقلل الغذاء ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام فإنهما مما يجب أن يحذرا لأن البدن لا يخلو غالبا من فضل رديء كامن فيه فتثيره الرياضة والحمام ويخلطانه بالكيموس الجيد وذلك يجلب علة عظيمة بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة وتسكين هيجان الأخلاط ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة وهي مضرة جدا هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما .

فإن قيل ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تخرجوا فرارا منه ما يبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه وأنه لا يمنع الخروج لعارض ولا يحبس مسافرا عن سفره ؟ قيل لم يقل أحد طبيب ولا غيره إن الناس يتركون حركاتهم عند الطواعين ويصيرون بمنزلة الجمادات وإنما ينبغي فيه التقلل من الحركة بحسب الإمكان والفار منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفرار منه ودعته وسكونه أنفع لقلبه وبدنه وأقرب إلى توكله على الله تعالى واستسلامه لقضائه . وأما من لا يستغني عن الحركة كالصناع والأجراء والمسافرين والبرد وغيرهم فلا يقال لهم اتركوا حركاتكم جملة وإن أمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه كحركة المسافر فارا منه والله تعالى أعلم .

[ حكم المنع من الدخول ]

وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدة حكم
أحدها : تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها .
الثاني : الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد .
الثالث أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون .
الرابع أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم .

وفي " سنن أبي داود " مرفوعا : إن من القرف التلف قال ابن قتيبة : القرف مداناة الوباء ومداناة المرضى .

[حمية النفوس عن العدوى والطيرة ]

الخامس حمية النفوس عن الطيرة والعدوى فإنها تتأثر بهما فإن الطيرة على من تطير بها وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية والنهي عن التعرض لأسباب التلف . وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل والتسليم والتفويض فالأول تأديب وتعليم والثاني : تفويض وتسليم .

[ قصة عمر في امتناعه عن دخول الشام لوقوع الطاعون بها ]

وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين الأولين قال فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال له بعضهم خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه . وقال آخرون معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال عمر ارتفعوا عني ثم قال ادع لي الأنصار فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم له فلم يختلف عليه منهم رجلان قالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فأذن عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة بن الجراح : يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله تعالى ؟ قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما - خصبة والأخرى جدبة ألست إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله تعالى وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله تعالى ؟ قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجاته فقال إن عندي في هذا علما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه



فصل في هديه في داء الاستسقاء وعلاجه
في " الصحيحين " : من حديث أنس بن مالك قال " قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها ففعلوا فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل وحاربوا الله ورسوله فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا " .

والدليل على أن هذا المرض كان الاستسقاء ما رواه مسلم في " صحيحه " في هذا الحديث أنهم قالوا : إنا اجتوينا المدينة فعظمت بطوننا وارتهشت أعضاؤنا وذكر تمام الحديث . ..

والجوى : داء من أدواء الجوف - والاستسقاء مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط وأقسامه ثلاثة لحمي وهو أصعبها . وزقي وطبلي .

[ علة الاستشفاء بأبوال الإبل وألبانها ]

ولما كانت الأدوية المحتاج إليها في علاجه هي الأدوية الجالبة التي فيها إطلاق معتدل وإدرار بحسب الحاجة وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشربها فإن في لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد إذ كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء .

وهذا المرض لا يكون إلا مع آفة في الكبد خاصة أو مع مشاركة وأكثرها عن السدد فيها ولبن اللقاح العربية نافع من السدد لما فيه من التفتيح والمنافع المذكورة .

قال الرازي : لبن اللقاح يشفي أوجاع الكبد وفساد المزاج وقال الإسرائيلي لبن اللقاح أرق الألبان وأكثرها مائية وحدة وأقلها غذاء فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول وإطلاق البطن وتفتيح السدد ويدل على ذلك ملوحته اليسيرة التي فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع ولذلك صار أخص الألبان بتطرية الكبد وتفتيح سددها وتحليل صلابة الطحال إذا كان حديثا والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استعمل لحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل وهو حار كما يخرج من الحيوان فإن ذلك مما يزيد في ملوحته وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن فإن تعذر انحداره وإطلاقه البطن وجب أن يطلق بدواء مسهل .

قال صاحب " القانون " : ولا يلتفت إلى ما يقال من أن طبيعة اللبن مضادة لعلاج الاستسقاء . قال واعلم أن لبن النوق دواء نافع لما فيه من الجلاء برفق وما فيه من خاصية وأن هذا اللبن شديد المنفعة فلو أن إنسانا أقام عليه بدل الماء والطعام شفي به وقد جرب ذلك في قوم دفعوا إلى بلاد العرب فقادتهم الضرورة إلى ذلك فعوفوا . وأنفع الأبوال بول الجمل الأعرابي وهو النجيب انتهى .

[ طهارة بول مأكول اللحم ]

وفي القصة دليل على التداوي والتطبب وعلى طهارة بول مأكول اللحم فإن التداوي بالمحرمات غير جائز ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة .

[مقاتلة الجاني بمثل ما فعل ]

وعلى مقاتلة الجاني بمثل ما فعل فإن هؤلاء قتلوا الراعي وسملوا عينيه ثبت ذلك في " صحيح مسلم " .

وعلى قتل الجماعة وأخذ أطرافهم بالواحد .

[ اجتماع الحد والقصاص ]

وعلى أنه إذا اجتمع في حق الجاني حد وقصاص استوفيا معا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيديهم وأرجلهم حدا لله على حرابهم وقتلهم لقتلهم الراعي . وعلى أن المحارب إذا أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله في مقام واحد وقتل .

[إذا تعددت الجنايات تغلظت عقوباتها ]

وعلى أن الجنايات إذا تعددت تغلظت عقوباتها فإن هؤلاء ارتدوا بعد إسلامهم وقتلوا النفس ومثلوا بالمقتول وأخذوا المال وجاهروا بالمحاربة .

[ حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم ]

وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .

[ قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا ]

وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا فلا يسقطه العفو ولا تعتبر فيه المكافأة وهذا مذهب أهل المدينة وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا وأفتى به .



فصل في هديه في علاج الجرح
في " الصحيحين " : عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد يسأل عما دووي به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال " جرح وجهه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن فلما رأت فاطمة الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم " برماد الحصير المعمول من البردي وله فعل قوي في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا وقلة لذع فإن الأدوية القوية التجفيف إذا كان فيها لذع هيجت الدم وجلبته وهذا الرماد إذا نفخ وحده أو مع الخل في أنف الراعف قطع رعافه .

وقال صاحب " القانون " : البردي ينفع من النزف ويمنعه ويذر على الجراحات الطرية فيدملها والقرطاس المصري كان قديما يعمل منه ومزاجه بارد يابس ورماده نافع من أكلة الفم ويحبس نفث الدم ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى .



فصل في هديه في العلاج بشرب العسل والحجامة والكي
في " صحيح البخاري " : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشفاء في ثلاث : شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وأنا أنهى أمتي عن الكي

قال أبو عبد الله المازري : الأمراض الامتلائية : إما أن تكون دموية أو صفراوية أو بلغمية أو سوداوية . فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم وإن كانت من الأقسام الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها وكأنه صلى الله عليه وسلم نبه بالعسل على المسهلات وبالحجامة على الفصد وقد قال بعض الناس إن الفصد يدخل في قوله شرطة محجم . فإذا أعيا الدواء فآخر الطب الكي فذكره صلى الله عليه وسلم في الأدوية لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية وحيث لا ينفع الدواء المشروب . وقوله وأنا أنهى أمتي عن الكي وفي الحديث الآخر وما أحب أن أكتوي إشارة إلى أن يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه ولا يعجل التداوي به لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي انتهى كلامه .

[الأمراض المزاجية وعلاجها ]

وقال بعض الأطباء الأمراض المزاجية إما أن تكون بمادة أو بغير مادة والمادية منها : إما حارة أو باردة أو رطبة أو يابسة أو ما تركب منها وهذه الكيفيات الأربع منها كيفيتان فاعلتان وهما الحرارة والبرودة وكيفيتان منفعلتان وهما الرطوبة واليبوسة ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحاب كيفية منفعلة معها وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة في البدن وسائر المركبات كيفيتان فاعلة ومنفعلة .

[ العلاج بإخراج الدم ]

فحصل من ذلك أن أصل الأمراض المزاجية هي التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التي هي الحرارة والبرودة فجاء كلام النبوة في أصل معالجة الأمراض التي هي الحارة والباردة على طريق التمثيل فإن كان المرض حارا عالجناه بإخراج الدم بالفصد كان أو بالحجامة لأن في ذلك استفراغا للمادة وتبريدا للمزاج . وإن كان باردا عالجناه بالتسخين وذلك موجود في العسل فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة فالعسل أيضا يفعل في ذلك لما فيه من الإنضاج والتقطيع والتلطيف والجلاء والتليين فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمن من نكاية المسهلات القوية .

[ العلاج بالكي]

وأما الكي فلأن كل واحد من الأمراض المادية إما أن يكون حادا فيكون سريع الإفضاء لأحد الطرفين فلا يحتاج إليه فيه وإما أن يكون مزمنا وأفضل علاجه بعد الاستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي لأنه لا يكون مزمنا إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت في العضو وأفسدت مزاجه وأحالت جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها فيشتعل في ذلك العضو فيستخرج بالكي تلك المادة من ذلك المكان الذي هو فيه بإفناء الجزء الناري الموجود بالكي لتلك المادة . فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخذ معالجة الأمراض المادية جميعها كما استنبطنا معالجة الأمراض الساذجة من قوله صلى الله عليه وسلم إن شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء .

فصل [ العلاج بالحجامة ]
وأما الحجامة ففي " سنن ابن ماجه " من حديث جبارة بن المغلس - وهو ضعيف - عن كثير بن سليم قال سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا قالوا : يا محمد مر أمتك بالحجامة وروى الترمذي في " جامعه " من حديث ابن عباس هذا الحديث وقال فيه عليك بالحجامة يا محمد وفي " الصحيحين " : من حديث طاووس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره وفي " الصحيحين " أيضا عن حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأمر له بصاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه من ضريبته وقال خير ما تداويتم به الحجامة

وفي " جامع الترمذي " عن عباد بن منصور قال سمعت عكرمة يقول كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون فكان اثنان يغلان عليه وعلى أهله وواحد لحجمه وحجم أهله . قال وقال ابن عباس : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم نعم العبد الحجام يذهب بالدم ويخف الصلب ويجلو البصر وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عرج به ما مر على ملإ من الملائكة إلا قالوا : عليك بالحجامة وقال : إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة ويوم إحدى وعشرين وقال إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لد فقال من لدني ؟ فكلهم أمسكوا فقال لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس قال هذا حديث غريب ورواه ابن ماجه .



يتبع ...

اخت مسلمة
04-09-2009, 10:58 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم
روى ابن ماجه " في سننه " من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب نفس المريض وفي هذا الحديث نوع شريف جدا من أشرف أنواع العلاج وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة وتنتعش به القوة وينبعث به الحار الغريزي فيتساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذي هو غاية تأثير الطبيب .

وتفريح نفس المريض وتطييب قلبه وإدخال ما يسره عليه له تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي وقد شاهد الناس كثيرا من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ويعظمونه ورؤيتهم لهم ولطفهم بهم ومكالمتهم إياهم وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم فإن فيها أربعة أنواع من الفوائد نوع يرجع إلى المريض ونوع يعود على العائد ونوع يعود على أهل المريض ونوع يعود على العامة .

وقد تقدم في هديه صلى الله عليه وسلم إنه كان يسأل المريض عن شكواه وكيف يجده ويسأله عما يشتهيه ويضع يده على جبهته وربما وضعها بين ثدييه ويدعو له ويصف له ما ينفعه في علته وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه وربما كان يقول للمريض لا بأس طهور إن شاء الله وهذا من كمال اللطف وحسن العلاج والتدبير



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده
هذا أصل عظيم من أصول العلاج وأنفع شيء فيه وإذا أخطأه الطبيب أضر المريض من حيث يظن أنه ينفعه ولا يعدل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الطب إلا طبيب جاهل فإن ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها وهؤلاء أهل البوادي والأكارون وغيرهم لا ينجع فيهم شراب اللينوفر والورد الطري ولا المغلي ولا يؤثر في طباعهم شيئا بل عامة أدوية أهل الحضر وأهل الرفاهية لا تجدي علهم والتجربة شاهدة بذلك ومن تأمل ما ذكرناه من العلاج النبوي رآه كله موافقا لعادة العليل وأرضه وما نشأ عليه .

فهذا أصل عظيم من أصول العلاج يجب الاعتناء به وقد صرح به أفاضل أهل الطب حتى قال طبيب العرب بل أطبهم الحارث بن كلدة وكان فيهم كابقراط في قومه الحمية رأس الدواء والمعدة بيت الداء وعودوا كل بدن ما اعتاد . وفي لفظ عنه الأزم دواء والأزم الإمساك عن الأكل يعني به الجوع وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الامتلائية كلها بحيث إنه أفضل في علاجها من المستفرغات إذا لم يخف من كثرة الامتلاء وهيجان الأخلاط وحدتها أو غليانها .

وقوله المعدة بيت الداء . المعدة عضو عصبي مجوف كالقرعة في شكلها مركب من ثلاث طبقات مؤلفة من شظايا دقيقة عصبية تسمى الليف ويحيط بها لحم وليف إحدى الطبقات بالطول والأخرى بالعرض والثالثة بالورب وفم المعدة أكثر عصبا وقعرها أكثر لحما وفي باطنها خمل وهي محصورة في وسط البطن وأميل إلى الجانب الأيمن قليلا خلقت على هذه الصفة لحكمة لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه وهي بيت الداء وكانت محلا للهضم الأول وفيها ينضج الغذاء وينحدر منها بعد ذلك إلى الكبد والأمعاء ويتخلف منه فيها فضلات قد عجزت القوة الهاضمة عن تمام هضمها إما لكثرة الغذاء أو لرداءته أو لسوء ترتيب في استعماله أو لمجموع ذلك وهذه الأشياء بعضها مما لا يتخلص الإنسان منه غالبا فتكون المعدة بيت الداء لذلك وكأنه يشير بذلك إلى الحث على تقليل الغذاء ومنع النفس من اتباع الشهوات والتحرز عن الفضلات .

وأما العادة فلأنها كالطبيعة للإنسان ولذلك يقال العادة طبع ثان وهي قوة عظيمة في البدن حتى إن أمرا واحدا إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات كان مختلف النسبة إليها .

وإن كانت تلك الأبدان متفقة في الوجوه الأخرى مثال ذلك أبدان ثلاثة حارة المزاج في سن الشباب
أحدها : عود تناول الأشياء الحارة .
والثاني : عود تناول الأشياء الباردة .
والثالث عود تناول الأشياء المتوسطة .
فإن الأول متى تناول عسلا لم يضر به والثاني : متى تناوله أضر به والثالث يضر به قليلا فالعادة ركن عظيم في حفظ الصحة ومعالجة الأمراض ولذلك جاء العلاج النبوي بإجراء كل بدن على عادته في استعمال الأغذية والأدوية وغير ذلك .

افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية
في " الصحيحين " من حديث عروة عن عائشة أنها كانت إذا مات الميت من أهلها واجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلى أهلهن أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت وصنعت ثريدا ثم صبت التلبينة عليه ثم قالت كلوا منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن

وفي " السنن " من حديث عائشة أيضا قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالبغيض النافع التلبين قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار حتى ينتهي أحد طرفيه . يعني يبرأ أو يموت .

وعنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له إن فلانا وجع لا يطعم الطعام قال عليكم بالتلبينة فحسوه إياها ويقول والذي نفسي بيده إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ

[ التلبين وفوائده ]

التلبين هو الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن ومنه اشتق اسمه قال الهروي سميت تلبينة لشبهها باللبن لبياضها ورقتها وهذا الغذاء هو النافع للعليل وهو الرقيق النضيح لا الغليظ النيء وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة فاعرف فضل ماء الشعير بل هي ماء الشعير لهم فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صحاحا والتلبينة تطبخ منه مطحونا وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن وقد تقدم أن للعادات تأثيرا في الانتفاع بالأدوية والأغذية وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحونا لا صحاحا وهو أكثر تغذية وأقوى فعلا وأعظم جلاء وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحا ليكون أرق وألطف فلا يثقل على طبيعة المريض وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها وثقل ماء الشعير المطحون عليها . والمقصود أن ماء الشعير مطبوخا صحاحا ينفذ سريعا ويجلو جلاء ظاهرا ويغذي غذاء لطيفا . وإذا شرب حارا كان جلاؤه أقوى ونفوذه أسرع وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر وتلميسه لسطوح المعدة أوفق .

[ علة ذهاب التلبينة ببعض الحزن ]

وقوله صلى الله عليه وسلم فيها : مجمة لفؤاد المريض يروى بوجهين . بفتح الميم والجيم وبضم الميم وكسر الجيم والأول أشهر ومعناه أنها مريحة له أي تريحه وتسكنه من الإجمام وهو الراحة . وقوله " تذهب ببعض الحزن " هذا - والله أعلم - لأن الغم والحزن يبردان المزاج ويضعفان الحرارة الغريزية لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن .

وقد يقال - وهو أقرب - إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية والله أعلم .

وقد يقال إن قوى الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء وهذا الحساء يرطبها ويقويها ويغذيها ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض لكن المريض كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسروه ويحدره ويميعه ويعدل كيفيته ويكسر سورته فيريحها ولا سيما لمن عادته الاغتذاء بخبز الشعير وهي عادة أهل المدينة إذ ذاك وكان هو غالب قوتهم وكانت الحنطة عزيزة عندهم . والله أعلم .


افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السم الذي أصابه بخيبر من اليهود
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك : أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر فقال ما هذه ؟ قالت هدية وحذرت أن تقول من الصدقة فلا يأكل منها فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأكل الصحابة ثم
قال أمسكوا ثم قال للمرأة هل سممت هذه الشاة ؟ قالت من أخبرك بهذا ؟ قال هذا العظم لساقها وهو في يده ؟ قالت نعم . قال لم ؟ قالت أردت إن كنت كاذبا أن يستريح منك الناس وإن كنت نبيا لم يضرك قال فاحتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة على الكاهل وأمر أصحابه أن يحتجموا فاحتجموا فمات بعضهم

وفي طريق أخرى : واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبني بياضة من الأنصار وبقي بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه فقال ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر حتى كان هذا أوان انقطاع الأبهر مني

فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا قاله موسى بن عقبة .

[ يعالج السم بالاستفراغات وبالأدوية المبطلة لفعل السم ]

معالجة السم تكون بالاستفراغات وبالأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله إما بكيفياتها وإما بخواصها فمن عدم الدواء فليبادر إلى الاستفراغ الكلي وأنفعه الحجامة ولا سيما إذا كان البلد حارا والزمان حارا فإن القوة السمية تسري إلى الدم فتنبعث في العروق والمجاري حتى تصل إلى القلب فيكون الهلاك فالدم هو المنفذ الموصل للسم إلى القلب والأعضاء فإذا بادر المسموم وأخرج الدم خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته فإن كان استفراغا تاما لم يضره السم بل إما أن يذهب وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة فتبطل فعله أو تضعفه .

[ استشهاده صلى الله عليه وسلم بالسم ]

ولما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في الكاهل وهو أقرب المواضع التي يمكن فيها الحجامة إلى القلب فخرجت المادة السمية مع الدم لا خروجا كليا بل بقي أثرها مع ضعفه لما يريد الله سبحانه من تكميل مراتب الفضل كلها له فلما أراد الله إكرامه بالشهادة ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون [ البقرة 87 ] فجاء بلفظ كذبتم بالماضي الذي قد وقع منه وتحقق وجاء بلفظ " تقتلون " بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه والله أعلم .


افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السحر
الذي سحرته اليهود به قد أنكر هذا طائفة من الناس وقالوا : لا يجوز هذا عليه وظنوه نقصا وعيبا وليس الأمر كما زعموا بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع وهو مرض من الأمراض وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما وقد ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن وذلك أشد ما يكون من السحر .

قال القاضي عياض : والسحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ولا فضل من أجلها وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان .

[ علاج السحر ]

والمقصود ذكر هديه في علاج هذا المرض وقد روي عنه فيه نوعان

[ استخراج السحر وإبطاله ]

أحدهما - وهو أبلغهما - استخراجه وإبطاله كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك فدل عليه فاستخرجه من بئر فكان في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما أنشط من عقال فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ .

[ الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر ]

والنوع الثاني : الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر فإن للسحر تأثيرا في الطبيعة وهيجان أخلاطها وتشويش مزاجها فإذا ظهر أثره في عضو وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جدا .

وقد ذكر أبو عبيد في كتاب " غريب الحديث " له بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طب قال أبو عبيد : معنى طب أي سحر .

وقد أشكل هذا على من قل علمه وقال ما للحجامة والسحر وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء ولو وجد هذا القائل أبقراط أو ابن سينا أو غيرهما قد

نص على هذا العلاج لتلقاه بالقبول والتسليم وقال قد نص عليه من لا يشك في معرفته وفضله .

فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به صلى الله عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية .

والسحر هو مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة وانفعال القوى الطبيعية عنها وهو أشد ما يكون من السحر ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة إذا استعملت على القانون الذي ينبغي .

قال أبقراط الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها .

وقالت طائفة من الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب بهذا الداء وكان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية وأنفع المعالجة فاحتجم وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر فلما جاءه الوحي من الله تعالى وأخبره أنه قد سحر عدل إلى العلاج الحقيقي وهو استخراج السحر وإبطاله فسأل الله سبحانه فدله على مكانه فاستخرجه فقام كأنما أنشط من عقال وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده وظاهر جوارحه لا على عقله وقلبه ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض والله أعلم .

فصل [ علاج السحر بالأذكار والآيات ]
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية بل هي أدويته النافعة بالذات فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه فأيهما غلب الآخر قهره وكان الحكم له فالقلب إذا كان ممتلئا من الله مغمورا بذكره وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه . وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية .

وبالجملة فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلها إلى السفليات قالوا : والمسحور هو الذي يعين على نفسه فإنا نجد قلبه متعلقا بشيء كثير الالتفات إليه فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة وبفراغها من القوة الإلهية وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها فتجدها فارغة لا عدة معها وفيها ميل إلى ما يناسبها فتتسلط عليها ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره والله أعلم .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين
ذكر مالك في " موطئه " : عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح فاحتقن الجرح الدم وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه فزعما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : " أيكما أطب ؟ فقال أو في الطب خير يا رسول الله ؟ فقال أنزل الدواء الذي أنزل الداء

[ ينبغي الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق ]

ففي هذا الحديث أنه ينبغي الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق فإنه إلى الإصابة أقرب .

وهكذا يجب على المستفتي أن يستعين على ما نزل به بالأعلم فالأعلم لأنه أقرب إصابة ممن هو دونه .

وكذلك من خفيت عليه القبلة فإنه يقلد أعلم من يجده وعلى هذا فطر الله عباده كما أن المسافر في البر والبحر إنما سكون نفسه وطمأنينته إلى أحذق الدليلين وأخبرهما وله يقصد وعليه يعتمد فقد اتفقت على هذا الشريعة والفطرة والعقل .

وقوله صلى الله عليه وسلم أنزل الدواء الذي أنزل الداء قد جاء مثله عنه في أحاديث كثيرة فمنها ما رواه عمرو بن دينار عن هلال بن يساف قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فقال " أرسلوا إلى طبيب " فقال قائل وأنت تقول ذلك يا رسول الله ؟ قال " نعم إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء

وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة يرفعه ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وقد تقدم هذا الحديث وغيره .

[ معنى أنزل الداء والدواء ]

" واختلف في معنى أنزل الداء والدواء فقالت طائفة إنزاله إعلام العباد به وليس بشيء فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك ولهذا قال علمه من علمه وجهله من جهله وقالت طائفة إنزالهما : خلقهما ووضعهما في الأرض كما في الحديث الآخر إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء وهذا وإن كان أقرب من الذي قبله فلفظة الإنزال أخص من لفظة الخلق والوضع فلا ينبغي إسقاط خصوصية اللفظة بلا موجب . وقالت طائفة إنزالهما بواسطة الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغير ذلك فإن الملائكة موكلة بأمر هذا العالم وأمر النوع الإنساني من حين سقوطه في رحم أمه إلى حين موته فإنزال الداء والدواء مع الملائكة وهذا أقرب من الوجهين قبله .

وقالت طائفة إن عامة الأدواء والأدوية هي بواسطة إنزال الغيث من السماء الذي تتولد به الأغذية والأقوات والأدوية والأدواء وآلات ذلك كله وأسبابه ومكملاته وما كان منها من المعادن العلوية فهي تنزل من الجبال وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار فداخل في اللفظ على طريق التغليب والاكتفاء عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما وهو معروف من لغة العرب بل وغيرها من الأمم كقول الشاعر

علفتها تبنا وماء باردا

حتى غدت همالة عيناها


وقول الآخر

متقلدا سيفا ورمحا

ورأيت زوجك قد غدا


وقول الآخر

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزججن الحواجب والعيونا


وهذا أحسن مما قبله من الوجوه والله أعلم .

[ كما يبتلي الله عباده فإنه ييسر لهم ما يضاده ]

وهذا من تمام حكمة الرب عز وجل وتمام ربوبيته فإنه كما ابتلى عباده بالأدواء أعانهم عليها بما يسره لهم من الأدوية وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثة من الشياطين أعانهم عليها بجند من الأرواح الطيبة وهم الملائكة . وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسره لهم شرعا وقدرا من المشتهيات اللذيذة النافعة فما ابتلاهم سبحانه بشيء إلا أعطاهم ما يستعينون به على ذلك البلاء ويدفعونه به ويبقى التفاوت بينهم في العلم بذلك والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه وبالله المستعان .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستفراغ بالقيء
روى الترمذي في " جامعه " عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال صدق أنا صببت له وضوءه .

قال الترمذي وهذا أصح شيء في الباب .

[ أصول الاستفراغ ]

القيء أحد الاستفراغات الخمسة التي هي أصول الاستفراغ وهي الإسهال والقيء وإخراج الدم وخروج الأبخرة والعرق وقد جاءت بها السنة .

فأما الإسهال فقد مر في حديث خير ما تداويتم به المشي وفي حديث " السنا " .

وأما إخراج الدم فقد تقدم في أحاديث الحجامة .

وأما استفراغ الأبخرة فنذكره عقيب هذا الفصل إن شاء الله .

وأما الاستفراغ بالعرق فلا يكون غالبا بالقصد بل بدفع الطبيعة له إلى ظاهر الجسد فيصادف المسام مفتحة فيخرج منها .

[ أنواع القيء ]

والقيء استفراغ من أعلى المعدة والحقنة من أسفلها والدواء من أعلاها وأسفلها والقيء نوعان نوع بالغلبة والهيجان ونوع بالاستدعاء والطلب . فأما الأول فلا يسوغ حبسه ودفعه إلا إذا أفرط وخيف منه التلف . فيقطع بالأشياء التي تمسكه . وأما الثاني : فأنفعه عند الحاجة إذا روعي زمانه وشروطه التي تذكر .

[ أسباب القيء ]

وأسباب القيء عشرة
أحدها : غلبة المرة الصفراء وطفوها على رأس المعدة فتطلب الصعود .
الثاني : من غلبة بلغم لزج قد تحرك في المعدة واحتاج إلى الخروج .
الثالث أن يكون من ضعف المعدة في ذاتها فلا تهضم الطعام فتقذفه إلى جهة فوق .
الرابع أن يخالطها خلط رديء ينصب إليها فيسيء هضمها ويضعف فعلها .
الخامس أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذي تحتمله المعدة فتعجز عن إمساكه فتطلب دفعه وقذفه .
السادس أن يكون من عدم موافقة المأكول والمشروب لها وكراهتها له فتطلب دفعه وقذفه .
السابع أن يحصل فيها ما يثور الطعام بكيفيته وطبيعته فتقذف به .
الثامن القرف وهو موجب غثيان النفس وتهوعها .

[ الأعراض النفسانية من أسباب القيء ]

التاسع من الأعراض النفسانية كالهم الشديد والغم والحزن وغبة اشتغال الطبيعة والقوى الطبيعية به واهتمامها بوروده عن تدبير البدن وإصلاح الغذاء وإنضاجه وهضمه فتقذفه المعدة وقد يكون لأجل تحرك الأخلاط عند تخبط النفس فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه ويؤثر في كيفيته . العاشر نقل الطبيعة بأن يرى من يتقيأ فيغلبه هو القيء من غير استدعاء فإن الطبيعة نقالة .

[ إخبار أحد الأطباء المصنف بقصتين عن نقل المرض برؤية المريض ]

وأخبرني بعض حذاق الأطباء قال كان لي ابن أخت حذق في الكحل فجلس كحالا فكان إذا فتح عين الرجل ورأى الرمد وكحله رمد هو وتكرر ذلك منه فترك الجلوس . قلت له فما سبب ذلك ؟ قال نقل الطبيعة فإنها نقالة قال وأعرف آخر كان رأى خراجا في موضع من جسم رجل يحكه فحك هو ذلك الموضع فخرجت فيه خراجة . قلت وكل هذا لا بد فيه من استعداد الطبيعة وتكون المادة ساكنة فيها غير متحركة فتتحرك لسبب من هذه الأسباب فهذه أسباب لتحرك المادة لا أنها هي الموجبة لهذا العارض .

فصل [أنفع الأمكنة والأزمنة للقيء والإسهال ]
ولما كانت الأخلاط في البلاد الحارة والأزمنة الحارة ترق وتنجذب إلى فوق كان القيء فيها أنفع . ولما كانت في الأزمنة الباردة والبلاد الباردة تغلظ ويصعب جذبها إلى فوق كان استفراغها بالإسهال أنفع .

[ كيفية إزالة الأخلاط ودفعها ]

وإزالة الأخلاط ودفعها تكون بالجذب والاستفراغ والجذب يكون من أبعد الطرق والاستفراغ من أقربها والفرق بينهما أن المادة إذا كانت عاملة في

الانصباب أو الترقي لم تستقر بعد فهي محتاجة إلى الجذب فإن كانت متصاعدة جذبت من أسفل وإن كانت منصبة جذبت من فوق وأما إذا استقرت في موضعها استفرغت من أقرب الطرق إليها فمتى أضرت المادة بالأعضاء العليا اجتذبت من أسفل ومتى أضرت بالأعضاء السفلى اجتذبت من فوق ومتى استقرت استفرغت من أقرب مكان إليها ولهذا احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله تارة وفي رأسه أخرى وعلى ظهر قدمه تارة فكان يستفرغ مادة الدم المؤذي من أقرب مكان إليه . والله أعلم .

فصل [فوائد القيء ]
والقيء ينقي المعدة ويقويها ويحد البصر ويزيل ثقل الرأس وينفع قروح الكلى والمثانة والأمراض المزمنة كالجذام والاستسقاء والفالج والرعشة وينفع اليرقان .

[ وقت القيء ]

[ضرر الإكثار من القيء ]

[ من يجب عليه اجتنابه ]

وينبغي أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين من غير حفظ دور ليتدارك الثاني ما قصر عنه الأول وينقي الفضلات التي انصبت بسببه والإكثار منه يضر المعدة ويجعلها قابلة للفضول ويضر بالأسنان والبصر والسمع وربما صدع عرقا ويجب أن يجتنبه من به ورم في الحلق أو ضعف في الصدر أو دقيق الرقبة أو مستعد لنفث الدم أو عسر الإجابة له .

[ مضار القيء بعد امتلاء المعدة ]

وأما ما يفعله كثير ممن يسيء التدبير وهو أن يمتلئ من الطعام ثم يقذفه ففيه آفات عديدة منها : أنه يعجل الهرم ويوقع في أمراض رديئة ويجعل القيء له عادة . والقيء مع اليبوسة وضعف الأحشاء وهزال المراق . أو ضعف المستقيء خطر ...

[ أفضل أوقاته وكيفيته ]

وأحمد أوقاته الصيف والربيع دون الشتاء والخريف وينبغي عند القيء أن يعصب العينين ويقمط البطن ويغسل الوجه بماء بارد عند الفراغ وأن يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مصطكى وماء الورد ينفعه نفعا بينا .

[الفرق بين القيء والاستفراغ ]

والقيء يستفرغ من أعلى المعدة ويجذب من أسفل والإسهال بالعكس قال أبقراط وينبغي أن يكون الاستفراغ في الصيف من فوق أكثر من الاستفراغ بالدواء وفي الشتاء من أسفل .


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في تضمين من طب الناس وهو جاهل بالطب
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن

هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أمور أمر لغوي وأمر فقهي وأمر طبي .

[معنى الطب لغة ]

فأما اللغوي فالطب بكسر الطاء في لغة العرب يقال على معان . منها الإصلاح يقال طببته إذا أصلحته . ويقال له طب بالأمور . أي لطف وسياسة . قال الشاعر

وإذا تغير من تميم أمرها

كنت الطبيب لها برأي ثاقب


ومنها : الحذق . قال الجوهري : كل حاذق طبيب عند العرب قال أبو عبيد : أصل الطب : الحذق بالأشياء والمهارة بها . يقال للرجل طب وطبيب إذا كان كذلك وإن كان في غير علاج المريض . وقال غيره رجل طبيب أي حاذق سمي طبيبا لحذقه وفطنته . قال علقمة

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله

فليس له من ودهن نصيب


وقال عنترة :

إن تغد في دوني القناع فإنني

طب بأخذ الفارس المستلئم


أي إن ترخي عني قناعك وتستري وجهك رغبة عني فإني خبير حاذق بأخذ الفارس الذي قد لبس لأمة حربه . ومنها : العادة يقال ليس ذاك بطبي أي عادتي قال فروة بن مسيك :

فما إن طبنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا


وقال أحمد بن الحسين المتنبي :

وما التيه طبي فيهم غير أنني

بغيض إلي الجاهل المتعاقل


ومنها : السحر يقال رجل مطبوب أي مسحور وفي " الصحيح " في حديث عائشة لما سحرت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس الملكان عند رأسه وعند رجليه فقال أحدهما : ما بال الرجل ؟ قال الآخر مطبوب . قال من طبه ؟ قال فلان اليهودي .

قال أبو عبيد : إنما قالوا للمسحور مطبوب لأنهم كنوا بالطب عن السحر كما كنوا عن اللديغ فقالوا : سليم تفاؤلا بالسلامة وكما كنوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها فقالوا : مفازة تفاؤلا بالفوز من الهلاك . ويقال الطب لنفس الداء . قال ابن أبي الأسلت :

ألا من مبلغ حسا ن عني

أسحر كان طبك أم جنون


وأما قول الحماسي :

فإن كنت مطبوبا فلا زلت هكذا

وإن كنت مسحورا فلا برئ السحر


فإنه أراد بالمطبوب الذي قد سحر وأراد بالمسحور العليل بالمرض . قال الجوهري : ويقال للعليل مسحور . وأنشد البيت . ومعناه إن كان هذا الذي قد عراني منك ومن حبك أسأل الله دوامه ولا أريد زواله سواء كان سحرا أو مرضا .

والطب : مثلث الطاء فالمفتوح الطاء هو العالم بالأمور وكذلك الطبيب يقال له طب أيضا . والطب : بكسر الطاء فعل الطبيب والطب بضم الطاء اسم موضع قاله ابن السيد وأنشد

فقلت هل انهلتم بطب ركابكم

بجائزة الماء التي طاب طينها


وقوله صلى الله عليه وسلم من تطبب ولم يقل من طب لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسر وكلفة وأنه ليس من أهله كتحلم وتشجع وتصبر ونظائرها وكذلك بنوا تكلف على هذا الوزن قال الشاعر

وقيس عيلان ومن تقيسا


[إيجاب الضمان على الطبيب الجاهل ]

وأما الأمر الشرعي فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل فإذا تعاطى علم الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك وهذا إجماع من أهل العلم . قال الخطابي : لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعد فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض وجناية المتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقلته .

[ أقسام الأطباء من جهة إتلاف الأعضاء وذكر القسم الأول ]

قلت : الأقسام خمسة أحدها : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة فهذا لا ضمان عليه اتفاقا فإنها سراية مأذون فيه وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت وسنه قابل للختان وأعطى الصنعة حقها فتلف العضو أو الصبي لم يضمن وكذلك إذا بط من عاقل أو غيره ما ينبغي بطه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به لم يضمن وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها كسراية الحد بالاتفاق .

وسراية القصاص عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة في إيجابه الضمان بها وسراية التعزير وضرب الرجل امرأته والمعلم الصبي والمستأجر الدابة خلافا لأبي حنيفة والشافعي في إيجابهما الضمان في ذلك واستثنى الشافعي ضرب الدابة . وقاعدة الباب إجماعا ونزاعا : أن سراية الجناية مضمونة بالاتفاق وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق وما بينهما ففيه النزاع .

فأبو حنيفة أوجب ضمانه مطلقا وأحمد ومالك أهدرا ضمانه وفرق الشافعي بين المقدر فأهدر ضمانه وبين غير المقدر فأوجب ضمانه . فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطا بالسلامة وأحمد ومالك نظرا إلى أن الإذن أسقط الضمان والشافعي نظر إلى أن المقدر لا يمكن النقصان منه فهو بمنزلة النص وأما غير المقدر كالتعزيرات والتأديبات فاجتهادية فإذا تلف بها ضمن لأنه في مظنة العدوان .

فصل [ القسم الثاني ]

القسم الثاني : مطبب جاهل باشرت يده من يطبه فتلف به فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له وأذن له في طبه لم يضمن ولا تخالف هذه الصورة ظاهر الحديث فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غر العليل وأوهمه أنه طبيب وليس كذلك وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يده وكذلك إن وصف له دواء يستعمله والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به ضمنه والحديث ظاهر فيه أو صريح .

فصل [ القسم الثالث ]

القسم الثالث طبيب حاذق أذن له وأعطى الصنعة حقها لكنه أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة فهذا يضمن لأنها جناية خطأ ثم إن كانت الثلث فما زاد فهو على عاقلته فإن لم تكن عاقلة فهل تكون الدية في ماله أو في بيت المال ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد . وقيل إن كان الطبيب ذميا ففي ماله وإن كان مسلما ففيه الروايتان فإن لم يكن بيت مال أو تعذر تحميله فهل تسقط الدية أو تجب في مال الجاني ؟ فيه وجهان أشهرهما : سقوطها .

فصل [القسم الرابع ]

القسم الرابع الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله فهذا يخرج على روايتين إحداهما : أن دية المريض في بيت المال . والثانية أنها على عاقلة الطبيب وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطأ الإمام والحاكم .

فصل [ القسم الخامس ]

القسم الخامس طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع سلعة من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه أو ختن صبيا بغير إذن وليه فتلف فقال أصحابنا : يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه وإن أذن له البالغ أو ولي الصبي والمجنون لم يضمن ويحتمل أن لا يضمن مطلقا لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل . وأيضا فإنه إن كان متعديا فلا أثر لإذن الولي في إسقاط الضمان وإن لم يكن متعديا فلا وجه لضمانه . فإن قلت : هو متعد عند عدم الإذن غير متعد عند الإذن قلت : العدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو فلا أثر للإذن وعدمه فيه وهذا موضع نظر .

فصل أقسام الأطباء المذكورة سابقا تتناول الطب عملا أو قولا إنسانا أو حيوانا واسم كل منهم
والطبيب في هذا الحديث يتناول من يطب بوصفه وقوله وهو الذي يخص باسم الطبائعي وبمروده وهو الكحال وبمبضعه ومراهمه وهو الجرائحي وبموساه وهو الخاتن وبريشته وهو الفاصد وبمحاجمه ومشرطه وهو الحجام وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجبر وبمكواته وناره وهو الكواء وبقربته وهو الحاقن وسواء كان طبه لحيوان بهيم أو إنسان فاسم الطبيب يطلق لغة على هؤلاء كلهم كما تقدم وتخصيص الناس له ببعض أنواع الأطباء عرف حادث كتخصيص لفظ الدابة بما يخصها به كل قوم .

فصل [ ما يراعيه الطبيب الحاذق من الأمور ]
والطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمرا :

أحدها : النظر في نوع المرض من أي الأمراض هو ؟

الثاني : النظر في سببه من أي شيء حدث والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه ما هي ؟ .

الثالث قوة المريض وهل هي مقاومة للمرض أو أضعف منه ؟ فإن كانت مقاومة للمرض مستظهرة عليه تركها والمرض ولم يحرك بالدواء ساكنا .

الرابع مزاج البدن الطبيعي ما هو ؟

الخامس المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي .

السادس سن المريض .

السابع عادته .

الثامن الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به .

التاسع بلد المريض وتربته .

العاشر حال الهواء في وقت المرض .

الحادي عشر النظر في الدواء المضاد لتلك العلة .

الثاني عشر النظر في قوة الدواء ودرجته والموازنة بينها وبين قوة المريض .

[ أن يكون قصده إزالة العلة على وجه يأمن معه حدوث أصعب منها ]

الثالث عشر ألا يكون كل قصده إزالة تلك العلة فقط بل إزالتها على وجه يأمن معه حدوث أصعب منها فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث علة أخرى أصعب منها أبقاها على حالها وتلطيفها هو الواجب وهذا كمرض أفواه العروق فإنه متى عولج بقطعه وحبسه خيف حدوث ما هو أصعب منه .

[ أن يعالج بالأسهل فالأسهل ]

الرابع عشر أن يعالج بالأسهل فالأسهل فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذره ولا ينتقل إلى الدواء المركب إلا عند تعذر الدواء البسيط فمن حذق الطبيب علاجه بالأغذية بدل الأدوية وبالأدوية البسيطة بدل المركبة .

الخامس عشر أن ينظر في العلة هل هي مما يمكن علاجها أو لا ؟ فإن لم يمكن علاجها حفظ صناعته وحرمته ولا يحمله الطمع على علاج لا يفيد شيئا . وإن أمكن علاجها نظر هل يمكن زوالها أم لا ؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالها نظر هل يمكن تخفيفها وتقليلها أم لا ؟ فإن لم يكن تقليلها ورأى أن غاية الإمكان إيقافها وقطع زيادتها قصد بالعلاج ذلك وأعان القوة وأضعف المادة .

السادس عشر ألا يتعرض للخلط قبل نضجه باستفراغ بل يقصد إنضاجه فإذا تم نضجه بادر إلى استفراغه .

[ أن يكون له خبرة باعتلال القلوب ]

السابع عشر أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود والطبيب إذا كان عارفا بأمراض القلب والروح وعلاجهما كان هو الطبيب الكامل والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقا في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب . وكل طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه وصلاحه وتقوية روحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والإحسان والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب بل متطبب قاصر . ومن أعظم علاجات المرض فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع والابتهال إلى الله والتوبة ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها وعقيدتها في ذلك ونفعه .

الثامن عشر التلطف بالمريض والرفق به كالتلطف بالصبي .

التاسع عشر أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية والعلاج بالتخييل فإن لحذاق الأطباء في التخييل أمورا عجيبة لا يصل إليها الدواء فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل معين .

العشرون - وهو ملاك أمر الطبيب - أن يجعل علاجه وتدبيره دائرا على ستة أركان حفظ الصحة الموجودة ورد الصحة المفقودة بحسب الإمكان وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج وكل طبيب لا تكون هذه أخيته التي يرجع إليها فليس بطبيب والله أعلم .

فصل [مراعاة الطبيب لأحوال المرض ]
ولما كان للمرض أربعة أحوال ابتداء وصعود وانتهاء وانحطاط تعين على الطبيب مراعاة كل حال من أحوال المرض بما يناسبها ويليق بها ويستعمل في كل حال ما يجب استعماله فيها . فإذا رأى في ابتداء المرض أن الطبيعة محتاجة إلى ما يحرك الفضلات ويستفرغها لنضجها بادر إليه فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض لعائق منع من ذلك أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ أو لبرودة الفصل أو لتفريط وقع فينبغي أن يحذر كل الحذر أن يفعل ذلك في صعود المرض لأنه إن فعله تحيرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء وتخلت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية ومثاله أن يجيء إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه فيشغله عنه بأمر آخر ولكن الواجب في هذه الحال أن يعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه .

فإذا انتهى المرض ووقف وسكن أخذ في استفراغه واستئصال أسبابه فإذا أخذ في الانحطاط كان أولى بذلك . ومثال هذا مثال العدو إذا انتهت قوته وفرغ سلاحه كان أخذه سهلا فإذا ولى وأخذ في الهرب كان أسهل أخذا وحدته وشوكته إنما هي في ابتدائه وحال استفراغه وسعة قوته فهكذا الداء والدواء سواء .

فصل [ من حذق الطبيب التدبير بالأسهل ]

ومن حذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل فلا يعدل إلى الأصعب ويتدرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فوت القوة حينئذ فيجب أن يبتدئ بالأقوى ولا يقيم في المعالجة على حال واحدة فتألفها الطبيعة ويقل انفعالها عنه ولا تجسر على الأدوية القوية في الفصول القوية وقد تقدم أنه إذا أمكنه العلاج بالغذاء فلا يعالج بالدواء وإذا أشكل عليه المرض أحار هو أم بارد ؟ فلا يقدم حتى يتبين له ولا يجربه بما يخاف عاقبته ولا بأس بتجربته بما لا يضر أثره .

[ما يفعله الطبيب إذا اجتمعت أمراض ]

وإذا اجتمعت أمراض بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال

إحداها : أن يكون برء الآخر موقوفا على برئه كالورم والقرحة فإنه يبدأ بالورم .

الثانية أن يكون أحدها سببا للآخر كالسدة والحمى العفنة فإنه يبدأ بإزالة السبب .

الثالثة أن يكون أحدهما أهم من الآخر كالحاد والمزمن فيبدأ بالحاد ومع هذا فلا يغفل عن الآخر .

وإذا اجتمع المرض والعرض بدأ بالمرض إلا أن يكون العرض أقوى كالقولنج فيسكن الوجع أولا ثم يعالج السدة وإذا أمكنه أن يعتاض عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم لم يستفرغه وكل صحة أراد حفظها حفظها بالمثل أو الشبه وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضل منها نقلها بالضد .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في المنع من التداوي بالمحرمات
روى أبو داود في " سننه " من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بالمحرم .

وذكر البخاري في " صحيحه " عن ابن مسعود : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم

وفي " السنن " : عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث

وفي " صحيح مسلم " عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال إنما أصنعها للدواء فقال إنه ليس بدواء ولكنه داء

وفي " السنن " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء فقال " إنها داء وليست بالدواء رواه أبو داود والترمذي . وفي " صحيح مسلم " عن طارق بن سويد الحضرمي قال قلت : يا رسول الله إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها قال " لا " فراجعته قلت إنا نستشفي للمريض قال إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء

وفي " سنن النسائي أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن قتلها

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من تداوى بالخمر فلا شفاه الله

[ بيان قبح المعالجة بالمحرمات عقلا ]

المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلا وشرعا أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها وأما العقل فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبا عقوبة لها كما حرمه على بني إسرائيل بقوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم [ النساء : 160 ] ; وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه وتحريمه له حمية لهم وصيانة عن تناوله فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب . وأيضا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته وهذا ضد مقصود الشارع وأيضا فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة فلا يجوز أن يتخذ دواء .

وأيضا فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالا بينا فإذا كانت كيفيته خبيثة اكتسبت الطبيعة منه خبثا فكيف إذا كان خبيثا في ذاته ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة لما تكسب النفس من هيئة الخبث وصفته .

[التداوي به ذريعة إلى تعاطيه ]

وأيضا فإن في إباحة التداوي به ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها جالب لشفائها فهذا أحب شيء إليها والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله وفتح الذريعة إلى تناوله تناقضا و تعارضا .

وأيضا فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء ولنفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء وكثير من الفقهاء والمتكلمين . قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة ضرر الخمرة بالرأس شديد . لأنه يسرع الارتفاع إليه . ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن وهو كذلك يضر بالذهن .

وقال صاحب " الكامل " : إن خاصية الشراب الإضرار بالدماغ والعصب . وأما غيره من الأدوية المحرمة فنوعان أحدهما : تعافه النفس ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض به كالسموم ولحوم الأفاعي وغيرها من المستقذرات فيبقى كلا على الطبيعة مثقلا لها فيصير حينئذ داء لا دواء .

والثاني : ما لا تعافه النفس كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلا فهذا ضرره أكثر من نفعه والعقل يقضي بتحريم ذلك فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك . وها هنا سر لطيف في كون المحرمات لا يستشفى بها فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء فإن النافع هو المبارك وأنفع الأشياء أبركها والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حل ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها وتلقي طبعه لها بالقبول بل كلما كان العبد أعظم إيمانا كان أكره لها وأسوأ اعتقادا فيها وطبعه أكره شيء لها فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة وهذا ينافي الإيمان فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء والله أعلم .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج القمل الذي في الرأس وإزالته
في " الصحيحين " عن كعب بن عجرة قال كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما أرى وفي رواية فأمره أن يحلق رأسه وأن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام

القمل يتولد في الرأس والبدن من شيئين خارج عن البدن وداخل فيه فالخارج الوسخ والدنس المتراكم في سطح الجسد والثاني من خلط رديء عفن تدفعه الطبيعة بين الجلد واللحم فيتعفن بالرطوبة الدموية في البشرة بعد خروجها من المسام فيكون منه القمل وأكثر ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام وبسبب الأوساخ وإنما كان في رءوس الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الأسباب التي تولد القمل ولذلك حلق النبي صلى الله عليه وسلم رءوس بني جعفر .

[علاجه بالحلق ثم بالطلي بالأدوية ]

ومن أكبر علاجه حلق الرأس لتنفتح مسام الأبخرة فتتصاعد الأبخرة الرديئة فتضعف مادة الخلط وينبغي أن يطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التي تقتل القمل وتمنع تولده .

[أنواع حلق الرأس ]

وحلق الرأس ثلاثة أنواع أحدها : نسك وقربة . والثاني : بدعة وشرك والثالث حاجة ودواء فالأول الحلق في أحد النسكين الحج أو العمرة . والثاني : حلق الرأس لغير الله سبحانه كما يحلقها المريدون لشيوخهم فيقول أحدهم أنا حلقت رأسي لفلان وأنت حلقته لفلان وهذا بمنزلة أن يقول سجدت لفلان فإن حلق الرأس خضوع وعبودية وذل ولهذا كان من تمام الحج حتى إنه عند الشافعي ركن من أركانه لا يتم إلا به فإنه وضع النواصي بين يدي ربها خضوعا لعظمته وتذللا لعزته وهو من أبلغ أنواع العبودية ولهذا كانت العرب إذا أرادت إذلال الأسير منهم وعتقه حلقوا رأسه وأطلقوه فجاء شيوخ الضلال والمزاحمون للربوبية الذين أساس مشيختهم على الشرك والبدعة فأرادوا من مريديهم أن يتعبدوا لهم فزينوا لهم حلق رءوسهم لهم كما زينوا لهم السجود لهم وسموه بغير اسمه وقالوا : هو وضع الرأس بين يدي الشيخ ولعمر الله إن السجود لله هو وضع الرأس بين يديه سبحانه وزينوا لهم أن ينذروا لهم ويتوبوا لهم ويحلفوا بأسمائهم وهذا هو اتخاذهم أربابا وآلهة من دون الله قال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ آل عمران 79 - 80 ] .

[ التحذير من الركوع والانحناء لغير الله وكذا القيام على رءوس الأكابر وهم جلوس ]

وأشرف العبودية عبودية الصلاة وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها وهو السجود وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع فإذا لقي بعضهم بعضا ركع له كما يركع المصلي لربه سواء وأخذ الجبابرة منهم القيام فيقوم الأحرار والعبيد على رءوسهم عبودية لهم وهم جلوس وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل فتعاطيها . مخالفة صريحة له فنهى عن السجود لغير الله وقال لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد وأنكر على معاذ لما سجد له وقال " مه "

وتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله وهو من أبلغ أنواع العبودية فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر فقد جوز العبودية لغير الله وقد صح أنه قيل له الرجل يلقى أخاه أينحني له ؟ قال " لا " . قيل أيلتزمه ويقبله قال " لا " . قيل أيصافحه ؟ قال " نعم "

[أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه إذا صلى جالسا أن يصلوا جلوسا
لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس ]

وأيضا : فالانحناء عند التحية سجود ومنه قوله تعالى : وادخلوا الباب سجدا [ البقرة 58 ] أي منحنين وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه وصح عنه النهي عن القيام وهو جالس كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا حتى منع من ذلك في الصلاة وأمرهم إذا صلى جالسا أن يصلوا جلوسا وهم أصحاء لا عذر لهم لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس مع أن قيامهم لله فكيف إذا كان القيام تعظيما وعبودية لغيره سبحانه .

والمقصود أن النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه وأشركت فيها من تعظمه من الخلق فسجدت لغير الله وركعت له وقامت بين يديه قيام الصلاة وحلفت بغيره ونذرت لغيره وحلقت لغيره وذبحت لغيره وطافت لغير بيته وعظمته بالحب والخوف والرجاء والطاعة كما يعظم الخالق بل أشد وسوت من تعبده من المخلوقين برب العالمين وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل وهم الذين بربهم يعدلون وهم الذين يقولون - وهم في النار مع آلهتهم يختصمون - تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ الشعراء 98 ] . وهم الذين قال فيهم ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [ البقرة 165 ] وهذا كله من الشرك والله لا يغفر أن يشرك به . فهذا فصل معترض في هديه في حلق الرأس ولعله أهم مما قصد الكلام فيه والله الموفق .

يتبع

اخت مسلمة
04-09-2009, 11:13 PM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة والمركبة منها ومن الأدوية الطبيعية
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعين
روى مسلم في " صحيحه " عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين
وفي " صحيحه " أيضا عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العين حق
وفي سنن أبي داود " عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين
وفي " الصحيحين " عن عائشة قالت أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر أن نسترقي من العين

وذكر الترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم ؟ فقال " نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وروى مالك رحمه الله عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة قال فلبط سهل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا فتغيظ عليه وقال " علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت اغتسل له " فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب عليه فراح مع الناس

وروى مالك رحمه الله أيضا عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه هذا الحديث وقال فيه إن العين حق توضأ له فتوضأ له

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مرفوعا العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسل أحدكم فليغتسل ووصله صحيح .

قال الزهري : يؤمر الرجل العائن بقدح فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه في القدح ويغسل وجهه في القدح ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى في القدح ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى ثم يغسل داخلة إزاره ولا يوضع القدح في الأرض ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة .

والعين عينان عين إنسية وعين جنية فقد صح عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال استرقوا لها فإن بها النظرة قال الحسين بن مسعود الفراء : وقوله سفعة أي نظرة يعني : من الجن يقول بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح .

ويذكر عن جابر يرفعه إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان

[قول من أبطل الإصابة بالعين ]

فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين وقالوا : إنما ذلك أوهام لا حقيقة له وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ومن أغلظهم حجابا وأكثفهم طباعا وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس . وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره وإن اختلفوا في سبب وجهة تأثير العين .

فقالت طائفة إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيتضرر . قالوا : ولا يستنكر هذا كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان فيهلك وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك فكذلك العائن .

وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية فتتصل بالمعين وتتخلل مسام جسمه فيحصل له الضرر .

وقالت فرقة أخرى : قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلا وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب وخالفوا العقلاء أجمعين .

[الرد على من أنكر الإصابة بالعين ]

ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام فإنه أمر مشاهد محسوس وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف قواه وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها وليست هي الفاعلة وإنما التأثير للروح والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينا

ولهذا أمر الله - سبحانه - رسوله أن يستعيذ به من شره وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية وهو أصل الإصابة بالعين فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة وتقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية وأشبه الأشياء بهذا الأفعى فإن السم كامن فيها بالقوة فإذا قابلت عدوها انبعثت منها قوة غضبية وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ومنها ما تؤثر في طمس البصر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات إنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبل

[الحاسد أعم من العائن ]

ومنها ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك النفس وكيفيتها الخبيثة المؤثرة والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة بل التأثير يكون تارة بالاتصال وتارة بالمقابلة وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات وتارة بالوهم والتخيل ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية وقد قال تعالى لنبيه وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر [ القلم 51 ] . وقال قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد فكل عائن حاسد وليس كل حاسد عائنا فلما كان الحاسد أعم من العائن كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه ولا بد وإن صادفته حذرا شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه وربما ردت السهام على صاحبها وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء فهذا من النفوس والأرواح وذاك من الأجسام والأشباح .

وأصله من إعجاب العائن بالشيء ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين وقد يعين الرجل نفسه وقد يعين بغير إرادته بل بطبعه وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء إن من عرف بذلك حبسه الإمام وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت وهذا هو الصواب قطعا .



فصل [علاج المعيون بالتعوذات والرقى ]
والمقصود العلاج النبوي لهذه العلة وهو أنواع وقد روى أبو داود في " سننه " عن سهل بن حنيف قال مررنا بسيل فدخلت فاغتسلت فيه فخرجت محموما فنمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مروا أبا ثابت يتعوذ قال فقلت : يا سيدي والرقى صالحة ؟ فقال لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة

والنفس العين يقال أصابت فلانا نفس أي عين . والنافس العائن . واللدغة - بدال مهملة وغين معجمة - وهي ضربة العقرب ونحوها .

[عبارات من التعوذات النبوية ]

فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي ومنها التعوذات النبوية .

نحو أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق

ونحو أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة

ونحو أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن

ومنها : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون

ومنها : اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم اللهم إنه لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك سبحانك وبحمدك

ومنها : أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته إن ربي على صراط مستقيم

ومنها : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا حول ولا قوة إلا بالله أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيءعددا اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم

وإن شاء قال تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شيء واعتصمت بربي ورب كل شيء وتوكلت على الحي الذي لا يموت واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الرب من العباد حسبي الخالق من المخلوق حسبي الرازق من المرزوق حسبي الذي هو حسبي حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله مرمى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم

ومن جرب هذه الدعوات والعوذ عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة إليها وهي تمنع وصول أثر العائن وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها وقوة نفسه واستعداده وقوة توكله وثبات قلبه فإنها سلاح والسلاح بضاربه .

فصل [ما يقوله العائن خشية من ضرر عينه ]
وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين فليدفع شرها بقوله اللهم بارك عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف " ألا بركت " أي قلت اللهم بارك عليه

ومما يدفع به إصابة العين قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال ما شاء الله لا قوة إلا بالله .

[الرقية للمعين ]

ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في " صحيحه " باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك

[كتابة الآيات ثم شربها ]

ورأى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن ثم يشربها . قال مجاهد : لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض ومثله عن أبي قلابة . ويذكر عن ابن عباس : أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن ثم يغسل وتسقى وقال أيوب رأيت أبا قلابة كتب كتابا من القرآن ثم غسله بماء وسقاه رجلا كان به وجع

فصل [استغسال العائن للمعين ]
[الرد على من أنكره من الأطباء ]

ومنها : أن يؤمر العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره وفيه قولان . أحدهما : أنه فرجه . والثاني : أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن ثم يصب على رأس المعين من خلفه بغتة وهذا مما لا يناله علاج الأطباء ولا ينتفع به من أنكره أو سخر منه أو شك فيه أو فعله مجربا لا يعتقد أن ذلك ينفعه .

[حكمة الاستغسال ]

وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها ألبتة بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصية فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية هذا مع أن في المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة وتقر لمناسبته فاعلم أن ترياق سم الحية في لحمها وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها وإطفاء ناره بوضع يدك عليه والمسح عليه وتسكين غضبه وذلك بمنزلة رجل معه شعلة من نار وقد أراد أن يقذفك بها فصببت عليها الماء وهي في يده حتى طفئت ولذلك أمر العائن أن يقول اللهم بارك عليه ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذي هو إحسان إلى المعين فإن دواء الشيء بضده . ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لأنها تطلب النفوذ فلا تجد أرق من المغابن وداخلة الإزار ولا سيما إن كان كناية عن الفرج فإذا غسلت بالماء بطل تأثيرها وعملها وأيضا فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص .

والمقصود أن غسلها بالماء يطفئ تلك النارية ويذهب بتلك السمية .

وفيه أمر آخر وهو وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها تنفيذا فيطفئ تلك النارية والسمية بالماء فيشفى المعين وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها خف أثر اللسعة عن الملسوع ووجد راحة فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها وتوصله إلى الملسوع . فإذا قتلت خف الألم وهذا مشاهد . وإن كان من أسبابه فرح الملسوع واشتفاء نفسه بقتل عدوه فتقوى الطبيعة على الألم فتدفعه .

وبالجملة غسل العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك الكيفية .

[حكمة صب ماء الاستغسال على المعين ]

فإن قيل فقد ظهرت مناسبة الغسل فما مناسبة صب ذلك الماء على المعين ؟ قيل هو في غاية المناسبة فإن ذلك الماء ماء طفئ به تلك النارية وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل فكما طفئت به النارية القائمة بالفاعل طفئت به وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائن والماء الذي يطفأ به الحديد يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء فهذا الذي طفئ به نارية العائن لا يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الداء . وبالجملة فطب الطبائعية وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم بل أقل فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية بما لا يدرك الإنسان مقداره فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة والشرع وعدم مناقضة أحدهما للآخر والله يهدي من يشاء إلى الصواب ويفتح لمن أدام قرع باب التوفيق منه كل باب وله النعمة السابغة والحجة البالغة .

فصل [ للاحتراز من الإصابة بالعين ستر محاسن من يخاف عليه العين ]
ومن علاج ذلك أيضا والاحتراز منه ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه كما ذكر البغوي في كتاب " شرح السنة " : أن عثمان رضي الله عنه رأى صبيا مليحا فقال دسموا نونته لئلا تصيبه العين ثم قال في تفسيره ومعنى : دسموا نونته أي سودوا نونته والنونة النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير .

وقال الخطابي في " غريب الحديث " له عن عثمان : إنه رأى صبيا تأخذه العين فقال دسموا نونته فقال أبو عمرو : سألت أحمد بن يحيى عنه فقال أراد بالنونة النقرة التي في ذقنه . والتدسيم التسويد . أراد سودوا ذلك الموضع من ذقنه ليرد العين . قال ومن هذا حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم وعلى رأسه عمامة دسماء أي سوداء . أراد الاستشهاد على اللفظة ومن هذا أخذ الشاعر قوله

ما كان أحوج ذا الكمال إلى

عيب يوقيه من العين


فصل [ذكر رقية ترد العين ]
ومن الرقى التي ترد العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة وكان في الرفقة رجل عائن قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه فقيل لأبي عبد الله : احفظ ناقتك من العائن فقال ليس له إلى ناقتي سبيل فأخبر العائن بقوله فتحين غيبة أبي عبد الله فجاء إلى رحله فنظر إلى الناقة فاضطربت وسقطت فجاء أبو عبد الله فأخبر أن العائن قد عانها وهي كما ترى فقال دلوني عليه فدل فوقف عليه وقال بسم الله حبس حابس وحجر يابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ الملك 43 ] فخرجت حدقتا العائن وقامت الناقة لا بأس بها .

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
روى أبو داود في " سننه " : من حديث أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ بإذن الله .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي سعيد الخدري أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد اشتكيت ؟ فقال " نعم " فقال جبريل - عليه السلام - باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك .

فإن قيل فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود : لا رقية إلا من عين أو حمة والحمة ذوات السموم كلها .

[التوفيق بين جواز الرقية لكل شكوى وبين " لا رقية إلا من عين أو حمة "]

فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد به نفي جواز الرقية في غيرها بل المراد به لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة ويدل عليه سياق الحديث فإن سهل بن حنيف قال له لما أصابته العين أو في الرقى خير ؟ فقال لا رقية إلا في نفس أو حمة ويدل عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة وقد روى أبو داود من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم يرقأ

وفي " صحيح مسلم " عنه أيضا : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي سعيد الخدري قال ا نطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا : يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحد منكم من شيء ؟ فقال بعضهم نعم والله إني لأرقي ولكن استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما أنشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة قال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم اقتسموا فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك فقال " وما يدريك أنها رقية ؟ " ثم قال قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهما

وقد روى ابن ماجه في " سننه " من حديث علي قال قال رسول الله خير الدواء القرآن

[فائدة الرقية بالقرآن وبخاصة فاتحة الكتاب ]

ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة فما الظن بكلام رب العالمين الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام والعصمة النافعة والنور الهادي والرحمة العامة الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته . قال تعالى : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [ الإسراء : 82 ] و " من " ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض هذا أصح القولين كقوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما [ الفتح 29 ] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها المتضمنة لجميع معاني كتب الله المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجامعها و هي الله والرب والرحمن وإثبات المعاد وذكر التوحيدين

توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية وتخصيصه سبحانه بذلك وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه وما العباد أحوج شيء إليه وهو الهداية إلى صراطه المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته - بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والاستقامة عليه إلى الممات ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق والعمل به ومحبته وإيثاره ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له وضال بعدم معرفته له .

وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر والشرع والأسماء والصفات والمعاد والنبوات وتزكية النفوس وإصلاح القلوب وذكر عدل الله وإحسانه والرد على جميع أهل البدع والباطل كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير " مدارج السالكين " في شرحها . وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من الأدواء ويرقى بها اللديغ .

وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله وتفويض الأمر كله إليه والاستعانة به والتوكل عليه وسؤاله مجامع النعم كلها وهي الهداية التي تجلب النعم وتدفع النقم من أعظم الأدوية الشافية الكافية .

[ قراءة المصنف الفاتحة على ماء زمزم وذلك عند سقمه في مكة]

وقد قيل إن موضع الرقية منها : إياك نعبد وإياك نستعين ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل والالتجاء والاستعانة والافتقار والطلب والجمع بين أعلى الغايات وهي عبادة الرب وحده وأشرف الوسائل وهي الاستعانة به على عبادته ما ليس في غيرها ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه وفقدت الطبيب والدواء فكنت أتعالج بها آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤها عليها مرارا ثم أشربه فوجدت بذلك البرء التام ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الانتفاع .

فصل [نفس الراقي تفعل في نفس المرقي فتدفع عنه المرض بإذن الله ]
وفي تأثير الرقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سر بديع فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات نفوسها الخبيثة كما تقدم وسلاحها حماتها التي تلدغ بها وهي لا تلدغ حتى تغضب فإذا غضبت ثار فيها السم فتقذفه بآلتها وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء ولكل شيء ضدا ونفس الراقي تفعل في نفس المرقي فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال كما يقع بين الداء والدواء فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء فيدفعه بإذن الله ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين يقع بين الداء والدواء الروحانيين والروحاني والطبيعي وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشر للرقية والذكر والدعاء فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنفس كانت أتم تأثيرا وأقوى فعلا ونفوذا ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية .

[النفث له تأثير في دفع المرض ]

وبالجملة فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة وتزيد بكيفية نفسه وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى كانت الرقية أتم واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها .

وفي النفث سر آخر فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان .

قال تعالى : ومن شر النفاثات في العقد وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة وترسل أنفاسها سهاما لها وتمدها بالنفث والتفل الذي معه شيء من الريق مصاحب لكيفية مؤثرة والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة وإن لم تتصل بجسم المسحور بل تنفث على العقدة وتعقدها وتتكلم بالسحر فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرقية وتستعين بالنفث فأيهما قوي كان الحكم له ومقابلة الأرواح بعضها لبعض ومحاربتها وآلتها من جنس مقابلة الأجسام ومحاربتها وآلتها سواء بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها ولكن من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحس عليه وبعده من عالم الأرواح وأحكامها وأفعالها .

والمقصود أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة واستعانت بالنفث والتفل قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة فأزالته والله أعلم .


افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج لدغة العقرب بالرقية
روى ابن أبي شيبة في " مسنده " من حديث عبد الله بن مسعود قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في أصبعه فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره قال ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حتى سكنت


[ ما لسورة الإخلاص من الفائدة في علاج اللدغة ]

ففي هذا الحديث العلاج بالدواء المركب من الأمرين الطبيعي والإلهي فإن في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي وإثبات الأحدية لله المستلزمة نفي كل شركة عنه وإثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها أي تقصده الخليقة وتتوجه إليه علويها وسفليها ونفي الوالد والولد والكفء عنه المتضمن لنفي الأصل والفرع والنظير والمماثل مما اختصت به وصارت تعدل ثلث القرآن ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال وفي نفي الكفء التنزيه عن الشبيه والمثال . وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد .

[ ما للمعوذتين من الفائدة في علاج اللدغة ]

وفي المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا فإن الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه سواء كان في الأجسام أو الأرواح والاستعاذة من شر الغاسق وهو الليل وآيته وهو القمر إذا غاب تتضمن الاستعاذة من شر ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها وبين الانتشار فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر انتشرت وعاثت .

والاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن . والاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الاستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها . والسورة الثانية تتضمن الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كل شر ولهما شأن عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر بقراءتهما عقب كل صلاة ذكره الترمذي في " جامعه " صلى الله عليه وسلم وفي هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة . وقال ما تعوذ المتعوذون بمثلهما . وقد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم سحر في إحدى عشرة عقدة وأن جبريل نزل عليه بهما فجعل كلما قرأ آية منهما انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها وكأنما أنشط من عقال .

[ الفائدة في الملح في علاج اللدغة ]

وأما العلاج الطبيعي فيه فإن في الملح نفعا لكثير من السموم ولا سيما لدغة العقرب قال صاحب " القانون " : يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب وذكره غيره أيضا . وفي الملح من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة والملح الذي فيه جذب وإخراج وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج والله أعلم .

وقد روى مسلم في " صحيحه " عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال " أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك

واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يقع وقوعا مضرا وإن كان مؤذيا والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء فالتعوذات والأذكار إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة ولإزالة المرض أما الأول فكما في " الصحيحين " من حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه قل هو الله أحد والمعوذتين . ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يده من جسده

وكما في حديث عوذة أبي الدرداء المرفوع اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم وقد تقدم وفيه من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح . وكما في " الصحيحين " : من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وكما في " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك

وكما في " سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في السفر يقول بالليل " يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يدب عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد وأما الثاني : فكما تقدم من الرقية بالفاتحة والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي .

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية النملة
قد تقدم من حديث أنس الذي في " صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة

وفي " سنن أبي داود عن الشفاء بنت عبد الله دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال " ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة

النملة قروح تخرج في الجنبين وهو داء معروف وسمي نملة لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه وأصنافها ثلاثة قال ابن قتيبة وغيره كان المجوس يزعمون أن ولد الرجل من أخته إذا خط على النملة شفى صاحبها ومنه قول الشاعر

ولا عيب فينا غير عرف لمعشر

كرام وأنا لا نخط على النمل


وروى الخلال أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقي في الجاهلية من النملة فلما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت قد بايعته بمكة قالت يا رسول الله إني كنت أرقي في الجاهلية من النملة وإني أريد أن أعرضها عليك فعرضت عليه فقالت بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها ولا تضر أحدا اللهم اكشف البأس رب الناس قال ترقي بها على عود سبع مرات وتقصد مكانا نظيفا

[ جواز تعليم النساء الكتابة ]

وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق وتطليه على النملة . وفي الحديث دليل على جواز تعليم النساء الكتابة .


افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية الحية
قد تقدم قوله لا رقية إلا في عين أو حمة الحمة بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها . وفي " سنن ابن ماجه " من حديث عائشة : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من الحية والعقرب .

ويذكر عن ابن شهاب الزهري قال لدغ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حية فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هل من راق ؟ " فقالوا : يا رسول الله إن آل حزم كانوا يرقون رقية الحية فلما نهيت عن الرقى تركوها فقال " ادعوا عمارة بن حزم " فدعوه فعرض عليه رقاه فقال " لا بأس بها " فأذن له فيها فرقاه


فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية القرحة والجرح
أخرجا في " الصحيحين " عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال بأصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها وقال " بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا

[ علة استعمال التراب في هذه الرقية ]

هذا من العلاج الميسر النافع المركب وهي معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض وقد علم أن طبيعة التراب الخالص باردة يابسة مجففة لرطوبات القروح والجراحات التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها وسرعة اندمالها لا سيما في البلاد الحارة وأصحاب الأمزجة الحارة فإن القروح والجراحات يتبعها في أكثر الأمر سوء مزاج حار فيجتمع حرارة البلد والمزاج والجراح وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة فتقابل برودة التراب حرارة المرض لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف ويتبعها أيضا كثرة الرطوبات الرديئة والسيلان والتراب مجفف لها مزيل لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها ويحصل به - مع ذلك - تعديل مزاج العضو العليل ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة ودفعت عنه الألم بإذن الله .

[ كيفية استعمال هذه الرقية ]

ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الجرح ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله وتفويض الأمر إليه والتوكل عليه فينضم أحد العلاجين إلى الآخر فيقوى التأثير .

[ هل المقصود باستعمال التراب تربة جميع الأرض أو أرض المدينة ]

وهل المراد بقوله " تربة أرضنا " جميع الأرض أو أرض المدينة خاصة ؟ فيه قولان ولا ريب أن من التربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواء كثيرة ويشفي به أسقاما رديئة .

قال جالينوس : رأيت بالإسكندرية مطحولين ومستسقين كثيرا يستعملون طين مصر ويطلون به على سوقهم وأفخاذهم وسواعدهم وظهورهم وأضلاعهم فينتفعون به منفعة بينة .

قال وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهلة الرخوة قال وإني لأعرف قوما ترهلت أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم من أسفل انتفعوا بهذا الطين نفعا بينا وقوما آخرين شفوا به أوجاعا مزمنة كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكنا شديدا فبرأت وذهبت أصلا . وقال صاحب الكتاب المسيحي قوة الطين المجلوب من كنوس - وهي جزيرة المصطكى - قوة تجلو وتغسل وتنبت اللحم في القروح وتختم القروح . انتهى .

وإذا كان هذا في هذه التربات فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها وقد خالطت ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقارنت رقيته باسم ربه وتفويض الأمر إليه وقد تقدم أن قوى الرقية وتأثيرها بحسب الراقي وانفعال المرقي عن رقيته وهذا أمر لا ينكره طبيب فاضل عاقل مسلم فإن انتفى أحد الأوصاف فليقل ما شاء .


افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الوجع بالرقية
روى مسلم في " صحيحه " عن عثمان بن أبي العاص أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ففي هذا العلاج من ذكر الله والتفويض إليه والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يذهب به وتكراره ليكون أنجع وأبلغ كتكرار الدواء لأخراج المادة وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها وفي " الصحيحين " : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول " اللهم رب الناس أذهب الباس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ففي هذه الرقية توسل إلى الله بكمال ربوبيته وكمال رحمته بالشفاء وأنه وحده الشافي وأنه لا شفاء إلا شفاؤه فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ البقرة 155 ] . وفي " المسند " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجاره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها

[ إذا تحقق العبد بأنه لله وأن مصيره إليه تسلى عن مصيبته ]

وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته .

أحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة وقد جعله عند العبد عارية فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير وأيضا فإنه محفوف بعدمين عدم قبله وعدم بعده وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير وأيضا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه حتى يكون ملكه حقيقة ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقي عليه وجوده فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي لا تصرف الملاك ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي .

والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ويجيء ربه فردا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ولكن بالحسنات والسيئات فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه . قال تعالى : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [ الحديد 22 ] .

[ ذكر بعض العلاجات منها النظر إلى ما أبقى الله عليه من النعم ]

ومن علاجه أن ينظر إلى ما أصيب به فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه وادخر له - إن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي .

[ التأسي بأهل المصائب وذكر قصص في ذلك ]

ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة ؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا منعت طويلا وما ملأت دارا خيرة إلا ملأتها عبرة ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور قال ابن مسعود - رضي الله عنه - لكل فرحة ترحة وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا وقال ابن سيرين : ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء

وقالت هند بنت النعمان : لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس وأنه حق على الله ألا يملأ دارا خيرة إلا ملأها عبرة .

وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا

وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما وهي في عزها فقيل لها : ما يبكيك لعل أحدا آذاك ؟ قالت لا ولكن رأيت غضارة في أهلي وقلما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا .

قال إسحاق بن طلحة : دخلت عليها يوما فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك ؟ فقالت ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه الأمس إنا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة وأن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ثم قالت

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

فأف لدنيا لا يدوم نعيمها

تقلب تارات بنا وتصرف



[ الجزع يضاعف المرض ]

ومن علاجها أن يعلم أن الجزع لا يردها بل يضاعفها وهو في الحقيقة من تزايد المرض .

[ فوت ثواب الصبر أعظم من المصيبة ]

ومن علاجها أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة .

[ الجزع يشمت الأعداء ]

ومن علاجها أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ويسوء صديقه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئا وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه فهذا هو الثبات والكمال الأعظم لا لطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بالويل والثبور والسخط على المقدور .

[ لذة الصبر ومنها بيت الحمد ]
ومن علاجها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه فلينظر أي المصيبتين أعظم ؟ : مصيبة العاجلة أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد . وفي الترمذي مرفوعا : يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء

وقال بعض السلف لولا مصائب الدنيا لوردنا القيام مفاليس .

[ ترويح القلب برجاء الخلف من الله ]

ومن علاجها : أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله فإنه من كل شيء عوض إلا الله فما منه عوض كما قيل

من كل شيء إذا ضيعته عوض

وما من الله إن ضيعته عوض


[ الحظ من المصيبة ما تحدثه له ]

ومن علاجها : أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط فحظك منها ما أحدثته لك فاختر خير الحظوظ أو شرها فإن أحدثت له سخطا وكفرا كتب في ديوان الهالكين وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو فعل محرم كتب في ديوان المفرطين وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله كتب في ديوان الصابرين وإن أحدثت له الرضى عن الله كتب في ديوان الراضين وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه كتب في ديوان المحبين المخلصين . وفي مسند " الإمام أحمد " والترمذي من حديث محمود بن لبيد يرفعه إن الله إذا أحب قوما ا بتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط زاد أحمد : ومن جزع فله الجزع

ومن علاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته فآخر أمره إلى صبر الاضطرار وهو غير محمود ولا مثاب قال بعض الحكماء العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم . وفي " الصحيح " مرفوعا : الصبر عند الصدمة الأولى وقال الأشعث بن قيس : إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا وإلا سلوت سلو البهائم

[أنفع الأدوية موافقة الله فيما أحبه ]

ومن علاجها : أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبه وتمقت إلى محبوبه .

وقال أبو الدرداء : إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به وكان عمران بن حصين يقول في علته أحبه إلي أحبه إليه وكذلك قال أبو العالية . وهذا دواء وعلاج لا يعمل إلا مع المحبين ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به .

[ لذة التمتع بثواب الله أعظم من لذة التمتع بما أصيب به ]
ومن علاجها : أن يوازن بين أعظم اللذتين والمتعتين وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ولذة تمتعه بثواب الله له فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه وإن آثر المرجوح من كل وجه فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه .

[ ابتلاء الله العبد لامتحان صبره ]

ومن علاجها أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به ولا ليعذبه به ولا ليجتاحه وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحا ببابه لائذا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعا قصص الشكوى إليه .

قال الشيخ عبد القادر : يا بني إن المصيبة ما جاءت لتهلكك وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك يا بني القدر سبع والسبع لا يأكل الميتة .

والمقصود أن المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله فإما أن يخرج ذهبا أحمر وإما أن يخرج خبثا كله كما قيل

سبكناه ونحسبه لجينا

فأبدى الكير عن خبث الحديد


فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك وأنه لا بد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل .

[ المصيبة كاسرة لداء الكبر وقسوة القلب ]

ومن علاجها : أن يعلم أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد - من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب - ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه كما قيل

قد ينعم بالبلوى وإن عظمت

ويبتلي الله بعض القوم بالنعم


فلولا أنه - سبحانه - يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا والله - سبحانه - إذا أراد بعبد خيرا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه .

[ مرارة الدنيا حلاوة الآخرة ]

ومن علاجها : أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة يقلبها الله سبحانه كذلك وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك فإن خفي عليك هذا فانظر إلى قول الصادق المصدوق حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات

وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق وظهرت حقائق الرجال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد ولا ذل ساعة لعز الأبد ولا محنة ساعة لعافية الأبد فإن الحاضر عنده شهادة والمنتظر غيب والإيمان ضعيف وسلطان الشهوة حاكم فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ويجاوزه إلى العواقب والغايات فله شأن آخر .

فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم والسعادة الأبدية والفوز الأكبر وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة ثم اختر أي القسمين أليق بك وكل يعمل على شاكلته وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأولى به ولا تستطل هذا العلاج فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه وبالله التوفيق .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا في " الصحيحين " من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض رب العرش الكريم

وفي " جامع الترمذي " عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث

وفيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع طرفه إلى السماء فقال سبحان الله العظيم وإذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم

وفي " سنن أبي داود " عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعوات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت

وفيها أيضا عن أسماء بنت عميس قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب أو في الكرب الله ربي لا أشرك به شيئا وفي رواية أنها تقال سبع مرات .

وفي " مسند الإمام أحمد " عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحا

وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له

وفي رواية إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه كلمة أخي يونس

وفي " سنن أبي داود " عن أبي سعيد الخدري قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة ؟ " فقال هموم لزمتني وديون يا رسول الله فقال " ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك ؟ " قال قلت بلى يا رسول الله قال " قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال قال ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني

وفي " سنن أبي داود " عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب

وفي " المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وقد قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ البقرة 45 ] .

وفي " السنن عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الجنة يدفع الله به عن النفوس الهم والغم

ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله

وثبت في " الصحيحين " أنها كنز من كنوز الجنة .

وفي الترمذي : " أنها باب من أبواب الجنة " .

هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعا من الدواء فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن فهو داء قد استحكم وتمكنت أسبابه ويحتاج إلى استفراغ كلي . الأول توحيد الربوبية .

الثاني : توحيد الإلهية .

الثالث التوحيد العلمي الاعتقادي .

الرابع تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك .

الخامس اعتراف العبد بأنه هو الظالم .

السادس التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء وهو أسماؤه وصفاته ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات الحي القيوم .

السابع الاستعانة به وحده .

الثامن إقرار العبد له بالرجاء .

التاسع تحقيق التوكل عليه والتفويض إليه والاعتراف له بأن ناصيته في يده يصرفه كيف يشاء وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه .

العاشر أن يرتع قلبه في رياض القرآن ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات والشهوات وأن يتسلى به عن كل فائت ويتعزى به عن كل مصيبة ويستشفي به من أدواء صدره فيكون جلاء حزنه وشفاء همه وغمه .

الحادي عشر الاستغفار .

الثاني عشر التوبة .

الثالث عشر الجهاد .

الرابع عشر الصلاة .

الخامس عشر البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده .


افتراضي

فصل في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
خلق الله - سبحانه - ابن آدم وأعضاءه وجعل لكل عضو منها كمالا إذا فقده أحس بالألم وجعل لملكها وهو القلب كمالا إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان .

فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الإبصار وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة السمع واللسان ما خلق له من قوة الكلام فقدت كمالها .

[ وظيفة القلب ]

والقلب خلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به والابتهاج بحبه والرضى عنه والتوكل عليه والحب فيه والبغض فيه والموالاة فيه والمعاداة فيه ودوام ذكره وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه وأرجى عنده من كل ما سواه وأجل في قلبه من كل ما سواه ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة بل ولا حياة إلا بذلك وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه ورهن مقيم عليه .

[ أمراض القلب ]

ومن أعظم أدوائه الشرك والذنوب والغفلة والاستهانة بمحابه ومراضيه وترك التفويض إليه وقلة الاعتماد عليه والركون إلى ما سواه والسخط بمقدوره والشك في وعده ووعيده .

[ علاجات أمراض القلب ]

وإذا تأملت أمراض القلب وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها لا سبب لها سواها فدواؤه الذي لا دواء له سواه ما تضمنته هذه العلاجات النبوية من الأمور المضادة لهذه الأدواء فإن المرض يزال بالضد والصحة تحفظ بالمثل فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية وأمراضه بأضدادها .

[ فوائد التوحيد فوائد التوبة ]

فالتوحيد يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج والتوبة استفراغ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه وحمية له من التخليط فهي تغلق عنه باب الشرور فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار . قال بعض المتقدمين من أئمة الطب : من أراد عافية الجسم فليقلل من الطعام والشراب ومن أراد عافية القلب فليترك الآثام .

وقال ثابت بن قرة : راحة الجسم في قلة الطعام وراحة الروح في قلة الآثام وراحة اللسان في قلة الكلام . والذنوب للقلب بمنزلة السموم إن لم تهلكه أضعفته ولا بد وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك .

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حيا ة القلوب

وخير لنفسك عصيانها


[ الهوى أكبر أمراض القلب فلا بد من مخالفته ]

فالهوى أكبر أدوائها ومخالفته أعظم أدويتها والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها وإنما فيه تلفها وعطبها ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه فيتولد من بين إيثارها للداء واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء ويتعذر معها الشفاء .

والمصيبة العظمى أنها تركب ذلك على القدر فتبرئ نفسها وتلوم ربها بلسان الحال دائما ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان .

[ حديث ابن عباس مشتمل على توحيد الإلهية والربوبية وصفتي العظمة والحلم ]

وإذا وصل العليل إلى هذه الحال فلا يطمع في برئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه فيحييه حياة جديدة ويرزقه طريقة حميدة فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملا على توحيد الإلهية والربوبية ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلي والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها والربوبية التامة تستلزم توحيده وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له . وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له وسلب كل نقص وتمثيل عنه . وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه .

فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى .

ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها دعاء الكرب وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها .

[ فوائد صفتي الحي القيوم ]

" وفي تأثير قوله يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث في دفع هذا الداء مناسبة بديعة فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى : هو اسم الحي القيوم والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات . ونقصان الحياة تضر بالأفعال وتنافي القيومية فكمال القيومية لكمال الحياة فالحي المطلق التام الحياة لا تفوته صفة الكمال البتة والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة فالتوسل بصفة الحياة القيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال .

[ توسله صلى الله عليه وسلم بربوبية الله لجبريل وميكائيل وإسرافيل ]

ونظير هذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه فإن حياة القلب بالهداية وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة فجبريل موكل بالوحي الذي هو حياة القلوب وميكائيل بالقطر الذي هو حياة الأبدان والحيوان وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير في حصول المطلوب .

والمقصود أن لاسم الحي القيوم تأثيرا خاصا في إجابة الدعوات وكشف الكربات وفي " السنن " و " صحيح أبي حاتم " مرفوعا : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ البقرة 163 ] وفاتحة آل عمران الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم

قال الترمذي : حديث صحيح . وفي " السنن " و " صحيح ابن حبان " أيضا : من حديث أنس أن رجلا دعا فقال اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم .

[ ما في اللهم رحمتك أرجو . . و الله ربي . . ]

" وفي قوله اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيديه والاعتماد عليه وحده وتفويض الأمر إليه والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه ولا يكله إلى نفسه والتوسل إليه بتوحيده مما له تأثير قوي في دفع هذا الداء وكذلك قوله الله ربي لا أشرك به شيئا .

[ ما في اللهم إني عبدك ابن عبدك من الفوائد ]

وأما حديث ابن مسعود : اللهم إني عبدك ابن عبدك ففيه من المعارف الإلهية وأسرار العبودية ما لا يتسع له كتاب فإنه يتضمن الاعتراف بعبوديته وعبودية آبائه وأمهاته وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء فلا يملك العبد دونه لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لأن من ناصيته بيد غيره فليس إليه شيء من أمره بل هو عان في قبضته ذليل تحت سلطان قهره .

[ إثبات القدر والعدل لله في ماض في حكمك . . ]

وقوله ماض في حكمك عدل في قضاؤك متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد .

أحدهما : إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضية فيه لا انفكاك له عنها ولا حيلة له في دفعها .

[ أسألك بكل اسم هو لك . .]

والثاني : أنه - سبحانه - عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان فإن الظلم سببه حاجة الظالم أو جهله أو سفهه فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم ومن هو غني عن كل شيء وكل شيء فقير إليه ومن هو أحكم الحاكمين فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده كما لم تخرج عن قدرته ومشيئته فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته ولهذا قال نبي الله هود صلى الله على نبينا وعليه وسلم وقد خوفه قومه بآلهتهم إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم [ هود : 54 - 57 ] أي مع كونه سبحانه آخذا بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء فهو على صراط مستقيم لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة والإحسان والرحمة . فقوله ماض في حكمك مطابق لقوله ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وقوله عدل في قضاؤك مطابق لقوله إن ربي على صراط مستقيم ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي سمى بها نفسه ما علم العباد منها وما لم يعلموا . ومنها : ما استأثره في علم الغيب عنده فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله وأقربها تحصيلا للمطلوب . "

[ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي . . ]

ثم سأله أن يجعل القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان وكذلك القرآن ربيع القلوب وأن يجعله شفاء همه وغمه فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ويعيد البدن إلى صحته واعتداله وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية وغيرها فأحرى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يزيل عنه داءه ويعقبه شفاء تاما وصحة وعافية والله الموفق .

[ دعوة ذي النون ]

وأما دعوة ذي النون فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم وأبلغ الوسائل إلى الله - سبحانه - في قضاء الحوائج فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال الله وسلب كل نقص وعيب وتمثيل عنه . والاعتراف بالظلم يتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب ويوجب انكساره ورجوعه إلى الله واستقالته عثرته والاعتراف بعبوديته وافتقاره إلى ربه فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها : التوحيد والتنزيه والعبودية والاعتراف .

[ اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن . .]

وأما حديث أبي أمامة اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن فقد تضمن الاستعاذة من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان فالهم والحزن أخوان والعجز والكسل أخوان والجبن والبخل أخوان وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان فإن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب فإما أن يكون سببه أمرا ماضيا فيوجب له الحزن وإن كان أمرا متوقعا في المستقبل أوجب الهم وتخلف العبد عن مصالحه وتفويتها عليه إما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز أو من عدم الإرادة وهو الكسل وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه إما أن يكون منع نفعه ببدنه فهو الجبن أو بماله فهو البخل وقهر الناس له إما بحق فهو ضلع الدين أو بباطل فهو غلبة الرجال فقد تضمن الحديث الاستعاذة من كل شر وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم والخوف والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم كما قال شيخ الفسوق

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها


[ التوبة والاستغفار ]

وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار .

[ الصلاة وتأثيرها في تفريح القلب ]
وأما الصلاة فشأنها في تفريح القلب وتقويته وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن وفيها من اتصال القلب والروح بالله وقربه والتنعم بذكره والابتهاج بمناجاته والوقوف بين يديه واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته وإعطاء كل عضو حظه منها واشتغاله عن التعلق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره وراحته من عدوه حالة الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات والأغذية التي لا تلائم إلا القلوب الصحيحة . وأما القلوب العليلة فهي كالأبدان لا تناسبها إلا الأغذية الفاضلة .

فالصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ودفع مفاسد الدنيا والآخرة وهي منهاة عن الإثم ودافعة لأدواء القلوب ومطردة للداء عن الجسد ومنورة للقلب ومبيضة للوجه ومنشطة للجوارح والنفس وجالبة للرزق ودافعة للظلم وناصرة للمظلوم وقامعة لأخلاط الشهوات وحافظة للنعمة ودافعة للنقمة ومنزلة للرحمة وكاشفة للغمة ونافعة من كثير من أوجاع البطن .

وقد روى ابن ماجه في " سننه " من حديث مجاهد عن أبي هريرة قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم أشكو من وجع بطني فقال لي : " يا أبا هريرة أشكمت درد ؟ " قال قلت نعم يا رسول الله قال " قم فصل فإن في الصلاة شفاء

وقد روي هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة وأنه هو الذي قال ذلك لمجاهد وهو أشبه . ومعنى هذه اللفظة بالفارسي أيوجعك بطنك ؟ .

[ الرد على الأطباء المنكرين لفائدة الصلاة في العلاج ]
فإن لم ينشرح صدر زنديق الأطباء بهذا العلاج فيخاطب بصناعة الطب ويقال له الصلاة رياضة النفس والبدن جميعا إذ كانت تشتمل على حركات وأوضاع مختلفة من الانتصاب والركوع والسجود والتورك والانتقالات وغيرها من الأوضاع التي يتحرك معها أكثر المفاصل وينغمز معها أكثر الأعضاء الباطنة كالمعدة والأمعاء وسائر آلات النفس والغذاء فما ينكر أن يكون في هذه الحركات تقوية وتحليل للمواد ولا سيما بواسطة قوة النفس وانشراحها في الصلاة فتقوى الطبيعة فيندفع الألم ولكن داء الزندقة والإعراض عما جاءت به الرسل والتعوض عنه بالإلحاد داء ليس له دواء إلا نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى .

[ تأثير الجهاد في دفع الهم ]
وأما تأثير الجهاد في دفع الهم والغم فأمر معلوم بالوجدان فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته واستيلاءه اشتد همها وغمها وكربها وخوفها فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهم والحزن فرحا ونشاطا وقوة كما قال تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم [ التوبة : 14 15 ] فلا شيء أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه من الجهاد والله المستعان .

[ تأثير الحوقلة في دفع الهم ]
وأما تأثير لا حول ولا قوة إلا بالله في دفع هذا الداء فلما فيها من كمال التفويض والتبري من الحول والقوة إلا به وتسليم الأمر كله له وعدم منازعته في شيء منه وعموم ذلك لكل تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلي والقوة على ذلك التحول وأن ذلك كله بالله وحده فلا يقوم لهذه الكلمة شيء . وفي بعض الآثار إنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إليها إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان والله المستعان .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الفزع والأرق المانع من النوم
روى الترمذي في " جامعه " عن بريدة قال شكى خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أويت إلى فراشك فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط علي أحد منهم أو يبغي علي عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك

وفيه أيضا : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون قال وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه . ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه ولا يخفى مناسبة هذه العوذة لعلاج هذا الداء .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج داء الحريق وإطفائه
يذكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه لما كان الحريق سببه النار وهي مادة الشيطان التي خلق منها وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله كان للشيطان إعانة عليه وتنفيذ له وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد وهذان الأمران وهما العلو في الأرض والفساد هما هدي الشيطان وإليهما يدعو وبهما يهلك بني آدم فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد وكبرياء الرب - عز وجل - تقمع الشيطان وفعله .

[ أثر التكبير في إخماد النار مادة الشيطان ]

ولهذا كان تكبير الله - عز وجل - له أثر في إطفاء الحريق فإن كبرياء الله - عز وجل - لا يقوم لها شيء فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته فيطفئ الحريق وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك والله أعلم .



افتراضي

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ الصحة
[ قوام البدن على الحرارة والرطوبة ]

لما كان اعتدال البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاومة للحرارة فالرطوبة مادته والحرارة تنضجها وتدفع فضلاتها وتصلحها وتلطفها وإلا أفسدت البدن ولم يمكن قيامه وكذلك الرطوبة هي غذاء الحرارة فلولا الرطوبة لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته فقوام كل واحدة منهما بصاحبتها وقوام البدن بهما جميعا وكل منهما مادة للأخرى

فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة والرطوبة مادة للحرارة تغذوها وتحملها ومتى مالت إحداهما إلى الزيادة على الأخرى حصل لمزاج البدن الانحراف بحسب ذلك فالحرارة دائما تحلل الرطوبة فيحتاج البدن إلى ما به يخلف عليه ما حللته الحرارة - لضرورة بقائه - وهو الطعام والشراب ومتى زاد على مقدار التحلل ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته فاستحالت مواد رديئة فعاثت في البدن وأفسدت فحصلت الأمراض المتنوعة بحسب تنوع موادها وقبول الأعضاء واستعدادها وهذا كله مستفاد من قوله تعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا [ الأعراف 31 ] فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطعام والشراب عوض ما تحلل منه وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمية والكيفية فمتى جاوز ذلك كان إسرافا وكلاهما مانع من الصحة جالب للمرض أعني عدم الأكل والشرب أو الإسراف فيه .

فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين ولا ريب أن البدن دائما في التحلل والاستخلاف وكلما كثر التحلل ضعفت الحرارة لفناء مادتها فإن كثرة التحلل تفني الرطوبة وهي مادة الحرارة وإذا ضعفت الحرارة ضعف الهضم ولا يزال كذلك حتى تفنى الرطوبة وتنطفئ الحرارة جملة فيستكمل العبد الأجل الذي كتب الله له أن يصل إليه .

[ غاية علاج الإنسان الاعتدال بين الحرارة والرطوبة ]

فغاية علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسة البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة لا أنه يستلزم بقاء الحرارة والرطوبة اللتين بقاء الشباب والصحة والقوة بهما فإن هذا مما لم يحصل لبشر في هذه الدار وإنما غاية الطبيب أن يحمي الرطوبة عن مفسداتها من العفونة وغيره ويحمي الحرارة عن مضعفاتها ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدن الإنسان كما أن به قامت السماوات والأرض وسائر المخلوقات إنما قوامها بالعدل ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم وجده أفضل هدي يمكن حفظ الصحة به فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس والمسكن والهواء والنوم واليقظة والحركة والسكون والمنكح والاستفراغ والاحتباس فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسن والعادة كان أقرب إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل .

[ الصحة من أجل النعم وذكر الأخبار في ذلك ]

ولما كانت الصحة والعافية من أجل نعم الله على عبده وأجزل عطاياه وأوفر منحه بل العافية المطلقة أجل النعم على الإطلاق فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق مراعاتها وحفظها وحمايتها عما يضادها وقد روى البخاري في " صحيحه " من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ

وفي الترمذي وغيره من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبح معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا

وفي الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد

ومن ها هنا قال من قال من السلف في قوله تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ التكاثر 8 ] قال عن الصحة . وفي " مسند الإمام أحمد " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة

وفيه عن أبي بكر الصديق قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سلوا الله اليقين والمعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيرا من العافية فجمع بين عافيتي الدين والدنيا ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه .

وفي " سنن النسائي " من حديث أبي هريرة يرفعه سلوا الله العفو والعافية والمعافاة فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة وهذه الثلاثة تتضمن إزالة الشرور الماضية بالعفو والحاضرة بالعافية والمستقبلة بالمعافاة فإنها تتضمن المداومة والاستمرار على العافية .

وفي الترمذي مرفوعا : ما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : عن أبي الدرداء قلت : يا رسول الله لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يحب معك العافية

ويذكر عن ابن عباس أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ما أسأل الله بعد الصلوات الخمس ؟ فقال سل الله العافية " فأعاد عليه فقال له في الثالثة سل الله العافية في الدنيا والآخرة

[هديه صلى الله عليه وسلم في مراعاة أمور الصحة ]

وإذا كان هذا شأن العافية والصحة فنذكر من هديه صلى الله عليه وسلم في مراعاة هذه الأمور ما يتبين لمن نظر فيه أنه أكمل هدي على الإطلاق ينال به حفظ صحة البدن والقلب وحياة الدنيا والآخرة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله .



فصل [هديه صلى الله عليه وسلم في المطعم والمشرب ]
فأما المطعم والمشرب فلم يكن من عادته صلى الله عليه وسلم حبس النفس على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى ما سواه فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا وقد يتعذر عليها أحيانا فإن لم يتناول غيره ضعف أو هلك وإن تناول غيره لم تقبله الطبيعة واستضر به فقصرها على نوع واحد دائما - ولو أنه أفضل الأغذية - خطر مضر .

بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره مما ذكرناه في هديه في المأكول فعليك بمراجعته هناك .

[ تعديل الطعام بضده ]

وإذا كان في أحد الطعامين كيفية تحتاج إلى كسر وتعديل كسرها وعدلها بضدها إن أمكن كتعديل حرارة الرطب بالبطيخ وإن لم يجد ذلك تناوله على حاجة وداعية من النفس من غير إسراف فلا تتضرر به الطبيعة .

[ ترك ما تعافه النفس ]

وكان إذا عافت نفسه الطعام لم يأكله ولم يحملها إياه على كره وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ولا يشتهيه كان تضرره به أكثر من انتفاعه . قال أبو هريرة : ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه ولم يأكل منه ولما قدم إليه الضب المشوي لم يأكل منه فقيل له أهو حرام ؟ قال لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه فراعى عادته وشهوته فلما لم يكن يعتاد أكله بأرضه وكانت نفسه لا تشتهيه أمسك عنه ولم يمنع من أكله من يشتهيه ومن عادته أكله .

[محبته صلى الله عليه وسلم للذراع ]

وكان يحب اللحم وأحبه إليه الذراع ومقدم الشاة ولذلك سم فيه وفي " الصحيحين " : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه

[ أكله صلى الله عليه وسلم للرقبة ]

وذكر أبو عبيدة وغيره عن ضباعة بنت الزبير أنها ذبحت في بيتها شاة فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أطعمينا من شاتكم فقالت للرسول ما بقي عندنا إلا الرقبة وإني لأستحيي أن أرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع الرسول فأخبره فقال ارجع إليها فقل لها : أرسلي بها فإنها هادية الشاة وأقرب إلى الخير وأبعدها من الأذى

ولا ريب أن أخف لحم الشاة لحم الرقبة ولحم الذراع والعضد وهو أخف على المعدة وأسرع انهضاما وفي هذا مراعاة الأغذية التي تجمع ثلاثة أوصاف .

أحدها : كثرة نفعها وتأثيرها في القوى .

الثاني : خفتها على المعدة وعدم ثقلها عليها .

الثالث سرعة هضمها وهذا أفضل ما يكون من الغذاء والتغذي باليسير من هذا أنفع من الكثير من غيره .

[ محبته صلى الله عليه وسلم للحلواء والعسل وبيان أنهما مع اللحم أفضل الأغذية ]

وكان يحب الحلواء والعسل وهذه الثلاثة - أعني اللحم والعسل والحلواء - من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء وللاغتذاء بها نفع عظيم في حفظ الصحة والقوة ولا ينفر منها إلا من به علة وآفة .

[ يؤدم صلى الله عليه وسلم خبز الشعير باللحم والبطيخ والتمر والخل وفوائد ذلك ]

وكان يأكل الخبز مأدوما ما وجد له إداما فتارة يأدمه باللحم ويقول هو سيد طعام أهل الدنيا والآخرة رواه ابن ماجه وغيره . وتارة بالبطيخ وتارة بالتمر فإنه وضع تمرة على كسرة شعير وقال هذا إدام هذه وفي هذا من تدبير الغذاء أن خبز الشعير بارد يابس والتمر حار رطب على أصح القولين فأدم خبز الشعير به من أحسن التدبير لا سيما لمن تلك عادتهم كأهل المدينة وتارة بالخل ويقول نعم الإدام الخل وهذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر لا تفضيل له على غيره كما يظن الجهال وسبب الحديث أنه دخل على أهله يوما فقدموا له خبزا فقال هل عندكم من إدام ؟ " قالوا : ما عندنا إلا خل فقال " نعم الإدام الخل

والمقصود أن أكل الخبز مأدوما من أسباب حفظ الصحة بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده . وسمي الأدم أدما : لإصلاحه الخبز وجعله ملائما لحفظ الصحة . ومنه قوله في إباحته للخاطب النظر إنه أحرى أن يؤدم بينهما أي أقرب إلى الالتئام والموافقة فإن الزوج يدخل على بصيرة فلا يندم .

[ أكله صلى الله عليه وسلم الفاكهة ]

وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ولا يحتمي عنها وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة فإن الله سبحانه بحكمته جعل في كل بلدة من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ويغني عن كثير من الأدوية وقل من احتمى عن فاكهة بلده خشية السقم إلا وهو من أسقم الناس جسما وأبعدهم من الصحة والقوة .

وما في تلك الفاكهة من الرطوبات فحرارة الفصل والأرض وحرارة المعدة تنضجها وتدفع شرها إذا لم يسرف في تناولها ولم يحمل منها الطبيعة فوق ما تحتمله ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ولا أفسدها بشرب الماء عليها وتناول الغذاء بعد التحلي منها فإن القولنج كثيرا ما يحدث عند ذلك فمن أكل منها ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي كانت له دواء نافعا .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في هيئة الجلوس للأكل
[ عدم الاتكاء عند الأكل ]

صح عنه أنه قال لا آكل متكئا " وقال " إنما أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد .

[ عدم الأكل مع الانبطاح ]

وروى ابن ماجه في سننه " أنه نهى أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه

[ تفسير الاتكاء ]

وقد فسر الاتكاء بالتربع وفسر بالاتكاء على الشيء وهو الاعتماد عليه وفسر بالاتكاء على الجنب . والأنواع الثلاثة من الاتكاء فنوع منها يضر بالآكل وهو الاتكاء على الجنب فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء وأيضا فإنها تميل ولا تبقى منتصبة فلا يصل الغذاء إليها بسهولة .

وأما النوعان الآخران فمن جلوس الجبابرة المنافي للعبودية ولهذا قال آكل كما يأكل العبد وكان يأكل وهو مقع ويذكر عنه أنه كان يجلس للأكل متوركا على ركبتيه ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعا لربه عز وجل وأدبا بين يديه واحتراما للطعام وللمؤاكل فهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة الأدبية وأجود ما اغتذى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعي ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصبا الانتصاب الطبيعي وأردأ الجلسات للأكل الاتكاء على الجنب لما تقدم من أن المريء وأعضاء الازدراد تضيق عند هذه الهيئة والمعدة لا تبقى على وضعها الطبيعي لأنها تنعصر مما يلي البطن بالأرض ومما يلي الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء وآلات التنفس .

وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس فيكون المعنى أني إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطية والوسائد كفعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام لكني آكل بلغة كما يأكل العبد .

فصل [ الأكل بالأصابع الثلاث ]
وكان يأكل بأصابعه الثلاث وهذا أنفع ما يكون من الأكلات فإن الأكل بأصبع أو أصبعين لا يستلذ به الآكل ولا يمريه ولا يشبعه إلا بعد طول ولا تفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها في كل أكلة فتأخذها على إغماض كما يأخذ الرجل حقه حبة أو حبتين أو نحو ذلك فلا يلتذ بأخذه ولا يسر به والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على آلاته وعلى المعدة وربما انسدت الآلات فمات وتغصب الآلات على دفعه والمعدة على احتماله ولا يجد له لذة ولا استمراء فأنفع الأكل أكله صلى الله عليه وسلم وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاث .

فصل [ عدم الأكل أو الجمع بين بعض الأطعمة ]
ومن تدبر أغذيته صلى الله عليه وسلم وما كان يأكله وجده لم يجمع قط بين لبن وسمك ولا بين لبن وحامض ولا بين غذاءين حارين ولا باردين ولا لزجين ولا قابضين ولا مسهلين ولا غليظين ولا مرخيين ولا مستحيلين إلى خلط واحد ولا بين مختلفين كقابض ومسهل وسريع الهضم وبطيئه ولا بين شوي وطبيخ ولا بين طري وقديد ولا بين لبن وبيض ولا بين لحم ولبن ولم يكن يأكل طعاما في وقت شدة حرارته ولا طبيخا بائتا يسخن له بالغد ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة كالكوامخ والمخللات والملوحات وكل هذه الأنواع ضار مولد لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال .

[ تعديل الطعام بضده ]

وكان يصلح ضرر بعض الأغذية ببعض إذا وجد إليه سبيلا فيكسر حرارة هذا ببرودة هذا ويبوسة هذا برطوبة هذا كما فعل في القثاء والرطب وكما كان يأكل التمر بالسمن وهو الحيس ويشرب نقيع التمر يلطف به كيموسات الأغذية الشديدة .

[ الأمر بالعشاء ]

وكان يأمر بالعشاء ولو بكف من تمر ويقول ترك العشاء مهرمة ذكره الترمذي في " جامعه " وابن ماجه في " سننه " .

[ عدم النوم على الأكل ]

وذكر أبو نعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الأكل ويذكر أنه يقسي القلب ولهذا في وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة أن يمشي بعد العشاء خطوات ولو مائة خطوة ولا ينام عقبه فإنه مضر جدا وقال مسلموهم أو يصلي عقيبه ليستقر الغذاء بقعر المعدة فيسهل هضمه ويجود بذلك .

[ عدم الشرب على الطعام ]

ولم يكن من هديه أن يشرب على طعامه فيفسده ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا فإنه رديء جدا . قال الشاعر

لا تكن عند أكل سخن وبرد

ودخول الحمام تشرب ماء

فإذا ما اجتنبت ذلك حقا

لم تخف ما حييت في الجوف داء


[الأوقات التي ينصح فيها بعدم الشرب ]

ويكره شرب الماء عقيب الرياضة والتعب وعقيب الجماع وعقيب الطعام وقبله وعقيب أكل الفاكهة وإن كان الشرب عقيب بعضها أسهل من بعض وعقب الحمام وعند الانتباه من النوم فهذا كله مناف لحفظ الصحة ولا اعتبار بالعوائد فإنها طبائع ثوان .

فصل [ هديه صلى الله عليه وسلم في الشراب ]
[شربه صلى الله عليه وسلم العسل الممزوج بالماء البارد وفوائده ]

وأما هديه في الشراب فمن أكمل هدي يحفظ به الصحة فإنه كان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد وفي هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدي إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء فإن شربه ولعقه على الريق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة ويجلو لزوجتها ويدفع عنها الفضلات ويسخنها باعتدال ويفتح سددها ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء لحدته وحدة الصفراء فربما هيجها ودفع مضرته لهم بالخل فيعود حينئذ لهم نافعا جدا وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرها ولا سيما لمن لم يعتد هذه الأشربة ولا ألفها طبعه فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمة العسل ولا قريبا منه والمحكم في ذلك العادة فإنها تهدم أصولا وتبني أصولا .

وأما الشراب إذا جمع وصفي الحلاوة والبرودة فمن أنفع شيء للبدن ومن أكبر أسباب حفظ الصحة وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له واستمداد منه وإذا كان فيه الوصفان حصلت به التغذية وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء وإيصاله إليها أتم تنفيذ .

[ منافع الماء البارد ]

والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ويرد عليه بدل ما تحلل منها ويرقق الغذاء وينفذه في العروق .

[ هل الماء البارد يغذي البدن ]

واختلف الأطباء هل يغذي البدن ؟ على قولين فأثبتت طائفة التغذية به بناء على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة في البدن به ولا سيما عند شدة الحاجة إليه .

قالوا : وبين الحيوان والنبات قدر مشترك من وجوه عديدة منها : النمو والاغتذاء والاعتدال وفي النبات قوة حس تناسبه ولهذا كان غذاء النبات بالماء فما ينكر أن يكون للحيوان به نوع غذاء وأن يكون جزءا من غذائه التام .

قالوا : ونحن لا ننكر أن قوة الغذاء ومعظمه في الطعام وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية البتة . قالوا : وأيضا الطعام إنما يغذي بما فيه من المائية ولولاها لما حصلت به التغذية .

قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ولا ريب أن ما كان أقرب إلى مادة الشيء حصلت به التغذية فكيف إذا كانت مادته الأصلية قال الله تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي [ الأنبياء 30 ] فكيف ننكر حصول التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟ . قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الري بالماء البارد تراجعت إليه قواه ونشاطه وحركته وصبر عن الطعام وانتفع بالقدر اليسير منه ورأينا العطشان لا ينتفع بالقدر الكثير من الطعام ولا يجد به القوة والاغتذاء ونحن لا ننكر أن الماء ينفذ الغذاء إلى أجزاء البدن وإلى جميع الأعضاء وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به وإنما ننكر على من سلب قوة التغذية عنه البتة ويكاد قوله عندنا يدخل في إنكار الأمور الوجدانية .

[ من أنكر حصول التغذية بالماء البارد ]

وأنكرت طائفة أخرى حصول التغذية به واحتجت بأمور يرجع حاصلها إلى عدم الاكتفاء به وأنه لا يقوم مقام الطعام وأنه لا يزيد في نمو الأعضاء ولا يخلف عليها بدل ما حللته الحرارة ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية فإنهم يجعلون تغذيته بحسب جوهره ولطافته ورقته وتغذية كل شيء بحسبه وقد شوهد الهواء الرطب البارد اللين اللذيذ يغذي بحسبه والرائحة الطيبة تغذي نوعا من الغذاء فتغدية الماء أظهر وأظهر .

والمقصود أنه إذا كان باردا وخالطه ما يحليه كالعسل أو الزبيب أو التمر أو السكر كان من أنفع ما يدخل البدن وحفظ عليه صحته فلهذا كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البارد الحلو . والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد هذه الأشياء .

[ منافع الماء البائت ]

ولما كان الماء البائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخل إلى حائط أبي الهيثم بن التيهان هل من ماء بات في شنة ؟ " فأتاه به فشرب منه رواه البخاري ولفظه إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا .

والماء البائت بمنزلة العجين الخمير والذي شرب لوقته بمنزلة الفطير وأيضا فإن الأجزاء الترابية والأرضية تفارقه إذا بات وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعذب له الماء ويختار البائت منه . وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقى له الماء العذب من بئر السقيا .

[ الماء الذي في القرب والشنان ألذ من الذي في آنية الفخار والأحجار وغيرهما ]

والماء الذي في القرب والشنان ألذ من الذي يكون في آنية الفخار والأحجار وغيرهما ولا سيما أسقية الأدم ولهذا التمس النبي صلى الله عليه وسلم ماء بات في شنة دون غيرها من الأواني وفي الماء إذا وضع في الشنان وقرب الأدم خاصة لطيفة لما فيها من المسام المنفتحة التي يرشح منها الماء ولهذا كان الماء في الفخار الذي يرشح ألذ منه وأبرد في الذي لا يرشح فصلاة الله وسلامه على أكمل الخلق وأشرفهم نفسا وأفضلهم هديا في كل شيء لقد دل أمته على أفضل الأمور وأنفعها لهم في القلوب والأبدان والدنيا والآخرة .

[ معنى الحلو البارد ]

قالت عائشة كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد . وهذا يحتمل أن يريد به الماء العذب كمياه العيون والآبار الحلوة فإنه كان يستعذب له الماء . ويحتمل أن يريد به الماء الممزوج بالعسل أو الذي نقع فيه التمر أو الزبيب . وقد يقال - وهو الأظهر - يعمهما جميعا .

[ معنى الكرع وبيان الاختلاف فيه ]

وقوله في الحديث الصحيح إن كان عندك ماء بات في شن وإلا كرعنا فيه دليل على جواز الكرع وهو الشرب بالفم من الحوض والمقراة ونحوها وهذه - والله أعلم - واقعة عين دعت الحاجة فيها إلى الكرع بالفم أو قاله مبينا لجوازه فإن من الناس من يكرهه والأطباء تكاد تحرمه ويقولون إنه يضر بالمعدة وقد روي في حديث لا أدري ما حاله عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نشرب على بطوننا وهو الكرع ونهانا أن نغترف باليد الواحدة وقال لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب بالليل من إناء حتى يختبره إلا أن يكون مخمرا .

وحديث البخاري أصح من هذا وإن صح فلا تعارض بينهما إذ لعل الشرب باليد لم يكن يمكن حينئذ فقال وإلا كرعنا والشرب بالفم إنما يضر إذا انكب الشارب على وجهه وبطنه كالذي يشرب من النهر والغدير فأما إذا شرب منتصبا بفمه من حوض مرتفع ونحوه فلا فرق بين أن يشرب بيده أو بفمه .

فصل [ بيان الاختلاف في جواز الشرب قائما ]
وكان من هديه الشرب قاعدا هذا كان هديه المعتاد وصح عنه أنه نهى عن الشرب قائما وصح عنه أنه أمر الذي شرب قائما أن يستقيئ وصح عنه أنه شرب قائما . قالت طائفة هذا ناسخ للنهي وقالت طائفة بل مبين أن النهي ليس للتحريم بل للإرشاد وترك الأولى وقالت طائفة لا تعارض بينهما أصلا فإنه إنما شرب قائما للحاجة فإنه جاء إلى زمزم وهم يستقون منها فاستقى فناولوه الدلو فشرب وهو قائم وهذا كان موضع حاجة .

[ آفات الشرب قائما ]

وللشرب قائما آفات عديدة منها : أنه لا يحصل به الري التام ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء وينزل بسرعة وحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرد حرارتها ويشوشها ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج وكل هذا يضر بالشارب وأما إذا فعله نادرا أو لحاجة لم يضره ولا يعترض بالعوائد على هذا فإن العوائد طبائع ثوان ولها أحكام أخرى وهي بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء .

فصل [ تنفسه صلى الله عليه وسلم في الشرب ثلاثا ]
وفي " صحيح مسلم " من حديث أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول إنه أروى وأمرأ وأبرأ .

الشراب في لسان الشارع وحملة الشرع هو الماء ومعنى تنفسه في الشراب إبانته القدح عن فيه وتنفسه خارجه ثم يعود إلى الشراب كما جاء مصرحا به في الحديث الآخر إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في القدح ولكن ليبن الإناء عن فيه .

[فوائد تكرار الشرب ]

وفي هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة وقد نبه صلى الله عليه وسلم على مجامعها بقوله إنه أروى وأمرأ وأبرأ فأروى : أشد ريا وأبلغه وأنفعه وأبرأ أفعل من البرء وهو الشفاء أي يبرئ من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات فتسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه والثالثة ما عجزت الثانية عنه وأيضا فإنه أسلم لحرارة المعدة وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ونهلة واحدة .

وأيضا فإنه لا يروي لمصادفته لحرارة العطش لحظة ثم يقلع عنها ولما تكسر سورتها وحدتها وإن انكسرت لم تبطل بالكلية بخلاف كسرها على التمهل والتدريج .

وأيضا فإنه أسلم عاقبة وآمن غائلة من تناول جميع ما يروي دفعة واحدة فإنه يخاف منه أن يطفئ الحرارة الغريزية بشدة برده وكثرة كميته أو يضعفها فيؤدي ذلك إلى فساد مزاج المعدة والكبد وإلى أمراض رديئة خصوصا في سكان البلاد الحارة كالحجاز واليمن ونحوهما أو في الأزمنة الحارة كشدة الصيف فإن الشرب وهلة واحدة مخوف عليهم جدا فإن الحار الغريزي ضعيف في بواطن أهلها وفي تلك الأزمنة الحارة .

[ معنى أمرأ ]

وقوله " وأمرأ هو أفعل من مريء الطعام والشراب في بدنه إذا دخله وخالطه بسهولة ولذة ونفع . ومنه فكلوه هنيئا مريئا [ النساء 4 ] هنيئا في عاقبته مريئا في مذاقه . وقيل معناه أنه أسرع انحدارا عن المريء لسهولته وخفته عليه بخلاف الكثير فإنه لا يسهل على المريء انحداره .

[ آفات الشرب نهلة واحدة ]

ومن آفات الشرب نهلة واحدة أنه يخاف منه الشرق بأن ينسد مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه فيغص به فإذا تنفس رويدا ثم شرب أمن من ذلك .

[فوائد تكرار الشرب ]

ومن فوائده أن الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخار الدخاني الحار الذي كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه فأخرجته الطبيعة عنها فإذا شرب مرة واحدة اتفق نزول الماء البارد وصعود البخار فيتدافعان ويتعالجان ومن ذلك يحدث الشرق والغصة ولا يتهنأ الشارب بالماء ولا يمرئه ولا يتم ريه . وقد روى عبد الله بن المبارك والبيهقي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصا ولا يعب عبا فإنه من الكباد .

[ورود الماء على الكبد جملة واحدة يؤلمها ]

والكباد - بضم الكاف وتخفيف الباء - هو وجع الكبد وقد علم بالتجربة أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها ويضعف حرارتها وسبب ذلك المضادة التي بين حرارتها وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته . ولو ورد بالتدريج شيئا فشيئا لم يضاد حرارتها ولم يضعفها وهذا مثاله صب الماء البارد على القدر وهي تفور لا يضرها صبه قليلا قليلا . وقد روى الترمذي في " جامعه " عنه صلى الله عليه وسلم لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم فرغتم

[فوائد التسمية ]

وللتسمية في أول الطعام والشراب وحمد الله في آخره تأثير عجيب في نفعه واستمرائه ودفع مضرته .

[ كمال الطعام في التسمية والحمد وتكثير الأيدي وأن يكون حلالا ]

قال الإمام أحمد إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل إذا ذكر اسم الله في أوله وحمد الله في آخره وكثرت عليه الأيدي وكان من حل .

فصل [ تغطية الإناء وإيكاء السقاء ]
وقد روى مسلم في " صحيحه " من حديث جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا وقع فيه من ذلك الداء . وهذا مما لا تناله علوم الأطباء ومعارفهم وقد عرفه من عرفه عقلاء الناس بالتجربة . قال الليث بن سعد أحد رواة الحديث الأعاجم عندنا يتقون تلك الليلة في السنة في كانون الأول منها .

وصح عنه أنه أمر بتخمير الإناء ولو أن يعرض عليه عودا . وفي عرض العود عليه من الحكمة أنه لا ينسى تخميره بل يعتاده حتى بالعود وفيه أنه ربما أراد الدبيب أن يسقط فيه فيمر على العود فيكون العود جسرا له يمنعه من السقوط فيه .

وصح عنه أنه أمر عند إيكاء الإناء بذكر اسم الله فإن ذكر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان وإيكاؤه يطرد عنه الهوام ولذلك أمر بذكر اسم الله في هذين الموضعين لهذين المعنيين .

[ النهي عن الشرب من فم السقاء والآداب المترتبة عليه ]

وروى البخاري في " صحيحه " من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من في السقاء .

وفي هذا آداب عديدة منها : أن تردد أنفاس الشارب فيه يكسبه زهومة ورائحة كريهة يعاف لأجلها .

ومنها : أنه ربما غلب الداخل إلى جوفه من الماء فتضرر به .

ومنها : أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به فيؤذيه .

ومنها : أن الماء ربما كان فيه قذاة أو غيرها لا يراها عند الشرب فتلج جوفه .

ومنها : أن الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء فيضيق عن أخذ حظه من الماء أو يزاحمه أو يؤذيه ولغير ذلك من الحكم .

[ ضعف حديث الشرب من فم الإداوة ]

فإن قيل فما تصنعون بما في " جامع الترمذي " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بإداوة يوم أحد فقال اخنث فم الإداوة ثم شرب منها من فيها ؟ قلنا : نكتفي فيه بقول الترمذي هذا حديث ليس إسناده بصحيح وعبد الله بن عمر العمري يضعف من قبل حفظه ولا أدري سمع من عيسى أو لا انتهى . يريد عيسى بن عبد الله الذي رواه عنه عن رجل من الأنصار .

فصل [ النهي عن الشرب من ثلمة القدح وبيان مفاسده ]
وفي " سنن أبي داود " من حديث أبي سعيد الخدري قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب وهذا من الآداب التي تتم بها مصلحة الشارب فإن الشرب من ثلمة القدح فيه عدة مفاسد

أحدها : أن ما يكون على وجه الماء من قذى أو غيره يجتمع إلى الثلمة بخلاف الجانب الصحيح .

الثاني : أنه ربما شوش على الشارب ولم يتمكن من حسن الشرب من الثلمة .

الثالث أن الوسخ والزهومة تجتمع في الثلمة ولا يصل إليها الغسل كما يصل إلى الجانب الصحيح .

الرابع أن الثلمة محل العيب في القدح وهي أردأ مكان فيه فينبغي تجنبه وقصد الجانب الصحيح فإن الرديء من كل شيء لا خير فيه ورأى بعض السلف رجلا يشتري حاجة رديئة فقال لا تفعل أما علمت أن الله نزع البركة من كل رديء .

الخامس أنه ربما كان في الثلمة شق أو تحديد يجرح فم الشارب ولغير هذه من المفاسد .

[ مفاسد النفخ في الشراب ]

وأما النفخ في الشراب فإنه يكسبه من فم النافخ رائحة كريهة يعاف لأجلها ولا سيما إن كان متغير الفم . وبالجملة فأنفاس النافخ تخالطه ولهذا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين النهي عن التنفس في الإناء والنفخ فيه في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه .

[ كان صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشرب ولا يتنفس في الإناء ]

فإن قيل فما تصنعون بما في " الصحيحين " من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا ؟ قيل نقابله بالقبول والتسليم ولا معارضة بينه وبين الأول فإن معناه أنه كان يتنفس في شربه ثلاثا وذكر الإناء لأنه آلة الشرب وهذا كما جاء في الحديث الصحيح أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في الثدي أي في مدة الرضاع .

فصل [ شرب اللبن خالصا ومشوبا بالماء ومنافعه ]
وكان صلى الله عليه وسلم يشرب اللبن خالصا تارة ومشوبا بالماء أخرى .

وفي شرب اللبن الحلو في تلك البلاد الحارة خالصا ومشوبا نفع عظيم في حفظ الصحة وترطيب البدن وري الكبد ولا سيما اللبن الذي ترعى دوابه الشيح والقيصوم والخزامى وما أشبهها فإن لبنها غذاء مع الأغذية وشراب مع الأشربة ودواء مع الأدوية وفي " جامع الترمذي " عنه صلى الله عليه وسلم إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن . قال الترمذي هذا حديث حسن .

فصل [ الانتباذ في الماء ]
وثبت في " صحيح مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له أول الليل ويشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التيتجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر فإن بقي منه شيء سقاه الخادم أو أمر به فصب . وهذا النبيذ هو ما يطرح فيه تمر يحليه وهو يدخل في الغذاء والشراب وله نفع عظيم في زيادة القوة وحفظ الصحة ولم يكن يشربه بعد ثلاث خوفا من تغيره إلى الإسكار .

فصل في تدبيره لأمر الملبس
وكان من أتم الهدي وأنفعه للبدن وأخفه عليه وأيسره لبسا وخلعا وكان أكثر لبسه الأردية والأزر وهي أخف على البدن من غيرها وكان يلبس القميص بل كان أحب الثياب إليه .

وكان هديه في لبسه لما يلبسه أنفع شيء للبدن فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها بل كانت كم قميصه إلى الرسغ لا يجاوز اليد فتشق على لابسها وتمنعه خفة الحركة والبطش ولا تقصر عن هذه فتبرز للحر والبرد وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين فيؤذي الماشي ويؤوده ويجعله كالمقيد ولم يقصر عن عضلة ساقيه فتنكشف ويتأذى بالحر والبرد ولم تكن عمامته بالكبيرة التي تؤذي الرأس حملها ويضعفه ويجعله عرضة للضعف والآفات كما يشاهد من حال أصحابها ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد بل وسطا بين ذلك وكان يدخلها تحت حنكه وفي ذلك فوائد عديدة فإنها تقي العنق الحر والبرد وهو أثبت لها ولا سيما عند ركوب الخيل والإبل والكر والفر وكثير من الناس اتخذ الكلاليب عوضا عن الحنك ويا بعد ما بينهما في النفع والزينة وأنت إذا تأملت هذه اللبسة وجدتها من أنفع اللبسات وأبلغها في حفظ صحة البدن وقوته وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن .

وكان يلبس الخفاف في السفر دائما أو أغلب أحواله لحاجة الرجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد وفي الحضر أحيانا .

وكان أحب ألوان الثياب إليه البياض والحبرة وهي البرود المحبرة ولم يكن من هديه لبس الأحمر ولا الأسود ولا المصبغ ولا المصقول . وأما الحلة الحمراء التي لبسها فهي الرداء اليماني الذي فيه سواد وحمرة وبياض كالحلة الخضراء فقد لبس هذه وهذه وقد تقدم تقرير ذلك وتغليط من زعم أنه لبس الأحمر القاني بما فيه كفاية .



فصل في تدبيره لأمر المسكن
لما علم صلى الله عليه وسلم أنه على ظهر سير وأن الدنيا مرحلة مسافر ينزل فيها مدة عمره ثم ينتقل عنها إلى الآخرة لم يكن من هديه وهدي أصحابه ومن تبعه الاعتناء بالمساكن وتشييدها وتعليتها وزخرفتها وتوسيعها بل كانت من أحسن منازل المسافر تقي الحر والبرد وتستر عن العيون وتمنع من ولوج الدواب ولا يخاف سقوطها لفرط ثقلها ولا تعشش فيها الهوام لسعتها ولا تعتور عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها وليست تحت الأرض فتؤذي ساكنها ولا في غاية الارتفاع عليها بل وسط وتلك أعدل المساكن وأنفعها وأقلها حرا وبردا ولا تضيق عن ساكنها فينحصر ولا تفضل عنه بغير منفعة ولا فائدة فتأوي الهوام في خلوها ولم يكن فيها كنف تؤذي ساكنها برائحتها .

بل رائحتها من أطيب الروائح لأنه كان يحب الطيب ولا يزال عنده وريحه هو من أطيب الرائحة وعرقه من أطيب الطيب ولم يكن في الدار كنيف تظهر رائحته ولا ريب أن هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن وحفظ صحته .

فصل في تدبيره لأمر النوم واليقظة
من تدبر نومه ويقظته صلى الله عليه وسلم وجده أعدل نوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى فإنه كان ينام أول الليل ويستيقظ في أول النصف الثاني فيقوم ويستاك ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له فيأخذ البدن والأعضاء والقوى حظها من النوم والراحة وحظها من الرياضة مع وفور الأجر وهذا غاية صلاح القلب والبدن والدنيا والآخرة .

ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه وكان يفعله على أكمل الوجوه فينام إذا دعته الحاجة إلى النوم على شقه الأيمن ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب ولا مباشر بجنبه الأرض ولا متخذ للفرش المرتفعة بل له ضجاع من أدم حشوه ليف وكان يضطجع على الوسادة ويضع يده تحت خده أحيانا .

[ نوعا النوم ]

[ النوم الطبيعي ]

ونحن نذكر فصلا في النوم والنافع منه والضار فنقول

النوم حالة للبدن يتبعها غور الحرارة الغريزية والقوى إلى باطن البدن لطلب الراحة وهو نوعان طبيعي وغير طبيعي . فالطبيعي إمساك القوى النفسانية عن أفعالها وهي قوى الحس والحركة الإرادية ومتى أمسكت هذه القوى عن تحريك البدن استرخى واجتمعت الرطوبات والأبخرة التي كانت تتحلل وتتفرق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القوى فيتخدر ويسترخي وذلك النوم الطبيعي .

[ النوم غير الطبيعي ]

وأما النوم غير الطبيعي فيكون لعرض أو مرض وذلك بأن تستولي الرطوبات على الدماغ استيلاء لا تقدر اليقظة على تفريقها أو تصعد أبخرة رطبة كثيرة كما يكون عقيب الامتلاء من الطعام والشراب فتثقل الدماغ وترخيه فيتخدر ويقع إمساك القوى النفسانية عن أفعالها فيكون النوم .

[ فائدتا النوم ]

وللنوم فائدتان جليلتان إحداهما : سكون الجوارح وراحتها مما يعرض لها من التعب فيريح الحواس من نصب اليقظة ويزيل الإعياء والكلال .

والثانية هضم الغذاء ونضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية في وقت النوم تغور إلى باطن البدن فتعين على ذلك ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دثار .

[أنفع كيفيات النوم ]

وأنفع النوم أن ينام على الشق الأيمن ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة استقرارا حسنا فإن المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلا ثم يتحول إلى الشق الأيسر قليلا ليسرع الهضم بذلك لاستمالة المعدة على الكبد ثم يستقر نومه على الجانب الأيمن ليكون الغذاء أسرع انحدارا عن المعدة فيكون النوم على الجانب الأيمن بداءة نومه ونهايته وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضر بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه فتنصب إليه المواد .

[ أردأ نوعيات النوم ]

وأردأ النوم النوم على الظهر ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم وأردأ منه أن ينام منبطحا على وجهه وفي " المسند " و " سنن ابن ماجه " عن أبي أمامة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل نائم في المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله وقال قم أو اقعد فإنها نومة جهنمية

قال إبقراط في كتاب " التقدمة " : وأما نوم المريض على بطنه من غير أن يكون عادته في صحته جرت بذلك يدل على اختلاط عقل وعلى ألم في نواحي البطن قال الشراح لكتابه لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن .

[ منافع النوم المعتدل ]

والنوم المعتدل ممكن للقوى الطبيعية من أفعالها مريح للقوة النفسانية مكثر من جوهر حاملها حتى إنه ربما عاد برخائه مانعا من تحلل الأرواح .

[مفاسد نوم النهار وبخاصة آخره ]

ونوم النهار رديء يورث الأمراض الرطوبية والنوازل ويفسد اللون ويورث الطحال ويرخي العصب ويكسل ويضعف الشهوة إلا في الصيف وقت الهاجرة وأردؤه نوم أول النهار وأردأ منه النوم آخره بعد العصر ورأى عبد الله بن عباس ابنا له نائما نومة الصبحة فقال له قم أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق ؟

وقيل نوم النهار ثلاثة خلق وحرق وحمق . فالخلق نومة الهاجرة وهي خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحرق نومة الضحى تشغل عن أمر الدنيا والآخرة . والحمق نومة العصر .

قال بعض السلف من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه . وقال الشاعر

ألا إن نومات الضحى تورث الفتى

خبالا ونومات العصير جنون


[ مفاسد نوم الصبحة ]

ونوم الصبحة يمنع الرزق لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها وهو وقت قسمة الأرزاق فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة وهو مضر جدا بالبدن لإرخائه البدن وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة فيحدث تكسرا وعيا وضعفا . وإن كان قبل التبرز والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشيء فذلك الداء العضال المولد لأنواع من الأدواء .

[ مفاسد النوم في الشمس أو بعضه في الشمس ]

والنوم في الشمس يثير الداء الدفين ونوم الإنسان بعضه في الشمس وبعضه في الظل رديء وقد روى أبو داود في " سننه " من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم في الشمس فقلص عنه الظل فصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم

وفي " سنن ابن ماجه " وغيره من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد الرجل بين الظل والشمس وهذا تنبيه على منع النوم بينهما .

وفي " الصحيحين " عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت واجعلهن آخر كلامك فإن مت من ليلتك مت على الفطرة .

وفي " صحيح البخاري " عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر - يعني سنتها - اضطجع على شقه الأيمن

[ الحكمة من النوم على الجانب الأيمن ]

وقد قيل إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن أن لا يستغرق النائم في نومه لأن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار فإذا نام على جنبه الأيمن طلب القلب مستقره من الجانب الأيسر وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه بخلاف قراره في النوم على اليسار فإنه مستقره فيحصل بذلك الدعة التامة فيستغرق الإنسان في نومه ويستثقل فيفوته مصالح دينه ودنياه .

[فوائد الدعاء قبل النوم ]

ولما كان النائم بمنزلة الميت والنوم أخو الموت - ولهذا يستحيل على الحي الذي لا يموت وأهل الجنة لا ينامون فيها - كان النائم محتاجا إلى من يحرس نفسه ويحفظها مما يعرض لها من الآفات ويحرس بدنه أيضا من طوارق الآفات وكان ربه وفاطره تعالى هو المتولي لذلك وحده .

علم النبي صلى الله عليه وسلم النائم أن يقول كلمات التفويض والالتجاء والرغبة والرهبة ليستدعي بها كمال حفظ الله له وحراسته لنفسه وبدنه وأرشده مع ذلك إلى أن يستذكر الإيمان وينام عليه ويجعل التكلم به آخر كلامه فإنه ربما توفاه الله في منامه فإذا كان الإيمان آخر كلامه دخل الجنة فتضمن هذا الهدي في المنام مصالح القلب والبدن والروح في النوم واليقظة والدنيا والآخرة فصلوات الله وسلامه على من نالت به أمته كل خير .

وقوله أسلمت نفسي إليك أي جعلتها مسلمة لك تسليم العبد المملوك نفسه إلى سيده ومالكه . وتوجيه وجهه إليه يتضمن إقباله بالكلية على ربه وإخلاص القصد والإرادة له وإقراره بالخضوع والذل والانقياد قال تعالى : فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن [ سورة آل عمران الآية 20 ] .

وذكر الوجه إذ هو أشرف ما في الإنسان ومجمع الحواس وأيضا ففيه معنى التوجه والقصد من قوله

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل


وتفويض الأمر إليه رده إلى الله سبحانه وذلك يوجب سكون القلب وطمأنينته والرضى بما يقضيه ويختاره له مما يحبه ويرضاه والتفويض من أشرف مقامات العبودية ولا علة فيه وهو من مقامات الخاصة خلافا لزاعمي خلاف ذلك .

وإلجاء الظهر إليه سبحانه يتضمن قوة الاعتماد عليه والثقة به والسكون إليه والتوكل عليه فإن من أسند ظهره إلى ركن وثيق لم يخف السقوط . ولما كان للقلب قوتان قوة الطلب وهي الرغبة وقوة الهرب وهي الرهبة وكان العبد طالبا لمصالحه هاربا من مضاره جمع الأمرين في هذا التفويض والتوجه فقال رغبة ورهبة إليك ثم أثنى على ربه بأنه لا ملجأ للعبد سواه ولا منجا له منه غيره فهو الذي يلجأ إليه العبد لينجيه من نفسه كما في الحديث الآخر أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك فهو سبحانه الذي يعيذ عبده وينجيه من بأسه الذي هو بمشيئته وقدرته فمنه البلاء ومنه الإعانة ومنه ما يطلب النجاة منه وإليه الالتجاء في النجاة فهو الذي يلجأ إليه في أن ينجي مما منه ويستعاذ به مما منه فهو رب كل شيء ولا يكون شيء إلا بمشيئته وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو [ سورة الأنعام الآية 17 ] قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة [ سورة الأحزاب الآية 17 ] ثم ختم الدعاء بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذي هو ملاك النجاة والفوز في الدنيا والآخرة فهذا هديه في نومه .

لو لم يقل إني رسول لكا

ن شاهد في هديه ينطق


فصل [هديه صلى الله عليه وسلم في اليقظة ]
وأما هديه في يقظته فكان يستيقظ إذا صاح الصارخ وهو الديك فيحمد الله تعالى ويكبره ويهلله ويدعوه ثم يستاك ثم يقوم إلى وضوئه ثم يقف للصلاة بين يدي ربه مناجيا له بكلامه مثنيا عليه راجيا له راغبا راهبا فأي حفظ لصحة القلب والبدن والروح والقوى ولنعيم الدنيا والآخرة فوق هذا .


افتراضي

فصل [هديه صلى الله عليه وسلم في الرياضة ]
وأما تدبير الحركة والسكون وهو الرياضة فنذكر منها فصلا يعلم منه مطابقة هديه في ذلك لأكمل أنواعه وأحمدها وأصوبها فنقول

[السبب الموجب للرياضة ]

من المعلوم افتقار البدن في بقائه إلى الغذاء والشراب ولا يصير الغذاء بجملته جزءا من البدن بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما إذا كثرت على ممر الزمان اجتمع منها شيء له كمية وكيفية فيضر بكميته بأن يسد ويثقل البدن ويوجب أمراض الاحتباس وإن استفرغ تأذى البدن بالأدوية لأن أكثرها سمية ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفع به ويضر بكيفيته بأن يسخن بنفسه أو بالعفن أو يبرد بنفسه أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه .

[فوائد الرياضة ]

وسدد الفضلات لا محالة ضارة تركت أو استفرغت والحركة أقوى الأسباب في منع تولدها فإنها تسخن الأعضاء وتسيل فضلاتها فلا تجتمع على طول الزمان وتعود البدن الخفة والنشاط وتجعله قابلا للغذاء وتصلب المفاصل وتقوي الأوتار والرباطات وتؤمن جميع الأمراض المادية وأكثر الأمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته وكان باقي التدبير صوابا .

[وقتها وأنواعها ]

ووقت الرياضة بعد انحدار الغذاء وكمال الهضم والرياضة المعتدلة هي التي تحمر فيها البشرة وتربو ويتندى بها البدن وأما التي يلزمها سيلان العرق فمفرطة وأي عضو كثرت رياضته قوي وخصوصا على نوع تلك الرياضة بل كل قوة فهذا شأنها فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة ولكل عضو رياضة تخصه فللصدر القراءة فليبتدئ فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج ورياضة السمع بسمع الأصوات والكلام بالتدريج فينتقل من الأخف إلى الأثقل وكذلك رياضة اللسان في الكلام وكذلك رياضة البصر وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئا فشيئا .

وأما ركوب الخيل ورمي النشاب والصراع والمسابقة على الأقدام فرياضة للبدن كله وهي قالعة لأمراض مزمنة كالجذام والاستسقاء والقولنج .

[رياضة النفوس ]

ورياضة النفوس بالتعلم والتأدب والفرح والسرور والصبر والثبات والإقدام والسماحة وفعل الخير ونحو ذلك مما ترتاض به النفوس ومن أعظم رياضتها : الصبر والحب والشجاعة والإحسان فلا تزال ترتاض بذلك شيئا فشيئا حتى تصير لها هذه الصفات هيئات راسخة وملكات ثابتة .

وأنت إذا تأملت هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك وجدته أكمل هدي حافظ للصحة والقوى ونافع في المعاش والمعاد .

[فائدة الصلاة ]

ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن وإذابة أخلاطه وفضلاته ما هو من أنفع شيء له سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان وسعادة الدنيا والآخرة وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب كما في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن هو استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة ثانية فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان

[فائدة الصوم ]

وفي الصوم الشرعي من أسباب حفظ الصحة ورياضة البدن والنفس ما لا يدفعه صحيح الفطرة .

[فائدة الجهاد ]

وأما الجهاد وما فيه من الحركات الكلية التي هي من أعظم أسباب القوة وحفظ الصحة وصلابة القلب والبدن ودفع فضلاتهما وزوال الهم والغم والحزن فأمر إنما يعرفه من له منه نصيب .

[رياضات أخرى ]

وكذلك الحج وفعل المناسك وكذلك المسابقة على الخيل وبالنصال والمشي في الحوائج وإلى الإخوان وقضاء حقوقهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم والمشي إلى المساجد للجمعات والجماعات وحركة الوضوء والاغتسال وغير ذلك .

وهذا أقل ما فيه الرياضة المعينة على حفظ الصحة ودفع الفضلات وأما ما شرع له من التوصل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ودفع شرورهما فأمر وراء ذلك .فعلمت أن هديه فوق كل هدي في طب الأبدان والقلوب وحفظ صحتها ودفع أسقامهما ولا مزيد على ذلك لمن قد أحضر رشده وبالله التوفيق .

يتبع ..

اخت مسلمة
04-09-2009, 11:23 PM
فصل هديه [صلى الله عليه وسلم في الجماع ]
[مقاصد الجماع ]

وأما الجماع والباه فكان هديه فيه أكمل هدي يحفظ به الصحة وتتم به اللذة وسرور النفس ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية

أحدها : حفظ النسل ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم .

الثاني . إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن .

الثالث قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة إذ لا تناسل هناك ولا احتقان يستفرغه الإنزال .

[ الجماع من أسباب الصحة ]

وفضلاء الأطباء يرون أن الجماع من أحد أسباب حفظ الصحة . قال جالينوس : الغالب على جوهر المني النار والهواء ومزاجه حار رطب لأن كونه من الدم الصافي الذي تغتذي به الأعضاء الأصلية وإذا ثبت فضل المني فاعلم أنه لا ينبغي إخراجه إلا في طلب النسل أو إخراج المحتقن منه فإنه إذا دام احتقانه أحدث أمراضا رديئة منها : الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا فإنه إذا طال احتباسه فسد واستحال إلى كيفية سمية توجب أمراضا رديئة كما ذكرنا ولذلك تدفعه الطبيعة بالاحتلام إذا كثر عندها من غير جماع .

وقال بعض السلف ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثا : أن لا يدع المشي فإن احتاج إليه يوما قدر عليه وينبغي أن لا يدع الأكل فإن أمعاءه تضيق وينبغي أن لا يدع الجماع فإن البئر إذا لم تنزح ذهب ماؤها . وقال محمد بن زكريا : من ترك الجماع مدة طويلة ضعفت قوى أعصابه وانسدت مجاريها وتقلص ذكره .

قال ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف فبردت أبدانهم وعسرت حركاتهم ووقعت عليهم كآبة بلا سبب وقلت شهواتهم وهضمهم انتهى .

[ منافعه ]

[ محبته له ]

ومن منافعه غض البصر وكف النفس والقدرة على العفة عن الحرام وتحصيل ذلك للمرأة فهو ينفع نفسه في دنياه وأخراه وينفع المرأة ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعاهده ويحبه ويقول حبب إلي من دنياكم : النساء والطيب

وفي كتاب " الزهد " للإمام أحمد في هذا الحديث زيادة لطيفة وهي أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن

[الحث على الزواج ]

وحث على التزويج أمته فقال تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم . وقال ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء

وقال إني أتزوج النساء وأنام وأقوم وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني .

وقال يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء .

ولما تزوج جابر ثيبا قال له هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك

وروى ابن ماجه في " سننه " : من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر

وفي " سننه " أيضا من حديث ابن عباس يرفعه قال لم نر للمتحابين مثل النكاح

وفي " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة .

وكان صلى الله عليه وسلم يحرض أمته على نكاح الأبكار الحسان وذوات الدين وفي " سنن النسائي " عن أبي هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي النساء خير ؟ قال التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله

وفي " الصحيحين " عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تنكح المرأة لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك

[ الحث على نكاح الولود ]

وكان يحث على نكاح الولود ويكره المرأة التي لا تلد كما في " سنن أبي داود " عن معقل بن يسار أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ قال " لا " ثم أتاه الثانية فنهاه ثم أتاه الثالثة فقال تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم

وفي الترمذي عنه مرفوعا : أربع من سنن المرسلين : النكاح والسواك والتعطر والحناء روي في " الجامع " بالنون والياء وسمعت أبا الحجاج الحافظ يقول الصواب أنه الختان وسقطت النون من الحاشية وكذلك رواه المحاملي عن شيخ أبي عيسى الترمذي .

[ أمور تتعلق بما قبل الجماع ]

ومما ينبغي تقديمه على الجماع ملاعبة المرأة وتقبيلها ومص لسانها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب أهله ويقبلها .

وروى أبو داود في " سننه " أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل عائشة ويمص لسانها .

ويذكر عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المواقعة قبل الملاعبة .

[ الغسل من الجماع ]

وكان صلى الله عليه وسلم ربما جامع نساءه كلهن بغسل واحد وربما اغتسل عند كل واحدة منهن فروى مسلم في " صحيحه " عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد

وروى أبو داود في " سننه " عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلا فقلت يا رسول الله لو اغتسلت غسلا واحدا فقال هذا أزكى وأطهر وأطيب

وشرع للمجامع إذا أراد العود قبل الغسل الوضوء بين الجماعين كما روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ

[ منافع الغسل والوضوء بعد الوطء ]

وفي الغسل والوضوء بعد الوطء من النشاط وطيب النفس وإخلاف بعض ما تحلل بالجماع وكمال الطهر والنظافة واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجماع وحصول النظافة التي يحبها الله ويبغض خلافها ما هو من أحسن التدبير في الجماع وحفظ الصحة والقوى فيه .

فصل وقته
وأنفع الجماع : ما حصل بعد الهضم وعند اعتدال البدن في حره وبرده ويبوسته ورطوبته وخلائه وامتلائه . وضرره عند امتلاء البدن أسهل وأقل من ضرره عند خلوه وكذلك ضرره عند كثرة الرطوبة أقل منه عند اليبوسة وعند حرارته أقل منه عند برودته وإنما ينبغي أن يجامع إذا اشتدت الشهوة وحصل الانتشار التام الذي ليس عن تكلف ولا فكر في صورة ولا نظر متتابع ولا ينبغي أن يستدعي شهوة الجماع ويتكلفها ويحمل نفسه عليها وليبادر إليه إذا هاجت به كثرة المني واشتد شبقه

[التحذير من جماع العجوز والصغيرة ]

وليحذر جماع العجوز والصغيرة التي لا يوطأ مثلها والتي لا شهوة لها والمريضة والقبيحة المنظر والبغيضة فوطء هؤلاء يوهن القوى ويضعف الجماع بالخاصية .

[ جماع الثيب ]

وغلط من قال من الأطباء إن جماع الثيب أنفع من جماع البكر وأحفظ للصحة وهذا من القياس الفاسد حتى ربما حذر منه بعضهم وهو مخالف لما عليه عقلاء الناس ولما اتفقت عليه الطبيعة والشريعة .

[ أسباب الترغيب بالبكر ]

وفي جماع البكر من الخاصية وكمال التعلق بينها وبين مجامعها وامتلاء قلبها من محبته وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره ما ليس للثيب .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر هلا تزوجت بكرا

وقد جعل الله سبحانه من كمال نساء أهل الجنة من الحور العين أنهن لم يطمثهن أحد قبل من جعلن له من أهل الجنة .

وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت لو مررت بشجرة قد أرتع فيها وشجرة لم يرتع فيها ففي أيهما كنت ترتع بعيرك ؟ قال في التي لم يرتع فيها تريد أنه لم يأخذ بكرا غيرها .

وجماع المرأة المحبوبة في النفس يقل إضعافه للبدن مع كثرة استفراغه للمني وجماع البغيضة يحل البدن ويوهن القوى مع قلة استفراغه وجماع الحائض حرام طبعا وشرعا فإنه مضر جدا والأطباء قاطبة تحذر منه .

[ أحسن أشكاله ]

وأحسن أشكال الجماع أن يعلو الرجل المرأة مستفرشا لها بعد الملاعبة والقبلة وبهذا سميت المرأة فراشا كما قال صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وهذا من تمام قوامية الرجل على المرأة كما قال تعالى : الرجال قوامون على النساء [ النساء 34 ] وكما قيل

إذا رمتها كانت فراشا يقلني

وعند فراغي خادم يتملق


وقد قال تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ البقرة 187 ] وأكمل اللباس وأسبغه على هذه الحال فإن فراش الرجل لباس له وكذلك لحاف المرأة لباس لها فهذا الشكل الفاضل مأخوذ من هذه الآية وبه يحسن موقع استعارة اللباس من كل من الزوجين للآخر .

وفيه وجه آخر وهو أنها تنعطف عليه أحيانا فتكون عليه كاللباس قال الشاعر

إذا ما الضجيع ثنى جيدها

تثنت فكانت عليه لباسا


[ أردأ أشكاله ]

وأردأ أشكاله أن تعلوه المرأة ويجامعها على ظهره وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة بل نوع الذكر والأنثى وفيه من المفاسد أن المني يتعسر خروجه كله فربما بقي في العضو منه فيتعفن ويفسد فيضر وأيضا : فربما سال إلى الذكر رطوبات من الفرج وأيضا فإن الرحم لا يتمكن من الاشتمال على الماء واجتماعه فيه وانضمامه عليه لتخليق الولد وأيضا : فإن المرأة مفعول بها طبعا وشرعا وإذا كانت فاعلة خالفت مقتضى الطبع والشرع .

وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جنوبهن على حرف ويقولون هو أيسر للمرأة .

وكانت قريش والأنصار تشرح النساء على أقفائهن فعابت اليهود عليهم ذلك فأنزل الله عز وجل نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة 223 ] .

وفي " الصحيحين " عن جابر قال كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فأنزل الله عز وجل نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم

وفي لفظ لمسلم إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد "

والمجبية المنكبة على وجهها والصمام الواحد الفرج وهو موضع الحرث والولد .



[تحريم الدبر ]

وأما الدبر فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها فقد غلط عليه وفي " سنن أبي داود " عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعون من أتى المرأة في دبرها .

وفي لفظ لأحمد وابن ماجه : لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها

وفي لفظ للترمذي وأحمد من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم

وفي لفظ للبيهقي من أتى شيئا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر

وفي " مصنف وكيع " : حدثني زمعة بن صالح عن ابن طاووس عن أبيه عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن يزيد قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن وقال مرة : " في أدبارهن " .

وفي الترمذي عن علي بن طلق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحي من الحق

وفي " الكامل " لابن عدي من حديثه عن المحاملي عن سعيد بن يحيى الأموي قال حدثنا محمد بن حمزة عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود يرفعه لا تأتوا النساء في أعجازهن

وروينا في حديث الحسن بن علي الجوهري عن أبي ذر مرفوعا : من أتى الرجال أو النساء في أدبارهن فقد كفر

وروى إسماعيل بن عياش عن سهيل بن أبي صالح عن محمد بن المنكدر عن جابر يرفعه استحيوا من الله فإن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في حشوشهن ورواه الدارقطني من هذه الطريق ولفظه إن الله لا يستحيي من الحق لا يحل مأتاك النساء في حشوشهن

وقال البغوي : حدثنا هدبة حدثنا همام قال سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها ؟ فقال حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تلك اللوطية الصغرى وقال أحمد في " مسنده " : حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا همام أخبرنا عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكره .

وفي " المسند " أيضا : عن ابن عباس أنزلت هذه الآية نساؤكم حرث لكم في أناس من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه فقال ائتها على كل حال إذا كان في الفرج

وفي " المسند " أيضا : عن ابن عباس قال جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت فقال وما الذي أهلكك ؟ " قال حولت رحلي البارحة قال فلم يرد عليه شيئا فأوحى الله إلى رسوله نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم أقبل وأدبر واتق الحيضة والدبر

وفي الترمذي عن ابن عباس مرفوعا : لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر

وروينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دوما عن البراء بن عازب يرفعه كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة : القاتل والساحر والديوث وناكح المرأة في دبرها ومانع الزكاة ومن وجد سعة فمات ولم يحج وشارب الخمر والساعي في الفتن وبائع السلاح من أهل الحرب ومن نكح ذات محرم منه

وقال عبد الله بن وهب : حدثنا عبد الله بن لهيعة عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ملعون من يأتي النساء في محاشهن يعني : أدبارهن " .

وفي " مسند الحارث بن أبي أسامة " من حديث أبي هريرة وابن عباس قالا : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته وهي آخر خطبة خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عز وجل وعظنا فيها وقال " من نكح امرأة في دبرها أو رجلا أو صبيا حشر يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة يتأذى به الناس حتى يدخل النار وأحبط الله أجره ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا ويدخل في تابوت من نار ويشد عليه مسامير من نار

قال أبو هريرة : هذا لمن لم يتب .

وذكر أبو نعيم الأصبهاني من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن

وقال الشافعي : أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع . قال أخبرني عبد الله بن علي بن السائب عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح عن خزيمة بن ثابت أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال حلال " فلما ولى دعاه فقال " كيف قلت في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين أمن دبرها في قبلها ؟ فنعم أم من دبرها في دبرها فلا إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن

قال الربيع فقيل للشافعي فما تقول ؟ فقال عمي ثقة وعبد الله بن علي ثقة وقد أثنى على الأنصاري خيرا يعني عمرو بن الجلاح وخزيمة ممن لا يشك في ثقته فلست أرخص فيه بل أنهى عنه .

قلت : ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة فإنهم أباحوا أن يكون الدبر طريقا إلى الوطء في الفرج فيطأ من الدبر لا في الدبر فاشتبه على السامع " من " ب " في " ولم يظن بينهما فرقا فهذا الذي أباحه السلف والأئمة فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه .

وقد قال تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله قال مجاهد : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله فقال تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض . وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول في الفرج ولا تعده إلى غيره .

وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين أحدهما : أنه أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد لا في الحش الذي هو موضع الأذى وموضع الحرث هو المراد من قوله من حيث أمركم الله الآية قال فأتوا حرثكم أنى شئتم وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضا لأنه قال أنى شئتم أي من أين شئتم من أمام أو من خلف . قال ابن عباس :
فأتوا حرثكم يعني : الفرج

[ مفاسد إتيان الدبر ]

واذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان .

وأيضا : فللمرأة حق على الزوج في الوطء ووطؤها في دبرها يفوت حقها ولا يقضي وطرها ولا يحصل مقصودها . وأيضا : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له وإنما الذي هيئ له الفرج فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا . وأيضا : فإن ذلك مضر بالرجل ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي .

وأيضا : يضر من وجه آخر وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة . وأيضا فإنه محل القذر والنجو فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه .

وأيضا : فإنه يضر بالمرأة جدا لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع منافر لها غاية المنافرة .

وأيضا : فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول .

وأيضا : فإنه يسود الوجه ويظلم الصدر ويطمس نور القلب ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدنى فراسة .

وأيضا : فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد . وأيضا فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح .

وأيضا : فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدها كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا .

وأيضا : فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله وإعراضه عن فاعله وعدم نظره إليه فأي خير يرجوه بعد هذا وأي شر يأمنه وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه .

وأيضا : فإنه يذهب بالحياء جملة والحياء هو حياة القلوب فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن وحينئذ فقد استحكم فساده .

وأيضا : فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان بل هو طبع منكوس وإذا نكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدى فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره . وأيضا : فإنه يورث من الوقاحة والجرأة ما لا يورثه سواه .

وأيضا : فإنه يورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيره .

وأيضا : فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء وازدراء الناس له واحتقارهم إياه واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به .

فصل [ أنواع الجماع الضار ]
والجماع الضار نوعان ضار شرعا وضار طبعا . فالضار شرعا : المحرم وهو مراتب بعضها أشد من بعض . والتحريم العارض منه أخف من اللازم كتحريم الإحرام والصيام والاعتكاف وتحريم المظاهر منها قبل التكفير وتحريم وطء الحائض ونحو ذلك ولهذا لا حد في هذا الجماع .

وأما اللازم فنوعان . نوع لا سبيل إلى حله ألبتة كذوات المحارم فهذا من أضر الجماع وهو يوجب القتل حدا عند طائفة من العلماء كأحمد بن حنبل رحمه الله وغيره وفيه حديث مرفوع ثابت .

والثاني : ما يمكن أن يكون حلالا كالأجنبية فإن كانت ذات زوج ففي وطئها حقان . حق لله وحق للزوج . فإن كانت مكرهة ففيه ثلاثة حقوق وإن كان لها أهل وأقارب يلحقهم العار بذلك صار فيه أربعة حقوق فإن كانت ذات محرم منه صار فيه خمسة حقوق . فمضرة هذا النوع بحسب درجاته في التحريم .

وأما الضار طبعا فنوعان أيضا : نوع ضار بكيفيته كما تقدم ونوع ضار بكميته كالإكثار منه فإنه يسقط القوة ويضر بالعصب ويحدث الرعشة والفالج والتشنج ويضعف البصر وسائر القوى ويطفئ الحرارة الغريزية ويوسع المجاري ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية .

[أنفع أوقاته ]

وأنفع أوقاته ما كان بعد انهضام الغذاء في المعدة وفي زمان معتدل لا على جوع فإنه يضعف الحار الغريزي ولا على شبع فإنه يوجب أمراضا شديدة ولا على تعب ولا إثر حمام ولا استفراغ ولا انفعال نفساني كالغم والهم والحزن وشدة الفرح . وأجود أوقاته بعد هزيع من الليل إذا صادف انهضام الطعام ثم يغتسل أو يتوضأ وينام عليه وينام عقبه فتراجع إليه قواه وليحذر الحركة والرياضة عقبه فإنها مضرة جدا .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العشق
هذا مرض من أمراض القلب مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه وإذا تمكن واستحكم عز على الأطباء دواؤه وأعيا العليل داؤه وإنما حكاه الله سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس من النساء وعشاق الصبيان المردان فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف وحكاه عن قوم لوط فقال تعالى إخبارا عنهم لما جاءت الملائكة لوطا : وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ الحجر : 68 :73 ] .

[ سبب طلاق زيد لزينب ]

وأما ما زعمه بعض من لم يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره أنه ابتلي به في شأن زينب بنت جحش وأنه رآها فقال سبحان مقلب القلوب وأخذت بقلبه وجعل يقول لزيد بن حارثة : أمسكها حتى أنزل الله عليه وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه [ الأحزاب 37 ] فظن هذا الزاعم أن ذلك في شأن العشق

وصنف بعضهم كتابا في العشق وذكر فيه عشق الأنبياء وذكر هذه الواقعة وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل وتحميله كلام الله ما لا يحتمله ونسبته رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما برأه الله منه فإن زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبناه وكان يدعى زيد بن محمد وكانت زينب فيها شمم وترفع عليه فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلاقها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجك واتق الله وأخفى في نفسه أن يتزوجها إن طلقها زيد وكان يخشى من قالة الناس أنه تزوج امرأة ابنه لأن زيدا كان يدعى ابنه فهذا هو الذي أخفاه في نفسه وهذه هي الخشية من الناس التي وقعت له ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يعدد فيها نعمه عليه لا يعاتبه فيها وأعلمه أنه لا ينبغي له أن يخشى الناس فيما أحل الله له وأن الله أحق أن يخشاه فلا يتحرج ما أحله له لأجل قول الناس ثم أخبره أنه سبحانه زوجه إياها بعد قضاء زيد وطره منها لتقتدي أمته به في ذلك ويتزوج الرجل بامرأة ابنه من التبني لا امرأة ابنه لصلبه ولهذا قال في آية التحريم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم [ النساء 23 ]

وقال في هذه السورة ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [ الأحزاب 40 ] وقال في أولها : وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم [ الأحزاب 4 ] فتأمل هذا الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع طعن الطاعنين عنه وبالله التوفيق .

نعم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب نساءه وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها ولم تكن تبلغ محبته لها ولا لأحد سوى ربه نهاية الحب بل صح أنه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وفي لفظ وإن صاحبكم خليل الرحمن

فصل [ الإخلاص سبب لدفع العشق]

وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه المتعوضة بغيره عنه فإذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ولهذا قال تعالى في حق يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ يوسف 24 ] فدل على أن الإخلاص سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته فصرف المسبب صرف لسببه ولهذا قال بعض السلف العشق حركة قلب فارغ يعني فارغا مما سوى معشوقه .

قال تعالى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به [ القصص 11 ] أي فارغا من كل شيء إلا من موسى لفرط محبتها له وتعلق قلبها به .

[ علة العشق ]

والعشق مركب من أمرين استحسان للمعشوق وطمع في الوصول إليه فمتى انتفى أحدهما انتفى العشق وقد أعيت علة العشق على كثير من العقلاء وتكلم فيها بعضهم بكلام يرغب عن ذكره إلى الصواب . فنقول قد استقرت حكمة الله - عز وجل - في خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه وانجذاب الشيء إلى موافقه ومجانسه بالطبع وهروبه من مخالفه ونفرته عنه بالطبع فسر التمازج والاتصال في العالم العلوي والسفلي إنما هو التناسب والتشاكل والتوافق وسر التباين والانفصال إنما هو بعدم التشاكل والتناسب وعلى ذلك قام الخلق والأمر فالمثل إلى مثله مائل وإليه صائر والضد عن ضده هارب وعنه نافر وقد قال تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ الأعراف 189 ] فجعل سبحانه علة سكون الرجل إلى امرأته كونها من جنسه وجوهره فعلة السكون المذكور - وهو الحب - كونها منه فدل على أن العلة ليست بحسن الصورة ولا الموافقة في القصد والإرادة ولا في الخلق والهدي وإن كانت هذه أيضا من أسباب السكون والمحبة .

وقد ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وفي " مسند الإمام أحمد " وغيره في سبب هذا الحديث أن امرأة بمكة كانت تضحك الناس فجاءت إلى المدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة الحديث .

وقد استقرت شريعته سبحانه أن حكم الشيء حكم مثله فلا تفرق شريعته بين متماثلين أبدا ولا تجمع بين متضادين ومن ظن خلاف ذلك فإما لقلة علمه بالشريعة وإما لتقصيره في معرفة التماثل والاختلاف وإما لنسبته إلى شريعته ما لم ينزل به سلطانا بل يكون من آراء الرجال فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه وبالعدل والميزان قام الخلق والشرع وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين .

وهذا كما أنه ثابت في الدنيا فهو كذلك يوم القيامة . فال تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ الصافات 22 ] .

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعده الإمام أحمد رحمه الله أزواجهم أشباههم ونظراؤهم

وقال تعالى : وإذا النفوس زوجت [ التكوير 7 ] أي قرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره فقرن بين المتحابين في الله في الجنة وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان في الجحيم فالمرء مع من أحب شاء أو أبى وفي " مستدرك الحاكم " وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب المرء قوما إلا حشر معهم

[ أنواع المحبة ]

والمحبة أنواع متعددة فأفضلها وأجلها : المحبة في الله ولله وهي تستلزم محبة ما أحب الله وتستلزم محبة الله ورسوله .

ومنها محبة الاتفاق في طريقة أو دين أو مذهب أو نحلة أو قرابة أو صناعة أو مراد ما .

ومنها : محبة لنيل غرض من المحبوب إما من جاهه أو من ماله أو من تعليمه وإرشاده أو قضاء وطر منه وهذه هي المحبة العرضية التي تزول بزوال موجبها فإن من ودك لأمر ولى عنك عند انقضائه .

وأما محبة المشاكلة والمناسبة التي بين المحب والمحبوب فمحبة لازمة لا تزول إلا لعارض يزيلها ومحبة العشق من هذا النوع فإنها استحسان روحاني وامتزاج نفساني ولا يعرض في شيء من أنواع المحبة من الوسواس والنحول وشغل البال والتلف ما يعرض من العشق .

[ سبب كون العشق أحيانا من طرف واحد ]

فإن قيل فإذا كان سبب العشق ما ذكرتم من الاتصال والتناسب الروحاني فما باله لا يكون دائما من الطرفين بل تجده كثيرا من طرف العاشق وحده فلو كان سببه الاتصال النفسي والامتزاج الروحاني لكانت المحبة مشتركة بينهما .

فالجواب أن السبب قد يتخلف عنه مسببه لفوات شرط أو لوجود مانع وتخلف المحبة من الجانب الآخر لا بد أن يكون لأحد ثلاثة أسباب

الأول علة في المحبة وأنها محبة عرضية لا ذاتية ولا يجب الاشتراك في المحبة العرضية بل قد يلزمها نفرة من المحبوب .

الثاني : مانع يقوم بالمحب يمنع محبة محبوبه له إما في خلقه أو في خلقه أو هديه أو فعله أو هيئته أو غير ذلك .

الثالث مانع يقوم بالمحبوب يمنع مشاركته للمحب في محبته ولولا ذلك المانع لقام به من المحبة لمحبه مثل ما قام بالآخر فإذا انتفت هذه الموانع وكانت المحبة ذاتية فلا يكون قط إلا من الجانبين ولولا مانع الكبر والحسد والرياسة والمعاداة في الكفار لكانت الرسل أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ولما زال هذا المانع من قلوب أتباعهم كانت محبتهم لهم فوق محبة الأنفس والأهل والمال .

فصل [ علاج العشق بالزواج بالمعشوق ]

والمقصود أن العشق لما كان مرضا من الأمراض كان قابلا للعلاج وله أنواع من العلاج فإن كان مما للعاشق سبيل إلى وصل محبوبه شرعا وقدرا فهو علاجه كما ثبت في " الصحيحين " . من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء

فدل المحب على علاجين أصلي وبدلي . وأمره بالأصلي وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلا . وروى ابن ماجه في " سننه " عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لم نر للمتحابين مثل النكاح

وهذا هو المعنى الذي أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة بقوله يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء 28 ] . فذكر تخفيفه في هذا الموضع وإخباره عن ضعف الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة وأنه - سبحانه - خفف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء مثنى وثلاث ورباع وأباح له ما شاء مما ملكت يمينه ثم أباح له أن يتزوج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجا لهذه الشهوة وتخفيفا عن هذا الخلق الضعيف ورحمة به .

فصل [ ومن علاج العشق إشعار النفس اليأس منه إن كان الوصال

متعذرا قدرا وشرعا ]

وإن كان لا سبيل للعاشق إلى وصال معشوقه قدرا أو شرعا أو هو ممتنع عليه من الجهتين وهو الداء العضال فمن علاجه إشعار نفسه اليأس منه فإن النفس متى يئست من الشيء استراحت منه ولم تلتفت إليه فإن لم يزل مرض العشق مع اليأس فقد انحرف الطبع انحرافا شديدا فينتقل إلى علاج آخر وهو علاج عقله بأن يعلم بأن تعلق القلب بما لا مطمع في حصوله نوع من الجنون وصاحبه بمنزلة من يعشق الشمس وروحه متعلقة بالصعود إليها والدوران معها في فلكها وهذا معدود عند جميع العقلاء في زمرة المجانين .

[ إن كان الوصال متعذرا شرعا فعلاجه إنزاله منزلة المتعذر قدرا وذكر علاجات أخرى ]

وإن كان الوصال متعذرا شرعا لا قدرا فعلاجه بأن ينزله منزلة المتعذر قدرا إذ ما لم يأذن فيه الله فعلاج العبد ونجاته موقوف على اجتنابه فليشعر نفسه أنه معدوم ممتنع لا سبيل له إليه وأنه بمنزلة سائر المحالات فإن لم تجبه النفس الأمارة فليتركه لأحد أمرين إما خشية وإما فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له وخير له منه وأدوم لذة وسرورا فإن العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظم منه وأدوم وأنفع وألذ أو بالعكس ظهر له التفاوت فلا تبع لذة الأبد التي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب آلاما وحقيقتها أنها أحلام نائم أو خيال لا ثبات له فتذهب اللذة وتبقى التبعة وتزول الشهوة وتبقى الشقوة .

الثاني : حصول مكروه أشق عليه من فوات هذا المحبوب بل يجتمع له الأمران أعني : فوات ما هو أحب إليه من هذا المحبوب وحصول ما هو أكره إليه من فوات هذا المحبوب فإذا تيقن أن في إعطاء النفس حظها من هذا المحبوب هذين الأمرين هان عليه تركه ورأى أن صبره على قوته أسهل من صبره عليهما بكثير فعقله ودينه ومروءته وإنسانيته تأمره باحتمال الضرر اليسير الذي ينقلب سريعا لذة وسرورا وفرحا لدفع هذين الضررين العظيمين . وجهله وهواه وظلمه وطيشه وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالبا عليه ما جلب والمعصوم من عصمه الله .

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء ولم تطاوعه لهذه المعالجة فلينظر ما تجلب عليه هذه الشهوة من مفاسد عاجلته وما تمنعه من مصالحها فإنها أجلب شيء لمفاسد الدنيا وأعظم شيء تعطيلا لمصالحها فإنها تحول بين العبد وبين رشده الذي هو ملاك أمره وقوام مصالحه .

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء فليتذكر قبائح المحبوب وما يدعوه إلى النفرة عنه فإنه إن طلبها وتأملها وجدها أضعاف محاسنه التي تدعو إلى حبه وليسأل جيرانه عما خفي عليه منها فإنها المحاسن كما هي داعية الحب والإرادة فالمساوئ داعية البغض والنفرة فليوازن بين الداعيين وليحب أسبقهما وأقربهما منها بابا ولا يكن ممن غره لون جمال على جسم أبرص مجذوم وليجاوز بصره حسن الصورة إلى قبح الفعل وليعبر من حسن المنظر والجسم إلى قبح المخبر والقلب .

فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صدق اللجأ إلى من يجيب المضطر إذا دعاه وليطرح نفسه بين يديه على بابه مستغيثا به متضرعا متذللا مستكينا فمتى وفق لذلك فقد قرع باب التوفيق فليعف وليكتم ولا يشبب بذكر المحبوب ولا يفضحه بين الناس ويعرضه للأذى فإنه يكون ظالما معتديا .

[ بطلان حديث " من عشق فعف ... " ]
ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه سويد بن سعيد عن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ورواه عن أبي مسهر أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الزبير بن بكار عن عبد الملك بن عبد 253 - العزيز بن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من عشق فعف فمات فهو شهيد وفي رواية من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة

فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يكون من كلامه فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية ولها أعمال وأحوال هي شرط في حصولها وهي نوعان عامة وخاصة فالخاصة الشهادة في سبيل الله .

والعامة خمس مذكورة في " الصحيح " ليس العشق واحدا منها . وكيف يكون العشق الذي هو شرك في المحبة وفراغ القلب عن الله وتمليك القلب والروح والحب لغيره تنال به درجة الشهادة هذا من المحال فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد بل هو خمر الروح الذي يسكرها ويصدها عن ذكر الله وحبه والتلذذ بمناجاته والأنس به ويوجب عبودية القلب لغيره فإن قلب العاشق متعبد لمعشوقه بل العشق لب العبودية فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وساداتهم وخواص الأولياء فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس كان غلطا ووهما ولا يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ العشق في حديث صحيح ألبتة .

ثم إن العشق منه حلال ومنه حرام فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد فترى من يعشق امرأة غيره أو يعشق المردان والبغايا ينال بعشقه درجة الشهداء وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة ؟ كيف والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعا وقدرا والتداوي منه إما واجب إن كان عشقا حراما وإما مستحب .

وأنت إذا تأملت الأمراض والآفات التي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابها بالشهادة وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها كالمطعون والمبطون والمجنوب والغريق وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ولا علاج لها وليست أسبابها محرمة ولا يترتب عليها من فساد القلب وتعبده لغير الله ما يترتب على العشق فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلد أئمة الحديث العالمين به وبعلله فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له بصحة بل ولا بحسن كيف وقد أنكروا على سويد هذا الحديث ورموه لأجله بالعظائم واستحل بعضهم غزوه لأجله .

قال أبو أحمد بن عدي في " كامله " : هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد وكذلك قال البيهقي : إنه مما أنكر عليه وكذلك قال ابن طاهر في " الذخيرة " وذكره الحاكم في " تاريخ نيسابور " وقال أنا أتعجب من هذا الحديث فإنه لم يحدث به عن غير سويد وهو ثقة وذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " الموضوعات " وكان أبو بكر الأزرق يرفعه أولا عن سويد فعوتب فيه فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما .

ومن المصائب التي لا تحتمل جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله لا يحتمل هذا ألبتة ولا يحتمل أن يكون من حديث الماجشون عن ابن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا وفي صحته موقوفا على ابن عباس نظر وقد رمى الناس سويد بن سعيد راوي هذا الحديث بالعظائم وأنكره عليه يحيى بن معين وقال هو ساقط كذاب لو كان لي فرس ورمح كنت أغزوه وقال الإمام أحمد : متروك الحديث وقال النسائي : ليس بثقة وقال البخاري : كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه وقال ابن حبان : يأتي بالمعضلات عن الثقات يجب مجانبة ما روى . انتهى .

وأحسن ما قيل فيه قول أبي حاتم الرازي : إنه صدوق كثير التدليس ثم قول الدارقطني : هو ثقة غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكارة فيجيزه انتهى .

وعيب على مسلم إخراج حديثه وهذه حاله ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيره ولم ينفرد به ولم يكن منكرا ولا شاذا بخلاف هذا الحديث والله أعلم .

فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ الصحة بالطيب
لما كانت الرائحة الطيبة غذاء الروح والروح مطية القوى والقوى تزداد بالطيب وهو ينفع الدماغ والقلب وسائر الأعضاء الباطنية ويفرح القلب ويسر النفس ويبسط الروح وهو أصدق شيء للروح وأشده ملاءمة لها وبينه وبين الروح الطيبة نسبة قريبة . كان أحد المحبوبين من الدنيا إلى أطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه .

وفي " صحيح البخاري " أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب

وفي " صحيح مسلم " عنه صلى الله عليه وسلم من عرض عليه ريحان فلا يرده . فإنه طيب الريح خفيف المحمل

وفي " سنن أبي داود " والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة

وفي " مسند البزار " : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم جواد يحب الجود فنظفوا أفناءكم وساحاتكم ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكب في دورهم الأكب الزبالة .

وذكر ابن أبي شيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان له سكة يتطيب منها

وصح عنه أنه قال إن لله حقا على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام وإن كان له طيب أن يمس منه

وفي الطيب من الخاصية أن الملائكة تحبه والشياطين تنفر عنه وأحب شيء إلى الشياطين الرائحة المنتنة الكريهة فالأرواح الطيبة تحب الرائحة الطيبة والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة وكل روح تميل إلى ما يناسبها فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات وهذا وإن كان في النساء والرجال فإنه يتناول الأعمال والأقوال والمطاعم والمشارب والملابس والروائح إما بعموم لفظه أو بعموم معناه .



فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ صحة العين
[ حفظ صحة العين بالاكتحال ]

روى أبو داود في " سننه " عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال ليتقه الصائم قال أبو عبيد : المروح المطيب بالمسك .

وفي " سنن ابن ماجه " وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت للنبي صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل منها ثلاثا في كل عين وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثا يبتدئ بها ويختم بها وفي اليسرى ثنتين

وقد روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم من اكتحل فليوتر فهل الوتر بالنسبة إلى العينين كلتيهما فيكون في هذه ثلاث وفي هذه ثنتان واليمنى أولى بالابتداء والتفضيل أو هو بالنسبة إلى كل عين فيكون في هذه ثلاث وفي هذه ثلاث وهما قولان في مذهب أحمد وغيره .

[ فوائد الكحل للعين ]

وفي الكحل حفظ لصحة العين وتقوية للنور الباصر وجلاء لها وتلطيف للمادة الرديئة واستخراج لها مع الزينة في بعض أنواعه وله عند النوم مزيد فضل لاشتمالها على الكحل وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها وخدمة الطبيعة لها وللإثمد من ذلك خاصية .

وفي " سنن ابن ماجه " عن سالم عن أبيه يرفعه عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر

وفي " كتاب أبي نعيم " : فإنه منبتة للشعر مذهبة للقذى مصفاة للبصر

وفي " سنن ابن ماجه " أيضا : عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرفعه خير أكحالكم الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر



فصل في ذكر شيء من الأدوية والأغذية المفردة التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم مرتبة على حروف المعجم
حرف الهمزة
إثمد
هو حجر الكحل الأسود يؤتى به من أصبهان وهو أفضله ويؤتى به من جهة المغرب أيضا وأجوده السريع التفتيت الذي لفتاته بصيص وداخله أملس ليس فيه شيء من الأوساخ .

ومزاجه بارد يابس ينفع العين ويقويها ويشد أعصابها ويحفظ صحتها ويذهب اللحم الزائد في القروح ويدملها وينقي أوساخها ويجلوها ويذهب الصداع إذا اكتحل به مع العسل المائي الرقيق وإذا دق وخلط ببعض الشحوم الطرية ولطخ على حرق النار لم تعرض فيه خشكريشة ونفع من التنفط الحادث بسببه وهو أجود أكحال العين لا سيما للمشايخ والذين قد ضعفت أبصارهم إذا جعل معه شيء من المسك .

أترج
ثبت في " الصحيح " : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب

في الأترج منافع كثيرة وهو مركب من أربعة أشياء قشر ولحم وحمض وبزر ولكل واحد منها مزاج يخصه فقشره حار يابس ولحمه حار رطب وحمضه بارد يابس وبزره حار يابس .

[ منافع قشر الأترج ]

ومن منافع قشره أنه إذا جعل في الثياب منع السوس ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء ويطيب النكهة إذا أمسكه في الفم ويحلل الرياح وإذا جعل في الطعام كالأبازير أعان على الهضم . قال صاحب " القانون " : وعصارة قشره تنفع من نهش الأفاعي شربا وقشره ضمادا وحراقة قشره طلاء جيد للبرص . انتهى .

[ منافع لحم الأترج ]

وأما لحمه فملطف لحرارة المعدة نافع لأصحاب المرة الصفراء قامع للبخارات الحارة . وقال الغافقي : أكل لحمه ينفع البواسير . انتهى .

[ منافع حمض الأترج ]

وأما حمضه فقابض كاسر للصفراء ومسكن للخفقان الحار نافع من اليرقان شربا واكتحالا قاطع للقيء الصفراوي مشه للطعام عاقل للطبيعة نافع من الإسهال الصفراوي وعصارة حمضه يسكن غلمة النساء وينفع طلاء من الكلف ويذهب بالقوباء ويستدل على ذلك من فعله في الحبر إذا وقع في الثياب قلعه وله قوة تلطف وتقطع وتبرد وتطفئ حرارة الكبد وتقوي المعدة وتمنع حدة المرة الصفراء وتزيل الغم العارض منها وتسكن العطش .

[ منافع بزر الأترج ]

وأما بزره فله قوة محللة مجففة . وقال ابن ماسويه : خاصية حبه النفع من السموم القاتلة إذا شرب منه وزن مثقال مقشرا بماء فاتر وطلاء مطبوخ . وإن دق ووضع على موضع اللسعة نفع وهو ملين للطبيعة مطيب للنكهة وأكثر هذا الفعل موجود في قشره وقال غيره خاصية حبه النفع من لسعات العقارب إذا شرب منه وزن مثقالين مقشرا بماء فاتر وكذلك إذا دق ووضع على موضع اللدغة . وقال غيره حبه يصلح للسموم كلها وهو نافع من لدغ الهوام كلها .

[ قصة عن الأترج ]

وذكر أن بعض الأكاسرة غضب على قوم من الأطباء فأمر بحبسهم وخيرهم أدما لا يزيد لهم عليه فاختاروا الأترج فقيل لهم لم اخترتموه على غيره ؟ فقالوا : لأنه في العاجل ريحان ومنظره مفرح وقشره طيب الرائحة ولحمه فاكهة وحمضه أدم وحبه ترياق وفيه دهن .

[ تشبيه المؤمن بالأترج ]

وحقيق بشيء هذه منافعه أن يشبه به خلاصة الوجود وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن وكان بعض السلف يحب النظر إليه لما في منظره من التفريح .

أرز
فيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما : أنه لو كان رجلا لكان حليما الثاني : كل شيء أخرجته الأرض ففيه داء وشفاء إلا الأرز فإنه شفاء لا داء فيه ذكرناهما تنبيها وتحذيرا من نسبتهما إليه صلى الله عليه وسلم .

وبعد فهو حار يابس وهو أغذى الحبوب بعد الحنطة وأحمدها خلطا يشد البطن شدا يسيرا ويقوي المعدة ويدبغها ويمكث فيها . وأطباء الهند تزعم أنه أحمد الأغذية وأنفعها إذا طبخ بألبان البقر وله تأثير في خصب البدن وزيادة المني وكثرة التغذية وتصفية اللون .

أرز
بفتح الهمزة وسكون الراء وهو الصنوبر ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقيمها مرة وتميلها أخرى ومثل المنافق مثل الأرزة لا تزال قائمة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة وحبه حار رطب وفيه إنضاج وتليين وتحليل ولذع يذهب بنقعه في الماء وهو عسر الهضم وفيه تغذية كثيرة وهو جيد للسعال ولتنقية رطوبات الرئة ويزيد في المني ويولد مغصا وترياقه حب الرمان المز .

إذخر
ثبت في " الصحيح " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مكة : لا يختلى خلاها " فقال له العباس رضي الله عنه إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال " إلا الإذخر

والإذخر حار في الثانية يابس في الأولى لطيف مفتح للسدد وأفواه العروق يدر البول والطمث ويفتت الحصى ويحلل الأورام الصلبة في المعدة والكبد والكليتين شربا وضمادا وأصله يقوي عمود الأسنان والمعدة ويسكن الغثيان ويعقل البطن .


حرف الباء
بطيخ
روى أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل البطيخ بالرطب يقول نكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا

وفي البطيخ عدة أحاديث لا يصح منها شيء غير هذا الحديث الواحد والمراد به الأخضر وهو بارد رطب وفيه جلاء وهو أسرع انحدارا عن المعدة من القثاء والخيار وهو سريع الاستحالة إلى أي خلط كان صادفه في المعدة وإذا كان آكله محرورا انتفع به جدا وإن كان مبرودا دفع ضرره بيسير من الزنجبيل ونحوه وينبغي أكله قبل الطعام ويتبع به وإلا غثى وقيئ وقال بعض الأطباء إنه قبل الطعام يغسل البطن غسلا ويذهب بالداء أصلا .

بلح
روى النسائي وابن ماجه في " سننهما " : من هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان إذا نظر إلى ابن آدم يأكل البلح بالتمر يقول بقي ابن آدم حتى أكل الحديث بالعتيق . وفي رواية كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان يحزن إذا رأى ابن آدم يأكله يقول عاش ابن آدم حتى أكل الجديد بالخلق رواه البزار في " مسنده " وهذا لفظه .

قلت : الباء في الحديث بمعنى : مع أي كلوا هذا مع هذا قال بعض أطباء الإسلام إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكل البلح بالتمر ولم يأمر بأكل البسر مع التمر لأن البلح بارد يابس والتمر حار رطب ففي كل منهما إصلاح للآخر وليس كذلك البسر مع التمر فإن كل واحد منهما حار وإن كانت حرارة التمر أكثر ولا ينبغي من جهة الطب الجمع بين حارين أو باردين كما تقدم .

وفي هذا الحديث التنبيه على صحة أصل صناعة الطب ومراعاة التدبير الذي يصلح في دفع كيفيات الأغذية والأدوية بعضها ببعض ومراعاة القانون الطبي الذي تحفظ به الصحة .

وفي البلح برودة ويبوسة وهو ينفع الفم واللثة والمعدة وهو رديء للصدر والرئة بالخشونة التي فيه بطيء في المعدة يسير التغذية وهو للنخلة كالحصرم لشجرة العنب وهما جميعا يولدان رياحا وقراقر ونفخا ولا سيما إذا شرب عليهما الماء ودفع مضرتهما بالتمر أو بالعسل والزبد .

بسر
ثبت في " الصحيح " : أن أبا الهيثم بن التيهان لما ضافه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما جاءهم بعذق - وهو من النخلة كالعنقود من العنب - فقال له " هلا انتقيت لنا من رطبه فقال " أحببت أن تنتقوا من بسره ورطبه .

البسر حار يابس ويبسه أكثر من حره ينشف الرطوبة ويدبغ المعدة ويحبس البطن وينفع اللثة والفم وأنفعه ما كان هشا وحلوا وكثرة أكله وأكل البلح يحدث السدد في الأحشاء .

بيض
ذكر البيهقي في " شعب الإيمان " أثرا مرفوعا : أن نبيا من الأنبياء شكا إلى الله سبحانه الضعف فأمره بأكل البيض . وفي ثبوته نظر ويختار من البيض الحديث على العتيق وبيض الدجاج على سائر بيض الطير وهو معتدل يميل إلى البرودة قليلا .

قال صاحب " القانون " : ومحه حار رطب يولد دما صحيحا محمودا ويغذي غذاء يسيرا ويسرع الانحدار من المعدة إذا كان رخوا .

وقال غيره مح البيض مسكن للألم مملس للحلق وقصبة الرئة نافع للحلق والسعال وقروح الرئة والكلى والمثانة مذهب للخشونة لا سيما إذا أخذ بدهن اللوز الحلو ومنضج لما في الصدر ملين له مسهل لخشونة الحلق وبياضه إذا قطر في العين الوارمة ورما حارا برده وسكن الوجع وإذا لطخ به حرق النار أو ما يعرض له لم يدعه يتنفط وإذا لطخ به الوجع منع الاحتراق العارض من الشمس إذا خلط بالكندر ولطخ على الجبهة نفع من النزلة .

وذكره صاحب " القانون " في الأدوية القلبية ثم قال وهو - وإن لم يكن من الأدوية المطلقة - فإنه مما له مدخل في تقوية القلب جدا أعني الصفرة وهي تجمع ثلاثة معان : سرعة الاستحالة إلى الدم وقلة الفضلة وكون الدم المتولد منه مجانسا للدم الذي يغذو القلب خفيفا مندفعا إليه بسرعة ولذلك هو أوفق ما يتلافى به عادية الأمراض المحللة لجوهر الروح .

بصل
روى أبو داود في " سننه " : عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن البصل فقالت إن آخر طعام أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيه بصل

وثبت عنه في " الصحيحين " أنه منع آكله من دخول المسجد .

[ منافع البصل ]

والبصل حار في الثالثة وفيه رطوبة فضلية ينفع من تغير المياه ويدفع ريح السموم ويفتق الشهوة ويقوي المعدة ويهيج الباه ويزيد في المني ويحسن اللون ويقطع البلغم ويجلو المعدة وبزره يذهب البهق ويدلك به حول داء الثعلب فينفع جدا وهو بالملح يقلع الثآليل وإذا شمه من شرب دواء مسهلا منعه من القيء والغثيان وأذهب رائحة ذلك الدواء وإذا استعط بمائه نقى الرأس ويقطر في الأذن لثقل السمع والطنين والقيح والماء الحادث في الأذنين وينفع من الماء النازل في العينين اكتحالا يكتحل ببزره مع العسل لبياض العين والمطبوخ منه كثير الغذاء ينفع من اليرقان والسعال وخشونة الصدر ويدر البول ويلين الطبع وينفع من عضة الكلب غير الكلب إذا نطل عليها ماؤه بملح وسذاب وإذا احتمل فتح أفواه البواسير .

[ ضرر البصل ]

وأما ضرره فإنه يورث الشقيقة ويصدع الرأس ويولد أرياحا ويظلم البصر وكثرة أكله تورث النسيان ويفسد العقل ويغير رائحة الفم والنكهة ويؤذي الجليس والملائكة وإماتته طبخا تذهب بهذه المضرات منه .

وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم أمر آكله وآكل الثوم أن يميتهما طبخا ويذهب رائحته مضغ ورق السذاب عليه.

باذنجان
في الحديث الموضوع المختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم الباذنجان لما أكل له وهذا الكلام مما يستقبح نسبته إلى آحاد العقلاء فضلا عن الأنبياء وبعد فهو نوعان أبيض وأسود وفيه خلاف هل هو بارد أو حار ؟ والصحيح أنه حار وهو مولد للسوداء والبواسير والسدد والسرطان والجذام ويفسد اللون ويسوده ويضر بنتن الفم والأبيض منه المستطيل عار من ذلك .

حرف التاء
تمر
ثبت في " الصحيح " عنه صلى الله عليه وسلم من تصبح بسبع تمرات وفي لفظ من تمر العالية لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر وثبت عنه أنه قال بيت لا تمر فيه جياع أهله وثبت عنه أكل التمر بالزبد وأكل التمر بالخبز وأكله مفردا .

وهو حار في الثانية وهل هو رطب في الأولى أو يابس فيها ؟ . على قولين . وهو مقو للكبد ملين للطبع يزيد في الباه ولا سيما مع حب الصنوبر ويبرئ من خشونة الحلق ومن لم يعتده كأهل البلاد الباردة فإنه يورث لهم السدد ويؤذي الأسنان ويهيج الصداع ودفع ضرره باللوز والخشخاش وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن بما فيه من الجوهر الحار الرطب وأكله على الريق يقتل الدود فإنه مع حرارته فيه قوة ترياقية فإذا أديم استعماله على الريق خفف مادة الدود وأضعفه وقلله أو قتله وهو فاكهة وغذاء ودواء وشراب وحلوى .

تين
لما لم يكن التين بأرض الحجاز والمدينة لم يأت له ذكر في السنة فإن أرضه تنافي أرض النخل ولكن قد أقسم الله به في كتابه لكثرة منافعه وفوائده والصحيح أن المقسم به هو التين المعروف .

وهو حار وفي رطوبته ويبوسته قولان وأجوده الأبيض الناضج القشر يجلو رمل الكلى والمثانة ويؤمن من السموم وهو أغذى من جميع الفواكه وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة ويغسل الكبد والطحال وينقي الخلط البلغمي من المعدة ويغذو البدن غذاء جيدا إلا أنه يولد القمل إذا أكثر منه جدا .

ويابسه يغذو وينفع العصب وهو مع الجوز واللوز محمود قال جالينوس : " وإذا أكل مع الجوز والسذاب قبل أخذ السم القاتل نفع وحفظ من الضرر .

ويذكر عن أبي الدرداء أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين فقال " كلوا وأكل منه وقال " لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة قلت : هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوا منها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس وفي ثبوت هذا نظر .

واللحم منه أجود ويعطش المحرورين ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح وينفع السعال المزمن ويدر البول ويفتح سدد الكبد والطحال ويوافق الكلى والمثانة ولأكله على الريق منفعة عجيبة في تفتيح مجاري الغذاء وخصوصا باللوز والجوز وأكله مع الأغذية الغليظة رديء جدا والتوت الأبيض قريب منه لكنه أقل تغذية وأضر بالمعدة .

تلبينة قد تقدم إنها ماء الشعير المطحون وذكرنا منافعها وأنها أنفع لأهل الحجاز من ماء الشعير الصحيح .



حرف الثاء
ثلج
ثبت في " الصحيح " : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد

[ الداء يداوى بضده ]

وفي هذا الحديث من الفقه أن الداء يداوى بضده فإن في الخطايا من الحرارة والحريق ما يضاده الثلج والبرد والماء البارد ولا يقال إن الماء الحار أبلغ في إزالة الوسخ لأن في الماء البارد من تصليب الجسم وتقويته ما ليس في الحار والخطايا توجب أثرين التدنيس والإرخاء فالمطلوب مداواتها بما ينظف القلب ويصلبه فذكر الماء البارد والثلج والبرد إشارة إلى هذين الأمرين .

وبعد فالثلج بارد على الأصح وغلط من قال حار وشبهته تولد الحيوان فيه وهذا لا يدل على حرارته فإنه يتولد في الفواكه الباردة وفي الخل وأما تعطيشه فلتهييجه الحرارة لا لحرارته في نفسه ويضر المعدة والعصب وإذا كان وجع الأسنان من حرارة مفرطة سكنها .

ثوم
هو قريب من البصل وفي الحديث من أكلهما فليمتهما طبخا وأهدي إليه طعام فيه ثوم فأرسل به إلى أبي أيوب الأنصاري فقال يا رسول الله تكرهه وترسل به إلي ؟ فقال إني أناجي من لا تناجي

وبعد فهو حار يابس في الرابعة يسخن تسخينا قويا ويجفف تجفيفا بالغا نافع للمبرودين ولمن مزاجه بلغمي ولمن أشرف على الوقوع في الفالج وهو مجفف للمني مفتح للسدد محلل للرياح الغليظة هاضم للطعام قاطع للعطش مطلق للبطن مدر للبول يقوم في لسع الهوام وجميع الأورام الباردة مقام الترياق وإذا دق وعمل منه ضماد على نهش الحيات أو على لسع العقارب نفعها وجذب السموم منها ويسخن البدن ويزيد في حرارته ويقطع البلغم ويحلل النفخ ويصفي الحلق ويحفظ صحة أكثر الأبدان وينفع من تغير المياه والسعال المزمن ويؤكل نيئا ومطبوخا ومشويا وينفع من وجع الصدر من البرد ويخرج العلق من الحلق وإذا دق مع الخل والملح والعسل ثم وضع على الضرس المتأكل فتته وأسقطه وعلى الضرس الوجع سكن وجعه .

وإن دق منه مقدار درهمين وأخذ مع ماء العسل أخرج البلغم والدود وإذا طلي بالعسل على البهق نفع .

[ مضارالثوم ]

ومن مضاره أنه يصدع ويضر الدماغ والعينين ويضعف البصر والباه ويعطش ويهيج الصفراء ويجيف رائحة الفم ويذهب رائحته أن يمضغ عليه ورق السذاب .

ثريد
ثبت في " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام

والثريد وإن كان مركبا فإنه مركب من خبز ولحم فالخبز أفضل الأقوات واللحم سيد الإدام فإذا اجتمعا لم يكن بعدهما غاية .

[ تنازع الناس في أفضلية اللحم على الخبز ]

وتنازع الناس أيهما أفضل ؟ والصواب أن الحاجة إلى الخبز أكثر وأعم واللحم أجل وأفضل وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه وهو طعام أهل الجنة وقد قال تعالى لمن طلب البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير [ البقرة 62 ] وكثير من السلف على أن الفوم الحنطة وعلى هذا فالآية نص على أن اللحم خير من الحنطة .

حرف الجيم
جمار
قلب النخل ثبت في " الصحيحين " : عن عبد الله بن عمر قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ أتي بجمار نخلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من الشجر شجرة مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها الحديث " .

والجمار بارد يابس في الأولى يختم القروح وينفع من نفث الدم واستطلاق البطن وغلبة المرة الصفراء وثائرة الدم وليس برديء الكيموس ويغذو غذاء يسيرا وهو بطيء الهضم وشجرته كلها منافع ولهذا مثلها النبي صلى الله عليه وسلم بالرجل المسلم لكثرة خيره ومنافعه .

جبن
في " السنن " عن عبد الله بن عمر قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في تبوك فدعا بسكين وسمى وقطع رواه أبو داود وأكله الصحابة رضي الله عنهم بالشام والعراق والرطب منه غير المملوح جيد للمعدة هين السلوك في الأعضاء يزيد في اللحم ويلين البطن تليينا معتدلا والمملوح أقل غذاء من الرطب وهو رديء للمعدة مؤذ للأمعاء والعتيق يعقل البطن وكذا المشوي وينفع القروح ويمنع الإسهال .

وهو بارد رطب فإن استعمل مشويا كان أصلح لمزاجه فإن النار تصلحه وتعدله وتلطف جوهره وتطيب طعمه ورائحته . والعتيق المالح حار يابس وشيه يصلحه أيضا بتلطيف جوهره وكسر حرافته لما تجذبه النار منه من الأجزاء الحارة اليابسة المناسبة لها والمملح منه يهزل ويولد حصاة الكلى والمثانة وهو رديء للمعدة وخلطه بالملطفات أردأ بسبب تنفيذها له إلى المعدة .

حرف الحاء
حناء
قد تقدمت الأحاديث في فضله وذكر منافعه فأغنى عن إعادته .

حبة السوداء
ثبت في " الصحيحين " : من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت .

الحبة السوداء هي الشونيز في لغة الفرس وهي الكمون الأسود وتسمى الكمون الهندي قال الحربي عن الحسن إنها الخردل وحكى الهروي أنها الحبة الخضراء ثمرة البطم وكلاهما وهم والصواب أنها الشونيز .

وهي كثيرة المنافع جدا وقوله " شفاء من كل داء " مثل قوله تعالى : تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف 25 ] أي كل شيء يقبل التدمير ونظائره وهي نافعة من جميع الأمراض الباردة وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض فتوصل قوى الأدوية الباردة الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها .

وقد نص صاحب " القانون " وغيره على الزعفران في قرص الكافور لسرعة تنفيذه وإيصاله قوته وله نظائر يعرفها حذاق الصناعة ولا تستبعد منفعة الحار في أمراض حارة بالخاصية فإنك تجد ذلك في أدوية كثيرة منها : الأنزروت وما يركب معه من أدوية الرمد كالسكر وغيره من المفردات الحارة والرمد ورم حار باتفاق الأطباء وكذلك نفع الكبريت الحار جدا من الجرب .

والشونيز حار يابس في الثالثة مذهب للنفخ مخرج لحب القرع نافع من البرص وحمى الربع والبلغمية مفتح للسدد ومحلل للرياح مجفف لبلة المعدة ورطوبتها . وإن دق وعجن بالعسل وشرب بالماء الحار أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياما وإن سخن بالخل وطلي على البطن قتل حب القرع فإن عجن بماء الحنظل الرطب أو المطبوخ كان فعله في إخراج الدود أقوى ويجلو ويقطع ويحلل ويشفي من الزكام البارد إذا دق وصير في خرقة واشتم دائما أذهبه .

ودهنه نافع لداء الحية ومن الثآليل والخيلان وإذا شرب منه مثقال بماء نفع من البهر وضيق النفس والضماد به ينفع من الصداع البارد وإذا نقع منه سبع حبات عددا في لبن امرأة وسعط به صاحب اليرقان نفعه نفعا بليغا .

وإذا طبخ بخل وتمضمض به نفع من وجع الأسنان عن برد وإذا استعط به مسحوقا نفع من ابتداء الماء العارض في العين وإن ضمد به مع الخل قلع البثور والجرب المتقرح وحلل الأورام البلغمية المزمنة والأورام الصلبة وينفع من اللقوة إذا تسعط بدهنه وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال نفع من لسع الرتيلاء وإن سحق ناعما وخلط بدهن الحبة الخضراء وقطر منه في الأذن ثلاث قطرات نفع من البرد العارض فيها والريح والسدد .

وإن قلي ثم دق ناعما ثم نقع في زيت وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع نفع من الزكام العارض معه عطاس كثير .

وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن أو دهن الحناء وطلي به القروح الخارجة من الساقين بعد غسلها بالخل نفعها وأزال القروح .

وإذا سحق بخل وطلي به البرص والبهق الأسود والحزاز الغليظ نفعها وأبرأها .

وإذا سحق ناعما واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ من الماء نفعه نفعا بليغا وأمن على نفسه من الهلاك . وإذا استعط بدهنه نفع من الفالج والكزاز وقطع موادهما وإذا دخن به طرد الهوام .

وإذا أذيب الأنزروت بماء ولطخ على داخل الحلقة ثم ذر عليها الشونيز كان من الذرورات الجيدة العجيبة النفع من البواسير ومنافعه أضعاف ما ذكرنا والشربة منه درهمان وزعم قوم أن الإكثار منه قاتل .

حرير
قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحه للزبير ولعبد الرحمن بن عوف من حكة كانت بهما وتقدم منافعه ومزاجه فلا حاجة إلى إعادته .

حرف
قال أبو حنيفة الدينوري : هذا هو الحب الذي يتداوى به وهو الثفاء الذي جاء فيه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ونباته يقال له الحرف وتسميه العامة الرشاد وقال أبو عبيد : الثفاء هو الحرف .

قلت : والحديث الذي أشار إليه ما رواه أبو عبيد وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ماذا في الأمرين من الشفاء ؟ الصبر والثفاء رواه أبو داود في المراسيل .

وقوته في الحرارة واليبوسة في الدرجة الثالثة وهو يسخن ويلين البطن ويخرج الدود وحب القرع ويحلل أورام الطحال ويحرك شهوة الجماع ويجلو الجرب المتقرح والقوباء .

وإذا ضمد به مع العسل حلل ورم الطحال وإذا طبخ مع الحناء أخرج الفضول التي في الصدر وشربه ينفع من نهش الهوام ولسعها وإذا دخن به في موضع طرد الهوام عنه ويمسك الشعر المتساقط وإذا خلط بسويق الشعير والخل وتضمد به نفع من عرق النسا وحلل الأورام الحارة في آخرها .

وإذا تضمد به مع الماء والملح أنضج الدماميل وينفع من الاسترخاء في جميع الأعضاء ويزيد في الباه ويشهي الطعام وينفع الربو وعسر التنفس وغلظ الطحال وينقي الرئة ويدر الطمث وينفع من عرق النسا ووجع حق الورك مما يخرج من الفضول إذا شرب أو احتقن به ويجلو ما في الصدر والرئة من البلغم اللزج .

وإن شرب منه بعد سحقه وزن خمسة دراهم بالماء الحار أسهل الطبيعة وحلل الرياح ونفع من وجع القولنج البارد السبب وإذا سحق وشرب نفع من البرص .

وإن لطخ عليه وعلى البهق الأبيض بالخل نفع منهما وينفع من الصداع الحادث من البرد والبلغم وإن قلي وشرب عقل الطبع لا سيما إذا لم يسحق لتحلل لزوجته بالقلي وإذا غسل بمائه الرأس نقاه من الأوساخ والرطوبات اللزجة .

قال جالينوس : قوته مثل قوة بزر الخردل ولذلك قد يسخن به أوجاع الورك المعروفة بالنسا وأوجاع الرأس وكل واحد من العلل التي تحتاج إلى التسخين كما يسخن بزر الخردل وقد يخلط أيضا في أدوية يسقاها أصحاب الربو من طريق أن الأمر فيه معلوم أنه يقطع الأخلاط الغليظة تقطيعا قويا كما يقطعها بزر الخردل لأنه شبيه به في كل شيء .

حلبة
يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة فقال ادعوا له طبيبا فدعي الحارث بن كلدة فنظر إليه فقال ليس عليه بأس فاتخذوا له فريقة وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان فيحساهما ففعل ذلك فبرئ

وقوة الحلبة من الحرارة في الدرجة الثانية ومن اليبوسة في الأولى وإذا طبخت بالماء لينت الحلق والصدر والبطن وتسكن السعال والخشونة والربو وعسر النفس وتزيد في الباه وهي جيدة للريح والبلغم والبواسير محدرة الكيموسات المرتبكة في الأمعاء وتحلل البلغم اللزج من الصدر وتنفع من الدبيلات وأمراض الرئة وتستعمل لهذه الأدواء في الأحشاء مع السمن والفانيذ .

وإذا شربت مع وزن خمسة دراهم فوة أدرت الحيض وإذا طبخت وغسل بها الشعر جعدته وأذهبت الحزاز .

ودقيقها إذا خلط بالنطرون والخل وضمد به حلل ورم الطحال وقد تجلس المرأة في الماء الذي طبخت فيه الحلبة فتنتفع به من وجع الرحم العارض من ورم فيه .

وإذا ضمد به الأورام الصلبة القليلة الحرارة نفعتها وحللتها وإذا شرب ماؤها نفع من المغص العارض من الرياح وأزلق الأمعاء .

وإذا أكلت مطبوخة بالتمر أو العسل أو التين على الريق حللت البلغم اللزج العارض في الصدر والمعدة ونفعت من السعال المتطاول منه . وهي نافعة من الحصر مطلقة للبطن وإذا وضعت على الظفر المتشنج أصلحته ودهنها ينفع إذا خلط بالشمع من الشقاق العارض من البرد ومنافعها أضعاف ما ذكرنا .

ويذكر عن القاسم بن عبد الرحمن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استشفوا بالحلبة وقال بعض الأطباء لو علم الناس منافعها لاشتروها بوزنها ذهبا .

حرف الخاء
خبز
ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة

وروى أبو داود في " سننه " : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد من الخبز والثريد من الحيس

وروى أبو داود في " سننه " أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وددت أن عندي خبزة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن " فقام رجل من القوم فاتخذه فجاء به فقال في أي شيء كان هذا السمن ؟ فقال في عكة ضب فقال ارفعه .

وذكر البيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها ترفعه أكرموا الخبز ومن كرامته أن لا ينتظر به الإدام والموقوف أشبه فلا يثبت رفعه ولا رفع ما قبله .

[ لا يصح حديث في النهي عن قطع الخبز بالسكين ]

وأما حديث النهي عن قطع الخبز بالسكين فباطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما المروي النهي عن قطع اللحم بالسكين ولا يصح أيضا .

قال مهنا : سألت أحمد عن حديث أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تقطعوا اللحم بالسكين فإن ذلك من فعل الأعاجم فقال ليس بصحيح ولا يعرف هذا وحديث عمرو بن أمية خلاف هذا وحديث المغيرة - يعني بحديث عمرو بن أمية - كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من لحم الشاة وبحديث المغيرة أنه لما أضافه أمر بجنب فشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يحز

فصل [ أنواع الخبز وأنفعها ]

وأحمد أنواع الخبز أجودها اختمارا وعجنا ثم خبز التنور أجود أصنافه وبعده خبز الفرن ثم خبز الملة في المرتبة الثالثة وأجوده ما اتخذ من الحنطة الحديثة .

وأكثر أنواعه تغذية خبز السميذ وهو أبطؤها هضما لقلة نخالته ويتلوه خبز الحوارى ثم الخشكار .

[ أفضل أوقات أكله بعد خبزه ]

وأحمد أوقات أكله في آخر اليوم الذي خبز فيه واللين منه أكثر تليينا وغذاء وترطيبا وأسرع انحدارا واليابس بخلافه . ومزاج الخبز من البر حار في وسط الدرجة الثانية وقريب من الاعتدال في الرطوبة واليبوسة واليبس يغلب على ما جففته النار منه والرطوبة على ضده .

[ خبز الحنطة ]
وفي خبز الحنطة خاصية وهو أنه يسمن سريعا وخبز القطائف يولد خلطا غليظا والفتيت نفاخ بطيء الهضم والمعمول باللبن مسدد كثير الغذاء بطيء الانحدار .

[ خبز الشعير ]
وخبز الشعير بارد يابس في الأولى وهو أقل غذاء من خبز الحنطة .

خل
روى مسلم في " صحيحه " : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أهله الإدام فقالوا : ما عندنا إلا خل فدعا به وجعل يأكل ويقول نعم الإدام الخل نعم الإدام الخل

وفي " سنن ابن ماجه " عن أم سعد رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم نعم الإدام الخل اللهم بارك في الخل فإنه كان إدام الأنبياء قبلي ولم يفتقر بيت فيه الخل

الخل مركب من الحرارة والبرودة أغلب عليه وهو يابس في الثالثة قوي التجفيف يمنع من انصباب المواد ويلطف الطبيعة وخل الخمر ينفع المعدة الملتهبة ويقمع الصفراء ويدفع ضرر الأدوية القتالة ويحلل اللبن والدم إذا جمدا في الجوف وينفع الطحال ويدبغ المعدة ويعقل البطن ويقطع العطش ويمنع الورم حيث يريد أن يحدث ويعين على الهضم ويضاد البلغم ويلطف الأغذية الغليظة ويرق الدم .

وإذا شرب بالملح نفع من أكل الفطر القتال وإذا احتسي قطع العلق المتعلق بأصل الحنك وإذا تمضمض به مسخنا نفع من وجع الأسنان وقوى اللثة .

وهو نافع للداحس إذا طلي به والنملة والأورام الحارة وحرق النار وهو مشه للأكل مطيب للمعدة صالح للشباب وفي الصيف لسكان البلاد الحارة .

خلال
فيه حديثان لا يثبتان أحدهما : يروى من حديث أبي أيوب الأنصاري يرفعه يا حبذا المتخللون من الطعام إنه ليس شيء أشد على الملك من بقية تبقى في الفم من الطعام وفيه واصل بن السائب قال البخاري والرازي : منكر الحديث وقال النسائي والأزدي متروك الحديث .

الثاني : يروى من حديث ابن عباس قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن شيخ روى عنه صالح الوحاظي يقال له محمد بن عبد الملك الأنصاري حدثنا عطاء عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخلل بالليط والآس وقال إنهما يسقيان عروق الجذام فقال أبي : رأيت محمد بن عبد الملك - وكان أعمى - يضع الحديث ويكذب .

وبعد فالخلال نافع للثة والأسنان حافظ لصحتها نافع من تغير النكهة وأجوده ما اتخذ من عيدان الأخلة وخشب الزيتون والخلاف والتخلل بالقصب والآس والريحان والباذروج مضر .

حرف الدال
دهن
روى الترمذي في كتاب " الشمائل " من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيات

الدهن يسد مسام البدن ويمنع ما يتحلل منه وإذا استعمل بعد الاغتسال بالماء الحار حسن البدن ورطبه وإن دهن به الشعر حسنه وطوله ونفع من الحصبة ودفع أكثر الآفات عنه

وفي الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : كلوا الزيت وادهنوا به وسيأتي إن شاء الله تعالى .

والدهن في البلاد الحارة كالحجاز ونحوه من آكد أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لهم وأما البلاد الباردة فلا يحتاج إليه أهلها والإلحاح به في الرأس فيه خطر بالبصر . وأنفع الأدهان البسيطة الزيت ثم السمن ثم الشيرج .

[ منافع الأدهان المركبة ]

وأما المركبة فمنها بارد رطب كدهن البنفسج ينفع من الصداع الحار وينوم أصحاب السهر ويرطب الدماغ وينفع من الشقاق وغلبة اليبس والجفاف ويطلى به الجرب والحكة اليابسة فينفعها ويسهل حركة المفاصل ويصلح لأصحاب الأمزجة الحارة في زمن الصيف وفيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما فضل دهن البنفسج على سائر الأدهان كفضلي على سائر الناس .

والثاني : فضل دهن البنفسج على سائر الأدهان كفضل الإسلام على سائر الأديان .

ومنها : حار رطب كدهن البان وليس دهن زهره بل دهن يستخرج من حب أبيض أغبر نحو الفستق كثير الدهنية والدسم ينفع من صلابة العصب ويلينه وينفع من البرش والنمش والكلف والبهق ويسهل بلغما غليظا ويلين الأوتار اليابسة ويسخن العصب وقد روي فيه حديث باطل مختلق لا أصل له ادهنوا بالبان فإنه أحظى لكم عند نسائكم

ومن منافعه أنه يجلو الأسنان ويكسبها بهجة وينقيها من الصدأ ومن مسح به وجهه وأطرافه لم يصبه حصى ولا شقاق وإذا دهن به حقوه ومذاكيره وما والاها نفع من برد الكليتين وتقطير البول .



حرف الزاي
زيت
قال تعالى : يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار [ النور 35 ] .

وفي الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة .

وللبيهقي وابن ماجه أيضا : عن ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة .

الزيت حار رطب في الأولى وغلط من قال يابس والزيت بحسب زيتونه فالمعتصر من النضيج أعدله وأجوده ومن الفج فيه برودة ويبوسة ومن الزيتون الأحمر متوسط بين الزيتين ومن الأسود يسخن ويرطب باعتدال وينفع من السموم ويطلق البطن ويخرج الدود والعتيق منه أشد تسخينا وتحليلا وما استخرج منه بالماء فهو أقل حرارة وألطف وأبلغ في النفع وجميع أصنافه ملينة للبشرة وتبطئ الشيب .

[ منافع ماء الزيتون المالح ]

وماء الزيتون المالح يمنع من تنفط حرق النار ويشد اللثة وورقه ينفع من الحمرة والنملة والقروح الوسخة والشرى ويمنع العرق ومنافعه أضعاف ما ذكرنا .

زبد
روى أبو داود في " سننه " عن ابني بسر السلميين رضي الله عنهما قالا : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمنا له زبدا وتمرا وكان يحب الزبد والتمر .

الزبد حار رطب فيه منافع كثيرة منها الإنضاج والتحليل ويبرئ الأورام التي تكون إلى جانب الأذنين والحالبين وأورام الفم وسائر الأورام التي تعرض في أبدان النساء والصبيان إذا استعمل وحده وإذا لعق منه نفع في نفث الدم الذي يكون من الرئة وأنضج الأورام العارضة فيها .

وهو ملين للطبيعة والعصب والأورام الصلبة العارضة من المرة السوداء والبلغم نافع من اليبس العارض في البدن وإذا طلي به على منابت أسنان الطفل كان معينا على نباتها وطلوعها وهو نافع من السعال العارض من البرد واليبس ويذهب القوباء والخشونة التي في البدن ويلين الطبيعة ولكنه يضعف شهوة الطعام ويذهب بوخامته الحلو كالعسل والتمر وفي جمعه صلى الله عليه وسلم بين التمر وبينه من الحكمة إصلاح كل منهما بالآخر .

زبيب
روي فيه حديثان لا يصحان . أحدهما : نعم الطعام الزبيب يطيب النكهة ويذيب البلغم . والثاني : نعم الطعام الزبيب يذهب النصب ويشد العصب ويطفئ الغضب ويصفي اللون ويطيب النكهة وهذا أيضا لا يصح فيه شيء عن رسول الله .

[ أجود أنواعه ]

وبعد فأجود الزبيب ما كبر جسمه وسمن شحمه ولحمه ورق قشره ونزع عجمه وصغر حبه .

وجرم الزبيب حار رطب في الأولى وحبه بارد يابس وهو كالعنب المتخذ منه الحلو منه حار والحامض قابض بارد والأبيض أشد قبضا من غيره وإذا أكل لحمه وافق قصبة الرئة ونفع من السعال ووجع الكلى والمثانة ويقوي المعدة ويلين البطن .

والحلو اللحم أكثر غذاء من العنب وأقل غذاء من التين اليابس وله قوة منضجة هاضمة قابضة محللة باعتدال وهو بالجملة يقوي المعدة والكبد والطحال نافع من وجع الحلق والصدر والرئة والكلى والمثانة وأعدله أن يؤكل بغير عجمه .

وهو يغذي غذاء صالحا ولا يسدد كما يفعل التمر وإذا أكل منه بعجمه كان أكثر نفعا للمعدة والكبد والطحال وإذا لصق لحمه على الأظافير المتحركة أسرع قلعها والحلو منه وما لا عجم له نافع لأصحاب الرطوبات والبلغم وهو يخصب الكبد وينفعها بخاصيته .

[ نفعه للحفظ ]

وفيه نفع للحفظ قال الزهري من أحب أن يحفظ الحديث فليأكل الزبيب وكان المنصور يذكر عن جده عبد الله بن عباس عجمه داء ولحمه دواء .

زنجبيل
قال تعالى : ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا [ الإنسان 17 ] . وذكر أبو نعيم في كتاب " الطب النبوي " من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جرة زنجبيل فأطعم كل إنسان قطعة وأطعمني قطعة .

الزنجبيل حار في الثانية رطب في الأولى مسخن معين على هضم الطعام ملين للبطن تليينا معتدلا نافع من سدد الكبد العارضة عن البرد والرطوبة ومن ظلمة البصر الحادثة عن الرطوبة أكلا واكتحالا معين على الجماع وهو محلل للرياح الغليظة الحادثة في الأمعاء والمعدة .

وبالجملة فهو صالح للكبد والمعدة الباردتي المزاج وإذا أخذ منه مع السكر وزن درهمين بالماء الحار أسهل فضولا لزجة لعابية ويقع في المعجونات التي تحلل البلغم وتذيبه . والمزي منه حار يابس يهيج الجماع ويزيد في المني ويسخن المعدة والكبد ويعين على الاستمراء وينشف البلغم الغالب على البدن ويزيد في الحفظ ويوافق برد الكبد والمعدة ويزيل بلتها الحادثة عن أكل الفاكهة ويطيب النكهة ويدفع به ضرر الأطعمة الغليظة الباردة .

يتبع ..

اخت مسلمة
04-09-2009, 11:56 PM
حرف السين
سنا
قد تقدم وتقدم سنوت أيضا وفيه سبعة أقوال
أحدها : أنه العسل .
الثاني : أنه رب عكة السمن يخرج خططا سوداء على السمن .
الثالث أنه حب يشبه الكمون وليس بكمون .
الرابع الكمون الكرماني .
الخامس أنه الشبت .
السادس أنه التمر .
السابع أنه الرازيانج .

سفرجل
روى ابن ماجه في " سننه " من حديث إسماعيل بن محمد الطلحي عن نقيب بن حاجب عن أبي سعيد عن عبد الملك الزبيري عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وبيده سفرجلة فقال دونكها يا طلحة فإنها تجم الفؤاد .

ورواه النسائي من طريق آخر وقال " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في جماعة من أصحابه وبيده سفرجلة يقلبها فلما جلست إليه دحا بها إلي ثم قال دونكها أبا ذر فإنها تشد القلب وتطيب النفس وتذهب بطخاء الصدر .

وقد روي في السفرجل أحاديث أخر هذا أمثلها ولا تصح .

والسفرجل بارد يابس ويختلف في ذلك باختلاف طعمه وكله بارد قابض جيد للمعدة والحلو منه أقل برودة ويبسا وأميل إلى الاعتدال والحامض أشد قبضا ويبسا وبرودة وكله يسكن العطش والقيء ويدر البول ويعقل الطبع وينفع من قرحة الأمعاء ونفث الدم والهيضة وينفع من الغثيان ويمنع من تصاعد الأبخرة إذا استعمل بعد الطعام وحراقة أغصانه وورقه المغسولة كالتوتياء في فعلها .

وهو قبل الطعام يقبض وبعده يلين الطبع ويسرع بانحدار الثفل والإكثار منه مضر بالعصب مولد للقولنج ويطفئ المرة الصفراء المتولدة في المعدة .

وإن شوي كان أقل لخشونته وأخف وإذا قور وسطه ونزع حبه وجعل فيه العسل وطين جرمه بالعجين وأودع الرماد الحار نفع نفعا حسنا .

وأجود ما أكل مشويا أو مطبوخا بالعسل وحبه ينفع من خشونة الحلق وقصبة الرئة وكثير من الأمراض ودهنه يمنع العرق ويقوي المعدة والمربى منه يقوي المعدة والكبد ويشد القلب ويطيب النفس .

ومعنى تجم الفؤاد تريحه . وقيل تفتحه وتوسعه من جمام الماء وهو اتساعه وكثرته والطخاء للقلب مثل الغيم على السماء . قال أبو عبيد الطخاء ثقل وغشي تقول ما في السماء طخاء أي سحاب وظلمة .

سواك
في " الصحيحين " عنه صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة .

وفيهما : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك .

وفي " صحيح البخاري " تعليقا عنه صلى الله عليه وسلم السواك مطهرة للفم مرضاة للرب .

وفي " صحيح مسلم " : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك .

والأحاديث فيه كثيرة وصح عنه من حديث أنه استاك عند موته بسواك عبد الرحمن بن أبي بكر وصح عنه أنه قال أكثرت عليكم في السواك .

وأصلح ما اتخذ السواك من خشب الأراك ونحوه ولا ينبغي أن يؤخذ من شجرة مجهولة فربما كانت سما وينبغي القصد في استعماله فإن بالغ فيه فربما أذهب طلاوة الأسنان وصقالتها وهيأها لقبول الأبخرة المتصاعدة من المعدة والأوساخ ومتى استعمل باعتدال جلا الأسنان وقوى العمود وأطلق اللسان ومنع الحفر وطيب النكهة ونقى الدماغ وشهى الطعام .

وأجود ما استعمل مبلولا بماء الورد ومن أنفعه أصول الجوز قال صاحب " التيسير " : زعموا أنه إذا استاك به المستاك كل خامس من الأيام نقى الرأس وصفى الحواس وأحد الذهن .

[منافع السواك ]

وفي السواك عدة منافع يطيب الفم ويشد اللثة ويقطع البلغم ويجلو البصر ويذهب بالحفر ويصح المعدة ويصفي الصوت ويعين على هضم الطعام ويسهل مجاري الكلام وينشط للقراءة والذكر والصلاة ويطرد النوم ويرضي الرب ويعجب الملائكة ويكثر الحسنات .

[أوقات استحبابه ]

ويستحب كل وقت ويتأكد عند الصلاة والوضوء والانتباه من النوم وتغيير رائحة الفم ويستحب للمفطر والصائم في كل وقت لعموم الأحاديث فيه ولحاجة الصائم إليه ولأنه مرضاة للرب ومرضاته مطلوبة في الصوم أشد من طلبها في الفطر ولأنه مطهرة للفم والطهور للصائم من أفضل أعماله .

[استياك الصائم ]

وفي " السنن " : عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم وقال البخاري قال ابن عمر : يستاك أول النهار وآخره .

وأجمع الناس على أن الصائم يتمضمض وجوبا واستحبابا والمضمضة أبلغ من السواك وليس لله غرض في التقرب إليه بالرائحة الكريهة ولا هي من جنس ما شرع التعبد به وإنما ذكر طيب الخلوف عند الله يوم القيامة حثا منه على الصوم لا حثا على إبقاء الرائحة بل الصائم أحوج إلى السواك من المفطر .

وأيضا فإن رضوان الله أكبر من استطابته لخلوف فم الصائم .

وأيضا فإن محبته للسواك أعظم من محبته لبقاء خلوف فم الصائم .

وأيضا فإن السواك لا يمنع طيب الخلوف الذي يزيله السواك عند الله يوم القيامة بل يأتي الصائم يوم القيامة وخلوف فمه أطيب من المسك علامة على صيامه ولو أزاله بالسواك كما أن الجريح يأتي يوم القيامة ولون دم جرحه لون الدم وريحه ريح المسك وهو مأمور بإزالته في الدنيا .

وأيضا فإن الخلوف لا يزول بالسواك فإن سببه قائم وهو خلو المعدة عن الطعام وإنما يزول أثره وهو المنعقد على الأسنان واللثة .

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته ما يستحب لهم في الصيام وما يكره لهم ولم يجعل السواك من القسم المكروه وهو يعلم أنهم يفعلونه وقد حضهم عليه بأبلغ ألفاظ العموم والشمول وهم يشاهدونه يستاك وهو صائم مرارا كثيرة تفوت الإحصاء ويعلم أنهم يقتدون به ولم يقل لهم يوما من الدهر لا تستاكوا بعد الزوال وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع والله أعلم .

سمن
روى محمد بن جرير الطبري بإسناده من حديث صهيب يرفعه عليكم بألبان البقر فإنها شفاء وسمنها دواء ولحومها داء رواه عن أحمد بن الحسن الترمذي حدثنا محمد بن موسى النسائي حدثنا دفاع بن دغفل السدوسي عن عبد الحميد بن صيفي بن صهيب عن أبيه عن جده ولا يثبت ما في هذا الإسناد .

والسمن حار رطب في الأولى وفيه جلاء يسير ولطافة وتفشية الأورام الحادثة من الأبدان الناعمة وهو أقوى من الزبد في الإنضاج والتليين وذكر جالينوس أنه أبرأ به الأورام الحادثة في الأذن وفي الأرنبة وإذا دلك به موضع الأسنان نبتت سريعا وإذا خلط مع عسل ولوز مر جلا ما في الصدر والرئة والكيموسات الغليظة اللزجة إلا أنه ضار بالمعدة سيما إذا كان مزاج صاحبها بلغميا .

[منافع سمن البقر والمعز ]
وأما سمن البقر والمعز فإنه إذا شرب مع العسل نفع من شرب السم القاتل ومن لدغ الحيات والعقارب وفي " كتاب ابن السني " عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لم يستشف الناس بشيء أفضل من السمن .

سمك
روى الإمام أحمد بن حنبل وابن ماجه في " سننه " من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال .

[أجود أصنافه ]

[أصلح أماكنه ]

أصناف السمك كثيرة وأجوده ما لذ طعمه وطاب ريحه وتوسط مقداره وكان رقيق القشر ولم يكن صلب اللحم ولا يابسه وكان في ماء عذب جار على الحصباء ويغتذي بالنبات لا الأقذار وأصلح أماكنه ما كان في نهر جيد الماء وكان يأوي إلى الأماكن الصخرية ثم الرملية والمياه الجارية العذبة التي لا قذر فيها ولا حمأة الكثيرة الاضطراب والتموج المكشوفة للشمس والرياح .

[منافع السمك الطري ]

والسمك البحري فاضل محمود لطيف والطري منه بارد رطب عسر الانهضام يولد بلغما كثيرا إلا البحري وما جرى مجراه فإنه يولد خلطا محمودا وهو يخصب البدن ويزيد في المني ويصلح الأمزجة الحارة .

[السمك المالح ]

وأما المالح فأجوده ما كان قريب العهد بالتملح وهو حار يابس وكلما تقادم عهده ازداد حره ويبسه والسلور منه كثير اللزوجة ويسمى الجري واليهود لا تأكله وإذا أكل طريا كان ملينا للبطن وإذا ملح وعتق وأكل صفى قصبة الرئة وجود الصوت وإذا دق ووضع من خارج أخرج السلى والفضول من عمق البدن من طريق أن له قوة جاذبة .

وماء ملح الجري المالح إذا جلس فيه من كانت به قرحة الأمعاء في ابتداء العلة وافقه بجذبه المواد إلى ظاهر البدن وإذا احتقن به أبرأ من عرق النسا .

[منافع الطري السمين منه ]

وأجود ما في السمك ما قرب من مؤخرها والطري السمين منه يخصب البدن لحمه وودكه . وفي " الصحيحين " : من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح فأتينا الساحل فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فألقى لنا البحر حوتا يقال لها : عنبر فأكلنا منه نصف شهر وائتدمنا بودكه حتى ثابت أجسامنا فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه وحمل رجلا على بعيره ونصبه فمر تحته .

سلق
روى الترمذي وأبو داود عن أم المنذر قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي رضي الله عنه ولنا دوال معلقة قالت فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل وعلي معه يأكل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مه يا علي فإنك ناقه " قالت فجعلت لهم سلقا وشعيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا علي فأصب من هذا فإنه أوفق لك . قال الترمذي حديث حسن غريب .

السلق حار يابس في الأولى وقيل رطب فيها وقيل مركب منهما وفيه برودة ملطفة وتحليل . وتفتيح وفي الأسود منه قبض ونفع من داء الثعلب والكلف والحزاز والثآليل إذا طلي بمائه ويقتل القمل ويطلى به القوباء مع العسل ويفتح سدد الكبد والطحال وأسوده يعقل البطن ولا سيما مع العدس وهما رديئان . والأبيض يلين مع العدس ويحقن بمائه للإسهال وينفع من القولنح مع المري والتوابل وهو قليل الغذاء رديء الكيموس يحرق الدم ويصلحه الخل والخردل والإكثار منه يولد القبض .

حرف الشين
شونيز
هو الحبة السوداء وقد تقدم في حرف الحاء .

شبرم
روى الترمذي وابن ماجه في " سننهما " : من حديث أسماء بنت عميس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا كنت تستمشين ؟ " قالت بالشبرم . قال " حار جار

الشبرم شجر صغير وكبير كقامة الرجل وأرجح له قضبان حمر ملمعة ببياض وفي رءوس قضبانه جمة من ورق وله نور صغار أصفر إلى البياض يسقط ويخلفه مراود صغار فيها حب صغير مثل البطم في قدره أحمر اللون ولها عروق عليها قشور حمر والمستعمل منه قشر عروقه ولبن قضبانه .

وهو حار يابس في الدرجة الرابعة ويسهل السوداء والكيموسات الغليظة والماء الأصفر والبلغم مكرب مغث والإكثار منه يقتل وينبغي إذا استعمل أن ينقع في اللبن الحليب يوما وليلة ويغير عليها اللبن في اليوم مرتين أو ثلاثا ويخرج ويجفف في الظل ويخلط معه الورود والكثيراء ويشرب بماء العسل أو عصير العنب والشربة منه ما بين أربع دوانق إلى دانقين على حسب القوة قال حنين : أما لبن الشبرم فلا خير فيه ولا أرى شربه البتة فقد قتل به أطباء الطرقات كثيرا من الناس

شعير
روى ابن ماجه : من حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أحدا من أهله الوعك أمر بالحساء من الشعير فصنع ثم أمرهم فحسوا منه ثم يقول " إنه ليرتو فؤاد الحزين ويسرو فؤاد السقيم كما تسروا إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها ومعنى يرتوه يشده ويقويه . ويسرو يكشف ويزيل .

[منافع ماء الشعير المغلي وصفته ]

وقد تقدم أن هذا هو ماء الشعير المغلي وهو أكثر غذاء من سويقه وهو نافع للسعال وخشونة الحلق صالح لقمع حدة الفضول مدر للبول جلاء لما في المعدة قاطع للعطش مطفئ للحرارة وفيه قوة يجلو بها ويلطف ويحلل .

وصفته أن يؤخذ من الشعير الجيد المرضوض مقدار ومن الماء الصافي العذب خمسة أمثاله ويلقى في قدر نظيف ويطبخ بنار معتدلة إلى أن يبقى منه خمساه ويصفى ويستعمل منه مقدار الحاجة محلا.

شواء
قال الله تعالى في ضيافة خليله إبراهيم عليه السلام لأضيافه فما لبث أن جاء بعجل حنيذ [ هود : 69 ] والحنيذ المشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة .

وفي الترمذي : عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قربت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جنبا مشويا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ قال الترمذي : حديث صحيح .

وفيه أيضا : عن عبد الله بن الحارث قال أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شواء في المسجد وفيه أيضا : عن المغيرة بن شعبة قال ضفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه قال فجاء بلال يؤذن للصلاة فألقى الشفرة فقال " ما له تربت يداه "

أنفع الشواء شواء الضأن الحولي ثم العجل اللطيف السمين وهو حار رطب إلى اليبوسة كثير التوليد للسوداء وهو من أغذية الأقوياء والأصحاء والمرتاضين والمطبوخ أنفع وأخف على المعدة وأرطب منه ومن المطجن .

وأردؤه المشوي في الشمس والمشوي على الجمر خير من المشوي باللهب وهو الحنيذ .

شحم
ثبت في " المسند " : عن أنس أن يهوديا أضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم له خبز شعير وإهالة سنخة والإهالة الشحم المذاب والألية والسنخة المتغيرة

وثبت في " الصحيح " : عن عبد الله بن مغفل قال دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت والله لا أعطي أحدا منه شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ولم يقل شيئا

أجود الشحم ما كان من حيوان مكتمل وهو حار رطب وهو أقل رطوبة من السمن ولهذا لو أذيب الشحم والسمن كان الشحم أسرع جمودا وهو ينفع من خشونة الحلق ويرخي ويعفن ويدفع ضرره بالليمون المملوح والزنجبيل وشحم المعز أقبض الشحوم وشحم التيوس أشد تحليلا وينفع من قروح الأمعاء وشحم العنز أقوى في ذلك ويحتقن به للسحج والزحير .

حرف الصاد
صلاة
قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة 45 ] وقال يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين [ البقرة 153 ] . وقال تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ طه : 132 ] .

وفي " السنن " : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة

وقد تقدم ذكر الاستشفاء بالصلاة من عامة الأوجاع قبل استحكامها .

[منافع الصلاة ]

والصلاة مجلبة للرزق حافظة للصحة دافعة للأذى مطردة للأدواء مقوية للقلب مبيضة للوجه مفرحة للنفس مذهبة للكسل منشطة للجوارح ممدة للقوى شارحة للصدر مغذية للروح منورة للقلب حافظة للنعمة دافعة للنقمة جالبة للبركة مبعدة من الشيطان مقربة من الرحمن .

وبالجملة فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما ودفع المواد الرديئة عنهما وما ابتلي رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلا كان حظ المصلي منهما أقل وعاقبته أسلم .

وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا ولا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهرا وباطنا فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة ولا استجلبت مصالحهما بمثل الصلاة وسر ذلك أن الصلاة صلة بالله عز وجل وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها وتقطع عنه من الشرور أسبابها وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل والعافية والصحة والغنيمة والغنى والراحة والنعيم والأفراح والمسرات كلها محضرة لديه ومسارعة إليه .

صبر
الصبر نصف الإيمان فإنه ماهية مركبة من صبر وشكر كما قال بعض السلف الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر قال تعالى : إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور [ إبراهيم 5 ] والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وهو ثلاثة أنواع صبر على فرائض الله فلا يضيعها وصبر عن محارمه فلا يرتكبها وصبر على أقضيته وأقداره فلا يتسخطها ومن استكمل هذه المراتب الثلاث استكمل الصبر ولذة الدنيا والآخرة ونعيمها والفوز والظفر فيهما لا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر كما لا يصل أحد إلى الجنة إلا على الصراط قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه خير عيش أدركناه بالصبر وإذا تأملت مراتب الكمال المكتسب في العالم رأيتها كلها منوطة بالصبر وإذا تأملت النقصان الذي يذم صاحبه عليه ويدخل تحت قدرته رأيته كله من عدم الصبر فالشجاعة والعفة والجود والإيثار كله صبر ساعة .

فالصبر طلسم على كنز العلى

من حل ذا الطلسم فاز بكنزه


[أكثر أسقام البدن والقلب من عدم الصبر ]

وأكثر أسقام البدن والقلب إنما تنشأ عن عدم الصبر فما حفظت صحة القلوب والأبدان والأرواح بمثل الصبر فهو الفاروق الأكبر والترياق الأعظم ولو لم يكن فيه إلا معية الله مع أهله فإن الله مع الصابرين ومحبته لهم فإن الله يحب الصابرين ونصره لأهله فإن النصر مع الصبر وإنه خير لأهله ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ النحل 126 ] وإنه سبب الفلاح يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [ آل عمران 200 ] .

صبر
روى أبو داود في كتاب ( المراسيل من حديث قيس بن رافع القيسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ماذا في الأمرين من الشفاء ؟ الصبر والثفاء وفي " السنن " لأبي داود : من حديث أم سلمة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرا فقال ماذا يا أم سلمة ؟ " فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب قال " إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل ونهى عنه بالنهار .

[منافع الصبر عامة ]

الصبر كثير المنافع لا سيما الهندي منه ينقي الفضول الصفراوية التي في الدماغ وأعصاب البصر وإذا طلي على الجبهة والصدغ بدهن الورد نفع من الصداع وينفع من قروح الأنف والفم ويسهل السوداء والماليخوليا .

[ منافع الصبر الفارسي ]

والصبر الفارسي يذكي العقل ويمد الفؤاد وينقي الفضول الصفراوية والبلغميه من المعدة إذا شرب منه ملعقتان بماء ويرد الشهوة الباطلة والفاسدة وإذا شرب في البرد خيف أن يسهل دما .

صوم
الصوم جنة من أدواء الروح والقلب والبدن منافعه تفوت الإحصاء وله تأثير عجيب في حفظ الصحة وإذابة الفضلات وحبس النفس عن تناول مؤذياتها ولا سيما إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعا وحاجة البدن إليه طبعا .

ثم إن فيه من إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها وفيه خاصية تقتضي إيثاره وهي تفريحه للقلب عاجلا وآجلا وهو أنفع شيء لأصحاب الأمزجة الباردة والرطبة وله تأثير عظيم في حفظ صحتهم .

وهو يدخل في الأدوية الروحانية والطبيعية وإذا راعى الصائم فيه ما ينبغي مراعاته طبعا وشرعا عظم انتفاع قلبه وبدنه به وحبس عنه المواد الغريبة الفاسدة التي هو مستعد لها وأزال المواد الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه ويحفظ الصائم مما ينبغي أن يتحفظ منه ويعينه على قيامه بمقصود الصوم وسره وعلته الغائية فإن القصد منه أمر آخر وراء ترك الطعام والشراب وباعتبار ذلك الأمر اختص من بين الأعمال بأنه لله سبحانه ولما كان وقاية وجنة بين العبد وبين ما يؤذي قلبه وبدنه عاجلا وآجلا قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة 183 ] فأحد مقصودي الصيام الجنة والوقاية وهي حمية عظيمة النفع والمقصود الآخر اجتماع القلب والهم على الله تعالى وتوفير قوى النفس على محابه وطاعته وقد تقدم الكلام في بعض أسرار الصوم عند ذكر هديه صلى الله عليه وسلم فيه .



حرف الضاد
ضب
ثبت في " الصحيحين " : من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنه لما قدم إليه وامتنع من أكله أحرام هو ؟ فقال لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه . وأكل بين يديه وعلى مائدته وهو ينظر

وفي " الصحيحين " : من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أحله ولا أحرمه

وهو حار يابس يقوي شهوة الجماع وإذا دق ووضع على موضع الشوكة اجتذبها .

ضفدع
قال الإمام أحمد : الضفدع لا يحل في الدواء نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها يريد الحديث الذي رواه في " مسنده " من حديث عثمان بن عبد الرحمن رضي الله عنه أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن قتلها

قال صاحب القانون : من أكل من دم الضفدع أو جرمه ورم بدنه وكمد لونه وقذف المني حتى يموت ولذلك ترك الأطباء استعماله خوفا من ضرره وهي نوعان مائية وترابية والترابية يقتل أكلها .

حرف الطاء
طيب
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حبب إلي من دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة

وكان صلى الله عليه وسلم يكثر التطيب وتشتد عليه الرائحة الكريهة وتشق عليه والطيب غذاء الروح التي هي مطية القوى تتضاعف وتزيد بالطيب كما تزيد بالغذاء والشراب والدعة والسرور ومعاشرة الأحبة وحدوث الأمور المحبوبة وغيبة من تسر غيبته ويثقل على الروح مشاهدته كالثقلاء والبغضاء فإن معاشرتهم توهن القوى وتجلب الهم والغم وهي للروح بمنزلة الحمى للبدن وبمنزلة الرائحة الكريهة ولهذا كان مما حبب الله سبحانه الصحابة بنهيهم عن التخلق بهذا الخلق في معاشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأذيه بذلك فقال إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق [ الأحزاب 53 ] .

والمقصود أن الطيب كان من أحب الأشياء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وله تأثير في حفظ الصحة ودفع كثير من الآلام وأسبابها بسبب قوة الطبيعة به .

طين
ورد في أحاديث موضوعة لا يصح منها شيء مثل حديث من أكل الطين فقد أعان على قتل نفسه ومثل حديث يا حميراء لا تأكلي الطين فإنه يعصم البطن ويصفر اللون ويذهب بهاء الوجه

وكل حديث في الطين فإنه لا يصح ولا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه رديء مؤذ يسد مجاري العروق وهو بارد يابس قوي التجفيف ويمنع استطلاق البطن ويوجب نفث الدم وقروح الفم .

طلح
قال تعالى : وطلح منضود [ الواقعة 29 ] قال أكثر المفسرين هو الموز . والمنضود هو الذي قد نضد بعضه على بعض كالمشط .

وقيل الطلح الشجر ذو الشوك نضد مكان كل شوكة ثمرة فثمره قد نضد بعضه إلى بعض فهو مثل الموز وهذا القول أصح ويكون من ذكر الموز من السلف أراد التمثيل لا التخصيص والله أعلم .

وهو حار رطب أجوده النضيج الحلو ينفع من خشونة الصدر والرئة والسعال وقروح الكليتين والمثانة ويدر البول ويزيد في المني ويحرك الشهوة للجماع ويلين البطن ويؤكل قبل الطعام ويضر المعدة ويزيد في الصفراء والبلغم ودفع ضرره بالسكر أو العسل .

طلع
قال تعالى : والنخل باسقات لها طلع نضيد [ ق : 10 ] وقال تعالى : ونخل طلعها هضيم [ الشعراء 148 ] .

طلع النخل ما يبدو من ثمرته في أول ظهوره وقشره يسمى الكفرى والنضيد المنضود الذي قد نضد بعضه على بعض وإنما يقال له نضيد ما دام في كفراه فإذا انفتح فليس بنضيد .

وأما الهضيم فهو المنضم بعضه إلى بعض فهو كالنضيد أيضا وذلك يكون قبل تشقق الكفرى عنه .

والطلع نوعان ذكر وأنثى والتلقيح هو أن يؤخذ من الذكر وهو مثل دقيق الحنطة فيجعل في الأنثى وهو التأبير فيكون ذلك بمنزلة اللقاح بين الذكر والأنثى وقد روى مسلم في " صحيحه " : عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نخل فرأى قوما يلقحون فقال ما يصنع هؤلاء ؟ " قالوا : يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى قال " ما أظن ذلك يغني شيئا " فبلغهم فتركوه فلم يصلح فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هو ظن فإن كان يغني شيئا فاصنعوه فإنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم عن الله عز وجل . فلن أكذب على الله انتهى .

طلع النخل ينفع من الباه ويزيد في المباضعة ودقيق طلعه إذا تحملت به المرأة قبل الجماع أعان على الحبل إعانة بالغة وهو في البرودة واليبوسة في الدرجة الثانية يقوي المعدة ويجففها ويسكن ثائرة الدم مع غلظة وبطء هضم .

ولا يحتمله إلا أصحاب الأمزجة الحارة ومن أكثر منه فإنه ينبغي أن يأخذ عليه شيئا من الجوارشات الحارة وهو يعقل الطبع ويقوي الأحشاء والجمار يجري مجراه وكذلك البلح والبسر والإكثار منه يضر بالمعدة والصدر، وربما أورث القولنج، وإصلاحه بالسمن، أو بما تقدم ذكره.


افتراضي

حرف العين
عنب
في " الغيلانيات " من حديث حبيب بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل العنب خرطا قال أبو جعفر العقيلي : لا أصل لهذا الحديث قلت وفيه داود بن عبد الجبار أبو سليم الكوفي قال يحيى بن معين : كان يكذب .

ويذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب العنب والبطيخ .

وقد ذكر الله سبحانه العنب في ستة مواضع من كتابه في جملة نعمه التي أنعم بها على عباده في هذه الدار وفي الجنة وهو من أفضل الفواكه وأكثرها منافع وهو يؤكل رطبا ويابسا وأخضر ويانعا وهو فاكهة مع الفواكه وقوت مع الأقوات وأدم مع الإدام ودواء مع الأدوية وشراب مع الأشربة وطبعه طبع الحبات الحرارة والرطوبة وجيده الكبار المائي والأبيض أحمد من الأسود إذا تساويا في الحلاوة والمتروك بعد قطفه يومين أو ثلاثة أحمد من المقطوف في يومه فإنه منفخ مطلق للبطن والمعلق حتى يضمر قشره جيد للغذاء مقو للبدن وغذاؤه كغذاء التين والزبيب وإذا ألقي عجم العنب كان أكثر تليينا للطبيعة والإكثار منه مصدع للرأس ودفع مضرته بالرمان المز .

ومنفعة العنب يسهل الطبع ويسمن ويغذو جيده غذاء حسنا وهو أحد الفواكه الثلاث التي هي ملوك الفواكه هو والرطب والتين .

عسل
قد تقدم ذكر منافعه . قال ابن جريج : قال الزهري : عليك بالعسل فإنه جيد للحفظ وأجوده أصفاه وأبيضه وألينه حدة وأصدقه حلاوة وما يؤخذ من الجبال والشجر له فضل على ما يؤخذ من الخلايا وهو بحسب مرعى نحله .

عجوة
في " الصحيحين " : من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر

وفي " سنن النسائي " وابن ماجه : من حديث جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم العجوة من الجنة وهي شفاء من السم والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين

وقد قيل إن هذا في عجوة المدينة وهي أحد أصناف التمر بها ومن أنفع تمر الحجاز على الإطلاق وهو صنف كريم ملذذ متين للجسم والقوة من ألين التمر وأطيبه وألذه وقد تقدم ذكر التمر وطبعه ومنافعه في حرف التاء والكلام على دفع العجوة للسم والسحر فلا حاجة لإعادته .

[إباحة ما في البحر لا يختص بالسمك ]

عنبر
تقدم في " الصحيحين " من حديث جابر في قصة أبي عبيدة وأكلهم من العنبر شهرا وأنهم تزودوا من لحمه وشائق إلى المدينة وأرسلوا منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحد ما يدل على أن إباحة ما في البحر لا يختص بالسمك وعلى أن ميتته حلال واعترض على ذلك بأن البحر ألقاه حيا ثم جزر عنه الماء فمات وهذا حلال فإن موته بسبب مفارقته للماء وهذا لا يصح فإنهم إنما وجدوه ميتا بالساحل ولم يشاهدوه قد خرج عنه حيا ثم جزر عنه الماء .

وأيضا : فلو كان حيا لما ألقاه البحر إلى ساحله فإنه من المعلوم أن البحر إنما يقذف إلى ساحله الميت من حيواناته لا الحي منها .

وأيضا : فلو قدر احتمال ما ذكروه لم يجز أن يكون شرطا في الإباحة فإنه لا يباج الشيء مع الشك في سبب إباحته ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الصيد إذا وجده الصائد غريقا في الماء للشك في سبب موته هل هو الآلة أم الماء ؟ .

[طيب العنبر والمفاضلة بينه وبين المسك ]

وأما العنبر الذي هو أحد أنواع الطيب فهو من أفخر أنواعه بعد المسك وأخطأ من قدمه على المسك وجعله سيد أنواع الطيب وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المسك هو أطيب الطيب وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الخصائص والمنافع التي خص بها المسك حتى إنه طيب الجنة والكثبان التي هي مقاعد الصديقين هناك من مسك لا من عنبر .

والذي غر هذا القائل أنه لا يدخله التغير على طول الزمان فهو كالذهب وهذا يدل على أنه أفضل من المسك فإنه بهذه الخاصية الواحدة لا يقاوم ما في المسك من الخواص .

[أنواع طيب العنبر ]

وبعد فضروبه كثيرة وألوانه مختلفة فمنه الأبيض والأشهب والأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والأسود وذو الألوان وأجوده الأشهب ثم الأزرق ثم الأصفر وأردؤه الأسود . وقد اختلف الناس في عنصره فقالت طائفة هو نبات ينبت في قعر البحر فيبتلعه بعض دوابه فإذا ثملت منه قذفته رجيعا فيقذفه البحر إلى ساحله . وقيل طل ينزل من السماء في جزائر البحر فتلقيه الأمواج إلى الساحل وقيل روث دابة بحرية تشبه البقرة . وقيل بل هو جفاء من جفاء البحر أي زبد .

وقال صاحب " القانون " : هو فيما يظن ينبع من عين في البحر والذي يقال إنه زبد البحر أو روث دابة بعيد انتهى .

ومزاجه حار يابس مقو للقلب والدماغ والحواس وأعضاء البدن نافع من الفالج واللقوة والأمراض البلغمية وأوجاع المعدة الباردة والرياح الغليظة ومن السدد إذا شرب أو طلي به من خارج وإذا تبخر به نفع من الزكام والصداع والشقيقة الباردة .

عود
العود الهندي نوعان أحدهما : يستعمل في الأدوية وهو الكست ويقال له القسط وسيأتي في حرف القاف . الثاني : يستعمل في الطيب ويقال له الألوة . وقد روى مسلم في " صحيحه " : عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يستجمر بالألوة غير مطراة وبكافور يطرح معها ويقول هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه في صفة نعيم أهل الجنة مجامرهم الألوة والمجامر جمع مجمر وهو ما يتجمر به من عود وغيره وهو أنواع . أجودها : الهندي ثم الصيني ثم القماري ثم المندلي وأجوده الأسود والأزرق الصلب الرزين الدسم وأقله جودة ما خف وطفا على الماء ويقال إنه شجر يقطع ويدفن في الأرض سنة فتأكل الأرض منه ما لا ينفع ويبقى عود الطيب لا تعمل فيه الأرض شيئا يتعفن منه قشره وما لا طيب فيه .

وهو حار يابس في الثالثة يفتح السدد ويكسر الرياح ويذهب بفضل الرطوبة ويقوي الأحشاء والقلب ويفرحه وينفع الدماغ ويقوي الحواس ويحبس البطن وينفع من سلس البول الحادث عن برد المثانة .

قال ابن سمجون : العود ضروب كثيرة يجمعها اسم الألوة ويستعمل من داخل وخارج ويتجمر به مفردا ومع غيره وفي الخلط للكافور به عند التجمير معنى طبي وهو إصلاح كل منهما بالآخر وفي التجمر مراعاة جوهر الهواء وإصلاحه فإنه أحد الأشياء الستة الضرورية التي في صلاحها صلاح الأبدان .

عدس
قد ورد فيه أحاديث كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا منها كحديث إنه قدس على لسان سبعين نبيا وحديث إنه يرق القلب ويغزر الدمعة وإنه مأكول الصالحين وأرفع شيء جاء فيه وأصحه أنه شهوة اليهود التي قدموها على المن والسلوى وهو قرين الثوم والبصل في الذكر .

وطبعه طبع المؤنث بارد يابس وفيه قوتان متضادتان . إحداهما : يعقل الطبيعة . والأخرى : يطلقها وقشره حار يابس في الثالثة حريف مطلق للبطن وترياقه في قشره ولهذا كان صحاحه أنفع من مطحونه وأخف على المعدة وأقل ضررا فإن لبه بطيء الهضم لبرودته ويبوسته وهو مولد للسوداء ويضر بالماليخوليا ضررا بينا ويضر بالأعصاب والبصر .

وهو غليظ الدم وينبغي أن يتجنبه أصحاب السوداء وإكثارهم منه يولد لهم أدواء رديئة كالوسواس والجذام وحمى الربع ويقلل ضرره السلق والإسفاناخ وإكثار الدهن . وأردأ ما أكل بالنمكسود وليتجنب خلط الحلاوة به فإنه يورث سددا كبدية وإدمانه يظلم البصر لشدة تجفيفه ويعسر البول ويوجب الأورام الباردة والرياح الغليظة وأجوده الأبيض السمين السريع النضج .

وأما ما يظنه الجهال أنه كان سماط الخليل الذي يقدمه لأضيافه فكذب مفترى وإنما حكى الله عنه الضيافة بالشواء وهو العجل الحنيذ .

[قول ابن المبارك في العدس ]

وذكر البيهقي عن إسحاق قال سئل ابن المبارك عن الحديث الذي جاء في العدس أنه قدس على لسان سبعين نبيا فقال ولا على لسان نبي واحد وإنه لمؤذ منفخ من حدثكم به ؟ قالوا : سلم بن سالم فقال عمن ؟ قالوا : عنك . قال وعني أيضا ؟ .

حرف الغين
غيث
مذكور في القرآن في عدة مواضع وهو لذيذ الاسم على السمع والمسمى على الروح والبدن تبتهج الأسماع بذكره والقلوب بوروده وماؤه أفضل المياه وألطفها وأنفعها وأعظمها بركة ولا سيما إذا كان من سحاب راعد واجتمع في مستنقعات الجبال وهو أرطب من سائر المياه لأنه لم تطل مدته على الأرض فيكتسب من يبوستها ولم يخالطه جوهر يابس ولذلك يتغير ويتعفن سريعا للطافته وسرعة انفعاله وهل الغيث الربيعي ألطف من الشتوي أو بالعكس ؟ فيه قولان .

[الترجيح بين الغيث الشتوي والربيعي ]

قال من رجح الغيث الشتوي حرارة الشمس تكون حينئذ أقل فلا تجتذب من ماء البحر إلا ألطفه والجو صاف وهو خال من الأبخرة الدخانية والغبار المخالط للماء وكل هذا يوجب لطفه وصفاءه وخلوه من مخالط .

قال من رجح الربيعي الحرارة توجب تحلل الأبخرة الغليظة وتوجب رقة الهواء ولطافته فيخف بذلك الماء وتقل أجزاؤه الأرضية وتصادف وقت حياة النبات والأشجار وطيب الهواء .

[تبركه صلى الله عليه وسلم بالمطر]

وذكر الشافعي رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابنا مطر فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه وقال إنه حديث عهد بربه وقد تقدم في هديه في الاستشفاء ذكر استمطاره صلى الله عليه وسلم وتبركه بماء الغيث عند أول مجيئه.

حرف الفاء
فاتحة الكتاب
وأم القرآن والسبع المثاني والشفاء التام والدواء النافع والرقية التامة ومفتاح الغنى والفلاح وحافظة القوة ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها وأحسن تنزيلها على دائه وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها والسر الذي لأجله كانت كذلك .

ولما وقع بعض الصحابة على ذلك رقى بها اللديغ فبرأ لوقته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وما أدراك أنها رقية

ومن ساعده التوفيق وأعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة وما اشتملت عليه من التوحيد ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال وإثبات الشرع والقدر والمعاد وتجريد توحيد الربوبية والإلهية وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما ودفع مفاسدهما وأن العاقبة المطلقة التامة والنعمة الكاملة منوطة بها موقوفة على التحقق بها أغنته عن كثير من الأدوية والرقى واستفتح بها من الخير أبوابه ودفع بها من الشر أسبابه .

وهذا أمر يحتاج استحداث فطرة أخرى وعقل آخر وإيمان آخر وتالله لا تجد مقالة فاسدة ولا بدعة باطلة إلا وفاتحة الكتاب متضمنة لردها وإبطالها بأقرب الطرق وأصحها وأوضحها ولا تجد بابا من أبواب المعارف الإلهية وأعمال القلوب وأدويتها من عللها وأسقامها إلا وفي فاتحة الكتاب مفتاحه وموضع الدلالة عليه ولا منزلا من منازل السائرين إلى رب العالمين إلا وبدايته ونهايته فيها .

ولعمر الله إن شأنها لأعظم من ذلك وهي فوق ذلك . وما تحقق عبد بها واعتصم بها وعقل عمن تكلم بها وأنزلها شفاء تاما وعصمة بالغة ونورا مبينا وفهمها وفهم لوازمها كما ينبغي ووقع في بدعة ولا شرك ولا أصابه مرض من أمراض القلوب إلا لماما غير مستقر .

هذا وإنها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض كما أنها المفتاح لكنوز الجنة ولكن ليس كل واحد يحسن الفتح بهذا المفتاح ولو أن طلاب الكنوز وقفوا على سر هذه السورة وتحققوا بمعانيها وركبوا لهذا المفتاح أسنانا وأحسنوا الفتح به لوصلوا إلى تناول الكنوز من غير معاوق ولا ممانع .

ولم نقل هذا مجازفة ولا استعارة بل حقيقة ولكن لله تعالى حكمة بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالمين كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم والكنوز المحجوبة قد استخدم عليها أرواح خبيثة شيطانية تحول بين الإنس وبينها ولا تقهرها إلا أرواح علوية شريفة غالبة لها بحالها الإيماني معها منه أسلحة لا تقوم لها الشياطين وأكثر نفوس الناس ليست بهذه المثابة فلا يقاوم تلك الأرواح ولا يقهرها ولا ينال من سلبها شيئا فإن من قتل قتيلا فله سلبه .

فاغية
هي نور الحناء وهي من أطيب الرياحين وقد روى البيهقي في كتابه " شعب الإيمان " من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه يرفعه سيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية وروى فيه أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان أحب الرياحين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاغية

والله أعلم بحال هذين الحديثين فلا نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا نعلم صحته .

وهي معتدلة في الحر واليبس فيها بعض القبض وإذا وضعت بين طي ثياب الصوف حفظتها من السوس وتدخل في مراهم الفالج والتمدد ودهنها يحلل الأعضاء ويلين العصب .

فضة
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خاتمه من فضة وفصه منه وكانت قبيعة سيفه فضة ولم يصح عنه في المنع من لباس الفضة والتحلي بها شيء البتة كما صح عنه المنع من الشرب في آنيتها وباب الآنية أضيق من باب اللباس والتحلي ولهذا يباح للنساء لباسا وحلية ما يحرم عليهن استعماله آنية فلا يلزم من تحريم الآنية تحريم اللباس والحلية .

وفي " السنن " عنه وأما الفضة فالعبوا بها لعبا فالمنع يحتاج إلى دليل يبينه إما نص أو إجماع فإن ثبت أحدهما وإلا ففي القلب من تحريم ذلك على الرجال شيء والنبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيده ذهبا وبالأخرى حريرا وقال هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم

والفضة سر من أسرار الله في الأرض وطلسم الحاجات وإحسان أهل الدنيا بينهم وصاحبها مرموق بالعيون بينهم معظم في النفوس مصدر في المجالس لا تغلق دونه الأبواب ولا تمل مجالسته ولا معاشرته ولا يستثقل مكانه تشير الأصابع إليه وتعقد العيون نطاقها عليه إن قال سمع قوله وإن شفع قبلت شفاعته وإن شهد زكيت شهادته وإن خطب فكفء لا يعاب وإن كان ذا شيبة بيضاء فهي أجمل عليه من حلية الشباب .

وهي من الأدوية المفرحة النافعة من الهم والغم والحزن وضعف القلب وخفقانه وتدخل في المعاجين الكبار وتجتذب بخاصيتها ما يتولد في القلب من الأخلاط الفاسدة خصوصا إذا أضيفت إلى العسل المصفى والزعفران .

ومزاجها إلى اليبوسة والبرودة ويتولد عنها من الحرارة والرطوبة ما يتولد والجنان التي أعدها الله عز وجل لأوليائه يوم يلقونه أربع جنتان من ذهب وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم " الصحيح " من حديث أم سلمة أنه قال الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة

[علة تحريم الفضة ]

فقيل علة التحريم تضييق النقود فإنها إذا اتخذت أواني فاتت الحكمة التي وضعت لأجلها من قيام مصالح بني آدم وقيل العلة الفخر والخيلاء . وقيل العلة كسر قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها .

وهذه العلل فيها ما فيها فإن التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلي بها وجعلها سبائك ونحوها مما ليس بآنية ولا نقد والفخر والخيلاء حرام بأي شيء كان وكسر قلوب المساكين لا ضابط له فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة والحدائق المعجبة والمراكب الفارهة والملابس الفاخرة والأطعمة اللذيذة وغير ذلك من المباحات وكل هذه علل منتقضة إذ توجد العلة ويتخلف معلولها .

[علة عند المصنف ]

فالصواب أن العلة - والله أعلم - ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة ولهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم بأنها للكفار في الدنيا إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة .

حرف القاف
قرآن
قال الله تعالى : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [ الإسراء : 82 ] والصحيح أن " من " ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض وقال تعالى : يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور [ يونس 57 ] .

فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة وما كل أحد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبدا .

وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه وقد تقدم في أول الكلام على الطب بيان إرشاد القرآن العظيم إلى أصوله ومجامعه التي هي حفظ الصحة والحمية واستفراغ المؤذي والاستدلال بذلك على سائر أفراد هذه الأنواع .

وأما الأدوية القلبية فإنه يذكرها مفصلة ويذكر أسباب أدوائها وعلاجها . قال أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ العنكبوت : 51 ] فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله ومن لم يكفه فلا كفاه الله .

قثاء
في " السنن " : من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل القثاء بالرطب ورواه الترمذي وغيره القثاء بارد رطب في الدرجة الثانية مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة بطيء الفساد فيها نافع من وجع المثانة ورائحته تنفع من الغشي وبزره يدر البول وورقه إذا اتخذ ضمادا نفع من عضة الكلب وهو بطيء الانحدار عن المعدة وبرده مضر ببعضها فينبغي أن يستعمل معه ما يصلحه ويكسر برودته ورطوبته كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أكله بالرطب فإذا أكل بتمر أو زبيب أو عسل عدله .

قسط وكست
بمعنى واحد . وفي " الصحيحين " : من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري

وفي " المسند " : من حديث أم قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب

القسط نوعان أحدهما : الأبيض الذي يقال له البحري . والآخر الهندي وهو أشدهما حرا والأبيض ألينهما ومنافعهما كثيرة جدا .

وهما حاران يابسان في الثالثة ينشفان البلغم قاطعان للزكام وإذا شربا نفعا من ضعف الكبد والمعدة ومن بردهما ومن حمى الدور والربع وقطعا وجع الجنب ونفعا من السموم وإذا طلي به الوجه معجونا بالماء والعسل قلع الكلف وقال جالينوس : ينفع من الكزاز ووجع الجنبين ويقتل حب القرع .

[الرد على من أنكر نفعه للمجنوب ]

وقد خفي على جهال الأطباء نفعه من وجع ذات الجنب فأنكروه ولو ظفر هذا الجاهل بهذا النقل عن جالينوس لنزوله منزلة النص كيف وقد نص كثير من الأطباء المتقدمين على أن القسط يصلح للنوع البلغمي من ذات الجنب ذكره الخطابي عن محمد بن الجهم .

وقد تقدم أن طب الأطباء بالنسبة إلى طب الأنبياء أقل من نسبة طب الطرقية والعجائز إلى طب الأطباء وأن بين ما يلقى بالوحي وبين ما يلقى بالتجربة والقياس من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق .

ولو أن هؤلاء الجهال وجدوا دواء منصوصا عن بعض اليهود والنصارى والمشركين من الأطباء لتلقوه بالقبول والتسليم ولم يتوقفوا على تجربته .

نعم نحن لا ننكر أن للعادة تأثيرا في الانتفاع بالدواء وعدمه فمن اعتاد دواء وغذاء كان أنفع له وأوفق ممن لم يعتده بل ربما لم ينتفع به من لم يعتده .

وكلام فضلاء الأطباء وإن كان مطلقا فهو بحسب الأمزجة والأزمنة والأماكن والعوائد وإذا كان التقييد بذلك لا يقدح في كلامهم ومعارفهم فكيف يقدح في كلام الصادق المصدوق ولكن نفوس البشر مركبة على الجهل والظلم إلا من أيده الله بروح الإيمان ونور بصيرته بنور الهدى .

قصب السكر
جاء في بعض ألفاظ السنة الصحيحة في الحوض ماؤه أحلى من السكر ولا أعرف السكر في الحديث إلا في هذا الموضع .

والسكر حادث لم يتكلم فيه متقدمو الأطباء ولا كانوا يعرفونه ولا يصفونه في الأشربة وإنما يعرفون العسل ويدخلونه في الأدوية وقصب السكر حار رطب ينفع من السعال ويجلو الرطوبة والمثانة وقصبة الرئة وهو أشد تليينا من السكر وفيه معونة على القيء ويدر البول ويزيد في الباه .

قال عفان بن مسلم الصفار : من مص قصب السكر بعد طعامه لم يزل يومه أجمع في سرور انتهى .

وهو ينفع من خشونة الصدر والحلق إذا شوي ويولد رياحا دفعها بأن يقشر ويغسل بماء حار .

والسكر حار رطب على الأصح وقيل بارد وأجوده الأبيض الشفاف الطبرزد وعتيقه ألطف من جديده وإذا طبخ ونزعت رغوته سكن العطش والسعال وهو يضر المعدة التي تتولد فيها الصفراء لاستحالته إليها ودفع ضرره بماء الليمون أو النارنج أو الرمان اللفان .

وبعض الناس يفضله على العسل لقلة حرارته ولينه وهذا تحامل منه على العسل فإن منافع العسل أضعاف منافع السكر وقد جعله الله شفاء ودواء وإداما وحلاوة وأين نفع السكر من منافع العسل من تقوية المعدة وتليين الطبع وإحداد البصر وجلاء ظلمته ودفع الخوانيق بالغرغرة به وإبرائه من الفالج واللقوة ومن جميع العلل الباردة التي تحدث في جميع البدن من الرطوبات فيجذبها من قعر البدن ومن جميع البدن وحفظ صحته وتسمينه وتسخينه والزيادة في الباه والتحليل والجلاء وفتح أفواه العروق وتنقية المعى وإحدار الدود ومنع التخم وغيره من العفن والأدم النافع وموافقة من غلب عليه البلغم والمشايخ وأهل الأمزجة الباردة وبالجملة فلا شيء أنفع منه للبدن وفي العلاج وعجز الأدوية وحفظ قواها وتقوية المعدة إلى أضعاف هذه المنافع فأين للسكر مثل هذه المنافع



حرف الكاف
كتاب للحمى
قال المروزي : بلغ أبا عبد الله أني حممت فكتب لي من الحمى رقعة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله محمد رسول الله قلنا : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك إله الحق آمين .

[ الاختلاف في حكم التمائم ]

قال المروزي : وقرأ على أبي عبد الله - وأنا أسمع - أبو المنذر عمرو بن مجمع حدثنا يونس بن حبان قال سألت أبا جعفر محمد بن علي أن أعلق التعويذ فقال

إن كان من كتاب الله أو كلام عن نبي الله فعلقه واستشف به ما استطعت . قلت أكتب هذه من حمى الربع باسم الله وبالله ومحمد رسول الله إلى آخره ؟ قال أي نعم .

وذكر أحمد عن عائشة رضي الله عنها وغيرها أنهم سهلوا في ذلك .

قال حرب ولم يشدد فيه أحمد بن حنبل قال أحمد وكان ابن مسعود يكرهه كراهة شديدة جدا . وقال أحمد وقد سئل عن التمائم تعلق بعد نزول البلاء ؟ قال أرجو أن لا يكون به بأس .

قال الخلال وحدثنا عبد الله بن أحمد قال رأيت أبي يكتب التعويذ للذي يفزع وللحمى بعد وقوع البلاء .

كتاب لعسر الولادة
قال الخلال حدثني عبد الله بن أحمد : قال رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض أو شيء نظيف يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنه لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ [ الأحقاف 35 ] كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها

[ النازعات 46 ] .

قال الخلال أنبأنا أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال يا أبا عبد الله تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين ؟ فقال قل له يجيء بجام واسع وزعفران ورأيته يكتب لغير واحد ويذكر عن عكرمة عن ابن عباس قال

مر عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم على بقرة قد اعترض ولدها في بطنها فقالت يا كلمة الله ادع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه فقال

يا خالق النفس من النفس ويا مخلص النفس من النفس ويا مخرج النفس من النفس خلصها . قال فرمت بولدها فإذا هي قائمة تشمه قال فإذا عسر على المرأة ولدها فاكتبه لها . وكل ما تقدم من الرقى فإن كتابته نافعة .

[ حكم كتابة بعض القرآن وشربه ]

ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه .

كتاب آخر لذلك يكتب في إناء نظيف إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت [ الانشقاق 41 ] وتشرب منه الحامل ويرش على بطنها .

كتاب للرعاف
كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته

وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر [ هود : 44 ] . وسمعته يقول كتبتها لغير واحد فبرأ فقال ولا يجوز كتابتها بدم الراعف كما يفعله الجهال فإن الدم نجس فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى .

كتاب آخر له خرج موسى عليه السلام برداء فوجد شعيبا فشده بردائه يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [ الرعد 39 ] .

كتاب آخر للحزاز يكتب عليه فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت [ البقرة 266 ] بحول الله وقوته . كتاب آخر له عند اصفرار الشمس يكتب عليه يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم [ الحديد 28 ] .

كتاب آخر للحمى المثلثة يكتب على ثلاث ورقات لطاف

بسم الله فرت بسم الله مرت بسم الله قلت ويأخذ كل يوم ورقة ويجعلها في فمه ويبتلعها بماء .

كتاب آخر لعرق النسا : بسم الله الرحمن الرحيم اللهم رب كل شيء ومليك كل شيء وخالق كل شيء أنت خلقتني وأنت خلقت النسا فلا تسلطه علي بأذى ولا تسلطني عليه بقطع واشفني شفاء لا يغادر سقما لا شافي إلا أنت .

كتاب للعرق الضارب
روى الترمذي في " جامعه " : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الحمى ومن الأوجاع كلها أن يقولوا : بسم الله الكبير أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار

كتاب لوجع الضرس
يكتب على الخد الذي يلي الوجع بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ النحل 78 ] وإن شاء كتب وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم [ الأنعام 13 ] . كتاب للخراج يكتب عليه ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ طه : 105 ] .



كمأة
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين أخرجاه في " الصحيحين " .

قال ابن الأعرابي : الكمأة جمع واحده كمء وهذا خلاف قياس العربية فإن ما بينه وبين واحده التاء فالواحد منه التاء وإذا حذفت كان للجمع . وهل هو جمع أو اسم جمع ؟ على قولين مشهورين قالوا : ولم يخرج عن هذا إلا حرفان كمأة وكمء وجبأة وجبء وقال غير ابن الأعرابي : بل هي على القياس الكمأة للواحد والكمء للكثير وقال غيرهما : الكمأة تكون واحدا وجمعا .

واحتج أصحاب القول الأول بأنهم قد جمعوا كمئا على أكمؤ قال الشاعر

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر


وهذا يدل على أن " كمئا " مفرد " وكمأة " جمع .

والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع وسميت كمأة لاستتارها ومنه كمأ الشهادة إذا سترها وأخفاها والكمأة مخفية تحت الأرض لا ورق لها ولا ساق ومادتها من جوهر أرضي بخاري محتقن في الأرض نحو سطحها يحتقن ببرد الشتاء وتنميه أمطار الربيع فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسدا ولذلك يقال لها : جدري الأرض تشبيها بالجدري في صورته ومادته لأن مادته رطوبة دموية فتندفع عند سن الترعرع في الغالب وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة .

وهي مما يوجد في الربيع ويؤكل نيئا ومطبوخا وتسميها العرب : نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته وتنفطر عنها الأرض وهي من أطعمة أهل البوادي وتكثر بأرض العرب وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء .

وهي أصناف منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث الاختناق . وهي باردة رطبة في الدرجة الثالثة رديئة للمعدة بطيئة الهضم وإذا أدمنت أورثت القولنج والسكتة والفالج ووجع المعدة وعسر البول والرطبة أقل ضررا من اليابسة ومن أكلها فليدفنها في الطين الرطب ويسلقها بالماء والملح والصعتر ويأكلها بالزيت والتوابل الحارة لأن جوهرها أرضي غليظ وغذاؤها رديء لكن فيها جوهر مائي لطيف يدل على خفتها والاكتحال بها نافع من ظلمة البصر والرمد الحار وقد اعترف فضلاء الأطباء بأن ماءها يجلو العين وممن ذكره المسيحي وصاحب القانون وغيرهما .

[ معنى " الكمأة من المن " ]

وقوله صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن فيه قولان أحدهما : أن المن الذي أنزل على بني إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط بل أشياء كثيرة من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوا من غير صنعة ولا علاج ولا حرث فإن المن مصدر بمعنى المفعول أي " ممنون " به فكل ما رزقه الله العبد عفوا بغير كسب منه ولا علاج فهو من محض وإن كانت سائر نعمه منا منه على عبده فخص منها ما لا كسب له فيه ولا صنع باسم المن فإنه من بلا واسطة العبد وجعل سبحانه قوتهم بالتيه الكمأة وهي تقوم مقام الخبز وجعل أدمهم السلوى وهو يقوم مقام اللحم وجعل حلواهم الطل الذي ينزل على الأشجار يقوم لهم مقام الحلوى فكمل عيشهم .

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل فجعلها من جملته وفردا من أفراده والترنجبين الذي يسقط على الأشجار نوع من المن ثم غلب استعمال المن عليه عرفا حادثا .

والقول الثاني : أنه شبه الكمأة بالمن المنزل من السماء لأنه يجمع من غير تعب ولا كلفة ولا زرع بزر ولا سقي .

[ من أين أتى الضرر الواقع فيها ]

فإن قلت : فإن كان هذا شأن الكمأة فما بال هذا الضرر فيها ومن أين أتاها ذلك ؟ فاعلم أن الله سبحانه أتقن كل شيء صنعه وأحسن كل شيء خلقه فهو عند مبدأ خلقه بريء من الآفات والعلل تام المنفعة لما هيئ وخلق له وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر من مجاورة أو امتزاج واختلاط أو أسباب أخر تقتضي فساده فلو ترك على خلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به لم يفسد .

[ قلة البركة والآفات جاءت من كثرة الفساد ]

ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحوط والجدوب وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها وسلب منافعها أو نقصانها أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضا فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس [ الروم : 41 ] ونزل هذه الآية على أحوال العالم وطابق بين الواقع وبينها وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة بعضها آخذ برقاب بعض وكلما أحدث الناس ظلما وفجورا أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم وأهويتهم ومياههم وأبدانهم وخلقهم وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم .

ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكبر مما هي اليوم كما كانت البركة فيها أعظم .

وقد روى الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها : هذا كان ينبت أيام العدل . وهذه القصة ذكرها في " مسنده " على أثر حديث رواه .

وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم حكما قسطا وقضاء عدلا وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله في الطاعون إنه بقية رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل

وكذلك سلط الله سبحانه وتعالى الريح على قوم سبع ليال وثمانية أيام ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام وفي نظيرها عظة وعبرة .

وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سببا لمنع الغيث من السماء والقحط والجدب وجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سببا لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا ولا يعطفون إن استعطفوا وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها فتارة بقحط وجدب وتارة بعدو وتارة بولاة جائرين وتارة بأمراض عامة وتارة بهموم وآلام وغموم تحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزا لتحق عليهم الكلمة وليصير كل منهم إلى ما خلق له والعاقل يسير بصيرته بين أقطار العالم فيشاهده وينظر مواقع عدل الله وحكمته وحينئذ يتبين له أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون وإلى دار البوار صائرون والله بالغ أمره لا معقب لحكمه ولا راد لأمره وبالله التوفيق .

[ معنى " ماؤها شفاء للعين " ]

وقوله صلى الله عليه وسلم في الكمأة وماؤها شفاء للعين فيه ثلاثة أقوال

أحدها : أن ماءها يخلط في الأدوية التي يعالج بها العين لا أنه يستعمل وحده ذكره أبو عبيد .

الثاني : أنه يستعمل بحتا بعد شيها واستقطار مائها لأن النار تلطفه وتنضجه وتذيب فضلاته ورطوبته المؤذية وتبقي المنافع .

الثالث أن المراد بمائها الماء الذي يحدث به من المطر وهو أول قطر ينزل إلى الأرض فتكون الإضافة إضافة اقتران لا إضافة جزء ذكره ابن الجوزي وهو أبعد الوجوه وأضعفها .

وقيل إن استعمل ماؤها لتبريد ما في العين فماؤها مجردا شفاء إن كان لغير ذلك فمركب مع غيره .

وقال الغافقي : ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن به الإثمد واكتحل به ويقوي أجفانها ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة ويدفع عنها نزول النوازل .



كباث
في " الصحيحين " : من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث فقال " عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه .

الكباث بفتح الكاف والباء الموحدة المخففة والثاء المثلثة - ثمر الأراك وهو بأرض الحجاز وطبعه حار يابس ومنافعه كمنافع الأراك يقوي المعدة ويجيد الهضم ويجلو البلغم وينفع من أوجاع الظهر وكثير من الأدواء . قال ابن جلجل إذا شرب طحينه أدر البول ونقى المثانة وقال ابن رضوان يقوي المعدة ويمسك الطبيعة .

كتم
روى البخاري في " صحيحه " : عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال دخلنا على أم سلمة رضي الله عنها فأخرجت إلينا شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مخضوب بالحناء والكتم .

وفي " السنن الأربعة " : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم .

وفي " الصحيحين " : عن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه اختضب بالحناء والكتم .

وفي " سنن أبي داود " : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب بالحناء فقال ما أحسن هذا ؟ فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال هذا أحسن من هذا فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال هذا أحسن من هذا كله .

قال الغافقي الكتم نبت ينبت بالسهول ورقه قريب من ورق الزيتون يعلو فوق القامة وله ثمر قدر حب الفلفل في داخله نوى إذا رضخ اسود وإذا استخرجت عصارة ورقه وشرب منها قدر أوقية قيأ قيئا شديدا وينفع عن عضة الكلب وأصله إذا طبخ بالماء كان منه مداد يكتب به .

وقال الكندي بزر الكتم إذا اكتحل به حلل الماء النازل في العين وأبرأها . وقد ظن بعض الناس أن الكتم هو الوسمة وهي ورق النيل وهذا وهم فإن الوسمة غير الكتم . قال صاحب " الصحاح " : الكتم بالتحريك نبت يخلط بالوسمة يختضب به قيل والوسمة نبات له ورق طويل يضرب لونه إلى الزرقة أكبر من ورق الخلاف يشبه ورق اللوبيا وأكبر منه يؤتى به من الحجاز واليمن .

[ هل اختضب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ]

فإن قيل قد ثبت في " الصحيح " عن أنس رضي الله عنه أنه قال لم يختضب النبي صلى الله عليه وسلم .

قيل قد أجاب أحمد بن حنبل عن هذا وقال قد شهد به غير أنس رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أنه خضب وليس من شهد بمنزلة من لم يشهد فأحمد أثبت خضاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من المحدثين ومالك أنكره .

فإن قيل فقد ثبت في " صحيح مسلم " النهي عن الخضاب بالسواد في شأن أبي قحافة لما أتي به ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد . والكتم يسود الشعر .

[ حكم الخضاب بالسواد ]

فالجواب من وجهين أحدهما : أن النهي عن التسويد البحت فأما إذا أضيف إلى الحناء شيء آخر كالكتم ونحوه فلا بأس به فإن الكتم والحناء يجعل الشعر بين الأحمر والأسود بخلاف الوسمة فإنها تجعله أسود فاحما وهذا أصح الجوابين .

الجواب الثاني : أن الخضاب بالسواد المنهي عنه خضاب التدليس كخضاب شعر الجارية والمرأة الكبيرة تغر الزوج والسيد بذلك وخضاب الشيخ يغر المرأة بذلك فإنه من الغش والخداع فأما إذا لم يتضمن تدليسا ولا خداعا فقد صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يخضبان بالسواد ذكر ذلك ابن جرير عنهما في كتاب " تهذيب الآثار " وذكره عن عثمان بن عفان وعبد الله بن جعفر وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والمغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله وعمرو بن العاص وحكاه عن جماعة من التابعين منهم عمرو بن عثمان وعلي بن عبد الله بن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة والزهري وأيوب وإسماعيل بن معدي كرب . وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دثار ويزيد وابن جريج وأبي يوسف وأبي إسحاق وابن أبي ليلى وزياد بن علاقة وغيلان بن جامع ونافع بن جبير وعمرو بن علي المقدمي والقاسم بن سلام .

كرم
شجرة العنب وهي الحبلة ويكره تسميتها كرما لما روى مسلم في " صحيحه " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقولن أحدكم للعنب الكرم . الكرم الرجل المسلم . وفي رواية إنما الكرم قلب المؤمن وفي أخرى : لا تقولوا : الكرم وقولوا : العنب والحبلة .

[ علة النهي عن تسمية العنب كرما ]

وفي هذا معنيان

أحدهما : أن العرب كانت تسمي شجرة العنب الكرم لكثرة منافعها وخيرها فكره النبي صلى الله عليه وسلم تسميتها باسم يهيج النفوس على محبتها ومحبة ما يتخذ منها من المسكر وهو أم الخبائث فكره أن يسمى أصله بأحسن الأسماء وأجمعها للخير .

والثاني : أنه من باب قوله ليس الشديد بالصرعة . وليس المسكين بالطواف . أي أنكم تسمون شجرة العنب كرما لكثرة منافعه وقلب المؤمن أو الرجل المسلم أولى بهذا الاسم منه فإن المؤمن خير كله ونفع فهو من باب التنبيه والتعريف لما في قلب المؤمن من الخير والجود والإيمان والنور والهدى والتقوى والصفات التي يستحق بها هذا الاسم أكثر من استحقاق الحبلة له .

وبعد فقوة الحبلة باردة يابسة وورقها وعلائقها وعرموشها مبرد في آخر الدرجة الأولى وإذا دقت وضمد بها من الصداع سكنته ومن الأورام الحارة والتهاب المعدة . وعصارة قضبانه إذا شربت سكنت القيء وعقلت البطن وكذلك إذا مضغت قلوبها الرطبة . وعصارة ورقها تنفع من قروح الأمعاء ونفث الدم وقيئه ووجع المعدة ودمع شجره الذي يحمل على القضبان كالصمغ إذا شرب أخرج الحصاة وإذا لطخ به أبرأ القوب والجرب المتقرح وغيره وينبغي غسل العضو قبل استعمالها بالماء والنطرون وإذا تمسح بها مع الزيت حلق الشعر ورماد قضبانه إذا تضمد به مع الخل ودهن الورد والسذاب نفع من الورم العارض في الطحال وقوة دهن زهرة الكرم قابضة شبيهة بقوة دهن الورد ومنافعها كثيرة قريبة من منافع النخلة .

كرفس
روي في حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أكله ثم نام عليه نام ونكهته طيبة وينام آمنا من وجع الأضراس والأسنان وهذا باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن البستاني منه يطيب النكهة جدا وإذا علق أصله في الرقبة نفع من وجع الأسنان .

وهو حار يابس وقيل رطب مفتح لسداد الكبد والطحال وورقه رطبا ينفع المعدة والكبد الباردة ويدر البول والطمث ويفتت الحصاة وحبه أقوى في ذلك ويهيج الباه وينفع من البخر . قال الرازي وينبغي أن يجتنب أكله إذا خيف من لدغ العقارب .

كراث
فيه حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو باطل موضوع من أكل الكراث ثم نام عليه نام آمنا من ريح البواسير واعتزله الملك لنتن نكهته حتى يصبح .

وهو نوعان نبطي وشامي فالنبطي البقل الذي يوضع على المائدة . والشامي الذي له رءوس وهو حار يابس مصدع وإذا طبخ وأكل أو شرب ماؤه نفع من البواسير الباردة . وإن سحق بزره وعجن بقطران وبخرت به الأضراس التي فيها الدود نثرها وأخرجها ويسكن الوجع العارض فيها وإذا دخنت المقعدة ببزره خفت البواسير هذا كله في الكراث النبطي .

وفيه مع ذلك فساد الأسنان واللثة ويصدع ويري أحلاما رديئة ويظلم البصر وينتن النكهة، وفيه إدرار للبول والطمث، وتحريك للباه ، وهو بطيئ الهضم .

حرف اللام
لحم
قال الله تعالى : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون [ الطور 22 ] . وقال ولحم طير مما يشتهون [ الواقعة 21 ] .

وفي " سنن ابن ماجه " من حديث أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم ومن حديث بريدة يرفعه خير الإدام في الدنيا والآخرة اللحم

وفي " الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام والثريد الخبز واللحم

قال الشاعر

إذا ما الخبز تأدمه بلحم

فذاك أمانة الله الثريد


وقال الزهري : أكل اللحم يزيد سبعين قوة . وقال محمد بن واسع : اللحم يزيد في البصر ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلوا اللحم " فإنه يصفي اللون ويخمص البطن ويحسن الخلق وقال نافع كان ابن عمر إذا كان رمضان لم يفته اللحم وإذا سافر لم يفته اللحم ويذكر عن علي من تركه أربعين ليلة ساء خلقه

وأما حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أبو داود مرفوعا : لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهسوه فإنه أهنأ وأمرأ " فرده الإمام أحمد بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قطعه بالسكين في حديثين وقد تقدما .

واللحم أجناس يختلف باختلاف أصوله وطبائعه فنذكر حكم كل جنس وطبعه ومنفعته ومضرته .

[ لحم الضأن ]

لحم الضأن حار في الثانية رطب في الأولى جيده الحولي يولد الدم المحمود القوي لمن جاد هضمه يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة والمعتدلة ولأهل الرياضات التامة في المواضع والفصول الباردة نافع لأصحاب المرة السوداء يقوي الذهن والحفظ . ولحم الهرم والعجيف رديء وكذلك لحم النعاج وأجوده لحم الذكر الأسود منه فإنه أخف وألذ وأنفع والخصي أنفع وأجود والأحمر من الحيوان السمين أخف وأجود غذاء والجذع من المعز أقل تغذية ويطفو في المعدة .

وأفضل اللحم عائذه بالعظم والأيمن أخف وأجود من الأيسر والمقدم أفضل من المؤخر وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمها وكل ما علا منه سوى الرأس كان أخف وأجود مما سفل وأعطى الفرزدق رجلا يشتري له لحما وقال له خذ المقدم وإياك والرأس والبطن فإن الداء فيهما . ولحم العنق جيد لذيذ سريع الهضم خفيف ولحم الذراع أخف اللحم وألذه وألطفه وأبعده من الأذى وأسرعه انهضاما .

وفي " الصحيحين " : أنه كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحم الظهر كثير الغذاء يولد دما محمودا . وفي " سنن ابن ماجه " مرفوعا : أطيب اللحم لحم الظهر

[ لحم المعز ]

لحم المعز قليل الحرارة يابس وخلطه المتولد منه ليس بفاضل وليس بجيد الهضم ولا محمود الغذاء . ولحم التيس رديء مطلقا شديد اليبس عسر الانهضام مولد للخلط السوداوي . قال الجاحظ : قال لي فاضل من الأطباء يا أبا عثمان إياك ولحم المعز فإنه يورث الغم ويحرك السوداء ويورث النسيان ويفسد الدم وهو والله يخبل الأولاد .

وقال بعض الأطباء إنما المذموم منه المسن ولا سيما للمسنين ولا رداءة فيه لمن اعتاده . وجالينوس جعل الحولي منه من الأغذية المعتدلة المعدلة للكيموس المحمود وإناثه أنفع من ذكوره .

وقد روى النسائي في " سننه " عن النبي صلى الله عليه وسلم أحسنوا إلى الماعز وأميطوا عنها الأذى فإنها من دواب الجنة

وفي ثبوت هذا الحديث نظر . وحكم الأطباء عليه بالمضرة حكم جزئي ليس بكلي عام وهو بحسب المعدة الضعيفة والأمزجة الضعيفة التي لم تعتده واعتادت المأكولات اللطيفة وهؤلاء أهل الرفاهية من أهل المدن وهم القليلون من الناس .

[ لحم الجدي ]

لحم الجدي قريب إلى الاعتدال خاصة ما دام رضيعا ولم يكن قريب العهد بالولادة وهو أسرع هضما لما فيه من قوة اللبن ملين للطبع موافق لأكثر الناس في أكثر الأحوال وهو ألطف من لحم الجمل والدم المتولد عنه معتدل .

[ لحم البقر ]

لحم البقر بارد يابس عسر الانهضام بطيء الانحدار يولد دما سوداويا لا يصلح إلا لأهل الكد والتعب الشديد ويورث إدمانه الأمراض السوداوية كالبهق والجرب والقوباء والجذام وداء الفيل والسرطان والوسواس وحمى الربع وكثير من الأورام وهذا لمن لم يعتده أو لم يدفع ضرره بالفلفل والثوم والدارصيني والزنجبيل ونحوه وذكره أقل برودة وأنثاه أقل يبسا . ولحم العجل ولا سيما السمين من أعدل الأغذية وأطيبها وألذها وأحمدها وهو حار رطب وإذا انهضم غذى غذاء قويا .

[ لحم الفرس ]

لحم الفرس : ثبت في " الصحيح " عن أسماء رضي الله عنها قالت نحرنا فرسا فأكلناه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أذن في لحوم الخيل ونهى عن لحوم الحمر أخرجاه في " الصحيحين " . ولا يثبت عنه حديث المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - أنه نهى عنه . قاله أبو داود وغيره من أهل الحديث .

[ سبب اقتران الخيل مع البغال والحمير في القرآن ]

واقترانه بالبغال والحمير في القرآن لا يدل على أن حكم لحمه حكم لحومها بوجه من الوجوه كما لا يدل على أن حكمها في السهم في الغنيمة حكم الفرس والله سبحانه يقرن في الذكر بين المتماثلات تارة وبين المختلفات وبين المتضادات وليس في قوله
لتركبوها [ النحل 8 ] ما يمنع من أكلها كما ليس فيه ما يمنع من غير الركوب من وجوه الانتفاع وإنما نص على أجل منافعها وهو الركوب والحديثان في حلها صحيحان لا معارض لهما وبعد فلحمها حار يابس غليظ سوداوي مضر لا يصلح للأبدان اللطيفة .

[ لحم الجمل ]

لحم الجمل فرق ما بين الرافضة وأهل السنة كما أنه أحد الفروق بين اليهود وأهل الإسلام فاليهود والرافضة تذمه ولا تأكله وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام حله وطالما أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حضرا وسفرا .

[ علة الوضوء من أكل لحم الجمل ]

ولحم الفصيل منه من ألذ اللحوم وأطيبها وأقواها غذاء وهو لمن اعتاده بمنزلة لحم الضأن لا يضرهم البتة ولا يولد لهم داء وإنما ذمه بعض الأطباء بالنسبة إلى أهل الرفاهية من أهل الحضر الذين لم يعتادوه فإن فيه حرارة ويبسا وتوليدا للسوداء وهو عسر الانهضام وفيه قوة غير محمودة لأجلها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من أكله في حديثين صحيحين لا معارض لهما ولا يصح تأويلهما بغسل اليد لأنه خلاف المعهود من الوضوء في كلامه صلى الله عليه وسلم لتفريقه بينه وبين لحم الغنم فخير بين الوضوء وتركه منها وحتم الوضوء من لحوم الإبل . ولو حمل الوضوء على غسل اليد فقط لحمل على ذلك في قوله من مس فرجه فليتوضأ

وأيضا : فإن آكلها قد لا يباشر أكلها بيده بأن يوضع في فمه فإن كان وضوءه غسل يده فهو عبث وحمل لكلام الشارع على غير معهوده وعرفه ولا يصح معارضته بحديث كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار لعدة أوجه

أحدها : أن هذا عام والأمر بالوضوء منها خاص .

الثاني : أن الجهة مختلفة فالأمر بالوضوء منها بجهة كونها لحم إبل سواء كان نيئا أو مطبوخا أو قديدا ولا تأثير للنار في الوضوء وأما ترك الوضوء مما مست النار ففيه بيان أن مس النار ليس بسبب للوضوء فأين أحدهما من الآخر ؟ هذا فيه إثبات سبب الوضوء وهو كونه لحم إبل وهذا فيه نفي لسبب الوضوء وهو كونه ممسوس النار فلا تعارض بينهما بوجه .

الثالث أن هذا ليس فيه حكاية لفظ عام عن صاحب الشرع وإنما هو إخبار عن واقعة فعل في أمرين أحدهما متقدم على الآخر كما جاء ذلك مبينا في نفس الحديث أنهم قربوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لحما فأكل ثم حضرت الصلاة فتوضأ فصلى ثم قربوا إليه فأكل ثم صلى ولم يتوضأ فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار هكذا جاء الحديث فاختصره الراوي لمكان الاستدلال فأين في هذا ما يصلح لنسخ الأمر بالوضوء منه حتى لو كان لفظا عاما متأخرا مقاوما لم يصلح للنسخ ووجب تقديم الخاص عليه وهذا في غاية الظهور .

[ لحم الضب ]

لحم الضب تقدم الحديث في حله ولحمه حار يابس يقوي شهوة الجماع .

[ لحم الغزال ]

لحم الغزال الغزال أصلح الصيد وأحمده لحما وهو حار يابس وقيل معتدل جدا نافع للأبدان المعتدلة الصحيحة وجيده الخشف .

[ لحم الظبي ]

لحم الظبي حار يابس في الأولى مجفف للبدن صالح للأبدان الرطبة . قال صاحب " القانون " : وأفضل لحوم الوحش لحم الظبي مع ميله إلى السوداوية .

[ لحم الأرانب ]

لحم الأرانب ثبت في " الصحيحين " : عن أنس بن مالك قال أنفجنا أرنبا فسعوا في طلبها فأخذوها فبعث أبو طلحة بوركها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله

لحم الأرنب معتدل إلى الحرارة واليبوسة وأطيبها وركها وأحمده أكل لحمها مشويا وهو يعقل البطن ويدر البول ويفتت الحصى وأكل رءوسها ينفع من الرعشة .

[ لحم حمار الوحش ]

لحم حمار الوحش ثبت في " الصحيحين " : من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض عمره وأنه صاد حمار وحش فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأكله وكانوا محرمين ولم يكن أبو قتادة محرما .

وفي " سنن ابن ماجه " : عن جابر قال أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش

[ لحم الوحوش ]

لحمه حار يابس كثير التغذية مولد دما غليظا سوداويا إلا أن شحمه نافع مع دهن القسط لوجع الظهر والريح الغليظة المرخية للكلى وشحمه جيد للكلف طلاء وبالجملة فلحوم الوحوش كلها تولد دما غليظا سوداويا وأحمده الغزال وبعده الأرنب .

[ لحوم الأجنة وحكم أكلها ]

لحوم الأجنة غير محمودة لاحتقان الدم فيها وليست بحرام لقوله صلى الله عليه وسلم ذكاة الجنين ذكاة أمه ومنع أهل العراق من أكله إلا أن يدركه حيا فيذكيه وأولوا الحديث على أن المراد به أن ذكاته كذكاة أمه . قالوا : فهو حجة على التحريم وهذا فاسد فإن أول الحديث أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله نذبح الشاة فنجد في بطنها جنينا أفنأكله ؟ فقال " كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه

وأيضا : فالقياس يقتضي حله فإنه ما دام حملا فهو جزء من أجزاء الأم فذكاتها ذكاة لجميع أجزائها وهذا هو الذي أشار إليه صاحب الشرع بقوله " ذكاته ذكاة أمه كما تكون ذكاتها ذكاة سائر أجزائها فلو لم تأت عنه السنة الصريحة بأكله لكان القياس الصحيح يقتضي حله .

[ لحم القديد ]

لحم القديد في " السنن " من حديث ثوبان رضي الله عنه قال ذبحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة ونحن مسافرون فقال " أصلح لحمها " فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة

القديد أنفع من النمكسود ويقوي الأبدان ويحدث حكة ودفع ضرره بالأبازير الباردة الرطبة ويصلح الأمزجة الحارة والنمكسود : حار يابس مجفف جيده من السمين الرطب يضر بالقولنج ودفع مضرته طبخه باللبن والدهن، ويصلح للمزاج الحار الرطب .

فصل في لحوم الطير
قال الله تعالى : ولحم طير مما يشتهون [ الواقعة 21 ] .

وفي " مسند البزار " وغيره مرفوعا إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر مشويا بين يديك

[ الحرام من الطيور ]

ومنه حلال ومنه حرام . فالحرام ذو المخلب كالصقر والبازي والشاهين وما يأكل الجيف كالنسر والرخم واللقلق والعقعق والغراب الأبقع والأسود الكبير وما نهي عن قتله كالهدهد والصرد وما أمر بقتله كالحدأة والغراب .

[ لحم الدجاج ]

والحلال أصناف كثيرة فمنه الدجاج ففي " الصحيحين " : من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحم الدجاج

وهو حار رطب في الأولى خفيف على المعدة سريع الهضم جيد الخلط يزيد في الدماغ والمني ويصفي الصوت ويحسن اللون ويقوي العقل ويولد دما جيدا وهو مائل إلى الرطوبة ويقال إن مداومة أكله تورث النقرس ولا يثبت ذلك .

[ لحم الديك ]

ولحم الديك أسخن مزاجا وأقل رطوبة والعتيق منه دواء ينفع القولنج والربو والرياح الغليظة إذا طبخ بماء القرطم والشبث وخصيها محمود الغذاء سريع الانهضام والفراريج سريعة الهضم ملينة للطبع والدم المتولد منها دم لطيف جيد .

[ لحم الدراج ]

لحم الدراج حار يابس في الثانية خفيف لطيف سريع الانهضام مولد للدم المعتدل والإكثار منه يحد البصر .

[ لحم الحجل ]

لحم الحجل يولد الدم الجيد سريع الانهضام .

لحم الإوز

لحم الإوز . حار يابس رديء الغذاء إذا اعتيد وليس بكثير الفضول .

[ لحم البط ]

لحم البط حار رطب كثير الفضول عسر الانهضام غير موافق للمعدة .

[ لحم الحبارى ]

لحم الحبارى : في " السنن " . من حديث بريه بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حبارى

وهو حار يابس عسر الانهضام نافع لأصحاب الرياضة والتعب .

[ لحم الكركي ]

لحم الكركي يابس خفيف وفي حره وبرده خلاف يولد دما سوداويا ويصلح لأصحاب الكد والتعب وينبغي أن يترك بعد ذبحه يوما أو يومين ثم يؤكل .

[ لحم العصافير والقنابر ]

لحم العصافير والقنابر روى النسائي في " سننه " : من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقه بغير حقه إلا سأله الله عز وجل عنها . قيل يا رسول الله وما حقه ؟ قال " تذبحه فتأكله ولا تقطع رأسه وترمي به

وفي " سننه " أيضا : عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يقول يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة

ولحمه حار يابس عاقل للطبيعة يزيد في الباه ومرقه يلين الطبع وينفع المفاصل وإذا أكلت أدمغتها بالزنجبيل والبصل هيجت شهوة الجماع وخلطها غير محمود .

[ لحم الحمام ]

لحم الحمام حار رطب وحشيه أقل رطوبة وفراخه أرطب خاصية وما ربي في الدور وناهضه أخف لحما وأحمد غذاء ولحم ذكورها شفاء من الاسترخاء والخدر والسكتة والرعشة وكذلك شم رائحة أنفاسها وأكل فراخها معين على النساء وهو جيد للكلى يزيد في الدم وقد روي فيها حديث باطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا شكا إليه الوحدة فقال " اتخذ زوجا من الحمام " . وأجود من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتبع حمامة فقال شيطان يتبع شيطانة

وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه في خطبته يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام .

[ لحم القطا ]

لحم القطا : يابس يولد السوداء ويحبس الطبع وهو من شر الغذاء إلا أنه ينفع من الاستسقاء .

[ لحم السمانى ]

لحم السمانى : حار يابس ينفع المفاصل ويضر بالكبد الحار ودفع مضرته بالخل والكسفرة وينبغي أن يجتنب من لحوم الطير ما كان في الآجام والمواضع العفنة ولحوم الطير كلها أسرع انهضاما من المواشي وأسرعها انهضاما أقلها غذاء وهي الرقاب والأجنحة وأدمغتها أحمد من أدمغة المواشي .

الجراد في " الصحيحين " : عن عبد الله بن أبي أوفى قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد وفي " المسند " عنه أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد والكبد والطحال يروى مرفوعا وموقوفا على ابن عمر رضي الله عنه .

وهو حار يابس قليل الغذاء وإدامة أكله تورث الهزال وإذا تبخر به نفع من تقطير البول وعسره وخصوصا للنساء ويتبخر به للبواسير وسمانه يشوى ويؤكل للسع العقرب وهو ضار لأصحاب الصرع رديء الخلط وفي إباحة ميتته بلا سبب قولان فالجمهور على حله وحرمه مالك ولا خلاف في إباحة ميتته إذا مات بسبب كالكبس والتحريق ونحوه .

فصل [ ضرر المداومة على اللحم ]

وينبغي أن لا يداوم على أكل اللحم فإنه يورث الأمراض الدموية والامتلائية والحميات الحادة وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر ذكره مالك في " الموطأ " عنه . وقال أبقراط لا تجعلوا أجوافكم مقبرة للحيوان.


افتراضي

[ اللبن ]
قال الله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ النحل 66 ] وقال في الجنة فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه [ محمد : 15 ] . وفي " السنن " مرفوعا : من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيرا منه ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن

اللبن وإن كان بسيطا في الحس إلا أنه مركب في أصل الخلقة تركيبا طبيعيا من جواهر ثلاثة الجبنية والسمنية والمائية ، فالجبنية باردة رطبة مغذية للبدن ، والسمنية معتدلة الحرارة والرطوبة ملائمة للبدن الإنساني الصحيح كثيرة المنافع والمائية حارة رطبة مطلقة للطبيعة مرطبة للبدن واللبن على الإطلاق أبرد وأرطب من المعتدل .

وقيل قوته عند حلبه الحرارة والرطوبة وقيل معتدل في الحرارة والبرودة .

وأجود ما يكون اللبن حين يحلب ثم لا يزال تنقص جودته على ممر الساعات فيكون حين يحلب أقل برودة وأكثر رطوبة والحامض بالعكس ويختار اللبن بعد الولادة بأربعين يوما وأجوده ما اشتد بياضه وطاب ريحه ولذ طعمه وكان فيه حلاوة يسيرة ودسومة معتدلة واعتدل قوامه في الرقة والغلظ وحلب من حيوان فتي صحيح معتدل اللحم محمود المرعى والمشرب .

وهو محمود يولد دما جيدا ويرطب البدن اليابس ويغذو غذاء حسنا وينفع من الوسواس والغم والأمراض السوداوية وإذا شرب مع العسل نقى القروح الباطنة من الأخلاط العفنة وشربه مع السكر يحسن اللون جدا والحليب يتدارك ضرر الجماع ويوافق الصدر والرئة جيد لأصحاب السل رديء للرأس والمعدة والكبد والطحال والإكثار منه مضر بالأسنان واللثة ولذلك ينبغي أن يتمضمض بعده بالماء وفي " الصحيحين " : أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا ثم دعا بماء فتمضمض وقال إن له دسما

وهو رديء للمحمومين وأصحاب الصداع مؤذ للدماغ والرأس الضعيف والمداومة عليه تحدث ظلمة البصر والغشاء ووجع المفاصل وسدة الكبد والنفخ في المعدة والأحشاء وإصلاحه بالعسل والزنجبيل المربى ونحوه وهذا كله لمن لم يعتده .

[ لبن الضأن ]

لبن الضأن أغلظ الألبان وأرطبها وفيه من الدسومة والزهومة ما ليس في لبن الماعز والبقر يولد فضولا بلغميا ويحدث في الجلد بياضا إذا أدمن استعماله ولذلك ينبغي أن يشاب هذا اللبن بالماء ليكون ما نال البدن منه أقل وتسكينه للعطش أسرع وتبريده أكثر .

[لبن المعز ]

لبن المعز لطيف معتدل مطلق للبطن مرطب للبدن اليابس نافع من قروح الحلق والسعال اليابس ونفث الدم .

واللبن المطلق أنفع المشروبات للبدن الإنساني لما اجتمع فيه من التغذية والدموية ولاعتياده حال الطفولية وموافقته للفطرة الأصلية وفي " الصحيحين " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي ليلة أسري به بقدح من خمر وقدح من لبن فنظر إليهما ثم أخذ اللبن فقال جبريل الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك والحامض منه بطيء الاستمراء خام الخلط والمعدة الحارة تهضمه وتنتفع به .

[ لبن البقر ]

لبن البقر يغذو البدن ويخصبه ويطلق البطن باعتدال وهو من أعدل الألبان وأفضلها بين لبن الضأن ولبن المعز في الرقة والغلظ والدسم وفي " السنن " : من حديث عبد الله بن مسعود يرفعه عليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر " .

[ لبن الإبل ]

لبن الإبل تقدم ذكره في أول الفصل وذكر منافعه فلا حاجة لإعادته .

لبان
[ بيان فائدته لطرد النسيان ]

هو الكندر قد ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بخروا بيوتكم باللبان والصعتر ولا يصح عنه ولكن يروى عن علي أنه قال لرجل شكا إليه النسيان عليك باللبان فإنه يشجع القلب ويذهب بالنسيان ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن شربه مع السكر على الريق جيد للبول والنسيان . ويذكر عن أنس رضي الله عنه أنه شكا إليه رجل النسيان فقال عليك بالكندر وانقعه من الليل فإذا أصبحت فخذ منه شربة على الريق فإنه جيد للنسيان .

ولهذا سبب طبيعي ظاهر فإن النسيان إذا كان لسوء مزاج بارد رطب يغلب على الدماغ فلا يحفظ ما ينطبع فيه نفع منه اللبان وأما إذا كان النسيان لغلبة شيء عارض أمكن زواله سريعا بالمرطبات . والفرق بينهما أن اليبوسي يتبعه سهر وحفظ الأمور الماضية دون الحالية والرطوبي بالعكس .

وقد يحدث النسيان أشياء بالخاصية كحجامة نقرة القفا وإدمان أكل الكسفرة الرطبة والتفاح الحامض وكثرة الهم والغم والنظر في الماء الواقف والبول فيه والنظر إلى المصلوب والإكثار من قراءة ألواح القبور والمشي بين جملين مقطورين وإلقاء القمل في الحياض وأكل سؤر الفأر وأكثر هذا معروف بالتجربة .

والمقصود أن اللبان مسخن في الدرجة الثانية ومجفف في الأولى وفيه قبض يسير وهو كثير المنافع قليل المضار فمن منافعه أن ينفع من قذف الدم ونزفه ووجع المعدة واستطلاق البطن ويهضم الطعام ويطرد الرياح ويجلو قروح العين وينبت اللحم في سائر القروح ويقوي المعدة الضعيفة ويسخنها ويجفف البلغم وينشف رطوبات الصدر ويجلو ظلمة البصر ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار وإذا مضغ وحده أو مع الصعتر الفارسي جلب البلغم ونفع من اعتقال اللسان ويزيد في الذهن ويذكيه وإن بخر به ماء نفع من الوباء وطيب رائحة الهواء .


افتراضي

حرف الميم
ماء
مادة الحياة وسيد الشراب وأحد أركان العالم بل ركنه الأصلي فإن السماوات خلقت من بخاره والأرض من زبده وقد جعل الله منه كل شيء حي .

وقد اختلف فيه هل يغذو أو ينفذ الغذاء فقط ؟ على قولين وقد تقدما وذكرنا القول الراجح ودليله .

وهو بارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ على البدن رطوباته ويرد عليه بدل ما تحلل منه ويرقق الغذاء وينفذه في العروق .

[اختبار جودة الماء ]

وتعتبر جودة الماء من عشرة طرق

أحدها : من لونه بأن يكون صافيا .

الثاني : من رائحته بأن لا تكون له رائحة البتة .

الثالث من طعمه بأن يكون عذب الطعم حلوه كماء النيل والفرات .

الرابع من وزنه بأن يكون خفيفا رقيق القوام .

الخامس من مجراه . بأن يكون طيب المجرى والمسلك .

السادس من منبعه بأن يكون بعيد المنبع .

السابع من بروزه للشمس والريح بأن لا يكون مختفيا تحت الأرض فلا تتمكن الشمس والريح من قصارته .

الثامن من حركته بأن يكون سريع الجري والحركة .

التاسع من كثرته بأن يكون له كثرة يدفع الفضلات المخالطة له .

العاشر من مصبه بأن يكون آخذا من الشمال إلى الجنوب أو من المغرب إلى المشرق .

وإذا اعتبرت هذه الأوصاف لم تجدها بكمالها إلا في الأنهار الأربعة النيل والفرات وسيحون وجيحون .

وفي " الصحيحين " : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة

[اختبار خفة الماء ]

وتعتبر خفة الماء من ثلاثة أوجه أحدها : سرعة قبوله للحر والبرد قال أبقراط : الماء الذي يسخن سريعا ويبرد سريعا أخف المياه . الثاني : بالميزان الثالث أن تبل قطنتان متساويتا الوزن بماءين مختلفين ثم يجففا بالغا ثم توزنا فأيتهما كانت أخف فماؤها كذلك .

والماء وإن كان في الأصل باردا رطبا فإن قوته تنتقل وتتغير لأسباب عارضة توجب انتقالها فإن الماء المكشوف للشمال المستور عن الجهات الأخر يكون باردا وفيه يبس مكتسب من ريح الشمال وكذلك الحكم على سائر الجهات الأخر .

والماء الذي ينبع من المعادن يكون على طبيعة ذلك المعدن ويؤثر في البدن تأثيره والماء العذب نافع للمرضى والأصحاء والبارد منه أنفع وألذ ولا ينبغي شربه على الريق ولا عقيب الجماع ولا الانتباه من النوم ولا عقيب الحمام ولا عقيب أكل الفاكهة وقد تقدم .

وأما على الطعام فلا بأس به إذا اضطر إليه بل يتعين ولا يكثر منه بل يتمصصه مصا فإنه لا يضره البتة بل يقوي المعدة وينهض الشهوة ويزيل العطش .

والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد ما ذكرناه وبائته أجود من طريه وقد تقدم . والبارد ينفع من داخل أكثر من نفعه من خارج والحار بالعكس وينفع البارد من عفونة الدم وصعود الأبخرة إلى الرأس ويدفع العفونات ويوافق الأمزجة والأسنان والأزمان والأماكن الحارة ويضر على كل حالة تحتاج إلى نضج وتحليل كالزكام والأورام والشديد البرودة منه يؤذي الأسنان والإدمان عليه يحدث انفجار الدم والنزلات وأوجاع الصدر .

والبارد والحار بإفراط ضاران للعصب ولأكثر الأعضاء لأن أحدهما محلل والآخر مكثف والماء الحار يسكن لذع الأخلاط الحادة ويحلل وينضج ويخرج الفضول ويرطب ويسخن ويفسد الهضم شربه ويطفو بالطعام إلى أعلى المعدة ويرخيها ولا يسرع في تسكين العطش ويذبل البدن ويؤدي إلى أمراض رديئة ويضر في أكثر الأمراض على أنه صالح للشيوخ وأصحاب الصرع والصداع البارد والرمد . وأنفع ما استعمل من خارج .

[الماء المشمس ]

ولا يصح في الماء المسخن بالشمس حديث ولا أثر ولا كرهه أحد من قدماء الأطباء ولا عابوه والشديد السخونة يذيب شحم الكلى وقد تقدم الكلام على ماء الأمطار في حرف العين .

ماء الثلج والبرد

ثبت في " الصحيحين " : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو في الاستفتاح وغيره اللهم اغسلني من خطاياي بماء الثلج والبرد

الثلج له في نفسه كيفية حادة دخانية فماؤه كذلك وقد تقدم وجه الحكمة في طلب الغسل من الخطايا بمائه لما يحتاج إليه القلب من التبريد والتصليب والتقوية ويستفاد من هذا أصل طب الأبدان والقلوب ومعالجة أدوائها بضدها .

وماء البرد ألطف وألذ من ماء الثلج وأما ماء الجمد وهو الجليد فبحسب أصله .

والثلج يكتسب كيفية الجبال والأرض التي يسقط عليها في الجودة والرداءة وينبغي تجنب شرب الماء المثلوج عقيب الحمام والجماع والرياضة والطعام الحار ولأصحاب السعال ووجع الصدر وضعف الكبد وأصحاب الأمزجة الباردة .

[ ماء الآبار والقني ]

مياه الآبار قليلة اللطافة وماء القني المدفونة تحت الأرض ثقيل لأن أحدهما محتقن لا يخلو عن تعفن والآخر محجوب عن الهواء وينبغي ألا يشرب على الفور حتى يصمد للهواء وتأتي عليه ليلة وأردؤه ما كانت مجاريه من رصاص أو كانت بئره معطلة ولا سيما إذا كانت تربتها رديئة فهذا الماء وبيء وخيم .

ماء زمزم

سيد المياه وأشرفها وأجلها قدرا وأحبها إلى النفوس وأغلاها ثمنا وأنفسها عند الناس وهو هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل . وثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة ليس له طعام غيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنها طعام طعم وزاد غير مسلم بإسناده وشفاء سقم تحسين المصنف لحديث ماء زمزم لما شرب له

وفي " سنن ابن ماجه " . من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ماء زمزم لما شرب له وقد ضعف هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المؤمل راويه عن محمد بن المنكدر . وقد روينا عن عبد الله بن المبارك أنه لما حج أتى زمزم فقال اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن نبيك صلى الله عليه وسلم أنه قال ماء زمزم لما شرب له وإني أشربه لظمإ يوم القيامة وابن أبي الموالي ثقة فالحديث إذا حسن وقد صححه بعضهم وجعله بعضهم موضوعا وكلا القولين فيه مجازفة .

[ تجريب المصنف له في الاستشفاء ]

وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورا عجيبة واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريبا من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعا ويطوف مع الناس كأحدهم وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوما وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مرارا .

ماء النيل

أحد أنهار الجنة أصله من وراء جبال القمر في أقصى بلاد الحبشة من أمطار تجتمع هناك وسيول يمد بعضها بعضا فيسوقه الله تعالى إلى الأرض الجرز التي لا نبات لها فيخرج به زرعا تأكل منه الأنعام والأنام ولما كانت الأرض التي يسوقه إليها إبليزا صلبة إن أمطرت مطر العادة لم ترو ولم تتهيأ للنبات وإن أمطرت فوق العادة ضرت المساكن والساكن وعطلت المعايش والمصالح فأمطر البلاد البعيدة ثم ساق تلك الأمطار إلى هذه الأرض في نهر عظيم وجعل سبحانه زيادته في أوقات معلومة على قدر ري البلاد وكفايتها فإذا أروى البلاد وعمها أذن سبحانه بتناقصه وهبوطه لتتم المصلحة بالتمكن من الزرع واجتمع في هذا الماء الأمور العشرة التي تقدم ذكرها وكان من ألطف المياه وأخفها وأعذبها وأحلاها .

ماء البحر

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وقد جعله الله سبحانه ملحا أجاجا مرا زعاقا لتمام مصالح من هو على وجه الأرض من الآدميين والبهائم فإنه دائم راكد كثير الحيوان وهو يموت فيه كثيرا ولا يقبر فلو كان حلوا لأنتن من إقامته وموت حيواناته فيه وأجاف وكان الهواء المحيط بالعالم يكتسب منه ذلك وينتن ويجيف فيفسد العالم فاقتضت حكمة الرب سبحانه وتعالى أن جعله كالملاحة التي لو ألقي فيه جيف العالم كلها وأنتانه وأمواته لم تغيره شيئا ولا يتغير على مكثه من حين خلق وإلى أن يطوي الله العالم فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته وأما الفاعلي فكون أرضه سبخة مالحة .

[فوائد الاغتسال به ]

[ما يدفع به مضرة الشرب منه ]

وبعد فالاغتسال به نافع من آفات عديدة في ظاهر الجلد وشربه مضر بداخله وخارجه فإنه يطلق البطن ويهزل ويحدث حكة وجربا ونفخا وعطشا ومن اضطر إلى شربه فله طرق من العلاج يدفع بها مضرته .

منها : أن يجعل في قدر ويجعل فوق القدر قصبات وعليها صوف جديد منفوش ويوقد تحت القدر حتى يرتفع بخارها إلى الصوف فإذا كثر عصره ولا يزال يفعل ذلك حتى يجتمع له ما يريد فيحصل في الصوف من البخار ما عذب ويبقى في القدر الزعاق .

ومنها : أن يحفر على شاطئه حفرة واسعة يرشح ماؤه إليها ثم إلى جانبها قريبا منها أخرى ترشح هي إليها ثم ثالثة إلى أن يعذب الماء . وإذا ألجأته الضرورة إلى شرب الماء الكدر فعلاجه أن يلقي فيه نوى المشمش أو قطعة من خشب الساج أو جمرا ملتهبا يطفأ فيه أو طينا أرمنيا أو سويق حنطة فإن كدرته ترسب إلى أسفل .

مسك
ثبت في " صحيح مسلم " ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أطيب الطيب المسك .

وفي " الصحيحين " : عن عائشة رضي الله عنها : كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك .

المسك ملك أنواع الطيب وأشرفها وأطيبها ، وهو الذي تضرب به الأمثال ويشبه به غيره ولا يشبه بغيره وهو كثبان الجنة وهو حار يابس في الثانية يسر النفس ويقويها ، ويقوي الأعضاء الباطنة جميعها شربا وشما ، والظاهرة إذا وضع عليها . نافع للمشايخ والمبرودين لا سيما زمن الشتاء جيد للغشي والخفقان وضعف القوة بإنعاشه للحرارة الغريزية ويجلو بياض العين وينشف رطوبتها ، ويفش الرياح منها ومن جميع الأعضاء ويبطل عمل السموم وينفع من نهش الأفاعي ، ومنافعه كثيرة جدا ، وهو من أقوى المفرحات .

مرزنجوش
ورد فيه حديث لا نعلم صحته عليكم بالمرزنجوش فإنه جيد للخشام . والخشام الزكام .

وهو حار في الثالثة يابس في الثانية ينفع شمه من الصداع البارد والكائن عن البلغم والسوداء والزكام والرياح الغليظة ويفتح السدد الحادثة في الرأس والمنخرين ويحلل أكثر الأورام الباردة فينفع من أكثر الأورام والأوجاع الباردة الرطبة وإذا احتمل أدر الطمث وأعان على الحبل وإذا دق ورقه اليابس وكمد به أذهب آثار الدم العارض تحت العين وإذا ضمد به مع الخل نفع لسعة العقرب .

ودهنه نافع لوجع الظهر والركبتين ويذهب بالإعياء ومن أدمن شمه لم ينزل في عينيه الماء وإذا استعط بمائه مع دهن اللوز المر فتح سدد المنخرين ونفع من الريح العارضة فيها ، وفي الرأس .

ملح
روى ابن ماجه في " سننه " : من حديث أنس يرفعه سيد إدامكم الملح . وسيد الشيء هو الذي يصلحه ويقوم عليه وغالب الإدام إنما يصلح بالملح وفي " مسند البزار " مرفوعا : سيوشك أن تكونوا في الناس مثل الملح في الطعام ولا يصلح الطعام إلا بالملح .

وذكر البغوي في " تفسيره " : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض الحديد والنار والماء والملح . والموقوف أشبه .

الملح يصلح أجسام الناس وأطعمتهم ويصلح كل شيء يخالطه حتى الذهب والفضة وذلك أن فيه قوة تزيد الذهب صفرة والفضة بياضا ، وفيه جلاء وتحليل وإذهاب للرطوبات الغليظة وتنشيف لها ، وتقوية للأبدان ومنع من عفونتها وفسادها ، ونفع من الجرب المتقرح . وإذا اكتحل به قلع اللحم الزائد من العين ومحق الظفرة . والأندراني أبلغ في ذلك ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار ويحدر البراز وإذا دلك به بطون أصحاب الاستسقاء نفعهم وينقي الأسنان ويدفع عنها العفونة ويشد اللثة ويقويها ، ومنافعه كثيرة جدا .

حرف النون
نخل
مذكور في القرآن في غير موضع وفي " الصحيحين " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجمار نخلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها أخبروني ما هي ؟ فوقع الناس في شجر البوادي فوقع في نفسي أنها النخلة فأردت أن أقول هي النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم سنا فسكت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي النخلة " فذكرت ذلك لعمر فقال لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا .

[فوائد حديث النخلة ]

ففي هذا الحديث إلقاء العالم المسائل على أصحابه وتمرينهم واختبار ما عندهم .

وفيه ضرب الأمثال والتشبيه .

وفيه ما كان عليه الصحابة من الحياء من أكابرهم وإجلالهم وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم .

وفيه فرح الرجل بإصابة ولده وتوفيقه للصواب .

وفيه أنه لا يكره للولد أن يجيب بما يعرف بحضرة أبيه وإن لم يعرفه الأب وليس في ذلك إساءة أدب عليه .

وفيه ما تضمنه تشبيه المسلم بالنخلة من كثرة خيرها ودوام ظلها وطيب ثمرها ووجوده على الدوام .

وثمرها يؤكل رطبا ويابسا وبلحا ويانعا وهو غذاء ودواء وقوت وحلوى وشراب وفاكهة وجذوعها للبناء والآلات والأواني ويتخذ من خوصها الحصر والمكاتل والأواني والمراوح وغير ذلك ومن ليفها الحبال والحشايا وغيرها ثم آخر شيء نواها علف للإبل ويدخل في الأدوية والأكحال ثم جمال ثمرتها ونباتها وحسن هيئتها وبهجة منظرها وحسن نضد ثمرها وصنعته وبهجته ومسرة النفوس عند رؤيته فرؤيتها مذكرة لفاطرها وخالقها وبديع صنعته وكمال قدرته وتمام حكمته ولا شيء أشبه بها من الرجل المؤمن إذ هو خير كله ونفع ظاهر وباطن .

وهي الشجرة التي حن جذعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فارقه شوقا إلى قربه وسماع كلامه وهي التي نزلت تحتها مريم لما ولدت عيسى عليه السلام . وقد ورد في حديث في إسناده نظر أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم

[اختلاف الناس في تفضيلها على الحبلة ]

وقد اختلف الناس في تفضيلها على الحبلة أو بالعكس على قولين وقد قرن الله بينهما في كتابه في غير موضع وما أقرب أحدهما من صاحبه وإن كان كل واحد منهما في محل سلطانه ومنبته والأرض التي توافقه أفضل وأنفع .

نرجس
فيه حديث لا يصح عليكم بشم النرجس فإن في القلب حبة الجنون والجذام والبرص لا يقطعها إلا شم النرجس

وهو حار يابس في الثانية وأصله يدمل القروح الغائرة إلى العصب وله قوة غسالة جالية جابذة وإذا طبخ وشرب ماؤه أو أكل مسلوقا هيج القيء وجذب الرطوبة من قعر المعدة وإذا طبخ مع الكرسنة والعسل نقى أوساخ القروح وفجر الدبيلات العسرة النضج .

وزهره معتدل الحرارة لطيف ينفع الزكام البارد وفيه تحليل قوي ويفتح سدد الدماغ والمنخرين وينفع من الصداع الرطب والسوداوي ويصدع الرءوس الحارة والمحرق منه إذا شق بصله صليبا وغرس صار مضاعفا ومن أدمن شمه في الشتاء أمن من البرسام في الصيف وينفع من أوجاع الرأس الكائنة من البلغم والمرة السوداء وفيه من العطرية ما يقوي القلب والدماغ وينفع من كثير من أمراضها . وقال صاحب التيسير : شمه يذهب بصرع الصبيان .

نورة
روى ابن ماجه : من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى بدأ بعورته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله وقد ورد فيها عدة أحاديث هذا أمثلها .

قيل إن أول من دخل الحمام وصنعت له النورة سليمان بن داود وأصلها : كلس جزءان وزرنيخ جزء يخلطان بالماء ويتركان في الشمس أو الحمام بقدر ما تنضج وتشتد زرقته ثم يطلى به ويجلس ساعة ريثما يعمل ولا يمس بماء ثم يغسل ويطلى مكانها بالحناء لإذهاب ناريتها .

نبق
ذكر أبو نعيم في كتابه " الطب النبوي " مرفوعا : إن آدم لما أهبط إلى الأرض كان أول شيء أكل من ثمارها النبق

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النبق في الحديث المتفق على صحته أنه رأى سدرة المنتهى ليلة أسري به وإذا نبقها مثل قلال هجر

والنبق ثمر شجر السدر يعقل الطبيعة وينفع من الإسهال ويدبغ المعدة ويسكن الصفراء ويغذو البدن ويشهي الطعام ويولد بلغما وينفع الذرب الصفراوي وهو بطيء الهضم وسويقه يقوي الحشا وهو يصلح الأمزجة الصفراوية وتدفع مضرته بالشهد .

واختلف فيه هل هو رطب أو يابس ؟ على قولين . والصحيح أن رطبه بارد رطب ويابسه بارد يابس



حرف الهاء
هندبا
ورد فيها ثلاثة أحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يثبت مثلها بل هي موضوعة أحدها : كلوا الهندباء ولا تنفضوه فإنه ليس يوم من الأيام إلا وقطرات من الجنة تقطر عليه .
الثاني : من أكل الهندباء ثم نام عليها لم يحل فيه سم ولا سحر .
الثالث ما من ورقة من ورق الهندباء إلا وعليها قطرة من الجنة .

وبعد فهي مستحيلة المزاج منقلبة بانقلاب فصول السنة فهي في الشتاء باردة رطبة وفي الصيف حارة يابسة وفي الربيع والخريف معتدلة وفي الغالب أحوالها تميل إلى البرودة واليبس وهي قابضة مبردة جيدة للمعدة وإذا طبخت وأكلت بخل عقلت البطن وخاصة البري منها فهي أجود للمعدة وأشد قبضا وتنفع من ضعفها .

وإذا تضمد بها سلبت الالتهاب العارض في المعدة وتنفع من النقرس ومن أورام العين الحارة وإذا تضمد بورقها وأصولها نفعت من لسع العقرب وهي تقوي المعدة وتفتح السدد العارضة في الكبد وتنفع من أوجاعها حارها وباردها وتفتح سدد الطحال والعروق والأحشاء وتنقي مجاري الكلى .

وأنفعها للكبد أمرها وماؤها المعتصر ينفع من اليرقان السددي ولا سيما إذا خلط به ماء الرازيانج الرطب وإذا دق ورقها ووضع على الأورام الحارة بردها وحللها ويجلو ما في المعدة ويطفئ حرارة الدم والصفراء وأصلح ما أكلت غير مغسولة ولا منفوضة لأنها متى غسلت أو نفضت فارقتها قوتها وفيها مع ذلك قوة ترياقية تنفع من جميع السموم .

وإذا اكتحل بمائها نفع من العشا ويدخل ورقها في الترياق وينفع من لدغ العقرب ويقاوم أكثر السموم وإذا اعتصر ماؤها وصب عليه الزيت خلص من الأدوية القتالة وإذا اعتصر أصلها وشرب ماؤه نفع من لسع الأفاعي ولسع العقرب ولسع الزنبور ولبن أصلها يجلو بياض العين .

حرف الواو
ورس
ذكر الترمذي في " جامعه " : من حديث زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينعت الزيت والورس من ذات الجنب قال قتادة يلد به ويلد من الجانب الذي يشتكيه .

وروى ابن ماجه في " سننه " من حديث زيد بن أرقم أيضا قال نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذات الجنب ورسا وقسطا وزيتا يلد به .

وصح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كانت النفساء تقعد بعد نفاسها أربعين يوما وكانت إحدانا تطلي الورس على وجهها من الكلف .

قال أبو حنيفة اللغوي الورس يزرع زرعا وليس ببري ولست أعرفه بغير أرض العرب ولا من أرض العرب بغير بلاد اليمن .

وقوته في الحرارة واليبوسة في أول الدرجة الثانية وأجوده الأحمر اللين في اليد القليل النخالة ينفع من الكلف والحكة والبثور الكائنة في سطح البدن إذا طلي به وله قوة قابضة صابغة وإذا شرب نفع من الوضح ومقدار الشربة منه وزن درهم .

وهو في مزاجه ومنافعه قريب من منافع القسط البحري وإذا لطخ به على البهق والحكة والبثور والسفعة نفع منها والثوب المصبوغ بالورس يقوي على الباه .

وسمة
هي ورق النيل وهي تسود الشعر وقد تقدم قريبا ذكر الخلاف في جواز الصبغ بالسواد ومن فعله .

حرف الياء
يقطين
وهو الدباء والقرع وإن كان اليقطين أعم فإنه في اللغة كل شجر لا تقوم على ساق كالبطيخ والقثاء والخيار قال الله تعالى : وأنبتنا عليه شجرة من يقطين [ الصافات 146 ] .

[السبب في إطلاق القرآن على اليقطين اسم الشجر ]

فإن قيل ما لا يقوم على ساق يسمى نجما لا شجرا والشجر ما له ساق قاله أهل اللغة فكيف قال شجرة من يقطين ؟ .

فالجواب أن الشجر إذا أطلق كان ما له ساق يقوم عليه وإذا قيد بشيء تقيد به فالفرق بين المطلق والمقيد في الأسماء باب مهم عظيم النفع في الفهم ومراتب اللغة .

واليقطين المذكور في القرآن هو نبات الدباء وثمره يسمى الدباء والقرع وشجرة اليقطين . وقد ثبت في " الصحيحين " : من حديث أنس بن مالك أن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه قال أنس رضي الله عنه فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرب إليه خبزا من شعير ومرقا فيه دباء وقديد قال أنس فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي الصحفة فلم أزل أحب الدباء من ذلك اليوم .

وقال أبو طالوت دخلت على أنس بن مالك رضي الله عنه وهو يأكل القرع ويقول يا لك من شجرة ما أحبك إلي لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك .

وفي " الغيلانيات " : من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة إذا طبختم قدرا فأكثروا فيها من الدباء فإنها تشد قلب الحزين .

اليقطين بارد رطب يغذو غذاء يسيرا وهو سريع الانحدار وإن لم يفسد قبل الهضم تولد منه خلط محمود ومن خاصيته أنه يتولد منه خلط محمود مجانس لما يصحبه فإن أكل بالخردل تولد منه خلط حريف وبالملح خلط مالح ومع القابض قابض وإن طبخ بالسفرجل غذا البدن غذاء جيدا .

وهو لطيف مائي يغذو غذاء رطبا بلغميا وينفع المحرورين ولا يلائم المبرودين ومن الغالب عليهم البلغم وماؤه يقطع العطش ويذهب الصداع الحار إذا شرب أو غسل به الرأس وهو ملين للبطن كيف استعمل ولا يتداوى المحرورون بمثله ولا أعجل منه نفعا .

ومن منافعه أنه إذا لطخ بعجين وشوي في الفرن أو التنور واستخرج ماؤه وشرب ببعض الأشربة اللطيفة سكن حرارة الحمى الملتهبة وقطع العطش وغذى غذاء حسنا وإذا شرب بترنجبين وسفرجل مربى أسهل صفراء محضة .

وإذا طبخ القرع وشرب ماؤه بشيء من عسل وشيء من نطرون أحدر بلغما ومرة معا وإذا دق وعمل منه ضماد على اليافوخ نفع من الأورام الحارة في الدماغ .

وإذا عصرت جرادته وخلط ماؤها بدهن الورد وقطر منها في الأذن نفعت من الأورام الحارة وجرادته نافعة من أورام العين الحارة ومن النقرس الحار وهو شديد النفع لأصحاب الأمزجة الحارة والمحمومين ومتى صادف في المعدة خلطا رديئا استحال إلى طبيعته وفسد وولد في البدن خلطا رديئا ودفع مضرته بالخل والمري .

وبالجملة فهو من ألطف الأغذية وأسرعها انفعالا ويذكر عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من أكله .


افتراضي

فصل الوصايا الكلية لحفظ الصحة
[ محاذر طبية لابن ماسويه ]

وقد رأيت أن أختم الكلام في هذا الباب بفصل مختصر عظيم النفع في المحاذر والوصايا الكلية النافعة لتتم منفعة الكتاب ورأيت لابن ماسويه فصلا في كتاب " المحاذير " نقلته بلفظه قال من أكل البصل أربعين يوما وكلف فلا يلومن إلا نفسه .

ومن افتصد فأكل مالحا فأصابه بهق أو جرب فلا يلومن إلا نفسه .

ومن جمع في معدته البيض والسمك فأصابه فالج أو لقوة فلا يلومن إلا نفسه .

ومن دخل الحمام وهو ممتلئ فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفسه .

ومن جمع في معدته اللبن والسمك فأصابه جذام أو برص أو نقرس فلا يلومن إلا نفسه .

ومن جمع في معدته اللبن والنبيذ فأصابه برص أو نقرس فلا يلومن إلا نفسه .

ومن احتلم فلم يغتسل حتى وطئ أهله فولدت مجنونا أو مخبلا فلا يلومن إلا نفسه .

ومن أكل بيضا مسلوقا باردا وامتلأ منه فأصابه ربو فلا يلومن إلا نفسه .

ومن جامع فلم يصبر حتى يفرغ فأصابه حصاة فلا يلومن إلا نفسه .

ومن نظر في المرآة ليلا فأصابه لقوة أو أصابه داء فلا يلومن إلا نفسه .

فصل [ محاذر طبية لابن بختيشوع ]

وقال ابن بختيشوع احذر أن تجمع البيض والسمك فإنهما يورثان القولنج والبواسير ووجع الأضراس .

وإدامة أكل البيض يولد الكلف في الوجه وأكل الملوحة والسمك المالح والافتصاد بعد الحمام يولد البهق والجرب .

إدامة أكل كلى الغنم يعقر المثانة . الاغتسال بالماء البارد بعد أكل السمك الطري يولد الفالج .

وطء المرأة الحائض يولد الجذام الجماع من غير أن يهريق الماء عقيبه يولد الحصاة طول المكث في المخرج يولد الداء الدوي .

[ وصايا أبقراط ]

قال أبقراط : الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع . وقال استديموا الصحة بترك التكاسل عن التعب وبترك الامتلاء من الطعام والشراب .

[وصايا للحارث بن كلدة وغيره]

وقال بعض الحكماء من أراد الصحة فليجود الغذاء وليأكل على نقاء وليشرب على ظمأ وليقلل من شرب الماء ويتمدد بعد الغداء ويتمش بعد العشاء ولا ينم حتى يعرض نفسه على الخلاء وليحذر دخول الحمام عقيب الامتلاء ومرة في الصيف خير من عشر في الشتاء وأكل القديد اليابس بالليل معين على الفناء ومجامعة العجائز تهرم أعمار الأحياء وتسقم أبدان الأصحاء ويروى هذا عن علي رضي الله عنه ولا يصح عنه وإنما بعضه من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب وكلام غيره .

وقال الحارث : من سره البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء وليعجل العشاء وليخفف الرداء وليقلل غشيان النساء .

وقال الحارث : أربعة أشياء تهدم البدن الجماع على البطنة ودخول الحمام على الامتلاء وأكل القديد وجماع العجوز .

ولما احتضر الحارث اجتمع إليه الناس فقالوا : مرنا بأمر ننتهي إليه من بعد ك فقال لا تتزوجوا من النساء إلا شابة ولا تأكلوا من الفاكهة إلا في أوان نضجها ولا يتعالجن أحدكم ما احتمل بدنه الداء وعليكم بتنظيف المعدة في كل شهر فإنها مذيبة للبلغم مهلكة للمرة منبتة للحم وإذا تغدى أحدكم فلينم على إثر غدائه ساعة وإذا تعشى فليمش أربعين خطوة .

[وصايا لطبيب]

وقال بعض الملوك لطبيبه لعلك لا تبقى لي فصف لي صفة آخذها عنك فقال لا تنكح إلا شابة ولا تأكل من اللحم إلا فتيا ولا تشرب الدواء إلا من علة ولا تأكل الفاكهة إلا في نضجها وأجد مضغ الطعام . وإذا أكلت نهارا فلا بأس أن تنام وإذا أكلت ليلا فلا تنم حتى تمشي ولو خمسين خطوة ولا تأكلن حتى تجوع ولا تتكارهن على الجماع ولا تحبس البول وخذ من الحمام قبل أن يأخذ منك ولا تأكلن طعاما وفي معدتك طعام وإياك أن تأكل ما تعجز أسنانك عن مضغه فتعجز معدتك عن هضمه وعليك في كل أسبوع بقيئة تنقي جسمك ونعم الكنز الدم في جسدك فلا تخرجه إلا عند الحاجة إليه وعليك بدخول الحمام فإنه يخرج من الأطباق ما لا تصل الأدوية إلى إخراجه .

[وصايا للشافعي]

وقال الشافعي :

أربعة تقوي البدن أكل اللحم وشم الطيب وكثرة الغسل من غير جماع ولبس الكتان .

وأربعة توهن البدن كثرة الجماع وكثرة الهم وكثرة شرب الماء على الريق وكثرة أكل الحامض .

وأربعة تقوي البصر الجلوس حيال الكعبة والكحل عند النوم والنظر إلى الخضرة وتنظيف المجلس .

وأربعة توهن البصر النظر إلى القذر وإلى المصلوب وإلى فرج المرأة والقعود مستدبر القبلة .

وأربعة تزيد في الجماع أكل العصافير والإطريفل والفستق والخروب .

وأربعة تزيد في العقل ترك الفضول من الكلام والسواك ومجالسة الصالحين ومجالسة العلماء .

[ محاذر أفلاطون ]

وقال أفلاطون : خمس يذبن البدن وربما قتلن قصر ذات اليد وفراق الأحبة وتجرع المغايظ ورد النصح وضحك ذوي الجهل بالعقلاء .

[ محاذر لطبيب المأمون ]

وقال طبيب المأمون : عليك بخصال من حفظها فهو جدير أن لا يعتل إلا علة الموت لا تأكل طعاما وفي معدتك طعام وإياك أن تأكل طعاما يتعب أضراسك في مضغه فتعجز معدتك عن هضمه وإياك وكثرة الجماع فإنه يطفئ نور الحياة وإياك ومجامعة العجوز فإنه يورث موت الفجأة وإياك والفصد إلا عند الحاجة إليه وعليك بالقيء في الصيف .

[ وصية لأبقراط ]

ومن جوامع كلمات أبقراط قوله كل كثير فهو معاد للطبيعة .

[ وصية لجالينوس ]

وقيل لجالينوس ما لك لا تمرض ؟ فقال لأني لم أجمع بين طعامين رديئين ولم أدخل طعاما على طعام ولم أحبس في المعدة طعاما تأذيت به .

فصل [أربعة أشياء تمرض البدن ]

وأربعة أشياء تمرض الجسم الكلام الكثير والنوم الكثير والأكل الكثير والجماع الكثير .

[مضار الكلام الكثير ]

فالكلام الكثير: يقلل مخ الدماغ ويضعفه ويعجل الشيب .

[مضار النوم الكثير ]

والنوم الكثير يصفر الوجه ويعمي القلب ويهيج العين ويكسل عن العمل ويولد الرطوبات في البدن .

[مضار الأكل الكثير ]

والأكل الكثير يفسد فم المعدة ويضعف الجسم ويولد الرياح الغليظة والأدواء العسرة .

[مضار الجماع الكثير]

والجماع الكثير يهد البدن ويضعف القوى ويجفف رطوبات البدن ويرخي العصب ويورث السدد ويعم ضرره جميع البدن ويخص الدماغ لكثرة ما يتحلل به من الروح النفساني وإضعافه أكثر من إضعاف جميع المستفرغات ويستفرغ من جوهر الروح شيئا كثيرا .

[ أنفع الجماع ]

وأنفع ما يكون إذا صادف شهوة صادقة من صورة جميلة حديثة السن حلالا مع سن الشبوبية وحرارة المزاج ورطوبته وبعد العهد به وخلاء القلب من الشواغل النفسانية ولم يفرط فيه ولم يقارنه ما ينبغي تركه معه من امتلاء مفرط أو خواء أو استفراغ أو رياضة تامة أو حر مفرط أو برد مفرط فإذا راعى فيه هذه الأمور العشرة انتفع به جدا وأيها فقد فقد حصل له من الضرر بحسبه وإن فقدت كلها أو أكثرها فهو الهلاك المعجل .

فصل [الحمية ]

[وصايا جالينوس ]

والحمية المفرطة في الصحة كالتخليط في المرض والحمية المعتدلة نافعة وقال جالينوس لأصحابه اجتنبوا ثلاثا وعليكم بأربع ولا حاجة بكم إلى طبيب اجتنبوا الغبار والدخان والنتن وعليك بالدسم والطيب والحلوى والحمام ولا تأكلوا فوق شبعكم ولا تتخللوا بالباذروج والريحان ولا تأكلوا الجوز عند المساء ولا ينم من به زكمة على قفاه ولا يأكل من به غم حامضا ولا يسرع المشي من افتصد فإنه مخاطرة الموت ولا يتقيأ من تؤلمه عينه ولا تأكلوا في الصيف لحما كثيرا ولا ينم صاحب الحمى الباردة في الشمس ولا تقربوا الباذنجان العتيق المبزر ومن شرب كل يوم في الشتاء قدحا من ماء حار أمن من الأعلال ومن دلك جسمه في الحمام بقشور الرمان أمن من الجرب والحكة ومن أكل خمس سوسنات مع قليل مصطكا رومي وعود خام ومسك بقي طول عمره لا تضعف معدته ولا تفسد ومن أكل بزر البطيخ مع السكر نظف الحصى من معدته وزالت عنه حرقة البول .

فصل [ وصايا عامة ]

أربعة تهدم البدن الهم والحزن والجوع والسهر .

وأربعة تفرح النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري والمحبوب والثمار .

وأربعة تظلم البصر المشي حافيا والتصبح والتمسي بوجه البغيض والثقيل والعدو وكثرة البكاء وكثرة النظر في الخط الدقيق .

وأربعة تقوي الجسم لبس الثوب الناعم ودخول الحمام المعتدل وأكل الطعام الحلو والدسم وشم الروائح الطيبة .

وأربعة تيبس الوجه وتذهب ماءه وبهجته وطلاوته الكذب والوقاحة وكثرة السؤال عن غير علم وكثرة الفجور .

وأربعة تزيد في ماء الوجه وبهجته المروءة والوفاء والكرم والتقوى .

وأربعة تجلب البغضاء والمقت الكبر والحسد والكذب والنميمة .

وأربعة تجلب الرزق قيام الليل وكثرة الاستغفار بالأسحار وتعاهد الصدقة والذكر أول النهار وآخره .

وأربعة تمنع الرزق نوم الصبحة وقلة الصلاة والكسل والخيانة .

وأربعة تضر بالفهم والذهن إدمان أكل الحامض والفواكه والنوم على القفا والهم والغم .

وأربعة تزيد في الفهم فراغ القلب وقلة التملي من الطعام والشراب وحسن تدبير الغذاء بالأشياء الحلوة والدسمة وإخراج الفضلات المثقلة للبدن .

ومما يضر بالعقل إدمان أكل البصل والباقلا والزيتون والباذنجان وكثرة الجماع والوحدة والأفكار والسكر وكثرة الضحك والغم .

قال بعض أهل النظر قطعت في ثلاث مجالس فلم أجد لذلك علة إلا أني أكثرت من أكل الباذنجان في أحد تلك الأيام ومن الزيتون في الآخر ومن الباقلا في الثالث .

فصل [ فضل الطب النبوي ]

قد أتينا على جملة نافعة من أجزاء الطب العلمي والعملي لعل الناظر لا يظفر بكثير منها إلا في هذا الكتاب وأريناك قرب ما بينها وبين الشريعة وأن الطب النبوي نسبة طب الطبائعيين إليه أقل من نسبة طب العجائز إلى طبهم .

والأمر فوق ما ذكرناه وأعظم مما وصفناه بكثير ولكن فيما ذكرناه تنبيه باليسير على ما وراءه ومن لم يرزقه الله بصيرة على التفصيل فليعلم ما بين القوة المؤيدة بالوحي من عند الله والعلوم التي رزقها الله الأنبياء والعقول والبصائر التي منحهم الله إياها وبين ما عند غيرهم .

ولعل قائلا يقول ما لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وما لهذا الباب وذكر قوى الأدوية وقوانين العلاج وتدبير أمر الصحة ؟ .

وهذا من تقصير هذا القائل في فهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا وأضعافه وأضعاف أضعافه من فهم بعض ما جاء به وإرشاده إليه ودلالته عليه وحسن الفهم عن الله ورسوله من يمن الله به على من يشاء من عباده .

فقد أوجدناك أصول الطب الثلاثة في القرآن وكيف تنكر أن تكون شريعة المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملة على صلاح الأبدان كاشتمالها على صلاح القلوب وأنها مرشدة إلى حفظ صحتها ودفع آفاتها بطرق كلية قد وكل تفصيلها إلى العقل الصحيح والفطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه ولا تكن ممن إذا جهل شيئا عاداه .

ولو رزق العبد تضلعا من كتاب الله وسنة رسوله وفهما تاما في النصوص ولوازمها لاستغنى بذلك عن كل كلام سواه ولاستنبط جميع العلوم الصحيحة منه .

فمدار العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخلقه وذلك مسلم إلى الرسل صلوات الله عليهم وسلامه فهم أعلم الخلق بالله وأمره وخلقه وحكمته في خلقه وأمره .

وطب أتباعهم أصح وأنفع من طب غيرهم . وطب أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أكمل الطب وأصحه وأنفعه ولا يعرف هذا إلا من عرف طب الناس سواهم وطبهم ثم وازن بينهما فحينئذ يظهر له التفاوت وهم أصح الأمم عقولا وفطرا وأعظمهم علما وأقربهم في كل شيء إلى الحق لأنهم خيرة الله من الأمم كما أن رسولهم خيرته من الرسل . والعلم الذي وهبهم إياه والحلم والحكمة أمر لا يدانيهم فيه غيرهم وقد روى الإمام أحمد في " مسنده " : من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله فظهر أثر كرامتها على الله سبحانه في علومهم وعقولهم وأحلامهم وفطرهم وهم الذين عرضت عليهم علوم الأمم قبلهم وعقولهم وأعمالهم ودرجاتهم فازدادوا بذلك علما وحلما وعقولا إلى ما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من علمه وحلمه .

[ غلب على النصارى البلادة وعلى اليهود الهم وعلى المسلمين العقل والشجاعة . . ]

ولذلك كانت الطبيعة الدموية لهم والصفراوية لليهود والبلغمية للنصارى ولذلك غلب على النصارى البلادة وقلة الفهم والفطنة وغلب على اليهود الحزن والهم والغم والصغار وغلب على المسلمين العقل والشجاعة والفهم والنجدة والفرح والسرور . وهذه أسرار وحقائق إنما يعرف مقدارها من حسن فهمه ولطف ذهنه وغزر علمه وعرف ما عند الناس وبالله التوفيق . بعونه تعالى تم الجزء الرابع من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الخامس وأوله فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أقضيته وأحكامه

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 12:24 AM
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الأقضية والأنكحة والبيوع
وليس الغرض من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيته الخاصة تشريعا عاما وإنما الغرض ذكر هديه في الحكومات الجزئية التي فصل بها بين الخصوم وكيف كان هديه في الحكم بين الناس ونذكر مع ذلك قضايا من أحكامه الكلية .




فصل [ جواز الحبس ]
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة قال أحمد وعلي بن المديني : هذا إسناد صحيح .

وذكر ابن زياد عنه صلى الله عليه وسلم في " أحكامه " : أنه صلى الله عليه وسلم سجن رجلا أعتق شركا له في عبد فوجب عليه استتمام عتقه حتى باع غنيمة له




فصل في حكمه فيمن قتل عبده
روى الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة وأمره أن يعتق رقبة ولم يقده به

وروى الإمام أحمد : من حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم من قتل عبده قتلناه فإن كان هذا محفوظا وقد سمعه منه الحسن كان قتله تعزيرا إلى الإمام بحسب ما يراه من المصلحة .

وأمر رجلا بملازمة غريمه كما ذكر أبو داود عن النضر بن شميل عن الهرماس بن حبيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لي : الزمه " ثم قال لي " يا أخا بني سهم ما تريد أن تفعل بأسيرك

" وروى أبو عبيد أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل القاتل وصبر الصابر قال أبو عبيد : أي بحبسه للموت حتى يموت .

وذكر عبد الرزاق في " مصنفه " عن علي : يحبس الممسك في السجن حتى يموت



فصل في حكمه في المحاربين
حكم بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم كما سملوا عين الرعاء وتركهم حتى ماتوا جوعا وعطشا كما فعلوا بالرعاء .



فصل في حكمه بين القاتل وولي المقتول
ثبت في " صحيح مسلم " : عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلا ادعى على آخر أنه قتل أخاه فاعترف فقال دونك صاحبك " فلما ولى قال إن قتله فهو مثله فرجع فقال إنما أخذته بأمرك فقال صلى الله عليه وسلم أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك ؟ فقال بلى فخلى سبيله

وفي قوله " فهو مثله " قولان أحدهما : أن القاتل إذا قيد منه سقط ما عليه فصار هو والمستقيد بمنزلة واحدة وهو لم يقل إنه بمنزلته قبل القتل وإنما قال إن قتله فهو مثله " وهذا يقتضي المماثلة بعد قتله فلا إشكال في الحديث وإنما فيه التعريض لصاحب الحق بترك القود والعفو .

والثاني : أنه إن كان لم يرد قتل أخيه فقتله به فهو متعد مثله إذ كان القاتل متعديا بالجناية والمقتص متعد بقتل من لم يتعمد القتل ويدل على هذا التأويل ما روى الإمام أحمد في " مسنده " : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعه إلى ولي المقتول فقال القاتل يا رسول الله ما أردت قتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للولي أما إنه إذا كان صادقا ثم قتلته دخلت النار فخلى سبيله

وفي كتاب ابن حبيب في هذا الحديث زيادة وهي قال النبي صلى الله عليه وسلم عمد يد وخطأ قلب


فصل في حكمه بالقود على من قتل جارية
وأنه يفعل به كما فعل ثبت في " الصحيحين " أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أي حلي فأخذ فاعترف فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين

وفي هذا الحديث دليل على قتل الرجل بالمرأة وعلى أن الجاني يفعل به كما فعل وأن القتل غيلة لا يشترط فيه إذن الولي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفعه إلى أوليائها ولم يقل إن شئتم فاقتلوه وإن شئتم فاعفوا عنه بل قتله حتما وهذا مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ومن قال إنه فعل ذلك لنقض العهد لم يصح فإن ناقض العهد لا ترضخ رأسه بالحجارة بل يقتل بالسيف .

فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن ضرب امرأة حاملا فطرحها
في " الصحيحين " أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة في الجنين وجعل دية المقتولة على عصبة القاتلة هكذا في " الصحيحين " . وفي النسائي فقضى في حملها بغرة وأن تقتل بها وكذلك قال غيره أيضا : إنه قتلها مكانها والصحيح أنه لم يقتلها لما تقدم . وقد روى البخاري في " صحيحه " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان بغرة عبد أو وليدة ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها وفي هذا الحكم أن شبه العمد لا يوجب القود وأن العاقلة تحمل الغرة تبعا للدية وأن العاقلة هم العصبة وأن زوج القاتلة لا يدخل معهم وأن أولادها أيضا ليسوا من العاقلة .

فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم بالقسامة فيمن لم يعرف قاتله
ثبت في " الصحيحين " : أنه صلى الله عليه وسلم حكم بها بين الأنصار واليهود وقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم وقال البخاري : وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم " فقالوا : أمر لم نشهده ولم نره فقال " فتبرئكم يهود بأيمان خمسين " فقالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده

وفي لفظ ويقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته إليه واختلف لفظ الأحاديث الصحيحة في محل الدية ففي بعضها أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده وفي بعضها وداه من إبل الصدقة .

وفي " سنن أبي داود " : أنه صلى الله عليه وسلم ألقى ديته على اليهود لأنه وجد بينهم

وفي " مصنف عبد الرزاق " : أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بيهود فأبوا أن يحلفوا فرد القسامة على الأنصار فأبوا أن يحلفوا فجعل عقله على يهود

[ ما تضمنه هذا الحكم من الأمور ]

وفي " سنن النسائي " : فجعل عقله على اليهود وأعانهم ببعضها وقد تضمنت هذه الحكومة أمورا :

دمنها : الحكم بالقسامة وأنها من دين الله وشرعه .

ومنها : القتل بها لقوله فيدفع برمته إليه وقوله في لفظ آخر وتستحقون دم صاحبكم فظاهر القرآن والسنة القتل بأيمان الزوج الملاعن وأيمان الأولياء في القسامة وهو مذهب أهل المدينة .
المدينة .

وأما أهل العراق فلا يقتلون في واحد منهما وأحمد يقتل في القسامة دون اللعان والشافعي عكسه .

ومنها : أنه يبدأ بأيمان المدعين في القسامة بخلاف غيرها من الدعاوى .

ومنها : أن أهل الذمة إذا منعوا حقا عليهم انتقض عهدهم لقوله صلى الله عليه وسلم إما أن تدوه وإما أن تأذنوا بحرب

ومنها : أن المدعى عليه إذا بعد عن مجلس الحكم كتب إليه ولم يشخصه .

ومنها : جواز العمل والحكم بكتاب القاضي وإن لم يشهد عليه .

ومنها : القضاء على الغائب .

ومنها : أنه لا يكتفى في القسامة بأقل من خمسين إذا وجدوا .

ومنها : الحكم على أهل الذمة بحكم الإسلام وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحكم بينهم وبين المسلمين .

افتراضي

[ الإشكال في محل الدية ]
ومنها : - وهو الذي أشكل على كثير من الناس - إعطاؤه الدية من إبل الصدقة وقد ظن بعض الناس أن ذلك من سهم الغارمين وهذا لا يصح فإن غارم أهل الذمة لا يعطى من الزكاة وظن بعضهم أن ذلك مما فضل من الصدقة عن أهلها فللإمام أن يصرفه في المصالح وهذا أقرب من الأول وأقرب منه أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده واقترض الدية من إبل الصدقة ويدل عليه " فوداه من عنده " وأقرب من هذا كله أن يقال لما تحملها النبي صلى الله عليه وسلم لإصلاح ذات البين بين الطائفتين كان حكمها حكم القضاء على الغارم لما غرمه لإصلاح ذات البين ولعل هذا مراد من قال إنه قضاها من سهم الغارمين وهو صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها لنفسه شيئا فإن الصدقة لا تحل له ولكن جرى إعطاء الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها لإصلاح ذات البين . والله أعلم .

فإن قيل فكيف تصنعون بقوله " فجعل عقله على اليهود " ؟ فيقال هذا مجمل لم يحفظ راويه كيفية جعله عليهم فإنه صلى الله عليه وسلم لما كتب إليهم أن يدوا القتيل أو يأذنوا بحرب كان هذا كالإلزام لهم بالدية ولكن الذي حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا وحلفوا على ذلك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه من عنده حفظوا زيادة على ذلك فهم أولى بالتقديم .

فإن قيل فكيف تصنعون برواية النسائي : أنه قسمها على اليهود وأعانهم ببعضها ؟ قيل هذا ليس بمحفوظ قطعا فإن الدية لا تلزم المدعى عليهم بمجرد دعوى أولياء القتيل بل لا بد من إقرار أو بينة أو أيمان المدعين ولم يوجد هنا شيء من ذلك وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم أيمان القسامة على المدعين فأبوا أن يحلفوا فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في أربعة سقطوا في بئر فتعلق بعضهم ببعض فهلكوا
ذكر الإمام أحمد والبزار وغيرهما أن قوما احتفروا بئرا باليمن فسقط فيها رجل فتعلق بآخر والثاني بالثالث والثالث بالرابع فسقطوا جميعا فماتوا فارتفع أولياؤهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال اجمعوا من حفر البئر من الناس وقضى للأول بربع الدية لأنه هلك فوقه ثلاثة وللثاني بثلثها لأنه هلك فوقه اثنان وللثالث بنصفها لأنه هلك فوقه واحد وللرابع بالدية تامة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العام المقبل فقصوا عليه القصة فقال " هو ما قضى بينكم هكذا سياق البزار .

وسياق أحمد نحوه وقال إنهم أبوا أن يرضوا بقضاء علي فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم عليه السلام فقصوا عليه القصة فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا .

فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج امرأة أبيه
روى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما : عن البراء رضي الله عنه قال لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية فقال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله وذكر ابن أبي خيثمة في " تاريخه " من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى رجل أعرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله

قال يحيى بن معين : هذا حديث صحيح . وفي " سنن ابن ماجه " من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقع على ذات محرم فاقتلوه

وذكر الجوزجاني أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله بن أبي مطرف رضي الله عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من تخطى حرم المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف

وقد نص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال يقتل ويدخل ماله في بيت المال

وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة : حده حد الزاني ثم قال أبو حنيفة إن وطئها بعقد عزر ولا حد عليه وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه أحق وأولى .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم بقتل من اتهم بأم ولده فلما ظهرت براءته أمسك
عنه روى ابن أبي خيثمة وابن السكن وغيرهما من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه أن ابن عم مارية كان يتهم بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه اذهب فإن وجدته عند مارية فاضرب عنقه " فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها فقال له علي : اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف عنه علي ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه مجبوب ما له ذكر

وفي لفظ آخر أنه وجده في نخلة يجمع تمرا وهو ملفوف بخرقة فلما رأى السيف ارتعد وسقطت الخرقة فإذا هو مجبوب لا ذكر له

وقد أشكل هذا القضاء على كثير من الناس فطعن بعضهم في الحديث ولكن ليس في إسناده من يتعلق عليه وتأوله بعضهم على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد حقيقة القتل إنما أراد تخويفه ليزدجر عن مجيئه إليها .

قال وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه في الولد " علي بالسكين حتى أشق الولد بينهما " ولم يرد أن يفعل ذلك بل قصد استعلام الأمر من هذا القول ولذلك كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث باب الحاكم يوهم خلاف الحق ليتوصل به إلى معرفة الحق فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف الصحابة براءته وبراءة مارية وعلم أنه إذا عاين السيف كشف عن حقيقة حاله فجاء الأمر كما قدره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأحسن من هذا أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله عنه بقتله تعزيرا لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده فلما تبين لعلي حقيقة الحال وأنه بريء من الريبة كف عن قتله واستغنى عن القتل بتبيين الحال والتعزير بالقتل ليس بلازم كالحد بل هو تابع للمصلحة دائر معها وجودا وعدما .



فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم في القتيل يوجد بين قريتين
روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال وجد قتيل بين قريتين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فذرع ما بينهما فوجد إلى أحدهما أقرب فكأني أنظر إلى شبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقاه على أقربهما

وفي " مصنف عبد الرزاق " قال عمر بن عبد العزيز : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا في القتيل يوجد بين ظهراني ديار قوم أن الأيمان على المدعى عليهم فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا فإن نكل الفريقان كانت الدية نصفها على المدعى عليهم وبطل النصف إذا لم يحلفوا وقد نص الإمام أحمد في رواية المروزي على القول بمثل رواية أبي سعيد فقال قلت لأبي عبد الله القوم إذا أعطوا الشيء فتبينوا أنه ظلم فيه قوم ؟

فقال يرد عليهم إن عرف القوم . قلت : فإن لم يعرفوا ؟ قال يفرق على مساكين ذلك الموضع فقلت : فما الحجة في أن يفرق على مساكين ذلك الموضع ؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل الدية على أهل المكان يعني القرية التي وجد فيها القتيل فأراه قال كما أن عليهم الدية هكذا يفرق فيهم يعني : إذا ظلم قوم منهم ولم يعرفوا فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قضى بموجب هذا الحديث وجعل الدية على أهل المكان الذي وجد فيه القتيل واحتج به أحمد وجعل هذا أصلا في تفريق المال الذي ظلم فيه أهل ذلك المكان عليهم إذا لم يعرفوا بأعيانهم .



وأما الأثر الآخر فمرسل لا تقوم بمثله حجة ولو صح تعين القول بمثله ولم تجز مخالفته ولا يخالف باب الدعاوى ولا باب القسامة فإنه ليس فيهم لوث ظاهر يوجب تقديم المدعين فيقدم المدعى عليهم في اليمين فإذا نكلوا قوي جانب المدعين من وجهين أحدهما : وجود القتيل بين ظهرانيهم .

والثاني : نكولهم عن براءة ساحتهم باليمين وهذا يقوم مقام اللوث الظاهر فيحلف المدعون ويستحقون فإذا نكل الفريقان كلاهما أورث ذلك شبهة مركبة من نكول كل واحد منهما فلم ينهض ذلك سببا لإيجاب كمال الدية عليهم إذا لم يحلف غرماؤهم ولا إسقاطها عنهم بالكلية حيث لم يحلفوا فجعلت الدية نصفين ووجب نصفها على المدعى عليهم لثبوت الشبهة في حقهم بترك اليمين ولم تجب عليهم بكمالها لأن خصومهم لم يحلفوا فلما كان اللوث متركبا من يمين المدعين ونكول المدعى عليهم ولم يتم سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو النصف ووجب ما يقابل نكول المدعى عليهم وهو النصف وهذا من أحسن الأحكام وأعدلها وبالله التوفيق .



فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم بتأخير القصاص من الجرح حتى يندمل
ذكر عبد الرزاق في " مصنفه " وغيره من حديث ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل طعن آخر بقرن في رجله فقال يا رسول الله أقدني فقال حتى تبرأ جراحك " فأبى الرجل إلا أن يستقيده فأقاده النبي صلى الله عليه وسلم فصح المستقاد منه وعرج المستقيد فقال عرجت وبرأ صاحبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ألم آمرك أن لا تستقيد حتى تبرأ جراحك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان به جرح بعد الرجل الذي عرج أن لا يستقاد منه حتى يبرأ جرح صاحبه

فالجراح على ما بلغ حتى يبرأ فما كان من عرج أو شلل فلا قود فيه وهو عقل ومن استقاد جرحا فأصيب المستقاد منه فعقل ما فضل من ديته على جرح صاحبه له . قلت : الحديث في " مسند الإمام أحمد " من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده متصل أن رجلا طعن بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقدني . فقال " حتى تبرأ " فقال أقدني . فأقاده ثم جاء إليه فقال يا رسول الله عرجت فقال " قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجتك " ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه

وفي سنن الدارقطني : عن جابر رضي الله عنه أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح

وقد تضمنت هذه الحكومة أنه لا يجوز الاقتصاص من الجرح حتى يستقر أمره إما باندمال أو بسراية مستقرة وأن سراية الجناية مضمونة بالقود وجواز القصاص في الضربة بالعصا والقرن ونحوهما ولا ناسخ لهذه الحكومة ولا معارض لها والذي نسخ بها تعجيل القصاص قبل الاندمال لا نفس القصاص فتأمله وأن المجني عليه إذا بادر واقتص من الجاني ثم سرت الجناية إلى عضو من أعضائه أو إلى نفسه بعد القصاص فالسراية هدر .

وأنه يكتفى بالقصاص وحده دون تعزير الجاني وحبسه قال عطاء : الجروح قصاص وليس للإمام أن يضربه ولا يسجنه إنما هو القصاص وما كان ربك نسيا ولو شاء لأمر بالضرب والسجن .

وقال مالك : يقتص منه بحق الآدمي ويعاقب لجرأته .

والجمهور يقولون القصاص يغني عن العقوبة الزائدة فهو كالحد إذا أقيم على المحدود لم يحتج معه إلى عقوبة أخرى .



أنواع المعاصي من حيث العقوبة ]
والمعاصي ثلاثة أنواع نوع عليه حد مقدر فلا يجمع بينه وبين التعزير .

ونوع لا حد فيه ولا كفارة فهذا يردع فيه بالتعزير ونوع فيه كفارة ولا حد فيه كالوطء في الإحرام والصيام فهل يجمع فيه بين الكفارة والتعزير ؟

على قولين للعلماء وهما وجهان لأصحاب أحمد والقصاص يجري مجرى الحد فلا يجمع بينه وبين التعزير .

فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم بالقصاص في كسر السن
في " الصحيحين " : من حديث أنس أن ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص فقالت أم الربيع يا رسول الله أيقتص من فلانة لا والله لا يقتص منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص " فقالت لا والله لا يقتص منها أبدا فعفا القوم وقبلوا الدية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .



فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن عض يد رجل فانتزع يده من فيه فسقطت ثنية العاض بإهدارها
ثبت في " الصحيحين أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك

وقد تضمنت هذه الحكومة أن من خلص نفسه من يد ظالم له فتلفت نفس الظالم أو شيء من أطرافه أو ماله بذلك فهو هدر غير مضمون .




فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن اطلع في بيت رجل بغير إذنه فحذفه بحصاة أو عود ففقأ عينه فلا شيء عليه
ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح

وفي لفظ فيهما : من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص وفيهما : أن رجلا اطلع من جحر في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه بمشقص وجعل يختله ليطعنه

فذهب إلى القول بهذه الحكومة وإلى التي قبلها فقهاء الحديث منهم الإمام أحمد والشافعي ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك .



فصل [ ما يفعل بالحامل إذا قتلت عمدا ]
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحامل إذا قتلت عمدا لا تقتل حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها .

ذكره ابن ماجه في " سننه " .

لا يقتل الوالد بالولد وقضى أن لا يقتل الوالد بالولد

ذكره النسائي وأحمد . وقضى أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ولا يقتل مؤمن بكافر

وقضى أن من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل

وقضى أن في دية الأصابع من اليدين والرجلين في كل واحدة عشرا من الإبل . وقضى في الأسنان في كل سن بخمس من الإبل وأنها كلها سواء وقضى في المواضح بخمس خمس

وقضى في العين السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها

وقضى في الأنف إذا جدع كله بالدية كاملة وإذا جدعت أرنبته بنصف الدية

وقضى في المأمومة بثلث الدية وفي الجائفة بثلثها وفي المنقلة بخمسة عشر من الإبل وقضى في اللسان بالدية وفي الشفتين بالدية وفي البيضتين بالدية وفي الذكر بالدية وفي الصلب بالدية وفي العينين بالدية وفي إحداهما بنصفها وفي الرجل الواحدة بنصف الدية وفي اليد بنصف الدية وقضى أن الرجل يقتل بالمرأة



[ دية الخطإ ]

وقضى أن دية الخطإ على العاقلة مائة من الإبل واختلفت الرواية عنه في أسنانها ففي السنن الأربعة عنه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرة بني لبون ذكر

قال الخطابي : ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بهذا .

وفيها أيضا من حديث ابن مسعود : أنها أخماس عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاص وعشرون حقة وعشرون جذعة

[ دية العمد إذا رضيها أهله ]

وقضى في العمد إذا رضوا بالدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم

فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى القول بحديث ابن مسعود رضي الله عنهما وجعل الشافعي ومالك بدل ابن مخاض ابن لبون وليس في واحد من الحديثين .

وفرضها النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة .

وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم جعلها ثمانمائة دينار أو ثمانمائة آلاف درهم ذكر أهل السنن الأربعة من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا .

وثبت عن عمر أنه خطب فقال إن الإبل قد غلت ففرضها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وترك دية أهل الذمة فلم يرفعها فيما رفع من الدية

[ دية المعاهد ]

وقد روى أهل السنن الأربعة عنه صلى الله عليه وسلم دية المعاهد نصف دية الحر

ولفظ ابن ماجه قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى

واختلف الفقهاء في ذلك فقال مالك : ديتهم نصف دية المسلمين في الخطإ والعمد وقال الشافعي : ثلثها في الخطإ والعمد .

وقال أبو حنيفة : بل كدية المسلم في الخطإ والعمد . وقال الإمام أحمد : مثل دية المسلم في العمد . وعنه في الخطإ روايتان إحداهما : نصف الدية وهي ظاهر مذهبه .

والثانية ثلثها فأخذ مالك بظاهر حديث عمرو بن شعيب وأخذ الشافعي بأن عمر جعل ديته أربعة آلاف وهي ثلث دية المسلم وأخذ أحمد بحديث عمرو إلا أنه في العمد ضعف الدية عقوبة لأجل سقوط القصاص وهكذا عنده من سقط عنه القصاص ضعفت عليه الدية عقوبة نص عليه توقيفا وأخذ أبو حنيفة بما هو أصله من جريان القصاص بينهما فتتساوى ديتهما .



[ عقل المرأة ]

وقضى صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة مثل عقل الرجل إلى الثلث من ديتها ذكره النسائي . فتصير على النصف من ديته وقضى بالدية على العاقلة وبرأ منها الزوج وولد المرأة القاتلة



[ الدية على من قتل المكاتب ]

وقضى في المكاتب أنه إذا قتل يودى بقدر ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي فدية المملوك قلت : يعني قيمته . وقضى بهذا القضاء علي بن أبي طالب وإبراهيم النخعي ويذكر رواية عن أحمد وقال عمر : إذا أدى شطر كتابته كان غريما ولا يرجع رقيقا وبه قضى عبد الملك بن مروان . وقال ابن مسعود إذا أدى الثلث وقال عطاء : إذا أدى ثلاثة أرباع الكتابة فهو غريم والمقصود أن هذا القضاء النبوي لم تجمع الأمة على تركه ولم يعلم نسخه .

وأما حديث المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فلا معارضة بينه وبين هذا القضاء فإنه في الرق بعد ولا تحصل حريته التامة إلا بالأداء .


فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم على من أقر بالزنى
ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنى فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى شهد على نفسه أربع مرات فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبك جنون ؟ " قال لا . قال " أحصنت " ؟ قال نعم فأمر به فرجم في المصلى فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا وصلى عليه

وفي لفظ لهما : أنه قال له أحق ما بلغني عنك " قال وما بلغك عني قال " بلغني أنك وقعت بجارية بني فلان " فقال نعم قال فشهد على نفسه أربع شهادات ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال " أبك جنون " قال لا قال " أحصنت " قال نعم ثم أمر به فرجم

وفي لفظ لهما : فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبك جنون " قال لا . قال " أحصنت " ؟ قال نعم . قال اذهبوا به فارجموه

وفي لفظ للبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت " قال لا يا رسول الله . قال " أنكتها " لا يكني قال نعم فعند ذلك أمر برجمه

وفي لفظ لأبي داود : أنه شهد على نفسه أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل في الخامسة قال أنكتها ؟ " قال نعم . قال " حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ " قال نعم . قال " كما يغيب الميل في المكحلة والرشاء في البئر ؟ " قال نعم . قال " فهل تدري ما الزنى ؟ " قال نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا . قال " فما تريد بهذا القول ؟ " قال أريد أن تطهرني قال فأمر به فرجم




وفي " السنن " : أنه لما وجد مس الحجارة قال يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي .

وفي " صحيح مسلم " : فجاءت الغامدية فقالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ؟ فوالله إني لحبلى قال إما لا فاذهبي حتى تلدي " فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت هذا قد ولدته قال " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فانتضح الدم على وجهه فسبها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت


افتراضي

وفي " صحيح البخاري " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه

وفي " الصحيحين " : أن رجلا قال له أنشدك بالله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي فقال : قل " قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها " فاعترفت فرجمها

وفي " صحيح مسلم " عنه صلى الله عليه وسلم الثيب بالثيب جلد مائة والرجم والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام




فتضمنت هذه الأقضية رجم الثيب وأنه لا يرجم حتى يقر أربع مرات وأنه إذا أقر دون الأربع لم يلزم بتكميل نصاب الإقرار بل للإمام أن يعرض عنه ويعرض له بعدم تكميل الإقرار .

وأن إقرار زائل العقل بجنون أو سكر ملغى لا عبرة به وكذلك طلاقه وعتقه وأيمانه ووصيته .

وجواز إقامة الحد في المصلى وهذا لا يناقض نهيه أن تقام الحدود في المساجد .

وأن الحر المحصن إذا زنى بجارية فحده الرجم كما لو زنى بحرة . وأن الإمام يستحب له أن يعرض للمقر بأن لا يقر وأنه يجب استفسار المقر في محل الإجمال لأن اليد والفم والعين لما كان استمتاعها زنى استفسر عنه دفعا لاحتماله .

وأن الإمام له أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه كالسؤال عن الفعل .

وأن الحد لا يجب على جاهل بالتحريم لأنه صلى الله عليه وسلم سأله عن حكم الزنى فقال أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من أهله حلالا .

وأن الحد لا يقام على الحامل وأنها إذا ولدت الصبي أمهلت حتى ترضعه وتفطمه وأن المرأة يحفر لها دون الرجل وأن الإمام لا يجب عليه أن يبدأ بالرجم .

وأنه لا يجوز سب أهل المعاصي إذا تابوا وأنه يصلى على من قتل في حد الزنى وأن المقر إذا استقال في أثناء الحد وفر ترك ولم يتمم عليه الحد فقيل لأنه رجوع . وقيل لأنه توبة قبل تكميل الحد فلا يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه . وهذا اختيار شيخنا .

وأن الرجل إذا أقر أنه زنى بفلانة لم يقم عليه حد القذف مع حد الزنى . وأن ما قبض من المال بالصلح الباطل باطل يجب رده . وأن الإمام له أن يوكل في استيفاء الحد .




[ لا يجمع على الثيب الجلد والرجم ]

وأن الثيب لا يجمع عليه بين الجلد والرجم لأنه صلى الله عليه وسلم " لم يجلد ماعزا ولا الغامدية ولم يأمر أنيسا أن يجلد المرأة التي أرسله إليها وهذا قول الجمهور وحديث عبادة خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة والرجم منسوخ .

فإن هذا كان في أول الأمر عند نزول حد الزاني ثم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما وهذا كان بعد حديث عبادة بلا شك وأما حديث جابر في " السنن " : أن رجلا زنى فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد الحد ثم أقر أنه محصن فأمر به فرجم . فقد قال جابر في الحديث نفسه إنه لم يعلم بإحصانه فجلد ثم علم بإحصانه فرجم . رواه أبو داود .



[ لا يسقط الجهل بالعقوبة الحد ]
وفيه أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالما بالتحريم فإن ماعزا لم يعلم أن عقوبته القتل ولم يسقط هذا الجهل الحد عنه .

[ للحاكم أن يحكم بالإقرار في مجلسه دون شاهدين ]

وفيه أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالإقرار في مجلسه وإن لم يسمعه معه شاهدان نص عليه أحمد فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأنيس فإن اعترفت بحضرة شاهدين فارجمها .

وأن الحكم إذا كان حقا محضا لله لم يشترط الدعوى به عند الحاكم . وأن الحد إذا وجب على امرأة جاز للإمام أن يبعث إليها من يقيمه عليها ولا يحضرها وترجم النسائي على ذلك صونا للنساء عن مجلس الحكم .

وأن الإمام والحاكم والمفتي يجوز له الحلف على أن هذا حكم الله عز وجل إذا تحقق ذلك وتيقنه بلا ريب وأنه يجوز التوكيل في إقامة الحدود وفيه نظر فإن هذا استنابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتضمن تغريب المرأة كما يغرب الرجل لكن يغرب معها محرمها إن أمكن وإلا فلا وقال مالك : لا تغريب على النساء . لأنهن عورة .
فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم على أهل الكتاب في الحدود بحكم الإسلام
ثبت في " الصحيحين " و " المسانيد " : أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم " ؟ قالوا : نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا : صدق يا محمد إن فيها الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فتضمنت هذه الحكومة أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان وأن الذمي يحصن الذمية وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي ومن لم يقل بذلك اختلفوا في وجه هذا الحديث فقال مالك في غير " الموطأ " : لم يكن اليهود بأهل ذمة .

والذي في " صحيح البخاري " : أنهم أهل ذمة ولا شك أن هذا كان بعد العهد الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ولم يكونوا إذ ذاك حربا كيف وقد تحاكموا إليه ورضوا بحكمه ؟ وفي بعض طرق الحديث أنهم قالوا : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف وفي بعض طرقه أنهم دعوه إلى بيت مدراسهم فأتاهم وحكم بينهم فهم كانوا أهل عهد وصلح بلا شك .

وقالت طائفة أخرى : إنما رجمهما بحكم التوراة . قالوا : وسياق القصة صريح في ذلك وهذا مما لا يجدي عليهم شيئا البتة فإنه حكم بينهم بالحق المحض فيجب اتباعه بكل حال فماذا بعد الحق إلا الضلال .

وقالت طائفة رجمهما سياسة وهذا من أقبح الأقوال بل رجمهما بحكم الله الذي لا حكم سواه . وتضمنت هذه الحكومة أن أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا لا نحكم بينهم إلا بحكم الإسلام .



[ قبول شهادة الذميين على بعضهم ]
وتضمنت قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض لأن الزانيين لم يقرا ولم يشهد عليهما المسلمون فإنهم لم يحضروا زناهما كيف وفي " السنن " في هذه القصة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاءوا أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة .

وفي بعض طرق هذا الحديث فجاء أربعة منهم وفي بعضها : فقال لليهود : ائتوني بأربعة منكم



[ لا يجمع بين الرجم والجلد ]
وتضمنت الاكتفاء بالرجم وأن لا يجمع بينه وبين الجلد قال ابن عباس : الرجم في كتاب الله لا يغوص عليه إلا غواص وهو قوله تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب [ المائدة 15 ] واستنبطه غيره من قوله إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا [ المائدة 44 ] . قال الزهري في حديثه فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم .



فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم في الرجل يزني بجارية امرأته
في " المسند " و " السنن " الأربعة من حديث قتادة عن حبيب بن سالم أن رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة جلدة وإن لم تكن أحلتها رجمتك بالحجارة فوجدوه أحلتها له فجلده مائة

قال الترمذي : في إسناد هذا الحديث اضطراب سمعت محمدا يعني البخاري يقول لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث إنما رواه عن خالد بن عرفطة وأبو بشر لم يسمعه أيضا من حبيب بن سالم إنما رواه عن خالد بن عرفطة وسألت محمدا عنه ؟ فقال أنا أنفي هذا الحديث .

وقال النسائي : هو مضطرب وقال أبو حاتم الرازي : خالد بن عرفطة مجهول . وفي " المسند " و " السنن " عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها " وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها

فاختلف الناس في القول بهذا الحكم فأخذ به أحمد في ظاهر مذهبه فإن الحديث حسن وخالد بن عرفطة قد روى عنه ثقتان قتادة وأبو بشر ولم يعرف فيه قدح والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين والقياس وقواعد الشريعة يقتضي القول بموجب هذه الحكومة فإن إحلال الزوجة شبهة توجب سقوط الحد ولا تسقط التعزير فكانت المائة تعزيرا فإذا لم تكن أحلتها كان زنى لا شبهة فيه ففيه الرجم فأي شيء في هذه الحكومة مما يخالف القياس .



وأما حديث سلمة بن المحبق فإن صح تعين القول به ولم يعدل عنه ولكن قال النسائي : لا يصح هذا الحديث . قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول الذي رواه عن سلمة بن المحبق شيخ لا يعرف ولا يحدث عنه غير الحسن يعني قبيصة بن حريث . وقال البخاري في " التاريخ " : قبيصة بن حريث سمع سلمة بن المحبق في حديثه نظر وقال ابن المنذر : لا يثبت خبر سلمة بن المحبق وقال البيهقي : وقبيصة بن حريث غير معروف وقال الخطابي : هذا حديث منكر وقبيصة غير معروف والحجة لا تقوم بمثله وكان الحسن لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع .

وطائفة أخرى قبلت الحديث ثم اختلفوا فيه فقالت طائفة هو منسوخ وكان هذا قبل نزول الحدود .

وقالت طائفة بل وجهه أنه إذا استكرهها فقد أفسدها على سيدتها ولم تبق ممن تصلح لها ولحق بها العار وهذا مثلة معنوية فهي كالمثلة الحسية أو أبلغ منها وهو قد تضمن أمرين إتلافها على سيدتها والمثلة المعنوية بها فيلزمه غرامتها لسيدتها وتعتق عليه وأما إن طاوعته فقد أفسدها على سيدتها فتلزمه قيمتها لها ويملكها لأن القيمة قد استحقت عليه وبمطاوعتها وإرادتها خرجت عن شبهة المثلة .

قالوا : ولا بعد في تنزيل الإتلاف المعنوي منزلة الإتلاف الحسي إذ كلاهما يحول بين المالك وبين الانتفاع بملكه ولا ريب أن جارية الزوجة إذا صارت موطوءة لزوجها فإنها لا تبقى لسيدتها كما كانت قبل الوطء فهذا الحكم من أحسن الأحكام وهو موافق للقياس الأصولي . وبالجملة فالقول به مبني على قبول الحديث ولا تضر كثرة المخالفين له ولو كانوا أضعاف أضعافهم .



فصل [ الحكم في اللواط ]
ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء لأن هذا لم تكن تعرفه العرب ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم ولكن ثبت عنه أنه قال اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح وقال الترمذي : حديث حسن .

وحكم به أبو بكر الصديق وكتب به إلى خالد بعد مشاورة الصحابة وكان علي أشدهم في ذلك .

وقال ابن القصار وشيخنا : أجمعت الصحابة على قتله وإنما اختلفوا في كيفية قتله فقال أبو بكر الصديق : يرمى من شاهق وقال علي رضي الله عنه يهدم عليه حائط

وقال ابن عباس : يقتلان بالحجارة فهذا اتفاق منهم على قتله وإن اختلفوا في كيفيته وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ ذات محرم لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما فإنه روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه وروى أيضا عنه من وقع على ذات محرم فاقتلوه وفي حديثه أيضا بالإسناد من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه

وهذا الحكم على وفق حكم الشارع فإن المحرمات كلما تغلظت تغلظت عقوباتها ووطء من لا يباح بحال أعظم جرما من وطء من يباح في بعض الأحوال فيكون حده أغلظ وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء فيقتل بكل حال أو يكون حده حد الزاني .

واختلف السلف في ذلك فقال الحسن حده حد الزاني . وقال أبو سلمة عنه يقتل بكل حال وقال الشعبي والنخعي : يعزر وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية فإن ابن عباس رضي الله عنه أفتى بذلك وهو راوي الحديث .




فصل [ الحكم فيمن أقر بالزنى بامرأة معينة ]
وحكم صلى الله عليه وسلم على من أقر بالزنى بامرأة معينة بحد الزنى دون حد القذف ففي " السنن " : من حديث سهل بن سعد أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها .

فتضمنت هذه الحكومة أمرين

أحدهما : وجوب الحد على الرجل وإن كذبته المرأة خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يحد .

الثاني : أنه لا يجب عليه حد القذف للمرأة . وأما ما رواه أبو داود في " سننه " : من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات فجلده مائة جلدة وكان بكرا ثم سأله البينة على المرأة فقالت كذب والله يا رسول الله فجلد حد الفرية ثمانين فقال النسائي : هذا حديث منكر . انتهى وفي إسناده القاسم بن فياض الأنباري الصنعاني تكلم فيه غير واحد وقال ابن حبان : بطل الاحتجاج به .



فصل [ الحكم فى الأمة الزانية ]
وحكم في الأمة إذا زنت ولم تحصن بالجلد . وأما قوله تعالى في الإماء فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ النساء 25 ] فهو نص في أن حدها بعد التزويج نصف حد الحرة من الجلد وأما قبل التزويج فأمر بجلدها .

وفي هذا الجلد قولان أحدهما : أنه الحد ولكن يختلف الحال قبل التزويج وبعده فإن للسيد إقامته قبله وأما بعده فلا يقيمه إلا الإمام .

والقول الثاني : أن جلدها قبل الإحصان تعزير لا حد ولا يبطل هذا ما رواه مسلم في " صحيحه " : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يعيرها ثلاث مرات فإن عادت في الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير وفي لفظ فليضربها كتاب الله

وفي " صحيحه " أيضا : من حديث علي رضي الله عنه أنه قال أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " أحسنت

فإن التعزير يدخل تحته لفظ الحد في لسان الشارع كما في قوله صلى الله عليه وسلم لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى

وقد ثبت التعزير بالزيادة على العشرة جنسا وقدرا في مواضع عديدة لم يثبت نسخها ولم تجمع الأمة على خلافها .

وعلى كل حال فلا بد أن يخالف حالها بعد الإحصان حالها قبله وإلا لم يكن للتقييد فائدة فإما أن يقال قبل الإحصان لا حد عليها والسنة الصحيحة تبطل ذلك وإما أن يقال حدها قبل الإحصان حد الحرة وبعده نصفه وهذا باطل قطعا مخالف لقواعد الشرع وأصوله وإما أن يقال جلدها قبل الإحصان تعزير وبعده حد وهذا أقوى وإما أن يقال الافتراق بين الحالتين في إقامة الحد لا في قدره وأنه في إحدى الحالتين للسيد وفي الأخرى للإمام وهذا أقرب ما يقال .

وقد يقال إن تنصيصه على التنصيف بعد الإحصان لئلا يتوهم متوهم أن بالإحصان يزول التنصيف ويصير حدها حد الحرة كما أن الجلد زال عن البكر بالإحصان وانتقل إلى الرجم فبقي على التنصيف في أكمل حالتيها وهي الإحصان تنبيها على أنه إذا اكتفي به فيها ففيما قبل الإحصان أولى وأحرى والله أعلم .

[ فيمن لم يحتمل الحد ]

وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريض زنى ولم يحتمل إقامة الحد بأن يؤخذ له عثكال فيه مائة شمراخ فيضرب بها ضربة واحدة .



فصل [ متى نزل حد القذف ]
وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحد القذف لما أنزل الله سبحانه براءة زوجته من السماء فجلد رجلين وامرأة . وهما : حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة . قال أبو جعفر النفيلي : ويقولون المرأة حمنة بنت جحش .

[ حكم المرتد ]
[ وحكم فيمن بدل دينه بالقتل ]

ولم يخص رجلا من امرأة وقتل الصديق امرأة ارتدت بعد إسلامها يقال لها : أم قرفة .




[حكم شرب الخمر ]
وحكم في شارب الخمر بضربه بالجريد والنعال وضربه أربعين وتبعه أبو بكر رضي الله عنه على الأربعين

وفي " مصنف عبد الرزاق " : أنه صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين

وقال ابن عباس رضي الله عنه لم يوقت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا .

وقال علي رضي الله عنه جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وأبو بكر أربعين وكملها عمر ثمانين وكل سنة

[ حكم من شرب في الرابعة ]

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة . واختلف الناس في ذلك فقيل هو منسوخ وناسخه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وقيل هو محكم ولا تعارض بين الخاص والعام ولا سيما إذا لم يعلم تأخر العام . وقيل ناسخه حديث عبد الله حمار فإنه أتي به مرارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده ولم يقتله .

وقيل قتله تعزير بحسب المصلحة فإذا كثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيرا لا حدا وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال ائتوني به في الرابعة فعلي أن أقتله لكم وهو أحد رواة الأمر بالقتل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم معاوية وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وقبيصة بن ذؤيب رضي الله عنهم .

وحديث قبيصة : فيه دلالة على أن القتل ليس بحد أو أنه منسوخ فإنه قال فيه فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ورفع القتل وكانت رخصة . رواه أبو داود .

فإن قيل فما تصنعون بالحديث المتفق عليه عن علي رضي الله عنه أنه قال ما كنت لأدي من أقمت عليه الحد إلا شارب الخمر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسن فيه شيئا إنما هو شيء قلناه نحن لفظ أبي داود . ولفظهما : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يسنه

قيل المراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيه بقوله تقديرا لا يزاد عليه ولا ينقص كسائر الحدود وإلا فعلي رضي الله عنه قد شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب فيها أربعين .

وقوله إنما هو شيء قلناه نحن يعني التقدير بثمانين فإن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم فأشاروا بثمانين فأمضاها ثم جلد علي في خلافته أربعين وقال هذا أحب إلي

ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم والقتل إما منسوخ وإما أنه إلى رأي الإمام بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها فإذا رأى قتل واحد لينزجر الباقون فله ذلك وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرب وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في السارق
قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم

وقضى أنه لا تقطع اليد في أقل من ربع دينار

وصح عنه أنه قال اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ذكره الإمام أحمد رحمه الله .

وقالت عائشة رضي الله عنها : لم تكن تقطع يد السارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن ترس أو جحفة وكان كل منهما ذا ثمن

وصح عنه أنه قال لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده

فقيل هذا حبل السفينة وبيضة الحديد وقيل بل كل حبل وبيضة وقيل هو إخبار بالواقع أي إنه يسرق هذا فيكون سببا لقطع يده بتدرجه منه إلى ما هو أكبر منه .

قال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منه ما يساوي دراهم . وحكم في امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده بقطع يدها وقال أحمد رحمه الله بهذه الحكومة ولا معارض لها .

وحكم صلى الله عليه وسلم بإسقاط القطع عن المنتهب والمختلس والخائن والمراد بالخائن خائن الوديعة .



[ جحد العارية كالسرقة ]
وأما جاحد العارية فيدخل في اسم السارق شرعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كلموه في شأن المستعيرة الجاحدة قطعها وقال والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها

فإدخاله صلى الله عليه وسلم جاحد العارية في اسم السارق كإدخاله سائر أنواع المسكر في اسم الخمر فتأمله وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه .

وأسقط صلى الله عليه وسلم القطع عن سارق الثمر والكثر وحكم أن من أصاب منه شيئا بفمه وهو محتاج فلا شيء عليه ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا في جرينه هو بيدره فعليه القطع إذا بلغ ثمن المجن فهذا قضاؤه الفصل وحكمه العدل .

وقضى في الشاة التي تؤخذ من مراتعها بثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن

وقضى بقطع سارق رداء صفوان بن أمية وهو نائم عليه في المسجد . فأراد صفوان أن يهبه إياه أو يبيعه منه فقال " هلا كان قبل أن تأتيني به وقطع سارقا سرق ترسا من صفة النساء في المسجد

ودرأ القطع عن عبد من رقيق الخمس سرق من الخمس . وقال " مال الله سرق بعضه بعضا رواه ابن ماجه .

ورفع إليه سارق فاعترف ولم يوجد معه متاع فقال له " ما إخاله سرق " ؟ قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع

ورفع إليه آخر فقال ما إخاله سرق " ؟ فقال بلى فقال " اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به " فقطع ثم أتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " تب إلى الله " فقال تبت إلى الله فقال تاب الله عليك

وفي الترمذي عنه أنه قطع سارقا وعلق يده في عنقه قال حديث حسن .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم على من اتهم رجلا بسرقة
روى أبو داود : عن أزهر بن عبد الله أن قوما سرق لهم متاع فاتهموا ناسا من الحاكة فأتوا النعمان بن بشير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم أياما ثم خلى سبيلهم فأتوه فقالوا : خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان فقال ما شئتم إن شئتم أن أضربهم فإن خرج متاعكم فذاك وإلا أخذت من ظهوركم مثل الذي أخذت من ظهورهم . فقالوا : هذا حكمك ؟ فقال حكم الله وحكم رسوله



فصل [ ما تضمنته الأقضية السابقة في السرقة من الأمور ]
وقد تضمنت هذه الأقضية أمورا :

أحدها : أنه لا يقطع في أقل من ثلاثة دراهم أو ربع دينار .

[ جواز لعن أصحاب الكبائر بأنواعهم دون أعيانهم ]

الثاني : جواز لعن أصحاب الكبائر بأنواعهم دون أعيانهم كما لعن السارق ولعن آكل الربا وموكله ولعن شارب الخمر وعاصرها ولعن من عمل عمل قوم لوط ونهى عن لعن عبد الله حمار وقد شرب الخمر

ولا تعارض بين الأمرين فإن الوصف الذي علق عليه اللعن مقتض .

وأما المعين فقد يقوم به ما يمنع لحوق اللعن به من حسنات ماحية أو توبة أو مصائب مكفرة أو عفو من الله عنه فتلعن الأنواع دون الأعيان .

الثالث الإشارة إلى سد الذرائع فإنه أخبر أن سرقة الحبل والبيضة لا تدعه حتى تقطع يده .

الرابع قطع جاحد العارية وهو سارق شرعا كما تقدم .



[ مضاعفة الغرم ]

الخامس أن من سرق مالا قطع فيه ضوعف عليه الغرم وقد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله فقال كل من سقط عنه القطع ضوعف عليه الغرم وقد تقدم الحكم النبوي به في صورتين سرقة الثمار المعلقة والشاة من المرتع . السادس اجتماع التعزير مع الغرم وفي ذلك الجمع بين العقوبتين مالية وبدنية .

[ اعتبار الحرز في إقامة الحد ]
السابع اعتبار الحرز فإنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين وعند أبي حنيفة أن هذا لنقصان ماليته لإسراع الفساد إليه وجعل هذا أصلا في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه .
وقول الجمهور أصح فإنه صلى الله عليه وسلم جعل له ثلاثة أحوال

حالة لا شيء فيها وهو ما إذا أكل منه بفيه .

وحالة يغرم مثليه ويضرب من غير قطع وهو ما إذا أخذه من شجره وأخرجه .

وحالة يقطع فيها وهو ما إذا سرقه من بيدره سواء كان قد انتهى جفافه أو لم ينته فالعبرة للمكان والحرز لا ليبسه ورطوبته ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرزها .

[ إثبات العقوبات المالية ]
الثامن إثبات العقوبات المالية وفيه عدة سنن ثابتة لا معارض لها وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من عمل بها عمر رضي الله عنه .

التاسع أن الإنسان حرز لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه أين كان سواء كان في المسجد أو في غيره .

العاشر أن المسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع من سرق منه ترسا وعلى هذا فيقطع من سرق من حصيره وقناديله وبسطه وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره . ومن لم يقطعه قال له فيها حق فإن لم يكن فيها حق قطع كالذمي .




[ المطالبة في المسروق شرط في القطع ]
الحادي عشر أن المطالبة في المسروق شرط في القطع فلو وهبه إياه أو باعه قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه القطع كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم وقال هلا كان قبل أن تأتيني به

[ لا تسقط الحدود بعد رفعها للإمام ]
الثاني عشر أن ذلك لا يسقط القطع بعد رفعه إلى الإمام وكذلك كل حد بلغ الإمام وثبت عنده لا يجوز إسقاطه وفي " السنن " : عنه إذا بلغت الحدود الإمام فلعن الله الشافع والمشفع

الثالث عشر أن من سرق من شيء له فيه حق لم يقطع . لا يقطع إلا الإقرار مرتين أو لشهادة شاهدين

الرابع عشر أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين أو بشهادة شاهدين لأن السارق أقر عنده مرة فقال ما إخالك سرقت ؟ فقال بلى فقطعه حينئذ ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين التعريض للسارق بعدم الإقرار

الخامس عشر التعريض للسارق بعدم الإقرار وبالرجوع عنه وليس هذا حكم كل سارق بل من السراق من يقر بالعقوبة والتهديد كما سيأتي إن شاء الله تعالى .



[ الحسم بعد القطع ]

السادس عشر أنه يجب على الإمام حسمه بعد القطع لئلا يتلف . وفي قوله " احسموه " دليل على أن مؤنة الحسم ليست على السارق .

السابع عشر تعليق يد السارق في عنقه تنكيلا له وبه ليراه غيره .

الثامن عشر ضرب المتهم إذا ظهر منه أمارات الريبة وقد عاقب النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة وحبس في تهمة .

التاسع عشر وجوب تخلية المتهم إذا لم يظهر عنده شيء مما اتهم به وأن المتهم إذا رضي بضرب المتهم فإن خرج ماله عنده وإلا ضرب هو مثل ضرب من اتهمه إن أجيب إلى ذلك وهذا كله مع أمارات الريبة كما قضى به النعمان بن بشير رضي الله عنه وأخبر أنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . العشرون ثبوت القصاص في الضربة بالسوط والعصا ونحوهما .




فصل [ من تكرر منه الحد في السرقة ]
وقد روى عنه أبو داود : أنه أمر بقتل سارق فقالوا : إنما سرق فقال " اقطعوه " ثم جيء به ثانيا فأمر بقتله فقالوا : إنما سرق فقال " اقطعوه " ثم جيء به في الثالثة فأمر بقتله فقالوا : إنما سرق فقال " اقطعوه " ثم جيء به رابعة فقال " اقتلوه " فقالوا : إنما سرق فقال " اقطعوه " فأتي به في الخامسة فأمر بقتله فقتلوه

فاختلف الناس في هذه الحكومة فالنسائي وغيره لا يصححون هذا الحديث . قال النسائي : هذا حديث منكر ومصعب بن ثابت ليس بالقوي وغيره يحسنه ويقول هذا حكم خاص بذلك الرجل وحده لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المصلحة في قتله وطائفة ثالثة تقبله وتقول به وأن السارق إذا سرق خمس مرات قتل في الخامسة وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو مصعب من المالكية . وفي هذه الحكومة الإتيان على أطراف السارق الأربعة .

وقد روى عبد الرزاق في " مصنفه " : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعبد سرق فأتي به أربع مرات فتركه ثم أتي به الخامسة فقطع يده ثم السادسة فقطع رجله ثم السابعة فقطع يده ثم الثامنة فقطع رجله . واختلف الصحابة ومن بعدهم هل يؤتى على أطرافه كلها أم لا ؟ على قولين .

فقال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى روايتيه يؤتى عليها كلها وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية ثانية لا يقطع منه أكثر من يد ورجل وعلى هذا القول فهل المحذور تعطيل منفعة الجنس أو ذهاب عضوين من شق ؟ فيه وجهان يظهر أثرهما فيما لو كان أقطع اليد اليمنى فقط أو أقطع الرجل اليسرى فقط فإن قلنا : يؤتى على أطرافه لم يؤثر ذلك وإن قلنا : لا يؤتى عليها قطعت رجله اليسرى في الصورة الأولى ويده اليمنى في الثانية على العلتين وإن كان أقطع اليد اليسرى مع الرجل اليمنى لم يقطع على العلتين وإن كان أقطع اليد اليسرى فقط لم تقطع يمناه على العلتين وفيه نظر فتأمل .

وهل قطع رجله اليسرى يبتني على العلتين ؟ فإن عللنا بذهاب منفعة الجنس قطعت رجله وإن عللنا بذهاب عضوين من شق لم تقطع .

وإن كان أقطع اليدين فقط وعللنا بذهاب منفعة الجنس قطعت رجله اليسرى وإن عللنا بذهاب عضوين من شق لم تقطع هذا طرد هذه القاعدة .

وقال صاحب " المحرر " فيه تقطع يمنى يديه على الروايتين وفرق بينها وبين مسألة مقطوع اليدين والذي يقال في الفرق إنه إذا كان أقطع الرجلين فهو كالمقعد وإذا قطعت إحدى يديه انتفع بالأخرى في الأكل والشرب والوضوء والاستجمار وغيره وإذا كان أقطع اليدين لم ينتفع إلا برجليه فإذا ذهبت إحداهما لم يمكنه الانتفاع بالرجل الواحدة بلا يد ومن الفرق أن اليد الواحدة تنفع مع عدم منفعة المشي والرجل الواحدة لا تنفع مع عدم منفعة البطش .




فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم فيمن سبه من مسلم أو ذمي أو معاهد
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى بإهدار دم أم ولد الأعمى لما قتلها مولاها على السب

وقتل جماعة من اليهود على سبه وأذاه وأمن الناس يوم الفتح إلا نفرا ممن كان يؤذيه ويهجوه وهم أربعة رجال وامرأتان

وقال من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله وأهدر دمه ودم أبي رافع .

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأبي برزة الأسلمي وقد أراد قتل من سبه ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

فهذا قضاؤه صلى الله عليه وسلم وقضاء خلفائه من بعده ولا مخالف لهم من الصحابة وقد أعاذهم الله من مخالفة هذا الحكم .

وقد روى أبو داود في " سننه " : عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها

وذكر أصحاب السير والمغازي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال هجت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقال " من لي بها " ؟ فقال رجل من قومها : أنا فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال " لا ينتطح فيها عنزان

وفي ذلك بضعة عشر حديثا ما بين صحاح وحسان ومشاهير وهو إجماع الصحابة . وقد ذكر حرب في " مسائله " : عن مجاهد قال أتي عمر رضي الله عنه برجل سب النبي صلى الله عليه وسلم فقتله ثم قال عمر رضي الله عنه من سب الله ورسوله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه

ثم قال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أيما مسلم سب الله ورسوله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن رجع وإلا قتل وأيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه

وذكر أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر به راهب فقيل له هذا يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر رضي الله عنه لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا والآثار عن الصحابة بذلك كثيرة وحكى غير واحد من الأئمة الإجماع على قتله .

قال شيخنا : وهو محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين . والمقصود إنما هو ذكر حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه فيمن سبه .

[ له صلى الله عليه وسلم العفو عمن سبه في حياته ]
وأما تركه صلى الله عليه وسلم قتل من قدح في عدله بقوله " اعدل فإنك لم تعدل " وفي حكمه بقوله " أن كان ابن عمتك " وفي قصده بقوله " إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله " أو في خلوته بقوله " يقولون إنك تنهى عن الغي وتستخلي به وغير ذلك فذلك أن الحق له فله أن يستوفيه . وله أن يتركه وليس لأمته ترك استيفاء حقه صلى الله عليه وسلم .

وأيضا فإن هذا كان في أول الأمر حيث كان صلى الله عليه وسلم مأمورا بالعفو والصفح .

وأيضا فإنه كان يعفو عن حقه لمصلحة التأليف وجمع الكلمة ولئلا ينفر الناس عنه ولئلا يتحدثوا أنه يقتل أصحابه وكل هذا يختص بحياته صلى الله عليه وسلم .

يتبع ...

اخت مسلمة
04-10-2009, 12:44 AM
فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن سمه
ثبت في " الصحيحين " : أن يهودية سمته في شاة فأكل منها لقمة ثم لفظها وأكل معه بشر بن البراء فعفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها هكذا في " الصحيحين " .

وعند أبي داود أنه أمر بقتلها فقيل إنه عفا عنها في حقه فلما مات بشر بن البراء قتلها به .

وفيه دليل على أن من قدم لغيره طعاما مسموما يعلم به دون آكله فمات به أقيد منه .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الساحر
في الترمذي . عنه صلى الله عليه وسلم حد الساحر ضربة بالسيف

والصحيح أنه موقوف على جندب بن عبد الله . وصح عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتله وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها قتلت مدبرة سحرتها فأنكر عليها عثمان إذ فعلته دون أمره

وروي عن عائشة رضي الله عنها أيضا أنها قتلت مدبرة سحرتها وروي أنها باعتها ذكره ابن المنذر وغيره .

وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل من سحره من اليهود فأخذ بهذا الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله وأما مالك وأحمد رحمهما الله فإنهما يقتلانه ولكن منصوص أحمد رحمه الله أن ساحر أهل الذمة لا يقتل واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن الأعصم اليهودي حين سحره ومن قال بقتل ساحرهم يجيب عن هذا بأنه لم يقر ولم يقم عليه بينة وبأنه خشي صلى الله عليه وسلم أن يثير على الناس شرا بترك إخراج السحر من البئر فكيف لو قتله .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في أول غنيمة كانت في الإسلام وأول قتيل
لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش ومن معه سرية إلى نخلة ترصد عيرا لقريش وأعطاه كتابا مختوما وأمره أن لا يقرأه إلا بعد يومين فقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وكان ذلك في الشهر الحرام فعنفهم المشركون ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة والأسيرين حتى أنزل الله سبحانه وتعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله [ البقرة 217 ] فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين وبعثت إليه قريش في فدائهما فقال لا حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم فلما قدما فاداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثمان والحكم وقسم الغنيمة .

وذكر ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم رد الغنيمة وودى القتيل . والمعروف في السير خلاف هذا .

[ إجازة الشهادة على الوصية المختومة ]
وفي هذه القصة من الفقه إجازة الشهادة على الوصية المختومة وهو قول مالك وكثير من السلف ويدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما في " الصحيحين " : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده .

[ عدم معرفة حامل الكتاب بمضمونه ]

وفيها : أنه لا يشترط في كتاب الإمام والحاكم البينة ولا أن يقرأه الإمام والحاكم على الحامل له وكل هذا لا أصل له في كتاب ولا سنة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع كتبه مع رسله ويسيرها إلى من يكتب إليه ولا يقرؤها على حاملها ولا يقيم عليها شاهدين وهذا معلوم بالضرورة من هديه وسنته .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الجاسوس
ثبت أن حاطب بن أبي بلتعة لما جس عليه سأله عمر رضي الله عنه ضرب عنقه فلم يمكنه وقال " ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم

وقد تقدم حكم المسألة مستوفى .

واختلف الفقهاء في ذلك فقال سحنون إذا كاتب المسلم أهل الحرب قتل ولم يستتب وماله لورثته وقال غيره من أصحاب مالك رحمه الله يجلد جلدا وجيعا ويطال حبسه وينفى من موضع يقرب من الكفار .

وقال ابن القاسم : يقتل ولا يعرف لهذا توبة وهو كالزنديق .

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله لا يقتل والفريقان احتجوا بقصة حاطب وقد تقدم ذكر وجه احتجاجهم ووافق ابن عقيل من أصحاب أحمد مالكا وأصحابه .




فصل في حكمه في الأسرى
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأسرى أنه قتل بعضهم ومن على بعضهم وفادى بعضهم بمال وبعضهم بأسرى من المسلمين واسترق بعضهم ولكن المعروف أنه لم يسترق رجلا بالغا .

فقتل يوم بدر من الأسرى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث . وقتل من يهود جماعة كثيرين من الأسرى وفادى أسرى بدر بالمال بأربعة آلاف إلى أربعمائة وفادى بعضهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة ومن على أبي عزة الشاعر يوم بدر وقال في أسارى بدر : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له

وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين

وفدى رجالا من المسلمين بامرأة من السبي استوهبها من سلمة بن الأكوع

ومن على ثمامة بن أثال

وأطلق يوم فتح مكة جماعة من قريش فكان يقال لهم الطلقاء . وهذه أحكام لم ينسخ منها شيء بل يخير الإمام فيها بحسب المصلحة

واسترق من أهل الكتاب وغيرهم فسبايا أوطاس وبني المصطلق لم يكونوا كتابيين وإنما كانوا عبدة أوثان من العرب .

واسترق الصحابة من سبي بني حنيفة ولم يكونوا كتابيين .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسرى بين الفداء والمن والقتل والاستعباد يفعل ما شاء وهذا هو الحق الذي لا قول سواه .




فصل [ حكمه صلى الله عليه وسلم في اليهود ]
وحكم في اليهود بعدة قضايا فعاهدهم أول مقدمه المدينة ثم حاربه بنو قينقاع فظفر بهم ومن عليهم ثم حاربه بنو النضير فظفر بهم وأجلاهم ثم حاربه بنو قريظة فظفر بهم وقتلهم ثم حاربه أهل خيبر فظفر بهم وأقرهم في أرض خيبر ما شاء سوى من قتل منهم .

ولما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا حكم الله عز وجل من فوق سبع سموات

وتضمن هذا الحكم أن ناقضي العهد يسري نقضهم إلى نسائهم وذريتهم إذا كان نقضهم بالحرب ويعودون أهل حرب وهذا عين حكم الله عز وجل .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر
حكم يومئذ بإقرار يهود فيها على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وحكم بقتل ابني أبي الحقيق لما نقضوا الصلح بينهم وبينه على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا من أموالهم فكتموا وغيبوا وحكم بعقوبة المتهم بتغييب المال حتى أقر به وقد تقدم ذلك مستوفى في غزوة خيبر .

وكانت لأهل الحديبية خاصة ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة
حكم بأن من أغلق بابه أو دخل دار أبي سفيان أو دخل المسجد أو وضع السلاح فهو آمن وحكم بقتل نفر ستة منهم مقيس بن صبابة وابن خطل ومغنيتان كانتا تغنيان بهجائه وحكم بأنه لا يجهز على جريح ولا يتبع مدبر ولا يقتل أسير ذكره أبو عبيد في " الأموال " . وحكم لخزاعة أن يبذلوا سيوفهم في بني بكر إلى صلاة العصر ثم قال لهم يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم
[ الفارس والراجل ]
حكم صلى الله عليه وسلم أن للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم هذا حكمه الثابت عنه في مغازيه كلها وبه أخذ جمهور الفقهاء . السلب وحكم أن السلب للقاتل .

الخمس وأما حكمه بإخراج الخمس فقال ابن إسحاق : كانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرسا وكان أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس ومضت به السنة ووافقه على ذلك القاضي إسماعيل بن إسحاق فقال إسماعيل وأحسب أن بعضهم قال ترك أمر الخمس بعد ذلك ولم يأت في ذلك من الحديث ما فيه بيان شاف وإنما جاء ذكر الخمس يقينا في غنائم حنين .

وقال الواقدي : أول خمس خمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام نزلوا على حكمه فصالحهم على أن له أموالهم ولهم النساء والذرية وخمس أموالهم .

وقال عبادة بن الصامت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلما هزم الله العدو تبعتهم طائفة يقتلونهم وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة استولت على العسكر والغنيمة فلما رجع الذين طلبوهم قالوا : لنا النفل نحن طلبنا العدو وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحق به لأنا أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينال العدو غرته وقال الذين استولوا على العسكر هو لنا نحن حويناه . فأنزل الله عز وجل يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول [ الأنفال 1 ] . فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بواء قبل أن ينزل واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه [ الأنفال 41 ] .




[ العلة في قسم أموال بني النضير في المهاجرين ]
وقال القاضي إسماعيل إنما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار : سهل بن حنيف وأبي دجانة والحارث بن الصمة لأن المهاجرين حين قدموا المدينة شاطرهم الأنصار ثمارهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئتم قسمت أموال بني النضير بينكم وبينهم وأقمتم على مواساتهم في ثماركم وإن شئتم أعطيناها للمهاجرين دونكم وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم فقالوا : بل تعطيهم دوننا ونمسك ثمارنا فأعطاها رسول الله المهاجرين فاستغنوا بما أخذوا واستغنى الأنصار بما رجع إليهم من ثمارهم وهؤلاء الثلاثة من الأنصار شكوا حاجة

[ من ضرب له سهم ولم يحضر ]
وكان طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله عنهما بالشام لم يشهدا بدرا فقسم لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم سهميهما فقالا : وأجورنا يا رسول الله ؟ فقال " وأجوركما " . وذكر ابن هشام وابن حبيب أن أبا لبابة والحارث بن حاطب وعاصم بن عدي خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فردهم وأمر أبا لبابة على المدينة وابن أم مكتوم على الصلاة وأسهم لهم

والحارث بن الصمة كسر بالروحاء فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه

قال ابن هشام : وخوات بن جبير ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه . ولم يختلف أحد أن عثمان بن عفان رضي الله عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب له بسهمه فقال وأجري يا رسول الله ؟ قال وأجرك قال ابن حبيب وهذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم وأجمع المسلمون أن لا يقسم لغائب .

قلت وقد قال أحمد ومالك وجماعة من السلف والخلف إن الإمام إذا بعث أحدا في مصالح الجيش فله سهمه .

قال ابن حبيب ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسهم للنساء والصبيان والعبيد ولكن كان يحذيهم من الغنيمة




فصل [ ما يعدل البعير من الغنم والبقر ]
وعدل في قسمة الإبل والغنم كل عشرة منها ببعير فهذا في التقويم وقسمة المال المشترك . وأما في الهدي فقد قال جابر نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة . فهذا في الحديبية .

وأما في حجة الوداع فقال جابر أيضا : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة وكلاهما في الصحيح . وفي " السنن " من حديث ابن عباس أن رجلا : أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن علي بدنة وأنا موسر بها ولا أجدها فأشتريها فأمره أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن .




فصل [هل السلب من الخمس ]
حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالسلب كله للقاتل ولم يخمسه ولم يجعله من الخمس بل من أصل الغنيمة وهذا حكمه وقضاؤه .

قال البخاري في " صحيحه " : السلب للقاتل إنما هو من غير الخمس وحكم به بشهادة واحد وحكم به بعد القتل فهذه أربعة أحكام تضمنها حكمه صلى الله عليه وسلم بالسلب لمن قتل قتيلا .

وقال مالك وأصحابه السلب لا يكون إلا من الخمس وحكمه حكم النفل قال مالك : ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ولا فعله في غير يوم حنين ولا فعله أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما .

قال ابن المواز : ولم يعط غير البراء بن مالك سلب قتيله وخمسه . قال أصحابه قال الله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فجعل أربعة أخماس الغنيمة لمن غنمها فلا يجوز أن يؤخذ شيء مما جعله الله لهم بالاحتمال . وأيضا فلو كانت هذه الآية إنما هي في غير الأسلاب لم يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم حكمها إلى حنين وقد نزلت في قصة بدر وأيضا إنما قال من قتل قتيلا فله سلبه بعد أن برد القتال .

ولو كان أمرا متقدما لعلمه أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أكابر أصحابه وهو لم يطلبه حتى سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك .

قالوا : وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاه إياه بشهادة واحد بلا يمين فلو كان من رأس الغنيمة لم يخرج حق مغنم إلا بما تخرج به الأملاك من البينات أو شاهد ويمين .

قالوا : وأيضا فلو وجب للقاتل ولم يجد بينة لكان يوقف كاللقطة ولا يقسم وهو إذا لم تكن بينة يقسم فخرج من معنى الملك ودل على أنه إلى اجتهاد الإمام يجعله من الخمس الذي يجعل في غيره هذا مجموع ما احتج به لهذا القول .

قال الآخرون قد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله قبل حنين بستة أعوام فذكر البخاري في " صحيحه " : أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء الأنصاريين ضربا أبا جهل بن هشام يوم بدر بسيفيهما حتى قتلاه فانصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته فقال هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا فنظر إلى السيفين فقال كلاكما قتله وسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح وهذا يدل على أن كون السلب للقاتل أمر مقرر معلوم من أول الأمر وإنما تجدد يوم حنين الإعلام العام والمناداة به لا شرعيته .




وأما قول ابن المواز : إن أبا بكر و عمر لم يفعلاه فجوابه من وجهين أحدهما : أن هذا شهادة على النفي فلا تسمع الثاني : أنه يجوز أن يكون ترك المناداة بذلك على عهدهما اكتفاء بما تقرر وثبت من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضائه وحتى لو صح عنهما ترك ذلك تركا صحيحا لا احتمال فيه لم يقدم على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله ولم يعط غير البراء بن مالك سلب قتيله فقد أعطى السلب لسلمة بن الأكوع ولمعاذ بن عمرو ولأبي طلحة الأنصاري قتل عشرين يوم حنين فأخذ أسلابهم وهذه كلها وقائع صحيحة معظمها في الصحيح فالشهادة على النفي لا تكاد تسلم من النقض .

وأما قوله " وخمسه " فهذا لم يحفظ به أثر البتة بل المحفوظ خلافه ففي " سنن أبي داود " : عن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب

وأما قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فهذا عام والحكم بالسلب للقاتل خاص ويجوز تخصيص عموم الكتاب بالسنة ونظائره معلومة ولا يمكن دفعها .

وقوله " لا يجعل شيء من الغنيمة لغير أهلها بالاحتمال " جوابه من وجهين أحدهما : أنا لم نجعل السلب لغير الغانمين . الثاني : إنما جعلناه للقاتل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بالاحتمال ولم يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم حكم الآية إلى يوم حنين كما ذكرتم بل قد حكم بذلك يوم بدر ولا يمنع كونه قاله بعد القتال من استحقاقه بالقتل .

وأما كون أبي قتادة لم يطلبه حتى سمع منادي النبي صلى الله عليه وسلم يقوله فلا يدل على أنه لم يكن متقررا معلوما وإنما سكت عنه أبو قتادة لأنه لم يكن يأخذه بمجرد دعواه فلما شهد له به شاهد أعطاه .

والصحيح أنه يكتفى في هذا بالشاهد الواحد ولا يحتاج إلى شاهد آخر ولا يمين كما جاءت به السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها وقد تقدم هذا في موضعه .

وأما قوله " إنه لو كان للقاتل لوقف ولم يقسم كاللقطة " فجوابه أنه للغانمين وإنما للقاتل حق التقديم فإذا لم تعلم عين القاتل اشترك فيه الغانمون فإنه حقهم ولم يظهر مستحق التقديم منهم فاشتركوا فيه .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمين ثم ظهر عليه المسلمون أو أسلم عليه المشركون
في " البخاري " : أن فرسا لابن عمر رضي الله عنه ذهب وأخذه العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق له عبد فلحق بالروم فظهر عليه المسلمون فرده عليه خالد في زمن أبي بكر رضي الله عنه .

وفي " سنن أبي داود " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي رد عليه الغلام وفي " المدونة " و " الواضحة أن رجلا من المسلمين وجد بعيرا له في المغانم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وجدته لم يقسم فخذه وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن إن أردته

وصح عنه أن المهاجرين طلبوا منه دورهم يوم الفتح بمكة فلم يرد على أحد داره . وقيل له أين تنزل غدا من دارك بمكة ؟ فقال وهل ترك لنا عقيل منزلا وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وثب عقيل على رباع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فحازها كلها وحوى عليها ثم أسلم وهي في يده وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أسلم على شيء فهو له وكان عقيل ورث أبا طالب ولم يرثه علي لتقدم إسلامه على موت أبيه ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث من عبد المطلب فإن أباه عبد الله مات وأبوه عبد المطلب حي ثم مات عبد المطلب فورثه أولاده وهم أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ومات أكثر أولاده ولم يعقبوا فحاز أبو طالب رباعه ثم مات فاستولى عليها عقيل دون علي لاختلاف الدين ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فاستولى عقيل على داره فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل ترك لنا عقيل منزلا

وكان المشركون يعمدون إلى من هاجر من المسلمين ولحق بالمدينة فيستولون على داره وعقاره فمضت السنة أن الكفار المحاربين إذا أسلموا لم يضمنوا ما أتلفوه على المسلمين من نفس أو مال ولم يردوا عليهم أموالهم التي غصبوها عليهم بل من أسلم على شيء فهو له هذا حكمه وقضاؤه صلى الله عليه وسلم .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيما كان يهدى إليه
كان أصحابه رضي الله عنهم يهدون إليه الطعام وغيره فيقبل منهم ويكافئهم أضعافها . وكانت الملوك تهدي إليه فيقبل هداياهم ويقسمها بين أصحابه ويأخذ منها لنفسه ما يختاره فيكون كالصفي الذي له من المغنم .

وفي " صحيح البخاري " : أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت إليه أقبية ديباج مزررة بالذهب فقسمها في ناس من أصحابه وعزل منها واحدا لمخرمة بن نوفل فجاء ومعه المسور ابنه فقام على الباب فقال ادعه لي فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فتلقاه به فاستقبله وقال يا أبا المسور خبأت هذا لك

وأهدى له المقوقس مارية أم ولده وسيرين التي وهبها لحسان وبغلة شهباء وحمارا .

وأهدى له النجاشي هدية فقبلها منه وبعث إليه هدية عوضها وأخبر أنه مات قبل أن تصل إليه وأنها ترجع فكان الأمر كما قال .

وأهدى له فروة بن نفاثة الجذامي بغلة بيضاء ركبها يوم حنين ذكره مسلم .

وذكر البخاري : أن ملك أيلة أهدى له بغلة بيضاء فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة وكتب له ببحرهم .

وأهدى له أبو سفيان هدية فقبلها .

وذكر أبو عبيد : أن عامر بن مالك ملاعب الأسنة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فرسا فرده وقال إنا لا نقبل هدية مشرك وكذلك قال لعياض المجاشعي إنا لا نقبل زبد المشركين يعني : رفدهم .
إنا لا نقبل هدية مشرك
وكذلك قال لعياض المجاشعي إنا لا نقبل زبد المشركين يعني : رفدهم .

قال أبو عبيد : وإنما قبل هدية أبي سفيان لأنها كانت في مدة الهدنة بينه وبين أهل مكة وكذلك المقوقس صاحب الإسكندرية إنما قبل هديته لأنه أكرم حاطب بن أبي بلتعة رسوله إليه وأقر بنبوته ولم يؤيسه من إسلامه ولم يقبل صلى الله عليه وسلم هدية مشرك محارب له قط .
يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 12:56 AM
فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال
الأموال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسمها ثلاثة الزكاة والغنائم والفيء .

فأما الزكاة والغنائم فقد تقدم حكمهما وبينا أنه لم يكن يستوعب الأصناف الثمانية وأنه كان ربما وضعها في واحد .

[الحكم في الفيء ]
وأما حكمه في الفيء فثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قسم يوم حنين في المؤلفة قلوبهم من الفيء ولم يعط الأنصار شيئا فعتبوا عليه فقال لهم ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتنطلقون برسول الله صلى الله عليه وسلم تقودونه إلى رحالكم فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به وقد تقدم ذكر القصة وفوائدها في موضعها .

والقصة هنا أن الله سبحانه أباح لرسوله من الحكم في مال الفيء ما لم يبحه لغيره وفي " الصحيح " عنه صلى الله عليه وسلم إني لأعطي أقواما وأدع غيرهم والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي وفي " الصحيح " عنه إني لأعطي أقواما أخاف ظلعهم وجزعهم وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب

قال عمرو بن تغلب فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم .

وفي " الصحيح أن عليا بعث إليه بذهيبة من اليمن فقسمها أرباعا فأعطى الأقرع بن حابس وأعطى زيد الخير وأعطى علقمة بن علاثة وعيينة بن حصن فقام إليه رجل غائر العينين ناتئ الجبهة كث اللحية محلوق الرأس فقال يا رسول الله اتق الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ الحديث .




[سهم ذوي القربى ]
وفي " السنن " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع سهم ذي القربى في بني هاشم وفي بني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس فانطلق جبير بن مطعم وعثمان بن عفان إليه فقالا : يا رسول الله لا ننكر فضل بني هاشم لموضعهم منك فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام إنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعه

وذكر بعض الناس أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن سهم ذوي القربى يصرف بعده في بني عبد شمس وبني نوفل كما يصرف في بني هاشم وبني المطلب قال لأن عبد شمس وهاشم ا والمطلب ونوفلا إخوة وهم أولاد عبد مناف . ويقال إن عبد شمس وهاشما توأمان .

والصواب استمرار هذا الحكم النبوي وأن سهم ذوي القربى لبني هاشم وبني المطلب حيث خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقول هذا القائل إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم باطل فإنه بين مواضع الخمس الذي جعله الله لذوي القربى فلا يتعدى به تلك المواضع ولا يقصر عنها ولكن لم يكن يقسمه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم ولا كان يقسمه قسمة الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين بل كان يصرفه فيهم بحسب المصلحة والحاجة فيزوج منه عزبهم ويقضي منه عن غارمهم ويعطي منه فقيرهم كفايته .

وفي " سنن أبي داود " : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر رضي الله عنه وحياة عمر رضي الله عنه .

وقد استدل به على أنه كان يصرف في مصارفه الخمسة ولا يقوى هذا الاستدلال إذ غاية ما فيه أنه صرفه في مصارفه التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه فيها ولم يعدها إلى سواها فأين تعميم الأصناف الخمسة به ؟ والذي يدل عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه أنه كان يجعل مصارف الخمس كمصارف الزكاة ولا يخرج بها عن الأصناف المذكورة لا أنه يقسمه بينهم كقسمة الميراث ومن تأمل سيرته وهديه حق التأمل لم يشك في ذلك .

وفي " الصحيحين " : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق منها على أهله نفقة سنة وفي لفظ " يحبس لأهله قوت سنتهم ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله .

وفي " السنن " : عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال كان رسول الله رضي الله عنه إذا أتاه الفيء قسمه من يومه فأعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظا . فهذا تفضيل منه للآهل بحسب المصلحة والحاجة وإن لم تكن زوجه من ذوي القربى .




[هل كان الفيء ملكا له صلى الله عليه وسلم]
وقد اختلف الفقهاء في الفيء هل كان ملكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه كيف يشاء أو لم يكن ملكا له ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره .

والذي تدل عليه سنته وهديه أنه كان يتصرف فيه بالأمر فيضعه حيث أمره الله ويقسمه على من أمر بقسمته عليهم فلم يكن يتصرف فيه تصرف المالك بشهوته وإرادته يعطي من أحب ويمنع من أحب وإنما كان يتصرف فيه تصرف العبد المأمور ينفذ ما أمره به سيده ومولاه فيعطي من أمر بإعطائه ويمنع من أمر بمنعه . وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا فقال والله إني لا أعطي أحدا ولا أمنعه إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فكان عطاؤه ومنعه وقسمه بمجرد الأمر فإن الله سبحانه خيره بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون ملكا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا .

[الفرق بين العبد الرسول وبين الملك الرسول]
والفرق بينهما أن العبد الرسول لا يتصرف إلا بأمر سيده ومرسله والملك الرسول له أن يعطي من يشاء ويمنع من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب [ ص : 39 ] . أي أعط من شئت وامنع من شئت لا نحاسبك وهذه المرتبة هي التي عرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم فرغب عنها إلى ما هو أعلى منها وهي مرتبة العبودية المحضة التي تصرف صاحبها فيها مقصور على أمر السيد في كل دقيق وجليل .

والمقصود أن تصرفه في الفيء بهذه المثابة فهو ملك يخالف حكم غيره من المالكين ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقة سنتهم ويجعل الباقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل وهذا النوع من الأموال هو السهم الذي وقع بعده فيه من النزاع ما وقع إلى اليوم .




[مصارف الفيء ]
فأما الزكوات والغنائم وقسمة المواريث فإنها معينة لأهلها لا يشركهم غيرهم فيها فلم يشكل على ولاة الأمر بعده من أمرها ما أشكل عليهم من الفيء ولم يقع فيها من النزاع ما وقع فيه ولولا إشكال أمره عليهم لما طلبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها من تركته وظنت أنه يورث عنه ما كان ملكا له كسائر المالكين وخفي عليها رضي الله عنها حقيقة الملك الذي ليس مما يورث عنه بل هو صدقة بعده ولما علم ذلك خليفته الراشد البار الصديق ومن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوا ما خلفه من الفيء ميراثا يقسم بين ورثته بل دفعوه إلى علي والعباس يعملان فيه عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تنازعا فيه وترافعا إلى أبي بكر الصديق وعمر ولم يقسم أحد منهما ذلك ميراثا ولا مكنا منه عباسا وعلي ا .

وقد قال الله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم إلى قوله والذين جاءوا من بعدهم إلى آخر الآية [ الحشر 7 - 10 ] .
فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته لمن ذكر في هذه الآيات ولم يخص منه خمسه بالمذكورين بل عمم وأطلق واستوعب . ويصرف على المصارف الخاصة وهم أهل الخمس ثم على المصارف العامة وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين .

فالذي عمل به هو وخلفاؤه الراشدون هو المراد من هذه الآيات ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه أحمد رحمه الله وغيره عنه ما أحد أحق بهذا المال من أحد وما أنا أحق به من أحد والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبد مملوك ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وبلاؤه في الإسلام والرجل وقدمه في الإسلام والرجل وغناؤه في الإسلام والرجل وحاجته ووالله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه

فهؤلاء المسمون في آية الفيء هم المسمون في آية الخمس ولم يدخل المهاجرون والأنصار وأتباعهم في آية الخمس لأنهم المستحقون لجملة الفيء وأهل الخمس لهم استحقاقان استحقاق خاص من الخمس واستحقاق عام من جملة الفيء فإنهم داخلون في النصيبين .

وكما أن قسمته من جملة الفيء بين من جعل له ليس قسمة الأملاك التي يشترك فيها المالكون كقسمة المواريث والوصايا والأملاك المطلقة بل بحسب الحاجة والنفع والغناء في الإسلام والبلاء فيه فكذلك قسمة الخمس في أهله فإن مخرجهما واحد في كتاب الله والتنصيص على الأصناف الخمسة يفيد تحقيق إدخالهم وأنهم لا يخرجون من

أهل الفيء بحال وأن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم كما أن الفيء العام في آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعداهم إلى غيرهم ولهذا أفتى أئمة الإسلام كمالك والإمام أحمد وغيرهما أن الرافضة لا حق لهم في الفيء لأنهم ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار ولا من الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالإيمان وهذا مذهب أهل المدينة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وعليه يدل القرآن وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين .


[هل تقسم الزكاة والفيء على الأصناف كلها ]
وقد اختلف الناس في آية الزكاة وآية الخمس فقال الشافعي : تجب قسمة الزكاة والخمس على الأصناف كلها ويعطي من كل صنف من يطلق عليه اسم الجمع .

وقال مالك رحمه الله وأهل المدينة : بل يعطي في الأصناف المذكورة فيهما ولا يعدوهم إلى غيرهم ولا تجب قسمة الزكاة ولا الفيء في جميعهم .

وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة : بقول مالك رحمهم الله في آية الزكاة وبقول الشافعي رحمه الله في آية الخمس .

ومن تأمل النصوص وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وجده يدل على قول أهل المدينة فإن الله سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفيء وعينهم اهتماما بشأنهم وتقديما لهم ولما كانت الغنائم خاصة بأهلها لا يشركهم فيها سواهم نص على خمسها لأهل الخمس ولما كان الفيء لا يختص بأحد دون أحد جعل جملته لهم وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم فسوى بين الخمس وبين الفيء في المصرف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف سهم الله وسهمه في مصالح الإسلام وأربعة أخماس الخمس في أهلها مقدما للأهم فالأهم والأحوج فالأحوج فيزوج منه عزابهم ويقضي منه ديونهم ويعين ذا الحاجة منهم ويعطي عزبهم حظا ومتزوجهم حظين ولم يكن هو ولا أحد من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوي القربى ويقسمون أربعة أخماس الفيء بينهم على السوية ولا على التفضيل كما لم يكونوا يفعلون ذلك في الزكاة فهذا هديه وسيرته وهو فصل الخطاب ومحض الصواب .


فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الوفاء بالعهد لعدوه وفي رسلهم أن لا يقتلوا ولا يحبسوا وفي النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خاف منه نقض العهد
ثبت عنه أنه قال لرسولي مسيلمة الكذاب لما قالا : نقول إنه رسول الله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما

وثبت عنه أنه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش فأراد المقام عنده وأنه لا يرجع إليهم فقال إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إلى قومك فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع

وثبت عنه أنه رد إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم أن يرد إليهم من جاءه منهم مسلما ولم يرد النساء وجاءت سبيعة الأسلمية مسلمة فخرج زوجها في طلبها فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار الآية [ الممتحنة 10 ] فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يخرجها إلا الرغبة في الإسلام وأنها لم تخرج لحدث أحدثته في قومها ولا بغضا لزوجها فحلفت فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها ولم يردها عليه . فهذا حكمه الموافق لحكم الله ولم يجئ شيء ينسخه البتة . ومن زعم أنه منسوخ فليس بيده إلا الدعوى المجردة وقد تقدم بيان ذلك في قصة الحديبية .

وقال تعالى : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين [ الأنفال 58 ] .

وقال صلى الله عليه وسلم من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدا ولا يشدنه حتى يمضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

ولما أسرت قريش حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا خارجين إلى بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الأمان الصادر من الرجال والنساء
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم

وثبت عنه أنه أجار رجلين أجارتهما أم هانئ ابنة عمه وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن الربيع لما أجارته ابنته زينب ثم قال يجير على المسلمين أدناهم وفي حديث آخر يجير على المسلمين أدناهم ويرد عليهم أقصاهم

فهذه أربع قضايا كلية أحدها : تكافؤ دمائهم وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم .

والثانية أنه يسعى بذمتهم أدناهم وهو يوجب قبول أمان المرأة والعبد .

وقال ابن الماجشون . لا يجوز الأمان إلا لوالي الجيش أو والي السرية . قال ابن شعبان وهذا خلاف قول الناس كلهم .

والثالثة أن المسلمين يد على من سواهم وهذا يمنع من تولية الكفار شيئا من الولايات فإن للوالي يدا على المولى عليه .

والرابعة أنه يرد عليهم أقصاهم وهذا يوجب أن السرية إذا غنمت غنيمة بقوة جيش الإسلام كانت لهم وللقاصي من الجيش إذ بقوته غنموها وأن ما صار في بيت المال من الفيء كان لقاصيهم ودانيهم وإن كان سبب أخذه دانيهم فهذه الأحكام وغيرها مستفادة من كلماته الأربعة صلوات الله وسلامه عليه .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الجزية ومقدارها وممن تقبل
[الأمر بأخذ الجزية ]

قد تقدم أن أول ما بعث الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم الدعوة إليه بغير قتال ولا جزية فأقام على ذلك بضع عشرة سنة بمكة ثم أذن له في القتال لما هاجر من غير فرض له ثم أمره بقتال من قاتله والكف عمن لم يقاتله ثم لما نزلت ( براءة ) سنة ثمان أمره بقتال جميع من لم يسلم من العرب : من قاتله أو كف عن قتاله إلا من عاهده ولم ينقصه من عهده شيئا فأمره أن يفي له بعهده ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين وحارب اليهود مرارا ولم يؤمر بأخذ الجزية منهم .

ثم أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية فامتثل أمر ربه فقاتلهم فأسلم بعضهم وأعطى بعضهم الجزية واستمر بعضهم على محاربته فأخذها صلى الله عليه وسلم من أهل نجران وأيلة وهم من نصارى العرب ومن أهل دومة الجندل وأكثرهم عرب وأخذها من المجوس ومن أهل الكتاب باليمن وكانوا يهودا .




[ هل تقبل الجزية من غير اليهود والنصارى والمجوس وهل تقبل من العرب ]
ولم يأخذها من مشركي العرب فقال أحمد والشافعي : لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وهم اليهود والنصارى والمجوس . ومن عداهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل .

وقالت طائفة في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية قبلت منهم أهل الكتابين بالقرآن والمجوس بالسنة ومن عداهم ملحق بهم لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية فإنها نزلت بعد تبوك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب واستوثقت كلها له بالإسلام ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه لأنها لم تكن نزلت بعد فلما نزلت أخذها من نصارى العرب ومن المجوس ولو بقي حينئذ أحد من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران ولا فرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على بعض ثم إن كفر عبدة الأوثان ليس أغلظ من كفر المجوس وأي فرق بين عبدة الأوثان والنيران بل كفر المجوس أغلظ وعباد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وأنه لا خالق إلا الله وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم أحدهما : خالق للخير والآخر للشر كما تقوله المجوس ولم يكونوا يستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه .

وأما المجوس فلم يكونوا على كتاب أصلا ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا في عقائدهم ولا في شرائعهم والأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع ورفعت شريعتهم لما وقع ملكهم على ابنته لا يصح البتة ولو صح لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب فإن كتابهم رفع وشريعتهم بطلت فلم يبقوا على شيء منها .

ومعلوم أن العرب كانوا على دين إبراهيم عليه السلام وكان له صحف وشريعة وليس تغيير عبدة الأوثان لدين إبراهيم عليه السلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صح فإنه لا يعرف عنهم التمسك بشيء من شرائع الأنبياء عليهم الصلوات والسلام بخلاف العرب فكيف يجعل المجوس الذين دينهم أقبح الأديان أحسن حالا من مشركي العرب وهذا القول أصح في الدليل كما ترى .

وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم فقالوا : تؤخذ من كل كافر إلا مشركي العرب . ورابعة فرقت بين قريش وغيرهم وهذا لا معنى له فإن قريشا لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر وإلى المنذر بن ساوى وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية ولم يفرق بين عربي وغيره .



[مقدار الجزية ]
وأما حكمه في قدرها فإنه بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو قيمته معافر وهي ثياب معروفة باليمن . ثم زاد فيها عمر رضي الله عنه فجعلها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعين درهما على أهل الورق في كل سنة فرسول الله صلى الله عليه وسلم علم ضعف أهل اليمن وعمر رضي الله عنه علم غنى أهل الشام وقوتهم .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الهدنة وما ينقضها
[مصالحته أهل مكة ]
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صالح أهل مكة على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ودخل حلفاؤهم من بني بكر معهم وحلفاؤه من خزاعة معه فعدت حلفاء قريش على حلفائه فغدروا بهم فرضيت قريش ولم تنكره فجعلهم بذلك ناقضين للعهد واستباح غزوهم من غير نبذ عهدهم إليهم لأنهم صاروا محاربين له ناقضين لعهده برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على الغدر بحلفائه وألحق ردأهم في ذلك بمباشرهم .

[ مصالحته اليهود ]
وثبت عنه أنه صالح اليهود وعاهدهم لما قدم المدينة فغدروا به ونقضوا عهده مرارا وكل ذلك يحاربهم ويظفر بهم وآخر ما صالح يهود خيبر على أن الأرض له ويقرهم فيها عمالا له ما شاء وكان هذا الحكم منه فيهم حجة على جواز صلح الإمام لعدوه ما شاء من المدة فيكون العقد جائزا له فسخه متى شاء وهذا هو الصواب وهو موجب حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ناسخ له .




فصل [ما كان في صلحه لأهل مكة من دخول بعضهم في عهده صلى الله عليه وسلم]
وكان في صلحه لأهل مكة أن من أحب أن يدخل في عهد محمد ، وعقده دخل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل وأن من جاءهم من عنده لا يردونه إليه ومن جاءه منهم رده إليهم وأنه يدخل العام القابل إلى مكة فيخلونها له ثلاثا ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح وقد تقدم ذكر هذه القصة وفقهها في موضعه .



ذكر أقضيته وأحكامه صلى الله عليه وسلم في النكاح وتوابعه
فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الثيب والبكر يزوجهما أبوهما
[إذن البكر والثيب ]
ثبت عنه في " الصحيحين " : أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها

وفي " السنن " : من حديث ابن عباس : أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم . وهذه غير خنساء فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثيب وقضى في الأخرى بتخيير البكر .

وثبت عنه في " الصحيح " أنه قال لا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا : يا رسول الله وكيف إذنها ؟ قال أن تسكت .

وفي " صحيح مسلم " : البكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها وموجب هذا الحكم أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح ولا تزوج إلا برضاها وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه وهو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته .

[موافقة الإذن لحكمه صلى الله عليه وسلم]

أما موافقته لحكمه فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعلة فيه فإنه قد روي مسندا ومرسلا فإن قلنا بقول الفقهاء إن الاتصال زيادة ومن وصله مقدم على من أرسله فظاهر وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله وإن حكمنا بالإرسال كقول كثير من المحدثين فهذا مرسل قوي قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة والقياس وقواعد الشرع كما سنذكره فيتعين القول به .

[موافقة الإذن لأمره صلى الله عليه وسلم]

وأما موافقة هذا القول لأمره فإن قال " والبكر تستأذن وهذا أمر مؤكد لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوته ولزومه والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب ما لم يقم إجماع على خلافه .

[موافقة الإذن لنهيه صلى الله عليه وسلم]

وأما موافقته لنهيه فلقوله لا تنكح البكر حتى تستأذن فأمر ونهى وحكم بالتخيير وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق .

[موافقة الإذن لقواعد الشرع ]

وأما موافقته لقواعد شرعه فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها فكيف يجوز أن يرقها ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو وهي من أكره الناس فيه أبغض شيء إليها ؟ ومع هذا فينكحها إياه قهرا بغير رضاها إلى من يريده ويجعلها أسيرة عنده كما قال النبي اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أي أسرى ومعلوم أن إخراج مالها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها ولقد أبطل من قال إنها إذا عينت كفئا تحبه وعين أبوها كفئا فالعبرة بتعيينه ولو كان بغيضا إليها قبيح الخلقة .




[ موافقة الإذن لمصالح الأمة ]
وأما موافقته لمصالح الأمة فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه وحصول مقاصد النكاح لها به وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره وبالله التوفيق .

[ الحجة على من استمسك بحديث " الأيم أحق بنفسها من وليها " في إجبار البكر ]

فإن قيل فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرق بين البكر والثيب وقال ولا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن وقال الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها فجعل الأيم أحق بنفسها من وليها فعلم أن ولي البكر أحق بها من نفسها وإلا لم يكن لتخصيص الأيم بذلك معنى .

وأيضا فإنه فرق بينهما في صفة الإذن فجعل إذن الثيب النطق وإذن البكر الصمت وهذا كله يدل على عدم اعتبار رضاها وأنها لا حق لها مع أبيها .

فالجواب أنه ليس في ذلك ما يدل على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها ورشدها وأن يزوجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفئا والأحاديث التي احتججتم بها صريحة في إبطال هذا القول وليس معكم أقوى من قوله الأيم أحق بنفسها من وليها هذا إنما يدل بطريق المفهوم ومنازعوكم ينازعونكم في كونه حجة ولو سلم أنه حجة فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصريح وهذا أيضا إنما يدل إذا قلت : إن للمفهوم عموما والصواب أنه لا عموم له إذ دلالته ترجع إلى أن التخصيص بالمذكور لا بد له من فائدة وهي نفي الحكم عما عداه ومعلوم أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة وأن إثبات حكم آخر للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضد حكم المنطوق وأن تفصيله فائدة كيف وهذا مفهوم مخالف للقياس الصريح بل قياس الأولى كما تقدم ويخالف النصوص المذكورة .

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم والبكر يستأذنها أبوها عقيب قوله الأيم أحق بنفسها من وليها قطعا لتوهم هذا القول وأن البكر تزوج بغير رضاها ولا إذنها فلا حق لها في نفسها البتة فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعا لهذا التوهم . ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون الثيب أحق بنفسها من وليها أن لا يكون للبكر في نفسها حق البتة .

[ مناط الإجبار ]
وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستة أقوال


أحدها : أنه يجبر بالبكارة وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية .

الثاني : أنه يجبر بالصغر وهو قول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية .

الثالث أنه يجبر بهما معا وهو الرواية الثالثة عن أحمد .

الرابع أنه يجبر بأيهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه .

الخامس أنه يجبر بالإيلاد فتجبر الثيب البالغ حكاه القاضي إسماعيل عن الحسن البصري قال وهو خلاف الإجماع . قال وله وجه حسن من الفقه فيا ليت شعري ما هذا الوجه الأسود المظلم ؟

السادس أنه يجبر من يكون في عياله ولا يخفى عليك الراجح من هذه المذاهب .



فصل [ إذن البكر الصمات وإذن الثيب الكلام ]
وقضى صلى الله عليه وسلم بأن إذن البكر الصمات وإذن الثيب الكلام فإن نطقت البكر بالإذن بالكلام فهو آكد وقال ابن حزم : لا يصح أن تزوج إلا بالصمات وهذا هو اللائق بظاهريته .




فصل [ جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ ]
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليتيمة تستأمر فى نفسها ولا يتم بعد احتلام فدل ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وهذا مذهب عائشة رضي الله عنها وعليه يدل القرآن والسنة وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرهما .

قال تعالى ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن [ النساء 127 ] . قالت عائشة رضي الله عنها : هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في نكاحها ولا يقسط لها سنة صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن سنة صداقهن

وفي السنن الأربعة عنه صلى الله عليه وسلم اليتيمة تستأمر في نفسها فإن صمتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في النكاح بلا ولي
في " السنن " عنه من حديث عائشة رضي الله عنها : أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن أصابها فلها مهرها بما أصاب منها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له قال الترمذي حديث حسن . وفي السنن الأربعة عنه لا نكاح إلا بولي

وفيها عنه لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها



فصل [ إذا زوج المرأة الوليان فهي للأول منهما ]
وحكم أن المرأة إذا زوجها الوليان فهي للأول منهما وأن الرجل إذا باع للرجلين فالبيع للأول منهما .




فصل في قضائه في نكاح التفويض
ثبت عنه أنه قضى في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات أن لها مهر مثلها ولا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة أربعة أشهر وعشرا

وفي " سنن أبي داود " عنه أنه قال لرجل أترضى أن أزوجك فلانة ؟ قال نعم وقال للمرأة أترضين أن أزوجك فلانا ؟ قالت نعم فزوج أحدهما صاحبه فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا فلما كان عند موته عوضها من صداقها سهما له بخيبر

وقد تضمنت هذه الأحكام جواز النكاح من غير تسمية صداق وجواز الدخول قبل التسمية واستقرار مهر المثل بالموت وإن لم يدخل بها ووجوب عدة الوفاة بالموت وإن لم يدخل بها الزوج وبهذا أخذ ابن مسعود وفقهاء العراق وعلماء الحديث منهم أحمد والشافعي في أحد قوليه .

وقال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما : لا صداق لها وبه أخذ أهل المدينة ومالك والشافعي في قوله الآخر .

وتضمنت جواز تولي الرجل طرفي العقد كوكيل من الطرفين أو ولي فيهما أو ولي وكله الزوج أو زوج وكله الولي ويكفي أن يقول زوجت فلانا فلانة مقتصرا على ذلك أو تزوجت فلانة إذا كان هو الزوج وهذا ظاهر مذهب أحمد . وعنه رواية ثانية لا يجوز ذلك إلا للولي المجبر كمن زوج أمته أو ابنته المجبرة بعبده المجبر ووجه هذه الرواية أنه لا يعتبر رضى واحد من الطرفين .

وفي مذهبه قول ثالث أنه يجوز ذلك إلا للزوج خاصة فإنه لا يصح منه تولي الطرفين لتضاد أحكام الطرفين فيه .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن تزوج امرأة فوجدها في الحبل
في " السنن " و " المصنف " : عن سعيد بن المسيب عن بصرة بن أكثم قال تزوجت امرأة بكرا في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها الصداق بما استحللت من فرجها والولد عبد لك وإذا ولدت فاجلدوها وفرق بينهما .

وقد تضمن هذا الحكم بطلان نكاح الحامل من زنى وهو قول
أهل المدينة والإمام أحمد وجمهور الفقهاء ووجوب المهر المسمى في النكاح الفاسد وهذا هو الصحيح من الأقوال الثلاثة . والثاني : يجب مهر المثل وهو قول الشافعي رحمه الله . والثالث يجب أقل الأمرين .

وتضمنت وجوب الحد بالحبل وإن لم تقم بينة ولا اعتراف والحبل من أقوى البينات وهذا مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأهل المدينة وأحمد في إحدى الروايتين عنه .

وأما حكمه بكون الولد عبدا للزوج فقد قيل إنه لما كان ولد زنى لا أب له وقد غرته من نفسها وغرم صداقها أخدمه ولدها وجعله له بمنزلة العبد لا أنه أرقه فإنه انعقد حرا تبعا لحرية أمه وهذا محتمل ويحتمل أن يكون أرقه عقوبة لأمه على زناها وتغريرها للزوج ويكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبذلك الولد لا يتعدى الحكم إلى غيره ويحتمل أن يكون هذا منسوخا .

وقد قيل إنه كان في أول الإسلام يسترق الحر في الدين وعليه حمل بيعه صلى الله عليه وسلم ليسترق في دينه . والله أعلم .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الشروط في النكاح
في " الصحيحين " : عنه صلى الله عليه وسلم إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج وفيهما عنه لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها وفيهما : أنه نهى أن تشترط المرأة طلاق أختها

وفي " مسند أحمد " : عنه لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى فتضمن هذا الحكم وجوب الوفاء بالشروط التي شرطت في العقد إذا لم تتضمن تغييرا لحكم الله ورسوله .

وقد اتفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله والضمين والرهن به ونحو ذلك وعلى عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء والإنفاق والخلو عن المهر ونحو ذلك .

واختلف في شرط الإقامة في بلد الزوجة وشرط دار الزوجة وأن لا يتسرى عليها ولا يتزوج عليها فأوجب أحمد وغيره الوفاء به ومتى لم يف به فلها الفسخ عند أحمد .

واختلف في اشتراط البكارة والنسب والجمال والسلامة من العيوب التي لا يفسخ بها النكاح وهل يؤثر عدمها في فسخه ؟ على ثلاثة أقوال . ثالثها : الفسخ عند عدم النسب خاصة .

[ بطلان اشتراط المرأة طلاق أختها ]
وتضمن حكمه صلى الله عليه وسلم بطلان اشتراط المرأة طلاق أختها وأنه لا يجب الوفاء به فإن قيل فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها حتى صححتم هذا وأبطلتم شرط طلاق الضرة ؟ قيل الفرق بينهما أن في اشتراط طلاق الزوجة من الإضرار بها وكسر قلبها وخراب بيتها وشماتة أعدائها ما ليس في اشتراط عدم نكاحها ونكاح غيرها وقد فرق النص بينهما فقياس أحدهما على الآخر فاسد .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في نكاح الشغار والمحلل والمتعة ونكاح المحرم ونكاح الزانية
[ النهي عن نكاح الشغار ]
أما الشغار فصح النهي عنه من حديث ابن عمر وأبي هريرة ومعاوية .

وفي " صحيح مسلم " : عن ابن عمر مرفوعا لا شغار في الإسلام وفي حديث ابن عمر والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق

وفي حديث أبي هريرة والشغار أن يقول الرجل للرجل : زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي أو زوجني أختك وأزوجك أختي وفي حديث معاوية أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته وكانا جعلا صداقا فكتب معاوية رضي الله عنه إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما وقال هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم

فاختلف الفقهاء في ذلك فقال الإمام أحمد : الشغار الباطل أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما على حديث ابن عمر فإن سموا مع ذلك مهرا صح العقد بالمسمى عنده . وقال الخرقي لا يصح ولو سموا مهرا على حديث معاوية .

وقال أبو البركات ابن تيمية وغيره من أصحاب أحمد إن سموا مهرا وقالوا : مع ذلك بضع كل واحدة مهر الأخرى لم يصح وإن لم يقولوا ذلك صح .

[ علة النهي عنه ]

واختلف في علة النهي فقيل هي جعل كل واحد من العقدين شرطا في الآخر وقيل العلة التشريك في البضع وجعل بضع كل واحدة مهرا للأخرى وهي لا تنتفع به فلم يرجع إليها المهر بل عاد المهر إلى الولي وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به وهذا هو الموافق للغة العرب فإنهم يقولون بلد شاغر من أمير ودار شاغرة من أهلها : إذا خلت وشغر الكلب إذا رفع رجله وأخلى مكانها . فإذا سموا مهرا مع ذلك زال المحذور ولم يبق إلا اشتراط كل واحد على الآخر شرطا لا يؤثر في فساد العقد فهذا منصوص أحمد .

وأما من فرق فقال إن قالوا مع التسمية إن بضع كل واحدة مهر للأخرى فسد لأنها لم يرجع إليها مهرها وصار بضعها لغير المستحق وإن لم يقولوا ذلك صح والذي يجيء على أصله أنهم متى عقدوا على ذلك وإن لم يقولوه بألسنتهم أنه لا يصح لأن القصود في العقود معتبرة والمشروط عرفا كالمشروط لفظا فيبطل العقد بشرط ذلك والتواطؤ عليه ونيته فإن سمى لكل واحدة مهر مثلها صح وبهذا تظهر حكمة النهي واتفاق الأحاديث في هذا الباب .




فصل [ نكاح التحليل ]
وأما نكاح المحلل ففي " المسند " والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .

وفي " المسند " : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : لعن الله المحلل والمحلل له وإسناده حسن . وفيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

وفي " سنن ابن ماجه " : من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له فهؤلاء الأربعة من سادات الصحابة رضي الله عنهم وقد شهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعنه أصحاب التحليل وهم المحلل والمحلل له وهذا إما خبر عن الله فهو خبر صدق وإما دعاء فهو دعاء مستجاب قطعا وهذا يفيد أنه من الكبائر الملعون فاعلها ولا فرق عند أهل المدينة وأهل الحديث وفقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ والقصد فإن القصود في العقود عندهم معتبرة والأعمال بالنيات والشرط المتواطأ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ عندهم والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على المعاني فإذ ظهرت المعاني والمقاصد فلا عبرة بالألفاظ لأنها وسائل وقد تحققت غاياتها فترتبت عليها أحكامها .




فصل [ النهي عن نكاح المتعة ]
وأما نكاح المتعة فثبت عنه أنه أحلها عام الفتح وثبت عنه أنه نهى عنها عام الفتح واختلف هل نهى عنها يوم خيبر ؟ على قولين والصحيح أن النهي إنما كان عام الفتح وأن النهي يوم خيبر إنما كان عن الحمر الأهلية وإنما قال علي لابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن متعة النساء ونهى عن الحمر الأهلية محتجا عليه في المسألتين فظن بعض الرواة أن التقييد بيوم خيبر راجع إلى الفصلين فرواه بالمعنى ثم أفرد بعضهم أحد الفصلين وقيده بيوم خيبر وقد تقدم بيان المسألة في غزاة الفتح .

وظاهر كلام ابن مسعود إباحتها فإن في " الصحيحين " : عنه كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا : يا رسول الله ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [ المائدة 87 ] ولكن في " الصحيحين " : عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء

وهذا التحريم إنما كان بعد الإباحة وإلا لزم منه النسخ مرتين ولم يحتج به على علي ابن عباس رضي الله عنهم ولكن النظر هل هو تحريم بتات أو تحريم مثل تحريم الميتة والدم وتحريم نكاح الأمة فيباح عند الضرورة وخوف العنت ؟ هذا هو الذي لحظه ابن عباس وأفتى بحلها للضرورة فلما توسع الناس فيها ولم يقتصروا على موضع الضرورة أمسك عن فتياه ورجع عنها .

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 01:08 AM
فصل نكاح المحرم في حج أو عمرة
وأما نكاح المحرم فثبت عنه في " صحيح مسلم " من رواية عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا ينكح

[هل تزوج ميمونة وهو محرم ]

واختلف عنه صلى الله عليه وسلم هل تزوج ميمونة حلالا أو حراما ؟ فقال ابن عباس : تزوجها محرما وقال أبو رافع تزوجها حلالا وكنت الرسول بينهما .

وقول أبي رافع أرجح لعدة أوجه

أحدها : أنه إذ ذاك كان رجلا بالغا وابن عباس لم يكن حينئذ ممن بلغ الحلم بل كان له نحو العشر سنين فأبو رافع إذ ذاك كان أحفظ منه .

الثاني : أنه كان الرسول بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها وعلى يده دار الحديث فهو أعلم به منه بلا شك وقد أشار بنفسه إلى هذا إشارة متحقق له ومتيقن ولم ينقله عن غيره بل باشره بنفسه .

الثالث أن ابن عباس لم يكن معه في تلك العمرة فإنها كانت عمرة القضية
وكان ابن عباس إذ ذاك من المستضعفين الذين عذرهم الله من الولدان وإنما سمع القصة من غير حضور منه لها .

الرابع أنه صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة بدأ بالطواف بالبيت ثم سعى بين الصفا والمروة وحلق ثم حل . ومن المعلوم أنه لم يتزوج بها في طريقه ولا بدأ بالتزويج بها قبل الطواف بالبيت ولا تزوج في حال طوافه هذا من المعلوم أنه لم يقع فصح قول أبي رافع يقينا .

الخامس أن الصحابة رضي الله عنهم غلطوا ابن عباس ولم يغلطوا أبا رافع .

السادس أن قول أبي رافع موافق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحرم وقول ابن عباس يخالفه وهو مستلزم لأحد أمرين إما لنسخه وإما لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بجواز النكاح محرما وكلا الأمرين مخالف للأصل ليس عليه دليل فلا يقبل .

السابع أن ابن أختها يزيد بن الأصم شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا قال وكانت خالتي وخالة ابن عباس . ذكره مسلم .



فصل [ تحريم نكاح الزانية ]
وأما نكاح الزانية فقد صرح الله سبحانه وتعالى بتحريمه في سورة النور وأخبر أن من نكحها فهو إما زان أو مشرك فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه أولا فإن لم يلتزمه ولم يعتقده فهو مشرك . وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان ثم صرح بتحريمه فقال وحرم ذلك على المؤمنين [ النور 3 ]

ولا يخفى أن دعوى نسخ الآية بقوله وأنكحوا الأيامى منكم [ النور 34 ] من أضعف ما يقال وأضعف منه حمل النكاح على الزنى إذ يصير معنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك وكلام الله ينبغي أن يصان عن مثل هذا .

[ الرد على من حمل معنى الزانية في الآية على بغي مشركة ]

وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان وهو العفة فقال فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ النساء 25 ] فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها وليس هذا من باب دلالة المفهوم فإن الأبضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم .

وأيضا فإنه سبحانه قال الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات [ النور 26 ] والخبيثات الزواني . وهذا يقتضي أن من تزوج بهن فهو خبيث مثلهن . وأيضا . فمن أقبح القبائح أن يكون الرجل زوج بغي وقبح هذا مستقر في فطر الخلق وهو عندهم غاية المسبة .

وأيضا : فإن البغي لا يؤمن أن تفسد على الرجل فراشه وتعلق عليه أولادا من غيره والتحريم يثبت بدون هذا .

وأيضا : فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الرجل وبين المرأة التي وجدها حبلى من الزنى .

وأيضا فإن مرثد بن أبي مرثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عناق وكانت بغيا فقرأ عليه رسول الله آية النور وقال لا تنكحها .





فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن أسلم على أكثر من أربع نسوة أو على أختين
في الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اختر منهن أربعا . وفي طريق أخرى : وفارق سائرهن .

وأسلم فيروز الديلمي وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اختر أيتهما شئت .

فتضمن هذا الحكم صحة نكاح الكفار وأنه له أن يختار من شاء من السوابق واللواحق لأنه جعل الخيرة إليه وهذا قول الجمهور .

وقال أبو حنيفة إن تزوجهن في عقد واحد فسد نكاح الجميع وإن تزوجهن مترتبات ثبت نكاح الأربع وفسد نكاح من بعدهن ولا تخيير .




فصل [ إذا تزوج العبد بغير إذن مواليه فهو عاهر ]
وحكم صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر قال الترمذي حديث حسن .





فصل [ منعه صلى الله عليه وسلم عليا أن يجمع بين فاطمة وبنت أبي جهل ]
واستأذنه بنو هشام بن المغيرة أن يزوجوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنة أبي جهل فلم يأذن في ذلك وقال إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها إني أخاف أن تفتن فاطمة في دينها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا .

وفي لفظ فذكر صهرا له فأثنى عليه وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي .

[ إذا شرط الرجل لزوجته أن لا يتزوج عليها لزمه الوفاء ]
فتضمن هذا الحكم أمورا :

أحدها : أن الرجل إذا شرط لزوجته أن لا يتزوج عليها لزمه الوفاء بالشرط ومتى تزوج عليها فلها الفسخ ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يؤذي فاطمة ويريبها وأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ويريبه ومعلوم قطعا أنه صلى الله عليه وسلم إنما زوجه فاطمة رضي الله عنها على أن لا يؤذيها ولا يريبها ولا يؤذي أباها صلى الله عليه وسلم ولا يريبه وإن لم يكن هذا مشترطا في صلب العقد فإنه من المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه وفي ذكره صلى الله عليه وسلم صهره الآخر وثناءه عليه بأنه حدثه فصدقه ووعده فوفى له تعريض بعلي رضي الله عنه وتهييج له على الاقتداء به وهذا يشعر بأنه جرى منه وعد له بأنه لا يريبها ولا يؤذيها فهيجه على الوفاء له كما وفى له صهره الآخر .



[ المشروط عرفا كالمشروط لفظا ]

فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفا كالمشروط لفظا وأن عدمه يملك الفسخ لمشترطه فلو فرض من عادة قوم أنهم لا يخرجون نساءهم من ديارهم ولا يمكنون أزواجهم من ذلك البتة واستمرت عادتهم بذلك كان كالمشروط لفظا وهو مطرد على قواعد
أهل المدينة وقواعد أحمد رحمه الله أن الشرط العرفي كاللفظي سواء ولهذا أوجبوا الأجرة على من دفع ثوبه إلى غسال أو قصار أو عجينه إلى خباز أو طعامه إلى طباخ يعملون بالأجرة أو دخل الحمام أو استخدم من يغسله ممن عادته يغسل بالأجرة ونحو ذلك ولم يشرط لهم أجرة أنه يلزمه أجرة المثل . وعلى هذا فلو فرض أن المرأة من بيت لا يتزوج الرجل على نسائهم ضرة ولا يمكنونه من ذلك وعادتهم مستمرة بذلك كان كالمشروط لفظا .

وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا تمكن إدخال الضرة عليها عادة لشرفها وحسبها وجلالتها كان ترك التزوج عليها كالمشروط لفظا سواء .

وعلى هذا فسيدة نساء العالمين وابنة سيد ولد آدم أجمعين أحق النساء بهذا فلو شرطه علي في صلب العقد كان تأكيدا لا تأسيسا .

وفي منع علي من الجمع بين فاطمة رضي الله عنها وبين بنت أبي جهل حكمة بديعة وهي أن المرأة مع زوجها في درجته تبع له فإن كانت في نفسها ذات درجة عالية وزوجها كذلك كانت في درجة عالية بنفسها وبزوجها وهذا شأن فاطمة وعلي رضي الله عنهما ولم يكن الله عز وجل ليجعل ابنة أبي جهل مع فاطمة رضي الله عنها في درجة واحدة لا بنفسها ولا تبعا وبينهما من الفرق ما بينهما فلم يكن نكاحها على سيدة نساء العالمين مستحسنا لا شرعا ولا قدرا وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا فهذا إما أن يتناول درجة الآخر بلفظه أو إشارته .




فصل فيما حكم الله سبحانه بتحريمه من النساء على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم
[ تحريم الأمهات ]
حرم الأمهات وهن كل من بينك وبينه إيلاد من جهة الأمومة أو الأبوة كأمهاته وأمهات آبائه وأجداده من جهة الرجال والنساء وإن علون .

[ تحريم البنات ]
وحرم البنات وهن كل من انتسب إليه بإيلاد كبنات صلبه وبنات بناته وأبنائهن وإن سفلن .

[ تحريم الأخوات والعمات ]
وحرم الأخوات من كل جهة وحرم العمات وهن أخوات آبائه وإن علون من كل جهة .

[ التفصيل في عمة العم ]

وأما عمة العم فإن كان العم لأب فهي عمة أبيه وإن كان لأم فعمته أجنبية منه فلا تدخل في العمات وأما عمة الأم فهي داخلة في عماته كما دخلت عمة أبيه في عماته .

[ تحريم الخالات ]
[ التفصيل في خالة العمة وعمة الخالة ]

وحرم الخالات وهن أخوات أمهاته وأمهات آبائه وإن علون وأما خالة العمة فإن كانت العمة لأب فخالتها أجنبية وإن كانت لأم فخالتها حرام لأنها خالة وأما عمة الخالة فإن كانت الخالة لأم فعمتها أجنبية وإن كانت لأب فعمتها حرام لأنها عمة الأم .

[ تحريم بنات الأخ وبنات الأخت ]
وحرم بنات الأخ وبنات الأخت فيعم الأخ والأخت من كل جهة وبناتهما وإن نزلت درجتهن .




[ التفصيل في تحريم الرضاعة ]
وحرم الأم من الرضاعة فيدخل فيه أمهاتها من قبل الآباء والأمهات وإن علون وإذا صارت المرضعة أمه صار صاحب اللبن - وهو الزوج أو السيد إن كانت جارية - أباه وآباؤه أجداده فنبه بالمرضعة صاحبة اللبن التي هي مودع فيها للأب على كونه أبا بطريق الأولى لأن اللبن له وبوطئه ثاب ولهذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم لبن الفحل فثبت بالنص وإيمائه انتشار حرمة الرضاع إلى أم المرتضع وأبيه من الرضاعة وأنه قد صار ابنا لهما وصارا أبوين له فلزم من ذلك أن يكون إخوتهما وأخواتهما خالات له وعمات وأبناؤهما وبناتهما إخوة له وأخوات فنبه بقوله وأخواتكم من الرضاعة [ النساء 22 ] على انتشار حرمة الرضاع إلى إخوتهما وأخواتهما كما انتشرت منهما إلى أولادهما فكما صاروا إخوة وأخوات للمرتضع فأخوالهما وخالاتهما أخوال وخالات له وأعمام وعمات له الأول بطريق النص والآخر بتنبيهه كما أن الانتشار إلى الأم بطريق النص وإلى الأب بطريق تنبيهه .

وهذه طريقة عجيبة مطردة في القرآن لا يقع عليها إلا كل غائص على معانيه ووجوه دلالاته ومن هنا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ولكن الدلالة دلالتان خفية وجلية فجمعهما للأمة ليتم البيان ويزول الالتباس ويقع على الدلالة الجلية الظاهرة من قصر فهمه عن الخفية .

[ تحريم أمهات الزوجات ]
وحرم أمهات النساء فدخل في ذلك أم المرأة وإن علت من نسب أو رضاع دخل بالمرأة أو لم يدخل بها لصدق الاسم على هؤلاء كلهن .

[ تحريم بنات الزوجات ]
وحرم الربائب اللاتي في حجور الأزواج وهن بنات نسائهم المدخول بهن فتناول بذلك بناتهن وبنات بناتهن وبنات أبنائهن فإنهن داخلات في اسم الربائب وقيد التحريم بقيدين أحدهما : كونهن في حجور الأزواج . والثاني : الدخول بأمهاتهن . فإذا لم يوجد الدخول لم يثبت التحريم وسواء حصلت الفرقة بموت أو طلاق هذا مقتضى النص .

وذهب زيد بن ثابت ومن وافقه وأحمد في رواية عنه إلى أن موت الأم في تحريم الربيبة كالدخول بها لأنه يكمل الصداق ويوجب العدة والتوارث فصار كالدخول والجمهور أبوا ذلك وقالوا : الميتة غير مدخول بها فلا تحرم ابنتها والله تعالى قيد التحريم بالدخول وصرح بنفيه عند عدم الدخول .

وأما كونها في حجره فلما كان الغالب ذلك ذكره لا تقييدا للتحريم به بل هو بمنزلة قوله ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [ الإسراء : 31 ] ولما كان من شأن بنت المرأة أن تكون عند أمها فهي في حجر الزوج وقوعا وجوازا فكأنه قال اللاتي من شأنهن أن يكن في حجوركم ففي ذكر هذا فائدة شريفة وهي جواز جعلها في حجره وأنه لا يجب عليه إبعادها عنه وتجنب مؤاكلتها والسفر والخلوة بها فأفاد هذا الوصف عدم الامتناع من ذلك .

ولما خفي هذا على بعض أهل الظاهر شرط في تحريم الربيبة أن تكون في حجر الزوج وقيد تحريمها بالدخول بأمها وأطلق تحريم أم المرأة ولم يقيده بالدخول فقال جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم إن الأم تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم وقالوا : أبهموا ما أبهم الله . وذهبت طائفة إلى أن قوله اللاتي دخلتم بهن وصف لنسائكم الأولى والثانية وأنه لا تحرم الأم إلا بالدخول بالبنت وهذا يرده نظم الكلام وحيلولة المعطوف بين الصفة والموصوف وامتناع جعل الصفة للمضاف إليه دون المضاف إلا عند البيان فإذا قلت : مررت بغلام زيد العاقل فهو صفة للغلام لا لزيد إلا عند زوال اللبس كقولك : مررت بغلام هند الكاتبة ويرده أيضا جعله صفة واحدة لموصوفين مختلفي الحكم والتعلق والعامل وهذا لا يعرف في اللغة التي نزل بها القرآن .

وأيضا فإن الموصوف الذي يلي الصفة أولى بها لجواره والجار أحق بصقبه ما لم تدع ضرورة إلى نقلها عنه أو تخطيها إياه إلى الأبعد .

[ وجه دخول بنت جاريته في التحريم ]

فإن قيل فمن أين أدخلتم ربيبته التي هي بنت جاريته التي دخل بها وليست من نسائه ؟ . قلنا : السرية قد تدخل في جملة نسائه كما دخلت في قوله نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة 223 ] ودخلت في قوله أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ البقرة 187 ] ودخلت في قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء [ النساء 22 ]



[ دخول أم الجارية المدخول بها في التحريم ]
فإن قيل فيلزمكم على هذا إدخالها في قوله وأمهات نسائكم [ النساء 23 ] فتحرم عليه أم جاريته ؟ .

قلنا : نعم وكذلك نقول إذا وطئ أمته حرمت عليه أمها وابنتها .

فإن قيل فأنتم قد قررتم أنه لا يشترط الدخول بالبنت في تحريم أمها فكيف تشترطونه ها هنا ؟ .

قلنا : لتصير من نسائه فإن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد وأما المملوكة فلا تصير من نسائه حتى يطأها فإذا وطئها صارت من نسائه فحرمت عليه أمها وابنتها .

[ وجه عدم دخول الجواري في الظهار والإيلاء ]

فإن قيل فكيف أدخلتم السرية في نسائه في آية التحريم ولم تدخلوها في نسائه في آية الظهار والإيلاء ؟ .

قيل السياق والواقع يأبى ذلك فإن الظهار كان عندهم طلاقا وإنما محله الأزواج لا الإماء فنقله الله سبحانه من الطلاق إلى التحريم الذي تزيله الكفارة ونقل حكمه وأبقى محله وأما الإيلاء فصريح في أن محله الزوجات لقوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [ البقرة 226 - 227 ]




[ تحريم حلائل الأبناء ]
وحرم سبحانه حلائل الأبناء وهن موطوآت الأبناء بنكاح أو ملك يمين فإنها حليلة بمعنى محللة ويدخل في ذلك ابن صلبه وابن ابنه وابن ابنته ويخرج بذلك ابن التبني وهذا التقييد قصد به إخراجه .

[ الاختلاف في حلائل الأبناء من الرضاع ]

وأما حليلة ابنه من الرضاع فإن الأئمة الأربعة ومن قال بقولهم يدخلونها في قوله وحلائل أبنائكم [ النساء 23 ] ولا يخرجونها بقوله الذين من أصلابكم [ النساء 23 ] ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم حرموا من الرضاع ما تحرمون من النسب قالوا : وهذه الحليلة تحرم إذا كانت لابن النسب فتحرم إذا كانت لابن الرضاع . قالوا : والتقييد لإخراج ابن التبني لا غير وحرموا من الرضاع بالصهر نظير ما يحرم بالنسب . ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا : لا تحرم حليلة ابنه من الرضاعة لأنه ليس من صلبه والتقييد كما يخرج حليلة ابن التبني يخرج حليلة ابن الرضاع سواء ولا فرق بينهما . قالوا : وأما قوله صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا في المسألة فإن تحريم حلائل الآباء والأبناء إنما هو بالصهر لا بالنسب والنبي صلى الله عليه وسلم قد قصر تحريم الرضاع على نظيره من النسب لا على شقيقه من الصهر فيجب الاقتصار بالتحريم على مورد النص .

قالوا : والتحريم بالرضاع فرع على تحريم النسب لا على تحريم المصاهرة فتحريم المصاهرة أصل قائم بذاته والله سبحانه لم ينص في كتابه على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب ولم ينبه على التحريم به من جهة الصهر البتة لا بنص ولا إيماء ولا إشارة والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يحرم به ما يحرم من النسب وفي ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم بالصهر ولولا أنه أراد الاقتصار على ذلك لقال " حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب والصهر " .

قالوا : وأيضا فالرضاع مشبه بالنسب ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو الحرمة والمحرمية فقط دون التوارث والإنفاق وسائر أحكام النسب فهو نسب ضعيف فأخذ بحسب ضعفه بعض أحكام النسب ولم يقو على سائر أحكام النسب وهو ألصق به من المصاهرة فكيف يقوى على أخذ أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهة وشقيقة ؟

وأما المصاهرة والرضاع فإنه لا نسب بينهما ولا شبهة نسب ولا بعضية ولا اتصال . قالوا : ولو كان تحريم الصهرية ثابتا لبينه الله ورسوله بيانا شافيا يقيم الحجة ويقطع العذر فمن الله البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم والانقياد فهذا منتهى النظر في هذه المسألة فمن ظفر فيها بحجة فليرشد إليها وليدل عليها فإنا لها منقادون وبها معتصمون والله الموفق للصواب .




فصل [ تحريم نكاح من نكحهن الآباء ]
وحرم سبحانه وتعالى نكاح من نكحهن الآباء وهذا يتناول منكوحاتهم بملك اليمين أو عقد نكاح ويتناول آباء الآباء وآباء الأمهات وإن علون والاستثناء بقوله إلا ما قد سلف من مضمون جملة النهي وهو التحريم المستلزم للتأثيم والعقوبة فاستثنى منه ما سلف قبل إقامة الحجة بالرسول والكتاب .




فصل [ تحريم الجمع بين الأختين والاختلاف في الجمع بين الأختين من ملك اليمين ]
وحرم سبحانه الجمع بين الأختين وهذا يتناول الجمع بينهما في عقد النكاح وملك اليمين كسائر محرمات الآية وهذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم وهو الصواب وتوقفت طائفة في تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم بعموم قوله سبحانه والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ المؤمنون 5 ، 6 ] و [ المعارج 29 30 ] ولهذا قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أحلتهما آية وحرمتهما آية

وقال الإمام أحمد في رواية عنه لا أقول هو حرام ولكن ننهى عنه فمن أصحابه من جعل القول بإباحته رواية عنه . والصحيح أنه لم يبحه ولكن تأدب مع الصحابة أن يطلق لفظ الحرام على أمر توقف فيه عثمان بل قال ننهى عنه . والذين جزموا بتحريمه رجحوا آية التحريم من وجوه .

[ أدلة من رجح تحريم الجمع بين الأختين من ملك اليمين ]

أحدها : أن سائر ما ذكر فيها من المحرمات عام في النكاح وملك اليمين فما بال هذا وحده حتى يخرج منها فإن كانت آية الإباحة مقتضية لحل الجمع بالملك فلتكن مقتضية لحل أم موطوءته بالملك ولموطوءة أبيه وابنه بالملك إذ لا فرق بينهما البتة ولا يعلم بهذا قائل .

الثاني : أن آية الإباحة بملك اليمين مخصوصة قطعا بصور عديدة لا يختلف فيها اثنان كأمه وابنته وأخته وعمته وخالته من الرضاعة بل كأخته وعمته من النسب عند من لا يرى عتقهن بالملك كمالك والشافعي ولم يكن عموم قوله أو ما ملكت أيمانكم معارضا لعموم تحريمهن بالعقد والملك فهذا حكم الأختين سواء .

الثالث أن حل الملك ليس فيه أكثر من بيان جهة الحل وسببه ولا تعرض فيه لشروط الحل ولا لموانعه وآية التحريم فيها بيان موانع الحل من النسب والرضاع والصهر وغيره فلا تعارض بينهما البتة وإلا كان كل موضع ذكر فيه شرط الحل وموانعه معارضا لمقتضى الحل وهذا باطل قطعا بل هو بيان لما سكت عنه دليل الحل من الشروط والموانع .

الرابع أنه لو جاز الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء جاز الجمع بين الأم وابنتها المملوكتين فإن نص التحريم شامل للصورتين شمولا واحدا وأن إباحة المملوكات إن عمت الأختين عمت الأم وابنتها .

الخامس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين ولا ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين والإيمان يمنع منه .




فصل [ تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها ]
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وهذا التحريم مأخوذ من تحريم الجمع بين الأختين لكن بطريق خفي وما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرمه الله ولكن هو مستنبط من دلالة الكتاب .

[ حرص الصحابة على استنباط الأحاديث من القرآن ]

وكان الصحابة رضي الله عنهم أحرص شيء على استنباط أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن ومن ألزم نفسه ذلك وقرع بابه ووجه قلبه إليه واعتنى به بفطرة سليمة وقلب ذكي رأى السنة كلها تفصيلا للقرآن وتبيينا لدلالته وبيانا لمراد الله منه وهذا أعلى مراتب العلم فمن ظفر به فليحمد الله ومن فاته فلا يلومن إلا نفسه وهمته وعجزه .

واستفيد من تحريم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها أن كل امرأتين بينهما قرابة لو كان أحدهما ذكرا حرم على الآخر فإنه يحرم الجمع بينهما ولا يستثنى من هذا صورة واحدة فإن لم يكن بينهما قرابة لم يحرم الجمع بينهما وهل يكره ؟ على قولين وهذا كالجمع بين امرأة رجل وابنته من غيرها .

[ تحريم نكاح امرأة يحرم وطؤها بملك اليمين إلا إماء أهل الكتاب ]
واستفيد من عموم تحريمه سبحانه المحرمات المذكورة أن كل امرأة حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين إلا إماء أهل الكتاب فإن نكاحهن حرام عند الأكثرين ووطؤهن بملك اليمين جائز وسوى أبو حنيفة بينهما فأباح نكاحهن كما يباح وطؤهن بالملك .

والجمهور احتجوا عليه بأن الله سبحانه وتعالى إنما أباح نكاح الإماء بوصف الإيمان . فقال تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم [ النساء 25 ] . وقال تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة 221 ] . خص ذلك بحرائر أهل الكتاب بقي الإماء على قضية التحريم وقد فهم عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة إدخال الكتابيات في هذه الآية فقال لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن المسيح إلهها

وأيضا فالأصل في الأبضاع الحرمة وإنما أبيح نكاح الإماء المؤمنات فمن عداهن على أصل التحريم وليس تحريمهن مستفادا من المفهوم .

واستفيد من سياق الآية ومدلولها أن كل امرأة حرمت حرمت ابنتها إلا العمة والخالة وحليلة الابن وحليلة الأب وأم الزوجة وأن كل الأقارب حرام إلا الأربعة المذكورات في سورة الأحزاب وهن بنات الأعمام والعمات وبنات الأخوال والخالات .



فصل [ الإشكال الوارد في استثناء ملك اليمين من تحريم المتزوجات ]
ومما حرمه النص نكاح المزوجات وهن المحصنات واستثنى من ذلك ملك اليمين فأشكل هذا الاستثناء على كثير من الناس فإن الأمة المزوجة يحرم وطؤها على مالكها فأين محل الاستثناء ؟ .

[ شرح لمعنى الاستثناء المنقطع وضوابطه والرد على من قال بأن الآية من هذا النوع ]

فقالت طائفة هو منقطع أي لكن ما ملكت أيمانكم ورد هذا لفظا ومعنى أما اللفظ فإن الانقطاع إنما يقع حيث يقع التفريغ وبابه غير الإيجاب من النفي والنهي والاستفهام فليس الموضع موضع انقطاع وأما المعنى : فإن المنقطع لا بد فيه من رابط بينه وبين المستثنى منه بحيث يخرج ما توهم دخوله فيه بوجه ما فإنك إذا قلت : ما بالدار من أحد دل على انتفاء من بها بدوابهم وأمتعتهم فإذا قلت : إلا حمارا أو إلا الأثافي ونحو ذلك أزلت توهم دخول المستثنى في حكم المستثنى منه . وأبين من هذا قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ مريم : 62 ] فاستثناء السلام أزال توهم نفي السماع العام فإن عدم سماع اللغو يجوز أن يكون لعدم سماع كلام ما وأن يكون مع سماع غيره وليس في تحريم نكاح المزوجة ما يوهم تحريم وطء الإماء بملك اليمين حتى يخرجه .

[ من قال بأن ملك الرجل الأمة المزوجة طلاق لها ]

وقالت طائفة بل الاستثناء على بابه ومتى ملك الرجل الأمة المزوجة كان ملكه طلاقا لها وحل له وطؤها وهي مسألة بيع الأمة هل يكون طلاقا لها أم لا ؟ فيه مذهبان للصحابة فابن عباس رضي الله عنه يراه طلاقا ويحتج له بالآية وغيره يأبى ذلك ويقول كما يجامع الملك السابق للنكاح اللاحق اتفاقا ولا يتنافيان كذلك الملك اللاحق لا ينافي النكاح السابق قالوا : وقد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة لما بيعت ولو انفسخ نكاحها لم يخيرها . قالوا : وهذا حجة على ابن عباس رضي الله عنه فإنه هو راوي الحديث والأخذ برواية الصحابي لا برأيه .




[ من قال إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح ]

وقالت طائفة ثالثة إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح لأنها لم تملك الاستمتاع ببضع الزوجة وإن كان رجلا انفسخ لأنه يملك الاستمتاع به وملك اليمين أقوى من ملك النكاح وهذا الملك يبطل النكاح دون العكس قالوا : وعلى هذا فلا إشكال في حديث بريرة .

وأجاب الأولون عن هذا بأن المرأة وإن لم تملك الاستمتاع ببضع أمتها فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها وذلك كملك الرجل وإن لم تستمتع بالبضع .

وقالت فرقة أخرى : الآية خاصة بالمسبيات فإن المسبية إذا سبيت حل وطؤها لسابيها بعد الاستبراء وإن كانت مزوجة وهذا قول الشافعي وأحد الوجهين لأصحاب أحمد وهو الصحيح كما روى مسلم في " صحيحه " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقي عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا سبايا وكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجل في ذلك والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء 24 ] أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن .

فتضمن هذا الحكم إباحة وطء المسبية وإن كان لها زوج من الكفار وهذا يدل على انفساخ نكاحه وزوال عصمة بضع امرأته وهذا هو الصواب لأنه قد استولى على محل حقه وعلى رقبة زوجته وصار سابيها أحق بها منه فكيف يحرم بضعها عليه فهذا القول لا يعارضه نص ولا قياس .

[ الرد على من قال بأن وطأها إنما يباح إذا سبيت وحدها ]

والذين قالوا من أصحاب أحمد وغيرهم إن وطأها إنما يباح إذا سبيت وحدها . قالوا : لأن الزوج يكون بقاؤه مجهولا والمجهول كالمعدوم فيجوز وطؤها بعد الاستبراء فإذا كان الزوج معها لم يجز وطؤها مع بقائه فأورد عليهم ما لو سبيت وحدها وتيقنا بقاء زوجها في دار الحرب فإنهم يجوزون وطأها فأجابوا بما لا يجدي شيئا وقالوا : الأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب فيقال لهم الأعم الأغلب بقاء أزواج المسبيات إذا سبين منفردات وموتهم كلهم نادر جدا ثم يقال . إذا صارت رقبة زوجها وأملاكه ملكا للسابي وزالت العصمة عن سائر أملاكه وعن رقبته فما الموجب لثبوت العصمة في فرج امرأته خاصة وقد صارت هي وهو وأملاكهما للسابي ؟ .




[ جواز وطء الوثنيات بملك اليمين ]
ودل هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين فإن سبايا أوطاس لم يكن كتابيات ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم في وطئهن إسلامهن ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهد بالإسلام حتى خفي عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا وكانوا عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهم عن الإسلام جارية واحدة مما يعلم أنه في غاية البعد فإنهن لم يكرهن على الإسلام ولم يكن لهن من البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضي مبادرتهن إليه جميعا فمقتضى السنة وعمل الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن وهذا مذهب طاووس وغيره وقواه صاحب " المغني " فيه ورجح أدلته وبالله التوفيق .

ومما يدل على عدم اشتراط إسلامهن ما روى الترمذي في " جامعه " عن عرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن فجعل للتحريم غاية واحدة وهي وضع الحمل ولو كان متوقفا على الإسلام لكان بيانه أهم من بيان الاستبراء .

وفي " السنن " و " المسند " عنه لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها ولم يقل حتى تسلم ولأحمد من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن شيئا من السبايا حتى تحيض ولم يقل وتسلم .

وفي " السنن " عنه أنه قال في سبايا أوطاس : لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة ولم يقل وتسلم فلم يجئ عنه اشتراط إسلام المسبية في موضع واحد البتة .


افتراضي

فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر
قال ابن عباس رضي الله عنهما : رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا رواه أحمد وأبو داود والترمذي . وفي لفظ بعد ست سنين ولم يحدث نكاحا قال الترمذي ليس بإسناده بأس وفي لفظ وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين ولم يحدث شهادة ولا صداقا

وقال ابن عباس رضي الله عنهما أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها على زوجها الأول رواه أبو داود .

وقال أيضا : إن رجلا جاء مسلما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة بعده فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها أسلمت معي فردها عليه قال الترمذي حديث صحيح .

وقال مالك إن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يوم الفتح بمكة وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن فدعته إلى الإسلام فأسلم فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء حتى بايعه فثبتا على نكاحهما ذلك قال ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبينه إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها ذكره مالك رحمه الله في " الموطأ " فتضمن هذا الحكم أن الزوجين إذا أسلما معا فهما على نكاحهما ولا يسأل عن كيفية وقوعه قبل الإسلام هل وقع صحيحا أم لا ؟ ما لم يكن المبطل قائما كما إذا أسلما وقد نكحها وهي في عدة من غيره أو تحريما مجمعا عليه أو مؤبدا كما إذا كانت محرما له بنسب أو رضاع أو كانت مما لا يجوز له الجمع بينها وبين من معه كالأختين والخمس وما فوقهن فهذه ثلاث صور أحكامها مختلفة .

فإذا أسلما وبينها وبينه محرمية من نسب أو رضاع أو صهر أو كانت أخت الزوجة أو عمتها أو خالتها أو من يحرم الجمع بينها وبينها فرق بينهما بإجماع الأمة لكن إن كان التحريم لأجل الجمع خير بين إمساك أيتهما شاء وإن كانت بنته من زنى فرق بينهما أيضا عند الجمهور وإن كان يعتقد ثبوت النسب بالزنى فرق بينهما اتفاقا وإن أسلم أحدهما وهي في عدة من مسلم متقدمة على عقده فرق بينهما اتفاقا وإن كانت العدة من كافر فإن اعتبرنا دوام المفسد أو الإجماع عليه لم يفرق بينهما لأن عدة الكافر لا تدوم ولا تمنع النكاح عند من يبطل أنكحة الكفار ويجعل حكمها حكم الزنى .

وإن أسلم أحدهما وهي حبلى من زنى قبل العقد فقولان مبنيان على اعتبار قيام المفسد أو كونه مجمعا عليه .

وإن أسلما وقد عقداه بلا ولي أو بلا شهود أو في عدة وقد انقضت أو على أخت وقد ماتت أو على خامسة كذلك أقرا عليه وكذلك إن قهر حربي حربية واعتقداه نكاحا ثم أسلما أقرا عليه .




[إذا أسلم أحد الزوجين قبل الآخر لم ينفسخ النكاح بإسلامه ]
وتضمن أن أحد الزوجين إذا أسلم قبل الآخر لم ينفسخ النكاح بإسلامه فرقت الهجرة بينهما أو لم تفرق فإنه لا يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدد نكاح زوجين سبق أحدهما الآخر بإسلامه قط ولم يزل الصحابة يسلم الرجل قبل امرأته وامرأته قبله ولم يعرف عن أحد منهم البتة أنه تلفظ بإسلامه هو وامرأته وتساوقا فيه حرفا بحرف هذا مما يعلم أنه لم يقع البتة وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته
زينب على أبي العاص بن الربيع وهو إنما أسلم زمن الحديبية وهي أسلمت من أول البعثة فبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة .

وأما قوله في الحديث كان بين إسلامها وإسلامه ست سنين فوهم إنما أراد بين هجرتها وإسلامه .

فإن قيل وعلى ذلك فالعدة تنقضي في هذه المدة فكيف لم يجدد نكاحها ؟ قيل تحريم المسلمات على المشركين إنما نزل بعد صلح الحديبية لا قبل ذلك فلم ينفسخ النكاح في تلك المدة لعدم شرعية هذا الحكم فيها ولما نزل تحريمهن على المشركين أسلم أبو العاصي فردت عليه .

[لا دليل لمن قال بمراعاة زمن العدة ]

وأما مراعاة زمن العدة فلا دليل عليه من نص ولا إجماع . وقد ذكر حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما : هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها .

ذكر سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف عن الشعبي عن علي هو أحق بها ما لم يخرج من مصرها .

وذكر ابن أبي شيبة عن معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما إلا أن يفرق بينهما سلطان .

ولا يعرف اعتبار العدة في شيء من الأحاديث ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا ولا ريب أن الإسلام لو كان بمجرده فرقة لم تكن فرقة رجعية بل بائنة فلا أثر للعدة في بقاء النكاح وإنما أثرها في منع نكاحها للغير فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة ولكن الذي دل عليه حكمه صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وإن انقضت عدتها فلها أن تنكح من شاءت وإن أحبت انتظرته فإن أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى تجديد النكاح .

ولا نعلم أحدا جدد للإسلام نكاحه البتة بل كان الواقع أحد أمرين إما افتراقهما ونكاحها غيره وإما بقاؤها عليه وإن تأخر إسلامها أو إسلامه وإما تنجيز الفرقة أو مراعاة العدة فلا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم في عهده من الرجال وأزواجهن وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبعده منه ولولا إقراره صلى الله عليه وسلم الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلام أحدهما عن الآخر بعد صلح الحديبية وزمن الفتح لقلنا بتعجيل الفرقة بالإسلام من غير اعتبار عدة لقوله تعالى : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وقوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ الممتحنة 10 ] وأن الإسلام سبب الفرقة وكل ما كان سببا للفرقة تعقبه الفرقة كالرضاع والخلع والطلاق وهذا اختيار الخلال وأبي بكر صاحبه وابن المنذر وابن حزم وهو مذهب الحسن وطاووس وعكرمة وقتادة والحكم .

قال ابن حزم وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجابر بن عبد الله وابن عباس وبه قال حماد بن زيد والحكم بن عتيبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعدي بن عدي الكندي والشعبي وغيرهم . قلت : وهو أحد الروايتين عن أحمد ولكن الذي أنزل عليه قوله تعالى :ولا تمسكوا بعصم الكوافر وقولهلا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن لم يحكم بتعجيل الفرقة فروى مالك في " موطئه " عن ابن شهاب قال كان بين إسلام صفوان بن أمية وبين إسلام امرأته بنت الوليد بن المغيرة نحو من شهر أسلمت يوم الفتح وبقي صفوان حتى شهد حنينا والطائف وهو كافر ثم أسلم ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح . وقال ابن عبد البر وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده .
وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعدي بن عدي الكندي والشعبي وغيرهم . قلت : وهو أحد الروايتين عن أحمد ولكن الذي أنزل عليه قوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر وقوله لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن لم يحكم بتعجيل الفرقة فروى مالك في " موطئه " عن ابن شهاب قال كان بين إسلام صفوان بن أمية وبين إسلام امرأته بنت الوليد بن المغيرة نحو من شهر أسلمت يوم الفتح وبقي صفوان حتى شهد حنينا والطائف وهو كافر ثم أسلم ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح . وقال ابن عبد البر : وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده .

وقال ابن شهاب : أسلمت أم حكيم يوم الفتح وهرب زوجها عكرمة حتى أتى اليمن فدعته إلى الإسلام فأسلم وقدم فبايع النبي صلى الله عليه وسلم فبقيا على نكاحهما .

ومن المعلوم يقينا أن أبا سفيان بن حرب خرج فأسلم عام الفتح قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة ولم تسلم هند امرأته حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فبقيا على نكاحهما وأسلم حكيم بن حزام قبل امرأته وخرج أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية عام الفتح فلقيا النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء فأسلما قبل منكوحتيهما فبقيا على نكاحهما ولم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته .




[ بطلان من أجاب بتجديد نكاح من أسلم ]
وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم في غاية البطلان ومن القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا علم واتفاق الزوجين في التلفظ بكلمة الإسلام معا في لحظة واحدة معلوم الانتفاء .

[الرد على من يقف الفرقة على انقضاء العدة ]

ويلي هذا القول مذهب من يقف الفرقة على انقضاء العدة مع ما فيه إذ فيه آثار وإن كانت منقطعة ولو صحت لم يجز القول بغيرها . قال ابن شبرمة كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبل الرجل فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته وإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما وقد تقدم قول الترمذي في أول الفصل وما حكاه ابن حزم عن عمر رضي الله عنه فما أدري من أين حكاه ؟ والمعروف عنه خلافه فإنه ثبت عنه من طريق حماد بن سلمة عن أيوب وقتادة كلاهما عن ابن سيرين عن عبد الله بن يزيد الخطمي أن نصرانيا أسلمت امرأته فخيرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت عليه . ومعلوم بالضرورة أنه إنما خيرها بين انتظاره إلى أن يسلم فتكون زوجته كما هي أو تفارقه وكذلك صح عنه أن نصرانيا أسلمت امرأته فقال عمر رضي الله عنه إن أسلم فهي امرأته وإن لم يسلم فرق بينهما فلم يسلم ففرق بينهما

وكذلك قال لعبادة بن النعمان التغلبي وقد أسلمت امرأته إما أن تسلم وإلا نزعتها منك فأبى فنزعها منه . فهذه الآثار صريحة في خلاف ما حكاه أبو محمد ابن حزم عنه وهو حكاها وجعلها روايات أخر وإنما تمسك أبو محمد بآثار فيها أن عمر وابن عباس وجابرا فرقوا بين الرجل وبين امرأته بالإسلام وهي آثار مجملة ليست بصريحة في تعجيل التفرقة ولو صحت فقد صح عن عمر ما حكيناه وعن علي ما تقدم وبالله التوفيق .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في العزل
ثبت في " الصحيحين " : عن أبي سعيد قال أصبنا سبيا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " وإنكم لتفعلون ؟ " قالها ثلاثا . " ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة

وفي السنن عنه أن رجلا قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال " كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه

وفي " الصحيحين " : عن جابر قال كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل

وفي " صحيح مسلم " عنه كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا

وفي " صحيح مسلم " أيضا : عنه قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن عندي جارية وأنا أعزل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ذلك لا يمنع شيئا أراده الله " قال فجاء الرجل فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا عبد الله ورسوله

وفي " صحيح مسلم " أيضا : عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم تفعل ذلك ؟ " فقال الرجل أشفق على ولدها أو قال على أولادها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كان ضارا ضر فارس والروم

وفي " مسند أحمد " و " سنن ابن ماجه " من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها

وقال أبو داود : سمعت أبا عبد الله ذكر حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن المحرر بن أبي هريرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها فقال ما أنكره .

فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنهم . قال ابن حزم : وجاءت الإباحة للعزل صحيحة عن جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم وهذا هو الصحيح .




[من قال بتحريمه من جوزه بإذن الحرة ]

وحرمه جماعة منهم أبو محمد ابن حزم وغيره .

وفرقت طائفة بين أن تأذن له الحرة فيباح أو لا تأذن فيحرم وإن كانت زوجته أمة أبيح بإذن سيدها ولم يبح بدون إذنه وهذا منصوص أحمد ومن أصحابه من قال لا يباح بحال ومنهم من قال يباح بكل حال . ومنهم من قال يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة ولا يباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة .

[ما احتج به المبيحون ]

[رد المحرمين على المبيحين ]

فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث وبأن حق المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال ومن حرمه مطلقا احتج بما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث عائشة رضي الله عنها عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة قال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أناس فسألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذلك الوأد الخفي " وهي وإذا الموءودة سئلت قالوا : وهذا ناسخ لأخبار الإباحة فإنه ناقل عن الأصل وأحاديث الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية . قالوا : وقول جابر رضي الله عنه كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيئا ينهى عنه لنهى عنه القرآن

فيقال قد نهى عنه من أنزل عليه القرآن بقوله إنه الموءودة الصغرى والوأد كله حرام . قالوا : وقد فهم الحسن البصري النهي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم فإنما هو القدر قال ابن عون : فحدثت به الحسن فقال والله لكأن هذا زجر . قالوا : ولأن فيه قطع النسل المطلوب من النكاح وسوء العشرة وقطع اللذة عند استدعاء الطبيعة لها .

قالوا : ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه لا يعزل وقال لو علمت أن أحدا من ولدي يعزل لنكلته وكان علي يكره العزل ذكره شعبة عن عاصم عن زر عنه . وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في العزل هو الموءودة الصغرى . وصح عن أبي أمامة أنه سئل عنه فقال ما كنت أرى مسلما يفعله وقال نافع عن ابن عمر ضرب عمر على العزل بعض بنيه

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال كان عمر وعثمان ينهيان عن العزل






يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 01:20 AM
[التوفيق بين الأحاديث المظنون بها التعارض ]

وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها أما حديث جدامة بنت وهب فإنه وإن كان رواه مسلم فإن الأحاديث الكثيرة على خلافه وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه أن رفاعة حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال " كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه

وحسبك بهذا الإسناد صحة فكلهم ثقات حفاظ وقد أعله بعضهم بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير فقيل عنه عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله ومن هذه الطريق أخرجه الترمذي والنسائي .

وقيل فيه عن أبي مطيع بن رفاعة وقيل عن أبي رفاعة وقيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهذا لا يقدح في الحديث فإنه قد يكون عند يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر وعنده عن ابن ثوبان عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبي سعيد . ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة هل هو أبو رافع أو ابن رفاعة أو أبو مطيع ؟ وهذا لا يضر مع العلم بحال رفاعة .

ولا ريب أن أحاديث جابر صريحة صحيحة في جواز العزل وقد قال الشافعي رحمه الله ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رخصوا في ذلك ولم يروا به بأسا . قال البيهقي : وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي وأهل الكوفة وجمهور أهل العلم .

[قول من حمله على التنزيه ورد بعضهم عليه ]

وقد أجيب عن حديث جدامة بأنه على طريق التنزيه وضعفته طائفة وقالوا : كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كذب اليهود في ذلك ثم يخبر به كخبرهم ؟ هذا من المحال البين وردت عليه طائفة أخرى وقالوا : حديث تكذيبهم فيه اضطراب وحديث جدامة في " الصحيح " .

[من جعل التكذيب لمنع الحمل]

وجمعت طائفة أخرى بين الحديثين وقالت إن اليهود كانت تقول إن العزل لا يكون معه حمل أصلا فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لو أراد الله أن يخلقه لما استطعت أن تصرفه وقوله إنه الوأد الخفي " فإنه وإن لم يمنع الحمل بالكلية كترك الوطء فهو مؤثر في تقليله .




[من قال بأن حديث التحريم ناسخ والرد عليه ]

وقالت طائفة أخرى : الحديثان صحيحان ولكن حديث التحريم ناسخ وهذه طريقة أبي محمد ابن حزم وغيره . قالوا : لأنه ناقل عن الأصل والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقق يبين تأخر أحد الحديثين عن الآخر وأنى لهم به وقد اتفق عمر وعلي رضي الله عنهما على أنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال جلس إلى عمر علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذاكروا العزل فقالوا : لا بأس به فقال رجل إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى فقال علي رضي الله عنه لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع حتى تكون من سلالة من طين ثم تكون نطفة ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم تكون عظاما ثم تكون لحما ثم تكون خلقا آخر فقال عمر رضي الله عنه صدقت أطال الله بقاءك وبهذا احتج من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء .

[ ذكر من جوزه بإذن الحرة ]

وأما من جوزه بإذن الحرة فقال للمرأة حق في الولد كما للرجل حق فيه ولهذا كانت أحق بحضانته قالوا : ولم يعتبر إذن السرية فيه لأنها لا حق لها في القسم ولهذا لا تطالبه بالفيئة . ولو كان لها حق في الوطء لطولب المؤلي منها بالفيئة .

قالوا : وأما زوجته الرقيقة فله أن يعزل عنها بغير إذنها صيانة لولده عن الرق ولكن يعتبر إذن سيدها لأن له حقا في الولد فاعتبر إذنه في العزل كالحرة ولأن بدل البضع يحصل للسيد كما يحصل للحرة فكان إذنه في العزل كإذن الحرة .

قال أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب في الأمة إذا نكحها : يستأذن أهلها يعني في العزل لأنهم يريدون الولد والمرأة لها حق تريد الولد وملك يمينه لا يستأذنها .

وقال في رواية صالح وابن منصور وحنبل وأبي الحارث والفضل ابن زياد والمروذي : يعزل عن الحرة بإذنها والأمة بغير إذنها يعني أمته وقال في رواية ابن هانئ إذا عزل عنها لزمه الولد قد يكون الولد مع العزل . وقد قال بعض من قال ما لي ولد إلا من العزل . وقال في رواية المروذي : في العزل عن أم الولد إن شاء فإن قالت لا يحل لك ؟ ليس لها ذلك .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الغيل وهو وطء المرضعة
ثبت عنه في " صحيح مسلم " : أنه قال لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم

وفي " سنن أبي داود " عنه من حديث أسماء بنت يزيد : لا تقتلوا أولادكم سرا فوالذي نفسي بيده إنه ليدرك الفارس فيدعثره

قال قلت : ما يعني ؟ قالت الغيلة يأتي الرجل امرأته وهي ترضع .

قلت : أما الحديث الأول فهو حديث جدامة بنت وهب وقد تضمن أمرين لكل منهما معارض فصدره هو الذي تقدم لقد هممت أن أنهى عن الغيلة وقد عارضه حديث أسماء وعجزه ثم سألوه عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي وقد عارضه حديث أبي سعيد كذبت يهود وقد يقال إن قوله لا تقتلوا أولادكم سرا نهي أن يتسبب إلى ذلك فإنه شبه الغيل بقتل الولد وليس بقتل حقيقة وإلا كان من الكبائر وكان قرين الإشراك بالله ولا ريب أن وطء المراضع مما تعم به البلوى ويتعذر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع ولو كان وطؤهن حراما لكان معلوما من الدين وكان بيانه من أهم الأمور ولم تهمله الأمة وخير القرون ولا يصرح أحد منهم بتحريمه فعلم أن حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد وأن لا يعرضه لفساد اللبن بالحمل الطارئ عليه ولهذا كان عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم غير أمهاتهم والمنع منه غايته أن يكون من باب سد الذرائع التي قد تفضي إلى الإضرار بالولد وقاعدة باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة قدمت عليه كما تقدم بيانه مرارا والله أعلم .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في قسم الابتداء والدوام بين الزوجات
ثبت في " الصحيحين " : عن أنس رضي الله عنه أنه قال من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم . قال أبو قلابة : ولو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وهذا الذي قاله أبو قلابة قد جاء مصرحا به عن أنس كما رواه البزار في " مسنده " من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للبكر سبعا وللثيب ثلاثا

وروى الثوري عن أيوب وخالد الحذاء كلاهما عن أبي قلابة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا

وفي " صحيح مسلم " : عن أم سلمة رضي الله عنها لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها أقام عندها ثلاثا ثم قال " إنه ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي وله في لفظ " لما أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال إن شئت زدتك وحاسبتك به للبكر سبع وللثيب ثلاث

وفي " السنن " : عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب .

وفي " الصحيحين " : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه

وفي " الصحيحين أن سودة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة

وفي " السنن " : عن عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها .

وفي " صحيح مسلم " : إنهن كن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها .

وفي " الصحيحين " : عن عائشة رضي الله عنها في قوله وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا أنزلت في المرأة تكون عند الرجل فتطول صحبتها فيريد طلاقها فتقول لا تطلقني وأمسكني وأنت في حل من النفقة علي والقسم لي فذلك قوله فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير

وقضى خليفته الراشد وابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين . وقضاء خلفائه وإن لم يكن مساويا لقضائه فهو كقضائه في وجوبه على الأمة وقد احتج الإمام أحمد بهذا القضاء عن علي رضي الله عنه وقد ضعفه أبو محمد ابن حزم بالمنهال بن عمرو وبابن أبي ليلى ولم يصنع شيئا فإنهما ثقتان حافظان جليلان ولم يزل الناس يحتجون بابن أبي ليلى على شيء ما في حفظه يتقى منه ما خالف فيه الأثبات وما تفرد به عن الناس وإلا فهو غير مدفوع عن الأمانة والصدق فتضمن هذا القضاء أمورا .



[ وجوب قسم الابتداء ]
منها وجوب قسم الابتداء وهو أنه إذا تزوج بكرا على ثيب أقام عندها سبعا ثم سوى بينهما وإن كانت ثيبا خيرها بين أن يقيم عندها سبعا ثم يقضيها للبواقي وبين أن يقيم عندها ثلاثا ولا يحاسبها هذا قول الجمهور وخالف فيه إمام أهل الرأي وإمام أهل الظاهر وقالوا : لا حق للجديدة غير ما تستحقه التي عنده فيجب عليه التسوية بينهما .

[إذا اختارت الثيب السبع قضاهن للبواقي ]

ومنها . أن الثيب إذا اختارت السبع قضاهن للبواقي واحتسب عليها بالثلاث ولو اختارت الثلاث لم يحتسب عليها بها وعلى هذا من سومح بثلاث دون ما فوقها ففعل أكثر منها دخلت الثلاث في الذي لم يسامح به بحيث لو ترتب عليه إثم أثم على الجميع وهذا كما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثا . فلو أقام أبدا ذم على الإقامة كلها .

[ لا تجب التسوية بين النساء في المحبة والاختلاف في الوطء ]

ومنها : أنه لا تجب التسوية بين النساء في المحبة فإنها لا تملك وكانت عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه . وأخذ من هذا أنه لا تجب التسوية بينهن في الوطء لأنه موقوف على المحبة والميل وهي بيد مقلب القلوب .

وفي هذا تفصيل وهو أنه إن تركه لعدم الداعي إليه وعدم الانتشار فهو معذور وإن تركه مع الداعي إليه ولكن داعيه إلى الضرة أقوى فهذا مما يدخل تحت قدرته وملكه فإن أدى الواجب عليه منه لم يبق لها حق ولم يلزمه التسوية وإن ترك الواجب منه فلها المطالبة به .




الإقراع بين نسائه في السفر وأنه لا يقضي للبواقي إذا قدم ]
ومنها : إذا أراد السفر لم يجز له أن يسافر بإحداهن إلا بقرعة .

ومنها : أنه لا يقضي للبواقي إذا قدم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي للبواقي .

وفي هذا ثلاثة مذاهب .

أحدها : أنه لا يقضي سواء أقرع أو لم يقرع وبه قال أبو حنيفة ومالك .

والثاني : أنه يقضي للبواقي أقرع أو لم يقرع وهذا مذهب أهل الظاهر .

والثالث أنه إن أقرع لم يقض وإن لم يقرع قضى وهذا قول أحمد والشافعي .

[للمرأة أن تهب ليلتها لضرتها ]

ومنها : أن للمرأة أن تهب ليلتها لضرتها فلا يجوز له جعلها لغير الموهوبة وإن وهبتها للزوج فله جعلها لمن شاء منهن والفرق بينهما أن الليلة حق للمرأة فإذا أسقطتها وجعلتها لضرتها تعينت لها وإذا جعلتها للزوج جعلها لمن شاء من نسائه فإذا اتفق أن تكون ليلة الواهبة تلي ليلة الموهوبة قسم لها ليلتين متواليتين وإن كانت لا تليها فهل له نقلها إلى مجاورتها فيجعل الليلتين متجاورتين ؟ على قولين للفقهاء وهما في مذهب أحمد والشافعي .

ومنها : أن الرجل له أن يدخل على نسائه كلهن في يوم إحداهن ولكن لا يطؤها في غير نوبتها .

ومنها : أن لنسائه كلهن أن يجتمعن في بيت صاحبة النوبة يتحدثن إلى أن يجيء وقت النوم فتؤوب كل واحدة إلى منزلها .

إن رضيت الزوجة بالإقامة عند الزوج ولا حق لها في القسم والوطء والنفقة
فليس لها المطالبة بعد ذلك ]
ومنها : أن الرجل إذا قضى وطرا من امرأته وكرهتها نفسه أو عجز عن حقوقها فله أن يطلقها وله أن يخيرها إن شاءت أقامت عنده ولا حق لها في القسم والوطء والنفقة أو في بعض ذلك بحسب ما يصطلحان عليه فإذا رضيت بذلك لزم وليس لها المطالبة به بعد الرضى .

هذا موجب السنة ومقتضاها وهو الصواب الذي لا يسوغ غيره وقول من قال إن حقها يتجدد فلها الرجوع في ذلك متى شاءت فاسد فإن هذا خرج مخرج المعاوضة وقد سماه الله تعالى صلحا فيلزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والأموال ولو مكنت من طلب حقها بعد ذلك لكان فيه تأخير الضرر إلى أكمل حالتيه ولم يكن صلحا بل كان من أقرب أسباب المعاداة والشريعة منزهة عن ذلك ومن علامات المنافق أنه إذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر والقضاء النبوي يرد هذا .

[الأمة المزوجة على النصف من الحرة ]

ومنها : أن الأمة المزوجة على النصف من الحرة كما قضى به أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ولا يعرف له في الصحابة مخالف وهو قول جمهور الفقهاء إلا رواية عن مالك أنهما سواء وبها قال أهل الظاهر وقول الجمهور هو الذي يقتضيه العدل فإن الله سبحانه لم يسو بين الحرة والأمة لا في الطلاق ولا في العدة ولا في الحد ولا في الملك ولا في الميراث ولا في الحج ولا في مدة الكون عند الزوج ليلا ونهارا ولا في أصل النكاح بل جعل نكاحها بمنزلة الضرورة ولا في عدد المنكوحات فإن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين هذا قول الجمهور وروى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يتزوج العبد ثنتين ويطلق ثنتين وتعتد امرأته حيضتين واحتج به أحمد ورواه أبو بكر عبد العزيز عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يحل للعبد من النساء إلا ثنتان .

وروى الإمام أحمد بإسناده عن محمد بن سيرين قال سأل عمر رضي الله عنه الناس كم يتزوج العبد ؟ فقال عبد الرحمن ثنتين وطلاقه ثنتين . فهذا عمر وعلي وعبد الرحمن رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة مع انتشار هذا القول وظهوره وموافقته للقياس .



فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم في تحريم وطء المرأة الحبلى من غير الواطئ
ثبت في " صحيح مسلم " : من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بامرأة مجح على باب فسطاط فقال " لعله يريد أن يلم بها " . فقالوا : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له

[الاختلاف في نكاح الحامل من زنى]

قال أبو محمد ابن حزم : لا يصح في تحريم وطء الحامل خبر غير هذا . انتهى وقد روى أهل " السنن " من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس : " لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة

وفي الترمذي وغيره من حديث رويفع بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره قال الترمذي : حديث حسن . ..

وفيه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن

وقوله صلى الله عليه وسلم كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له كان شيخنا يقول في معناه كيف يجعله عبدا موروثا عنه ويستخدمه استخدام العبيد وهو ولده لأن وطأه زاد في خلقه ؟ قال الإمام أحمد : الوطء يزيد في سمعه وبصره . قال فيمن اشترى جارية حاملا من غيره فوطئها قبل وضعها فإن الولد لا يلحق بالمشتري ولا يتبعه لكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد وقد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال " لعله يريد أن يلم بها وذكر الحديث . يعني : أنه إن استلحقه وشركه في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده وإن أخذه مملوكا يستخدمه لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيد في الولد .

وفي هذا دلالة ظاهرة على تحريم نكاح الحامل سواء كان حملها من زوج أو سيد أو شبهة أو زنى وهذا لا خلاف فيه إلا فيما إذا كان الحمل من زنى ففي صحة العقد قولان أحدهما : بطلانه وهو مذهب أحمد ومالك والثاني : صحته وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ثم اختلفا فمنع أبو حنيفة من الوطء حتى تنقضي العدة وكرهه الشافعي وقال أصحابه لا يحرم .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الرجل يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها
ثبت عنه في " الصحيح " : أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها . قيل لأنس ما أصدقها ؟ قال أصدقها نفسها وذهب إلى جواز ذلك علي بن أبي طالب وفعله أنس بن مالك وهو مذهب أعلم التابعين وسيدهم سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والحسن البصري والزهري وأحمد وإسحاق .

وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذنها فإن أبت ذلك فعليها قيمتها .

وعنه رواية ثالثة أنه يوكل رجلا يزوجه إياها .

والصحيح هو القول الأول الموافق للسنة وأقوال الصحابة والقياس فإنه كان يملك رقبتها فأزال ملكه عن رقبتها وأبقى ملك المنفعة بعقد النكاح فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها واستثنى خدمتها وقد تقدم تقرير ذلك في غزاة خيبر .




فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم في صحة النكاح الموقوف على الإجازة
[ تخيير الكارهة ]

في " السنن " : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم

[ تخيير الصغير ]

[ تخيير اليتيمة عند البلوغ ]

وقد نص الإمام أحمد على القول بمقتضى هذا فقال في رواية صالح في صغير زوجه عمه قال إن رضي به في وقت من الأوقات جاز وإن لم يرض فسخ ونقل عنه ابنه عبد الله إذا زوجت اليتيمة فإذا بلغت فلها الخيار وكذلك نقل ابن منصور عنه حكي له قول سفيان في يتيمة زوجت ودخل بها الزوج ثم حاضت عند الزوج بعد قال تخير فإن اختارت نفسها لم يقع التزويج وهي أحق بنفسها وإن قالت اخترت زوجي ؟ فليشهدوا على نكاحهما . قال أحمد جيد .

[ تخيير السيد بزواج عبده ]

وقال في رواية حنبل في العبد إذا تزوج بغير إذن سيده ثم علم السيد بذلك فإن شاء يطلق عليه فالطلاق بيد السيد وإذا أذن له في التزويج فالطلاق بيد العبد ومعنى قوله يطلق أي يبطل العقد ويمنع تنفيذه وإجازته هكذا أوله القاضي وهو خلاف ظاهر النص وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك على تفصيل في مذهبه والقياس يقتضي صحة هذا القول فإن الإذن إذا جاز أن يتقدم القبول والإيجاب جاز أن يتراخى عنه .

وأيضا فإنه كما يجوز وقفه على الفسخ يجوز وقفه على الإجازة كالوصية ولأن المعتبر هو التراضي وحصوله في ثاني الحال كحصوله في الأول ولأن إثبات الخيار في عقد البيع هو وقف للعقد في الحقيقة على إجازة من له الخيار ورده وبالله التوفيق .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح
قال الله تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ الحجرات 13 ] . وقال تعالى . إنما المؤمنون إخوة [ الحجرات 10 ] . وقال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ التوبة 71 ] وقال تعالى : فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض [ آل عمران 195 ] .

وقال صلى الله عليه وسلم لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود . ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب

وقال صلى الله عليه وسلم إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا

وفي الترمذي : عنه صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه ؟ فقال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه وكان حجاما

وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش القرشية من زيد بن حارثة مولاه وزوج فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية من أسامة ابنه وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف وقد قال الله تعالى : والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات [ النور 26 ] وقد قال تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء 3 ]



[ لم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة إلا الدين ]
فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلا وكمالا فلا تزوج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرا وراء ذلك فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث ولم يعتبر نسبا ولا صناعة ولا غنى ولا حرية فجوز للعبد القن نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفا مسلما وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيات ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات وللفقراء نكاح الموسرات .

[ مذهب مالك ]

وقد تنازع الفقهاء في أوصاف الكفاءة فقال مالك في ظاهر مذهبه إنها الدين وفي رواية عنه إنها ثلاثة الدين والحرية والسلامة من العيوب .

[ مذهب أبي حنيفة ]

وقال أبو حنيفة : هي النسب والدين .

[ مذهب أحمد ]

وقال أحمد في رواية عنه هي الدين والنسب خاصة . وفي رواية أخرى : هي خمسة الدين والنسب والحرية والصناعة والمال . وإذا اعتبر فيها النسب فعنه فيه روايتان . إحداهما : أن العرب بعضهم لبعض أكفاء . الثانية أن قريشا لا يكافئهم إلا قرشي وبنو هاشم لا يكافئهم إلا هاشمي .

[ مذهب أصحاب الشافعي ]

وقال أصحاب الشافعي : يعتبر فيها الدين والنسب والحرية والصناعة والسلامة من العيوب المنفرة .

ولهم في اليسار ثلاثة أوجه اعتباره فيها وإلغاؤه واعتباره في أهل المدن دون أهل البوادي فالعجمي ليس عندهم كفئا للعربي ولا غير القرشي للقرشية ولا غير الهاشمي للهاشمية ولا غير المنتسبة إلى العلماء والصلحاء المشهورين كفئا لمن ليس منتسبا إليهما ولا العبد كفئا للحرة ولا العتيق كفئا لحرة الأصل ولا من مس الرق أحد آبائه كفئا لمن لم يمسها رق ولا أحدا من آبائها وفي تأثير رق الأمهات وجهان ولا من به عيب مثبت للفسخ كفئا للسليمة منه فإن لم يثبت الفسخ وكان منفرا كالعمى والقطع وتشويه الخلقة فوجهان . واختار الروياني أن صاحبه ليس بكفء ولا الحجام والحائك والحارس كفئا لبنت التاجر والخياط ونحوهما ولا المحترف لبنت العالم ولا الفاسق كفئا للعفيفة ولا المبتدع للسنية ولكن الكفاءة عند الجمهور هي حق للمرأة والأولياء .



[ لمن حق الكفاءة ]
ثم اختلفوا فقال أصحاب الشافعي : هي لمن له ولاية في الحال . وقال أحمد في رواية حق لجميع الأولياء قريبهم وبعيدهم فمن لم يرض منهم فله الفسخ . وقال أحمد في رواية ثالثة إنها حق الله فلا يصح رضاهم بإسقاطه ولكن على هذه الرواية لا تعتبر الحرية ولا اليسار ولا الصناعة ولا النسب إنما يعتبر الدين فقط فإنه لم يقل أحمد ولا أحد من العلماء إن نكاح الفقير للموسرة باطل وإن رضيت ولا يقول هو ولا أحد : إن نكاح الهاشمية لغير الهاشمي والقرشية لغير القرشي باطل وإنما نبهنا على هذا لأن كثيرا من أصحابنا يحكون الخلاف في الكفاءة هل هي حق لله أو للآدمي ؟ ويطلقون مع قولهم إن الكفاءة هي الخصال المذكورة وفي هذا من التساهل وعدم التحقيق ما فيه .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في ثبوت الخيار للمعتقة تحت العبد
ثبت في " الصحيحين " و " السنن " : أن بريرة كاتبت أهلها وجاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم في كتابتها فقالت عائشة رضي الله عنها : إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذكرت ذلك لأهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ثم خطب الناس فقال " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق " ثم خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن تبقى على نكاح زوجها وبين أن تفسخه فاختارت نفسها فقال لها : " إنه زوجك وأبو ولدك " فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمرني بذلك ؟ قال " لا إنما أنا شافع قالت فلا حاجة لي فيه وقال لها إذ خيرها : إن قربك فلا خيار لك " وأمرها أن تعتد وتصدق عليها بلحم فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " هو عليها صدقة ولنا هدية




[ جواز مكاتبة المرأة وبيع المكاتب وإن لم يعجزه سيده ]
وكان في قصة بريرة من الفقه جواز مكاتبة المرأة وجواز بيع المكاتب وإن لم يعجزه سيده وهذا مذهب أحمد المشهور عنه وعليه أكثر نصوصه . وقال في رواية أبي طالب لا يطأ مكاتبته ألا ترى أنه لا يقدر أن يبيعها . وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي . والنبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة رضي الله عنها على شرائها وأهلها على بيعها ولم يسأل أعجزت أم لا ومجيئها تستعين في كتابتها لا يستلزم عجزها وليس في بيع المكاتب محذور فإن بيعه لا يبطل كتابته فإنه يبقى عند المشتري كما كان عند البائع إن أدى إليه عتق وإن عجز عن الأداء فله أن يعيده إلى الرق كما كان عند بائعه فلو لم تأت السنة بجواز بيعه لكان القياس يقتضيه .

وقد ادعى غير واحد الإجماع القديم على جواز بيع المكاتب . قالوا : لأن قصة بريرة وردت بنقل الكافة ولم يبق بالمدينة من لم يعرف ذلك لأنها صفقة جرت بين أم المؤمنين وبين بعض الصحابة رضي الله عنهم وهم موالي بريرة ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في أمر بيعها خطبة في غير وقت الخطبة ولا يكون شيء أشهر من هذا ثم كان من مشي زوجها خلفها باكيا في أزقة المدينة ما زاد الأمر شهرة عند النساء والصبيان قالوا : فظهر يقينا أنه إجماع من الصحابة إذ لا يظن بصاحب أنه يخالف من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الأمر الظاهر المستفيض . قالوا : ولا يمكن أن توجدوا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم المنع من بيع المكاتب إلا رواية شاذة عن ابن عباس لا يعرف لها إسناد .

[ مستمسك من منع بيع المكاتب ]

واعتذر من منع بيعه بعذرين

أحدهما : أن بريرة كانت قد عجزت وهذا عذر أصحاب الشافعي .

والثاني : أن البيع ورد على مال الكتابة لا على رقبتها وهذا عذر أصحاب مالك .




[ الرد على من ادعى عجز بريرة عن تأدية المكاتب عليه ]

وهذان العذران أحوج إلى أن يعتذر عنهما من الحديث ولا يصح واحد منهما أما الأول فلا ريب أن هذه القصة كانت بالمدينة وقد شهدها العباس وابنه عبد الله وكانت الكتابة تسع سنين في كل سنة أوقية ولم تكن بعد أدت شيئا ولا خلاف أن العباس وابنه إنما سكنا المدينة بعد فتح مكة ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا عامين وبعض الثالث فأين العجز وحلول النجوم ؟

وأيضا فإن بريرة لم تقل عجزت ولا قالت لها عائشة أعجزت ؟ ولا اعترف أهلها بعجزها ولا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجزها ولا وصفها به ولا أخبر عنها البتة فمن أين لكم هذا العجز الذي تعجزون عن إثباته ؟

وأيضا فإنها إنما قالت لعائشة : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل سنة أوقية وإني أحب أن تعينيني ولم تقل لم أؤد لهم شيئا ولا مضت علي نجوم عدة عجزت عن الأداء فيها ولا قالت عجزني أهلي .

وأيضا فإنهم لو عجزوها لعادت في الرق ولم تكن حينئذ لتسعى في كتابتها وتستعين بعائشة على أمر قد بطل .

فإن قيل الذي يدل على عجزها قول عائشة إن أحب أهلك أن أشتريك وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت . وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : " اشتريها فأعتقيها " وهذا يدل على إنشاء عتق من عائشة رضي الله عنها وعتق المكاتب بالأداء لا بإنشاء من السيد . قيل هذا هو الذي أوجب لهم القول ببطلان الكتابة . قالوا : ومن المعلوم أنها لا تبطل إلا بعجز المكاتب أو تعجيزه نفسه وحينئذ فيعود في الرق فإنما ورد البيع على رقيق لا على مكاتب . وجواب هذا : أن ترتيب العتق على الشراء لا يدل على إنشائه فإنه ترتيب للمسبب على سببه ولا سيما فإن عائشة لما أرادت أن تعجل كتابتها جملة واحدة كان هذا سببا في إعتاقها وقد قلتم أنتم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه


[ الرد على من قال إن البيع ورد على مال الكتابة لا على رقبتها ]

إن هذا من ترتيب المسبب على سببه وأنه بنفس الشراء يعتق عليه لا يحتاج إلى إنشاء عتق . وأما العذر الثاني : فأمره أظهر وسياق القصة يبطله فإن أم المؤمنين اشترتها فأعتقتها وكان ولاؤها لها وهذا مما لا ريب فيه ولم تشتر المال والمال كان تسع أواق منجمة فعدتها لهم جملة واحدة ولم تتعرض للمال الذي في ذمتها ولا كان غرضها بوجه ما ولا كان لعائشة غرض في شراء الدراهم المؤجلة بعددها حالة .

[ لا يجوز اشتراط ما يخالف حكم الله ]

وفي القصة جواز المعاملة بالنقود عددا إذا لم يختلف مقدارها وفيها أنه لا يجوز لأحد من المتعاقدين أن يشترط على الآخر شرطا يخالف حكم الله ورسوله وهذا معنى قوله " ليس في كتاب الله " أي ليس في حكم الله جوازه وليس المراد أنه ليس في القرآن ذكره وإباحته ويدل عليه قوله كتاب الله أحق وشرط الله أوثق



[ هل يصح العقد الذي فيه شرط فاسد ]
وقد استدل به من صحح العقد الذي شرط فيه شرط فاسد ولم يبطل العقد به وهذا فيه نزاع وتفصيل يظهر الصواب منه في تبيين معنى الحديث فإنه قد أشكل على الناس قوله " اشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق " فأذن لها في هذا الاشتراط وأخبر أنه لا يفيد . والشافعي طعن في هذه اللفظة وقال إن هشام بن عروة انفرد بها وخالفه غيره فردها الشافعي ولم يثبتها ولكن أصحاب " الصحيحين " وغيرهم أخرجوها ولم يطعنوا فيها ولم يعللها أحد سوى الشافعي فيما نعلم .

[ معنى اللام في " اشترطي لهم ]

ثم اختلفوا في معناها فقالت طائفة اللام ليست على بابها بل هي بمعنى " على " كقوله إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها [ الإسراء : 7 ] أي فعليها كما قال تعالى : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ فصلت 46 ] .

وردت طائفة هذا الاعتذار بخلافه لسياق القصة ولموضوع الحرف وليس نظير الآية فإنها قد فرقت بين ما للنفس وبين ما عليها بخلاف قوله اشترطي لهم

وقالت طائفة بل اللام على بابها ولكن في الكلام محذوف تقديره اشترطي لهم أو لا تشترطي فإن الاشتراط لا يفيد شيئا لمخالفته لكتاب الله .

ورد غيرهم هذا الاعتذار لاستلزامه إضمار ما لا دليل عليه والعلم به من نوع علم الغيب .

[ من قال بأن الأمر أمر تهديد ]

وقالت طائفة أخرى : بل هذا أمر تهديد لا إباحة كقوله تعالى : اعملوا ما شئتم [ فصلت 40 ] وهذا في البطلان من جنس ما قبله وأظهر فسادا فما لعائشة وما للتهديد هنا ؟ وأين في السياق ما يقتضي التهديد لها ؟ نعم هم أحق بالتهديد لا أم المؤمنين .



فصل [ ما في إنما الولاء لمن أعتق من العموم ]
وفي قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الولاء لمن أعتق " من العموم ما يقتضي ثبوته لمن أعتق سائبة أو في زكاة أو كفارة أو عتق واجب وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات وقال في الرواية الأخرى : لا ولاء عليه وقال في الثالثة يرد ولاؤه في عتق مثله ويحتج بعمومه أحمد ومن وافقه في أن المسلم إذا أعتق عبدا ذميا ثم مات العتيق ورثه بالولاء وهذا العموم أخص من قوله لا يرث المسلم الكافر فيخصصه أو يقيده وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة لا يرثه بالولاء إلا أن يموت العبد مسلما ولهم أن يقولوا : إن عموم قوله " الولاء لمن أعتق " مخصوص بقوله لا يرث المسلم الكافر




فصل [ تخيير الأمة المزوجة إذا أعتقت وزوجها عبد ]
وفي القصة من الفقه تخيير الأمة المزوجة إذا أعتقت وزوجها عبد وقد اختلفت الرواية في زوج بريرة هل كان عبدا أو حرا ؟

فقال القاسم عن عائشة رضي الله عنها : كان عبدا ولو كان حرا لم يخيرها وقال عروة عنها : كان حرا . وقال ابن عباس : كان عبدا أسود يقال له مغيث عبدا لبني فلان كأني أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة وكل هذا في الصحيح .

وفي " سنن أبي داود " عن عروة عن عائشة كان عبدا لآل أبي أحمد فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها : إن قربك فلا خيار لك

وفي " مسند أحمد " عن عائشة رضي الله عنها : أن بريرة كانت تحت عبد فلما أعتقتها قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد وإن شئت أن تفارقيه

وقد روى في " الصحيح " : أنه كان حرا . وأصح الروايات وأكثرها : أنه كان عبدا وهذا الخبر رواه عن عائشة رضي الله عنها ثلاثة الأسود وعروة والقاسم أما الأسود فلم يختلف عنه عن عائشة أنه كان حرا وأما عروة فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان إحداهما : أنه كان حرا والثانية أنه كان عبدا وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه روايتان صحيحتان إحداهما : أنه كان حرا والثانية الشك . قال داود بن مقاتل ولم تختلف الرواية عن ابن عباس أنه كان عبدا .



[اختلاف العلماء في تخيير الأمة إذا أعتقت وزوجها حر ]

[ مآخذ تحقيق المناط في إثبات الخيار للمعتقة ]

واتفق الفقهاء على تخيير الأمة إذا أعتقت وزوجها عبد واختلفوا إذا كان حرا فقال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه لا تخيير وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الثانية تخير . وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبدا أو حرا بل على تحقيق المناط في إثبات الخيار لها وفيه ثلاثة مآخذ للفقهاء

أحدها : زوال الكفاءة وهو المعبر عنه بقولهم كملت تحت ناقص

الثاني : أن عتقها أوجب للزوج ملك طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له بالعقد وهذا مأخذ أصحاب أبي حنيفة وبنوا على أصلهم أن الطلاق معتبر بالنساء لا بالرجال .

الثالث ملكها نفسها ونحن نبين ما في هذه .

[ الرد على المأخذ الأول وهو كمالها تحت ناقص ]

المأخذ الأول وهو كمالها تحت ناقص فهذا يرجع إلى أن الكفاءة معتبرة في الدوام كما هي معتبرة في الابتداء فإذا زالت خيرت المرأة كما تخير إذا بان الزوج غير كفء لها وهذا ضعيف من وجهين

أحدهما : أن شروط النكاح لا يعتبر دوامها واستمرارها وكذلك توابعه المقارنة لعقده لا يشترط أن تكون توابع في الدوام فإن رضى الزوجة غير المجبرة شرط في الابتداء دون الدوام وكذلك الولي والشاهدان وكذلك مانع الإحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكاح الزانية إنما يمنع ابتداء العقد دون استدامته فلا يلزم من اشتراط الكفاءة ابتداء اشتراط استمرارها ودوامها .

الثاني : أنه لو زالت الكفاءة في أثناء النكاح بفسق الزوج أو حدوث عيب موجب للفسخ لم يثبت الخيار على ظاهر المذهب وهو اختيار قدماء الأصحاب ومذهب مالك .

وأثبت القاضي الخيار بالعيب الحادث ويلزمه إثباته بحدوث فسق الزوج وقال الشافعي إن حدث بالزوج ثبت الخيار وإن حدث بالزوجة فعلى قولين .

[الرد على المأخذ الثاني وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها ملك طلقة ثالثة ]

وأما المأخذ الثاني وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها ملك طلقة ثالثة فمأخذ ضعيف جدا فأي مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة وبين ثبوت الخيار لها ؟ وهل نصب الشارع ملك الطلقة الثالثة سببا لملك الفسخ وما يتوهم - من أنها كانت تبين منه باثنتين فصارت لا تبين إلا بثلاث وهو زيادة إمساك وحبس لم يقتضه العقد - فاسد فإنه يملك ألا يفارقها البتة ويمسكها حتى يفرق الموت بينهما والنكاح عقد على مدة العمر فهو يملك استدامة إمساكها وعتقها لا يسلبه هذا الملك فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقة ثالثة وهذا لو كان الطلاق معتبرا بالنساء فكيف والصحيح أنه معتبر بمن هو بيده وإليه ومشروع في جانبه .

[ ترجيح المصنف للمأخذ الثالث وهو ملكها نفسها ]

وأما المأخذ الثالث وهو ملكها نفسها فهو أرجح المآخذ وأقربها إلى أصول الشرع وأبعدها من التناقض وسر هذا المأخذ أن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكا لرقبتها ومنافعها والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق وهذا مقصود العتق وحكمته فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها ومن جملتها منافع البضع فلا يملك عليها إلا باختيارها فخيرها الشارع بين أن تقيم مع زوجها وبين أن تفسخ نكاحه إذ قد ملكت منافع بضعها وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ملكت نفسك فاختاري

فإن قيل هذا ينتقض بما لو زوجها ثم باعها فإن المشتري قد ملك رقبتها وبضعها ومنافعه ولا تسلطونه على فسخ النكاح . قلنا : لا يرد هذا نقضا فإن البائع نقل إلى المشتري ما كان مملوكا له فصار المشتري خليفته وهو لما زوجها أخرج منفعة البضع عن ملكه إلى الزوج ثم نقلها إلى المشتري مسلوبة منفعة البضع فصار كما لو آجر عبده مدة ثم باعه .

فإن قيل فهب أن هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها فهلا قلتم ذلك إذا أعتقها وأنها ملكت نفسها مسلوبة منفعة البضع كما لو آجرها ثم أعتقها ولهذا ينتقض عليكم هذا المأخذ ؟ .

قيل الفرق بينهما : أن العتق في تمليك العتيق رقبته ومنافعه أقوى من البيع ولهذا ينفذ فيما لم يعتقه ويسري في حصة الشريك بخلاف البيع فالعتق إسقاط ما كان السيد يملكه من عتيقه وجعله له محررا وذلك يقتضي إسقاط ملك نفسه ومنافعها كلها .

وإذا كان العتق يسري في ملك الغير المحض الذي لا حق له فيه البتة فكيف لا يسري إلى ملكه الذي تعلق به حق الزوج فإذا سرى إلى نصيب الشريك الذي حق للمعتق فيه فسريانه إلى ملك الذي يتعلق به حق الزوج أولى وأحرى فهذا محض العدل والقياس الصحيح .

فإن قيل فهذا فيه إبطال حق الزوج من هذه المنفعة بخلاف الشريك فإنه يرجع إلى القيمة .

قيل الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء فطريان ما يزيل دوامها لا يسقط له حقا كما لو طرأ ما يفسده أو يفسخه برضاع أو حدوث عيب أو زوال كفاءة عند من يفسخ به .


[إشكالان على تخيير المعتقة إذا كانت متزوجة بحر ]

فإن قيل فما تقولون فيما رواه النسائي من حديث ابن موهب عن القاسم بن محمد قال كان لعائشة رضي الله عنها غلام وجارية قالت فأردت أن أعتقهما فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابدئي بالغلام قبل الجارية ولولا أن التخيير يمنع إذا كان الزوج حرا لم يكن للبداءة بعتق الغلام فائدة فإذا بدأت به عتقت تحت حر فلا يكون لها اختيار .

وفي " سنن النسائي " أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما أمة كانت تحت عبد فعتقت فهي بالخيار ما لم يطأها زوجها

قيل أما الحديث الأول فقال أبو جعفر العقيلي وقد رواه هذا خبر لا يعرف إلا بعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب وهو ضعيف .

وقال ابن حزم هو خبر لا يصح . ثم لما صح لم يكن فيه حجة لأنه ليس فيه أنهما كانا زوجين بل قال كان لها عبد وجارية . ثم لو كانا زوجين لم يكن في أمره لها بعتق العبد أولا ما يسقط خيار المعتقة تحت الحر وليس في الخبر أنه أمرها بالابتداء بالزوج لهذا المعنى بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدئ بالذكر لفضل عتقه على الأنثى وأن عتق أنثيين يقوم مقام عتق ذكر كما في الحديث الصحيح مبينا . وأما الحديث الثاني : فضعف لأنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمري وهو مجهول . فإذا تقرر هذا وظهر حكم الشرع في إثبات الخيار لها فقد روى الإمام أحمد بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن شاءت فارقته وإن وطئها فلا خيار لها ولا تستطيع فراقه ويستفاد من هذا قضيتان



[خيار المعتقة على التراخي ]

إحداهما : أن خيارها على التراخي ما لم تمكنه من وطئها وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد . والشافعي ثلاثة أقوال . هذا أحدها . والثاني : أنه على الفور والثالث أنه إلى ثلاثة أيام .

[ التمكين من الوطء يسقط ]

الثانية أنها إذا مكنته من نفسها فوطئها سقط خيارها وهذا إذا علمت بالعتق وثبوت الخيار به فلو جهلتهما لم يسقط خيارها بالتمكين من الوطء .

وعن أحمد رواية ثانية أنها لا تعذر بجهلها بملك الفسخ بل إذا علمت بالعتق ومكنته من وطئها سقط خيارها ولو لم تعلم أن لها الفسخ والرواية الأولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار - وقلنا : إنه لا خيار للمعتقة تحت حر - بطل خيارها لمساواة الزوج لها وحصول الكفاءة قبل الفسخ .

قال الشافعي في أحد قوليه - وليس هو المنصور عند أصحابه لها الفسخ لتقدم ملك الخيار على العتق فلا يبطله والأول أقيس لزوال سبب الفسخ بالعتق وكما لو زال العيب في البيع والنكاح قبل الفسخ به وكما لو زال الإعسار في زمن ملك الزوجة الفسخ به . وإذا قلنا : العلة ملكها نفسها فلا أثر لذلك فإن طلقها طلاقا رجعيا فعتقت في عدتها فاختارت الفسخ بطلت الرجعة وإن اختارت المقام معه صح وسقط اختيارها للفسخ لأن الرجعية كالزوجة .

وقال الشافعي وبعض أصحاب أحمد : لا يسقط خيارها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة ولها أن تختار نفسها بعد الارتجاع ولا يصح اختيارها في زمن الطلاق فإن الاختيار في زمن هي فيه صائرة إلى بينونة ممتنع .

فإذا راجعها صح حينئذ أن تختاره وتقيم معه لأنها صارت زوجة وعمل الاختيار عمله وترتب أثره عليه .

ونظير هذا إذا ارتد زوج الأمة بعد الدخول ثم عتقت في زمن الردة فعلى القول الأول لها الخيار قبل إسلامه فإن اختارته ثم أسلم سقط ملكها للفسخ وعلى قول الشافعي : لا يصح لها خيار قبل إسلامه لأن العقد صائر إلى البطلان . فإذا أسلم صح خيارها .

فإن قيل فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ هل يقع الطلاق أم لا ؟ .

قيل نعم يقع لأنها زوجة وقال بعض أصحاب أحمد وغيرهم يوقف الطلاق فإن فسخت تبينا أنه لم يقع وإن اختارت زوجها تبينا وقوعه . فإن قيل فما حكم المهر إذا اختارت الفسخ ؟ .

قيل إما أن تفسخ قبل الدخول أو بعده . فإن فسخت بعده لم يسقط المهر وهو لسيدها سواء فسخت أو أقامت وإن فسخت قبله ففيه قولان هما روايتان عن أحمد . إحداهما : لا مهر لأن الفرقة من جهتها والثانية يجب نصفه ويكون لسيدها لا لها .

فإن قيل فما تقولون في المعتق نصفها هل لها خيار ؟ قيل فيها قولان وهما روايتان عن أحمد فإن قلنا : لا خيار لها كزوج مدبرة له لا يملك غيرها وقيمتها مائة فعقد على مائتين مهرا ثم مات عتقت ولم تملك الفسخ قبل الدخول لأنها لو ملكت سقط المهر أو انتصف فلم تخرج من الثلث فيرق بعضها فيمتنع الفسخ قبل الدخول بخلاف ما إذا لم تملكه فإنها تخرج من الثلث فيعتق جميعها .




فصل في قوله صلى الله عليه وسلم لو راجعته فقالت أتأمرني ؟ فقال لا إنما أنا شافع فقالت لا حاجة لي فيه فيه ثلاث قضايا .

[ الأمر يقتضي الوجوب ]

إحداها : أن أمره على الوجوب ولهذا فرق بين أمره وشفاعته ولا ريب أن امتثال شفاعته من أعظم المستحبات .

[لا يحرم عصيان شفاعته صلى الله عليه وسلم]

الثانية أنه صلى الله عليه وسلم لم يغضب على بريرة ولم ينكر عليها إذ لم تقبل شفاعته لأن الشفاعة في إسقاط المشفوع عنده حقه وذلك إليه إن شاء أسقطه وإن شاء أبقاه فلذلك لا يحرم عصيان شفاعته صلى الله عليه وسلم ويحرم عصيان أمره .

[ معنى المراجعة في لسان الشارع ]
الثالثة أن اسم المراجعة في لسان الشارع قد يكون مع زوال عقد النكاح بالكلية فيكون ابتداء عقد وقد يكون مع تشعثه فيكون إمساكا وقد سمى سبحانه ابتداء النكاح للمطلق ثلاثا بعد الزوج الثاني مراجعة فقال فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ البقرة 230 ] أي إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا نكاحا مستأنفا .




فصل [ما يستنبط من أكله صلى الله عليه وسلم من اللحم الذي تصدق به على بريرة ]
وفي أكله صلى الله عليه وسلم من اللحم الذي تصدق به على بريرة وقال هو عليها صدقة ولنا هدية دليل على جواز أكل الغني وبني هاشم وكل من تحرم عليه الصدقة مما يهديه إليه الفقير من الصدقة لاختلاف جهة المأكول ولأنه قد بلغ محله وكذلك يجوز له أن يشتريه منه بماله .

هذا إذا لم تكن صدقة نفسه فإن كانت صدقته لم يجز له أن يشتريها ولا يهبها ولا يقبلها هدية .

كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه عن شراء صدقته وقال لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم




فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم في الصداق بما قل وكثر
وقضائه بصحة النكاح على ما مع الزوج من القرآن
ثبت في " صحيح مسلم " : عن عائشة رضي الله عنها : كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا فذلك خمسمائة .

وقال عمر رضي الله عنه ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية . قال الترمذي حديث حسن صحيح . انتهى .

والأوقية أربعون درهما .

وفي " صحيح البخاري " : من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوج ولو بخاتم من حديد .

وفي " سنن أبي داود " : من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعطى في صداق ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل .

وفي الترمذي أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ قالت نعم فأجازه . قال الترمذي حديث حسن صحيح .

وفي " مسند الإمام أحمد " : من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة .

وفي " الصحيحين " : أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت طويلا فقال رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ قال ما عندي إلا إزاري هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك فالتمس شيئا " قال لا أجد شيئا قال " فالتمس ولو خاتما من حديد " فالتمس فلم يجد شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل معك شيء من القرآن ؟ قال نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد زوجتكها بما معك من القرآن .

وفي النسائي أن أبا طلحة خطب أم سليم فقالت والله يا أبا طلحة ما مثلك يرد ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذاك مهري وما أسالك غيره فأسلم فكان ذلك مهرها . قال ثابت فما سمعنا بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم فدخل بها فولدت له .



فتضمن هذا الحديث أن الصداق لا يتقدر أقله وأن قبضة السويق وخاتم الحديد والنعلين يصح تسميتها مهرا وتحل بها الزوجة .

وتضمن أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح وأنها من قلة بركته وعسره .

وتضمن أن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها جاز ذلك وكان ما يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صداقها كما إذا جعل السيد عتقها صداقها وكان انتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها هو صداقها وهذا هو الذي اختارته أم سليم من انتفاعها بإسلام أبي طلحة وبذلها نفسها له إن أسلم وهذا أحب إليها من المال الذي يبذله الزوج فإن الصداق شرع في الأصل حقا للمرأة تنتفع به فإذا رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن كان هذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلها فما خلا العقد عن مهر وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم أو عشرة من النص ؟

والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصا وقياسا وليس هذا مستويا بين هذه المرأة وبين الموهوبة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهي خالصة له من دون المؤمنين فإن تلك وهبت نفسها هبة مجردة عن ولي وصداق بخلاف ما نحن فيه فإنه نكاح بولي وصداق وإن كان غير مالي فإن المرأة جعلته عوضا عن المال لما يرجع إليها من نفعه ولم تهب نفسها للزوج هبة مجردة كهبة شيء من مالها بخلاف الموهوبة التي خص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم هذا مقتضى هذه الأحاديث .

وقد خالف في بعضه من قال لا يكون الصداق إلا مالا ولا تكون منافع أخرى ولا علمه ولا تعليمه صداقا كقول أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه . ومن قال لا يكون أقل من ثلاثة دراهم كمالك وعشرة دراهم كأبي حنيفة وفيه أقوال أخر شاذة لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب .

ومن ادعى في هذه الأحاديث التي ذكرناها اختصاصها بالنبي صلى الله عليه وسلم أو أنها منسوخة أو أن عمل أهل المدينة على خلافها فدعوى لا يقوم عليها دليل . والأصل يردها وقد زوج سيد أهل المدينة من التابعين سعيد بن المسيب ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد بل عد ذلك في مناقبه وفضائله وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع .

فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين
يجد بصاحبه برصا أو جنونا أو جذاما أو يكون الزوج عنينا
في " مسند أحمد " : من حديث يزيد بن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا فاماز عن الفراش ثم قال خذي عليك ثيابك " ولم يأخذ مما آتاها شيئا

وفي " الموطأ " : عن عمر أنه قال أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها المهر بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره

وفي لفظ آخر قضى عمر في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فرق بينهما والصداق لها بمسيسه إياها وهو له على وليها

وفي " سنن أبي داود " : من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : طلق عبد يزيد أبو ركانة زوجته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فذكر الحديث . وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له " طلقها " ففعل ثم قال " راجع امرأتك أم ركانة " فقال إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال " قد علمت ارجعها " وتلا : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 1 ] .

ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج له عن بعض بني أبي رافع وهو مجهول ولكن هو تابعي وابن جريج من الأئمة الثقات العدول ورواية العدل عن غيره تعديل له ما لم يعلم فيه جرح ولم يكن الكذب ظاهرا في التابعين ولا سيما التابعين من أهل المدينة ولا سيما موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما مثل هذه السنة التي تشتد حاجة الناس إليها لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا عن غير ثقة عنده ولم يبين حاله .




[ التفريق بالعنة ]
وجاء التفريق بالعنة عن عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة والمغيرة بن شعبة لكن عمر وابن مسعود والمغيرة أجلوه سنة وعثمان ومعاوية وسمرة لم يؤجلوه والحارث بن عبد الله أجله عشرة أشهر .

[ التفريق بالعقم ]
وذكر سعيد بن منصور حدثنا هشيم أنبأنا عبد الله بن عوف عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلا على بعض السعاية فتزوج امرأة وكان عقيما فقال له عمر أعلمتها أنك عقيم ؟ . قال لا قال فانطلق فأعلمها ثم خيرها .

[ التفريق بالجنون اختلاف الفقهاء فيما سبق ]
وأجل مجنونا سنة فإن أفاق وإلا فرق بينه وبين امرأته . فاختلف الفقهاء في ذلك فقال داود وابن حزم ومن وافقهما : لا يفسخ النكاح بعيب البتة وقال أبو حنيفة لا يفسخ إلا بالجب والعنة خاصة .

وقال الشافعي ومالك يفسخ بالجنون والبرص والجذام والقرن والجب والعنة خاصة وزاد الإمام أحمد عليهما : أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين ولأصحابه في نتن الفرج والفم وانخراق مخرجي البول والمني في الفرج والقروح السيالة فيه والبواسير والناصور والاستحاضة واستطلاق البول والنجو والخصي وهو قطع البيضتين والسل وهو سل البيضتين والوجء وهو رضهما وكون أحدهما خنثى مشكلا والعيب الذي بصاحبه مثله من العيوب السبعة والعيب الحادث بعد العقد وجهان .

وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في البيع وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه ولا مظنته ولا من قاله . وممن حكاه أبو عاصم العباداني في كتاب طبقات أصحاب الشافعي وهذا القول هو القياس أو قول ابن حزم ومن وافقه .

وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها فلا وجه له فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفا وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له أخبرها أنك عقيم وخيرها فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هذا عندها كمال لا نقص ؟

والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار وهو أولى من البيع كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع وما ألزم الله ورسوله مغرورا قط ولا مغبونا بما غر به وغبن به ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة .

وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب قال قال عمر أيما امرأة زوجت وبها جنون أو جذام أو برص فدخل بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها وعلى الولي الصداق بما دلس كما غره

ورد هذا بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر من باب الهذيان البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة قال الإمام أحمد : إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر فمن يقبل وأئمة الإسلام وجمهورهم يحتجون بقول سعيد بن المسيب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بروايته عن عمر رضي الله عنه وكان عبد الله بن عمر يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر فيفتي بها ولم يطعن أحد قط من أهل عصره ولا من بعدهم ممن له في الإسلام قول معتبر في رواية سعيد بن المسيب عن عمر ولا عبرة بغيرهم .

وروى الشعبي عن علي : أيما امرأة نكحت وبها برص أو جنون أو جذام أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها إن شاء أمسك وإن شاء طلق وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها

وقال وكيع : عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر قال إذا تزوجها برصاء أو عمياء فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على من غره

وهذا يدل على أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص والحصر دون ما عداها وكذلك حكم قاضي الإسلام حقا الذي يضرب المثل بعلمه ودينه وحكمه شريح قال عبد الرزاق : عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين خاصم رجل إلى شريح فقال إن هؤلاء قالوا لي : إنا نزوجك بأحسن الناس فجاءوني بامرأة عمشاء فقال شريح إن كان دلس لك بعيب لم يجز فتأمل هذا القضاء وقوله إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به ؟ وقال الزهري يرد النكاح من كل داء عضال .

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 01:28 AM
[ ترجيح المصنف الرد بكل عيب ]

ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب إلا رواية رويت عن عمر رضي الله عنه لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة : الجنون والجذام والبرص والداء في الفرج وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادا أكثر من أصبغ عن ابن وهب عن عمر وعلي . روي عن ابن عباس ذلك بإسناد متصل ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عنه . هذا كله إذا أطلق الزوج وأما إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت شوهاء أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزا شمطاء أو شرطها بيضاء فبانت سوداء أو بكرا فبانت ثيبا فله الفسخ في ذلك كله . فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها وإن كان بعده فلها المهر وهو غرم على وليها إن كان غره وإن كانت هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته ونص على هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط .

وقال أصحابه إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها إلا في شرط الحرية إذا بان عبدا فلها الخيار وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها بل إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى لأنها لا تتمكن من المفارقة بالطلاق فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به فإذا شرطته شابا جميلا صحيحا فبان شيخا مشوها أعمى أطرش أخرس أسود فكيف تلزم به وتمنع من الفسخ ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع وبالله التوفيق .




وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشد إعداء من ذلك البرص اليسير وكذلك غيره من أنواع الداء العضال ؟ .

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته وحرم على من علمه أن يكتمه من المشتري فكيف بالعيوب في النكاح وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية أو أبي الجهم أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه فعلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سببا للزومه وجعل ذا العيب غلا لازما في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه ولا سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه وهذا مما يعلم يقينا أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه والله أعلم .

وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إلى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد أي عيب كان فالنكاح باطل من أصله غير منعقد ولا خيار له فيه ولا إجازة ولا نفقة ولا ميراث . قال لأن التي أدخلت عليه غير التي تزوج إذ السالمة غير المعيبة بلا شك فإذا لم يتزوجها فلا زوجية بينهما .




فصل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم في خدمة المرأة لزوجها
قال ابن حبيب في " الواضحة " : حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت وحكم على علي بالخدمة الظاهرة ثم قال ابن حبيب والخدمة الباطنة العجين والطبخ والفرش وكنس البيت واستقاء الماء وعمل البيت كله .

وفي " الصحيحين " : أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى وتسأله خادما فلم تجده فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته . قال علي فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال مكانكما " فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على بطني فقال " ألا أدلكما على ما هو خير لكما مما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا الله ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم " . قال علي فما تركتها بعد قيل ولا ليلة صفين ؟ قال ولا ليلة صفين

وصح عن أسماء أنها قالت كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله وكان له فرس وكنت أسوسه وكنت أحتش له وأقوم عليه

وصح عنها أنها كانت تعلف فرسه وتسقي الماء وتخرز الدلو وتعجن وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ .

فاختلف الفقهاء في ذلك فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت وقال أبو ثور : عليها أن تخدم زوجها في كل شيء ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء وممن ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر قالوا : لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام وبذل المنافع قالوا : والأحاديث المذكورة إنما تدل على التطوع ومكارم الأخلاق فأين الوجوب منها ؟ .


افتراضي

[ هل الحكمان حاكمان أو وكيلان ؟]
وقد اختلف السلف والخلف في الحكمين هل هما حاكمان أو وكيلان ؟ على قولين

أحدهما : أنهما وكيلان وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول وأحمد في رواية .

والثاني : أنهما حاكمان وهذا قول أهل المدينة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر وهذا هو الصحيح .

[ أدلة المصنف في ترجيح كون الحكمين حاكمين ]

والعجب كل العجب ممن يقول هما وكيلان لا حاكمان والله تعالى قد نصبهما حكمين وجعل نصبهما إلى غير الزوجين ولو كانا وكيلين لقال فليبعث وكيلا من أهله ولتبعث وكيلا من أهلها .

وأيضا فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل .

وأيضا فإنه جعل الحكم إليهما فقال إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما والوكيلان لا إرادة لهما إنما يتصرفان بإرادة موكليهما .

وأيضا فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن ولا في لسان الشارع ولا في العرف العام ولا الخاص .

وأيضا فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام وليس للوكيل شيء من ذلك .

وأيضا فإن الحكم أبلغ من حاكم لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك فإذا كان اسم الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه .

وأيضا فإنه سبحانه خاطب بذلك غير الزوجين وكيف يصح أن يوكل عن الرجل والمرأة غيرهما وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا : وإن خفتم شقاق بينهما فمروهما أن يوكلا وكيلين وكيلا من أهله ووكيلا من أهلها ومعلوم بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير وأنها لا تدل عليه بوجه بل هي دالة على خلافه وهذا بحمد الله واضح .

وبعث عثمان بن عفان عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقيل لهما : إن رأيتما أن تفرقا فرقتما

وصح عن علي بن أبي طالب أنه قال للحكمين بين الزوجين عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما فهذا عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم والله أعلم .

وإذا قلنا : إنهما وكيلان فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره وتوكيل الزوجة في بذل العوض أو لا يجبران ؟ على روايتين فإن قلنا : يجبران فلم يوكلا جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين وإن قلنا : إنهما حكمان لم يحتج إلى رضى الزوجين .

وعلى هذا النزاع ينبني ما لو غاب الزوجان أو أحدهما فإن قيل إنهما وكيلان لم ينقطع نظر الحكمين وإن قيل حكمان انقطع نظرهما لعدم الحكم على الغائب وقيل يبقى نظرهما على القولين لأنهما يتطرفان لحظهما فهما كالناظرين . وإن جن الزوجان انقطع نظر الحكمين إن قيل إنهما وكيلان لأنهما فرع الموكلين ولم ينقطع إن قيل إنهما حكمان لأن الحاكم يلي على المجنون . وقيل ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما فكأنهما وكيلان ولا ريب أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة ووكيلان منصوبان للحكم فمن العلماء من رجح جانب الحكم ومنهم من رجح جانب الوكالة ومنهم من اعتبر الأمرين .




حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع
في " صحيح البخاري " : عن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تردين عليه حديقته ؟ " قالت نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة

وفي " سنن النسائي " عن الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فقال " خذ الذي لها عليك وخل سبيلها " قال نعم فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها .

وفي " سنن أبي داود " : عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد حيضة .

وفي " سنن الدارقطني " في هذه القصة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته التي أعطاك " ؟ قالت نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما الزيادة فلا ولكن حديقته " قالت نعم فأخذ ماله وخلى سبيلها فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الدارقطني إسناده صحيح .

فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام



[ جواز الخلع ]

أحدها : جواز الخلع كما دل عليه القرآن قال تعالى : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة 229 ] ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس خالفت النص والإجماع .

[ حصول البينونة بالخلع ]

وفي الآية دليل على جوازه مطلقا بإذن السلطان وغيره ومنعه طائفة بدون إذنه والأئمة الأربعة والجمهور على خلافه .

وفي الآية دليل على حصول البينونة به لأنه سبحانه سماه فدية ولو كان رجعيا كما قاله بعض الناس لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له ودل قوله سبحانه فلا جناح عليهما فيما افتدت به على جوازه بما قل وكثر وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

وقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان فأجازه وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه .

وذكر أيضا عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها وكل ثوب لها حتى نقبتها . ورفعت إلى عمر بن الخطاب امرأة نشزت عن زوجهما فقال ا خلعها ولو من قرطها ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه . وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن الحكم بن عتيبة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يأخذ منها فوق ما أعطاها . وقال طاووس لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وقال عطاء إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها .

وقال الزهري لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

وقال ميمون بن مهران إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان .

وقال الأوزاعي كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها .

والذين جوزوه احتجوا بظاهر القرآن وآثار الصحابة والذين منعوه احتجوا بحديث أبي الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد خلع امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته " ؟ قالت نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الزيادة فلا . قال الدارقطني سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح .

قالوا : والآثار من الصحابة مختلفة فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة ومنهم من روي عنه إباحتها ومنهم من روي عنه كراهتها كما روى وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها والإمام أحمد أخذ بهذا القول ونص على الكراهة وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة وقال ترد عليها . وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال قال لي عطاء أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أبغض زوجي وأحب فراقه قال فتردين عليه حديقته التي أصدقك " ؟ قالت نعم وزيادة من مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما الزيادة من مالك فلا ولكن الحديقة " قالت نعم فقضى بذلك على الزوج وهذا وإن كان مرسلا فحديث أبي الزبير مقو له وقد رواه ابن جريج عنهما .



فصل حكم الرجعة من الخلع في العدة
وفي تسميته سبحانه الخلع فدية دليل على أن فيه معنى المعاوضة ولهذا اعتبر فيه رضى الزوجين فإذا تقايلا الخلع ورد عليها ما أخذ منها وارتجعها في العدة فهل لهما ذلك ؟ منعه الأئمة الأربعة وغيرهم وقالوا : قد بانت منه بنفس الخلع وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في المختلعة إن شاء أن يراجعها فليرد عليها ما أخذ منها في العدة وليشهد على رجعتها قال معمر وكان الزهري يقول مثل ذلك . قال قتادة : وكان الحسن يقول لا يراجعها إلا بخطبة . ولقول سعيد بن المسيب والزهري وجه دقيق من الفقه لطيف المأخذ تتلقاه قواعد الفقه وأصوله بالقبول ولا نكارة فيه غير أن العمل على خلافه فإن المرأة ما دامت في العدة فهي في حبسه ويلحقها صريح طلاقه المنجز عند طائفة من العلماء فإذا تقايلا عقد الخلع وتراجعا إلى ما كانا عليه بتراضيهما لم تمنع قواعد الشرع ذلك وهذا بخلاف ما بعد العدة فإنها قد صارت منه أجنبية محضة فهو خاطب من الخطاب ويدل على هذا أن له أن يتزوجها في عدتها منه بخلاف غيره .




فصل [ ما يستنبط من أمره صلى الله عليه وسلم المختلعة أن تعتد بحيضة واحدة ]
وفي أمره صلى الله عليه وسلم المختلعة . أن تعتد بحيضة واحدة دليل على حكمين أحدهما : أنه لا يجب عليها ثلاث حيض بل تكفيها حيضة واحدة وهذا كما أنه صريح السنة فهو مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر بن الخطاب والربيع بنت معوذ وعمها وهو من كبار الصحابة لا يعرف لهم مخالف منهم كما رواه الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر أنه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء وهي تخبر عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان فجاء عمها إلى عثمان بن عفان فقال له إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أفتنتقل ؟ فقال عثمان لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية أن يكون بها حبل فقال عبد الله بن عمر : فعثمان خيرنا وأعلمنا وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهويه والإمام أحمد في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية .

قال من نصر هذا القول هو مقتضى قواعد الشريعة فإن العدة إنما جعلت ثلاث حيض ليطول زمن الرجعة فيتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة فإذا لم تكن عليها رجعة فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل وذلك يكفي فيه . قالوا : ولا ينتقض هذا علينا بالمطلقة ثلاثا فإن باب الطلاق جعل حكم العدة فيه واحدا بائنة ورجعية .




[ الخلع فسخ ]
قالوا : وهذا دليل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق وهو مذهب ابن عباس وعثمان وابن عمر والربيع وعمها ولا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة فروى الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن عمرو عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه قال الخلع تفريق وليس بطلاق

وذكر عبد الرزاق عن سفيان عن عمرو عن طاووس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله عن رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أينكحها ؟ قال ابن عباس : نعم ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها و الخلع بين ذلك

فإن قيل كيف تقولون إنه لا مخالف لمن ذكرتم من الصحابة وقد روى حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن جمهان أن أم بكرة الأسلمية كانت تحت عبد الله بن أسيد واختلعت منه فندما فارتفعا إلى عثمان بن عفان فأجاز ذلك وقال هي واحدة إلا أن تكون سمت شيئا فهو على ما سمت

وذكر ابن أبي شيبة : حدثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن طلحة بن مصرف عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود قال لا تكون تطليقة بائنة إلا في فدية أو إيلاء

وروي عن علي بن أبي طالب فهؤلاء ثلاثة من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم . قيل لا يصح هذا عن واحد منهم أما أثر عثمان رضي الله عنه فطعن فيه الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما قال شيخنا : وكيف يصح عن عثمان وهو لا يرى فيه عدة وإنما يرى الاستبراء فيه بحيضة ؟ فلو كان عنده طلاقا لأوجب فيه العدة وجمهان الراوي لهذه القصة عن عثمان لا نعرفه بأكثر من أنه مولى الأسلميين .




[ الدليل على أن الخلع ليس بطلاق ]
وأما أثر علي بن أبي طالب فقال أبو محمد ابن حزم رويناه من طريق لا يصح عن علي رضي الله عنه . وأمثلها : أثر ابن مسعود على سوء حفظ ابن أبي ليلى ثم غايته إن كان محفوظا أن يدل على أن الطلقة في الخلع تقع بائنة لا أن الخلع يكون طلاقا بائنا وبين الأمرين فرق ظاهر .

والذي يدل على أنه ليس بطلاق أن الله سبحانه وتعالى رتب على الطلاق بعد الدخول الذي لم يستوف عدده ثلاثة أحكام كلها منتفية عن الخلع

أحدها : أن الزوج أحق بالرجعة فيه .

الثاني : أنه محسوب من الثلاث فلا تحل بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة .

الثالث أن العدة فيه ثلاثة قروء .

وقد ثبت بالنص والإجماع أنه لا رجعة في الخلع وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة وثبت بالنص جوازه بعد طلقتين ووقوع ثالثة بعده وهذا ظاهر جدا في كونه ليس بطلاق فإنه سبحانه قال الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة 229 ] وهذا وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين فإنه يتناولها وغيرهما ولا يجوز أن يعود الضمير إلى من لم يذكر ويخلى منه المذكور بل إما أن يختص بالسابق أو يتناوله وغيره .

ثم قال فإن طلقها فلا تحل له من بعد وهذا يتناول من طلقت بعد فدية وطلقتين قطعا لأنها هي المذكورة فلا بد من دخولها تحت اللفظ وهكذا فهم ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الله تأويل القرآن وهي دعوة مستجابة بلا شك .

وإذا كانت أحكام الفدية غير أحكام الطلاق دل على أنها من غير جنسه فهذا مقتضى النص والقياس وأقوال الصحابة ثم من نظر إلى حقائق العقود ومقاصدها دون ألفاظها يعد الخلع فسخا بأي لفظ كان حتى بلفظ الطلاق وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد وهو اختيار شيخنا . قال وهذا ظاهر كلام أحمد وكلام ابن عباس وأصحابه . قال ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول ما أجازه المال فليس بطلاق .

قال عبد الله بن أحمد رأيت أبي كان يذهب إلى قول ابن عباس . وقال عمرو عن طاووس عن ابن عباس الخلع تفريق وليس بطلاق وقال ابن جريج عن ابن طاووس كان أبي لا يرى الفداء طلاقا ويخيره .

ومن اعتبر الألفاظ ووقف معها واعتبرها في أحكام العقود جعله بلفظ الطلاق طلاقا وقواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها وبالله التوفيق .

ومما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثابت بن قيس أن يطلق امرأته في الخلع تطليقة ومع هذا أمرها أن تعتد بحيضة وهذا صريح في أنه فسخ ولو وقع بلفظ الطلاق .

وأيضا فإنه سبحانه علق عليه أحكام الفدية بكونه فدية ومعلوم أن الفدية لا تختص بلفظ ولم يعين الله سبحانه لها لفظا معينا وطلاق الفداء طلاق مقيد ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطلق كما لا يدخل تحتها في ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة وبالله التوفيق .



ذكر أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق
ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في طلاق الهازل وزائل العقل والمكره والتطليق في نفسه
في " السنن " : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة . وفيها : عنه من حديث ابن عباس " : إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . وفيها : عنه صلى الله عليه وسلم لا طلاق ولا عتاق في إغلاق . وصح عنه أنه قال للمقر بالزنى : أبك جنون ؟ . وثبت عنه أنه أمر به أن يستنكه .

وذكر البخاري في " صحيحه " : عن علي أنه قال لعمر ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاث عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ . وفي " الصحيح " عنه صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به .



[ النية والقصد عفو غير لازم إن لم ينطق بها اللسان ]

فتضمنت هذه السنن أن ما لم ينطق به اللسان من طلاق أو عتاق أو يمين أو نذر ونحو ذلك عفو غير لازم بالنية والقصد وهذا قول الجمهور وفي المسألة قولان آخران .

أحدهما : التوقف فيها قال عبد الرزاق عن معمر سئل ابن سيرين عمن طلق في نفسه فقال أليس قد علم الله ما في نفسك ؟ قال بلى قال فلا أقول فيها شيئا .

والثاني : وقوعه إذا جزم عليه وهذا رواية أشهب عن مالك وروي عن الزهري وحجة هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وأن من كفر في نفسه فهو كفر وقوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ البقرة 248 ] وأن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها وبأن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح ولهذا يثاب على الحب والبغض والموالاة والمعاداة في الله وعلى التوكل والرضى والعزم على الطاعة ويعاقب على الكبر والحسد والعجب والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء .

ولا حجة في شيء من هذا على وقوع الطلاق والعتاق بمجرد النية من غير تلفظ أما حديث الأعمال بالنيات فهو حجة عليهم لأنه أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر لا النية وحدها وأما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو كافر لزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفرا فإن الإيمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب فما لم يقم بالقلب حصل ضده وهو الكفر وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم حصل الجهل وكذلك كل نقيضين زال أحدهما خلفه الآخر .

وأما الآية فليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع وإنما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه ثم هو مغفور له أو معذب فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية . وأما أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ فهذا إنما هو فيمن عمل المعصية ثم أصر عليها فهنا عمل اتصل به العزم على معاودته فهذا هو المصر وأما من عزم على المعصية ولم يعملها فهو بين أمرين إما أن لا تكتب عليه وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز وجل . وإما الثواب والعقاب على أعمال القلوب فحق والقرآن والسنة مملوءان به ولكن وقوع الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب ولا تلازم بين الأمرين فإن ما يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاص قلبية يستحق العقوبة عليها كما يستحقه على المعاصي البدنية إذ هي منافية لعبودية القلب فإن الكبر والعجب والرياء وظن السوء محرمات على القلب وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها فيستحق العقوبة على فعلها وهي أسماء لمعان مسمياتها قائمة بالقلب .

وأما العتاق والطلاق فاسمان لمسميين قائمين باللسان أو ما ناب عنه من إشارة أو كتابة وليسا اسمين لما في القلب مجردا عن النطق .




[ كلام الهازل بالطلاق والنكاح والرجعة معتبر ]
وتضمنت أن المكلف إذا هزل بالطلاق أو النكاح أو الرجعة لزمه ما هزل به فدل ذلك على أن كلام الهازل معتبر وإن لم يعتبر كلام النائم والناسي وزائل العقل والمكره والفرق بينهما أن الهازل قاصد للفظ غير مريد لحكمه وذلك ليس إليه فإنما إلى المكلف الأسباب وأما ترتب مسبباتها وأحكامها فهو إلى الشارع قصده المكلف أو لم يقصده والعبرة بقصده السبب اختيارا في حال عقله وتكليفه فإذا قصده رتب الشارع عليه حكمه جد به أو هزل وهذا بخلاف النائم والمبرسم والمجنون والسكران وزائل العقل فإنهم ليس لهم قصد صحيح وليسوا مكلفين فألفاظهم لغو بمنزلة ألفاظ الطفل الذي لا يعقل معناها ولا يقصده .

وسر المسألة الفرق بين من قصد اللفظ وهو عالم به ولم يرد حكمه وبين من لم يقصد اللفظ ولم يعلم معناه فالمراتب التي اعتبرها الشارع أربعة

إحداها : أن لا يقصد الحكم ولا يتلفظ به .

الثانية . أن لا يقصد اللفظ ولا حكمه .

الثالثة أن يقصد اللفظ دون حكمه .



[ ما يباح للمكره وما لا يباح ]

الرابعة أن يقصد اللفظ والحكم فالأوليان لغو والآخرتان معتبرتان . هذا الذي استفيد من مجموع نصوصه وأحكامه وعلى هذا فكلام المكره كله لغو لا عبرة به وقد دل القرآن على أن من أكره على التكلم بكلمة الكفر لا يكفر ومن أكره على الإسلام لا يصير به مسلما ودلت السنة على أن الله سبحانه تجاوز عن المكره فلم يؤاخذه بما أكره عليه وهذا يراد به كلامه قطعا وأما أفعاله ففيها تفصيل فما أبيح منها بالإكراه فهو متجاوز عنه كالأكل في نهار رمضان والعمل في الصلاة ولبس المخيط في الإحرام ونحو ذلك وما لا يباح بالإكراه فهو مؤاخذ به كقتل المعصوم وإتلاف ماله وما اختلف فيه كشرب الخمر والزنى والسرقة هل يحد به أو لا ؟ فالاختلاف هل يباح ذلك بالإكراه أو لا ؟ فمن لم يبحه حده به ومن أباحه بالإكراه لم يحده وفيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد .

[ عدم وقوع الطلاق بلفظ لم يقصد به الطلاق ]
والفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه أن الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتها بل مفسدتها معها بخلاف الأقوال فإنها يمكن إلغاؤها . وجعلها بمنزلة أقوال النائم والمجنون فمفسدة الفعل الذي لا يباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول فإنها إنما تثبت إذا كان قائله عالما به مختارا له . وقد روى وكيع عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن خيثمة عن عبد الرحمن قال قالت امرأة لزوجها : سمني فسماها الظبية فقالت ما قلت شيئا قال فهات ما أسميك به قالت سمني خلية طالقا قال أنت خلية طالق فأتت عمر بن الخطاب فقالت إن زوجي طلقني فجاء زوجها فقص عليه القصة فأوجع عمر رأسها وقال لزوجها : خذ بيدها وأوجع رأسها

فهذا الحكم من أمير المؤمنين بعدم الوقوع لما لم يقصد الزوج اللفظ الذي يقع به الطلاق بل قصد لفظا لا يريد به الطلاق فهو كما لو قال لأمته أو غلامه إنها حرة وأراد أنها ليست بفاجرة أو قال لامرأته أنت مسرحة أو سرحتك ومراده تسريح الشعر ونحو ذلك فهذا لا يقع عتقه ولا طلاقه بينه وبين الله تعالى وإن قامت قرينة أو تصادقا في الحكم لم يقع به .



[الحلف بالطلاق ]
فإن قيل فهذا من أي الأقسام ؟ فإنكم جعلتم المراتب أربعة ومعلوم أن هذا ليس بمكره ولا زائل العقل ولا هازل ولا قاصد لحكم اللفظ ؟ قيل هذا متكلم باللفظ مريد به أحد معنييه فلزم حكم ما أراده بلفظه دون ما لم يرده فلا يلزم بما لم يرده باللفظ إذا كان صالحا لما أراده وقد استحلف النبي صلى الله عليه وسلم ركانة لما طلق امرأته البتة فقال ما أردت ؟ قال واحدة قال آلله قال آلله قال هو ما أردت فقبل منه نيته في اللفظ المحتمل . وقد قال مالك : إذا قال أنت طالق البتة وهو يريد أن يحلف على شيء ثم بدا له فترك اليمين فليست طالقا لأنه لم يرد أن يطلقها وبهذا أفتى الليث بن سعد والإمام أحمد حتى إن أحمد في رواية عنه يقبل منه ذلك في الحكم .

وهذه المسألة لها ثلاث صور

إحداها : أن يرجع عن يمينه ولم يكن التنجيز مراده فهذه لا تطلق عليه في الحال ولا يكون حالفا .

الثانية أن يكون مقصوده اليمين لا التنجيز فيقول أنت طالق ومقصوده إن كلمت زيدا .

الثالثة أن يكون مقصوده اليمين من أول كلامه ثم يرجع عن اليمين في أثناء الكلام ويجعل الطلاق منجزا فهذا لا يقع به لأنه لم ينو به الإيقاع وإنما نوى به التعليق فكان قاصرا عن وقوع المنجز فإذا نوى التنجيز بعد ذلك لم يكن قد أتى في التنجيز بغير النية المجردة وهذا قول أصحاب أحمد . وقد قال تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم [ البقرة 225 ]

[ اللغو في اليمين ]

واللغو نوعان أحدهما : أن يحلف على الشيء يظنه كما حلف عليه فيتبين بخلافه . والثاني : أن تجري اليمين على لسانه من غير قصد للحلف كلا والله وبلى والله في أثناء كلامه وكلاهما رفع الله المؤاخذة به لعدم قصد الحالف إلى عقد اليمين وحقيقتها وهذا تشريع منه سبحانه لعباده ألا يرتبوا الأحكام على الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها حقائقها ومعانيها وهذا غير الهازل حقيقة وحكما .




[ لا يقع طلاق المكره وإقراره ]
وقد أفتى الصحابة بعدم وقوع طلاق المكره وإقراره فصح عن عمر أنه قال ليس الرجل بأمين على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته وصح عنه أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا فأتت امرأته فقالت لأقطعن الحبل أو لتطلقني فناشدها الله فأبت فطلقها فأتى عمر فذكر له ذلك فقال له ارجع إلى امرأتك فإن هذا ليس بطلاق . وكان علي لا يجيز طلاق المكره وقال ثابت الأعرج : سألت ابن عمر وابن الزبير عن طلاق المكره فقالا جميعا : ليس بشيء .

فإن قيل فما تصنعون بما رواه الغازي بن جبلة عن صفوان بن عمران الأصم عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا جلست امرأته على صدره وجعلت السكين على حلقه وقالت له طلقني أو لأذبحنك فناشدها فأبت فطلقها ثلاثا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لا قيلولة في الطلاق رواه سعيد بن منصور في " سننه " .

وروى عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله

وروى سعيد بن منصور : حدثنا فرج بن فضالة حدثني عمرو بن شراحيل المعافري أن امرأة استلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت والله لأنفذنك أو لتطلقني فطلقها ثلاثا فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأمضى طلاقها . وقال علي كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه

قيل أما خبر الغازي بن جبلة ففيه ثلاث علل . إحداها : ضعف صفوان بن عمرو والثانية لين الغازي بن جبلة والثالثة تدليس بقية الراوي عنه ومثل هذا لا يحتج به . قال أبو محمد ابن حزم : وهذا خبر في غاية السقوط .

وأما حديث ابن عباس : كل الطلاق جائز فهو من رواية عطاء بن عجلان وضعفه مشهور وقد رمي بالكذب . قال أبو محمد ابن حزم : وهذا الخبر شر من الأول .

وأما أثر عمر فالصحيح عنه خلافه كما تقدم ولا يعلم معاصرة المعافري لعمر وفرج بن فضالة فيه ضعف .

وأما أثر علي فالذي رواه عنه الناس أنه كان لا يجيز طلاق المكره وروى عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان لا يجيز طلاق المكره . فإن صح عنه ما ذكرتم فهو عام مخصوص بهذا .




فصل [ طلاق السكران ]
وأما طلاق السكران فقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون [ النساء 43 ] فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول وصح عنه أنه أمر بالمقر بالزنى أن يستنكه ليعتبر قوله الذي أقر به أو يلغى .

وفي " صحيح البخاري " في قصة حمزة لما عقر بعيري علي فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه يلومه فصعد فيه النظر وصوبه وهو سكران ثم قال هل أنتم إلا عبيد لأبي فنكص النبي صلى الله عليه وسلم على عقبيه . وهذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرا ولم يؤاخذ بذلك حمزة .

وصح عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال ليس لمجنون ولا سكران طلاق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبان بن عثمان عن أبيه .

وقال عطاء طلاق السكران لا يجوز وقال ابن طاووس عن أبيه طلاق السكران لا يجوز وقال القاسم بن محمد : لا يجوز طلاقه .

وصح عن عمر بن عبد العزيز أنه أتي بسكران طلق فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو لقد طلقها وهو لا يعقل فحلف فرد إليه امرأته وضربه الحد .

وهو مذهب يحيى بن سعيد الأنصاري وحميد بن عبد الرحمن وربيعة والليث بن سعد وعبد الله بن الحسن وإسحاق بن راهويه وأبي ثور والشافعي في أحد قوليه واختاره المزني وغيره من الشافعية ومذهب أحمد في إحدى الروايات عنه وهي التي استقر عليها مذهبه وصرح برجوعه إليها فقال في رواية أبي طالب الذي لا يأمر بالطلاق إنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا وأنا أتقي جميعا . وقال في رواية الميموني : قد كنت أقول إن طلاق السكران يجوز حتى تبينته فغلب علي أنه لا يجوز طلاقه لأنه لو أقر لم يلزمه ولو باع لم يجز بيعه قال وألزمه الجناية وما كان من غير ذلك فلا يلزمه . قال أبو بكر عبد العزيز وبهذا أقول وهذا مذهب أهل الظاهر كلهم واختاره من الحنفية أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي .




[ حجج من أوقع طلاق السكران ]
والذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ

أحدها : أنه مكلف ولهذا يؤاخذ بجناياته .

والثاني : أن إيقاع الطلاق عقوبة له .

والثالث أن ترتب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها فلا يؤثر فيه السكر .

والرابع أن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه فإنهم قالوا : إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون . والخامس حديث لا قيلولة في الطلاق وقد تقدم .

السادس حديث كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه وقد تقدم .

والسابع أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق فرواه أبو عبيد عن عمر ومعاوية ورواه غيره عن ابن عباس . قال أبو عبيد : حدثنا يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عن الزبير بن الحارث عن أبي لبيد أن رجلا طلق امرأته وهو سكران فرفع إلى عمر بن الخطاب وشهد عليه أربع نسوة ففرق عمر بينهما .

قال وحدثنا ابن أبي مريم عن نافع بن يزيد عن جعفر بن ربيعة عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن معاوية أجاز طلاق السكران . هذا جميع ما احتجوا به وليس في شيء منه حجة أصلا .




[ الرد على حجج من أوقع طلاق السكران ]
فأما المأخذ الأول وهو أنه مكلف فباطل إذ الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف .

وأيضا فلو كان مكلفا لوجب أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها أو غير عالم بأنها خمر وهم لا يقولون به .

وأما خطابه فيجب حمله على الذي يعقل الخطاب أو على الصاحي وأنه نهي عن السكر إذا أراد الصلاة وأما من لا يعقل فلا يؤمر ولا ينهى .

وأما إلزامه بجناياته فمحل نزاع لا محل وفاق فقال عثمان البتي : لا يلزمه عقد ولا بيع ولا حد إلا حد الخمر فقط وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون في كل فعل يعتبر له العقل . والذين اعتبروا أفعاله دون أقواله فرقوا بفرقين أحدهما : أن إسقاط أفعاله ذريعة إلى تعطيل القصاص إذ كل من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة أو الحراب سكر وفعل ذلك فيقام عليه الحد إذا أتى جرما واحدا فإذا تضاعف جرمه بالسكر كيف يسقط عنه الحد ؟ هذا مما تأباه قواعد الشريعة وأصولها وقال أحمد منكرا على من قال ذلك وبعض من يرى طلاق السكران ليس بجائز يزعم أن السكران لو جنى جناية أو أتى حدا أو ترك الصيام أو الصلاة كان بمنزلة المبرسم والمجنون هذا كلام سوء .

والفرق الثاني : أن إلغاء أقواله لا يتضمن مفسدة لأن القول المجرد من غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال فإن مفاسدها لا يمكن إلغاؤها إذا وقعت فإلغاء أفعاله ضرر محض وفساد منتشر بخلاف أقواله فإن صح هذان الفرقان بطل الإلحاق وإن لم يصحا كانت التسوية بين أقواله وأفعاله متعينة .

وأما المأخذ الثاني - وهو أن إيقاع الطلاق به عقوبة له - ففي غاية الضعف فإن الحد يكفيه عقوبة وقد حصل رضى الله سبحانه من هذه العقوبة بالحد ولا عهد لنا في الشريعة بالعقوبة بالطلاق والتفريق بين الزوجين .

وأما المأخذ الثالث أن إيقاع الطلاق به من ربط الأحكام بالأسباب ففي غاية الفساد والسقوط فإن هذا يوجب إيقاع الطلاق ممن سكر مكرها أو جاهلا بأنها خمر وبالمجنون والمبرسم بل وبالنائم ثم يقال وهل ثبت لكم أن طلاق السكران سبب حتى يربط الحكم به وهل النزاع إلا في ذلك ؟ .

وأما المأخذ الرابع وهو أن الصحابة جعلوه كالصاحي في قولهم إذا شرب سكر وإذا سكر هذى . فهو خبر لا يصح البتة . قال أبو محمد ابن حزم وهو خبر مكذوب قد نزه الله عليا وعبد الرحمن بن عوف منه وفيه من المناقضة ما يدل على بطلانه فإن فيه إيجاب الحد على من هذى والهاذي لا حد عليه .

وأما المأخذ الخامس وهو حديث لا قيلولة في الطلاق فخبر لا يصح ولو صح لوجب حمله على طلاق مكلف يعقل دون من لا يعقل ولهذا لم يدخل فيه طلاق المجنون والمبرسم والصبي .

وأما المأخذ السادس وهو خبر كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه فمثله سواء لا يصح ولو صح لكان في المكلف وجواب ثالث أن السكران الذي لا يعقل إما معتوه وإما ملحق به وقد ادعت طائفة أنه معتوه . قالوا : المعتوه في اللغة الذي لا عقل له ولا يدري ما يتكلم به .

وأما المأخذ السابع وهو أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق فالصحابة مختلفون في ذلك فصح عن عثمان ما حكيناه عنه .

وأما أثر ابن عباس فلا يصح عنه لأنه من طريقين في أحدهما الحجاج بن أرطاة وفي الثانية إبراهيم بن أبي يحيى وأما ابن عمر ومعاوية فقد خالفهما عثمان بن عفان .



فصل [ طلاق الإغلاق ]
وأما طلاق الإغلاق فقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل وحديث عائشة رضي الله عنها : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا طلاق ولا عتاق في إغلاق يعني الغضب هذا نص أحمد حكاه عنه الخلال وأبو بكر في " الشافي " و " زاد المسافر " . فهذا تفسير أحمد .

وقال أبو داود في " سننه " : أظنه الغضب وترجم عليه " باب الطلاق على غلط " . وفسره أبو عبيد وغيره بأنه الإكراه وفسره غيرهما : بالجنون وقيل هو نهي عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعة واحدة فيغلق عليه الطلاق حتى لا يبقى منه شيء كغلق الرهن حكاه أبو عبيد الهروي .

قال شيخنا وحقيقة الإغلاق أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته . قلت : قال أبو العباس المبرد : الغلق ضيق الصدر وقلة الصبر بحيث لا يجد مخلصا قال شيخنا : ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون ومن زال عقله بسكر أو غضب وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال .

والغضب على ثلاثة أقسام . أحدها : ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع .

والثاني : ما يكون في مباديه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده فهذا يقع طلاقه .

الثالث أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال فهذا محل نظر وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه .



حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق قبل النكاح
في " السنن " : من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك قال الترمذي : هذا حديث حسن وهو أحسن شيء في هذا الباب وسألت محمد بن إسماعيل فقلت : أي شيء أصح في الطلاق قبل النكاح ؟ فقال حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .

وروى أبو داود : لا بيع إلا فيما يملك ولا وفاء نذر إلا فيما يملك وفي " سنن ابن ماجه " : عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا طلاق قبل النكاح ولا عتق قبل ملك

وقال وكيع : حدثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن المنكدر وعطاء بن أبي رباح كلاهما عن جابر بن عبد الله يرفعه لا طلاق قبل نكاح

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال سمعت عطاء يقول قال ابن عباس رضي الله عنه لا طلاق إلا من بعد نكاح

قال ابن جريج : بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال ابن عباس : أخطأ في هذا إن الله تعالى يقول : إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن [ الأحزاب 49 ] ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن .

وذكر أبو عبيد : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فقال علي ليس طلاق إلا من بعد ملك

وثبت عنه رضي الله عنه أنه قال لا طلاق إلا من بعد نكاح وإن سماها وهذا قول عائشة وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحابهم وداود وأصحابه وجمهور أهل الحديث .

ومن حجة هذا القول أن القائل إن تزوجت فلانة فهي طالق مطلق لأجنبية وذلك محال فإنها حين الطلاق المعلق أجنبية والمتجدد هو نكاحها والنكاح لا يكون طلاقا فعلم أنها لو طلقت فإنما يكون ذلك استنادا إلى الطلاق المتقدم معلقا وهي إذ ذاك أجنبية وتجدد الصفة لا يجعله متكلما بالطلاق عند وجودها فإنه عند وجودها مختار للنكاح غير مريد للطلاق فلا يصح كما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وهي زوجته لم تطلق بغير خلاف .




[ الفرق بين تعليق الطلاق وتعليق العتق ]
فإن قيل فما الفرق بين تعليق الطلاق وتعليق العتق ؟ فإنه لو قال إن ملكت فلانا فهو حر صح التعليق وعتق بالملك ؟ .

قيل في تعليق العتق قولان وهما روايتان عن أحمد كما عنه روايتان في تعليق الطلاق والصحيح من مذهبه الذي عليه أكثر نصوصه وعليه أصحابه صحة تعليق العتق دون الطلاق والفرق بينهما أن العتق له قوة وسراية ولا يعتمد نفوذ الملك فإنه ينفذ في ملك الغير ويصح أن يكون الملك سببا لزواله بالعتق عقلا وشرعا كما يزول ملكه بالعتق عن ذي رحمه المحرم بشرائه وكما لو اشترى عبدا ليعتقه في كفارة أو نذر أو اشتراه بشرط العتق وكل هذا يشرع فيه جعل الملك سببا للعتق فإنه قربة محبوبة لله تعالى فشرع الله سبحانه التوسل إليه بكل وسيلة مفضية إلى محبوبه وليس كذلك الطلاق فإنه بغيض إلى الله وهو أبغض الحلال إليه ولم يجعل ملك البضع بالنكاح سببا لإزالته البتة وفرق ثان أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القرب والطاعات والتبرر كقوله لئن آتاني الله من فضله لأتصدقن بكذا وكذا فإذا وجد الشرط لزمه ما علقه به من الطاعة المقصودة فهذا لون وتعليق الطلاق على الملك لون آخر .

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
في تحريم طلاق الحائض والنفساء والموطوءة في طهرها
وتحريم إيقاع الثلاث جملة
في " الصحيحين " أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء يطلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء .

ولمسلم مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا .

وفي لفظ إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس فذلك الطلاق للعدة كما أمره الله تعالى . وفي لفظ للبخاري مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها .

وفي لفظ لأحمد وأبي داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما : قال طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك .

وقال ابن عمر رضي الله عنه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن " [ الطلاق 1 ] .




[ أنواع الطلاق من حيث الحل والحرمة ]
فتضمن هذا الحكم أن الطلاق على أربعه أوجه وجهان حلال ووجهان حرام .

فالحلالان أن يطلق امرأته طاهرا من غير جماع أو يطلقها حاملا مستبينا حملها .

والحرامان أن يطلقها وهي حائض أو يطلقها في طهر جامعها فيه هذا في طلاق المدخول بها .

وأما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضا وطاهرا كما قال تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [ البقرة 236 ] . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ الأحزاب 49 ] وقد دل على هذا قوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق ا ] وهذه لا عدة لها ونبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ولولا هاتان الآيتان اللتان فيهما إباحة الطلاق قبل الدخول لمنع من طلاق من لا عدة له عليها .

وفي " سنن النسائي " وغيره من حديث محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان فقال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال يا رسول الله أفلا أقتله .

وفي " الصحيحين " : عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن الطلاق قال أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت الله فيما أمرك من طلاق امرأتك فتضمنت هذه النصوص أن المطلقة نوعان مدخول بها وغير مدخول بها وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثا مجموعة ويجوز تطليق غير المدخول بها طاهرا وحائضا . وأما المدخول بها فإن كانت حائضا أو نفساء حرم طلاقها وإن كانت طاهرا فإن كانت مستبينة الحمل جاز طلاقها بعد الوطء وقبله وإن كانت حائلا لم يجز طلاقها بعد الوطء في طهر الإصابة ويجوز قبله . هذا الذي شرعه الله على لسان رسوله من الطلاق وأجمع المسلمون على وقوع الطلاق الذي أذن الله فيه وأباحه إذا كان من مكلف مختار عالم بمدلول اللفظ قاصد له .




[الاختلاف في وقوع المحرم من الطلاق ]
واختلفوا في وقوع المحرم من ذلك وفيه مسألتان .

المسألة الأولى : الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي واقعها فيه .

المسألة الثانية في جمع الثلاث ونحن نذكر المسألتين تحريرا وتقريرا كما ذكرناهما تصويرا ونذكر حجج الفريقين ومنتهى أقدام الطائفتين مع العلم بأن المقلد المتعصب لا يترك من قلده ولو جاءته كل آية وأن طالب الدليل لا يأتم بسواه ولا يحكم إلا إياه ولكل من الناس مورد لا يتعداه وسبيل لا يتخطاه ولقد عذر من حمل ما انتهت إليه قواه وسعى إلى حيث انتهت إليه خطاه .

[هل يقع الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي واقعها فيه ]

فأما المسألة الأولى فإن الخلاف في وقوع الطلاق المحرم لم يزل ثابتا بين السلف والخلف وقد وهم من ادعى الإجماع على وقوعه وقال بمبلغ علمه وخفي عليه من الخلاف ما اطلع عليه غيره وقد قال الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فهو كاذب وما يدريه لعل الناس اختلفوا .

كيف والخلاف بين الناس في هذه المسألة معلوم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين ؟ قال محمد بن عبد السلام الخشني : حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته وهي حائض . قال ابن عمر لا يعتد بذلك ذكره أبو محمد بن حزم في " المحلى " بإسناده إليه .

وقال عبد الرزاق في " مصنفه " : عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أنه قال كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول وجه الطلاق أن يطلقها طاهرا من غير جماع وإذا استبان حملها

وقال الخشني حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا همام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال لا يعتد بها قال أبو محمد بن حزم : والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم غير رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسن منا عن ابن عمر وروايتين ساقطتين عن عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما . إحداهما : رويناها من طريق ابن وهب عن ابن سمعان عن رجل أخبره أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقضي في المرأة التي يطلقها زوجها وهي حائض أنها لا تعتد بحيضتها تلك وتعتد بعدها بثلاثة قروء .

قلت : وابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سمعان الكذاب وقد رواه عن مجهول لا يعرف . قال أبو محمد : والأخرى من طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن قيس بن سعد مولى أبي علقمة عن رجل سماه عن زيد بن ثابت أنه قال فيمن طلق امرأته وهي حائض يلزمه الطلاق وتعتد بثلاث حيض سوى تلك الحيضة

قال أبو محمد بل نحن أسعد بدعوى الإجماع ها هنا لو استجزنا ما يستجيزون ونعوذ بالله من ذلك وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم قاطبة ومن جملتهم جميع المخالفين لنا في ذلك أن الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة لأمره فإذا كان لا شك في هذا عندهم فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التي يقرون أنها بدعة وضلالة أليس بحكم المشاهدة مجيز البدعة مخالفا لإجماع القائلين بأنها بدعة ؟ قال أبو محمد : وحتى لو لم يبلغنا الخلاف لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده ولا بلغه عن جميعهم كاذبا على جميعهم .



[أدلة المانعين من وقوع الطلاق المحرم ]
قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين مثله من كتاب أو سنة أو إجماع متيقن . فإذا أوجدتمونا واحدا من هذه الثلاثة رفعنا حكم النكاح لا سبيل إلى رفعه بغير ذلك . قالوا : وكيف والأدلة المتكاثرة تدل على عدم وقوعه فإن هذا الطلاق لم يشرعه الله تعالى البتة ولا أذن فيه فليس في شرعه فكيف يقال بنفوذه وصحته ؟ .

قالوا : وإنما يقع من الطلاق المحرم ما ملكه الله تعالى للمطلق ولهذا لا يقع به الرابعة لأنه لم يملكها إياه ومن المعلوم أنه لم يملكه الطلاق المحرم ولا أذن له فيه فلا يصح ولا يقع .

قالوا : ولو وكل وكيلا أن يطلق امرأته طلاقا جائزا فطلق طلاقا محرما لم يقع لأنه غير مأذون له فيه فكيف كان إذن المخلوق معتبرا في صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع ومن المعلوم أن المكلف إنما يتصرف بالإذن فما لم يأذن به الله ورسوله لا يكون محلا للتصرف البتة .

قالوا : وأيضا فالشارع قد حجر على الزوج أن يطلق في حال الحيض أو بعد الوطء في الطهر فلو صح طلاقه لم يكن لحجر الشارع معنى وكان حجر القاضي على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يبطل التصرف بحجره .

قالوا : وبهذا أبطلنا البيع وقت النداء يوم الجمعة لأنه بيع حجر الشارع على بائعه هذا الوقت فلا يجوز تنفيذه وتصحيحه .

قالوا : ولأنه طلاق محرم منهي عنه فالنهي يقتضي فساد المنهي عنه فلو صححناه لكان لا فرق بين المنهي عنه والمأذون فيه من جهة الصحة والفساد . قالوا : وأيضا فالشارع إنما نهى عنه وحرمه لأنه يبغضه ولا يحب وقوعه بل وقوعه مكروه إليه فحرمه لئلا يقع ما يبغضه ويكرهه وفي تصحيحه وتنفيذه ضد هذا المقصود .

قالوا : وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي فما الفرق بينه وبين الطلاق وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح وصححتم ما حرمه ونهى عنه من الطلاق والنهي يقتضي البطلان في الموضعين ؟ .

قالوا : ويكفينا من هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم العام الذي لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغاءه كما في " الصحيح " عنه من حديث عائشة رضي الله عنها : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وفي رواية من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

وهذا صريح أن هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم مردود باطل فكيف يقال إنه صحيح لازم نافذ ؟ فأين هذا من الحكم برده ؟ .

قالوا : وأيضا فإنه طلاق لم يشرعه الله أبدا وكان مردودا باطلا كطلاق الأجنبية ولا ينفعكم الفرق بأن الأجنبية ليست محلا للطلاق بخلاف الزوجة فإن هذه الزوجة ليست محلا للطلاق المحرم ولا هو مما ملكه الشارع إياه .

قالوا : وأيضا فإن الله سبحانه إنما أمر بالتسريح بإحسان ولا أشر من التسريح الذي حرمه الله ورسوله وموجب عقد النكاح أحد أمرين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان والتسريح المحرم أمر ثالث غيرهما فلا عبرة به البتة .

قالوا : وقد قال الله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم المبين عن الله مراده من كلامه أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاق في زمن الطهر الذي لم يجامع فيه أو بعد استبانة الحمل وما عداهما فليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها فلا يكون طلاقا فكيف تحرم المرأة به ؟ .

قالوا : وقد قال تعالى : الطلاق مرتان [ البقرة 269 ] ومعلوم أنه إنما أراد الطلاق المأذون فيه وهو الطلاق للعدة فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق فإنه حصر الطلاق المشروع المأذون فيه الذي يملك به الرجعة في مرتين فلا يكون ما عداه طلاقا . قالوا : ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يقولون إنهم لا طاقة لهم بالفتوى في الطلاق المحرم كما روى ابن وهب عن جرير بن حازم عن الأعمش أن ابن مسعود رضي الله عنه قال من طلق كما أمره الله فقد بين الله له ومن خالف فإنا لا نطيق خلافه ولو وقع طلاق المخالف لم يكن الإفتاء به غير مطاق لهم ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعان واقعين نافذين

وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضا : من أتى الأمر على وجهه فقد بين الله له وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون

وقال بعض الصحابة وقد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة من طلق كما أمر فقد بين له ومن لبس تركناه وتلبيسه

قالوا : ويكفي من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا ؟ فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض قال عبد الله فردها علي ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن

قالوا : وهذا إسناد في غاية الصحة فإن أبا الزبير غير مرفوع عن الحفظ والثقة وإنما يخشى من تدليسه فإذا قال سمعت أو حدثني زال محذور التدليس وزالت العلة المتوهمة وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال " عن " ولم يصرح بالسماع ومسلم يصحح ذلك من حديثه فأما إذا صرح بالسماع فقد زال الإشكال وصح الحديث وقامت الحجة . قالوا : ولا نعلم في خبر أبي الزبير هذا ما يوجب رده وإنما رده من رده استبعادا واعتقادا أنه خلاف الأحاديث الصحيحة ونحن نحكي كلام من رده ونبين أنه ليس فيه ما يوجب الرد .

قال أبو داود : والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير .

وقال الشافعي : ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه .

وقال الخطابي : حديث يونس بن جبير أثبت من هذا يعني قوله مره فليراجعها " وقوله " أرأيت إن عجز واستحمق " ؟ قال فمه

قال ابن عبد البر : وهذا لم ينقله عنه أحد غير أبي الزبير وقد رواه عنه جماعة أجلة فلم يقل ذلك أحد منهم وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بخلاف من هو أثبت منه .

وقال بعض أهل الحديث لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا .

فهذا جملة ما رد به خبر أبي الزبير وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه .

[الرد على من ضعف حديث أبي الزبير ]

أما قول أبي داود الأحاديث كلها على خلافه فليس بأيديكم سوى تقليد أبي داود وأنتم لا ترضون ذلك وتزعمون أن الحجة من جانبكم فدعوا التقليد وأخبرونا أين في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير ؟ فهل فيها حديث واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتسب عليه تلك الطلقة وأمره أن يعتد بها فإن كان ذلك فنعم والله هذا خلاف صريح لحديث أبي الزبير ولا تجدون إلى ذلك سبيلا وغاية ما بأيديكم مره فليراجعها والرجعة تستلزم وقوع الطلاق .

وقول ابن عمر . وقد سئل أتعتد بتلك التطليقة ؟ فقال " أرأيت إن عجز واستحمق " وقول نافع أو من دونه " فحسبت من طلاقها وليس وراء ذلك حرف واحد يدل على وقوعها والاعتداد بها ولا ريب في صحة هذه الألفاظ ولا مطعن فيها وإنما الشأن كل الشأن في معارضتها لقوله فردها علي ولم يرها شيئا وتقديمها عليه ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التي سقناها وعند الموازنة يظهر التفاوت وعدم المقاومة ونحن نذكر ما في كلمة كلمة منها .



[معنى المراجعة في كلام الله ورسوله ]
أما قوله مره فليراجعها فالمراجعة على ثلاث معان .

أحدها : ابتداء النكاح كقوله تعالى : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله [ البقرة 230 ] ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق ها هنا : هو الزوج الثاني وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول وذلك نكاح مبتدأ .

وثانيهما : الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولا كقوله لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلاما خصه به دون ولده رده فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جورا وأخبر أنها لا تصلح وأنها خلاف العدل كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .

ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع فنهاه عن ذلك ورد البيع وليس هذا الرد مستلزما لصحة البيع فإنه بيع باطل بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتة .

وأما قوله أرأيت إن عجز واستحمق فيا سبحان الله أين البيان في هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حسبها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحكام لا تؤخذ بمثل هذا ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حسبها عليه واعتد عليه بها لم يعدل عن الجواب بفعله وشرعه إلى : أرأيت وكان ابن عمر أكره ما إليه " أرأيت " فكيف يعدل للسائل عن صريح السنة إلى لفظة " أرأيت " الدالة على نوع من الرأي سببه عجز المطلق وحمقه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذي أذن الله له فيه والأظهر فيما هذه صفته أنه لا يعتد به وأنه ساقط من فعل فاعله لأنه ليس في دين الله تعالى حكم نافذ سببه العجز والحمق عن امتثال الأمر إلا أن يكون فعلا لا يمكن رده بخلاف العقود المحرمة التي من عقدها على الوجه المحرم فقد عجز واستحمق وحينئذ فيقال هذا أدل على الرد منه على الصحة واللزوم فإنه عقد عاجز أحمق على خلاف أمر الله ورسوله فيكون مردودا باطلا فهذا الرأي والقياس أدل على بطلان طلاق من عجز واستحمق منه على صحته واعتباره .

وأما قوله فحسبت من طلاقها . ففعل مبني لما لم يسم فاعله فإذا سمي فاعله ظهر وتبين هل في حسبانه حجة أو لا ؟ وليس في حسبان الفاعل المجهول دليل البتة . وسواء كان القائل " فحسبت " ابن عمر أو نافعا أو من دونه وليس فيه بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها حتى تلزم الحجة به وتحرم مخالفته فقد تبين أن سائر الأحاديث لا تخالف حديث أبي الزبير وأنه صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئا وسائر الأحاديث مجملة لا بيان فيها .




[رد الموقعين للطلاق على المانعين ]

قال الموقعون لقد ارتقيتم أيها المانعون مرتقى صعبا وأبطلتم أكثر طلاق المطلقين فإن غالبه طلاق بدعي وجاهرتم بخلاف الأئمة ولم تتحاشوا خلاف الجمهور وشذذتم بهذا القول الذي أفتى جمهور الصحابة ومن بعدهم بخلافه والقرآن والسنن تدل على بطلانه . قال تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وهذا يعم كل طلاق وكذلك قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة 228 ] ولم يفرق وكذلك قوله تعالى : الطلاق مرتان وقوله وللمطلقات متاع [ البقرة 241 ] وهذه مطلقة وهي عمومات لا يجوز تخصيصها إلا بنص أو إجماع .

قالوا : وحديث ابن عمر دليل على وقوع الطلاق المحرم من وجوه . أحدها : الأمر بالمراجعة وهي لم شعث النكاح وإنما شعثه وقوع الطلاق .

الثاني : قول ابن عمر فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقها وكيف يظن بابن عمر أنه يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسبها من طلاقها ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئا .

الثالث قول ابن عمر لما قيل له أيحتسب بتلك التطليقة ؟ قال أرأيت إن عجز واستحمق أي عجزه وحمقه لا يكون عذرا له في عدم احتسابه بها .

الرابع أن ابن عمر قال وما يمنعني أن أعتد بها وهذا إنكار منه لعدم الاعتداد بها وهذا يبطل تلك اللفظة التي رواها عنه أبو الزبير إذ كيف يقول ابن عمر : وما يمنعني أن أعتد بها ؟ وهو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ردها عليه ولم يرها شيئا .

الخامس أن مذهب ابن عمر الاعتداد بالطلاق في الحيض وهو صاحب القصة وأعلم الناس بها وأشدهم اتباعا للسنن وتحرجا من مخالفتها . قالوا : وقد روى ابن وهب في " جامعه " حدثنا ابن أبي ذئب أن نافعا أخبرهم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وهي واحدة هذا لفظ حديثه .

قالوا : وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال أرسلنا إلى نافع وهو يترجل في دار الندوة ذاهبا إلى المدينة ونحن مع عطاء هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم

قالوا : وروى حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلق في بدعة ألزمناه بدعته رواه عبد الباقي بن قانع عن زكريا الساجي حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره .

قالوا : وقد تقدم مذهب عثمان بن عفان وزيد بن ثابت في فتواهما بالوقوع .

قالوا : وتحريمه لا يمنع ترتب أثره وحكمه عليه كالظهار فإنه منكر من القول وزور وهو محرم بلا شك وترتب أثره عليه وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفر فهكذا الطلاق البدعي محرم ويترتب عليه أثره إلى أن يراجع ولا فرق بينهما .

قالوا : وهذا ابن عمر يقول للمطلق ثلاثا : حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك فأوقع عليه الطلاق الذي عصى به المطلق ربه عز وجل .

قالوا : وكذلك القذف محرم وترتب عليه أثره من الحد ورد الشهادة وغيرهما .

قالوا : والفرق بين النكاح المحرم والطلاق المحرم أن النكاح عقد يتضمن حل الزوجة وملك بضعها فلا يكون إلا على الوجه المأذون فيه شرعا فإن الأبضاع في الأصل على التحريم ولا يباح منها إلا ما أباحه الشارع بخلاف الطلاق فإنه إسقاط لحقه وإزالة لملكه وذلك لا يتوقف على كون السبب المزيل مأذونا فيه شرعا كما يزول ملكه عن العين بالإتلاف المحرم وبالإقرار الكاذب وبالتبرع المحرم كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصي والآثام .

قالوا : والإيمان أصل العقود وأجلها وأشرفها يزول بالكلام المحرم إذا كان كفرا فكيف لا يزول عقد النكاح بالطلاق المحرم الذي وضع لإزالته .

قالوا : ولو لم يكن معنا في المسألة إلا طلاق الهازل فإنه يقع مع تحريمه لأنه لا يحل له الهزل بآيات الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يتخذون آيات الله هزوا : طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه فطلاق الجاد أولى أن يقع مع تحريمه .

قالوا : وفرق آخر بين النكاح المحرم والطلاق المحرم أن النكاح نعمة فلا تستباح بالمحرمات وإزالته وخروج البضع عن ملكه نقمة فيجوز أن يكون سببها محرما .

قالوا : وأيضا فإن الفروج يحتاط لها والاحتياط يقتضي وقوع الطلاق وتجديد الرجعة والعقد .

قالوا : وقد عهدنا النكاح لا يدخل فيه إلا بالتشديد والتأكيد من الإيجاب والقبول والولي والشاهدين ورضى الزوجة المعتبر رضاها ويخرج منه بأيسر شيء فلا يحتاج الخروج منه إلى شيء من ذلك بل يدخل فيه بالعزيمة ويخرج منه بالشبهة فأين أحدهما من الآخر حتى يقاس عليه .

قالوا : ولو لم يكن بأيدينا إلا قول حملة الشرع كلهم قديما وحديثا : طلق امرأته وهي حائض والطلاق نوعان طلاق سنة وطلاق بدعة وقول ابن عباس رضي الله عنه الطلاق على أربعة أوجه : وجهان حلال ووجهان حرام فهذا الإطلاق والتقسيم دليل على أنه عندهم طلاق حقيقة وشمول اسم الطلاق له كشموله للطلاق الحلال ولو كان لفظا مجردا لغوا لم يكن له حقيقة ولا قيل طلق امرأته فإن هذا اللفظ إذا كان لغوا كان وجوده كعدمه ومثل هذا لا يقال فيه طلق ولا يقسم الطلاق - وهو غير واقع - إليه وإلى الواقع فإن الألفاظ اللاغية التي ليس لها معان ثابتة لا تكون هي ومعانيها قسما من الحقيقة الثابتة لفظا فهذا أقصى ما تمسك به الموقعون وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع .



[رد المانعين على الموقعين ]

قال المانعون من الوقوع الكلام معكم في ثلاث مقامات بها يستبين الحق في المسألة .

المقام الأول بطلان ما زعمتم من الإجماع وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته البتة بل العلم بانتفائه معلوم .

المقام الثاني أن فتوى الجمهور بالقول لا يدل على صحته وقول الجمهور ليس بحجة .

المقام الثالث أن الطلاق المحرم لا يدخل تحت نصوص الطلاق المطلقة التي رتب الشارع عليها أحكام الطلاق فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث كنا أسعد بالصواب منكم في المسألة .

فنقول أما المقام الأول فقد تقدم من حكاية النزاع ما يعلم معه بطلان دعوى الإجماع كيف ولو لم يعلم ذلك لم يكن لكم سبيل إلى إثبات الإجماع الذي تقوم به الحجة وتنقطع معه المعذرة وتحرم معه المخالفة فإن الإجماع الذي يوجب ذلك هو الإجماع القطعي المعلوم .

وأما المقام الثاني : وهو أن الجمهور على هذا القول فأوجدونا في الأدلة الشرعية أن قول الجمهور حجة مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أمته .

ومن تأمل مذاهب العلماء قديما وحديثا من عهد الصحابة وإلى الآن واستقرأ أحوالهم وجدهم مجمعين على تسويغ خلاف الجمهور ووجد لكل منهم أقوالا عديدة انفرد بها عن الجمهور ولا يستثنى من ذلك أحد قط ولكن مستقل ومستكثر فمن شئتم سميتموه من الأئمة تتبعوا ما له من الأقوال التي خالف فيها الجمهور ولو تتبعنا ذلك وعددناه لطال الكتاب به جدا ونحن نحيلكم على الكتب المتضمنة لمذاهب العلماء واختلافهم ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذ إجماعهم على ذلك من اختلافهم ولكن هذا في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد ولا تدفعها السنة الصحيحة الصريحة وأما ما كان هذا سبيله فإنهم كالمتفقين على إنكاره ورده وهذا هو المعلوم من مذاهبهم في الموضعين .

وأما المقام الثالث وهو دعواكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص الطلاق وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم فنسألكم ما تقولون فيمن ادعى دخول أنواع البيع المحرم والنكاح المحرم تحت نصوص البيع والنكاح وقال شمول الاسم للصحيح من ذلك والفاسد سواء بل وكذلك سائر العقود المحرمة إذا ادعى دخولها تحت ألفاظ العقود الشرعية وكذلك العبادات المحرمة المنهي عنها إذا ادعى دخولها تحت الألفاظ الشرعية وحكم لها بالصحة لشمول الاسم لها هل تكون دعواه صحيحة أو باطلة ؟

فإن قلتم صحيحة ولا سبيل لكم إلى ذلك كان قولا معلوم الفساد بالضرورة من الدين وإن قلتم دعواه باطلة تركتم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه وإن قلتم تقبل في موضع وترد في موضع قيل لكم ففرقوا بفرقان صحيح مطرد منعكس معكم به برهان من الله بين ما يدخل من العقود المحرمة تحت ألفاظ النصوص فيثبت له حكم الصحة وبين ما لا يدخل تحتها فيثبت له حكم البطلان وإن عجزتم عن ذلك فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التي يحسن كل أحد مقابلتها بمثلها أو الاعتماد على من يحتج لقوله لا بقوله وإذا كشف الغطاء عما قررتموه في هذه الطريق وجد عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة في الدليل وذلك عين المصادرة على المطلوب فهل وقع النزاع إلا في دخول الطلاق المحرم المنهي عنه تحت قوله وللمطلقات متاع وتحت قوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وأمثال ذلك وهل سلم لكم منازعوكم قط ذلك حتى تجعلوه مقدمة لدليلكم ؟ .

قالوا : وأما استدلالكم بحديث ابن عمر فهو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب منه إلى أن يكون حجة لكم من وجوه

أحدها : صريح قوله فردها علي ولم يرها شيئا وقد تقدم بيان صحته . قالوا : فهذا الصريح الصحيح ليس بأيديكم ما يقاومه في الموضعين بل جميع تلك الألفاظ إما صحيحة غير صريحة وإما صريحة غير صحيحة كما ستقفون عليه .

الثاني : أنه قد صح عن ابن عمر رضي الله عنه بإسناد كالشمس من رواية عبيد الله عن نافع عنه في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال لا يعتد بذلك وقد تقدم .

الثالث أنه لو كان صريحا في الاعتداد به لما عدل به إلى مجرد الرأي . وقوله للسائل أرأيت ؟

الرابع أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر في ذلك اضطرابا شديدا وكلها صحيحة عنه وهذا يدل على أنه لم يكن عنده نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها وإذا تعارضت تلك الألفاظ نظرنا إلى مذهب ابن عمر وفتواه فوجدناه صريحا في عدم الوقوع ووجدنا أحد ألفاظ حديثه صريحا في ذلك فقد اجتمع صريح روايته وفتواه على عدم الاعتداد وخالف في ذلك ألفاظ مجملة مضطربة كما تقدم بيانه .

وأما قول ابن عمر رضي الله عنه وما لي لا أعتد بها وقوله أرأيت إن عجز واستحمق فغاية هذا أن يكون رواية صريحة عنه بالوقوع ويكون عنه روايتان .

وقولكم . كيف يفتي بالوقوع وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ردها عليه ولم يعتد عليه بها ؟ فليس هذا بأول حديث خالفه راويه وله بغيره من الأحاديث التي خالفها راويها أسوة حسنة في تقديم رواية الصحابي ومن بعده على رأيه .

وقد روى ابن عباس حديث بريرة وأن بيع الأمة ليس بطلاقها وأفتى بخلافه فأخذ الناس بروايته وتركوا رأيه وهذا هو الصواب فإن الرواية معصومة عن معصوم والرأي بخلافها كيف وأصرح الروايتين عنه موافقته لما رواه من عدم الوقوع على أن في هذا فقها دقيقا إنما يعرفه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم وفهمهم عن الله ورسوله واحتياطهم للأمة ولعلك تراه قريبا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم في إيقاع الطلاق الثلاث جملة .




وأما قوله في حديث ابن وهب عن ابن أبي ذئب في آخره وهي واحدة فلعمر الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدمنا عليها شيئا ولصرنا إليها بأول وهلة ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده أم ابن أبي ذئب أم نافع فلا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يتيقن أنه من كلامه ويشهد به عليه وترتب عليه الأحكام ويقال هذا من عند الله بالوهم والاحتمال والظاهر أنها من قول من دون ابن عمر رضي الله عنه ومراده بها أن ابن عمر إنما طلقها طلقة واحدة ولم يكن ذلك منه ثلاثا أي طلق ابن عمر رضي الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره .

وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع أن تطليقة عبد الله حسبت عليه فهذا غايته أن يكون من كلام نافع ولا يعرف من الذي حسبها أهو عبد الله نفسه أو أبوه عمر أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوهم والحسبان وكيف يعارض صريح قوله ولم يرها شيئا بهذا المجمل ؟ والله يشهد - وكفى بالله شهيدا - أنا لو تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها عليه لم نتعد ذلك ولم نذهب إلى سواه .

وأما حديث أنس من طلق في بدعة ألزمناه بدعته فحديث باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نشهد بالله أنه حديث باطل عليه ولم يروه أحد من الثقات من أصحاب حماد بن زيد وإنما هو من حديث إسماعيل بن أمية الذارع الكذاب الذي يذرع ويفصل ثم الراوي له عنه عبد الباقي بن قانع وقد ضعفه البرقاني وغيره وكان قد اختلط في آخر عمره وقال الدارقطني : يخطئ كثيرا ومثل هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثه حجة .

وأما إفتاء عثمان بن عفان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما بالوقوع فلو صح ذلك ولا يصح أبدا فإن أثر عثمان فيه كذاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله فإنه من رواية ابن سمعان عن رجل وأثر زيد فيه مجهول عن مجهول قيس بن سعد عن رجل سماه عن زيد فيالله العجب أين هاتان الروايتان من رواية عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله حافظ الأمة عن نافع عن ابن عمر أنه قال لا يعتد بها . فلو كان هذا الأثر من قبلكم لصلتم به وجلتم .

وأما قولكم إن تحريمه لا يمنع ترتب أثره عليه كالظهار فيقال أولا : هذا قياس يدفعه ما ذكرناه من النص وسائر تلك الأدلة التي هي أرجح منه ثم يقال ثانيا : هذا معارض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال تحريمه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح ويقال ثالثا : ليس للظهار جهتان جهة حل وجهة حرمة بل كله حرام فإنه منكر من القول وزور فلا يمكن أن ينقسم إلى حلال جائز وحرام باطل بل هو بمنزلة القذف من الأجنبي والردة فإذا وجد لم يوجد إلا مع مفسدته فلا يتصور أن يقال منه حلال صحيح وحرام باطل بخلاف النكاح والطلاق والبيع فالظهار نظير الأفعال المحرمة التي إذا وقعت قارنتها مفاسدها فترتبت عليها أحكامها وإلحاق الطلاق بالنكاح والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلال وحرام وصحيح وباطل أولى .

وأما قولكم إن النكاح عقد يملك به البضع والطلاق عقد يخرج به فنعم . من أين لكم برهان من الله ورسوله بالفرق بين العقدين في اعتبار حكم أحدهما والإلزام به وتنفيذه وإلغاء الآخر وإبطاله ؟ .

وأما زوال ملكه عن العين بالإتلاف المحرم فذلك ملك قد زال حسا ولم يبق له محل . وأما زواله بالإقرار الكاذب فأبعد . وأبعد فإنا صدقناه ظاهرا في إقراره وأزلنا ملكه بالإقرار المصدق فيه وإن كان كاذبا . وأما زوال الإيمان بالكلام الذي هو كفر فقد تقدم جوابه وأنه ليس في الكفر حلال وحرام .




وأما طلاق الهازل فإنما وقع لأنه صادف محلا وهو طهر لم يجامع فيه فنفذ وكونه هزل به إرادة منه أن لا يترتب أثره عليه وذلك ليس إليه بل إلى الشارع فهو قد أتى بالسبب التام وأراد ألا يكون سببه فلم ينفعه ذلك بخلاف من طلق في غير زمن الطلاق فإنه لم يأت بالسبب الذي نصبه الله سبحانه مفضيا إلى وقوع الطلاق وإنما أتى بسبب من عنده وجعله هو مفضيا إلى حكمه وذلك ليس إليه .

وأما قولكم إن النكاح نعمة فلا يكون سببه إلا طاعة بخلاف الطلاق فإنه من باب إزالة النعم فيجوز أن يكون سببه معصية فيقال قد يكون الطلاق من أكبر النعم التي يفك بها المطلق الغل من عنقه والقيد من رجله فليس كل طلاق نقمة بل من تمام نعمة الله على عباده أن مكنهم من المفارقة بالطلاق إذا أراد أحدهم استبدال زوج مكان زوج والتخلص ممن لا يحبها ولا يلائمها فلم ير للمتحابين مثل النكاح ولا للمتباغضين مثل الطلاق ثم كيف يكون نقمة والله تعالى يقول لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن [ البقرة 236 ] ويقول يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 1 ] ؟ .

وأما قولكم إن الفروج يحتاط لها فنعم وهكذا قلنا سواء فإنا احتطنا وأبقينا الزوجين على يقين النكاح حتى يأتي ما يزيله بيقين فإذا أخطأنا فخطؤنا في جهة واحدة وإن أصبنا فصوابنا في جهتين جهة الزوج الأول وجهة الثاني وأنتم ترتكبون أمرين تحريم الفرج على من كان حلالا له بيقين وإحلاله لغيره فإن كان خطأ فهو خطأ من جهتين فتبين أنا أولى بالاحتياط منكم وقد قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب في طلاق السكران نظير هذا الاحتياط سواء فقال الذي لا يأمر بالطلاق إنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا .

وأما قولكم إن النكاح يدخل فيه بالعزيمة والاحتياط ويخرج منه بأدنى شيء قلنا : ولكن لا يخرج منه إلا بما نصبه الله سببا يخرج به منه وأذن فيه وأما ما ينصبه المؤمن عنده ويجعله هو سببا للخروج منه فكلا . فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة الضيقة المعترك الوعرة المسلك التي يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان وتتضاءل لدى صولتها شجاعة الشجعان وإنما نبهنا على مأخذها وأدلتها ليعلم الغر الذي بضاعته من العلم مزجاة أن هناك شيئا آخر وراء ما عنده وأنه إذا كان ممن قصر في العلم باعه فضعف خلف الدليل وتقاصر عن جنى ثماره ذراعه فليعذر من شمر عن ساق عزمه وحام حول آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها بكل همة وإن كان غير عاذر لمنازعه في قصوره ورغبته عن هذا الشأن البعيد فليعذر منازعه في رغبته عما ارتضاه لنفسه من محض التقليد ولينظر مع نفسه أيهما هو المعذور وأي السعيين أحق بأن يكون هو السعي المشكور والله المستعان وعليه التكلان وهو الموفق للصواب الفاتح لمن أم بابه طالبا لمرضاته من الخير كل باب .




فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة
قد تقدم حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام مغضبا ثم قال " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ " وإسناده على شرط مسلم فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه قال سمعت محمود بن لبيد فذكره ومخرمة ثقة بلا شك وقد احتج مسلم في " صحيحه " بحديثه عن أبيه .

والذين أعلوه قالوا : لم يسمع منه وإنما هو كتاب . . قال أبو طالب سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بن بكير ؟ فقال هو ثقة ولم يسمع من أبيه إنما هو كتاب مخرمة فنظر فيه كل شيء يقول بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة .

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه . وقال في رواية عباس الدوري : هو ضعيف وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه وقال أبو داود : لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا حديث الوتر وقال سعيد بن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة أتيت مخرمة فقلت : حدثك أبوك ؟ قال لم أدرك أبي ولكن هذه كتبه .

والجواب عن هذا من وجهين . أحدهما : أن كتاب أبيه كان عنده محفوظا مضبوطا فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به أو رآه في كتابه بل الأخذ عن النسخة أحوط إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها وهذه طريقة الصحابة والسلف وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك وتقوم عليهم بها الحجة وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعملوا بها واحتجوا بها ودفع الصديق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة إلى أنس بن مالك فحمله وعملت به الأمة وكذلك كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض ويقول المكتوب إليه كتب إلي فلان أن فلانا أخبره ولو بطل الاحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير فإن الاعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ والحفظ خوان والنسخة لا تخون ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة أن أحدا من أهل العلم رد الاحتجاج بالكتاب وقال لم يشافهني به الكاتب فلا أقبله بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كتابه .

الجواب الثاني : أن قول من قال لم يسمع من أبيه معارض بقول من قال سمع منه ومعه زيادة علم وإثبات قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سئل أبي عن مخرمة بن بكير ؟ فقال صالح الحديث . قال وقال ابن أبي أويس وجدت في ظهر كتاب مالك سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه ؟ فحلف لي : ورب هذه البنية - يعني المسجد - سمعت من أبي . وقال علي بن المديني : سمعت معن بن عيسى يقول مخرمة سمع من أبيه وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار وقال علي ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشيء اليسير ولم أجد أحدا بالمدينة يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شيء من حديثه سمعت أبي ومخرمة ثقة . انتهى .

ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في " موطئه " وكان يقول حدثني مخرمة وكان رجلا صالحا . وقال أبو حاتم سألت إسماعيل بن أبي أويس قلت : هذا الذي يقول مالك بن أنس : حدثني الثقة من هو ؟ قال مخرمة بن بكير . وقيل لأحمد بن صالح المصري كان مخرمة من ثقات الرجال ؟ قال نعم وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة أحاديث حسان مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به .

وفي " صحيح مسلم " قول ابن عمر للمطلق ثلاثا : " حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به وتفسير الصحابي حجة. وقال الحاكم : هو عندنا مرفوع .

ومن تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول هو الطلاق الذي يملك به الرجعة ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة قال تعالى : الطلاق مرتان ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره أربعا وثلاثين ونظائره فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال يتلو بعضه بعضا فلو قال سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر أربعا وثلاثين بهذا اللفظ لكان ثلاث مرات فقط . وأصرح من هذا قوله سبحانه والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور 6 ] فلو قال أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كانت مرة وكذلك قوله ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين [ النور 8 ] فلو قالت أشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الكاذبين كانت واحدة وأصرح من ذلك قوله تعالى : سنعذبهم مرتين [ التوبة 101 ] فهذا مرة بعد مرة ولا ينتقض هذا بقوله تعالى : نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب 31 ] وقوله صلى الله عليه وسلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فإن المرتين هنا هما الضعفان وهما المثلان وهما مثلان في القدر كقوله تعالى : يضاعف لها العذاب ضعفين [ الأحزاب 30 ] وقوله فآتت أكلها ضعفين [ البقرة 265 ] أي ضعفي ما يعذب به غيرها وضعفي ما كانت تؤتي ومن هذا قول أنس انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أي شقتين وفرقتين كما قال في اللفظ الآخر انشق القمر فلقتين

وهذا أمر معلوم قطعا أنه إنما انشق القمر مرة واحدة والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة . فالثاني : يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد والأول لا يتصور فيه ذلك .

ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة أنه قال تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى أن قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [ البقرة 228 ] فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا وكذلك قوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن إلى قوله فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فهذا هو الطلاق المشروع وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن وذكر أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع وسماه فدية ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم وذكر الطلاق الرجعي الذي المطلق أحق فيه بالرجعة وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة .

وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة وأنه إذا قال لها : أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية ويلغو وصفها بالبينونة وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض . وأما أبو حنيفة فقال تبين بذلك لأن الرجعة حق له وقد أسقطها والجمهور يقولون وإن كانت الرجعة حقا له لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها وبذلها العوض أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين وهو جواز الخلع بغير عوض .

وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض فخلاف النص والقياس .

قالوا : وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويراجعها وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ففيه إضرار بالمرأة فنسخ سبحانه ذلك بثلاث وقصر الزوج عليها وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلاف شرعه وحكمته وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة بل إنما ملك واحدة فالزائد عليها غير مأذون له فيه .

قالوا : وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف ما شرعه لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف شرعه .

ونكتة المسألة أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين . أحدهما : طلاق غير المدخول بها . والثاني : الطلقة الثالثة وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه الرجعة هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره وهذا قول الجمهور منهم الإمام أحمد والشافعي وأهل الظاهر قالوا : لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع .

ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال أنت طالق طلقة لا رجعة فيها . أحدها : أنها ثلاث قاله ابن الماجشون لأنه قطع حقه من الرجعة وهي لا تنقطع إلا بثلاث فجاءت الثلاث ضرورة . الثاني : أنها واحدة بائنة كما قال هذا قول ابن القاسم لأنه يملك إبانتها بطلقة بعوض فملكها بدونه والخلع عنده طلاق . الثالث أنها واحدة رجعية وهذا قول ابن وهب وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس وعليه الأكثرون .



فصل [هل يقع الطلاق ثلاثا فيمن قاله بكلمة واحدة ]
وأما المسألة الثانية وهي وقوع الثلاث بكلمة واحدة فاختلف الناس فيها على أربعة مذاهب

أحدها : أنها تقع وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة رضي الله عنهم .

الثاني : أنها لا تقع بل ترد لأنها بدعة محرمة والبدعة مردودة لقوله صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا المذهب حكاه أبو محمد ابن حزم وحكي للإمام أحمد فأنكره وقال هو قول الرافضة .

الثالث أنه يقع به واحدة رجعية وهذا ثابت عن ابن عباس ذكره أبو داود عنه . قال الإمام أحمد : وهذا مذهب ابن إسحاق يقول خالف السنة فيرد إلى السنة انتهى وهو قول طاووس وعكرمة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .

الرابع أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها فتقع الثلاث بالمدخول بها ويقع بغيرها واحدة وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب " اختلاف العلماء " .

[حجج من لم يعتدها شيئا ]

فأما من لم يوقعها جملة فاحتجوا بأنه طلاق بدعة محرم والبدعة مردودة وقد اعترف أبو محمد ابن حزم بأنها لو كانت بدعة محرمة لوجب أن ترد وتبطل ولكنه اختار مذهب الشافعي أن جمع الثلاث جائز غير محرم وستأتي حجة هذا القول .

[حجج من جعلها واحدة ]

وأما من جعلها واحدة فاحتج بالنص والقياس فأما النص فما رواه معمر وابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ؟ قال نعم رواه مسلم في " صحيحه " .

وفي لفظ ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى واحدة ؟ قال نعم

وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أن ابن جريج قال أخبرني بعض بني أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه " ألا ترون أن فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا منه كذا وكذا ؟ قالوا : نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد " طلقها " ففعل ثم قال " راجع امرأتك أم ركانة وإخوته " فقال إنى طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال قد علمت راجعها وتلا : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن

وقال الإمام أحمد : حدثنا سعد بن إبراهيم قال حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف طلقتها " : فقال طلقتها ثلاثا فقال " في مجلس واحد ؟ " قال نعم قال " فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت ؟ قال فراجعها فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر .

قالوا : وأما القياس فقد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة والبدعة مردودة لأنها ليست على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على عدم وقوعها جملة . قالوا : ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور 6 ] وقوله ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله [ النور 8 ] قالوا : وكذلك كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم فلو قالوا : نحلف بالله خمسين يمينا : إن فلانا قتله كانت يمينا واحدة . قالوا : وكذلك الإقرار بالزنى كما في الحديث أن بعض الصحابة قال لماعز إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يعقل أن تكون الأربع فيه مجموعة بفم واحد .



[حجج من فرق بين المدخول بها وغيرها ]

وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها فلهم حجتان

إحداهما : ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن طاووس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال له أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ؟ فلما رأى عمر الناس قد تتايعوا فيها قال أجيزوهن عليهم

الحجة الثانية أنها تبين بقوله أنت طالق فيصادفها ذكر الثلاث وهي بائن فتلغو ورأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها وحديث أبي الصهباء في غير المدخول بها . قالوا : ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين وموافقة القياس وقال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من أهل الفتوى كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره ولكن عدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية وحكوه عن جماعة من أهل البيت .

[حجج من أوقعها ثلاثا ]

قال الموقعون للثلاث الكلام معكم في مقامين

أحدهما : تحريم جمع الثلاث .
والثاني : وقوعها جملة ولو كانت محرمة . ونحن نتكلم معكم في المقامين فأما الأول

فقد قال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه وجماعة من أهل الظاهر إن جمع الثلاث سنة واحتجوا عليه بقوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة 236 ] ولم يفرق بين أن تكون الثلاث مجموعة أو مفرقة ولا يجوز أن نفرق بين ما جمع الله بينه كما لا نجمع بين ما فرق الله بينه . وقال تعالى : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [ البقرة 227 ] ولم يفرق وقال لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن الآية ولم يفرق وقال وللمطلقات متاع بالمعروف [ البقرة 241 ] وقال يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [ الأحزاب 49 ] ولم يفرق .

قالوا : وفي " الصحيحين " أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأمره بطلاقها

قالوا : فلو كان جمع الثلاث معصية لما أقر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته أو حين حرمت عليه باللعان . فإن كان الأول فالحجة منه ظاهرة وإن كان الثاني فلا شك أنه طلقها وهو يظنها امرأته فلو كان حراما لبينها له رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت قد حرمت عليه . قالوا : وفي " صحيح البخاري " من حديث القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحل للأول ؟ قال " لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها إذ لو لم تقع لم يوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها .

قالوا : وفي " الصحيحين " من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا : إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لها نفقة وعليها العدة

وفي " صحيح مسلم " في هذه القصة قالت فاطمة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " كم طلقك " ؟ قلت : ثلاثا فقال " صدق ليس لك نفقة

وفي لفظ له قالت يا رسول الله إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي

وفي لفظ له عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المطلقة ثلاثا : " ليس لها سكنى ولا نفقة

قالوا : وقد روى عبد الرزاق في " مصنفه " عن يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة بن الصامت قال طلق جدي امرأة له ألف تطليقة فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما اتقى الله جدك أما ثلاث فله وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له

ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال طلق بعض آبائي امرأته فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إن أبانا طلق أمنا ألفا فهل له من مخرج ؟ فقال إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه

قالوا : وروى محمد بن شاذان عن معلى بن منصور عن شعيب بن زريق أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرأين الباقيين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله أخطأت السنة . .. وذكر الحديث وفيه فقلت : يا رسول الله لو كنت طلقتها ثلاثا أكان لي أن أجمعها قال " لا كانت تبين وتكون معصية

قالوا : وقد روى أبو داود في " سننه " : عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلا واحدة " ؟ فقال ركانة والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمن عثمان

وفي " جامع الترمذي " : عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أردت بها ؟ قال واحدة قال " آلله " قال آلله قال " هو على ما أردت قال الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث ؟ فقال فيه اضطراب .

ووجه الاستدلال بالحديث أنه صلى الله عليه وسلم أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه . قالوا : وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس أنه طلقها ثلاثا . قال أبو داود : لأنهم ولد الرجل وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة .

قالوا : وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع . فإن كان عبيد الله فهو ثقة معروف وإن كان غيره من إخوته فمجهول العدالة لا تقوم به حجة .

قالوا : وأما طريق الإمام أحمد ففيها ابن إسحاق والكلام فيه معروف وقد حكى الخطابي أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها .

قالوا : وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن عباس وقد قال البيهقي : هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلاث ثم قال فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير قال ورويناه عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس أنه أجاز الثلاث وأمضاهن .

وقال ابن المنذر : فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يفتي بخلافه .

وقال الشافعي : فإن كان معنى قول ابن عباس : إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أنه كان شيئا فنسخ .

قال البيهقي : ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل - يريد البيهقي - ما رواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة في قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية . .. وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك فقال الطلاق مرتان

قالوا : فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت بمعنى أن الزوج كان يتمكن من المراجعة بعدها كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ثم نسخ ذلك .

وقال ابن سريج يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين الألفاظ كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه الناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن فيهم الخب والخداع فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد ولا يريدون به الثلاث فلما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت منع من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث .

وقالت طائفة معنى الحديث أن الناس كانت عادتهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتايعوا فيه ومعنى الحديث على هذا : كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة فهو إخبار عن الواقع لا عن المشروع .

وقالت طائفة ليس في الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يجعل الثلاث واحدة ولا أنه أعلم بذلك فأقر عليه ولا حجة إلا فيما قاله أو فعله أو علم به فأقر عليه ولا يعلم صحة واحدة من هذه الأمور في حديث أبي الصهباء .

قالوا : وإذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا إلى ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أعلم بسنته فنظرنا فإذا الثابت عن عمر بن الخطاب الذي لا يثبت عنه غيره ما رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل حدثنا زيد بن وهب أنه رواه إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر أطلقت امرأتك ؟ فقال إنما كنت ألعب فعلاه عمر بالدرة وقال إنما يكفيك من ذلك ثلاث

وروى وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال إني طلقت امرأتي ألفا فقال له علي بانت منك بثلاث واقسم سائرهن بين نسائك

وروى وكيع أيضا عن جعفر بن برقان عن معاوية بن أبي يحيى قال جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال طلقت امرأتي ألفا فقال بانت منك بثلاث

وروى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير قال قال رجل لابن عباس طلقت امرأتي ألفا فقال له ابن عباس : ثلاث تحرمها عليك وبقيتها عليك وزر اتخذت آيات الله هزوا

وروى عبد الرزاق أيضا عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال جاء رجل إلى ابن مسعود فقال إني طلقت امرأتي تسعا وتسعين فقال له ابن مسعود : ثلاث تبينها منك وسائرهن عدوان

وذكر أبو داود في " سننه " عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا فكلهم قال لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره

قالوا : فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تسمعون قد أوقعوا الثلاث جملة ولو لم يكن فيهم إلا عمر المحدث الملهم وحده لكفى فإنه لا يظن به تغيير ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم من الطلاق الرجعي فيجعله محرما وذلك يتضمن تحريم فرج المرأة على من لم تحرم عليه وإباحته لمن لا تحل له ولو فعل ذلك عمر لما أقره عليه الصحابة فضلا عن أن يوافقوه ولو كان عند ابن عباس حجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الثلاث واحدة لم يخالفها . ويفتي بغيرها موافقة لعمر وقد علم مخالفته له في العول وحجب الأم بالاثنين من الإخوة والأخوات وغير ذلك .

قالوا : ونحن في هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أعلم بسنته وشرعه ولو كان مستقرا من شريعته أن الثلاث واحدة وتوفي والأمر على ذلك لم يخف عليهم ويعلمه من بعدهم ولم يحرموا الصواب فيه ويوفق له من بعدهم ويروي حبر الأمة وفقيهها خبر كون الثلاث واحدة ويخالفه

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 01:41 AM
[حجج المانعين من وقوع الثلاث ]

قال المانعون من وقوع الثلاث التحاكم في هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الله سبحانه وتعالى أصدق قسم وأبره أنا لا نؤمن حتى نحكمه فيما شجر بيننا ثم نرضى بحكمه ولا يلحقنا فيه حرج ونسلم له تسليما لا إلى غيره كائنا من كان اللهم إلا أن تجمع أمته إجماعا متيقنا لا نشك فيه على حكم فهو الحق الذي لا يجوز خلافه ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبدا ونحن قد أوجدناكم من الأدلة ما تثبت المسألة به بل وبدونه ونحن نناظركم فيما طعنتم به في تلك الأدلة وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكم على أنفسنا إلا نصا عن الله أو نصا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماعا متيقنا لا شك فيه وما عدا هذا فعرضة لنزاع وغايته أن يكون سائغ الاتباع لا لازمه فلتكن هذه المقدمة سلفا لنا عندكم وقد قال تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء 59 ] فقد تنازعنا نحن وأنتم في هذه المسألة فلا سبيل إلى ردها إلى غير الله ورسوله البتة وسيأتي أننا أحق بالصحابة وأسعد بهم فيها فنقول

أما منعكم لتحريم جمع الثلاث فلا ريب أنها مسألة نزاع ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجة عليكم .

أما قولكم إن القرآن دل على جواز الجمع فدعوى غير مقبولة بل باطلة وغاية ما تمسكتم به إطلاق القرآن للفظ الطلاق وذلك لا يعم جائزه ومحرمه كما لا يدخل تحته طلاق الحائض وطلاق الموطوءة في طهرها وما مثلكم في ذلك إلا كمثل من عارض السنة الصحيحة في تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء ومعلوم أن القرآن لم يدل على جواز كل طلاق حتى تحملوه ما لا يطيقه وإنما دل على أحكام الطلاق والمبين عن الله عز وجل بين حلاله وحرامه ولا ريب أنا أسعد بظاهر القرآن كما بينا في صدر الاستدلال وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقا بائنا بغير عوض لمدخول بها إلا أن يكون آخر العدد وهذا كتاب الله بيننا وبينكم وغاية ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيدتها السنة وبينت شروطها وأحكامها .

وأما استدلالكم بأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أصحه من حديث وما أبعده من استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث بكلمة واحدة في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول إن الفرقة وقعت عقيب لعان الزوج وحده كما يقوله الشافعي أو عقيب لعانهما وإن لم يفرق الحاكم كما يقوله أحمد في إحدى الروايات عنه فالاستدلال به باطل لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئا وإن كان ممن يوقف الفرقة على تفريق الحاكم لم يصح الاستدلال به أيضا لأن هذا النكاح لم يبق سبيل إلى بقائه ودوامه بل هو واجب الإزالة ومؤبد التحريم فالطلاق الثلاث مؤكد لمقصود اللعان ومقرر له فإن غايته أن يحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره وفرقة اللعان تحرمها عليه على الأبد ولا يلزم من نفوذ الطلاق في نكاح قد صار مستحق التحريم على التأبيد نفوذه في نكاح قائم مطلوب البقاء والدوام ولهذا لو طلقها في هذا الحال وهي حائض أو نفساء أو في طهر جامعها فيه لم يكن عاصيا لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤبد التحريم ومن العجب أنكم متمسكون بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الطلاق المذكور ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاث من غير الملاعن وتسميته لعبا بكتاب الله كما تقدم فكم بين هذا الإقرار وهذا الإنكار ؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين مقرون لما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرون لما أنكره .

وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تحل للأول ؟ قال " لا حتى تذوق العسيلة فهذا لا ننازعكم فيه نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا وقال ثلاثا إلا من فعل وقال مرة بعد مرة هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا .

قالوا : وأما استدلالكم بحديث فاطمة بنت قيس فمن العجب العجاب فإنكم خالفتموه فيما هو صريح فيه لا يقبل تأويلا صحيحا وهو سقوط النفقة والكسوة للبائن مع صحته وصراحته وعدم ما يعارضه مقاوما له وتمسكتم به فيما هو مجمل بل بيانه في نفس الحديث مما يبطل تعلقكم به فإن قوله طلقها ثلاثا ليس بصريح في جمعها بل كما تقدم كيف وفي " الصحيح " في خبرها نفسه من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها .

وفي لفظ في " الصحيح " : أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات وهو سند صحيح متصل مثل الشمس فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجمل وهو أيضا حجة عليكم كما تقدم ؟ .

قالوا : وأما استدلالكم بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه عبد الرزاق فخبر في غاية السقوط لأن في طريقه يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد الوضافي عن إبراهيم بن عبيد الله - ضعيف عن هالك عن مجهول ثم الذي يدل على كذبه وبطلانه أنه لم يعرف في شيء من الآثار صحيحها ولا سقيمها ولا متصلها ولا منقطعها أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام فكيف بجده فهذا محال بلا شك وأما حديث عبد الله بن عمر فأصله صحيح بلا شك لكن هذه الزيادة والوصلة التي فيه فقلت يا رسول الله لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي ؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن زريق وهو الشامي وبعضهم يقلبه فيقول زريق بن شعيب وكيفما كان فهو ضعيف ولو صح لم يكن فيه حجة لأن قوله لو طلقتها ثلاثا بمنزلة قوله لو سلمت ثلاثا أو أقررت ثلاثا أو نحوه مما لا يعقل جمعه .

وأما حديث نافع بن عجير الذي رواه أبو داود أن ركانة طلق امرأته البتة فأحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة ولا يدرى من هو ولا ما هو على ابن جريج ومعمر وعبد الله بن طاووس في قصة أبي الصهباء وقد شهد إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا هكذا قال الترمذي في " الجامع " وذكر عنه في موضع آخر أنه مضطرب . فتارة يقول طلقها ثلاثا وتارة يقول واحدة وتارة يقول البتة . وقال الإمام أحمد وطرقه كلها ضعيفة وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه .

ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم وليس فيهم متهم بالكذب وقد روى عنه ابن جريج ومن يقبل رواية المجهول أو يقول رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد فكلا فغاية الأمر أن تتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله حدثني داود بن الحصين وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع وقد صحح هو وغيره بهذا الإسناد بعينه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا .

وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزل الأئمة تحتج به وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرطب بالتمر فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قدحتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته وارتضاء البخاري لإدخال حديثه في " صحيحه " .


فصل
وأما تلك المسالك الوعرة التي سلكتموها في حديث أبي الصهباء فلا يصح شيء منها

أما المسلك الأول وهو انفراد مسلم بروايته وإعراض البخاري عنه فتلك شكاة ظاهر عنك عارها وما ضر ذلك الحديث انفراد مسلم به شيئا ثم هل تقبلون أنتم أو أحد مثل هذا في كل حديث ينفرد به مسلم عن البخاري وهل قال البخاري قط إن كل حديث لم أدخله في كتابي فهو باطل أو ليس بحجة أو ضعيف وكم قد احتج البخاري بأحاديث خارج الصحيح ليس لها ذكر في " صحيحه " وكم صحح من حديث خارج عن صحيحه فأما مخالفة سائر الروايات له عن ابن عباس فلا ريب أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بلا شك إحداهما : توافق هذا الحديث والأخرى : تخالفه فإن أسقطنا رواية برواية سلم الحديث على أنه بحمد الله سالم .

ولو اتفقت الروايات عنه على مخالفته فله أسوة أمثاله وليس بأول حديث خالفه راويه فنسألكم هل الأخذ بما رواه الصحابي عندكم أو بما رآه ؟ فإن قلتم الأخذ بروايته وهو قول جمهوركم بل جمهور الأمة على هذا كفيتمونا مئونة الجواب . وإن قلتم الأخذ برأيه أريناكم من تناقضكم ما لا حيلة لكم في دفعه ولا سيما عن ابن عباس نفسه فإنه روى حديث بريرة وتخييرها ولم يكن بيعها طلاقا ورأى خلافه وأن بيع الأمة طلاقها فأخذتم - وأصبتم - بروايته وتركتم رأيه فهلا فعلتم ذلك فيما نحن فيه وقلتم الرواية معصومة وقول الصحابي غير معصوم ومخالفته لما رواه يحتمل احتمالات عديدة من نسيان أو تأويل أو اعتقاد معارض راجح في ظنه أو اعتقاد أنه منسوخ أو مخصوص أو غير ذلك من الاحتمالات فكيف يسوغ ترك روايته مع قيام هذه الاحتمالات ؟ وهل هذا إلا ترك معلوم لمظنون بل مجهول ؟ قالوا : وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه حديث التسبيع من ولوغ الكلب وأفتى بخلافه فأخذتم بروايته وتركتم فتواه . ولو تتبعنا ما أخذتم فيه برواية الصحابي دون فتواه لطال .

قالوا : وأما دعواكم نسخ الحديث فموقوفة على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا ؟

وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنه إنما فيه أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد فنسخ ذلك وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر لا تعلم به الأمة وهو من أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج ثم كيف يقول عمر إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما ؟ ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم ؟ .

وأما حملكم الحديث على قول المطلق أنت طالق أنت طالق أنت طالق ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره يرده فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف على عهده وعهد خلفائه وهلم جرا إلى آخر الدهر ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب بل يرده إلى نيته وكذلك من لا يقبله في الحكم لا يقبله مطلقا برا كان أو فاجرا .

وأيضا فإن قوله إن الناس قد استعجلوا وتتايعوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أنا أمضيناه عليهم إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يديه من أول وهلة فيعز عليه تداركه فجعل له أناة ومهلة يستعتبه فيها ويرضيه ويزول ما أحدثه العتب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد فرأى عمر رضي الله عنه أنه يلزمهم ما التزموه عقوبة لهم فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث كما سيأتي مزيد تقريره عند الاعتذار عن عمر رضي الله عنه في إلزامه بالثلاث هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستكره المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بل تنبو عنه وتنافره .

وأما قول من قال إن معناه كان وقوع الطلاق الثلاث الآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة فإن حقيقة هذا التأويل كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الإلغاز والتحريف لا من باب بيان المراد ولا يصح ذلك بوجه ما فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فمنهم من ردها إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله ولم يعرف ما حكم به عليهم وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان ومنهم من ألزمه بالثلاث لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث فلا يصح أن يقال إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا ولا يصح أن يقال إنهم قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهده بوجه ما فإنه ماض منكم على عهده وبعد عهده .

ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي لفظ أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر فقال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس - يعني عمر - قد تتايعوا فيها قال أجيزوهن عليهم هذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل . وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل .

وأما قول من قال ليس في الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يجعل ذلك ولا أنه علم به وأقره عليه فجوابه أن يقال سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الخلق وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه فهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمه وكان الصحابة يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به ثم يتوفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها يعمل به ولا يغير إلى أن فارق الصديق الدنيا واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك برأيه أن يلزم الناس بالصواب فهل في الجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من هذا وتالله لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه والتأويل الذي تأولتموه ولو تركتم المسألة بهيئتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة .

قالوا : وليس التحاكم في هذه المسألة إلى مقلد متعصب ولا هياب للجمهور ولا مستوحش من التفرد إذا كان الصواب في جانبه وإنما التحاكم فيها إلى راسخ في العلم قد طال منه باعه ورحب بنيله ذراعه وفرق بين الشبهة والدليل وتلقى الأحكام من نفس مشكاة الرسول وعرف المراتب وقام فيها بالواجب وباشر قلبه أسرار الشريعة وحكمها الباهرة وما تضمنته من المصالح الباطنة والظاهرة وخاض في مثل هذه المضايق لججها واستوفى من الجانبين حججها والله المستعان وعليه التكلان .

قالوا : وأما قولكم إذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا فيما عليه الصحابة رضي الله عنهم فنعم والله وحيهلا بيرك الإسلام وعصابة الإيمان .

فلا تطلب لي الأعواض بعدهم

فإن قلبي لا يرضى بغيرهم


ولكن لا يليق بكم أن تدعونا إلى شيء وتكونوا أول نافر عنه ومخالف له فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف عين كلهم قد رآه وسمع منه فهل صح لكم عن هؤلاء كلهم أو عشرهم أو عشر عشرهم أو عشر عشر عشرهم القول بلزوم الثلاث بفم واحد ؟ هذا ولو جهدتم كل الجهد لم تطيقوا نقله عن عشرين نفسا منهم أبدا مع اختلاف عنهم في ذلك فقد صح عن ابن عباس القولان وصح عن ابن مسعود القول باللزوم وصح عنه التوقف ولو كاثرناكم بالصحابة الذين كان الثلاث على عهدهم واحدة لكانوا أضعاف من نقل عنه خلاف ذلك ونحن نكاثركم بكل صحابي مات إلى صدر من خلافة عمر ويكفينا مقدمهم وخيرهم وأفضلهم ومن كان معه من الصحابة على عهده بل لو شئنا لقلنا ولصدقنا : إن هذا كان إجماعا قديما لم يختلف فيه على عهد الصديق اثنان ولكن لا ينقرض عصر المجمعين حتى حدث الاختلاف فلم يستقر الإجماع الأول حتى صار الصحابة على قولين واستمر الخلاف بين الأمة في ذلك إلى اليوم ثم نقول لم يخالف عمر إجماع من تقدمه بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم لما علموا أنه حرام وتتايعوا فيه ولا ريب أن هذا سائغ للأئمة أن يلزموا الناس بما ضيقوا به على أنفسهم ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز وجل وتسهيله بل اختاروا الشدة والعسر فكيف بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكمال نظره للأمة وتأديبه لهم ولكن العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يقل لهم إن هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو رأي رآه مصلحة للأمة يكفهم به عن التسارع إلى إيقاع الثلاث ولهذا قال فلو أنا أمضيناه عليهم وفي لفظ آخر " فأجيزوهن عليهم أفلا يرى أن هذا رأي منه رآه للمصلحة لا إخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما علم رضي الله عنه أن تلك الأناة والرخصة نعمة من الله على المطلق ورحمة به وإحسان إليه وأنه قابلها بضدها ولم يقبل رخصة الله وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها وألزمه ما ألزمه من الشدة والاستعجال وهذا موافق لقواعد الشريعة بل هو موافق لحكمة الله في خلقه قدرا وشرعا فإن الناس إذا تعدوا حدوده ولم يقفوا عندها ضيق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه من قال من الصحابة للمطلق ثلاثا : إنك لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا كما قاله ابن مسعود وابن عباس .

فهذا نظر أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة لا أنه رضي الله عنه غير أحكام الله وجعل حلالها حراما فهذا غاية التوفيق بين النصوص وفعل أمير المؤمنين ومن معه وأنتم لم يمكنكم ذلك إلا بإلغاء أحد الجانبين فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذا المقام الضنك والمعترك الصعب وبالله التوفيق .

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
العبد يطلق زوجته تطليقتين ثم يعتق بعد ذلك
هل تحل له بدون زوج وإصابة ؟
روى أهل السنن من حديث أبي الحسن مولى بني نوفل أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم عتقا بعد ذلك هل يصلح له أن يخطبها ؟ قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي لفظ قال ابن عباس بقيت لك واحدة قضى به رسول الله .

قال الإمام أحمد عن عبد الرزاق أن ابن المبارك قال لمعمر من أبو حسن هذا ؟ لقد تحمل صخرة عظيمة انتهى . قال المنذري وأبو حسن هذا قد ذكر بخير وصلاح وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان غير أن الراوي عنه عمر بن معتب وقد قال علي بن المديني هو منكر الحديث وقال النسائي ليس بالقوي .

وإذا عتق العبد والزوجة في حباله ملك تمام الثلاث وإن عتق وقد طلقها اثنتين ففيها أربعة أقوال للفقهاء

أحدها : أنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره حرة كانت أو أمة وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين بناء على أن الطلاق بالرجال وأن العبد إنما يملك طلقتين ولو كانت زوجته حرة .

والثاني : أن له أن يعقد عليها عقدا مستأنفا من غير اشتراط زوج وإصابة كما دل عليه حديث عمر بن معتب هذا وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وهو قول ابن عباس وأحد الوجهين للشافعية ولهذا القول فقه دقيق فإنها إنما حرمتها عليه التطليقتان لنقصه بالرق فإذا عتق وهي في العدة زال النقص ووجد سبب ملك الثلاث وآثار النكاح باقية فملك عليها تمام الثلاث وله رجعتها وإن عتق بعد انقضاء عدتها بانت منه وحلت له بدون زوج وإصابة فليس هذا القول ببعيد في القياس .

والثالث أن له أن يرتجعها في عدتها وأن ينكحها بعدها بدون زوج وإصابة ولو لم يعتق وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم فإن عندهم أن العبد والحر في الطلاق سواء .

وذكر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبدا له طلق امرأته تطليقتين فأمره ابن عباس أن يراجعها فأبى فقال ابن عباس هي لك فاستحلها بملك اليمين .

والقول الرابع أن زوجته إن كانت حرة ملك عليها تمام الثلاث وإن كانت أمة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره وهذا قول أبي حنيفة .

وهذا موضع اختلف فيه السلف والخلف على أربعة أقوال

أحدها : أن طلاق العبد والحر سواء وهذا مذهب أهل الظاهر جميعهم حكاه عنهم أبو محمد ابن حزم واحتجوا بعموم النصوص الواردة في الطلاق وإطلاقها وعدم تفريقها بين حر وعبد ولم تجمع الأمة على التفريق فقد صح عن ابن عباس أنه أفتى غلاما له برجعة زوجته بعد طلقتين وكانت أمة . وفي هذا النقل عن ابن عباس نظر فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أن أبا معبد أخبره أن عبدا كان لابن عباس وكانت له امرأة جارية لابن عباس فطلقها فبتها فقال له ابن عباس لا طلاق لك فارجعها .

قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن سماك بن الفضل أن العبد سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال لا ترجع إليها وإن ضرب رأسك .



فمأخذ هذه الفتوى أن طلاق العبد بيد سيده كما أن نكاحه بيده كما روى عبد الرحمن بن مهدي عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عن ابن عباس قال ليس طلاق العبد ولا فرقته بشيء

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في الأمة والعبد سيدهما يجمع بينهما ويفرق و هذا قول أبي الشعثاء وقال الشعبي : أهل المدينة لا يرون للعبد طلاقا إلا بإذن سيده فهذا مأخذ ابن عباس لا أنه يرى طلاق العبد ثلاثا إذا كانت تحته أمة وما علمنا أحدا من الصحابة قال بذلك .

والقول الثاني : أن أي الزوجين رق كان الطلاق بسبب رقه اثنتين كما روى حماد بن سلمة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الحر يطلق الأمة تطليقتين وتعتد بحيضتين والعبد يطلق الحرة تطليقتين وتعتد ثلاث حيض وإلى هذا ذهب عثمان البتي .

والقول الثالث أن الطلاق بالرجال فيملك الحر ثلاثا . وإن كانت زوجته أمة والعبد ثنتين وإن كانت زوجته حرة وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في ظاهر كلامه هذا قول زيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة أمي المؤمنين وعثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وهذا مذهب القاسم وسالم وأبي سلمة وعمر بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد وسليمان بن يسار وعمرو بن شعيب وابن المسيب وعطاء .

والقول الرابع أن الطلاق بالنساء كالعدة كما روى شعبة عن أشعث بن سوار عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود . السنة الطلاق والعدة بالنساء

وروى عبد الرزاق : عن محمد بن يحيى وغير واحد عن عيسى عن الشعبي عن اثني عشر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : الطلاق والعدة بالمرأة هذا لفظه وهذا قول الحسن وابن سيرين وقتادة وإبراهيم والشعبي وعكرمة ومجاهد والثوري والحسن بن حي وأبي حنيفة وأصحابه .

فإن قيل فما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة ؟ قيل قد قال أبو داود : حدثنا محمد بن مسعود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان

وروى زكريا بن يحيى الساجي حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا عمر بن شبيب المسلي حدثنا عبد الله بن عيسى عن عطية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان

وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج قال كتب إلي عبد الله بن زياد بن سمعان أن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أخبره عن نافع عن أم سلمة أم المؤمنين أن غلاما لها طلق امرأة له حرة تطليقتين فاستفتت أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره وقد تقدم حديث عمر بن معتب عن أبي حسن عن ابن عباس رضي الله عنه ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه الآثار الأربعة على عجرها وبجرها .

أما الأول فقال أبو داود : هو حديث مجهول وقال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث انتهى . وقال أبو القاسم ابن عساكر في " أطرافه " بعد ذكر هذا الحديث روى أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه كان جالسا عند أبيه فأتاه رسول الأمير فأخبره أنه سأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله عن ذلك فقالا هذا وقالا له إن هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عمل به المسلمون . قال الحافظ فدل على أن الحديث المرفوع غير محفوظ . وقال أبو عاصم النبيل : مظاهر بن أسلم ضعيف وقال يحيى بن معين : ليس بشيء مع أنه لا يعرف وقال أبو حاتم الرازي : منكر الحديث . وقال البيهقي : لو كان ثابتا لقلنا به إلا أنا لا نثبت حديثا يرويه من نجهل عدالته .

وأما الأثر الثاني : ففيه عمر بن شبيب المسلي ضعيف وفيه عطية وهو ضعيف أيضا .

وأما الأثر الثالث ففيه ابن سمعان الكذاب وعبد الله بن عبد الرحمن مجهول .

وأما الأثر الرابع ففيه عمر بن معتب وقد تقدم الكلام فيه .

والذي سلم في المسألة الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم والقياس .

أما الآثار فهي متعارضة كما تقدم فليس بعضها أولى من بعض بقي القياس وتجاذبه طرفان طرف المطلق وطرف المطلقة . فمن راعى طرف المطلق قال هو الذي يملك الطلاق وهو بيده فيتنصف برقه كما يتنصف نصاب المنكوحات برقه ومن راعى طرف المطلقة قال الطلاق يقع عليها وتلزمها العدة والتحريم وتوابعها فتنصف برقها كالعدة ومن نصف برقها كالعدة ومن نصف برق أي الزوجين كان راعى الأمرين وأعمل الشبهين ومن كمله وجعله ثلاثا رأى أن الآثار لم تثبت والمنقول عن الصحابة متعارض والقياس كذلك فلم يتعلق بشيء من ذلك وتمسك بإطلاق النصوص الدالة على أن الطلاق الرجعي طلقتان ولم يفرق الله بين حر وعبد ولا بين حرة وأمة وما كان ربك نسيا

قالوا : والحكمة التي لأجلها جعل الطلاق الرجعي اثنتين في الحر والعبد سواء قالوا : وقد قال مالك : إن له أن ينكح أربعا كالحر لأن حاجته إلى ذلك كحاجة الحر وقال الشافعي وأحمد أجله في الإيلاء كأجل الحر لأن ضرر الزوجة في الصورتين سواء .

وقال أبو حنيفة إن طلاقه وطلاق الحر سواء إذا كانت امرأتاهما حرتين إعمالا لإطلاق نصوص الطلاق وعمومها للحر والعبد .

وقال أحمد بن حنبل والناس معه صيامه في الكفارات كلها وصيام الحر سواء وحده في السرقة والشراب وحد الحر سواء . قالوا : ولو كانت هذه الآثار أو بعضها ثابتا لما سبقتمونا إليه ولا غلبتمونا عليه ولو اتفقت آثار الصحابة لم نعدها إلى غيرها فإن الحق لا يعدوهم وبالله التوفيق .

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الطلاق بيد الزوج لا بيد غيره
قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن [ الأحزاب 49 ] وقال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف [ البقرة 231 ] فجعل الطلاق لمن نكح لأن له الإمساك وهو الرجعة وروى ابن ماجه في " سننه " : من حديث ابن عباس قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها . قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق

وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول طلاق العبد بيد سيده إن طلق جاز وإن فرق فهي واحدة إذا كانا له جميعا فإن كان العبد له والأمة لغيره طلق السيد أيضا إن شاء

وروى الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عنه ليس طلاق العبد ولا فرقته بشيء

وذكر عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمع جابرا يقول في الأمة والعبد سيدهما يجمع بينهما ويفرق

وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع وحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم وإن كان في إسناده ما فيه فالقرآن يعضده وعليه عمل الناس .



حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيمن طلق دون الثلاث ثم راجعها بعد زوج أنها على بقية الطلاق
ذكر ابن المبارك عن عثمان بن مقسم أنه أخبره أنه سمع نبيه بن وهب يحدث عن رجل من قومه عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة يطلقها زوجها دون الثلاث ثم يرتجعها بعد زوج أنها على ما بقي من الطلاق .

وهذا الأثر وإن كان فيه ضعيف ومجهول فعليه أكابر الصحابة كما ذكر عبد الرزاق في " مصنفه " عن مالك وابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب وحميد بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسليمان بن يسار كلهم يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول أيما امرأة طلقها زوجها تطليقة أو تطليقتين ثم تركها حتى تنكح زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها ثم ينكحها زوجها الأول فإنها عنده على ما بقي من طلاقها .

وعن علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين رضي الله عنهم مثله .

قال الإمام أحمد هذا قول الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم تعود على الثلاث قال ابن عباس رضي الله عنهما : نكاح جديد وطلاق جديد .

وذهب إلى القول الأول أهل الحديث فيهم أحمد والشافعي ومالك وذهب إلى الثاني أبو حنيفة هذا إذا أصابها الثاني فإن لم يصبها فهي على ما بقي من طلاقها عند الجميع وقال النخعي لم أسمع فيها اختلافا ولو ثبت الحديث لكان فصل النزاع في المسألة ولو اتفقت آثار الصحابة لكانت فصلا أيضا .

وأما فقه المسألة فمتجاذب فإن الزوج الثاني إذا هدمت إصابته الثلاث وأعادتها إلى الأول بطلاق جديد فما دونها أولى وأصحاب القول الأول يقولون لما كانت إصابة الثاني شرطا في حل المطلقة ثلاثا للأول لم يكن بد من هدمها وإعادتها على طلاق جديد وأما من طلقت دون الثلاث فلم تصادف إصابة الثاني فيها تحريما يزيله ولا هي شرط في الحل للأول فلم تهدم شيئا فوجودها كعدمها بالنسبة إلى الأول وإحلالها له فعادت على ما بقي كما لو لم يصبها فإن إصابته لا أثر لها البتة ولا نكاحه وطلاقه معلق بها بوجه ما ولا تأثير لها فيه .

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا
لا تحل للأول حتى يطأها الزوج
الثاني ثبت في " الصحيحين " : عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي وإن ما معه مثل الهدبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة . لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك .

وفي " سنن النسائي " : عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العسيلة الجماع ولو لم ينزل .

وفيها عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها الرجل فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ؟ قال لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر .

فتضمن هذا الحكم أمورا :

أحدها : أنه لا يقبل قول المرأة على الرجل أنه لا يقدر على جماعها .

الثاني : أن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول خلافا لمن اكتفى بمجرد العقد فإن قوله مردود بالسنة التي لا مرد لها .

الثالث أنه لا يشترط الإنزال بل يكفي مجرد الجماع الذي هو ذوق العسيلة .

الرابع أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل مجرد العقد المقصود الذي هو نكاح رغبة كافيا ولا اتصال الخلوة به وإغلاق الأبواب وإرخاء الستور حتى يتصل به الوطء وهذا يدل على أنه لا يكفي مجرد عقد التحليل الذي لا غرض للزوج والزوجة فيه سوى صورة العقد وإحلالها للأول بطريق الأولى فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غير كاف حتى يوجد فيه الوطء فكيف يكفي عقد تيس مستعار ليحلها لا رغبة له في إمساكها وإنما هو عارية كحمار العشريين المستعار للضراب ؟ .



حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة تقيم شاهدا واحدا على طلاق زوجها والزوج منكر
ذكر ابن وضاح عن ابن أبي مريم عن عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ادعت المرأة طلاق زوجها فجاءت على ذلك بشاهد واحد عدل استحلف زوجها فإن حلف بطلت عنه شهادة الشاهد وإن نكل فنكوله بمنزلة شاهد آخر وجاز طلاقه فتضمن هذا الحكم أربعة أمور

أحدها : أنه لا يكتفى بشهادة الشاهد الواحد في الطلاق ولا مع يمين المرأة قال الإمام أحمد الشاهد واليمين إنما يكون في الأموال خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا إعتاق ولا سرقة ولا قتل . وقد نص في رواية أخرى عنه على أن العبد إذا ادعى أن سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا واختاره الخرقي ونص أحمد في شريكين في عبد ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا ويحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا ولكن لا يعرف عنه أن الطلاق يثبت بشاهد ويمين .

وقد دل حديث عمرو بن شعيب هذا على أنه يثبت بشاهد ونكول الزوج وهو الصواب إن شاء الله تعالى فإن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يعرف من أئمة الإسلام إلا من احتج به وبنى عليه وإن خالفه في بعض المواضع وزهير بن محمد الراوي عن ابن جريج ثقة محتج به في " الصحيحين " وعمرو بن أبي سلمة هو أبو حفص التنيسي محتج به في " الصحيحين " أيضا فمن احتج بحديث عمرو بن شعيب . فهذا من أصح حديثه . الثاني : أن الزوج يستحلف في دعوى الطلاق إذا لم تقم المرأة به بينة لكن إنما استحلفه مع قوة جانب الدعوى بالشاهد .

الثالث أنه يحكم في الطلاق بشاهد ونكول المدعى عليه وأحمد في إحدى الروايتين عنه يحكم بوقوعه بمجرد النكول من غير شاهد فإذا ادعت المرأة على زوجها الطلاق وأحلفناه لها في إحدى الروايتين فنكل قضي عليه فإذا أقامت شاهدا واحدا ولم يحلف الزوج على عدم دعواها فالقضاء بالنكول عليه في هذه الصورة أقوى .

وظاهر الحديث أنه لا يحكم على الزوج بالنكول إلا إذا أقامت المرأة شاهدا واحدا كما هو إحدى الروايتين عن مالك وأنه لا يحكم عليه بمجرد دعواها مع نكوله لكن من يقضي عليه به يقول النكول إما إقرار وإما بينة وكلاهما يحكم به ولكن ينتقض هذا عليه بالنكول في دعوى القصاص ويجاب بأن النكول بدل استغني به فيما يباح بالبدل وهو الأموال وحقوقها دون النكاح وتوابعه .

الرابع أن النكول بمنزلة البينة فلما أقامت شاهدا واحدا وهو شطر البينة كان النكول قائما مقام تمامها .

ونحن نذكر مذاهب الناس في هذه المسألة فقال أبو القاسم بن الجلاب في " تفريعه " : وإذا ادعت المرأة الطلاق على زوجها لم يحلف بدعواها فإن أقامت على ذلك شاهدا واحدا لم تحلف مع شاهدها ولم يثبت الطلاق على زوجها وهذا الذي قاله لا يعلم فيه نزاع بين الأئمة الأربعة . قال ولكن يحلف لها زوجها فإن حلف برئ من دعواها .

قلت هذا فيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن الإمام أحمد

إحداهما : أنه يحلف لدعواها وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة . والثانية لا يحلف . فإن قلنا : لا يحلف فلا إشكال . وإن قلنا : يحلف فنكل عن اليمين فهل يقضى عليه بطلاق زوجته بالنكول ؟ فيه روايتان عن مالك إحداهما : أنها تطلق عليه بالشاهد والنكول عملا بهذا الحديث وهذا اختيار أشهب هذا فيه غاية القوة لأن الشاهد والنكول سببان من جهتين مختلفتين فقوي جانب المدعي بهما فحكم له فهذا مقتضى الأثر والقياس .

والرواية الثانية عنه أن الزوج إذا نكل عن اليمين حبس فإن طال حبسه ترك . واختلفت الرواية عن الإمام أحمد هل يقضى بالنكول في دعوى المرأة الطلاق ؟ على روايتين . ولا أثر عنده لإقامة الشاهد الواحد بل إذا ادعت عليه الطلاق ففيه روايتان في استحلافه فإن قلنا : لا يستحلف لم يكن لدعواها أثر وإن قلنا : يستحلف فأبى فهل يحكم عليه بالطلاق ؟ فيه روايتان وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في القضاء بالنكول وهل هو إقرار أو بدل أو قائم مقام البينة في موضعه من هذا الكتاب ؟ .


افتراضي

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخيير أزواجه بين المقام معه وبين مفارقتهن له
ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها قالت لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك . قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه ثم قرأ يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما [ الأحزاب 28 ] فقلت في هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . قالت عائشة ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت فلم يكن ذلك طلاقا

قال ربيعة وابن شهاب : فاختارت واحدة منهن نفسها فذهبت وكانت البتة . قال ابن شهاب : وكانت بدوية . قال عمرو بن شعيب : وهي ابنة الضحاك العامرية رجعت إلى أهلها وقال ابن حبيب قد كان دخل بها . انتهى .

وقيل لم يدخل بها وكانت تلتقط بعد ذلك البعر وتقول أنا الشقية .

واختلف الناس في هذا التخيير في موضعين . أحدهما : في أي شيء كان ؟ والثاني : في حكمه فأما الأول فالذي عليه الجمهور أنه كان بين المقام معه والفراق وذكر عبد الرزاق في " مصنفه " عن الحسن أن الله تعالى إنما خيرهن بين الدنيا والآخرة ولم يخيرهن في الطلاق وسياق القرآن وقول عائشة رضي الله عنه يرد قوله ولا ريب أنه سبحانه خيرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها وجعل موجب اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة المقام مع رسوله وموجب اختيارهن الدنيا وزينتها أن يمتعهن ويسرحهن سراحا جميلا وهو الطلاق بلا شك ولا نزاع .

[ كان التخيير بين المقام معه والفراق ]

وأما اختلافهم في حكمه ففي موضعين . أحدهما : في حكم اختيار الزوج والثاني : في حكم اختيار النفس فأما الأول فالذي عليه معظم أصحاب النبي ونساؤه كلهن ومعظم الأمة أن من اختارت زوجها لم تطلق ولا يكون التخيير بمجرده طلاقا صح ذلك عن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة . قالت عائشة خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم نعده طلاقا وعن أم سلمة وقريبة أختها وعبد الرحمن بن أبي بكر

وصح عن علي وزيد بن ثابت وجماعة من الصحابة أنها إن اختارت زوجها فهي طلقة رجعية وهو قول الحسن ورواية عن أحمد رواها عنه إسحاق بن منصور قال إن اختارت زوجها فواحدة يملك الرجعة وإن اختارت نفسها فثلاث قال أبو بكر انفرد بهذا إسحاق بن منصور والعمل على ما رواه الجماعة .

قال صاحب " المغني " : ووجه هذه الرواية أن التخيير كناية نوى بها الطلاق فوقع بمجردها كسائر كناياته وهذا هو الذي صرحت به عائشة رضي الله عنها والحق معها بإنكاره ورده فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اختاره أزواجه لم يقل وقع بكن طلقة ولم يراجعهن وهي أعلم الأمة بشأن التخيير وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لم يكن ذلك طلاقا وفي لفظ لم نعده طلاقا وفي لفظ خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا ؟ .

والذي لحظه من قال إنها طلقة رجعية أن التخيير تمليك ولا تملك المرأة نفسها إلا وقد طلقت فالتمليك مستلزم لوقوع الطلاق وهذا مبني على مقدمتين . إحداهما : أن التخيير تمليك . والثانية أن التمليك يستلزم وقوع الطلاق وكلا المقدمتين ممنوعة فليس التخيير بتمليك ولو كان تمليكا لم يستلزم وقوع الطلاق قبل إيقاع من ملكه فإن غاية أمره أن تملكه الزوجة كما كان الزوج يملكه فلا يقع بدون إيقاع من ملكه ولو صح ما ذكروه لكان بائنا لأن الرجعية لا تملك نفسها .


افتراضي

[هل التخيير يستلزم الطلاق ]
وقد اختلف الفقهاء في التخيير هل هو تمليك أو توكيل أو بعضه تمليك وبعضه توكيل أو هو تطليق منجز أو لغو لا أثر له البتة ؟ على مذاهب خمسة .

التفريق هو مذهب أحمد ومالك . قال أبو الخطاب في " رءوس المسائل " : هو تمليك يقف على القبول وقال صاحب " المغني " فيه إذا قال أمرك بيدك أو اختاري فقالت قبلت لم يقع شيء لأن " أمرك بيدك " توكيل فقولها في جوابه قبلت ينصرف إلى قبول الوكالة فلم يقع شيء كما لو قال لأجنبية أمر امرأتي بيدك فقالت قبلت وقوله اختاري : في معناه وكذلك إن قالت أخذت أمري دخل عليهما أحمد في رواية إبراهيم بن هانئ إذا قال لامرأته أمرك بيدك فقالت قبلت ليس بشيء حتى يتبين وقال إذا قالت أخذت أمري ليس بشيء قال وإذا قال لامرأته اختاري فقالت قبلت نفسي أو اخترت نفسي كان أبين . انتهى . وفرق مالك بين " اختاري " وبين " أمرك بيدك " فجعل " أمرك بيدك " تمليكا و " اختاري " تخييرا لا تمليكا . قال أصحابه وهو توكيل .

وللشافعي قولان
أحدهما : أنه تمليك وهو الصحيح عند أصحابه .
والثاني : أنه توكيل وهو القديم .

وقالت الحنفية تمليك .

وقال الحسن وجماعة من الصحابة هو تطليق تقع به واحدة منجزة وله رجعتها وهي رواية ابن منصور عن أحمد .

وقال أهل الظاهر وجماعة من الصحابة لا يقع به طلاق سواء اختارت نفسها أو اختارت زوجها ولا أثر للتخيير في وقوع الطلاق . ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال على وجه الإشارة إليها .



[حجج من قال بأن التخيير تمليك ]

قال أصحاب التمليك لما كان البضع يعود إليها بعد ما كان للزوج كان هذا حقيقة التمليك .

قالوا : وأيضا فالتوكيل يستلزم أهلية الوكيل لمباشرة ما وكل فيه والمرأة ليست بأهل لإيقاع الطلاق ولهذا لو وكل امرأة في طلاق زوجته لم يصح في أحد القولين لأنها لا تباشر الطلاق والذين صححوه قالوا : كما يصح أن يوكل رجلا في طلاق امرأته يصح أن يوكل امرأة في طلاقها .

[حجج من قال بأنه توكيل ]

قالوا : وأيضا فالتوكيل لا يعقل معناه ها هنا فإن الوكيل هو الذي يتصرف لموكله لا لنفسه والمرأة ها هنا إنما تتصرف لنفسها ولحظها وهذا ينافي تصرف الوكيل . قال أصحاب التوكيل واللفظ لصاحب " المغني " : وقولهم إنه توكيل لا يصح فإن الطلاق لا يصح تمليكه ولا ينتقل عن الزوج وإنما ينوب فيه غيره عنه فإذا استناب غيره فيه كان توكيلا لا غير .

قالوا : ولو كان تمليكا لكان مقتضاه انتقال الملك إليها في بضعها وهو محال فإنه لم يخرج عنها ولهذا لو وطئت بشبهة كان المهر لها لا للزوج ولو ملك البضع لملك عوضه كمن ملك منفعة عين كان عوض تلك المنفعة له .

قالوا : وأيضا فلو كان تمليكا لكانت المرأة مالكة للطلاق وحينئذ يجب أن لا يبقى الزوج مالكا لاستحالة كون الشيء الواحد بجميع أجزائه ملكا لمالكين في زمن واحد والزوج مالك للطلاق بعد التخيير فلا تكون هي مالكة له بخلاف ما إذا قلنا : هو توكيل واستنابة كان الزوج مالكا وهي نائبة ووكيلة عنه .

قالوا : وأيضا فلو قال لها : طلقي نفسك ثم حلف أن لا يطلق فطلقت نفسها حنث فدل على أنها نائبة عنه وأنه هو المطلق .

قالوا : وأيضا فقولكم إنه تمليك إما أن تريدوا به أنه ملكها نفسها أو أنه ملكها أن تطلق فإن أردتم الأول لزمكم أن يقع الطلاق بمجرد قولها : قبلت لأنه أتى بما يقتضي خروج بضعها عن ملكه واتصل به القبول وإن أردتم الثاني فهو معنى التوكيل . وإن غيرت العبارة .




[حجج المفرقين بين بعض صور التخيير وبعض ]

قال المفرقون بين بعض صوره وبعض - وهم أصحاب مالك - إذا قال لها : أمرك بيدك أو جعلت أمرك إليك أو ملكتك أمرك فذاك تمليك . وإذا قال اختاري فهو تخيير قالوا : والفرق بينهما حقيقة وحكما . أما الحقيقة فلأن " اختاري " لم يتضمن أكثر من تخييرها لم يملكها نفسها وإنما خيرها بين أمرين بخلاف قوله أمرك بيدك فإنه لا يكون بيدها إلا وهي مالكته وأما الحكم فلأنه إذا قال لها : أمرك بيدك وقال أردت به واحدة فالقول قوله مع يمينه وإذا قال اختاري فطلقت نفسها ثلاثا وقعت ولو قال أردت واحدة إلا أن تكون غير مدخول بها فالقول قوله في إرادته الواحدة . قالوا : لأن التخيير يقتضي أن لها أن تختار نفسها ولا يحصل لها ذلك إلا بالبينونة فإن كانت مدخولا بها لم تبن إلا بالثلاث وإن لم تكن مدخولا بها بانت بالواحدة وهذا بخلاف أمرك بيدك فإنه لا يقتضي تخييرها بين نفسها وبين زوجها بل تمليكها أمرها وهو أعم من تمليكها الإبانة بثلاث أو بواحدة تنقضي بها عدتها فإن أراد بها أحد محتمليه قبل قوله وهذا بعينه يرد عليهم في " اختاري " فإنه أعم من أن تختار البينونة بثلاث أو بواحدة تنقضي بها عدتها بل " أمرك بيدك " أصرح في تمليك الثلاث من " اختاري " لأنه مضاف ومضاف إليه فيعم جميع أمرها . بخلاف " اختاري " فإنه مطلق لا عموم له فمن أين يستفاد منه الثلاث ؟ وهذا منصوص الإمام أحمد فإنه قال في اختاري : إنه لا تملك به المرأة أكثر من طلقة واحدة إلا بنية الزوج ونص في " أمرك بيدك وطلاقك بيدك ووكلتك في الطلاق " : على أنها تملك به الثلاث . وعنه رواية أخرى : أنها لا تملكها إلا بنيته .

[حجة من جعله تطليقا منجزا ]

وأما من جعله تطليقا منجزا فقد تقدم وجه قوله وضعفه .



[حجج من جعله لغوا ]

وأما من جعله لغوا فلهم مأخذان أحدهما : أن الطلاق لم يجعله الله بيد النساء إنما جعله بيد الرجال ولا يتغير شرع الله باختيار العبد فليس له أن يختار نقل الطلاق إلى من لم يجعل الله إليه الطلاق البتة .

قال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا أبو بكر بن عياش حدثنا حبيب بن أبي ثابت أن رجلا قال لامرأة له إن أدخلت هذا العدل إلى هذا البيت فأمر صاحبتك بيدك فأدخلته ثم قالت هي طالق فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبانها منه فمروا بعبد الله بن مسعود فأخبروه فذهب بهم إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين إن الله تبارك وتعالى جعل الرجال قوامين على النساء ولم يجعل النساء قوامات على الرجال فقال له عمر فما ترى ؟ قال أراها امرأته . قال وأنا أرى ذلك فجعلها واحدة

قلت : يحتمل أنه جعلها واحدة بقول الزوج فأمر صاحبتك بيدك ويكون كناية في الطلاق ويحتمل أنه جعلها واحدة بقول ضرتها : هي طالق ولم يجعل للضرة إبانتها لئلا تكون هي القوامة على الزوج فليس في هذا دليل لما ذهبت إليه هذه الفرقة بل هو حجة عليها .

وقال أبو عبيد : حدثنا عبد الغفار - بن داود عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن رميثة الفارسية كانت تحت محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر فملكها أمرها فقالت أنت طالق ثلاث مرات فقال عثمان بن عفان : أخطأت لا طلاق لها لأن المرأة لا تطلق

وهذا أيضا لا يدل لهذه الفرقة لأنه إنما لم يوقع الطلاق لأنها أضافته إلى غير محله وهو الزوج وهو لم يقل أنا منك طالق وهذا نظير ما رواه عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أن مجاهدا أخبره أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال ملكت امرأتي أمرها فطلقتني ثلاثا فقال ابن عباس : خطأ الله نوأها إنما الطلاق لك عليها وليس لها عليك

قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن الرجل يقول لامرأته أمرك بيدك ؟ فقال قال عثمان وعلي رضي الله عنهما : القضاء ما قضت قلت : فإن قالت قد طلقت نفسي ثلاثا قال القضاء ما قضت . قلت : فإن قالت طلقتك ثلاثا قال المرأة لا تطلق واحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنهما : خطأ الله نوأها

ورواه عن وكيع عن شعبة عن الحكم عن ابن عباس رضي الله عنه في رجل جعل أمر امرأته في يدها فقالت قد طلقتك ثلاثا قال ابن عباس : خطأ الله نوأها أفلا طلقت نفسها قال أحمد صحف أبو مطر فقال " خطأ الله فوها " ولكن روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال سألت عبد الله بن طاووس كيف كان أبوك يقول في رجل ملك امرأته أمرها أتملك أن تطلق نفسها أم لا ؟ قال كان يقول ليس إلى النساء طلاق فقلت له فكيف كان أبوك يقول في رجل ملك رجلا أمر امرأته أيملك الرجل أن يطلقها ؟ قال لا

فهذا صريح من مذهب طاووس أنه لا يطلق إلا الزوج وأن تمليك الزوجة أمرها لغو وكذلك توكيله غيره في الطلاق . قال أبو محمد بن حزم : وهذا قول أبي سليمان وجميع أصحابنا .

الحجة الثانية لهؤلاء أن الله سبحانه إنما جعل أمر الطلاق إلى الزوج دون النساء لأنهن ناقصات عقل ودين والغالب عليهن السفه وتذهب بهن الشهوة والميل إلى الرجال كل مذهب فلو جعل أمر الطلاق إليهن لم يستقم للرجال معهن أمر وكان في ذلك ضرر عظيم بأزواجهن فاقتضت حكمته ورحمته أنه لم يجعل بأيديهن شيئا من أمر الفراق وجعله إلى الأزواج .

فلو جاز للأزواج نقل ذلك إليهن لناقض حكمة الله ورحمته ونظره للأزواج . قالوا : والحديث إنما دل على التخيير فقط فإن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كما وقع كن أزواجه بحالهن وإن اخترن أنفسهن متعهن وطلقهن هو بنفسه وهو السراح الجميل لا أن اختيارهن لأنفسهن يكون هو نفس الطلاق وهذا في غاية الظهور كما ترى .

قال هؤلاء والآثار عن الصحابة في ذلك مختلفة اختلافا شديدا فصح عن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت في رجل جعل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها ثلاثا أنها طلقة واحدة رجعية وصح عن عثمان رضي الله عنه . أن القضاء ما قضت ورواه سعيد بن منصور عن ابن عمر وغيره عن ابن الزبير . وصح عن علي وزيد وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنها إن اختارت نفسها فواحدة بائنة وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية

وصح عن بعض الصحابة أنها إن اختارت نفسها فثلاث بكل حال وروي عن ابن مسعود فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها فليس بشيء

قال أبو محمد بن حزم : وقد تقصينا من روينا عنه من الصحابة أنه يقع به الطلاق فلم يكونوا بين من صح عنه ومن لم يصح عنه إلا سبعة ثم اختلفوا وليس قول بعضهم أولى من قول بعض ولا أثر في شيء منها إلا ما رويناه من طريق النسائي أخبرنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد قال قلت لأيوب السختياني هل علمت أحدا قال في " أمرك بيدك " : إنها ثلاث غير الحسن ؟ قال لا اللهم غفرا إلا ما حدثني به قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث . قال أيوب فلقيت كثيرا مولى ابن سمرة فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال نسي . قال أبو محمد كثير مولى ابن سمرة مجهول ولو كان مشهورا بالثقة والحفظ لما خالفنا هذا الخبر وقد أوقفه بعض رواته على أبي هريرة . انتهى .

وقال المروذي سألت أبا عبد الله ما تقول في امرأة خيرت فاختارت نفسها ؟ قال قال فيها خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها واحدة ولها الرجعة عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة وذكر آخر قال غير المروذي هو زيد بن ثابت .

قال أبو محمد ومن خير امرأته فاختارت نفسها أو اختارت الطلاق أو اختارت زوجها أو لم تختر شيئا فكل ذلك لا شيء وكل ذلك سواء ولا تطلق بذلك ولا تحرم عليه ولا لشيء من ذلك حكم ولو كرر التخيير وكررت هي اختيار نفسها أو اختيار الطلاق ألف مرة وكذلك إن ملكها نفسها أو جعل أمرها بيدها . ولا فرق .




ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قول الرجل لامرأته أمرك بيدك أو قد ملكتك أمرك أو اختاري يوجب أن يكون طلاقا أو أن لها أن تطلق نفسها أو تختار طلاقا فلا يجوز أن يحرم على الرجل فرج أباحه الله تعالى له ورسوله صلى الله عليه وسلم بأقوال لم يوجبها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا في غاية البيان . انتهى كلامه .

قالوا : واضطراب أقوال الموقعين وتناقضها ومعارضة بعضها لبعض يدل على فساد أصلها ولو كان الأصل صحيحا لاطردت فروعه ولم تتناقض ولم تختلف ونحن نشير إلى طرف من اختلافهم .

فاختلفوا : هل يقع الطلاق بمجرد التخيير أو لا يقع حتى تختار نفسها ؟ على قولين تقدم حكايتهما ثم اختلف الذين لا يوقعونه بمجرد قوله أمرك بيدك : هل يختص اختيارها بالمجلس أو يكون في يدها ما لم يفسخ أو يطأ ؟ على قولين . أحدهما أنه يتقيد بالمجلس وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنه . الثاني : أنه في يدها أبدا حتى يفسخ أو يطأ وهذا قول أحمد وابن المنذر وأبي ثور . والرواية الثانية عن مالك . ثم قال بعض أصحابه وذلك ما لم تطل حتى يتبين أنها تركته وذلك بأن يتعدى شهرين ثم اختلفوا هل عليها يمين أنها تركت أم لا ؟ على قولين .

ثم اختلفوا إذا رجع الزوج فيما جعل إليها فقال أحمد وإسحاق والأوزاعي والشعبي ومجاهد وعطاء له ذلك ويبطل خيارها . وقال مالك وأبو حنيفة والثوري والزهري : ليس له الرجوع وللشافعية خلاف مبني على أنه توكيل فيملك الموكل الرجوع أو تمليك فلا يملكه قال بعض أصحاب التمليك ولا يمتنع الرجوع . وإن قلنا إنه تمليك لأنه لم يتصل به القبول فجاز الرجوع فيه كالهبة والبيع .

واختلفوا : فيما يلزم من اختيارها نفسها . فقال أحمد والشافعي واحدة رجعية وهو قول ابن عمر وابن مسعود وابن عباس واختاره أبو عبيد وإسحاق . وعن علي واحدة بائنة وهو قول أبي حنيفة وعن زيد بن ثابت ثلاث وهو قول الليث وقال مالك : إن كانت مدخولا بها فثلاث وإن كانت غير مدخول بها قبل منه دعوى الواحدة .

واختلفوا : هل يفتقر قوله أمرك بيدك إلى نية أم لا ؟ فقال أحمد والشافعي وأبو حنيفة يفتقر إلى نية وقال مالك لا يفتقر إلى نية واختلفوا : هل يفتقر وقوع الطلاق إلى نية المرأة إذا قالت اخترت نفسي أو فسخت نكاحك ؟ فقال أبو حنيفة لا يفتقر وقوع الطلاق إلى نيتها إذا نوى الزوج . وقال أحمد والشافعي : لا بد من نيتها إذا اختارت بالكناية ثم قال أصحاب مالك إن قالت اخترت نفسي أو قبلت نفسي لزم الطلاق ولو قالت لم أرده وإن قالت . قبلت أمري سئلت عما أرادت ؟ فإن أرادت الطلاق كان طلاقا وإن لم ترده لم يكن طلاقا . ثم قال مالك إذا قال لها : أمرك بيدك وقال قصدت طلقة واحدة فالقول قوله مع يمينه وإن لم تكن له نية فله أن يوقع ما شاء . وإذا قال اختاري وقال أردت واحدة فاختارت نفسها طلقت ثلاثا ولا يقبل قوله .

ثم ها هنا فروع كثيرة مضطربة غاية الاضطراب لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع والزوجة زوجته حتى يقوم دليل على زوال عصمته عنها .

قالوا : ولم يجعل الله إلى النساء شيئا من النكاح ولا من الطلاق وإنما جعل ذلك إلى الرجال وقد جعل الله سبحانه الرجال قوامين على النساء إن شاءوا أمسكوا وإن شاءوا طلقوا فلا يجوز للرجل أن يجعل المرأة قوامة عليه إن شاءت أمسكت وإن شاءت طلقت . قالوا : ولو أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء لم نتعد إجماعهم ولكن اختلفوا فطلبنا الحجة لأقوالهم من غيرها فلم نجد الحجة تقوم إلا على هذا القول . وإن كان من روي عنه قد روي عنه خلافه أيضا وقد أبطل من ادعى الإجماع في ذلك فالنزاع ثابت بين الصحابة والتابعين كما حكيناه والحجة لا تقوم بالخلاف فهذا ابن عباس وعثمان بن عفان قد قالا : إن تمليك الرجل لامرأته أمرها ليس بشيء وابن مسعود يقول فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها : ليس بشيء وطاووس يقول فيمن ملك امرأته أمرها : ليس إلى النساء طلاق ويقول فيمن ملك رجلا أمر امرأته أيملك الرجل أن يطلقها ؟ قال لا

قلت : أما المنقول عن طاووس فصحيح صريح لا مطعن فيه سندا وصراحة . وأما المنقول عن ابن مسعود فمختلف فنقل عنه موافقة علي وزيد في الوقوع كما رواه ابن أبي ليلى عن الشعبي : أن أمرك بيدك واختاري سواء في قول علي وابن مسعود وزيد ونقل عنه فيمن قال لامرأته أمر فلانة بيدك إن أدخلت هذا العدل البيت ففعلت أنها امرأته ولم يطلقها عليه .

وأما المنقول عن ابن عباس وعثمان فإنما هو فيما إذا أضافت المرأة الطلاق إلى الزوج وقالت أنت طالق .

وأحمد ومالك يقولان ذلك مع قولهما بوقوع الطلاق إذا اختارت نفسها أو طلقت نفسها فلا يعرف عن أحد من الصحابة إلغاء التخيير والتمليك البتة إلا هذه الرواية عن ابن مسعود وقد روي عنه خلافها والثابت عن الصحابة اعتبار ذلك ووقوع الطلاق به وإن اختلفوا فيما تملك به المرأة كما تقدم والقول بأن ذلك لا أثر له لا يعرف عن أحد من الصحابة البتة وإنما وهم أبو محمد في المنقول عن ابن عباس وعثمان ولكن هذا مذهب طاووس وقد نقل عن عطاء ما يدل على ذلك فروى عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء رجل قال لامرأته أمرك بيدك بعد يوم أو يومين قال ليس هذا بشيء . قلت : فأرسل إليها رجلا أن أمرها بيدها يوما أو ساعة قال ما أدري ما هذا ؟ ما أظن هذا شيئا . قلت لعطاء أملكت عائشة حفصة حين ملكها المنذر أمرها قال عطاء لا إنما عرضت عليها أتطلقها أم لا ولم تملكها أمرها


ولولا هيبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدلنا عن هذا القول ولكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم القدوة وإن اختلفوا في حكم التخيير ففي ضمن اختلافهم اتفاقهم على اعتبار التخيير وعدم إلغائه ولا مفسدة في ذلك والمفسدة التي ذكرتموها في كون الطلاق بيد المرأة إنما تكون لو كان ذلك بيدها استقلالا فأما إذا كان الزوج هو المستقل بها فقد تكون المصلحة له في تفويضها إلى المرأة ليصير حاله معها على بينة إن أحبته أقامت معه وإن كرهته فارقته فهذا مصلحة له ولها وليس في هذا ما يقتضي تغيير شرع الله وحكمته ولا فرق بين توكيل المرأة في طلاق نفسها وتوكيل الأجنبي ولا معنى لمنع توكيل الأجنبي في الطلاق كما يصح توكيله في النكاح والخلع .

وقد جعل الله سبحانه للحكمين النظر في حال الزوجين عند الشقاق إن رأيا التفريق فرقا وإن رأيا الجمع جمعا وهو طلاق أو فسخ من غير الزوج إما برضاه إن قيل هما وكيلان أو بغير رضاه إن قيل هما حكمان وقد جعل للحاكم أن يطلق على الزوج في مواضع بطريق النيابة عنه فإذا وكل الزوج من يطلق عنه أو يخالع لم يكن في هذا تغيير لحكم الله ولا مخالفة لدينه فإن الزوج هو الذي يطلق إما بنفسه أو بوكيله وقد يكون أتم نظرا للرجل من نفسه وأعلم بمصلحته فيفوض إليه ما هو أعلم بوجه المصلحة فيه منه وإذا جاز التوكيل في العتق والنكاح والخلع والإبراء وسائر الحقوق من المطالبة بها وإثباتها واستيفائها والمخاصمة فيها فما الذي حرم التوكيل في الطلاق ؟ نعم الوكيل يقوم مقام الموكل فيما يملكه من الطلاق وما لا يملكه وما يحل له منه وما يحرم عليه ففي الحقيقة لم يطلق إلا الزوج إما بنفسه أو بوكيله .


افتراضي

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي بينه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرم أمته أو زوجته أو متاعه
قال تعالى : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ التحريم 1 ] ثبت في " الصحيحين " أنه صلى الله عليه وسلم شرب عسلا من بيت زينب بنت جحش فاحتالت عليه عائشة وحفصة حتى قال لن أعود له . وفي لفظ وقد حلفت .

وفي " سنن النسائي " : عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها فأنزل الله عز وجل يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك .

وفي " صحيح مسلم " : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .

وفي " جامع الترمذي " : عن عائشة رضي الله عنها قالت آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفارة .

هكذا رواه مسلمة بن علقمة عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة ورواه علي بن مسهر وغيره عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وهو أصح انتهى كلام أبي عيسى .

وقولها : جعل الحرام حلالا أي جعل الشيء الذي حرمه وهو العسل أو الجارية حلالا بعد تحريمه إياه .

وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن هبيرة عن قبيصة بن ذؤيب قال سألت زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم عمن قال لامرأته أنت علي حرام فقالا جميعا : كفارة يمين .

وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال في التحريم هي يمين يكفرها .

قال ابن حزم وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعائشة أم المؤمنين . وقال الحجاج بن منهال حدثنا جرير بن حازم قال سألت نافعا مولى ابن عمر رضي الله عنه عن الحرام أطلاق هو ؟ قال لا أوليس قد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته فأمره الله عز وجل أن يكفر عن يمينه ولم يحرمها عليه .

وقال عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير وأيوب السختياني كلاهما عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال هي يمين يعني التحريم .

وقال إسماعيل بن إسحاق حدثنا المقدمي حدثنا حماد بن زيد عن صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الحرام يمين .



[ مذاهب الناس في تحريم الرجل أمته أو زوجته أو متاعه ]
وفي " صحيح البخاري " : عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول إذا حرم امرأته ليس بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقيل هذا رواية أخرى عن ابن عباس . وقيل إنما أراد أنه ليس بطلاق وفيه كفارة يمين ولهذا احتج بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الثاني أظهر وهذه المسألة فيها عشرون مذهبا للناس ونحن نذكرها ونذكر وجوهها ومآخذها والراجح منها بعون الله تعالى وتوفيقه .

أحدها : أن التحريم لغو لا شيء فيه لا في الزوجة ولا في غيرها لا طلاق ولا إيلاء ولا يمين ولا ظهار روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق : ما أبالي حرمت امرأتي أو قصعة من ثريد

وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن صالح بن مسلم عن الشعبي أنه قال في تحريم المرأة لهي أهون علي من نعلي

وذكر عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال ما أبالي حرمتها يعني امرأته أو حرمت ماء النهر .

وقال قتادة : سأل رجل حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ذلك ؟ فقال قال الله تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب [ ألم نشرح 7 ] وأنت رجل تلعب فاذهب فالعب هذا قول أهل الظاهر كلهم .

[ من قال بأن التحريم في الزوجة طلاق ثلاث ]

المذهب الثاني : أن التحريم في الزوجة طلاق ثلاث . قال ابن حزم قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر وهو قول الحسن ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وروي عن الحكم بن عتيبة . قلت : الثابت عن زيد بن ثابت وابن عمر ما رواه هو من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي هبيرة عن قبيصة أنه سأل زيد بن ثابت وابن عمر عمن قال لامرأته . أنت علي حرام فقالا جميعا : كفارة يمين ولم يصح عنهما خلاف ذلك وأما علي فقد روى أبو محمد ابن حزم من طريق يحيى القطان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال يقول رجال في الحرام هي حرام حتى تنكح زوجا غيره ولا والله ما قال ذلك علي وإنما قال علي : ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر

وأما الحسن فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه أنه قال كل حلال علي حرام فهو يمين ولعل أبا محمد غلط على علي وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث .

وقال هو عن علي وابن عمر صحيح فوهم أبو محمد وحكاه في : أنت علي حرام وهو وهم ظاهر فإنهم فرقوا بين التحريم فأفتوا فيه بأنه يمين وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلاث ولا أعلم أحدا قال إنه ثلاث بكل حال .

المذهب الثالث أنه ثلاث في حق المدخول بها لا يقبل منه غير ذلك وإن كانت غير مدخول بها وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلاث فإن أطلق فواحدة وإن قال لم أرد طلاقا فإن كان قد تقدم كلام يجوز صرفه إليه قبل منه وإن كان ابتداء لم يقبل وإن حرم أمته أو طعامه أو متاعه فليس بشيء وهذا مذهب مالك .

المذهب الرابع أنه إن نوى الطلاق كان طلاقا ثم إن نوى به الثلاث فثلاث وإن نوى دونها فواحدة بائنة وإن نوى يمينا فهو يمين فيها كفارة وإن لم ينو شيئا فهو إيلاء فيه حكم الإيلاء . فإن نوى الكذب صدق في الفتيا ولم يكن شيئا ويكون في القضاء إيلاء وإن صادف غير الزوجة الأمة والطعام وغيره فهو يمين فيه كفارتها وهذا مذهب أبي حنيفة .

المذهب الخامس أنه إن نوى به الطلاق كان طلاقا ويقع ما نواه فإن أطلق وقعت واحدة وإن نوى الظهار كان ظهارا وإن نوى اليمين كان يمينا وإن نوى تحريم عينها من غير طلاق ولا ظهار فعليه كفارة يمين وإن لم ينو شيئا ففيه قولان . أحدهما : لا يلزمه شيء .

والثاني : يلزمه كفارة يمين . وإن صادف جارية فنوى عتقها وقع العتق وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين وإن نوى الظهار منها لم يصح ولم يلزمه شيء وقيل بل يلزمه كفارة يمين وإن لم ينو شيئا ففيه قولان أحدهما : لا يلزمه شيء . والثاني : عليه كفارة يمين . وإن صادف غير الزوجة والأمة لم يحرم ولم يلزمه به شيء وهذا مذهب الشافعي .

المذهب السادس أنه ظهار بإطلاقه نواه أو لم ينوه إلا أن يصرفه بالنية إلى الطلاق أو اليمين فينصرف إلى ما نواه هذا ظاهر مذهب أحمد .

وعنه رواية ثانية أنه بإطلاقه يمين إلا أن يصرفه بالنية إلى الظهار أو الطلاق فينصرف إلى ما نواه وعنه رواية أخرى ثالثة أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيره وفيه رواية رابعة حكاها أبو الحسين في " فروعه " أنه طلاق بائن . ولو وصله بقوله أعني به الطلاق فعنه فيه روايتان . إحداهما : أنه طلاق فعلى هذا هل تلزمه الثلاث أو واحدة ؟ على روايتين والثانية أنه ظهار أيضا كما لو قال أنت علي كظهر أمي : أعني به الطلاق هذا تلخيص مذهبه .

المذهب السابع أنه إن نوى به ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى به واحدة فهي واحدة بائنة وإن نوى به يمينا فهي يمين وإن لم ينو شيئا فهي كذبة لا شيء فيها وهذا مذهب سفيان الثوري حكاه عنه أبو محمد ابن حزم .

المذهب الثامن أنه طلقة واحدة بائنة بكل حال وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان .

المذهب التاسع أنه إن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة أو لم ينو شيئا فواحدة بائنة وهذا مذهب إبراهيم النخعي حكاه عنه أبو محمد ابن حزم .

المذهب العاشر أنه طلقة رجعية حكاه ابن الصباغ وصاحبه أبو بكر الشاشي عن الزهري عن عمر بن الخطاب .

المذهب الحادي عشر أنها حرمت عليه بذلك فقط ولم يذكر هؤلاء ظهارا ولا طلاقا ولا يمينا بل ألزموه موجب تحريمه . قال ابن حزم صح هذا عن علي بن أبي طالب ورجال من الصحابة لم يسموا وعن أبي هريرة .

وصح عن الحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة أنهم أمروه باجتنابها فقط . المذهب الثاني عشر التوقف في ذلك لا يحرمها المفتي على الزوج ولا يحللها له كما رواه الشعبي عن علي أنه قال ما أنا بمحلها ولا محرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر

المذهب الثالث عشر الفرق بين أن يوقع التحريم منجزا أو معلقا تعليقا مقصودا وبين أن يخرجه مخرج اليمين فالأول ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاق ولو وصله بقوله أعني به الطلاق .

والثاني : يمين يلزمه به كفارة يمين فإذا قال أنت علي حرام أو إذا دخل رمضان فأنت علي حرام فظهار وإذا قال إن سافرت أو إن أكلت هذا الطعام أو كلمت فلانا فامرأتي علي حرام فيمين مكفرة وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فهذه أصول المذاهب في هذه المسألة وتتفرع إلى أكثر من عشرين مذهبا .

فصل

فأما من قال التحريم كله لغو لا شيء فيه فاحتجوا بأن الله سبحانه لم يجعل للعبد تحريما ولا تحليلا وإنما جعل له تعاطي الأسباب التي تحل بها العين وتحرم كالطلاق والنكاح والبيع والعتق وأما مجرد قوله حرمت كذا وهو علي حرام فليس إليه . قال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب [ النحل 116 ] وقال تعالى : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [ التحريم 1 ] فإذا كان سبحانه لم يجعل لرسوله أن يحرم ما أحل الله له فكيف يجعل لغيره التحريم ؟ .

قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا التحريم كذلك فيكون ردا باطلا .

قالوا : ولأنه لا فرق بين تحريم الحلال وتحليل الحرام وكما أن هذا الثاني لغو لا أثر له فكذلك الأول .

قالوا : ولا فرق بين قوله لامرأته أنت علي حرام وبين قوله لطعامه هو علي حرام .

قالوا : وقوله . أنت علي حرام إما أن يريد به إنشاء تحريمها أو الإخبار عنها بأنها حرام وإنشاء تحريم محال فإنه ليس إليه إنما هو إلى من أحل الحلال وحرم الحرام وشرع الأحكام وإن أراد الإخبار فهو كذب فهو إما خبر كاذب أو إنشاء باطل وكلاهما لغو من القول .

قالوا : ونظرنا فيما سوى هذا القول فرأيناها أقوالا مضطربة متعارضة يرد بعضها بعضا فلم نحرم الزوجة بشيء منها بغير برهان من الله ورسوله فنكون قد ارتكبنا أمرين تحريمها على الأول وإحلالها لغيره والأصل بقاء النكاح حتى تجمع الأمة أو يأتي برهان من الله ورسوله على زواله فيتعين القول به فهذا حجة هذا الفريق



فصل

وأما من قال إنه ثلاث بكل حال إن ثبت هذا عنه فيحتج له بأن التحريم جعل كناية في الطلاق وأعلى أنواعه تحريم الثلاث فيحمل على أعلى أنواعه احتياطا للأبضاع .

وأيضا فإنا تيقنا التحريم بذلك وشككنا : هل هو تحريم تزيله الكفارة كالظهار أو يزيله تجديد العقد كالخلع أو لا يزيله إلا زوج وإصابة كتحريم الثلاث ؟ وهذا متيقن وما دونه مشكوك فيه فلا يحل بالشك .

قالوا : ولأن الصحابة أفتوا في الخلية والبرية بأنها ثلاث . قال أحمد : هو عن علي وابن عمر صحيح ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم فإذا صرح بالغاية فهي أولى أن تكون ثلاثا ولأن المحرم لا يسبق إلى وهمه تحريم امرأته بدون الثلاث فكأن هذا اللفظ صار حقيقة عرفية في إيقاع الثلاث .

وأيضا فالواحدة لا تحرم إلا بعوض أو قبل الدخول أو عند تقييدها بكونها بائنة عند من يراه فالتحريم بها مقيد فإذا أطلق التحريم ولم يقيد انصرف إلى التحريم المطلق الذي يثبت قبل الدخول أو بعده وبعوض وغيره وهو الثلاث .

فصل

وأما من جعله ثلاثا في حق المدخول بها وواحدة بائنة في حق غيرها فحجته أن المدخول بها لا يحرمها إلا الثلاث وغير المدخول بها تحرمها الواحدة فالزائدة عليها ليست من لوازم التحريم فأورد على هؤلاء أن المدخول بها يملك الزوج إبانتها بواحدة بائنة فأجابوا بما لا يجدي عليهم شيئا وهو أن الإبانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة إبانة مقيدة بخلاف التحريم فإن الإبانة به مطلقة ولا يكون ذلك إلا بالثلاث وهذا القدر لا يخلصهم من هذا الإلزام فإن إبانة التحريم أعظم تقييدا من قوله أنت طالق طلقة بائنة فإن غاية البائنة أن تحرمها وهذا قد صرح بالتحريم فهو أولى بالإبانة من قوله أنت طالق طلقة بائنة .

فصل

وأما من جعلها واحدة بائنة في حق المدخول بها وغيرها فمأخذ هذا القول أنها لا تفيد عددا بوضعها وإنما تقتضي بينونة يحصل بها التحريم وهو يملك إبانتها بعد الدخول بها بواحدة بدون عوض كما إذا قال أنت طالق طلقة بائنة فإن الرجعة حق له فإذا أسقطها سقطت ولأنه إذا ملك إبانتها بعوض يأخذه منها ملك الإبانة بدونه فإنه محسن بتركه ولأن العوض مستحق له لا عليه فإذا أسقطه وأبانها فله ذلك .

فصل

وأما من قال إنها واحدة رجعية فمأخذه أن التحريم يفيد مطلق انقطاع الملك وهو يصدق بالمتيقن منه وهو الواحدة وما زاد عليها فلا تعرض في اللفظ له فلا يسوغ إثباته بغير موجب وإذا أمكن إعمال اللفظ في الواحدة فقد وفى بموجبه فالزيادة عليه لا موجب لها .

قالوا : وهذا ظاهر جدا على أصل من يجعل الرجعية محرمة وحينئذ فنقول التحريم أعم من تحريم رجعية أو تحريم بائن فالدال على الأعم لا يدل على الأخص وإن شئت قلت : الأعم لا يستلزم الأخص أو ليس الأخص من لوازم الأعم أو الأعم لا ينتج الأخص .




فصل

وأما من قال يسأل عما أراد من ظهار أو طلاق رجعي أو محرم أو يمين فيكون ما أراد من ذلك فمأخذه أن اللفظ لم يوضع لإيقاع الطلاق خاصة بل هو محتمل للطلاق والظهار والإيلاء فإذا صرف إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له وصرفه إليه بنيته فينصرف إلى ما أراده ولا يتجاوز به ولا يقصر عنه وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك عتقت وكذلك لو نوى الإيلاء من الزوجة واليمين من الأمة لزمه ما نواه قالوا : وأما إذا نوى تحريم عينها لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين اتباعا لظاهر القرآن وحديث ابن عباس الذي رواه مسلم في " صحيحه " : إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وتلا : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وهذا يشبه ما قاله مجاهد في الظهار إنه يلزمه بمجرد التكلم به كفارة الظهار وهو في الحقيقة قول الشافعي رحمه الله فإنه يوجب الكفارة إذا لم يطلق عقيبه على الفور .

قالوا : ولأن اللفظ يحتمل الإنشاء والإخبار فإن أراد الإخبار فقد استعمله فيما هو صالح له فيقبل منه . وإن أراد الإنشاء سئل عن السبب الذي حرمها به . فإن قال أردت ثلاثا أو واحدة أو اثنتين قبل منه لصلاحية اللفظ له واقترانه بنيته وإن نوى الظهار كان كذلك لأنه صرح بموجب الظهار لأن قوله أنت علي كظهر أمي موجبه التحريم فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم كان ظهارا واحتماله للطلاق بالنية لا يزيد على احتماله للظهار بها وإن أراد تحريمها مطلقا فهو يمين مكفرة لأنه امتناع منها بالتحريم فهو كامتناعه منها باليمين .



فصل

وأما من قال إنه ظهار إلا أن ينوي به طلاقا فمأخذ قوله أن اللفظ موضوع للتحريم فهو منكر من القول وزور فإن العبد ليس إليه التحريم والتحليل وإنما إليه إنشاء الأسباب التي يرتب عليها ذلك فإذا حرم ما أحل الله له فقد قال المنكر والزور فيكون كقوله أنت علي كظهر أمي بل هذا أولى أن يكون ظهارا لأنه إذا شبهها بمن تحرم عليه دل على التحريم باللزوم فإذا صرح بتحريمها فقد صرح بموجب التشبيه في لفظ الظهار فهو أولى أن يكون ظهارا .

قالوا : وإنما جعلناه طلاقا بالنية فصرفناه إليه بها لأنه يصلح كناية في الطلاق فينصرف إليه بالنية بخلاف إطلاقه فإنه ينصرف إلى الظهار فإذا نوى به اليمين كان يمينا إذ من أصل أرباب هذا القول أن تحريم الطعام ونحوه يمين مكفرة فإذا نوى بتحريم الزوجة اليمين نوى ما يصلح له اللفظ فقبل منه .



فصل

وأما من قال إنه ظهار وإن نوى به الطلاق أو وصله بقوله أعني به الطلاق فمأخذ قوله ما ذكرنا من تقرير كونه ظهارا ولا يخرج عن كونه ظهارا بنية الطلاق كما لو قال أنت علي كظهر أمي ونوى به الطلاق أو قال أعني به الطلاق فإنه لا يخرج بذلك عن الظهار ويصير طلاقا عند الأكثرين إلا على قول شاذ لا يلتفت إليه لموافقته ما كان الأمر عليه في الجاهلية من جعل الظهار طلاقا ونسخ الإسلام لذلك وإبطاله فإذا نوى به الطلاق فقد نوى ما أبطله الله ورسوله مما كان عليه أهل الجاهلية عند إطلاق لفظ الظهار طلاقا وقد نوى ما لا يحتمله شرعا فلا تؤثر نيته في تغيير ما استقر عليه حكم الله الذي حكم به بين عباده ثم جرى أحمد وأصحابه على أصله من التسوية بين إيقاع ذلك والحلف به كالطلاق والعتاق وفرق شيخ الإسلام بين البابين على أصله في التفريق بين الإيقاع والحلف كما فرق الشافعي وأحمد رحمهما الله ومن وافقهما بين البابين في النذر بين أن يحلف به فيكون يمينا مكفرة وبين أن ينجزه أو يعلقه بشرط يقصد وقوعه فيكون نذرا لازم الوفاء كما سيأتي تقريره في الأيمان إن شاء الله تعالى .

قال فيلزمهم على هذا أن يفرقوا بين إنشاء التحريم وبين الحلف فيكون في الحلف به حالفا يلزمه كفارة يمين وفي تنجيزه أو تعليقه بشرط مقصود مظاهرا يلزمه كفارة الظهار وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه مرة جعله ظهارا ومرة جعله يمينا .




فصل

وأما من قال إنه يمين مكفرة بكل حال فمأخذ قوله أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمين تكفر بالنص والمعنى وآثار الصحابة فإن الله سبحانه قال يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ التحريم 1و2 ]

ولا بد أن يكون تحريم الحلال داخلا تحت هذا الفرض لأنه سببه وتخصيص محل السبب من جملة العام ممتنع قطعا إذ هو المقصود بالبيان أولا فلو خص لخلا سبب الحكم عن البيان وهو ممتنع وهذا الاستدلال في غاية القوة فسألت عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال نعم التحريم يمين كبرى في الزوجة كفارتها كفارة الظهار ويمين صغرى فيما عداها كفارتها كفارة اليمين بالله .

قال وهذا معنى قول ابن عباس وغيره من الصحابة ومن بعدهم إن التحريم يمين تكفر فهذا تحرير المذاهب في هذه المسألة نقلا وتقريرها استدلالا ولا يخفى - على من آثر العلم والإنصاف وجانب التعصب ونصرة ما بني عليه من الأقوال - الراجح من المرجوح وبالله المستعان .




فصل [ الاختلاف في تحريم غير الزوجة ]

وقد تبين بما ذكرنا أن من حرم شيئا غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته لم يحرم عليه بذلك وعليه كفارة يمين وفي هذا خلاف في ثلاثة مواضع .

أحدها : أنه لا يحرم وهذا قول الجمهور وقال أبو حنيفة : يحرم تحريما مقيدا تزيله الكفارة كما إذا ظاهر من امرأته فإنه لا يحل له وطؤها حتى يكفر ولأن الله سبحانه سمى الكفارة في ذلك تحلة وهي ما يوجب الحل فدل على ثبوت التحريم قبلها ولأنه سبحانه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم لم تحرم ما أحل الله لك ولأنه تحريم لما أبيح له فيحرم بتحريمه كما لو حرم زوجته .

ومنازعوه يقولون إنما سميت الكفارة تحلة من الحل الذي هو ضد العقد لا من الحل الذي هو مقابل التحريم فهي تحل اليمين بعد عقدها وأما قوله لم تحرم ما أحل الله لك فالمراد تحريم الأمة أو العسل ومنع نفسه منه وذلك يسمى تحريما فهو تحريم بالقول لا إثبات للتحريم شرعا .

وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهار أو بقوله أنت علي حرام فلو صح هذا القياس لوجب تقديم التكفير على الحنث قياسا على الظهار إذ كان في معناه وعندهم لا يجوز التكفير إلا بعد الحنث فعلى قولهم يلزم أحد أمرين ولا بد إما أن يفعله حراما وقد فرض الله تحلة اليمين فيلزم كون المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض لأنه لا يصل إلى التحلة إلا بفعل المحلوف عليه أو أنه لا سبيل له إلى فعله حلالا لأنه لا يجوز تقديم الكفارة فيستفيد بها الحل وإقدامه عليه وهو حرام ممتنع هذا ما قيل في المسألة من الجانبين .

وبعد فلها غور وفيها دقة وغموض فإن من حرم شيئا فهو بمنزلة من حلف بالله على تركه ولو حلف على تركه لم يجز له هتك حرمة المحلوف به بفعله إلا بالتزام الكفارة فإذا التزمها جاز له الإقدام على فعل المحلوف عليه فلو عزم على ترك الكفارة فإن الشارع لا يبيح له الإقدام على فعل ما حلف عليه ويأذن له فيه وإنما يأذن له فيه ويبيحه إذا التزم ما فرض الله من الكفارة فيكون إذنه له فيه وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رخصة من الله له ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذي فرض له من الكفارة فإذا لم يلتزمه بقي المنع الذي عقده على نفسه إصرا عليه فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه والتزم حكمه وقد كانت اليمين في شرع من قبلنا يتحتم الوفاء بها ولا يجوز الحنث فوسع الله على هذه الأمة وجوز لها الحنث بشرط الكفارة فإذا لم يكفر لا قبل ولا بعد لم يوسع له في الحنث فهذا معنى قوله إنه يحرم حتى يكفر .

وليس هذا من مفردات أبي حنيفة بل هو أحد القولين في مذهب أحمد يوضحه أن هذا التحريم والحلف قد تعلق به منعان منع من نفسه لفعله ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة فلو لم يحرمه تحريمه أو يمينه لم يكن لمنعه نفسه ولا لمنع الشارع له أثر بل كان غاية الأمر أن الشارع أوجب في ذمته بهذا المنع صدقة أو عتقا أو صوما لا يتوقف عليه حل المحلوف عليه ولا تحريمه البتة بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير فرق فلا يكون للكفارة أثر البتة لا في المنع منه ولا في الإذن وهذا لا يخفى فساده .

وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيث لا يجوز تقديم الكفارة فجوابه أنه إنما يجوز له الإقدام عند عزمه على التكفير فعزمه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه وإنما يكون التحريم ثابتا إذا لم يلتزم الكفارة ومع التزامها لا يستمر التحريم .

فصل

الثاني : أن يلزمه كفارة بالتحريم وهو بمنزلة اليمين وهذا قول من سميناه من الصحابة وقول فقهاء الرأي والحديث إلا الشافعي ومالكا فإنهما قالا : لا كفارة عليه بذلك .

والذين أوجبوا الكفارة أسعد بالنص من الذين أسقطوها فإن الله سبحانه ذكر تحلة الأيمان عقب قوله لم تحرم ما أحل الله لك وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان إما مختصا به وإما شاملا له ولغيره فلا يجوز أن يخلى سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة ويعلق بغيره وهذا ظاهر الامتناع .

وأيضا فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين بل أقوى فإن اليمين إن تضمن هتك حرمة اسمه سبحانه فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره فإنه إذا شرع الشيء حلالا فحرمه المكلف كان تحريمه هتكا لحرمة ما شرعه ونحن نقول لم يتضمن الحنث في اليمين هتك حرمة الاسم ولا التحريم هتك حرمة الشرع كما يقوله من يقول من الفقهاء وهو تعليل فاسد جدا فإن الحنث إما جائز وإما واجب أو مستحب وما جوز الله لأحد البتة أن يهتك حرمة اسمه وقد شرع لعباده الحنث مع الكفارة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها خيرا كفر عن يمينه وأتى المحلوف عليه ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يبح في شريعة قط وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى تحلة وهي تفعلة من الحل فهي تحل ما عقد به اليمين ليس إلا وهذا العقد كما يكون باليمين يكون بالتحريم وظهر سر قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم عقيب قوله لم تحرم ما أحل الله لك

فصل [ الحكم في تحريم الأمة ]

الثالث أنه لا فرق بين التحريم في غير الزوجة بين الأمة وغيرها عند الجمهور إلا الشافعي وحده أوجب في تحريم الأمة خاصة كفارة يمين إذ التحريم له تأثير في الأبضاع عنده دون غيرها .

وأيضا فإن سبب نزول الآية تحريم الجارية فلا يخرج محل السبب عن الحكم ويتعلق بغيره ومنازعوه يقولون النص علق فرض تحلة اليمين بتحريم الحلال وهو أعم من تحريم الأمة وغيرها فتجب الكفارة حيث وجد سببها وقد تقدم تقريره .

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الرجل لامرأته الحقي بأهلك
ثبت في " صحيح البخاري " : أن ابنة الجون لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت أعوذ بالله منك فقال عذت بعظيم الحقي بأهلك .

وثبت في " الصحيحين " : أن كعب بن مالك رضي الله عنه لما أتاه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يعتزل امرأته قال لها : الحقي بأهلك


افتراضي

فاختلف الناس فى هذا فقالت طائفة ليس هذا بطلاق ولا يقع به الطلاق نواه أو لم ينوه وهذا قول أهل الظاهر . قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عقد على ابنة الجون وإنما أرسل إليها ليخطبها .

قالوا : ويدل على ذلك ما في " صحيح البخاري " : من حديث حمزة بن أبي أسيد عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتي بالجونية فأنزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل في نخل ومعها دابتها فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هبي لي نفسك " فقالت وهل تهب الملكة نفسها للسوقة فأهوى ليضع يده عليها لتسكن فقالت أعوذ بالله منك فقال " قد عذت بمعاذ ثم خرج فقال " يا أبا أسيد اكسها رازقيين وألحقها بأهلها

وفي " صحيح مسلم " : عن سهل بن سعد قال ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها فأرسل إليها فقدمت فنزلت في أجم بني ساعدة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءها دخل عليها فإذا امرأة منكسة رأسها فلما كلمها قالت أعوذ بالله منك قال " قد أعذتك مني " فقالوا لها : أتدرين من هذا ؟ قالت لا قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءك ليخطبك قالت أنا كنت أشقى من ذلك

قالوا : وهذه كلها أخبار عن قصة واحدة في امرأة واحدة في مقام واحد وهي صريحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن تزوجها بعد وإنما دخل عليها ليخطبها .

وقال الجمهور - منهم الأئمة الأربعة وغيرهم - بل هذا من ألفاظ الطلاق إذا نوى به الطلاق وقد ثبت في " صحيح البخاري " : أن أبانا إسماعيل بن إبراهيم طلق به امرأته لما قال لها إبراهيم : مريه فليغير عتبة بابه " فقال لها : أنت العتبة وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك وحديث عائشة كالصريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان عقد عليها فإنها قالت لما أدخلت عليه فهذا دخول الزوج بأهله ويؤكده قولها : ودنا منها . وأما حديث أبي أسيد فغاية ما فيه قوله هبي لي نفسك وهذا لا يدل على أنه لم يتقدم نكاحه لها وجاز أن يكون هذا استدعاء منه صلى الله عليه وسلم للدخول لا للعقد . وأما حديث سهل بن سعد فهو أصرحها في أنه لم يكن وجد عقد فإن فيه أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء إليها قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك والظاهر أنها هي الجونية لأن سهلا قال في حديثه فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها فأرسل إليها .

فالقصة واحدة دارت على عائشة رضي الله عنها وأبي أسيد وسهل وكل منهم رواها وألفاظهم فيها متقاربة ويبقى التعارض بين قوله جاء ليخطبك وبين قوله فلما دخل عليها ودنا منها : فإما أن يكون أحد اللفظين وهما أو الدخول ليس دخول الرجل على امرأته بل الدخول العام وهذا محتمل .

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة إسماعيل صريح ولم يزل هذا اللفظ من الألفاظ التي يطلق بها في الجاهلية والإسلام ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم بل أقرهم عليه وقد أوقع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق وهم القدوة بأنت حرام وأمرك بيدك واختاري . ووهبتك لأهلك وأنت خلية وقد خلوت مني وأنت برية وقد أبرأتك وأنت مبرأة وحبلك على غاربك وأنت الحرج .

فقال علي وابن عمر : الخلية ثلاث وقال عمر : واحدة وهو أحق بها وفرق معاوية بين رجل وامرأته قال لها : إن خرجت فأنت خلية وقال علي وابن عمر

رضي الله عنهما وزيد في البرية إنها ثلاث .

وقال عمر رضي الله عنه هي واحدة وهو أحق بها وقال علي في الحرج هي ثلاث وقال عمر : واحدة وقد تقدم ذكر أقوالهم في أمرك بيدك وأنت حرام .

والله سبحانه ذكر الطلاق ولم يعين له لفظا فعلم أنه رد الناس إلى ما يتعارفونه طلاقا فأي لفظ جرى عرفهم به وقع به الطلاق مع النية .

والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على مقاصد لافظها فإذا تكلم بلفظ دال على معنى وقصد به ذلك المعنى ترتب عليه حكمه ولهذا يقع الطلاق من العجمي والتركي والهندي بألسنتهم بل لو طلق أحدهم بصريح الطلاق بالعربية ولم يفهم معناه لم يقع به شيء قطعا فإنه تكلم بما لا يفهم معناه ولا قصده وقد دل حديث كعب بن مالك على أن الطلاق لا يقع بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية .

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 01:53 AM
[ ترجيح المصنف بأن جميع الألفاظ صريحها وكنايتها لا تقع إلا بالنية ]
والصواب أن ذلك جار في سائر الألفاظ صريحها وكنايتها ولا فرق بين ألفاظ العتق والطلاق فلو قال غلامي غلام حر لا يأتي الفواحش أو أمتي أمة حرة لا تبغي الفجور ولم يخطر بباله العتق ولا نواه لم يعتق بذلك قطعا وكذلك لو كانت معه امرأته في طريق فافترقا فقيل له أين امرأتك ؟ فقال فارقتها أو سرح شعرها وقال سرحتها ولم يرد طلاقا لم تطلق . كذلك إذا ضربها الطلق وقال لغيره إخبارا عنها بذلك إنها طالق لم تطلق بذلك وكذلك إذا كانت المرأة في وثاق فأطلقت منه فقال لها : أنت طالق وأراد من الوثاق .

هذا كله مذهب مالك وأحمد في بعض هذه الصور وبعضها نظير ما نص عليه ولا يقع الطلاق به حتى ينويه ويأتي بلفظ دال عليه فلو انفرد أحد الأمرين عن الآخر لم يقع الطلاق ولا العتاق وتقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيما صحيحا في أصل الوضع لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة فليس حكما ثابتا للفظ لذاته فرب لفظ صريح عند قوم كناية عند آخرين أو صريح في زمان أو مكان كناية في غير ذلك الزمان والمكان والواقع شاهد بذلك فهذا لفظ السراح لا يكاد أحد يستعمله في الطلاق لا صريحا ولا كناية فلا يسوغ أن يقال إن من تكلم به لزمه طلاق امرأته نواه أو لم ينوه ويدعي أنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال فإن هذه دعوى باطلة شرعا واستعمالا أما الاستعمال فلا يكاد أحد يطلق به البتة وأما الشرع فقد استعمله في غير الطلاق كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا [ الأحزاب 49 ] فهذا السراح غير الطلاق قطعا وكذلك الفراق استعمله الشرع في غير الطلاق كقوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن إلى قوله فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق 2 ] فالإمساك هنا : الرجعة والمفارقة ترك الرجعة لا إنشاء طلقة ثانية هذا مما لا خلاف فيه البتة فلا يجوز أن يقال إن من تكلم به طلقت زوجته فهم معناه أو لم يفهم وكلاهما في البطلان سواء وبالله التوفيق .


حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهار
وبيان ما أنزل الله فيه ومعنى العود الموجب للكفارة
قال تعالى : الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم [ المجادلة 2 - 4 ] .

ثبت في السنن و المسانيد أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة وهي التي جادلت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إلى الله وسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات فقالت يا رسول الله إن أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت له بطني جعلني كأمه عنده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندي في أمرك شيء فقالت اللهم إني أشكو إليك وروي أنها قالت إن لي صبية صغارا إن ضمهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا فنزل القرآن

وقالت عائشة الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في كسر البيت يخفى علي بعض كلامها فأنزل الله عز وجل قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير [ المجادلة 1 ] . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليعتق رقبة قالت لا يجد قال فيصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال فليطعم ستين مسكينا قالت ما عنده من شيء يتصدق به قالت فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت : يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر قال أحسنت فأطعمي عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك

وفي السنن أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته مدة شهر رمضان ثم واقعها ليلة قبل انسلاخه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت بذاك يا سلمة قال قلت : أنا بذاك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم في بما أراك الله قال حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا في الصيام قال فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها قال فرحت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم

وفي جامع الترمذي عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها فقال يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر قال وما حملك على ذلك يرحمك الله قال رأيت خلخالها في ضوء القمر قال فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله قال هذا حديث حسن غريب صحيح .

وفيه أيضا : عن سلمة بن صخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر فقال كفارة واحدة وقال حسن غريب انتهى وفيه انقطاع بين سليمان بن يسار وسلمة بن صخر .

وفي مسند البزار عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه قال أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني ظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يقل الله من قبل أن يتماسا ؟ فقال أعجبتني فقال أمسك عنها حتى تكفر قال البزار : لا نعلمه يروى بإسناد أحسن من هذا على أن إسماعيل بن مسلم قد تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم . فتضمنت هذه الأحكام أمورا .

[ إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من كون الظهار طلاقا وكذا إن نوى به الطلاق ]

أحدها : إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية وفي صدر الإسلام من كون الظهار طلاقا ولو صرح بنيته له فقال أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق لم يكن طلاقا وكان ظهارا وهذا بالاتفاق إلا ما عساه من خلاف شاذ وقد نص عليه أحمد والشافعي وغيرهما .

قال الشافعي : ولو ظاهر يريد طلاقا كان ظهارا أو طلق يريد ظهارا كان طلاقا هذا لفظه فلا يجوز أن ينسب إلى مذهبه خلاف هذا ونص أحمد : على أنه إذا قال أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق أنه ظهار ولا تطلق به وهذا لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنسخ فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ .

وأيضا فأوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق .

وأيضا فإنه صريح في حكمه فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله عز وجل بشرعه وقضاء الله أحق وحكم الله أوجب .


[ حرمة الظهار ]
ومنها أن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور وكلاهما حرام والفرق بين جهة كونه منكرا وجهة كونه زورا أن قوله أنت علي كظهر أمي يتضمن إخباره عنها بذلك وإنشاءه تحريمها فهو يتضمن إخبارا وإنشاء فهو خبر زور وإنشاء منكر فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت والمنكر خلاف المعروف وختم سبحانه الآية بقوله تعالى : وإن الله لعفو غفور وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي لولا عفو الله ومغفرته لآخذ به .

ومنها : أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار وإنما تجب بالعود وهذا قول الجمهور وروى الثوري عن ابن أبي نجيح عن طاووس قال إذا تكلم بالظهار فقد لزمه وهذه رواية ابن أبي نجيح عنه وروى معمر عن طاووس عن أبيه في قوله تعالى : ثم يعودون لما قالوا قال جعلها عليه كظهر أمه ثم يعود فيطؤها فتحرير رقبة .

وحكى الناس عن مجاهد : أنه تجب الكفارة بنفس الظهار وحكاه ابن حزم عن الثوري وعثمان البتي وهؤلاء لم يخف عليهم أن العود شرط في الكفارة ولكن العود عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من التظاهر كقوله تعالى في جزاء الصيد ومن عاد فينتقم الله منه [ المائدة 95 ] أي عاد إلى الاصطياد بعد نزول تحريمه ولهذا قال عفا الله عما سلف [ المائدة 95 ] قالوا : ولأن الكفارة إنما وجبت في مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور وهو الظهار دون الوطء أو العزم عليه قالوا : ولأن الله سبحانه لما حرم الظهار ونهى عنه كان العود هو فعل المنهي عنه كما قال تعالى : عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا [ الإسراء : 8 ] أي إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة ؟ فالعود هنا نفس فعل المنهي عنه .

قالوا : ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنقل حكمه من الطلاق إلى الظهار ورتب عليه التكفير وتحريم الزوجة حتى يكفر وهذا يقتضي أن يكون حكمه معتبرا بلفظه كالطلاق .

ونازعهم الجمهور في ذلك وقالوا : إن العود أمر وراء مجرد لفظ الظهار ولا يصح حمل الآية على العود إليه في الإسلام لثلاثة أوجه .

أحدها : أن هذه الآية بيان لحكم من يظاهر في الإسلام ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبلا فقال يظاهرون وإذا كان هذا بيانا لحكم ظهار الإسلام فهو عندكم نفس العود فكيف يقول بعده ثم يعودون وأن معنى هذا العود غير الظهار عندكم ؟ .

الثاني : أنه لو كان العود ما ذكرتم وكان المضارع بمعنى الماضي كان تقديره والذين ظاهروا من نسائهم ثم عادوا في الإسلام ولما وجبت الكفارة إلا على من تظاهر في الجاهلية ثم عاد في الإسلام فمن أين توجبونها على من ابتدأ الظهار في الإسلام غير عائد ؟ فإن هنا أمرين ظهار سابق وعود إليه وذلك يبطل حكم الظهار الآن بالكلية إلا أن تجعلوا " يظاهرون " لفرقة ويعودون لفرقة ولفظ المضارع نائبا عن لفظ الماضي وذلك مخالف للنظم ومخرج عن الفصاحة .

الثالث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بالكفارة ولم يسألهما : هل تظاهرا في الجاهلية أم لا ؟ فإن قلتم ولم يسألهما عن العود الذي تجعلونه شرطا ولو كان شرطا لسألهما عنه .

قيل أما من يجعل العود نفس الإمساك بعد الظهار زمنا يمكن وقوع الطلاق فيه فهذا جار على قوله وهو نفس حجته ومن جعل العود هو الوطء والعزم قال سياق القصة بين في أن المتظاهرين كان قصدهم الوطء وإنما أمسكوا له وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله تعالى .

وأما كون الظهار منكرا من القول وزورا فنعم هو كذلك ولكن الله عز وجل إنما أوجب الكفارة في هذا المنكر والزور بأمرين به وبالعود كما أن حكم الإيلاء إنما يترتب عليه وعلى الوطء لا على أحدهما .

فصل

وقال الجمهور لا تجب الكفارة إلا بالعود بعد الظهار ثم اختلفوا في معنى العود هل هو إعادة لفظ الظهار بعينه أو أمر وراءه ؟ على قولين فقال أهل الظاهر كلهم هو إعادة لفظ الظهار ولم يحكوا هذا عن أحد من السلف البتة وهو قول لم يسبقوا إليه وإن كانت هذه الشكاة لا يكاد مذهب من المذاهب يخلو عنها .

قالوا : فلم يوجب الله سبحانه الكفارة إلا بالظهار المعاد لا المبتدأ . قالوا : والاستدلال بالآية من ثلاثة وجوه

أحدها : أن العرب لا يعقل في لغاتها العود إلى الشيء إلا فعل مثله مرة ثانية قالوا : وهذا كتاب الله وكلام رسوله وكلام العرب بيننا وبينكم . قال تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [ الأنعام 28 ] فهذا نظير الآية سواء في أنه عدى فعل العود باللام وهو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أولا وقال تعالى : وإن عدتم عدنا [ الإسراء : 8 ] أي إن كررتم الذنب كررنا العقوبة ومنه قوله تعالى : ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه [ المجادلة 8 ] وهذا في سورة الظهار نفسها وهو يبين المراد من العود فيه فإنه نظيره فعلا وإرادة والعهد قريب بذكره .

قالوا : وأيضا فالذي قالوه هو لفظ الظهار فالعود إلى القول هو الإتيان به مرة ثانية لا تعقل العرب غير هذا . قالوا : وأيضا فما عدا تكرار اللفظ إما إمساك وإما عزم وإما فعل وليس واحد منها بقول فلا يكون الإتيان به عودا لا لفظا ولا معنى ولأن العزم والوطء والإمساك ليس ظهارا فيكون الإتيان بها عودا إلى الظهار .

قالوا : ولو أريد بالعود الرجوع في الشيء الذي منع منه نفسه كما يقال عاد في الهبة لقال ثم يعودون فيما قالوا كما في الحديث العائد في هبته كالعائد في قيئه

واحتج أبو محمد بن حزم بحديث عائشة رضي الله عنها أن أوس بن الصامت كان به لمم فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار . فقال هذا يقتضي التكرار ولا بد قال ولا يصح في الظهار إلا هذا الخبر وحده .

قال وأما تشنيعكم علينا بأن هذا القول لم يقل به أحد من الصحابة فأرونا من الصحابة من قال إن العود هو الوطء أو العزم أو الإمساك أو هو العود إلى الظهار في الجاهلية ولو عن رجل واحد من الصحابة فلا تكونون أسعد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أبدا .

فصل

ونازعهم الجمهور في ذلك وقالوا : ليس معنى العود إعادة اللفظ الأول لأن ذلك لو كان هو العود لقال ثم يعيدون ما قالوا لأنه يقال أعاد كلامه بعينه وأما عاد فإنما هو في الأفعال كما يقال عاد في فعله وفي هبته فهذا استعماله ب " في " . ويقال عاد إلى عمله وإلى ولايته وإلى حاله وإلى إحسانه وإساءته ونحو ذلك وعاد له أيضا .

وأما القول فإنما يقال أعاده كما قال ضماد بن ثعلبة للنبي صلى الله عليه وسلم أعد علي كلماتك وكما قال أبو سعيد " أعدها علي يا رسول الله وهذا ليس بلازم فإنه يقال أعاد مقالته وعاد لمقالته وفي الحديث فعاد لمقالته بمعنى أعادها سواء وأفسد من هذا رد من رد عليهم بأن إعادة القول محال كإعادة أمس .

قال لأنه لا يتهيأ اجتماع زمانين وهذا في غاية الفساد فإن إعادة القول من جنس إعادة الفعل وهي الإتيان بمثل الأول لا بعينه والعجب من متعصب يقول لا يعتد بخلاف الظاهرية ويبحث معهم بمثل هذه البحوث ويرد عليهم بمثل هذا الرد وكذلك رد من رد عليهم بمثل العائد في هبته فإنه ليس نظير الآية وإنما نظيرها ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ومع هذا فهذه الآية تبين المراد من آية الظهار فإن عودهم لما نهوا عنه هو رجوعهم إلى نفس المنهي عنه وهو النجوى وليس المراد به إعادة تلك النجوى بعينها بل رجوعهم إلى المنهي عنه وكذلك قوله تعالى في الظهار يعودون لما قالوا أي لقولهم . فهو مصدر بمعنى المفعول وهو تحريم الزوجة بتشبيهها بالمحرمة فالعود إلى المحرم هو العود إليه وهو فعله فهذا مأخذ من قال إنه الوطء .

ونكتة المسألة أن القول في معنى المقول والمقول هو التحريم والعود له هو العود إليه وهو استباحته عائدا إليه بعد تحريمه وهذا جار على قواعد اللغة العربية واستعمالها وهذا الذي عليه جمهور السلف والخلف كما قال قتادة وطاووس والحسن والزهري ومالك وغيرهم ولا يعرف عن أحد من السلف أنه فسر الآية بإعادة اللفظ البتة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم وها هنا أمر خفي على من جعله إعادة اللفظ وهو أن العود إلى الفعل يستلزم مفارقة الحال التي هو عليها الآن وعوده إلى الحال التي كان عليها أولا كما قال تعالى : وإن عدتم عدنا [ الإسراء 8 ] ألا ترى أن عودهم مفارقة ما هم عليه من الإحسان وعودهم إلى الإساءة وكقول الشاعر

وإن عاد للإحسان فالعود أحمد

والحال التي هو عليها الآن التحريم بالظهار والتي كان عليها إباحة الوطء بالنكاح الموجب للحل فعود المظاهر عود إلى حل كان عليه قبل الظهار وذلك هو الموجب للكفارة فتأمله فالعود يقتضي أمرا يعود إليه بعد مفارقته وظهر سر الفرق بين العود في الهبة وبين العود لما قال المظاهر فإن الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمن عوده فيه إدخاله في ملكه وتصرفه فيه كما كان أولا بخلاف المظاهر فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية وبالعود قد طلب الرجوع إلى الحال التي كان عليها معها قبل التحريم فكان الأليق أن يقال عاد لكذا يعني : عاد إليه .

وفي الهبة عاد إليها وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بكفارة الظهار ولم يتلفظا به مرتين فإنهما لم يخبرا بذلك عن أنفسهما ولا أخبر به أزواجهما عنهما ولا أحد من الصحابة ولا سألهما النبي صلى الله عليه وسلم هل قلتما ذلك مرة أو مرتين ؟ ومثل هذا لو كان شرطا لما أهمل بيانه .

وسر المسألة أن العود يتضمن أمرين أمرا يعود إليه وأمرا يعود عنه ولا بد منهما فالذي يعود عنه يتضمن نقضه وإبطاله والذي يعود إليه يتضمن إيثاره وإرادته فعود المظاهر يقتضي نقض الظهار وإبطاله وإيثار ضده وإرادته وهذا عين فهم السلف من الآية فبعضهم يقول إن العود هو الإصابة وبعضهم يقول الوطء وبعضهم يقول اللمس وبعضهم يقول العزم .

وأما قولكم إنه إنما أوجب الكفارة في الظهار المعاد إن أردتم به المعاد لفظه فدعوى بحسب ما فهمتموه وإن أردتم به الظهار المعاد فيه لما قال المظاهر لم يستلزم ذلك إعادة اللفظ الأول .

وأما حديث عائشة رضي الله عنها في ظهار أوس بن الصامت فما أصحه وما أبعد دلالته على مذهبكم .



فصل من قال بأن العود هو إمساكها زمنا يتسع لقوله أنت طالق

ثم الذين جعلوا العود أمرا غير إعادة اللفظ اختلفوا فيه هل هو مجرد إمساكها بعد الظهار أو أمر غيره ؟ على قولين.

فقالت طائفة هو إمساكها زمنا يتسع لقوله أنت طالق فمتى لم يصل الطلاق بالظهار لزمته الكفارة وهو قول الشافعي .

قال منازعوه وهو في المعنى قول مجاهد والثوري فإن هذا النفس الواحد لا يخرج الظهار عن كونه موجب الكفارة ففي الحقيقة لم يوجب الكفارة إلا لفظ الظهار وزمن قوله أنت طالق لا تأثير له في الحكم إيجابا ولا نفيا فتعليق الإيجاب به ممتنع ولا تسمى تلك اللحظة والنفس الواحد من الأنفاس عودا لا في لغة العرب ولا في عرف الشارع وأي شيء في هذا الجزء اليسير جدا من الزمان من معنى العود أو حقيقته ؟ . قالوا : وهذا ليس بأقوى من قول من قال هو إعادة اللفظ بعينه فإن ذلك قول معقول يفهم منه العود لغة وحقيقة وأما هذا الجزء من الزمان فلا يفهم من الإنسان فيه العود البتة . قالوا : ونحن نطالبكم بما طالبتم به الظاهرية من قال هذا القول قبل الشافعي ؟

قالوا : والله سبحانه أوجب الكفارة بالعود بحرف " ثم " الدالة على التراخي عن الظهار فلا بد أن يكون بين العود وبين الظهار مدة متراخية وهذا ممتنع عندكم وبمجرد انقضاء قوله أنت علي كظهر أمي صار عائدا ما لم يصله بقوله أنت طالق فأين التراخي والمهلة بين العود والظهار ؟ والشافعي لم ينقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين وإنما أخبر أنه أولى المعاني بالآية فقال الذي عقلت مما سمعت في يعودون لما قالوا أنه إذا أتت على المظاهر مدة بعد القول بالظهار لم يحرمها بالطلاق الذي يحرم به وجبت عليه الكفارة كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرم على نفسه أنه حلال فقد عاد لما قال فخالفه فأحل ما حرم ولا أعلم له معنى أولى به من هذا . انتهى .



فصل [ من قال بأن العود هو العزم على الوطء ]

والذين جعلوه أمرا وراء الإمساك اختلفوا فيه فقال مالك في إحدى الروايات الأربع عنه وأبو عبيد : هو العزم على الوطء وهذا قول القاضي أبي يعلى وأصحابه وأنكره الإمام أحمد وقال مالك يقول إذا أجمع لزمته الكفارة فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع أكان عليه كفارة إلا أن يكون يذهب إلى قول طاووس إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق ؟ .

[ من قال بأنه العزم على الإمساك أو العزم على الإمساك والوطء معا ]

ثم اختلف أرباب هذا القول فيما لو مات أحدهما أو طلق بعد العزم وقبل الوطء هل تستقر عليه الكفارة ؟ فقال مالك وأبو الخطاب تستقر الكفارة . وقال القاضي وعامة أصحابه لا تستقر وعن مالك رواية ثانية أنه العزم على الإمساك وحده ورواية " الموطأ " خلاف هذا كله أنه العزم على الإمساك والوطء معا .

[ من قال إنه الوطء نفسه ]

وعنه رواية رابعة أنه الوطء نفسه وهذا قول أبي حنيفة وأحمد . وقد قال أحمد في قوله تعالى : ثم يعودون لما قالوا قال الغشيان إذا أراد أن يغشى كفر وليس هذا باختلاف رواية بل مذهبه الذي لا يعرف عنه غيره أنه الوطء ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه .

[ حجج من قال إنه العزم ]

واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه قال في الكفارة من قبل أن يتماسا فأوجب الكفارة بعد العود وقبل التماس وهذا صريح في أن العود غير التماس وأن ما يحرم قبل الكفارة لا يجوز كونه متقدما عليها . قالوا : ولأنه قصد بالظهار تحريمها والعزم على وطئها عود فيما قصده . قالوا : ولأن الظهار تحريم فإذا أراد استباحتها فقد رجع في ذلك التحريم فكان عائدا .

[ حجج من قال إنه الوطء ]

قال الذين جعلوه الوطء لا ريب أن العود فعل ضد قوله كما تقدم تقريره والعائد فيما نهي عنه وإليه وله : هو فاعله لا مريده كما قال تعالى : ثم يعودون لما نهوا عنه فهذا فعل المنهي عنه نفسه لا إرادته ولا يلزم أرباب هذا القول ما ألزمهم به أصحاب العزم فإن قولهم إن العود يتقدم التكفير والوطء متأخر عنه فهم يقولون إن قوله تعالى : ثم يعودون لما قالوا أي يريدون العود كما قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وكقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ المائدة 6 ] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها . قالوا : وهذا أولى من تفسير العود بنفس اللفظ الأول وبالإمساك نفسا واحدا بعد الظهار وبتكرار لفظ الظهار وبالعزم المجرد لو طلق بعده فإن هذه الأقوال كلها قد تبين ضعفها فأقرب الأقوال إلى دلالة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال المفسرين هو هذا . وبالله التوفيق .



فصل [ من عجز عن الكفارة لم تسقط عنه ]

ومنها : أن من عجز عن الكفارة لم تسقط عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعان أوس بن الصامت بعرق من تمر وأعانته امرأته بمثله حتى كفر وأمر سلمة بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفر بها عن نفسه ولو سقطت بالعجز لما أمرهما بإخراجها بل تبقى في ذمته دينا عليه وهذا قول الشافعي وأحد الروايتين عن أحمد .

وذهبت طائفة إلى سقوطها بالعجز كما تسقط الواجبات بعجزه عنها وعن إبدالها . وذهبت طائفة أن كفارة رمضان لا تبقى في ذمته بل تسقط وغيرها من الكفارات لا تسقط وهذا الذي صححه أبو البركات ابن تيمية .

واحتج من أسقطها بأنها لو وجبت مع العجز لما صرفت إليه فإن الرجل لا يكون مصرفا لكفارته كما لا يكون مصرفا لزكاته وأرباب القول الأول يقولون إذا عجز عنها وكفر الغير عنه جاز أن يصرفها إليه كما صرف النبي صلى الله عليه وسلم كفارة من جامع في رمضان إليه وإلى أهله وكما أباح لسلمة بن صخر أن يأكل هو وأهله من كفارته التي أخرجها عنه من صدقة قومه وهذا مذهب أحمد رواية واحدة عنه في كفارة من وطئ أهله في رمضان وعنه في سائر الكفارات روايتان . والسنة تدل على أنه إذا أعسر بالكفارة وكفر عنه غيره جاز صرف كفارته إليه وإلى أهله .

فإن قيل فهل يجوز له إذا كان فقيرا له عيال وعليه زكاة يحتاج إليها أن يصرفها إلى نفسه وعياله ؟ قيل لا يجوز ذلك لعدم الإخراج المستحق عليه ولكن للإمام أو الساعي أن يدفع زكاته إليه بعد قبضها منه في أصح الروايتين عن أحمد . فإن قيل فهل له أن يسقطها عنه ؟ قيل لا نص عليه والفرق بينهما واضح . فإن قيل فإذا أذن السيد لعبده في التكفير بالعتق فهل له أن يعتق نفسه ؟ قيل اختلفت الرواية فيما إذا أذن له في التكفير بالمال هل له أن ينتقل عن الصيام إليه ؟ على روايتين إحداهما : أنه ليس له ذلك وفرضه الصيام والثانية له الانتقال إليه ولا يلزمه لأن المنع لحق السيد وقد أذن فيه فإذا قلنا : له ذلك فهل له العتق ؟ اختلفت الرواية فيه عن أحمد فعنه في ذلك روايتان ووجه المنع أنه ليس من أهل الولاء والعتق يعتمد الولاء واختار أبو بكر وغيره أن له الإعتاق فعلى هذا هل له عتق نفسه ؟ فيه قولان في المذهب ووجه الجواز إطلاق الإذن ووجه المنع أن الإذن في الإعتاق ينصرف إلى إعتاق غيره كما لو أذن له في الصدقة انصرف الإذن إلى الصدقة على غيره .


فصل [ لا يجوز وطء المظاهر منها قبل التكفير ]
ومنها : أنه لا يجوز وطء المظاهر منها قبل التكفير وقد اختلف ها هنا في موضعين . أحدهما : هل له مباشرتها دون الفرج قبل التكفير أم لا ؟ والثاني : أنه إذا كانت كفارته الإطعام فهل له الوطء قبله أم لا ؟ وفي المسألتين قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد وقولان للشافعي .

ووجه منع الاستمتاع بغير الوطء ظاهر قوله تعالى : من قبل أن يتماسا ولأنه شبهها بمن يحرم وطؤها ودواعيه ووجه الجواز أن التماس كناية عن الجماع ولا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه

وهذا قول أبي حنيفة .

وأما المسألة الثانية وهي وطؤها قبل التكفير إذا كان بالإطعام فوجه الجواز أن الله سبحانه قيد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام وأطلقه في الإطعام ولكل منهما حكمة فلو أراد التقييد في الإطعام لذكره كما ذكره في العتق والصيام وهو سبحانه لم يقيد هذا ويطلق هذا عبثا بل لفائدة مقصودة ولا فائدة إلا تقييد ما قيده وإطلاق ما أطلقه . ووجه المنع استفادة حكم ما أطلقه مما قيده إما بيانا على الصحيح وإما قياسا قد ألغي فيه الفارق بين الصورتين وهو سبحانه لا يفرق بين المتماثلين وقد ذكر من قبل أن يتماسا مرتين فلو أعاده ثالثا لطال به الكلام ونبه بذكره مرتين على تكرر حكمه في الكفارات ولو ذكره في آخر الكلام مرة واحدة لأوهم اختصاصه بالكفارة الأخيرة ولو ذكره في أول مرة لأوهم اختصاصه بالأولى وإعادته في كل كفارة تطويل وكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما وقع . وأيضا فإنه نبه بالتكفير قبل المسيس بالصوم مع تطاول زمنه وشدة الحاجة إلى مسيس الزوجة على أن اشتراط تقدمه في الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى .



فصل [ هل يبطل المس تتابع الصيام ؟]
ومنها : أنه سبحانه أمر بالصيام قبل المسيس وذلك يعم المسيس ليلا ونهارا ولا خلاف بين الأئمة في تحريم وطئها في زمن الصوم ليلا ونهارا وإنما اختلفوا هل يبطل التتابع به ؟ فيه قولان . أحدهما : يبطل وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه والثاني : لا يبطل وهو قول الشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه .

والذين أبطلوا التتابع معهم ظاهر القرآن فإنه سبحانه أمر بشهرين متتابعين قبل المسيس ولم يوجد ولأن ذلك يتضمن النهي عن المسيس قبل إكمال الصيام وتحريمه وهو يوجب عدم الاعتداد بالصوم لأنه عمل ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون ردا .

وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين أحدهما : تتابع الشهرين والثاني: وقوع صيامهما قبل التماس فلا يكون قد أتى بما أمر به إلا بمجموع الأمرين . فصل لا يشترط في إطعام المساكين التمليك ولا إطعامهم جملة أو متفرقين ومنها : أنه سبحانه وتعالى أطلق إطعام المساكين ولم يقيده بقدر ولا تتابع وذلك يقتضي أنه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك حب أو تمر جاز وكان ممتثلا لأمر الله وهذا قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وسواء أطعمهم جملة أو متفرقين .

فصل [ لا بد من إطعام ستين مسكينا مختلفين ]

ومنها : أنه لا بد من استيفاء عدد الستين فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه . والثانية أن الواجب إطعام ستين مسكينا ولو لواحد وهو مذهب أبي حنيفة . والثالثة إن وجد غيره لم يجز وإلا أجزأه وهو ظاهر مذهبه وهي أصح الأقوال .

فصل [ لا تدفع الكفارة إلا إلى المساكين ويدخل فيهم الفقراء ]

ومنها : أنه لا يجزئه دفع الكفارة إلا إلى المساكين ويدخل فيهم الفقراء كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق وعمم أصحابنا وغيرهم الحكم في كل من يأخذ من الزكاة لحاجته وهم أربعة الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب . وظاهر القرآن اختصاصها بالمساكين فلا يتعداهم .


افتراضي

فصل [ ترجيح المصنف اشتراط الإيمان في الرقبة ]

ومنها : أن الله سبحانه أطلق الرقبة ها هنا ولم يقيدها بالإيمان وقيدها في كفارة القتل بالإيمان فاختلف الفقهاء في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل على قولين فشرطه الشافعي ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه ولم يشترطه أبو حنيفة ولا أهل الظاهر والذين لم يشترطوا الإيمان قالوا :

لو كان شرطا لبينه الله سبحانه كما بينه في كفارة القتل بل يطلق ما أطلقه ويقيد ما قيده فيعمل بالمطلق والمقيد . وزادت الحنفية أن اشتراط الإيمان زيادة على النص وهو نسخ والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن أو خبر متواتر .

قال الآخرون واللفظ للشافعي شرط الله سبحانه في رقبة القتل مؤمنة كما شرط العدل في الشهادة وأطلق الشهود في مواضع فاستدللنا به على أن ما أطلق من الشهادات على مثل معنى ما شرط وإنما رد الله أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الله الصدقات فلم تجز إلا للمؤمنين فكذلك ما فرض من الرقاب لا يجوز إلا لمؤمن فاستدل الشافعي بأن لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم .

وها هنا أمران
أحدهما : أن حمل المطلق على المقيد بيان لا قياس .
الثاني : أنه إنما يحمل عليه بشرطين أحدهما : اتحاد الحكم . والثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد . فإن كان بين أصلين مختلفين لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل يعينه .

قال الشافعي : ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة وهذا بناء على هذا الأصل وأن النذر محمول على واجب الشرع وواجب العتق لا يتأدى إلا بعتق المسلم . ومما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن استفتى في عتق رقبة منذورة ائتني بها فسألها أين الله ؟ فقالت في السماء فقال من أنا ؟ قالت أنت رسول الله فقال أعتقها فإنها مؤمنة قال الشافعي : فلما وصفت الإيمان أمر بعتقها انتهى .

وهذا ظاهر جدا أن العتق المأمور به شرعا لا يجزئ إلا في رقبة مؤمنة وإلا لم يكن للتعليل بالإيمان فائدة فإن الأعم متى كان علة للحكم كان الأخص عديم التأثير .

وأيضا فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغه لعبادة ربه وتخليصه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق ولا ريب أن هذا أمر مقصود للشارع محبوب له فلا يجوز إلغاؤه وكيف يستوي عند الله ورسوله تفريغ العبد لعبادته وحده وتفريغه لعبادة الصليب أو الشمس والقمر والنار وقد بين سبحانه اشتراط الإيمان في كفارة القتل وأحال ما سكت عنه على بيانه كما بين اشتراط العدالة في الشاهدين وأحال ما أطلقه وسكت عنه على ما بينه وكذلك غالب مطلقات كلامه سبحانه ومقيداته لمن تأملها وهي أكثر من أن تذكر فمنها : قوله تعالى فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [ النساء 114 ] وفي موضع آخر بل مواضع يعلق الأجر بنفس العمل اكتفاء بالشرط المذكور في موضعه وكذلك قوله تعالى : فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه [ الأنبياء 94 ] وفي موضع يعلق الجزاء بنفس الأعمال الصالحة اكتفاء بما علم من شرط الإيمان وهذا غالب في نصوص الوعد والوعيد .




فصل [ لو أعتق نصفي رقبتين لم يكن معتقا لرقبة ]
ومنها : أنه لو أعتق نصفي رقبتين لم يكن معتقا لرقبة وفي هذا ثلاثة أقوال للناس وهي روايات عن أحمد ثانيها الإجزاء وثالثها وهو أصحها : أنه إن تكملت الحرية في الرقبتين أجزاه وإلا فلا فإنه يصدق عليه أنه حرر رقبة أي جعلها حرة بخلاف ما إذا لم تكمل الحرية .

فصل [ لا تسقط الكفارة بالوطء قبل التكفير ولا تتضاعف ]
ومنها : أن الكفارة لا تسقط بالوطء قبل التكفير ولا تتضاعف بل هي بحالها كفارة واحدة كما دل عليه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تقدم قال الصلت بن دينار : سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل أن يكفر فقالوا : كفارة واحدة . قال وهم الحسن وابن سيرين ومسروق وبكر وقتادة وعطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة . قال والعاشر أراه نافعا وهذا قول الأئمة الأربعة . وصح عن ابن عمر وعمرو بن العاص أن عليه كفارتين وذكر سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم في الذي يظاهر ثم يطؤها قبل أن يكفر عليه ثلاث كفارات وذكر عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف أن الكفارة تسقط ووجه هذا أنه فات وقتها ولم يبق له سبيل إلى إخراجها قبل المسيس . وجواب هذا أن فوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة كالصلاة والصيام وسائر العبادات ووجه وجوب الكفارتين أن إحداهما للظهار الذي اقترن به العود والثانية للوطء المحرم كالوطء في نهار رمضان وكوطء المحرم ولا يعلم لإيجاب الثلاث وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على خلاف هذه الأقوال والله أعلم .



حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيلاء
ثبت في " صحيح البخاري " : عن أنس قال آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ليلة ثم نزل فقالوا : يا رسول الله آليت شهرا فقال " إن الشهر يكون تسعا وعشرين وقد قال سبحانه للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [ البقرة 226 ]

الإيلاء لغة الامتناع باليمين وخص في عرف الشرع بالامتناع باليمين من وطء الزوجة ولهذا عدي فعله بأداة " من " تضمينا له معنى " يمتنعون " من نسائهم وهو أحسن من إقامة " من " مقام " على " وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من وطء نسائهم بالإيلاء فإذا مضت فإما أن يفيء وإما أن يطلق وقد اشتهر عن علي وابن عباس أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضى كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه وظاهر القرآن مع الجمهور .

وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر فاحتج على محمد بقول علي فاحتج عليه محمد بالآية فسكت . وقد دلت الآية على أحكام .

[ الأحكام المستنبطة من آية الإيلاء ]
منها : هذا . ومنها : أن من حلف على ترك الوطء أقل من أربعة أشهر لم يكن مؤليا وهذا قول الجمهور وفيه قول شاذ أنه مؤل .

[ لا يثبت حكم الإيلاء حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر ]

ومنها : أنه لا يثبت له حكم الإيلاء حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر فإن كانت مدة الامتناع أربعة أشهر لم يثبت له حكم الإيلاء لأن الله جعل لهم مدة أربعة أشهر وبعد انقضائها إما أن يطلقوا وإما أن يفيئوا وهذا قول الجمهور منهم أحمد والشافعي ومالك وجعله أبو حنيفة مؤليا بأربعة أشهر سواء وهذا بناء على أصله أن المدة المضروبة أجل لوقوع الطلاق بانقضائها والجمهور يجعلون المدة أجلا لاستحقاق المطالبة وهذا موضع اختلف فيه السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم فقال الشافعي حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال أدركت بضعة عشر رجلا من الصحابة كلهم يوقف المؤلي يعني : بعد أربعة أشهر .

وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤلي فقالوا : ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وقال عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت : إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فيها طلقت منه بمضيها وهذا قول جماعة من التابعين وقول أبي حنيفة وأصحابه فعند هؤلاء يستحق المطالبة قبل مضي الأربعة الأشهر فإن فاء وإلا طلقت بمضيها . وعند الجمهور لا يستحق المطالبة حتى تمضي الأربعة الأشهر فحينئذ يقال إما أن تفيء وإما أن تطلق وإن لم يفئ أخذ بإيقاع الطلاق إما بالحاكم وإما بحبسه حتى يطلق .



[ حجج من أوقع الطلاق بمضي المدة ]

قال الموقعون للطلاق بمضي المدة آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه .

أحدها : أن عبد الله بن مسعود قرأ " فإن فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم " فإضافة الفيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها وهذه القراءة إما أن تجرى مجرى الخبر الواحد فتوجب العمل وإن لم توجب كونها من القرآن وإما أن تكون قرآنا نسخ لفظه وبقي حكمه لا يجوز فيها غير هذا البتة .

الثاني : أن الله سبحانه جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر فلو كانت الفيئة بعدها لزادت على مدة النص وذلك غير جائز .

الثالث أنه لو وطئها في مدة الإيلاء لوقعت الفيئة موقعها فدل على استحقاق الفيئة فيها . قالوا : ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربص أربعة أشهر ثم قال فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق وظاهر هذا أن هذا التقسيم في المدة التي لهم فيها تربص كما إذا قال لغريمه أصبر عليك بديني أربعة أشهر فإن وفيتني وإلا حبستك ولا يفهم من هذا إلا إن وفيتني في هذه المدة ولا يفهم منه إن وفيتني بعدها وإلا كانت مدة الصبر أكثر من أربعة أشهر وقراءة ابن مسعود صريحة في تفسير الفيئة بأنها في المدة وأقل مراتبها أن تكون تفسيرا .

قالوا : ولأنه أجل مضروب للفرقة فتعقبه الفرقة كالعدة وكالأجل الذي ضرب لوقوع الطلاق كقوله إذا مضت أربعة أشهر فأنت طالق .


افتراضي

حجج الجمهور بعدم إيقاع الطلاق بمضي المدة ]

قال الجمهور لنا من آية الإيلاء عشرة أدلة .

أحدها : أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج وجعلها لهم ولم يجعلها عليهم فوجب ألا يستحق المطالبة فيها بل بعدها كأجل الدين ومن أوجب المطالبة فيها لم يكن عنده أجلا لهم ولا يعقل كونها أجلا لهم ويستحق عليهم فيها المطالبة .

الدليل الثاني : قوله فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم فذكر الفيئة بعد المدة بفاء التعقيب وهذا يقتضي أن يكون بعد المدة ونظيره قوله سبحانه الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [ البقرة 229 ] . وهذا بعد الطلاق قطعا . فإن قيل فاء التعقيب توجب أن يكون بعد الإيلاء لا بعد المدة ؟ قيل قد تقدم في الآية ذكر الإيلاء ثم تلاه ذكر المدة ثم أعقبها بذكر الفيئة فإذا أوجبت الفاء التعقيب بعد ما تقدم ذكره لم يجز أن يعود إلى أبعد المذكورين ووجب عودها إليهما أو إلى أقربهما .

الدليل الثالث قوله وإن عزموا الطلاق [ البقرة 227 ] وإنما العزم ما عزم العازم على فعله كقوله تعالى : ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله [ البقرة 235 ] فإن قيل فترك الفيئة عزم على الطلاق ؟ قيل العزم هو إرادة جازمة لفل المعزوم عليه أو تركه وأنتم توقعون الطلاق بمجرد مضي المدة وإن لم يكن منه عزم لا على وطء ولا على تركه بل لو عزم على الفيئة ولم يجامع طلقتم عليه بمضي المدة ولم يعزم الطلاق فكيفما قدرتم فالآية حجة عليكم .



الدليل الرابع أن الله سبحانه خيره في الآية بين أمرين الفيئة أو الطلاق والتخيير بين أمرين لا يكون إلا في حالة واحدة كالكفارات ولو كان في حالتين لكان ترتيبا لا تخييرا وإذا تقرر هذا فالفيئة عندكم في نفس المدة وعزم الطلاق بانقضاء المدة فلم يقع التخيير في حالة واحدة .

فإن قيل هو مخير بين أن يفيء في المدة وبين أن يترك الفيئة فيكون عازما للطلاق بمضي المدة . قيل ترك الفيئة لا يكون عزما للطلاق وإنما يكون عزما عندكم إذا انقضت المدة فلا يتأتى التخيير بين عزم الطلاق وبين الفيئة البتة فإنه بمضي المدة يقع الطلاق عندكم فلا يمكنه الفيئة وفي المدة يمكنه الفيئة ولم يحضر وقت عزم الطلاق الذي هو مضي المدة وحينئذ فهذا دليل خامس مستقل .

الدليل السادس أن التخيير بين أمرين يقتضي أن يكون فعلهما إليه ليصح منه اختيار فعل كل منهما وتركه وإلا لبطل حكم خياره ومضي المدة ليس إليه .

الدليل السابع أنه سبحانه قال وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم فاقتضى أن يكون الطلاق قولا يسمع ليحسن ختم الآية بصفة السمع .

الدليل الثامن أنه لو قال لغريمه لك أجل أربعة أشهر فإن وفيتني قبلت منك وإن لم توفني حبستك كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها : ولا يعقل المخاطب غير هذا . فإن قيل ما نحن فيه نظير قوله لك الخيار ثلاثة أيام فإن فسخت البيع وإلا لزمك ومعلوم أن الفسخ إنما يقع في الثلاث لا بعدها ؟ قيل هذا من أقوى حججنا عليكم فإن موجب العقد اللزوم فجعل له الخيار في مدة ثلاثة أيام فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العقد إلى حكمه وهو اللزوم وهكذا الزوجة لها حق على الزوج في الوطء كما له حق عليها قال تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف [ البقرة 228 ] فجعل له الشارع امتناع أربعة أشهر لا حق لها فيهن فإذا انقضت المدة عادت على حقها بموجب العقد وهو المطالبة لا وقوع الطلاق وحينئذ فهذا دليل تاسع مستقل .



[ إبطال ما عليه أهل الجاهلية من جعل الإيلاء والظهار طلاقا ]
الدليل العاشر أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئا وعليهم شيئين فالذي لهم تربص المدة المذكورة والذي عليهم إما الفيئة وإما الطلاق وعندكم ليس عليهم إلا الفيئة فقط وأما الطلاق فليس عليهم بل ولا إليهم وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة فيحكم بطلاقها عقيب انقضاء المدة شاء أو أبى ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلي ولا عليه وهو خلاف ظاهر النص .

قالوا : ولأنها يمين بالله تعالى توجب الكفارة فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان ولأنها مدة قدرها الشرع لم تتقدمها الفرقة فلا يقع بها بينونة كأجل العنين ولأنه لفظ لا يصح أن يقع به الطلاق المعجل فلم يقع به المؤجل كالظهار ولأن الإيلاء كان طلاقا في الجاهلية فنسخ كالظهار فلا يجوز أن يقع به الطلاق لأنه استيفاء للحكم المنسوخ ولما كان عليه أهل الجاهلية .

قال الشافعي : كانت الفرق الجاهلية تحلف بثلاثة أشياء بالطلاق والظهار والإيلاء فنقل الله سبحانه وتعالى الإيلاء والظهار عما كانا عليه في الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقر عليه حكمهما في الشرع وبقي حكم الطلاق على ما كان عليه هذا لفظه .

قالوا : ولأن الطلاق إنما يقع بالصريح والكناية وليس الإيلاء واحدا منهما إذ لو كان صريحا لوقع معجلا إن أطلقه أو إلى أجل مسمى إن قيده ولو كان كناية لرجع فيه إلى نيته ولا يرد على هذا اللعان فإنه يوجب الفسخ دون الطلاق والفسخ يقع بغير قول والطلاق لا يقع إلا بالقول .

قالوا : وأما قراءة ابن مسعود فغايتها أن تدل على جواز الفيئة في مدة التربص لا على استحقاق المطالبة بها في المدة وهذا حق لا ننكره .

وأما قولكم جواز الفيئة في المدة دليل على استحقاقها فيها فهو باطل بالدين المؤجل .

وأما قولكم إنه لو كانت الفيئة بعد المدة لزادت على أربعة أشهر فليس بصحيح لأن الأربعة الأشهر مدة لزمن الصبر الذي لا يستحق فيه المطالبة فبمجرد انقضائها يستحق عليه الحق فلها أن تعجل المطالبة به . وإما أن تنظره وهذا كسائر الحقوق المعلقة بآجال معدودة إنما تستحق عند انقضاء آجالها ولا يقال إن ذلك يستلزم الزيادة على الأجل فكذا أجل الإيلاء سواء .



فصل [ الحجة في أن المؤلي مخير بين الطلاق والعود ]
ودلت الآية على أن كل من صح منه الإيلاء بأي يمين حلف فهو مؤل حتى يبر إما أن يفيء وإما أن يطلق فكان في هذا حجة لما ذهب إليه من يقول من السلف والخلف إن المؤلي باليمين بالطلاق إما أن يفيء وإما أن يطلق ومن يلزمه الطلاق على كل حال لم يمكنه إدخال هذه اليمين في حكم الإيلاء فإنه إذا قال إن وطئتك إلى سنة فأنت طالق ثلاثا فإذا مضت أربعة أشهر لا يقولون له إما أن تطأ وإما أن تطلق بل يقولون له إن وطئتها طلقت وإن لم تطأها طلقنا عليك وأكثرهم لا يمكنه من الإيلاج لوقوع النزع الذي هو جزء الوطء في أجنبية ولا جواب عن هذا إلا أن يقال بأنه غير مؤل وحينئذ فيقال فلا توقفوه بعد مضي الأربعة الأشهر وقولوا : إن له أن يمتنع من وطئها بيمين الطلاق دائما فإن ضربتم له الأجل أثبتم له حكم الإيلاء من غير يمين وإن جعلتموه مؤليا ولم تجيزوه خالفتم حكم الإيلاء وموجب النص فهذا بعض حجج هؤلاء على منازعيهم .



[ مسألة في قوله إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا ]

فإن قيل فما حكم هذه المسألة وهي إذا قال إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا .

قيل اختلف الفقهاء فيها هل يكون مؤليا أم لا ؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد وقولان للشافعي في الجديد أنه يكون مؤليا وهو مذهب أبي حنيفة ومالك . وعلى قولين فهل يمكن من الإيلاج ؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعي .

أحدهما : أنه لا يمكن منه بل يحرم عليه لأنها بالإيلاج تطلق عندهم ثلاثا فيصير ما بعد الإيلاج محرما فيكون الإيلاج محرما وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إلا قدر إيلاج لذكر دون إخراجه حرم عليه الإيلاج وإن كان في زمن الإباحة لوجود الإخراج في زمن الحظر كذلك ها هنا يحرم عليه الإيلاج وإن كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده .

والثاني : أنه لا يحرم عليه الإيلاج قال الماوردي وهو قول سائر أصحابنا لأنها زوجته ولا يحرم عليه الإخراج لأنه ترك . وإن طلقت بالإيلاج ويكون المحرم بهذا الوطء استدامة الإيلاج لا الابتداء والنزع وهذا ظاهر نص الشافعي فإنه قال لو طلع الفجر على الصائم وهو مجامع وأخرجه مكانه كان على صومه فإن مكث بغير إخراجه أفطر ويكفر . وقال في كتاب الإيلاء ولو قال إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا وقف فإن فاء فإذا غيب الحشفة طلقت منه ثلاثا فإن أخرجه ثم أدخله فعليه مهر مثلها . قال هؤلاء ويدل على الجواز أن رجلا لو قال لرجل ادخل داري ولا تقم استباح الدخول لوجوده عن إذن ووجب عليه الخروج لمنعه من المقام ويكون الخروج وإن كان في زمن الحظر مباحا لأنه ترك كذلك هذا المؤلي يستبيح أن يولج ويستبيح أن ينزع ويحرم عليه استدامة الإيلاج والخلاف في الإيلاج قبل الفجر والنزع بعده للصائم كالخلاف في المؤلي وقيل يحرم على الصائم الإيلاج قبل الفجر ولا يحرم على المؤلي والفرق أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير الإيلاج فجاز أن يحرم عليه الإيلاج والمؤلي لا يطرأ عليه التحريم بغير الإيلاج فافترقا .

وقالت طائفة ثالثة لا يحرم عليه الوطء ولا تطلق عليه الزوجة بل يوقف ويقال له ما أمر الله إما أن تفيء وإما أن تطلق . قالوا : وكيف يكون مؤليا ولا يمكن من الفيئة بل يلزم بالطلاق وإن مكن منها وقع به الطلاق فالطلاق واقع به على التقديرين مع كونه مؤليا ؟ فهذا خلاف ظاهر القرآن بل يقال لهذا : إن فاء لم يقع به الطلاق وإن لم يفئ ألزم بالطلاق وهذا مذهب من يرى اليمين بالطلاق لا يوجب طلاقا وإنما يجزئه كفارة يمين وهو قول أهل الظاهر وطاوس وعكرمة وجماعة من أهل الحديث واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه .



حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان
قال تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين [ النور 69 ] .

وثبت في " الصحيحين " من حديث سهل بن سعد أن عويمرا العجلاني قال لعاصم بن عدي أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فسل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن عويمرا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " قد نزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها " فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزهري : فكانت تلك سنة المتلاعنين .

قال سهل وكانت حاملا وكان ابنها ينسب إلى أمه ثم جرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها .

و في لفظ فتلاعنا في المسجد ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاكم التفريق بين كل متلاعنين

وقول سهل وكانت حاملا إلى آخره هو عند البخاري من قول الزهري وللبخاري ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها " فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر

وفي لفظ وكانت حاملا فأنكر حملها

وفي " صحيح مسلم " : من حديث ابن عمر أن فلان بن فلان قال يا رسول الله أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور والذين يرمون أزواجهم فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . قال لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما .

وفي " الصحيحين " عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين " حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها " قال يا رسول الله مالي ؟ قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها .

وفي لفظ لهما : فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين وقال " والله إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب " ؟ .

وفيهما عنه أن رجلا لاعن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بأمه

وفي " صحيح مسلم " : من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة المتلاعنين فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فذهبت لتلعن فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " مه " فأبت فلعنت فلما أدبر قال لعلها أن تجيء به أسود جعدا " فجاءت به أسود جعدا .

وفي " صحيح مسلم " من حديث أنس بن مالك أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا البراء بن مالك لأمه وكان أول رجل لاعن في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء قال فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين

وفي " الصحيحين " : من حديث ابن عباس نحو هذه القصة فقال له رجل أهي المرأة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو رجمت أحدا بغير بينة لرجمت هذه فقال ابن عباس : لا تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء .

ولأبي داود في هذا الحديث عن ابن عباس ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى ألا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها .

وفي القصة قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب .

وذكر البخاري : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم " البينة أو حد في ظهرك " فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " البينة وإلا حد في ظهرك " فقال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم . . .. الآيات فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم إليها فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب " ؟ فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة قال ابن عباس رضي الله عنهما : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء " فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لولا ما مضى من كتاب الله كان لي ولها شأن

وفي " الصحيحين " : أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فقال سعد بلى والذي بعثك بالحق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا إلى ما يقول سيدكم " : وفي لفظ آخر يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال " نعم " . وفي لفظ آخر لو وجدت مع أهلي رجلا لم أهجه حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " قال كلا والذي بعثك بالحق نبيا إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني " . وفي لفظ لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا شخص أغير من الله ولا شخص أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة


افتراضي

فصل [ يصح اللعان من كل زوجين وإن كانا فاسقين محدودين في قذف أو كافرين ]
واستفيد من هذا الحكم النبوي عدة أحكام

الحكم الأول أن اللعان يصح من كل زوجين سواء كانا مسلمين أو كافرين عدلين أو فاسقين محدودين في قذف أو غير محدودين أو أحدهما كذلك قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور جميع الأزواج يلتعنون الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة والعبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة والمسلم من اليهودية والنصرانية وهذا قول مالك وإسحاق وقول سعيد بن المسيب والحسن وربيعة وسليمان بن يسار .



من قال بأن اللعان لا يكون إلا بين زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف ]

وذهب أهل الرأي والأوزاعي والثوري وجماعة إلى أن اللعان لا يكون إلا بين زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف وهو رواية عن أحمد .

ومأخذ القولين أن اللعان يجمع وصفين : اليمين والشهادة وقد سماه الله سبحانه شهادة وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا حيث يقول لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فمن غلب عليه حكم الأيمان قال يصح من كل من يصح يمينه قالوا : ولعموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم قالوا : وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا . قالوا : ولأنه مفتقر إلى اسم الله وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه . قالوا : ولأنه يستوي فيه الذكر والأنثى بخلاف الشهادة . قالوا : ولو كان شهادة لما تكرر لفظه بخلاف اليمين فإنه قد يشرع فيها التكرار كأيمان القسامة . قالوا : ولأن حاجة الزوج التي لا تصح منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد كحاجة من تصح شهادته سواء والأمر الذي ينزل به مما يدعو إلى اللعان كالذي ينزل بالعدل الحر والشريعة لا ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له فرجا ومخرجا مما نزل به وتدع النوع الآخر في الآصار والأغلال لا فرج له مما نزل به ولا مخرج بل يستغيث فلا يغاث ويستجير فلا يجار إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثله قد ضاقت عنه الرحمة التي وسعت من تصح شهادته وهذا تأباه الشريعة الواسعة الحنيفية السمحة .

قال الآخرون قال الله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله وفي الآية دليل من ثلاثة أوجه .

أحدها : أنه سبحانه استثنى أنفسهم من الشهداء وهذا استثناء متصل قطعا ولهذا جاء مرفوعا .

والثاني : أنه صرح بأن التعانهم شهادة ثم زاد سبحانه هذا بيانا فقال ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين

والثالث أنه جعله بدلا من الشهود وقائما مقامهم عند عدمهم .

قالوا : وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا لعان بين مملوكين ولا كافرين ذكره أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد " .

وذكر الدارقطني من حديثه أيضا عن أبيه عن جده مرفوعا : أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان وليس بين الحرة والعبد لعان وليس بين المسلم واليهودية لعان وليس بين المسلم والنصرانية لعان

وذكر عبد الرزاق في " مصنفه " عن ابن شهاب قال من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب بن أسيد : أن لا لعان بين أربع فذكر معناه .

قالوا : ولأن اللعان جعل بدل الشهادة وقائما مقامها عند عدمها فلا يصح إلا ممن تصح منه ولهذا تحد المرأة بلعان الزوج ونكولها تنزيلا للعانه منزلة أربعة شهود . قالوا : وأما الحديث لولا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأن فالمحفوظ فيه لولا ما مضى من كتاب الله هذا لفظ البخاري في " صحيحه " .

وأما قوله لولا ما مضى من الأيمان فمن رواية عباد بن منصور وقد تكلم فيه غير واحد . قال يحيى بن معين : ليس بشيء . وقال علي بن الحسين بن الجنيد الرازي : متروك قدري . وقال النسائي : ضعيف .

وقد استقرت قاعدة الشريعة أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه والزوج ها هنا مدع فلعانه شهادة ولو كان يمينا لم تشرع في جانبه .

قال الأولون أما تسميته شهادة فلقول الملتعن في يمينه أشهد بالله فسمي بذلك شهادة وإن كان يمينا اعتبارا بلفظها . قالوا : وكيف وهو مصرح فيه بالقسم وجوابه وكذلك لو قال أشهد بالله انعقدت يمينه بذلك سواء نوى اليمين أو أطلق والعرب تعد ذلك يمينا في لغتها واستعمالها . قال قيس :


فأشهد عند الله أني أحبها

فهذا لها عندي فما عندها ليا


وفي هذا حجة لمن قال إن قوله " أشهد " تنعقد به اليمين ولو لم يقل بالله كما هو إحدى الروايتين عن أحمد . والثانية لا يكون يمينا إلا بالنية وهو قول الأكثرين . كما أن قوله أشهد بالله يمين عند الأكثرين بمطلقه .

قالوا : وأما استثناؤه سبحانه أنفسهم من الشهداء فيقال أولا : " إلا " ها هنا : صفة بمعنى غير والمعنى : ولم يكن لهم شهداء غير أنفسهم فإن " غير " و " وإلا " يتعاوضان الوصفية والاستثناء فيستثنى ب " غير " حملا على " إلا " ويوصف ب " إلا " حملا على " غير " .

ويقال ثانيا : إن " أنفسهم " مستثنى من الشهداء ولكن يجوز أن يكون منقطعا على لغة بني تميم فإنهم يبدلون في الانقطاع كما يبدل أهل الحجاز وهم في الاتصال .

ويقال ثالثا : إنما استثنى " أنفسهم " من الشهداء لأنه نزلهم منزلتهم في قبول قولهم وهذا قوي جدا على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى . والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين اليمين والشهادة فهو شهادة مؤكدة بالقسم والتكرار ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الأمر ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع .

[ أنواع التأكيد في الشهادة على اللعان ]
أحدها : ذكر لفظ الشهادة .

الثاني : ذكر القسم بأحد أسماء الرب سبحانه وأجمعها لمعاني أسمائه الحسنى وهو اسم الله جل ذكره .

الثالث تأكيد الجواب بما يؤكد به المقسم عليه من " إن واللام " وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذي هو صدق وكذب .

الرابع تكرار ذلك أربع مرات .

الخامس دعاؤه على نفسه في الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبين .

السادس إخباره عند الخامسة أنها الموجبة لعذاب الله وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .

السابع جعل لعانه مقتض لحصول العذاب عليها وهو إما الحد أو الحبس وجعل لعانها دارئا للعذاب عنها .

الثامن أن هذا اللعان يوجب العذاب على أحدهما إما في الدنيا وإما في الآخرة .

التاسع التفريق بين المتلاعنين وخراب بيتها وكسرها بالفراق .

العاشر تأبيد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما فلما كان شأن هذا اللعان هذا الشأن جعل يمينا مقرونا بالشهادة وشهادة مقرونة باليمين وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد فإن نكلت المرأة مضت شهادته وحدت وأفادت شهادته ويمينه شيئين سقوط الحد عنه ووجوبه عليها . وإن التعنت المرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها أفاد لعانه سقوط الحد عنه دون وجوبه عليها فكان شهادة ويمينا بالنسبة إليه دونها لأنه إن كان يمينا محضة فهي لا تحد بمجرد حلفه وإن كان شهادة فلا تحد بمجرد شهادته عليها وحده . فإذا انضم إلى ذلك نكولها قوي جانب الشهادة واليمين في حقه بتأكده ونكولها فكان دليلا ظاهرا على صدقه فأسقط الحد عنه وأوجبه عليها وهذا أحسن ما يكون من الحكم ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة وشهادة فيها معنى اليمين .

وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فما أبين دلالته لو كان صحيحا بوصوله إلى عمرو ولكن في طريقه إلى عمرو مهالك ومفاوز . قال أبو عمر بن عبد البر : ليس دون عمرو بن شعيب من يحتج به .

وأما حديثه الآخر الذي رواه الدارقطني فعلى طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي وهو متروك بإجماعهم فالطريق به مقطوعة .

وأما حديث عبد الرزاق فمراسيل الزهري عندهم ضعيفة لا يحتج بها وعتاب بن أسيد كان عاملا للنبي صلى الله عليه وسلم على مكة ولم يكن بمكة يهودي ولا نصراني البتة حتى يوصيه أن لا يلاعن بينهما .

قالوا : وأما ردكم لقوله لولا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأن وهو حديث رواه أبو داود في " سننه " وإسناده لا بأس به وأما تعلقكم فيه على عباد بن منصور فأكثر ما عيب عليه أنه قدري داعية إلى القدر وهذا لا يوجب رد حديثه ففي الصحيح الاحتجاج بجماعة من القدرية والمرجئة والشيعة ممن علم صدقه ولا تنافي بين قوله لولا ما مضى من كتاب الله تعالى " " ولولا ما مضى من الأيمان فيحتاج إلى ترجيح أحد اللفظين وتقديمه على الآخر بل الأيمان المذكورة هي في كتاب الله وكتاب الله تعالى حكمه الذي حكم به بين المتلاعنين وأراد صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من حكم الله الذي فصل بين المتلاعنين لكان لها شأن آخر .

قالوا : وأما قولكم إن قاعدة الشريعة استقرت على أن الشهادة في جانب المدعي واليمين في جانب المدعى عليه فجوابه من وجوه أحدها : أن الشريعة لم تستقر على هذا بل قد استقرت في القسامة بأن يبدأ بأيمان المدعين وهذا لقوة جانبهم باللوث وقاعدة الشريعة أن اليمين تكون من جنبة أقوى المتداعيين فلما كان جانب المدعى عليه قويا بالبراءة الأصلية شرعت اليمين في جانبه فلما قوي جانب المدعي في القسامة باللوث كانت اليمين في جانبه وكذلك على الصحيح لما قوي جانبه بالنكول صارت اليمين في جانبه فيقال له احلف واستحق وهذا من كمال حكمة الشارع واقتضائه للمصالح بحسب الإمكان ولو شرعت اليمين من جانب واحد دائما لذهبت قوة الجانب الراجح هدرا وحكمة الشارع تأبى ذلك فالذي جاء به هو غاية الحكمة والمصلحة .
يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 02:27 AM
[ إذا لم تلتعن المرأة فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن ؟ ]

وإذا عرف هذا فجانب الزوج ها هنا أقوى من جانبها فإن المرأة تنكر زناها وتبهته والزوج ليس له غرض في هتك حرمته وإفساد فراشه ونسبة أهله إلى الفجور بل ذلك أشوش عليه وأكره شيء إليه فكان هذا لوثا ظاهرا فإذا انضاف إليه نكول المرأة قوي الأمر جدا في قلوب الناس خاصهم وعامهم فاستقل ذلك بثبوت حكم الزنا عليها شرعا فحدت بلعانه ولكن لما لم تكن أيمانه بمنزلة الشهداء الأربعة حقيقة كان لها أن تعارضها بأيمان أخرى مثلها يدرأ عنها بها العذاب عذاب الحد المذكور في قوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ النور 2 ] ولو كان لعانه بينة حقيقة لما دفعت أيمانها عنها شيئا وهذا يتضح بالفصل الثاني المستفاد من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن المرأة إذا لم تلتعن فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن ؟ فيه قولان للفقهاء . فقال الشافعي وجماعة من السلف والخلف تحد وهو قول أهل الحجاز .

وقال أحمد : تحبس حتى تقر أو تلاعن وهو قول أهل العراق . وعنه رواية ثانية لا تحبس ويخلى سبيلها .




[ حجج من قال تحبس ]

قال أهل العراق ومن وافقهم لو كان لعان الرجل بينة توجب الحد عليها لم تملك إسقاطه باللعان وتكذيب البينة كما لو شهد عليها أربعة .

قالوا : ولأنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تحد بهذه الشهادة فلأن لا تحد بشهادته وحده أولى وأحرى .

قالوا : ولأنه أحد المتلاعنين فلا يوجب حد الآخر كما لم يوجب لعانها حده .

قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي ولا ريب أن الزوج ها هنا مدع .

قالوا : ولأن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجاب الحد عليها ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم البينة وإلا حد في ظهرك فإن موجب قذف الزوج كموجب قذف الأجنبي وهو الحد فجعل الله سبحانه له طريقا إلى التخلص منه باللعان وجعل طريق إقامة الحد على المرأة أحد أمرين إما أربعة شهود أو اعتراف أو الحبل عند من يحد به من الصحابة كعمر بن الخطاب ومن وافقه وقد قال عمر بن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف وكذلك قال علي رضي الله عنه فجعلا طريق الحد ثلاثة لم يجعلا فيها اللعان .

قالوا : وأيضا فهذه لم يتحقق زناها فلا يجب عليها الحد لأن تحقق زناها إما أن يكون بلعان الزوج وحده لأنه لو تحقق به لم يسقط بلعانها الحد ولما وجب بعد ذلك حد على قاذفها ولا يجوز أن يتحقق بنكولها أيضا لأن الحد لا يثبت بالنكول فإن الحد يدرأ بالشبهات فكيف يجب بالنكول فإن النكول يحتمل أن يكون لشدة خفرها أو لعقلة لسانها أو لدهشها في ذلك المقام الفاضح المخزي أو لغير ذلك من الأسباب فكيف يثبت الحد الذي اعتبر في بينته من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود وفي إقراره أربع مرات بالسنة الصحيحة الصريحة واعتبر في كل من الإقرار والبينة أن يتضمن وصف الفعل والتصريح به مبالغة في الستر ودفعا لإثبات الحد بأبلغ الطرق وآكدها وتوسلا إلى إسقاط الحد بأدنى شبهة فكيف يجوز أن يقضى فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة لا يقضى به في شيء من الحدود والعقوبات البتة ولا فيما عدا الأموال ؟ .

قالوا : والشافعي رحمه الله تعالى لا يرى القضاء بالنكول في درهم فما دونه ولا في أدنى تعزير فكيف يقضى به في أعظم الأمور وأبعدها ثبوتا وأسرعها سقوطا ولأنها لو أقرت بلسانها ثم رجعت لم يجب عليها الحد فلأن لا يجب بمجرد امتناعها من اليمين على براءتها أولى وإذا ظهر أنه لا تأثير لواحد منهما في تحقق زناها لم يجز أن يقال بتحققه بهما لوجهين .

أحدهما : أن ما في كل واحد منهما من الشبهة لا يزول بضم أحدهما إلى الآخر كشهادة مائة فاسق فإن احتمال نكولها لفرط حيائها وهيبة ذلك المقام والجمع وشدة الخفر وعجزها عن النطق وعقلة لسانها لا يزول بلعان الزوج ولا بنكولها .

الثاني : أن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق .

قالوا : وأما قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد فالعذاب ها هنا يجوز أن يراد به الحد وأن يراد به الحبس والعقوبة المطلوبة فلا يتعين إرادة الحد به فإن الدال على المطلق لا يدل على المقيد إلا بدليل من خارج وأدنى درجات ذلك الاحتمال فلا يثبت الحد مع قيامه وقد يرجح هذا بما تقدم من قول عمر وعلي رضي الله عنهما : إن الحد إنما يكون بالبينة أو الاعتراف أو الحبل

ثم اختلف هؤلاء فيما يصنع بها إذا لم تلاعن فقال أحمد : إذا أبت المرأة أن تلتعن بعد التعان الرجل أجبرتها عليه وهبت أن أحكم عليها بالرجم لأنها لو أقرت بلسانها لم أرجمها إذا رجعت فكيف إذا أبت اللعان ؟ وعنه رحمه الله تعالى رواية ثانية يخلى سبيلها اختارها أبو بكر لأنها لا يجب عليها الحد فيجب تخلية سبيلها كما لو لم تكمل البينة .


افتراضي

فصل [ حجج الموجبين للحد ]

قال الموجبون للحد معلوم أن الله سبحانه وتعالى جعل التعان الزوج بدلا عن الشهود وقائما مقامهم بل جعل الأزواج الملتعنين شهداء كما تقدم وصرح بأن لعانهم شهادة وأوضح ذلك بقوله ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله وهذا يدل على أن سبب العذاب الدنيوي قد وجد وأنه لا يدفعه عنها إلا لعانها والعذاب المدفوع عنها بلعانها هو المذكور في قوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وهذا عذاب الحد قطعا فذكره مضافا ومعرفا بلام العهد فلا يجوز أن ينصرف إلى عقوبة لم تذكر في اللفظ ولا دل عليها بوجه ما من حبس أو غيره فكيف يخلى سبيلها ويدرأ عنها العذاب بغير لعان وهل هذا إلا مخالفة لظاهر القرآن ؟ .

قالوا : وقد جعل الله سبحانه لعان الزوج دارئا لحد القذف عنه وجعل لعان الزوجة دارئا لعذاب حد الزنى عنها فكما أن الزوج إذا لم يلاعن يحد حد القذف فكذلك الزوجة إذا لم تلاعن يجب عليها الحد .

قالوا : وأما قولكم إن لعان الزوج لو كان بينة توجب الحد عليها لم تملك هي إسقاطه باللعان كشهادة الأجنبي .

فالجواب أن حكم اللعان حكم مستقل بنفسه غير مردود إلى أحكام الدعاوى والبينات بل هو أصل قائم بنفسه شرعه الذي شرع نظيره من الأحكام وفصله الذي فصل الحلال والحرام ولما كان لعان الزوج بدلا عن الشهود لا جرم نزل عن مرتبة البينة فلم يستقل وحده بحكم البينة وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره وحينئذ فلا يظهر ترجيح أحد اللعانين على الآخر لنا والله يعلم أن أحدهما كاذب فلا وجه لحد المرأة بمجرد لعان الزوج فإذا مكنت من معارضته وإتيانها بما يبرئ ساحتها فلم تفعل ونكلت عن ذلك عمل المقتضي عمله وانضاف إليه قرينة قوته وأكدته وهي نكول المرأة وإعراضها عما يخلصها من العذاب ويدرؤه عنها .




قالوا : وأما قولكم إنه لو شهد عليها مع ثلاثة غيره لم تحد بهذه الشهادة فكيف تحد بشهادته وحده ؟ فجوابه أنها لم تحد بشهادة مجردة وإنما حدت بمجموع لعانه خمس مرات ونكولها عن معارضته مع قدرتها عليها فقام من مجموع ذلك دليل في غاية الظهور والقوة على صحة قوله والظن المستفاد منه أقوى بكثير من الظن المستفاد من شهادة الشهود .

وأما قولكم إنه أحد اللعانين فلا يوجب حد الآخر كما لم يوجب لعانها حده فجوابه أن لعانها إنما شرع للدفع لا للإيجاب كما قال تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد فدل النص على أن لعانه مقتض لإيجاب الحد ولعانها دافع ودارئ لا موجب فقياس أحد اللعانين على الآخر جمع بين ما فرق الله سبحانه بينهما وهو باطل . قالوا : وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي فسمعا وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم و لا ريب أن لعان الزوج المذكور المكرر بينة وقد انضم إليه نكولها الجاري مجرى إقرارها عند قوم ومجرى بينة المدعين عند آخرين .

وهذا من أقوى البينات ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له البينة وإلا حد في ظهرك ولم يبطل الله سبحانه هذا وإنما نقله عند عجزه عن بينة منفصلة تسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها إلى بينة يتمكن من إقامتها ولما كانت دونها في الرتبة اعتبر لها مقو منفصل وهو نكول المرأة عن دفعها ومعارضتها مع قدرتها وتمكنها قالوا : وأما قولكم إن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه لا إيجاب الحد عليها إلى آخره فإن أردتم أن من موجبه إسقاط الحد عن نفسه فحق وإن أردتم أن سقوط الحد عنه يسقط جميع موجبه ولا موجب له سواه فباطل قطعا فإن وقوع الفرقة أو وجوب التفريق والتحريم المؤبد أو المؤقت ونفي الولد المصرح بنفيه أو المكتفى في نفيه باللعان ووجوب العذاب على الزوجة إما عذاب الحد أو عذاب الحبس كل ذلك من موجب اللعان فلا يصح أن يقال إنما يوجب سقوط حد القذف عن الزوج فقط .

قالوا : وأما قولكم إن الصحابة جعلوا حد الزنى بأحد ثلاثة أشياء إما البينة أو الاعتراف أو الحبل واللعان ليس منها فجوابه أن منازعيكم يقولون إن كان إيجاب الحد عليها باللعان خلافا لأقوال هؤلاء الصحابة فإن إسقاط الحد بالحبل أدخل في خلافهم وأظهر فما الذي سوغ لكم إسقاط حد أوجبوه بالحبل وصريح مخالفتهم وحرم على منازعيكم مخالفتهم في إيجاب الحد بغير هذه الثلاثة مع أنهم أعذر منكم لثلاثة أوجه .

أحدها : أنهم لم يخالفوا صريح قولهم وإنما هو مخالفة لمفهوم سكتوا عنه فهو مخالفة لسكوتهم وأنتم خالفتم صريح أقوالهم .

الثاني : أن غاية ما خالفوه مفهوم قد خالفه صريح عن جماعة منهم بإيجاب الحد فلم يخالفوا ما أجمع عليه الصحابة وأنتم خالفتم منطوقا لا يعلم لهم فيه مخالف البتة ها هنا وهو إيجاب الحد بالحبل فلا يحفظ عن صحابي قط مخالفة عمر وعلي رضي الله عنهما في إيجاب الحد به .
الثالث أنهم خالفوا هذا المفهوم لمنطوق تلك الأدلة التي تقدمت ولمفهوم قوله ويدرأ عنها العذاب أن تشهد [ النور 8 ] ولا ريب أن هذا المفهوم أقوى من مفهوم سقوط الحد بقولهم إذا كانت البينة أو الحبل أو الاعتراف فهم تركوا مفهوما لما هو أقوى منه وأولى هذا لو كانوا قد خالفوا الصحابة فكيف وقولهم موافق لأقوال الصحابة ؟ فإن اللعان مع نكول المرأة من أقوى البينات كما تقرر .

افتراضي

الثالث أنهم خالفوا هذا المفهوم لمنطوق تلك الأدلة التي تقدمت ولمفهوم قوله ويدرأ عنها العذاب أن تشهد [ النور 8 ] ولا ريب أن هذا المفهوم أقوى من مفهوم سقوط الحد بقولهم إذا كانت البينة أو الحبل أو الاعتراف فهم تركوا مفهوما لما هو أقوى منه وأولى هذا لو كانوا قد خالفوا الصحابة فكيف وقولهم موافق لأقوال الصحابة ؟ فإن اللعان مع نكول المرأة من أقوى البينات كما تقرر .

قالوا : وأما قولكم لم يتحقق زناها إلى آخره فجوابه إن أردتم بالتحقيق اليقين المقطوع به كالمحرمات فهذا لا يشترط في إقامة الحد ولو كان هذا شرطا لما أقيم الحد بشهادة أربعة إذ شهادتهم لا تجعل الزنى محققا بهذا الاعتبار . وإن أردتم بعدم التحقق أنه مشكوك فيه على السواء بحيث لا يترجح ثبوته فباطل قطعا وإلا لما وجب عليها العذاب المدرأ بلعانها ولا ريب أن التحقق المستفاد من لعانه المؤكد المكرر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق بأربع شهود ولعل لهم غرضا في قذفها وهتكها وإفسادها على زوجها والزوج لا غرض له في ذلك منها .

وقولكم إنه لو تحقق فإما أن يتحقق بلعان الزوج أو بنكولها أو بهما فجوابه أنه تحقق بهما ولا يلزم من عدم استقلال أحد الأمرين بالحد وضعفه عنه عدم استقلالهما معا إذ هذا شأن كل مفرد لم يستقل بالحكم بنفسه ويستقل به مع غيره لقوته به .

وأما قولكم عجبا للشافعي كيف لا يقضي بالنكول في درهم ويقضي به في إقامة حد بالغ الشارع في ستره واعتبر له أكمل بينة فهذا موضع لا ينتصر فيه للشافعي ولا لغيره من الأئمة وليس لهذا وضع كتابنا هذا ولا قصدنا به نصرة أحد من العالمين وإنما قصدنا به مجرد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وأقضيته وأحكامه وما تضمن سوى ذلك فتبع مقصود لغيره فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض فماذا يضر ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها


على أن الشافعي رحمه الله تعالى لم يتناقض فإنه فرق بين نكول مجرد لا قوة له وبين نكول قد قارنه التعان مؤكد مكرر أقيم في حق الزوج مقام البينة مع شهادة الحال بكراهة الزوج لزنى امرأته وفضيحتها وخراب بيتها وإقامة نفسه وحبه في ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذبا بعد حلفه بالله جهد أيمانه أربع مرات إنه لمن الصادقين والشافعي رحمه الله إنما حكم بنكول قد قارنه ما هذا شأنه فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد ؟ .

قالوا : وأما قولكم إنها لو أقرت بالزنى ثم رجعت لسقط عنها الحد فكيف يجب بمجرد امتناعها من اليمين ؟ بجوابه ما تقرر آنفا .
قالوا : وأما قولكم إن العذاب المدرأ عنها بلعانها هو عذاب الحبس أو غيره فجوابه أن العذاب المذكور إما عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة وحمل الآية على عذاب الآخرة باطل قطعا فإن لعانها لا يدرؤه إذا وجب عليها وإنما هو عذاب الدنيا وهو الحد قطعا فإنه عذاب المحدود وهو فداء له من عذاب الآخرة ولهذا شرعه سبحانه طهرة وفدية من ذلك العذاب كيف وقد صرح به في أول السورة بقوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ النور 2 ] ثم أعاده بعينه بقوله ويدرأ عنها العذاب فهذا هو العذاب المشهود مكنها من دفعه بلعانها فأين هنا عذاب غيره حتى تفسر الآية به ؟ وإذا تبين هذا فهذا هو القول الصحيح الذي لا نعتقد سواه ولا نرتضي إلا إياه وبالله التوفيق .

فإن قيل فلو نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه فما حكم نكوله ؟ قلنا : يحد حد القذف عند جمهور العلماء من السلف والخلف وهو قول الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم وخالف في ذلك أبو حنيفة وقال يحبس حتى يلاعن أو تقر الزوجة وهذا الخلاف مبني على أن موجب قذف الزوج لامرأته هل هو الحد كقذف الأجنبي وله إسقاطه باللعان أو موجبه اللعان نفسه ؟ فالأول قول الجمهور . والثاني : قول أبي حنيفة واحتجوا عليه بعموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور 4 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية البينة أو حد في ظهرك وبقوله له عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وهذا قاله لهلال بن أمية قبل شروعه في اللعان . فلو لم يجب الحد بقذفه لم يكن لهذا معنى وبأنه قذف حرة عفيفة يجري بينه وبينها القود فحد بقذفها كالأجنبي وبأنه لو لاعنها ثم أكذب نفسه بعد لعانها لوجب عليه الحد فدل على أن قذفه سبب لوجوب الحد عليه وله إسقاطه باللعان إذ لو لم يكن سببا لما وجب بإكذابه نفسه بعد اللعان وأبو حنيفة يقول قذفه لها دعوى توجب أحد أمرين إما لعانه وإما إقرارها فإذا لم يلاعن حبس حتى يلاعن إلا أن تقر فيزول موجب الدعوى وهذا بخلاف قذف الأجنبي فإنه لا حق له عند المقذوفة فكان قاذفا محضا والجمهور يقولون بل قذفه جناية منه على عرضها فكان موجبها الحد كقذف الأجنبي ولما كان فيها شائبة الدعوى عليها بإتلافها لحقه وخيانتها فيه ملك إسقاط ما يوجبه القذف من الحد بلعانه فإذا لم يلاعن مع قدرته على اللعان وتمكنه منه عمل مقتضى القذف عمله واستقل بإيجاب الحد إذ لا معارض له وبالله التوفيق .



فصل [ ومن الأحكام المستنبطة من أحاديث اللعان أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يقضي بالوحي ]

ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يقضي بالوحي وبما أراه الله لا بما رآه هو فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقض بين المتلاعنين حتى جاءه الوحي ونزل القرآن فقال لعويمر حينئذ قد نزل فيك وفي صحابتك فاذهب فأت بها وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يسألني الله عز وجل عن سنة أحدثتها فيكم لم أومر بها وهذا في الأقضية والأحكام والسنن الكلية وأما الأمور الجزئية التي لا ترجع إلى أحكام كالنزول في منزل معين وتأمير رجل معين ونحو ذلك مما هو متعلق بالمشاورة المأمور بها بقوله وشاورهم في الأمر [ آل عمران 159 ] فتلك للرأي فيها مدخل ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم في شأن تلقيح النخل إنما هو رأي رأيته فهذا القسم شيء والأحكام والسنن الكلية شيء آخر .

فصل [ يكون اللعان بحضرة الإمام أو نائبه ]
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يأتي بها فتلاعنا بحضرته فكان في هذا بيان أن اللعان إنما يكون بحضرة الإمام أو نائبه وأنه ليس لآحاد الرعية أن يلاعن بينهما كما أنه ليس له إقامة الحد بل هو للإمام أو نائبه .



فصل [ يسن التلاعن بمحضر جماعة من الناس ]
ومنها : أنه يسن التلاعن بمحضر جماعة من الناس يشهدونه فإن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه مع حداثة أسنانهم فدل ذلك على أنه حضره جمع كثير فإن الصبيان إنما يحضرون مثل هذا الأمر تبعا للرجال . قال سهل بن سعد فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي صلى الله عليه وسلم . وحكمة هذا - والله أعلم - أن اللعان بني على التغليظ مبالغة في الردع والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك .

فصل [ القيام عند الملاعنة ]
ومنها : أنهما يتلاعنان قياما وفي قصة هلال بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له قم فاشهد أربع شهادات بالله . وفي " الصحيحين " : في قصة المرأة ثم قامت فشهدت ولأنه إذا قام شاهده الحاضرون فكان أبلغ في شهرته وأوقع في النفوس وفيه سر آخر وهو أن الدعوة التي تطلب إصابتها إذا صادفت المدعو عليه قائما نفذت فيه ولهذا لما دعا خبيب على المشركين حين صلبوه أخذ أبو سفيان معاوية فأضجعه وكانوا يرون أن الرجل إذا لطئ بالأرض زلت عنه الدعوة .



فصل [ البداءة بالرجل في اللعان ]
ومنها : البداءة بالرجل في اللعان كما بدأ الله عز وجل ورسوله به فلو بدأت هي لم يعتد بلعانها عند الجمهور واعتد به أبو حنيفة . وقد بدأ الله سبحانه في الحد بذكر المرأة فقال الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور 2 ] وفي اللعان بذكر الزوج وهذا في غاية المناسبة لأن الزنى من المرأة أقبح منه بالرجل لأنها تزيد على هتك حق الله إفساد فراش بعلها وتعليق نسب من غيره عليه وفضيحة أهلها وأقاربها والجناية على محض حق الزوج وخيانته فيه وإسقاط حرمته عند الناس وتعييره بإمساك البغي وغير ذلك من مفاسد زناها فكانت البداءة بها في الحد أهم وأما اللعان فالزوج هو الذي قذفها وعرضها للعان وهتك عرضها ورماها بالعظيمة وفضحها عند قومها وأهلها ولهذا يجب عليه الحد إذا لم يلاعن فكانت البداءة به في اللعان أولى من البداءة بها .

فصل [ وعظهما قبل اللعان ]
ومنها : وعظ كل واحد من المتلاعنين عند إرادة الشروع في اللعان فيوعظ ويذكر ويقال له عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإذا كان عند الخامسة أعيد ذلك عليهما كما صحت السنة بهذا وهذا .

فصل [ لا يقبل منهما أقل من خمس مرات ]

ومنها : أنه لا يقبل من الرجل أقل من خمس مرات ولا من المرأة ولا يقبل منه إبدال اللعنة بالغضب والإبعاد والسخط ولا منها إبدال الغضب باللعنة والإبعاد والسخط بل يأتي كل منهما بما قسم الله له من ذلك شرعا وقدرا وهذا أصح القولين في مذهب أحمد ومالك وغيرهما .

[ لا تستحب الزيادة على الألفاظ المذكورة في الكتاب والسنة ]

ومنها : أنه لا يفتقر أن يزيد على الألفاظ المذكورة في القرآن والسنة شيئا بل لا يستحب ذلك فلا يحتاج أن يقول أشهد بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ونحو ذلك بل يكفيه أن يقول أشهد بالله إني لمن الصادقين وهي تقول أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ولا يحتاج أن يقول فيما رميتها به من الزنى ولا أن تقول هي إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى ولا يشترط أن يقول إذا ادعى الرؤية رأيتها تزني كالمرود في المكحلة ولا أصل لذلك في كتاب الله ولا سنة رسوله فإن الله سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما شرعه لنا وأمرنا به عن تكلف زيادة عليه .

قال صاحب " الإفصاح " وهو يحيى بن محمد بن هبيرة في " إفصاحه " : من الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين فيما رميتها به من الزنى واشترط في نفيها عن نفسها أن تقول فيما رماني به من الزنى . قال ولا أراه يحتاج إليه لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه ولم يذكر هذا الاشتراط . وظاهر كلام أحمد أنه لا يشترط ذكر الزنى في اللعان فإن إسحاق بن منصور قال قلت لأحمد كيف يلاعن ؟ قال على ما في كتاب الله يقول أربع مرات أشهد بالله إني فيما رميتها به لمن الصادقين ثم يقف عند الخامسة فيقول لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين والمرأة مثل ذلك . ففي هذا النص أنه لا يشترط أن يقول من الزنى ولا تقوله هي ولا يشترط أن يقول عند الخامسة فيما رميتها به وتقول هي فيما رماني به والذين اشترطوا ذلك حجتهم أن قالوا : ربما نوى : إني لمن الصادقين في شهادة التوحيد أو غيره من الخبر الصادق ونوت إنه لمن الكاذبين في شأن آخر فإذا ذكرا ما رميت به من الزنى انتفى هذا التأويل . قال الآخرون هب أنهما نويا ذلك فإنهما لا ينتفعان بنيتهما فإن الظالم لا ينفعه تأويله ويمينه على نية خصمه ويمينه بما أمر الله به إذا كان مجاهرا فيها بالباطل والكذب موجبة عليه اللعنة أو الغضب نوى ما ذكرتم أو لم ينوه فإنه لا يموه على من يعلم السر وأخفى بمثل هذا .

افتراضي

فصل [هل ينتفي الحمل باللعان ]
ومنها : أن الحمل ينتفي بلعانه ولا يحتاج أن يقول وما هذا الحمل مني ولا يحتاج أن يقول وقد استبرأتها هذا قول أبي بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد وقول بعض أصحاب مالك وأهل الظاهر وقال الشافعي يحتاج الرجل إلى ذكر الولد ولا تحتاج المرأة إلى ذكره وقال الخرقي وغيره يحتاجان إلى ذكره وقال القاضي : يشترط أن يقول هذا الولد من زنا وليس هو مني . وهو قول الشافعي وقول أبي بكر أصح الأقوال وعليه تدل السنة الثابتة .

فإن قيل فقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته وانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة .

وفي حديث سهل بن سعد وكانت حاملا فأنكر حملها .

وقد حكم صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش وهذه كانت فراشا له حال كونها حاملا فالولد له فلا ينتفي عنه إلا بنفيه .

قيل هذا موضع تفصيل لا بد منه وهو أن الحمل إن كان سابقا على ما رماها به وعلم أنها زنت وهي حامل منه فالولد له قطعا ولا ينتفي عنه بلعانه ولا يحل له أن ينفيه عنه في اللعان فإنها لما علقت به كانت فراشا له وكان الحمل لاحقا به فزناها لا يزيل حكم لحوقه به وإن لم يعلم حملها حال زناها الذي قد قذفها به فهذا ينظر فيه فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به فالولد له ولا ينتفي عنه بلعانه وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به نظر فإما أن يكون استبرأها قبل زناها أو لم يستبرئها فإن كان استبرأها انتفى الولد عنه بمجرد اللعان سواء نفاه أو لم ينفه ولا بد من ذكره عند من يشترط ذكره وإن لم يستبرئها فها هنا أمكن أن يكون الولد منه وأن يكون من الزاني فإن نفاه في اللعان انتفى وإلا لحق به لأنه أمكن كونه منه ولم ينفه .
فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بعد اللعان ونفى الولد بأنه إن جاء يشبه الزوج صاحب الفراش فهو له وإن جاء يشبه الذي رميت به فهو له فما قولكم في مثل هذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها ثم جاء الولد يشبهه هل تلحقونه به بالشبه عملا بالقافة أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملا بموجب لعانه ؟ قيل هذا مجال ضنك وموضع ضيق تجاذب أعنته اللعان المقتضي لانقطاع النسب وانتفاء الولد وأنه يدعى لأمه ولا يدعى لأب والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزوج وأنه ابنه مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه فالولد له وأنه كذب عليها فهذا مضيق لا يتخلص منه إلا المستبصر البصير بأدلة الشرع وأسراره والخبير بجمعه وفرقه الذي سافرت به همته إلى مطلع الأحكام والمشكاة التي منها ظهر الحلال والحرام .

والذي يظهر في هذا والله المستعان وعليه التكلان أن حكم اللعان قطع حكم الشبه وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفهما فلا عبرة للشبه بعد مضي حكم اللعان في تغيير أحكامه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان وإنما أخبر عنه ليتبين الصادق منهما من الكاذب الذي قد استوجب اللعنة والغضب فهو إخبار عن أمر قدري كون يتبين به الصادق من الكاذب بعد تقرر الحكم الديني وأن الله سبحانه سيجعل في الولد دليلا على ذلك ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد انتفائه من الولد وقال إن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا صدق عليها وإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا كذب عليها فجاءت به على النعت المكروه فعلم أنه صدق عليها ولم يعرض لها ولم يفسخ حكم اللعان فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج يعلم أنه كذب عليها ولا يغير ذلك حكم اللعان فيحد الزوج ويلحق به الولد فليس قوله إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية إلحاقا له به في الحكم كيف وقد نفاه باللعان وانقطع نسبه به كما أن قوله وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي رميت به . ليس إلحاقا به وجعله ابنه وإنما هو إخبار عن الواقع وهذا كما لو حكم بأيمان القسامة ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على كذب الحالفين لم ينتقض حكمها بذلك وكذا لو حكم بالبراءة من الدعوى بيمين ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على أنها يمين فاجرة لم يبطل الحكم بذلك .


فصل [هل يحد إذا قذف امرأته بالزنى برجل بعينه ]
ومنها : أن الرجل إذا قذف امرأته بالزنى برجل بعينه ثم لاعنها سقط الحد عنه لهما ولا يحتاج إلى ذكر الرجل في لعانه وإن لم يلاعن فعليه لكل واحد منهما حده وهذا موضع اختلف فيه فقال أبو حنيفة ومالك يلاعن للزوجة ويحد للأجنبي وقال الشافعي في أحد قوليه يجب عليه حد واحد ويسقط عنه الحد لهما بلعانه وهو قول أحمد والقول الثاني للشافعي أنه يحد لكل واحد حدا فإن ذكر المقذوف في لعانه سقط الحد وإن لم يذكره فعلى قولين أحدهما : يستأنف اللعان ويذكره فيه فإن لم يذكره حد له . والثاني : أنه يسقط حده بلعانه كما يسقط حد الزوجة .

وقال بعض أصحاب أحمد القذف للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق المطالبة ولا الحد . وقال بعض أصحاب الشافعي يجب الحد لهما وهل يجب حد واحد أو حدان ؟ على وجهين وقال بعض أصحابه لا يجب إلا حد واحد قولا واحدا ولا خلاف بين أصحابه أنه إذا لاعن وذكر الأجنبي في لعانه أنه يسقط عنه حكمه وإن لم يذكره فعلى قولين الصحيح عندهم أنه لا يسقط .




والذين أسقطوا حكم قذف الأجنبي باللعان حجتهم ظاهرة وقوية جدا فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحد الزوج بشريك بن سحماء وقد سماه صريحا وأجاب الآخرون عن هذا بجوابين
أحدهما : أن المقذوف كان يهوديا ولا يجب الحد بقذف الكافر .
والثاني : أنه لم يطالب به وحد القذف إنما يقام بعد المطالبة .

وأجاب الآخرون عن هذين الجوابين وقالوا : قول من قال إنه يهودي باطل فإنه شريك بن عبدة وأمه سحماء وهو حليف الأنصار وهو أخو البراء بن مالك لأمه . قال عبد العزيز بن بزيزة في شرحه لأحكام عبد الحق قد اختلف أهل العلم في شريك بن سحماء المقذوف فقيل إنه كان يهوديا وهو باطل والصحيح أنه شريك بن عبدة حليف الأنصار وهو أخو البراء بن مالك لأمه .

وأما الجواب الثاني فهو ينقلب حجة عليكم لأنه لما استقر عنده أنه لا حق له في هذا القذف لم يطالب به ولم يتعرض له وإلا كيف يسكت عن براءة عرضه وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه والقوم كانوا أشد حمية وأنفة من ذلك ؟

وقد تقدم أن اللعان أقيم مقام البينة للحاجة وجعل بدلا من الشهود الأربعة ولهذا كان الصحيح أنه يوجب الحد عليها إذا نكلت فإذا كان بمنزلة الشهادة في أحد الطرفين كان بمنزلتها في الطرف الآخر ومن المحال أن تحد المرأة باللعان إذا نكلت ثم يحد القاذف حد القذف وقد أقام البينة على صدق قوله وكذلك إن جعلناه يمينا فإنها كما درأت عنه الحد من طرف الزوجة درأت عنه من طرف المقذوف ولا فرق لأنه به حاجة إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه كما استدل النبي صلى الله عليه وسلم على صدق هلال بشبه الولد بشريك بن سحماء فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للزوج البينة وإلا حد في ظهرك ولم يقل وإلا حدان هذا والمرأة لم تطالب بحد القذف فإن المطالبة شرط في إقامة الحد لا في وجوبه وهذا جواب آخر عن قولهم إن شريكا لم يطالب بالحد فإن المرأة أيضا لم تطالب به وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم البينة وإلا حد في ظهرك .

فإن قيل فما تقولون لو قذف أجنبية بالزنى برجل سماه ؟ فقال زنى بك فلان أو زنيت به ؟ قيل ها هنا يجب عليه حدان لأنه قاذف لكل واحد منهما ولم يأت بما يسقط موجب قذفه فوجب عليه حكمه إذ ليس هنا بينة بالنسبة إلى أحدهما ولا ما يقوم مقامها .



فصل [إذا لاعنها وهي حامل وانتفى من حملها انتفى عنه ولم يحتج إلى أن يلاعن بعد وضعه ]
ومنها : أنه إذا لاعنها وهي حامل وانتفى من حملها انتفى عنه ولم يحتج إلى أن يلاعن بعد وضعه كما دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وهذا موضع اختلف فيه . فقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلاعن لنفيه حتى تضع لاحتمال أن يكون ريحا فتنفش ولا يكون للعان حينئذ معنى وهذا هو الذي ذكره الخرقي في " مختصره " فقال وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف عنه حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن وتبعه الأصحاب على ذلك وخالفهم أبو محمد المقدسي كما يأتي كلامه . وقال جمهور أهل العلم له أن يلاعن في حال الحمل اعتمادا على قصة هلال بن أمية فإنها صريحة صحيحة في اللعان حال الحمل ونفي الولد في تلك الحال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن جاءت به على صفة كذا وكذا فلا أراه إلا قد صدق عليها . . . الحديث . قال الشيخ في " المغني " : وقال مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز : يصح نفي الحمل وينتفي عنه محتجين بحديث هلال وأنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وألحقه بالأم ولا خفاء أنه كان حملا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم انظروها فإن جاءت به كذا وكذا قال ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه ولهذا تثبت للحامل أحكام تخالف فيها الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد عليها وتأخير القصاص عنها وغير ذلك مما يطول ذكره ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه . قال وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان وقال أبو بكر ينتفي الولد بزوال الفراش ولا يحتاج إلى ذكره في اللعان احتجاجا بظاهر الأحاديث حيث لم ينقل نفي الحمل ولا تعرض لنفيه .

وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يصح نفي الحمل واللعان عليه فإن لاعنها حاملا ثم أتت بالولد لزمه عنده ولم يتمكن من نفيه أصلا لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين وهذه قد بانت بلعانها في حال حملها .

قال المنازعون له هذا فيه إلزامه ولدا ليس منه وسد باب الانتفاء من أولاد الزنى والله سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقا فلا يجوز سدها قالوا : وإنما تعتبر الزوجية في الحال التي أضاف الزنى إليها فيها لأن الولد الذي تأتي به يلحقه إذا لم ينفه فيحتاج إلى نفيه وهذه كانت زوجته في تلك الحال فملك نفي ولدها . وقال أبو يوسف . ومحمد له أن ينفي الحمل ما بين الولادة إلى تمام أربعين ليلة منها . وقال عبد الملك بن الماجشون : لا يلاعن لنفي الحمل إلا أن ينفيه ثانية بعد الولادة . وقال الشافعي : إذا علم بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يلاعن لم يكن له أن ينفيه بعد .



[التفريق بين المتلاعنين]
الحكم الأول التفريق بين المتلاعنين وفي ذلك خمسة مذاهب .

[من يفرق بمجرد القذف ]

[من قال لا يقع باللعان فرقة ]

أحدها : أن الفرقة تحصل بمجرد القذف هذا قول أبي عبيد والجمهور خالفوه في ذلك ثم اختلفوا فقال جابر بن زيد وعثمان البتي ومحمد بن أبي صفرة وطائفة من فقهاء البصرة : لا يقع باللعان فرقة ألبتة وقال ابن أبي صفرة اللعان لا يقطع العصمة واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه الطلاق بعد اللعان بل هو أنشأ طلاقها ونزه نفسه أن يمسك من قد اعترف بأنها زنت أو أن يقوم عليه دليل كذب بإمساكها فجعل النبي صلى الله عليه وسلم فعله سنة ونازع هؤلاء جمهور العلماء وقالوا : اللعان يوجب الفرقة ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب .

[قول من قال تحصل الفرقة بمجرد لعان الزوج وحده ]

أحدها أنها تقع بمجرد لعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة وهذا القول مما تفرد به الشافعي واحتج له بأنها فرقة حاصلة بالقول فحصلت بقول الزوج وحده كالطلاق . [قول من قال إن الفرقة تحصل بعد اللعان ]

المذهب الثاني : أنها لا تحصل إلا بلعانهما جميعا فإذا تم لعانهما وقعت الفرقة ولا يعتبر تفريق الحاكم وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها أبو بكر وقول مالك وأهل الظاهر واحتج لهذا القول بأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع الفرقة قبله مخالف لمدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم واحتجوا بأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه إما أيمان على زناها وإما شهادة به وكلاهما لا يقتضي فرقة وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمام لعانهما لمصلحة ظاهرة وهي أن الله سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة وجعل كلا منهما سكنا للآخر وقد زال هذا بالقذف وأقامها مقام الخزي والعار والفضيحة فإنه إن كان كاذبا فقد فضحها وبهتها ورماها بالداء العضال ونكس رأسها ورءوس قومها وهتكها على رءوس الأشهاد . وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وعرضته للفضيحة والخزي والعار بكونه زوج بغي وتعليق ولد غيره عليه فلا يحصل بعد هذا بينهما من المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوب بالنكاح فكان من محاسن شريعة الإسلام التفريق بينهما والتحريم المؤبد على ما سنذكره ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتب على بعض لعان الزوج قالوا : ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين فلم يثبت بأيمان أحدهما كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف .



[قول من قال إن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم ]

المذهب الثالث : أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وهي ظاهر كلام الخرقي فإنه قال ومتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا . واحتج أصحاب هذا القول بقول ابن عباس في حديثه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما . وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله واحتجوا بأن عويمرا قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا حجة من وجهين أحدهما : أنه يقتضي إمكان إمساكها . والثاني : وقوع الطلاق ولو حصلت الفرقة باللعان وحده لما ثبت واحد من الأمرين وفي حديث سهل بن سعد أنه طلقها ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه أبو داود .

قال الموقعون للفرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم : اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد كما سنذكره فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع قالوا : ولأن الفرقة لو وقعت على تفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهه الزوجان كالتفريق بالعيب والإعسار قالوا : وقوله فرق النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أمورا ثلاثة . أحدها : إنشاء الفرقة . والثاني : الإعلام بها . والثالث إلزامه بموجبها من الفرقة الحسية .

وأما قوله كذبت عليها إن أمسكتها فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعا بل هو بادر إلى فراقها وإن كان الأمر صائرا إلى ما بادر إليه وأما طلاقه ثلاثة فما زاد الفرقة الواقعة إلا تأكيدا فإنها حرمت عليه تحريما مؤبدا فالطلاق تأكيد لهذا التحريم وكأنه قال لا تحل لي بعد هذا . وأما إنفاذ الطلاق عليه فتقرير لموجبه من التحريم فإنها إذا لم تحل له باللعان أبدا كان الطلاق الثلاث تأكيدا للتحريم الواقع باللعان فهذا معنى إنفاذه فلما لم ينكره عليه وأقره على التكلم به وعلى موجبه جعل هذا إنفاذا من النبي صلى الله عليه وسلم وسهل لم يحك لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وقع طلاقك وإنما شاهد القصة وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم للطلاق فظن ذلك تنفيذا وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار والله أعلم .


افتراضي

فصل [فرقة اللعان فسخ ]
الحكم الثاني : أن فرقة اللعان فسخ وليست بطلاق وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد ومن قال بقولهما واحتجوا بأنها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع واحتجوا بأن اللعان ليس صريحا في الطلاق ولا نوى الزوج به الطلاق فلا يقع به الطلاق قالوا : ولو كان اللعان صريحا في الطلاق أو كناية فيه لوقع بمجرد لعان الزوج ولم يتوقف على لعان المرأة قالوا : ولأنه لو كان طلاقا فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث فكان يكون رجعيا . قالوا : ولأن الطلاق بيد الزوج إن شاء طلق وإن شاء أمسك وهذا الفسخ حاصل بالشرع وبغير اختياره قالوا : وإذا ثبت بالسنة وأقوال الصحابة ودلالة القرآن أن فرقة الخلع ليست بطلاق بل هي فسخ مع كونها بتراضيهما فكيف تكون فرقة اللعان طلاقا ؟ .

فصل [توجب هذه الفرقة تحريما مؤبدا والحكمة من ذلك ]

الحكم الثالث أن هذه الفرقة توجب تحريما مؤبدا لا يجتمعان بعدها أبدا . قال الأوزاعي : حدثنا الزبيدي حدثنا الزهري عن سهل بن سعد فذكر قصة المتلاعنين وقال ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال لا يجتمعان أبدا

وذكر البيهقي من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قا ل المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا

قال وروينا عن علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا : مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا قال وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا وإلى هذا ذهب أحمد والشافعي ومالك والثوري وأبو عبيد وأبو يوسف .

وعن أحمد رواية أخرى : أنه إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عنه . قال أبو بكر لا نعلم أحدا رواها غيره وقال صاحب " المغني " : وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما . فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله .

قلت : الرواية مطلقة ولا أثر لتفريق الحاكم في دوام التحريم فإن الفرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفرقة الحاصلة بتفريق الحاكم فإذا كان إكذاب نفسه مؤثرا في تلك الفرقة القوية رافعا للتحريم الناشئ منها فلأن يؤثر في الفرقة التي هي دونها ويرفع تحريمها أولى .

وإنما قلنا : إن الفرقة بنفس اللعان أقوى من الفرقة بتفريق الحاكم لأن فرقة اللعان تستند إلى حكم الله ورسوله سواء رضي الحاكم والمتلاعنان التفريق أو أبوه فهي فرقة من الشارع بغير رضى أحد منهم ولا اختياره بخلاف فرقة الحاكم فإنه إنما يفرق باختياره .

وأيضا فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه بخلاف ما إذا توقف على تفريق الحاكم فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة ولا كان له سلطان عليها وهذه الرواية هي مذهب سعيد بن المسيب قال فإن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب ومذهب أبي حنيفة ومحمد وهذا على أصله اطرد لأن فرقة اللعان عنده طلاق . وقال سعيد بن جبير : إن أكذب نفسه ردت إليه ما دامت في العدة .

والصحيح القول الأول الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وهو الذي تقتضيه حكمة اللعان ولا تقتضي سواه فإن لعنة الله تعالى وغضبه قد حل بأحدهما لا محالة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الخامسة إنها الموجبة أي الموجبة لهذا الوعيد ونحن لا نعلم عين من حلت به يقينا ففرق بينهما خشية أن يكون هو الملعون الذي قد وجبت عليه لعنة الله وباء بها فيعلو امرأة غير ملعونة وحكمة الشرع تأبى هذا كما أبت أن يعلو الكافر مسلمة والزاني عفيفة .

فإن قيل فهذا يوجب ألا يتزوج غيرها لما ذكرتم بعينه ؟ .

قيل لا يوجب ذلك لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك وشككنا في عينه فإذا اجتمعا لزمه أحد الأمرين ولا بد إما هذا وإما إمساكه ملعونة مغضوبا عليها قد وجب عليها غضب الله وباءت به فأما إذا تزوجت بغيره أو تزوج بغيرها لم تتحقق هذه المفسدة فيهما .

وأيضا فإن النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدا فإن الرجل إن كان صادقا عليها فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رءوس الأشهاد وأقامها مقام الخزي وحقق عليها الخزي والغضب وقطع نسب ولدها وإن كان كاذبا فقد أضاف إلى ذلك بهتها بهذه الفرية العظيمة وإحراق قلبها بها والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رءوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله . وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته العار والفضيحة وأحوجته إلى هذا المقام المخزي فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والوحشة وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملهما أبدا فاقتضت حكمة من شرعه كله حكمة ومصلحة وعدل ورحمة تحتم الفرقة بينهما وقطع الصحبة المتمحضة مفسدة . وأيضا فإنه إذا كان كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها وإن كان صادقا فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها ويرضى لنفسه أن يكون زوج بغي . فإن قيل فما تقولون لو كانت أمة ثم اشتراها هل يحل له وطؤها بملك اليمين ؟ قلنا : لا تحل له لأنه تحريم مؤبد فحرمت على مشتريها كالرضاع ولأن المطلق ثلاثا إذا اشترى مطلقته لم تحل له قبل زوج وإصابة فهاهنا أولى لأن هذا التحريم مؤبد وتحريم الطلاق غير مؤبد .




فصل [لا يسقط صداق الملاعنة بعد الدخول ]
الحكم الرابع أنها لا يسقط صداقها بعد الدخول فلا يرجع به عليها فإنه إن كان صادقا فقد استحل من فرجها عوض الصداق وإن كان كاذبا فأولى وأحرى .

[هل يحكم للملاعنة بنصف المهر إذا وقع اللعان قبل الدخول ]

فإن قيل فما تقولون لو وقع اللعان قبل الدخول هل تحكمون عليه بنصف المهر أو تقولون يسقط جملة ؟ .

قيل في ذلك قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد مأخذهما : أن الفرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبي كشرائها لزوجها قبل الدخول فهل يسقط الصداق تغليبا لجانبها كما لو كانت مستقلة بسبب الفرقة أو نصفه تغليبا لجانبه وأنه هو المشارك في سبب الإسقاط والسيد الذي باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها ؟ فهذا الأصل فيه قولان . وكل فرقة جاءت من قبل الزوج نصفت الصداق كطلاقه إلا فسخه لعيبها أو فوات شرط شرطه فإنه يسقط كله وإن كان هو الذي فسخ لأن سبب الفسخ منها وهي الحاملة له عليه . ولو كانت الفرقة بإسلامه فهل يسقط عنه أو تنصفه ؟ على روايتين . فوجه إسقاطه أنه فعل الواجب عليه وهي الممتنعة من فعل ما يجب عليها فهي المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من الإسلام ووجه التنصيف أن سبب الفسخ من جهته .

[هل ينصف الخلع المهر أو يسقطه إذا وقع قبل الدخول ]

فإن قيل فما تقولون في الخلع هل ينصفه أو يسقطه ؟ . قيل إن قلنا : هو طلاق نصفه وإن قلنا : هو فسخ فقال أصحابنا : فيه وجهان . أحدهما : كذلك تغليبا لجانبه . والثاني : يسقطه لأنه لم يستقل بسبب الفسخ وعندي أنه إن كان مع أجنبي نصفه وجها واحدا وإن كان معها ففيه وجهان .

فإن قيل فما تقولون لو كانت الفرقة بشرائه لزوجته من سيدها : هل يسقطه أو ينصفه ؟ .

قيل فيه وجهان أحدهما : يسقطه لأن مستحق مهرها تسبب إلى إسقاطه ببيعها والثاني : ينصفه لأن الزوج تسبب إليه بالشراء وكل فرقة جاءت من قبلها كردتها وإرضاعها من يفسخ إرضاعه نكاحها وفسخها لإعساره أو عيبه فإنه يسقط مهرها .

فإن قيل فقد قلتم إن المرأة إذا فسخت لعيب في الزوج سقط مهرها إذ الفرقة من جهتها وقلتم إن الزوج إذا فسخ لعيب في المرأة سقط أيضا ولم تجعلوا الفسخ من جهته فتنصفوه كما جعلتموه لفسخها لعيبه من جهتها فأسقطتموه فما الفرق ؟ قيل الفرق بينهما أنه إنما بذل المهر في مقابلة بضع سليم من العيوب فإذا لم يتبين كذلك وفسخ عاد إليها كما خرج منها ولم يستوفه ولا شيئا منه فلا يلزمه شيء من الصداق كما أنها إذا فسخت لعيبه لم تسلم إليه المعقود عليه ولا شيئا منه فلا تستحق عليه شيئا من الصداق .



فصل [لا نفقة للملاعنة على الملاعن ولا سكنى ]
الحكم الخامس أنها لا نفقة لها عليه ولا سكنى كما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا موافق لحكمه في المبتوتة التي لا رجعة لزوجها عليها كما سيأتي بيان حكمه في ذلك وأنه موافق لكتاب الله لا مخالف له بل سقوط النفقة والسكنى للملاعنة أولى من سقوطها للمبتوتة لأن المبتوتة له سبيل إلى أن ينكحها في عدتها وهذه لا سبيل له إلى نكاحها لا في العدة ولا بعدها فلا وجه أصلا لوجوب نفقتها وسكناها وقد انقطعت العصمة انقطاعا كليا .

فأقضيته صلى الله عليه وسلم يوافق بعضها بعضا وكلها توافق كتاب الله والميزان الذي أنزله ليقوم الناس بالقسط وهو القياس الصحيح كما ستقر عينك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب .

وقال مالك والشافعي : لها السكنى . وأنكر القاضي إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكارا شديدا .

وقوله " من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها " لا يدل مفهومه على أن كل مطلقة ومتوفى عنها لها النفقة والسكنى وإنما يدل على أن هاتين الفرقتين قد يجب معهما نفقة وسكنى وذلك إذا كانت المرأة حاملا فلها ذلك في فرقة الطلاق اتفاقا وفي فرقة الموت ثلاثة أقوال أحدها : أنه لا نفقة لها ولا سكنى كما لو كان حائلا وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى روايتيه والشافعي في أحد قوليه لزوال سبب النفقة بالموت على وجه لا يرجى عوده فلم يبق إلا نفقة قريب فهي في مال الطفل إن كان له مال وإلا فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه .

والثاني : أن لها النفقة والسكنى في تركته تقدم بها على الميراث وهذا إحدى الروايتين عن أحمد لأن انقطاع العصمة بالموت لا يزيد على انقطاعها بالطلاق البائن بل انقطاعها بالطلاق أشد ولهذا تغسل المرأة زوجها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد ومالك في إحدى الروايتين عنه فإذا وجبت النفقة والسكنى للبائن الحامل فوجوبها للمتوفى عنها زوجها أولى وأحرى .

والثالث أن لها السكنى دون النفقة حاملا كانت أو حائلا وهذا قول مالك وأحد قولي الشافعي إجراء لها مجرى المبتوتة في الصحة وليس هذا موضع بسط هذه المسائل وذكر أدلتها والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله " من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها " إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القوت والبيت في الجملة فهذا إن كان هذا الكلام من كلام الصحابي والظاهر - والله أعلم - أنه مدرج من قول الزهري .



فصل [انقطاع نسب ولد اللعان من جهة الأب ]
الحكم السادس انقطاع نسب الولد من جهة الأب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا يدعى ولدها لأب وهذا هو الحق وهو قول الجمهور وهو أجل فوائد اللعان وشذ بعض أهل العلم وقال المولود للفراش لا ينفيه اللعان البتة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد للفراش وإنما ينفي اللعان الحمل فإن لم يلاعنها حتى ولدت لاعن لإسقاط الحد فقط ولا ينتفي ولدها منه وهذا مذهب أبي محمد بن حزم واحتج عليه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد لصاحب الفراش قال فصح أن كل من ولد على فراشه ولد فهو ولده إلا حيث نفاه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس ولده ولم ينفه صلى الله عليه وسلم إلا وهي حامل باللعان فقط فبقي ما عدا ذلك على لحاق النسب قال ولذلك قلنا : إن صدقته في أن الحمل ليس منه فإن تصديقها له لا يلتفت إليه لأن الله تعالى يقول ولا تكسب كل نفس إلا عليها [ الأنعام 164 ] فوجب أن إقرار الأبوين يصدق على نفي الولد فيكون كسبا على غيرهما وإنما نفى الله سبحانه الولد إذا أكذبته الأم والتعنت هي والزوج فقط فلا ينتفي في غير هذا الموضع انتهى كلامه .

وهذا ضد مذهب من يقول إنه لا يصح اللعان على الحمل حتى تضع كما يقول أحمد وأبو حنيفة والصحيح صحته على الحمل وعلى الولد بعد وضعه كما قاله مالك والشافعي فالأقوال ثلاثة .

ولا تنافي بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما فإن الفراش قد زال باللعان وإنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش عند تعارض الفراش ودعوى الزاني فأبطل دعوى الزاني للولد وحكم به لصاحب الفراش وها هنا صاحب الفراش قد نفى الولد عنه .

فإن قيل فما تقولون لو لاعن لمجرد نفي الولد مع قيام الفراش فقال لم تزن ولكن ليس هذا الولد ولدي ؟ .

قيل في ذلك قولان للشافعي وهما روايتان منصوصتان عن أحمد .

إحداهما : أنه لا لعان بينهما ويلزمه الولد وهي اختيار الخرقي .

والثانية أن له أن يلاعن لنفي الولد فينتفي عنه بلعانه وحده وهي اختيار أبي البركات بن تيمية وهي الصحيحة .

فإن قيل فخالفتم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الولد للفراش قلنا : معاذ الله بل وافقنا أحكامه حيث وقع غيرنا في خلاف بعضها تأويلا فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث ادعاه صاحب الفراش فرجح دعواه بالفراش وجعله له وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث نفاه عن نفسه وقطع نسبه منه وقضى ألا يدعى لأب فوافقنا الحكمين وقلنا بالأمرين ولم نفرق تفريقا باردا جدا سمجا لا أثر له في نفي الولد حملا ونفيه مولودا فإن الشريعة لا تأتي على هذا الفرق الصوري الذي لا معنى تحته البتة وإنما يرتضي هذا من قل نصيبه من ذوق الفقه وأسرار الشريعة وحكمها ومعانيها والله المستعان وبه التوفيق .

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 02:38 AM
فصل [إلحاق ولد اللعان بأمه ]
الحكم السابع إلحاق الولد بأمه عند انقطاع نسبه من جهة أبيه وهذا الإلحاق يفيد حكما زائدا على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الأب وإلا كان عديم الفائدة فإن خروج الولد منها أمر محقق فلا بد في الإلحاق من أمر زائد عليه وعلى ما كان حاصلا مع ثبوت النسب من الأب وقد اختلف في ذلك .

فقالت طائفة أفاد هذا الإلحاق قطع توهم انقطاع نسب الولد من الأم كما انقطع من الأب وأنه لا ينسب إلى أم ولا إلى أب فقطع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوهم وألحق الولد بالأم وأكد هذا بإيجابه الحد على من قذفه أو قذف أمه وهذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وكل من لا يرى أن أمه وعصباتها له .

وقالت طائفة ثانية بل أفادنا هذا الإلحاق فائدة زائدة وهي تحويل النسب الذي كان إلى أبيه إلى أمه وجعل أمه قائمة مقام أبيه في ذلك فهي عصبته وعصباتها أيضا عصبته فإذا مات حازت ميراثه وهذا قول ابن مسعود ويروى عن علي وهذا القول هو الصواب لما روى أهل السنن الأربعة من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تحوز المرأة ثلاثة مواريث : عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه ورواه الإمام أحمد وذهب إليه .

وروى أبو داود في " سننه " : من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها

وفي " السنن " أيضا مرسلا : من حديث مكحول قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها

وهذه الآثار موافقة لمحض القياس فإن النسب في الأصل للأب فإذا انقطع من جهته صار للأم كما أن الولاء في الأصل لمعتق الأب فإذا كان الأب رقيقا كان لمعتق الأم . فلو أعتق الأب بعد هذا انجر الولاء من موالي الأم إليه ورجع إلى أصله وهو نظير ما إذا كذب الملاعن نفسه واستلحق الولد رجع النسب والتعصيب من الأم وعصبتها إليه . فهذا محض القياس وموجب الأحاديث والآثار وهو مذهب حبر الأمة وعالمها عبد الله بن مسعود ومذهب إمامي أهل الأرض في زمانهما أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعليه يدل القرآن بألطف إيماء وأحسنه فإن الله سبحانه جعل عيسى من ذرية إبراهيم بواسطة مريم أمه وهي من صميم ذرية إبراهيم وسيأتي مزيد تقرير لهذا عند ذكر أقضية النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه في الفرائض إن شاء الله تعالى .

فإن قيل فما تصنعون بقوله في حديث سهل الذي رواه مسلم في " صحيحه " في قصة اللعان وفي آخره ثم جرت السنة أن يرث منها وترث منه ما فرض الله لها ؟ قيل نتلقاه بالقبول والتسليم والقول بموجبه وإن أمكن أن يكون مدرجا من كلام ابن شهاب وهو الظاهر فإن تعصيب الأم لا يسقط ما فرض الله لها من ولدها في كتابه وغايتها أن تكون كالأب حيث يجتمع له الفرض والتعصيب فهي تأخذ فرضها ولا بد فإن فضل شيء أخذته بالتعصيب وإلا فازت بفرضها فنحن قائلون بالآثار كلها في هذا الباب بحمد الله وتوفيقه .


افتراضي

فصل [يحد قاذفها وقاذف ولدها ]

الحكم الثامن " أنها لا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد " وهذا لأن لعانها نفى عنها تحقيق ما رميت به فيحد قاذفها وقاذف ولدها هذا الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وهو قول جمهور الأمة وقال أبو حنيفة : إن لم يكن هناك ولد نفي نسبه حد قاذفها وإن كان هناك ولد نفي نسبه لم يحد قاذفها والحديث إنما هو فيمن لها ولد نفاه الزوج والذي أوجب له هذا الفرق أنه متى نفى نسب ولدها فقد حكم بزناها بالنسبة إلى الولد فأثر ذلك شبهة في سقوط حد القذف .

فصل [لا تترتب الأحكام السابقة إلا بعد تمام اللعان ]

الحكم التاسع أن هذه الأحكام إنما ترتبت على لعانهما معا وبعد أن تم اللعانان فلا يترتب شيء منها على لعان الزوج وحده وقد خرج أبو البركات بن تيمية على هذا المذهب انتفاء الولد بلعان الزوج وحده وهو تخريج صحيح فإن لعانه كما أفاد سقوط الحد وعار القذف عنه من غير اعتبار لعانها أفاد سقوط النسب الفاسد عنه وإن لم تلاعن هي بطريق الأولى فإن تضرره بدخول النسب الفاسد عليه أعظم من تضرره بحد القذف وحاجته إلى نفيه عنه أشد من حاجته إلى دفع الحد فلعانه كما استقل بدفع الحد استقل بنفي الولد والله أعلم .



فصل [وجوب النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفى عنها إذا كانتا حاملين ]

الحكم العاشر وجوب النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفى عنها إذا كانتا حاملين فإنه قال " من أجل أنهما يفترقان عن غير طلاق ولا متوفى عنها " فأفاد ذلك أمرين أحدهما : سقوط نفقة البائن وسكناها إذا لم تكن حاملا من الزوج . والثاني : وجوبهما لها وللمتوفى عنها إذا كانتا حاملين من الزوج .

فصل [اعتبار الحكم بالقافة في الإلحاق بالنسب ]
وقوله صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك بن سحماء إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى اعتبار الحكم بالقافة وأن للشبه مدخلا في معرفة النسب وإلحاق الولد بمنزلة الشبه وإنما لم يلحق بالملاعن لو قدر أن الشبه له لمعارضة اللعان الذي هو أقوى من الشبه له كما تقدم .




فصل [من قتل رجلا في داره مدعيا زناه بحريمه قتل به إن لم يأت ببينة أو إقرار الولي ]
وقوله في الحديث لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا يقتله فتقتلونه به دليل على أن من قتل رجلا في داره وادعى أنه وجده مع امرأته أو حريمه قتل فيه ولا يقبل قوله إذ لو قبل قوله لأهدرت الدماء وكان كل من أراد قتل رجل أدخله داره وادعى أنه وجده مع امرأته .

ولكن هاهنا مسألتان يجب التفريق بينهما . إحداهما : هل يسعه فيما بينه وبين الله تعالى أن يقتله أم لا ؟ والثاني : هل يقبل قوله في ظاهر الحكم أم لا ؟ وبهذا التفريق يزول الإشكال فيما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك حتى جعلها بعض العلماء مسألة نزاع بين الصحابة وقال مذهب عمر رضي الله عنه أنه لا يقتل به ومذهب علي : أنه يقتل به والذي غره ما رواه سعيد بن منصور في " سننه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينا هو يوما يتغدى إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بدم ووراءه قوم يعدون فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالوا يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا فقال له عمر رضي الله عنه ما تقول ؟ فقال له يا أمير المؤمنين إني ضربت بين فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال عمر ما تقولون ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر رضي الله عنه سيفه فهزه ثم دفعه إليه وقال إن عادوا فعد فهذا ما نقل عن عمر رضي الله عنه .

وأما علي فسئل عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله فقال إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته فظن أن هذا خلاف المنقول عن عمر فجعلها مسألة خلاف بين الصحابة وأنت إذا تأملت حكميهما لم تجد بينهما اختلافا فإن عمر إنما أسقط عنه القود لما اعترف الولي بأنه كان مع امرأته وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب " المغني " : فإن اعترف الولي بذلك فلا قصاص ولا دية لما روي عن عمر ثم ساق القصة وكلامه يعطي أنه لا فرق بين أن يكون محصنا وغير محصن وكذلك حكم عمر في هذا القتيل وقوله أيضا : " فإن عادوا فعد " ولم يفرق بين المحصن وغيره وهذا هو الصواب وإن كان صاحب " المستوعب " قد قال وإن وجد مع امرأته رجلا ينال منها ما يوجب الرجم فقتله وادعى أنه قتله لأجل ذلك فعليه القصاص في ظاهر الحكم إلا أن يأتي ببينة بدعواه فلا يلزمه القصاص قال وفي عدد البينة روايتان إحداهما : شاهدان اختارها أبو بكر لأن البينة على الوجود لا على الزنى والأخرى لا يقبل أقل من أربعة والصحيح أن البينة متى قامت بذلك أو أقر به الولي سقط القصاص محصنا كان أو غيره وعليه يدل كلام علي فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رجلا فقتله إن لم يأت بأربعة شهداء " فليعط برمته وهذا لأن هذا القتل ليس بحد للزنى ولو كان حدا لما كان بالسيف ولاعتبر له شروط إقامة الحد وكيفيته وإنما هو عقوبة لمن تعدى عليه وهتك حريمه وأفسد أهله وكذلك فعل الزبير رضي الله عنه لما تخلف عن الجيش ومعه جارية له فأتاه رجلان فقالا : أعطنا شيئا فأعطاهما طعاما كان معه فقالا : خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة .



وكذلك من اطلع في بيت قوم من ثقب أو شق في الباب بغير إذنهم فنظر حرمة أو عورة فلهم خذفه وطعنه في عينه فإن انقلعت عينه فلا ضمان عليهم . قال القاضي أبو يعلى : هذا ظاهر كلام أحمد أنهم يدفعونه ولا ضمان عليهم من غير تفصيل .

وفصل ابن حامد فقال يدفعه بالأسهل فالأسهل فيبدأ بقوله انصرف واذهب وإلا نفعل بك كذا . قلت : وليس في كلام أحمد ولا في السنة الصحيحة ما يقتضي هذا التفصيل بل الأحاديث الصحيحة تدل على خلافه فإن في " الصحيحين " عن أنس أن رجلا اطلع من جحر في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه بمشقص أو بمشاقص وجعل يختله ليطعنه فأين الدفع بالأسهل وهو صلى الله عليه وسلم يختله أو يختبئ له ويختفي ليطعنه .

وفي " الصحيحين " أيضا : من حديث سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في باب النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه فلما رآه قال لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك إنما جعل الإذن من أجل البصر

وفيهما أيضا : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن امرءا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح

وفيهما أيضا : من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال ليس هذا من باب دفع الصائل بل من باب عقوبة المعتدي المؤذي وعلى هذا فيجوز له فيما بينه وبين الله تعالى قتل من اعتدى على حريمه سواء كان محصنا أو غير محصن معروفا بذلك أو غير معروف كما دل عليه كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة وقد قال الشافعي وأبو ثور : يسعه قتله فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان الزاني محصنا جعلاه من باب الحدود . وقال أحمد وإسحاق يهدر دمه إذا جاء بشاهدين ولم يفصلا بين المحصن وغيره . واختلف قول مالك في هذه المسألة فقال ابن حبيب إن كان المقتول محصنا وأقام الزوج البينة فلا شيء عليه وإلا قتل به وقال ابن القاسم : إذا قامت البينة فالمحصن وغير المحصن سواء ويهدر دمه واستحب ابن القاسم الدية في غير المحصن .




فإن قيل فما تقولون في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " فقال سعد بلى والذي بعثك بالحق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا إلى ما يقول سيدكم

وفي اللفظ الآخر إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال " نعم " قال والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني ؟

قلنا : نتلقاه بالقبول والتسليم والقول بموجبه وآخر الحديث دليل على أنه لو قتله لم يقد به لأنه قال بلى والذي أكرمك بالحق ولو وجب عليه القصاص بقتله لما أقره على هذا الحلف ولما أثنى على غيرته ولقال لو قتلته قتلت به وحديث أبي هريرة صريح في هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني ولم ينكر عليه ولا نهاه عن قتله لأن قوله صلى الله عليه وسلم حكم ملزم وكذلك فتواه حكم عام للأمة فلو أذن له في قتله لكان ذلك حكما منه بأن دمه هدر في ظاهر الشرع وباطنه ووقعت المفسدة التي درأها الله بالقصاص وتهالك الناس في قتل من يريدون قتله في دورهم ويدعون أنهم كانوا يرونهم على حريمهم فسد الذريعة وحمى المفسدة وصان الدماء وفي ذلك دليل على أنه لا يقبل قول القاتل ويقاد به في ظاهر الشرع فلما حلف سعد أنه يقتله ولا ينتظر به الشهود عجب النبي صلى الله عليه وسلم من غيرته وأخبر أنه غيور وأنه صلى الله عليه وسلم أغير منه والله أشد غيرة وهذا يحتمل معنيين .

أحدهما : إقراره وسكوته على ما حلف عليه سعد أنه جائز له فيما بينه وبين الله ونهيه عن قتله في ظاهر الشرع ولا يناقض أول الحديث آخره .

والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك كالمنكر على سعد فقال ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم يعني : أنا أنهاه عن قتله وهو يقول بلى والذي أكرمك بالحق ثم أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة وأنه شدة غيرته ثم قال أنا أغير منه والله أغير مني . وقد شرع إقامة الشهداء الأربعة مع شدة غيرته سبحانه فهي مقرونة بحكمة ومصلحة ورحمة وإحسان فالله سبحانه مع شدة غيرته أعلم بمصالح عباده وما شرعه لهم من إقامة الشهود الأربعة دون المبادرة إلى القتل وأنا أغير من سعد وقد نهيته عن قتله وقد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين وهو الأليق بكلامه وسياق القصة .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في
لحوق النسب بالزوج إذا خالف لون ولده لونه
ثبت عنه في " الصحيحين أن رجلا قال له إن امرأتي ولدت غلاما أسود كأنه يعرض بنفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هل لك من إبل " ؟ قال نعم . قال " ما لونها ؟ " قال حمر . قال " فهل فيها من أورق ؟ " قال نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأنى أتاها ذلك ؟ " قال لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وهذا لعله يكون نزعه عرق .



[ لا يجب الحد بالتعريض إذا كان على وجه السؤال والاستفتاء ]

وفي هذا الحديث من الفقه أن الحد لا يجب بالتعريض إذا كان على وجه السؤال والاستفتاء ومن أخذ منه أنه لا يجب بالتعريض ولو كان على وجه المقابحة والمشاتمة فقد أبعد النجعة ورب تعريض أفهم وأوجع للقلب وأبلغ في النكاية من التصريح وبساط الكلام وسياقه يرد ما ذكروه من الاحتمال ويجعل الكلام قطعي الدلالة على المراد .

وفيه أن مجرد الريبة لا يسوغ اللعان ونفي الولد .

وفيه ضرب الأمثال والأشباه والنظائر في الأحكام ومن تراجم البخاري في " صحيحه " على هذا الحديث باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمه ليفهم السائل وساق معه حديث أرأيت لو كان على أمك دين ؟.

فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وأن الأمة تكون فراشا وفيمن استلحق بعد موت أبيه
ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة رضي الله عنها قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى شبها بينا بعتبة فقال " هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة فلم تره سودة قط .

فهذا الحكم النبوي أصل في ثبوت النسب بالفراش وفي أن الأمة تكون فراشا بالوطء وفي أن الشبه إذا عارض الفراش قدم عليه الفراش وفي أن أحكام النسب تتبعض فتثبت من وجه دون وجه وهو الذي يسميه بعض الفقهاء حكما بين حكمين وفي أن القافة حق وأنها من الشرع .



[ جهات ثبوت النسب ]
فأما ثبوت النسب بالفراش فأجمعت عليه الأمة وجهات ثبوت النسب أربعة الفراش والاستلحاق والبينة والقافة فالثلاثة الأول متفق عليها واتفق المسلمون على أن النكاح يثبت به الفراش واختلفوا في التسري فجعله جمهور الأمة موجبا للفراش واحتجوا بصريح حديث عائشة الصحيح وأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالولد لزمعة وصرح بأنه صاحب الفراش وجعل ذلك علة للحكم بالولد له فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة فلا يجوز إخلاء الحديث منه وحمله على الحرة التي لم تذكر البتة وإنما كان الحكم في غيرها فإن هذا يستلزم إلغاء ما اعتبره الشارع وعلق الحكم به صريحا وتعطيل محل الحكم الذي كان لأجله وفيه .

ثم لو لم يرد الحديث الصحيح فيه لكان هو مقتضى الميزان الذي أنزله الله تعالى ليقوم الناس بالقسط وهو التسوية بين المتماثلين فإن السرية فراش حسا وحقيقة وحكما كما أن الحرة كذلك وهي تراد لما تراد له الزوجة من الاستمتاع والاستيلاد ولم يزل الناس قديما وحديثا يرغبون في السراري لاستيلادهن واستفراشهن والزوجة إنما سميت فراشا لمعنى هي والسرية فيه على حد سواء .

وقال أبو حنيفة : لا تكون الأمة فراشا بأول ولد ولدته من السيد فلا يلحقه الولد إلا إذا استلحقه فيلحقه حينئذ بالاستلحاق لا بالفراش فما ولدت بعد ذلك لحقه إلا أن ينفيه فعندهم ولد الأمة لا يلحق السيد بالفراش إلا أن يتقدمه ولد مستلحق ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد بزمعة وأثبت نسبه منه ولم يثبت قط أن هذه الأمة ولدت له قبل ذلك غيره ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا استفصل فيه .

قال منازعوهم ليس لهذا التفصيل أصل في كتاب ولا سنة ولا أثر عن صاحب ولا تقتضيه قواعد الشرع وأصوله قالت الحنفية : ونحن لا ننكر كون الأمة فراشا في الجملة ولكنه فراش ضعيف وهي فيه دون الحرة فاعتبرنا ما تعتق به بأن تلد منه ولدا فيستلحقه فما ولدت بعد ذلك لحق به إلا أن ينفيه وأما الولد الأول فلا يلحقه إلا بالاستلحاق ولهذا قلتم إنه إذا استلحق ولدا من أمته لم يلحقه ما بعده إلا باستلحاق مستأنف بخلاف الزوجة والفرق بينهما : أن عقد النكاح إنما يراد للوطء والاستفراش بخلاف ملك اليمين فإن الوطء والاستفراش فيه تابع ولهذا يجوز وروده على من يحرم عليه وطؤها بخلاف عقد النكاح .

قالوا : والحديث لا حجة لكم فيه لأن وطء زمعة لم يثبت وإنما ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم لعبد أخا لأنه استلحقه فألحقه باستلحاقه لا بفراش الأب .

قال الجمهور إذا كانت الأمة موطوءة فهي فراش حقيقة وحكما واعتبار ولادتها السابقة في صيرورتها فراشا اعتبار ما لا دليل على اعتباره شرعا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبره في فراش زمعة فاعتباره تحكم .



وقولكم إن الأمة لا تراد للوطء فالكلام في الأمة الموطوءة التي اتخذت سرية وفراشا وجعلت كالزوجة أو أحظى منها لا في أمته التي هي أخته من الرضاع ونحوها . وقولكم إن وطء زمعة لم يثبت حتى يلحق به الولد ليس علينا جوابه بل جوابه على من حكم بلحوق الولد بزمعة وقال لابنه هو أخوك . وقولكم إنما ألحقه بالأخ لأنه استلحقه باطل فإن المستلحق إن لم يقر به جميع الورثة لم يلحق بالمقر إلا أن يشهد منهم اثنان أنه ولد على فراش الميت وعبد لم يكن يقر له جميع الورثة فإن سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أخته وهي لم تقر به ولم تستلحقه وحتى لو أقرت به مع أخيها عبد لكان ثبوت النسب بالفراش لا بالاستلحاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم صرح عقيب حكمه بإلحاق النسب بأن الولد للفراش معللا بذلك منبها على قضية كلية عامة تتناول هذه الواقعة وغيرها .

ثم جواب هذا الاعتراض الباطل المحرم أن ثبوت كون الأمة فراشا بالإقرار من الواطئ أو وارثه كاف في لحوق النسب فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألحقه به بقوله ابن وليدة أبي ولد على فراشه كيف وزمعة كان صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابنته تحته فكيف لا يثبت عنده الفراش الذي يلحق به النسب ؟ .

وأما ما نقضتم به علينا أنه إذا استلحق ولدا من أمته لم يلحقه ما بعده إلا بإقرار مستأنف فهذا فيه قولان لأصحاب أحمد هذا أحدهما

والثاني : أنه يلحقه وإن لم يستأنف إقرارا ومن رجح القول الأول قال قد يستبرئها السيد بعد الولادة فيزول حكم الفراش بالاستبراء فلا يلحقه ما بعد الأول إلا باعتراف مستأنف أنه وطئها كالحال في أول ولد ومن رجح الثاني قال قد يثبت كونها فراشا أولا والأصل بقاء الفراش حتى يثبت ما يزيله إذ ليس هذا نظير قولكم إنه لا يلحقه الولد مع اعترافه بوطئها حتى يستلحقه وأبطل من هذا الاعتراض قول بعضهم إنه لم يلحقه به أخا وإنما جعله له عبدا ولهذا أتى فيه بلام التمليك فقال هو لك أي مملوك لك وقوى هذا الاعتراض بأن في بعض ألفاظ الحديث " هو لك عبد " وبأنه أمر سودة أن تحتجب منه ولو كان أخا لها لما أمرها بالاحتجاب منه فدل على أنه أجنبي منها .



قال وقوله الولد للفراش تنبيه على عدم لحوق نسبه بزمعة أي لم تكن هذه الأمة فراشا له لأن الأمة لا تكون فراشا والولد إنما هو للفراش وعلى هذا يصح أمر احتجاب سودة منه قال ويؤكده أن في بعض طرق الحديث " احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ " قالوا : وحينئذ فتبين أنا أسعد بالحديث وبالقضاء النبوي منكم .

قال الجمهور الآن حمي الوطيس والتقت حلقتا البطان فنقول - والله المستعان - أما قولكم إنه لم يلحقه به أخا وإنما جعله عبدا يرده ما رواه محمد بن إسماعيل البخاري في " صحيحه " في هذا الحديث هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة وليس اللام للتمليك وإنما هي للاختصاص كقوله الولد للفراش

فأما لفظة قوله هو لك عبد فرواية باطلة لا تصح أصلا .

وأما أمره سودة بالاحتجاب منه فإما أن يكون على طريق الاحتياط والورع لمكان الشبهة التي أورثها الشبه البين بعتبة وإما أن يكون مراعاة للشبهين وإعمالا للدليلين فإن الفراش دليل لحوق النسب والشبه بغير صاحبه دليل نفيه فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعي لقوته وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة وهذا من أحسن الأحكام وأبينها وأوضحها ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه فهذا الزاني يثبت النسب منه بينه وبين الولد في التحريم والبعضية دون الميراث والنفقة والولاية وغيرها وقد يتخلف بعض أحكام النسب عنه مع ثبوته لمانع وهذا كثير في الشريعة فلا ينكر من تخلف المحرمية بين سودة وبين هذا الغلام لمانع الشبه بعتبة وهل هذا إلا محض الفقه ؟ وقد علم بهذا معنى قوله " ليس لك بأخ " لو صحت هذه اللفظة مع أنها لا تصح وقد ضعفها أهل العلم بالحديث ولا نبالي بصحتها مع قوله لعبد هو أخوك وإذا جمعت أطراف كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقرنت قوله " هو أخوك " بقوله الولد للفراش وللعاهر الحجر تبين لك بطلان ما ذكروه من التأويل وأن الحديث صريح في خلافه لا يحتمله بوجه والله أعلم .

والعجب أن منازعينا في هذه المسألة يجعلون الزوجة فراشا لمجرد العقد وإن كان بينها وبين الزوج بعد المشرقين ولا يجعلون سريته التي يتكرر استفراشه لها ليلا ونهارا فراشا .



فصل [ الاختلاف فيما تصير به الزوجة فراشا ]
واختلف الفقهاء فيما تصير به الزوجة فراشا على ثلاثة أقوال .

أحدها : أنه نفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها بل لو طلقها عقيبه في المجلس وهذا مذهب أبي حنيفة .

والثاني : أنه العقد مع إمكان الوطء وهذا مذهب الشافعي وأحمد .

والثالث أنه العقد مع الدخول المحقق لا إمكانه المشكوك فيه وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقال إن أحمد أشار إليه في رواية حرب فإنه نص في روايته فيمن طلق قبل البناء وأتت امرأته بولد فأنكره أنه ينتفي عنه بغير لعان وهذا هو الصحيح المجزوم به وإلا فكيف تصير المرأة فراشا ولم يدخل بها الزوج ولم يبن بها لمجرد إمكان بعيد ؟ وهل يعد أهل العرف واللغة المرأة فراشا قبل البناء بها وكيف تأتي الشريعة بإلحاق نسب بمن لم يبن بامرأته ولا دخل بها ولا اجتمع بها بمجرد إمكان ذلك ؟ وهذا الإمكان قد يقطع بانتفائه عادة فلا تصير المرأة فراشا إلا بدخول محقق وبالله التوفيق .

وهذا الذي نص عليه في رواية حرب هو الذي تقتضيه قواعده وأصول مذهبه والله أعلم .

[ الاختلاف فيما تصير به الأمة فراشا ]

واختلفوا أيضا فيما تصير به الأمة فراشا فالجمهور على أنها لا تصير فراشا إلا بالوطء وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى أن الأمة التي تشترى للوطء دون الخدمة كالمرتفعة التي يفهم من قرائن الأحوال أنها إنما تراد للتسري فتصير فراشا بنفس الشراء والصحيح أن الأمة والحرة لا تصيران فراشا إلا بالدخول .

فصل

فهذا أحد الأمور الأربعة التي يثبت بها النسب وهو الفراش .


فصل

الثالث البينة بأن يشهد شاهدان أنه ابنه أو أنه ولد على فراشه من زوجته أو أمته وإذا شهد بذلك اثنان من الورثة لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم وثبت نسبه ولا يعرف في ذلك نزاع .

فصل

الرابع القافة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه باعتبار القافة وإلحاق النسب بها .

ثبت في " الصحيحين " : من حديث عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال " ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض فسر النبي صلى الله عليه وسلم بقول القائف ولو كانت كما يقول المنازعون من أمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما سر بها ولا أعجب بها ولكانت بمنزلة الكهانة . وقد صح عنه وعيد من صدق كاهنا .

قال الشافعي : والنبي صلى الله عليه وسلم أثبته علما ولم ينكره ولو كان خطأ لأنكره لأن في ذلك قذف المحصنات ونفي الأنساب انتهى .

كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد صرح في الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها فقال في ولد الملاعنة إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك بن سحماء فلما جاءت به على شبه الذي رميت به قال لولا الأيمان لكان لي ولها شأن وهل هذا إلا اعتبار للشبه وهو عين القافة فإن القائف يتبع أثر الشبه وينظر إلى من يتصل فيحكم به لصاحب الشبه وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الشبه وبين سببه ولهذا لما قالت له أم سلمة أوتحتلم المرأة فقال " مم يكون الشبه " .

وأخبر في الحديث الصحيح أن ماء الرجل إذا سبق ماء المرأة كان الشبه له وإذا سبق ماؤها ماءه كان الشبه لها

فهذا اعتبار منه للشبه شرعا وقدرا وهذا أقوى ما يكون من طرق الأحكام أن يتوارد عليه الخلق والأمر والشرع والقدر ولهذا تبعه خلفاؤه الراشدون في الحكم بالقافة .

قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن

يسار عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر فقال القائف قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما .

قال الشعبي : وعلي يقول هو ابنهما وهما أبواه يرثانه ذكره سعيد أيضا .

وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاما يشبههما فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فدعا القافة فنظروا فقالوا : نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه ولا يعرف قط في الصحابة من خالف عمر وعليا رضي الله عنهما في ذلك بل حكم عمر بهذا في المدينة وبحضرته المهاجرون والأنصار فلم ينكره منهم منكر .


افتراضي

[ حجج من أنكر ثبوت النسب بالقافة ]

قالت الحنفية : قد أجلبتم علينا في القافة بالخيل والرجل والحكم بالقيافة تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين ومعلوم أن الشبه قد يوجد من الأجانب وينتفي عن الأقارب وذكرتم قصة أسامة وزيد ونسيتم قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود يخالف لونهما فلم يمكنه النبي صلى الله عليه وسلم من نفيه ولا جعل للشبه ولا لعدمه أثرا ولو كان للشبه أثر لاكتفى به في ولد الملاعنة ولم يحتج إلى اللعان ولكان ينتظر ولادته ثم يلحق بصاحب الشبه ويستغني بذلك عن اللعان بل كان لا يصح نفيه مع وجود الشبه بالزوج وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة على نفيه عن الملاعن ولو كان الشبه له فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبصروها فإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية وهذا قاله بعد اللعان ونفي النسب عنه فعلم أنه لو جاء على الشبه المذكور لم يثبت نسبه منه وإنما كان مجيئه على شبهه دليلا على كذبه لا على لحوق الولد به . قالوا : وأما قصة أسامة وزيد فالمنافقون كانوا يطعنون في نسبه من زيد لمخالفة لونه لون أبيه ولم يكونوا يكتفون بالفراش وحكم الله ورسوله في أنه ابنه فلما شهد به القائف وافقت شهادته حكم الله ورسوله فسر به النبي صلى الله عليه وسلم لموافقتها حكمه ولتكذيبها قول المنافقين لا أنه أثبت نسبه بها فأين في هذا إثبات النسب بقول القائف ؟ قالوا : وهذا معنى الأحاديث التي ذكر فيها اعتبار الشبه فإنها إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة ونحن لا ننكر ذلك .

قالوا : وأما حكم عمر وعلي فقد اختلف على عمر فروي عنه ما ذكرتم وروي عنه أن القائف لما قال له قد اشتركا فيه قال وال أيهما شئت . فلم يعتبر قول القائف . قالوا : وكيف تقولون بالشبه ولو أقر أحد الورثة بأخ وأنكره الباقون والشبه موجود لم تثبتوا النسب به وقلتم إن لم تتفق الورثة على الإقرار به لم يثبت النسب ؟



[ رد المثبتين على النافين ]

قال أهل الحديث من العجب أن ينكر علينا القول بالقافة ويجعلها من باب الحدس والتخمين من يلحق ولد المشرقي بمن في أقصى المغرب مع القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفة عين ويلحق الولد باثنين مع القطع بأنه ليس ابنا لأحدهما ونحن إنما ألحقنا الولد بقول القائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعا وقدرا فهو استناد إلى ظن غالب ورأي راجح وأمارة ظاهرة بقول من هو من أهل الخبرة فهو أولى بالقبول من قول المقومين وهل ينكر مجيء كثير من الأحكام مستندا إلى الأمارات الظاهرة والظنون الغالبة ؟

وأما وجود الشبه بين الأجانب وانتفاؤه بين الأقارب وإن كان واقعا فهو من أندر شيء وأقله والأحكام إنما هي للغالب الكثير والنادر في حكم المعدوم . وأما قصة من ولدت امرأته غلاما أسود فهو حجة عليكم لأنها دليل على أن العادة التي فطر الله عليها الناس اعتبار الشبه وأن خلافه يوجب ريبة وأن في طباع الخلق إنكار ذلك ولكن لما عارض ذلك دليل أقوى منه وهو الفراش كان الحكم للدليل القوي وكذلك نقول نحن وسائر الناس إن الفراش الصحيح إذا كان قائما فلا يعارض بقافة ولا شبه فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه - وهو الفراش - غير مستنكر وإنما المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر بغير شيء .

وأما تقديم اللعان على الشبه وإلغاء الشبه مع وجوده فكذلك أيضا هو من تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما وذلك لا يمنع العمل بالشبه مع عدم ما يعارضه كالبينة تقدم على اليد والبراءة الأصلية ويعمل بهما عند عدمهما .

وأما ثبوت نسب أسامة من زيد بدون القيافة فنحن لم نثبت نسبه بالقيافة والقيافة دليل آخر موافق لدليل الفراش فسرور النبي صلى الله عليه وسلم وفرحه بها واستبشاره لتعاضد أدلة النسب وتضافرها لا لإثبات النسب بقول القائف وحده بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحق وأدلته وتكاثرها ولو لم تصلح القيافة دليلا لم يفرح بها ولم يسر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر إذا تعاضدت عنده أدلة الحق ويخبر بها الصحابة ويحب أن يسمعوها من المخبر بها لأن النفوس تزداد تصديقا بالحق إذا تعاضدت أدلته وتسر به وتفرح وعلى هذا فطر الله عباده فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة وبالله التوفيق .

وأما ما روي عن عمر أنه قال وال أيهما شئت فلا تعرف صحته عن عمر ولو صح عنه لكان قولا عنه فإن ما ذكرنا عنه في غاية الصحة مع أن قوله وال أيهما شئت ليس بصريح في إبطال قول القائف ولو كان صريحا في إبطال قوله لكان في مثل هذا الموضع إذا ألحقه باثنين كما يقوله الشافعي ومن وافقه .

وأما إذا أقر أحد الورثة بأخ وأنكره الباقون فإنما لم يثبت نسبه لمجرد الإقرار فأما إذا كان هناك شبه يستند إليه القائف فإنه لا يعتبر إنكار الباقين ونحن لا نقصر القافة على بني مدلج ولا نعتبر تعدد القائف بل يكفي واحد على الصحيح بناء على أنه خبر وعن أحمد رواية أخرى : أنه شهادة فلا بد من اثنين ولفظ الشهادة بناء على اشتراط اللفظ .



[ إذا ألحقته القافة بأكثر من أب فهل يلحق بهم ‏ ]

فإن قيل فالمنقول عن عمر أنه ألحقه بأبوين فما تقولون فيما إذا ألحقته القافة بأبوين هل تلحقونه بهما أو لا تلحقونه إلا بواحد وإذا ألحقتموه بأبوين فهل يختص ذلك باثنين أم يلحق بهم وإن كثروا وهل حكم الاثنين في ذلك حكم الأبوين أم ماذا حكمهما ؟

قيل هذه مسائل فيها نزاع بين أهل العلم فقال الشافعي ومن وافقه لا يلحق بأبوين ولا يكون للرجل إلا أب واحد ومتى ألحقته القافة باثنين سقط قولها وقال الجمهور بل يلحق باثنين ثم اختلفوا فنص أحمد في رواية مهنا بن يحيى : أنه يلحق بثلاثة وقال صاحب المغني ومقتضى هذا أنه يلحق بمن ألحقته القافة به وإن كثروا لأنه إذا جاز إلحاقه باثنين جاز إلحاقه بأكثر من ذلك وهذا مذهب أبي حنيفة لكنه لا يقول بالقافة فهو يلحقه بالمدعين وإن كثروا وقال القاضي : يجب أن لا يلحق بأكثر من ثلاثة وهو قول محمد بن الحسن وقال ابن حامد لا يلحق بأكثر من اثنين وهو قول أبي يوسف فمن لم يلحقه بأكثر من واحد قال قد أجرى الله سبحانه عادته أن للولد أبا واحدا وأما واحدة ولذلك يقال فلان بن فلان وفلان بن فلانة فقط .

ولو قيل فلان بن فلان وفلان لكان ذلك منكرا . وعد قذفا ولهذا إنما يقال يوم القيامة أين فلان بن فلان ؟ وهذه غدرة فلان بن فلان ولم يعهد قط في الوجود نسبة ولد إلى أبوين قط ومن ألحقه باثنين احتج بقول عمر وإقرار الصحابة له على ذلك . وبأن الولد قد ينعقد من ماء رجلين كما ينعقد من ماء الرجل والمرأة ثم قال أبو يوسف إنما جاء الأثر بذلك فيقتصر عليه .

وقال القاضي : لا يتعدى به ثلاثة لأن أحمد إنما نص على الثلاثة والأصل ألا يلحق بأكثر من واحد وقد دل قول عمر على إلحاقه باثنين مع انعقاده من ماء الأم فدل على إمكان انعقاده من ماء ثلاثة وما زاد على ذلك فمشكوك فيه .

قال الملحقون له بأكثر من ثلاثة إذا جاز تخليقه من ماء رجلين وثلاثة جاز خلقه من ماء أربعة وخمسة ولا وجه لاقتصاره على ثلاثة فقط بل إما أن يلحق بهم وإن كثروا وإما أن لا يتعدى به أحد ولا قول سوى القولين والله أعلم .

فإن قيل إذا اشتمل الرحم على ماء الرجل وأراد الله أن يخلق منه الولد انضم عليه أحكم انضمام وأتمه حتى لا يفسد فكيف يدخل عليه ماء آخر ؟ قيل لا يمتنع أن يصل الماء الثاني إلى حيث وصل الأول فينضم عليهما وهذا كما أن الولد ينعقد من ماء الأبوين وقد سبق ماء الرجل ماء المرأة أو بالعكس ومع هذا فلا يمتنع وصول الماء الثاني إلى حيث وصل الأول وقد علم بالعادة أن الحامل إذا توبع وطؤها جاء الولد عبل الجسم ما لم يعارض ذلك مانع ولهذا ألهم الله سبحانه الدواب إذا حملت أن لا تمكن الفحل أن ينزو عليها بل تنفر عنه كل النفار وقال الإمام أحمد إن الوطء الثاني يزيد في سمع الولد وبصره وقد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بسقي الزرع ومعلوم أن سقيه يزيد في ذاته والله أعلم .



لو استلحق الزاني ولدا لا فراش هناك يعارضه فهل يلحقه نسبه ]

فإن قيل فقد دل الحديث على حكم استلحاق الولد وعلى أن الولد للفراش فما تقولون لو استلحق الزاني ولدا لا فراش هناك يعارضه هل يلحقه نسبه ويثبت له أحكام النسب ؟ قيل هذه مسألة جليلة اختلف أهل العلم فيها فكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى أن المولود من الزنى إذا لم يكن مولودا على فراش يدعيه صاحبه وادعاه الزاني ألحق به وأول قول النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش على أنه حكم بذلك عند تنازع الزاني وصاحب الفراش كما تقدم وهذا مذهب الحسن البصري رواه عنه إسحاق بإسناده في رجل زنى بامرأة فولدت ولدا فادعى ولدها فقال يجلد ويلزمه الولد وهذا مذهب عروة بن الزبير وسليمان بن يسار ذكر عنهما أنهما قالا : أيما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له وأنه زنى بأمه ولم يدع ذلك الغلام أحد فهو ابنه

واحتج سليمان بأن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام وهذا المذهب كما تراه قوة ووضوحا وليس مع الجمهور أكثر من الولد للفراش وصاحب هذا المذهب أول قائل به والقياس الصحيح يقتضيه فإن الأب أحد الزانيين وهو إذا كان يلحق بأمه وينسب إليها وترثه ويرثها ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به وقد وجد الولد من ماء الزانيين وقد اشتركا فيه واتفقا على أنه ابنهما فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدعه غيره ؟ فهذا محض القياس وقد قال جريج للغلام الذي زنت أمه بالراعي : من أبوك يا غلام ؟ قال فلان الراعي وهذا إنطاق من الله لا يمكن فيه الكذب .

فإن قيل فهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة حكم ؟ قيل قد روي عنه فيها حديثان نحن نذكر شأنهما .

فصل ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في استلحاق ولد الزنى وتوريثه
ذكر أبو داود في " سننه " من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مساعاة في الإسلام من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته ومن ادعى ولدا من غير رشدة فلا يرث ولا يورث .

المساعاة الزنى وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر لأنهن يسعين لمواليهن فيكتسبن لهم وكان عليهن ضرائب مقررة فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم المساعاة في الإسلام ولم يلحق النسب بها وعفا عما كان في الجاهلية منها وألحق النسب به .

وقال الجوهري يقال زنى الرجل وعهر فهذا قد يكون في الحرة والأمة ويقال في الأمة خاصة قد ساعاها . ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول فلا تقوم به حجة .

وروى أيضا في " سننه " من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه وليس له مما قسم قبله من الميراث وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره وإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق ولا يرث وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو من ولد زنية من حرة كان أو أمة .

وفي رواية وهو ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة . وذلك فيما استلحق في أول الإسلام فما اقتسم من مال قبل الإسلام فقد مضى " وهذا لأهل الحديث في إسناده مقال لأنه من رواية محمد بن راشد المكحولي .


وكان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا فإذا ولدت أمة أحدهم وقد وطئها غيره بالزنى فربما ادعاه سيدها وربما ادعاه الزاني واختصما في ذلك حتى قام الإسلام فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالولد للسيد لأنه صاحب الفراش ونفاه على الزاني . ثم تضمن هذا الحديث أمورا .

منها : أن المستلحق إذا استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فإن كان الولد من أمة يملكها الواطئ يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه يعني إذا كان الذي استلحقه ورثة مالك الأمة وصار ابنه من يومئذ ليس له مما قسم قبله من الميراث شيء لأن هذا تجديد حكم نسبه ومن يومئذ يثبت نسبه فلا يرجع بما اقتسم قبله من الميراث إذ لم يكن حكم البنوة ثابتا وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه منه لأن الحكم ثبت قبل قسمه الميراث فيستحق منه نصيبه وهذا نظير من أسلم على ميراث قبل قسمه قسم له في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإن أسلم بعد قسم الميراث فلا شيء له فثبوت النسب هاهنا بمنزلة الإسلام بالنسبة إلى الميراث .

قوله " ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره " هذا يبين أن التنازع بين الورثة وأن الصورة الأولى أن يستلحقه ورثة أبيه الذي كان يدعى له وهذه الصورة إذا استلحقه ورثته وأبوه الذي يدعى له كان ينكر فإنه لا يلحق لأن الأصل الذي الورثة خلف عنه منكر له فكيف يلحق به مع إنكاره ؟ فهذا إذا كان من أمة يملكها أما إذا كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق ولا يرث وإن ادعاه الواطئ وهو ولد زنية من أمة كان أو من حرة وهذا حجة الجمهور على إسحاق ومن قال بقوله إنه لا يلحق بالزاني إذا ادعاه ولا يرثه وأنه ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرة كانت أو أمة .

وأما ما اقتسم من مال قبل الإسلام فقد مضى فهذا الحديث يرد قول إسحاق ومن وافقه لكن فيه محمد بن راشد ونحن نحتج بعمرو بن شعيب فلا يعلل الحديث به فإن ثبت هذا الحديث تعين القول بموجبه والمصير إليه وإلا فالقول قول إسحاق ومن معه والله المستعان .




ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب رضي الله عنه
في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد
ثم تنازعوا الولد فأقرع بينهم فيه ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم ينكره ذكر أبو داود والنسائي في " سننهما " من حديث عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أهل اليمن فقال إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد قد وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال لاثنين : طيبا بالولد لهذا فغليا ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا فقال أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية فأقرع بينهم فجعله لمن قرع فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه

وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح ولا يحتج بحديثه لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير عن زيد بن أرقم . قال أتي علي بن أبي طالب بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد فسأل اثنين أتقران لهذا بالولد ؟ قالا : لا حتى سألهم جميعا فجعل كلما سأل اثنين قالا : لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة وجعل عليه ثلثي الدية قال فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه

وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم فيكون مرسلا . قال النسائي : وهذا أصوب .

وهذا أعجب فإن إسقاط زيد بن أرقم من هذا الحديث لا يجعله مرسلا فإن عبد خير أدرك عليا وسمع منه وعلي صاحب القصة فهب أن زيد بن أرقم لا ذكر له في السند فمن أين يجيء الإرسال إلا أن يقال عبد خير لم يشاهد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعلي إذ ذاك كان باليمن وإنما شاهد ضحكه صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم أو غيره من الصحابة وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه فصار الحديث به مرسلا . فيقال إذا : قد صح السند عن عبد خير عن زيد بن أرقم متصلا فمن رجح الاتصال لكونه زيادة من الثقة فظاهر ومن رجح رواية الأحفظ والأضبط وكان الترجيح من جانبه ولم يكن علي قد أخبره بالقصة فغايتها أن تكون مرسلة وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى متصلا .


افتراضي


[ اختلاف الفقهاء في حكم علي ]

وبعد فاختلف الفقهاء في هذا الحكم فذهب إليه إسحاق بن راهويه وقال هو السنة في دعوى الولد وكان الشافعي يقول به في القديم وأما الإمام أحمد فسئل عن هذا الحديث فرجح عليه حديث القافة وقال حديث القافة أحب إلي .

وهاهنا أمران أحدهما : دخول القرعة في النسب والثاني : تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه .

وأما القرعة فقد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى .

وأما أمر الدية فمشكل جدا فإن هذا ليس بموجب الدية وإنما هو تفويت نسبه بخروج القرعة فيقال وطء كل واحد صالح لجعل الولد له فقد فوته كل واحد منهم على صاحبيه بوطئه ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم فلما أخرجته القرعة لأحدهم صار مفوتا لنسبه عن صاحبيه فأجري ذلك مجرى إتلاف الولد ونزل الثلاثة منزلة أب واحد فحصة المتلف منه ثلث الدية إذ قد عاد الولد له فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه وهو ثلث الدية .

ووجه آخر أحسن من هذا أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به وجب عليه ضمان قيمته وقيمة الولد شرعا هي ديته فلزمه لهما ثلثا قيمته وهي ثلثا الدية وصار هذا كمن أتلف عبدا بينه وبين شريكين له فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه فإتلاف الولد الحر عليهما بحكم القرعة كإتلاف الرقيق الذي بينهم . ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة قيمة أولاده لسيد الأمة لما فات رقهم على السيد لحريتهم وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء وهذا ألطف ما يكون من القياس وأدقه وأنت إذا تأملت كثيرا من أقيسة الفقهاء وتشبيهاتهم وجدت هذا أقوى منها وألطف مسلكا وأدق مأخذا ولم يضحك منه النبي صلى الله عليه وسلم سدى .

وقد يقال لا تعارض بين هذا وبين حديث القافة بل إن وجدت القافة تعين العمل بها وإن لم توجد قافة أو أشكل عليهم تعين العمل بهذا الطريق والله أعلم .


يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 02:47 AM
فصل ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الولد من أحق به في الحضانة
روى أبو داود في " سننه " من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني فأراد أن ينتزعه مني فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنت أحق به ما لم تنكحي .

وفي " الصحيحين " : من حديث البراء بن عازب أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد . فقال علي أنا أحق بها وهي ابنة عمي وقال جعفر ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال الخالة بمنزلة الأم .

وروى أهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه . قال الترمذي حديث صحيح .

وروى أهل السنن أيضا : عنه أن امرأة جاءت فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استهما عليه " فقال زوجها من يحاقني في ولدي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا أبوك وهذه أمك وخذ بيد أيهما شئت " فأخذ بيد أمه فانطلقت به . قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وفي " سنن النسائي " : عن عبد الحميد بن سلمة الأنصاري عن أبيه عن جده أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم فجاء بابن له صغير لم يبلغ قال فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا والأم هاهنا ثم خيره وقال " اللهم اهده " فذهب إلى أبيه .

ورواه أبو داود عنه وقال أخبرني جدي رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه وقال رافع ابنتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقعد ناحية " وقال لها : " اقعدي ناحية " فأقعد الصبية بينهما ثم قال " ادعواها " فمالت إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها .



فصل الكلام على هذه الأحكام

[ سقوط الحضانة بالتزويج ]
أما الحديث الأول فهو حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب ولم يجدوا بدا من الاحتجاج هنا به ومدار الحديث عليه وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في سقوط الحضانة بالتزويج غير هذا وقد ذهب إليه الأئمة الأربعة وغيرهم وقد صرح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو فبطل قول من يقول لعله محمد والد شعيب فيكون الحديث مرسلا .

وقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو فبطل قول من قال إنه منقطع وقد احتج به البخاري خارج صحيحه ونص على صحة حديثه وقال كان عبد الله بن الزبير الحميدي وأحمد وإسحاق وعلي بن عبد الله يحتجون بحديثه فمن الناس بعدهم ؟ هذا لفظه .

وقال إسحاق بن راهويه : هو عندنا كأيوب عن نافع عن ابن عمر . وحكى الحاكم في " علوم الحديث " له الاتفاق على صحة حديثه وقال أحمد بن صالح : لا يختلف على عبد الله أنها صحيحة . وقولها : " كان بطني وعاء " إلى آخره إدلاء منها وتوسل إلى اختصاصها به كما اختص بها في هذه المواطن الثلاثة والأب لم يشاركها في ذلك فنبهت في هذا الاختصاص الذي لم يشاركها فيه الأب على الاختصاص الذي طلبته بالاستفتاء والمخاصمة .

[ اعتبار المعاني والعلل وتأثيرها في الأحكام ]

وفي هذا دليل على اعتبار المعاني والعلل وتأثيرها في الأحكام وإناطتها بها وأن ذلك أمر مستقر في الفطر السليمة حتى فطر النساء وهذا الوصف الذي أدلت به المرأة وجعلته سببا لتعليق الحكم به قد قرره النبي صلى الله عليه وسلم ورتب عليه أثره ولو كان باطلا ألغاه بل ترتيبه الحكم عقيبه دليل على تأثيره فيه وأنه سببه .

[ القضاء على الغائب ]

واستدل بالحديث على القضاء على الغائب فإن الأب لم يذكر له حضور ولا مخاصمة ولا دلالة فيه لأنها واقعة عين فإن كان الأب حاضرا فظاهر وإن كان غائبا فالمرأة إنما جاءت مستفتية أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى مسألتها وإلا فلا يقبل قولها على الزوج إنه طلقها حتى يحكم لها بالولد بمجرد قولها .



فصل [ الأم أحق بالولد من الأب ]
ودل الحديث على أنه إذا افترق الأبوان وبينهما ولد فالأم أحق به من الأب ما لم يقم بالأم ما يمنع تقديمها أو بالولد وصف يقتضي تخييره وهذا ما لا يعرف فيه نزاع وقد قضى به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر على عمر بن الخطاب ولم ينكر عليه منكر .

فلما ولي عمر قضى بمثله فروى مالك في " الموطأ " : عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول كانت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر ثم إن عمر فارقها فجاء عمر قباء فوجد ابنه عاصما يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال عمر : ابني . وقالت المرأة ابني فقال أبو بكر رضي الله عنه خل بينها وبينه فما راجعه عمر الكلام

قال ابن عبد البر : هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل وزوجة عمر أم ابنه عاصم هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري .

قال وفيه دليل على أن عمر كان مذهبه في ذلك خلاف أبي بكر ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكم والإمضاء ثم كان بعد في خلافته يقضي به ويفتي ولم يخالف أبا بكر في شيء منه ما دام الصبي صغيرا لا يميز ولا مخالف لهما من الصحابة .

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج أنه أخبره عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية أم ابنه عاصم فلقيها تحمله بمحسر وقد فطم ومشى فأخذ بيده لينتزعه منها ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى وقال أنا أحق بابني منك فاختصما إلى أبي بكر فقضى لها به وقال ريحها وفراشها وحجرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه ومحسر : سوق بين قباء والمدينة .

وذكر عن الثوري عن عاصم عن عكرمة قال خاصمت امرأة عمر عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهن وكان طلقها فقال أبو بكر رضي الله عنه الأم أعطف وألطف وأرحم وأحنى وأرأف هي أحق بولدها ما لم تتزوج . الأم أعطف وألطف وأرحم وأحنى وأرأف هي أحق بولدها ما لم تتزوج

وذكر عن معمر قال سمعت الزهري يقول إن أبا بكر قضى على عمر في ابنه مع أمه وقال أمه أحق به ما لم تتزوج

فإن قيل فقد اختلفت الرواية هل كانت المنازعة وقعت بينه وبين الأم أولا ثم بينه وبين الجدة أو وقعت مرة واحدة بينه وبين إحداهما .

قيل الأمر في ذلك قريب لأنها إن كانت من الأم فواضح وإن كانت من الجدة فقضاء الصديق رضي الله عنه لها يدل على أن الأم أولى .


افتراضي

فصل [ يقدم الأب في ولاية المال والنكاح وتقدم الأم في ولاية الحضانة والرضاع ]
والولاية على الطفل نوعان نوع يقدم فيه الأب على الأم ومن في جهتها وهي ولاية المال والنكاح ونوع تقدم فيه الأم على الأب وهي ولاية الحضانة والرضاع وقدم كل من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه وتحصل به كفايته .

ولما كان النساء أعرف بالتربية وأقدر عليها وأصبر وأرأف وأفرغ لها لذلك قدمت الأم فيها على الأب .

ولما كان الرجال أقوم بتحصيل مصلحة الولد والاحتياط له في البضع قدم الأب فيها على الأم فتقديم الأم في الحضانة من محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال والنظر لهم وتقديم الأب في ولاية المال والتزويج كذلك .

[ هل يقدم أقارب الأم على أقارب الأب في الحضانة ؟ ]

إذا عرف هذا فهل قدمت الأم لكون جهتها مقدمة على جهة الأبوة في الحضانة فقدمت لأجل الأمومة أو قدمت على الأب لكون النساء أقوم بمقاصد الحضانة والتربية من الذكور فيكون تقديمها لأجل الأنوثة ؟ ففي هذا للناس قولان وهما في مذهب أحمد يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم أو بالعكس كأم الأم وأم الأب والأخت من الأب والأخت من الأم والخالة والعمة وخالة الأم وخالة الأب ومن يدلي من الخالات والعمات بأم ومن يدلي منهن بأب ففيه روايتان عن الإمام أحمد .

إحداهما تقديم أقارب الأم على أقارب الأب .

والثانية وهي أصح دليلا واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية : تقديم أقارب الأب وهذا هو الذي ذكره الخرقي في " مختصره " فقال والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم وأحق من الخالة وخالة الأب أحق من خالة الأم وعلى هذا فأم الأب مقدمة على أم الأم كما نص عليه أحمد في إحدى الروايتين عنه .



[ هل لأقارب الأم من الرجال مدخل في الحضانة ?]

وعلى هذه الرواية فأقارب الأب من الرجال مقدمون على أقارب الأم والأخ للأب أحق من الأخ للأم والعم أولى من الخال هذا إن قلنا : إن لأقارب الأم من الرجال مدخلا في الحضانة وفي ذلك وجهان في مذهب أحمد والشافعي .

أحدهما : أنه لا حضانة إلا لرجل من العصبة محرم أو لامرأة وارثة أو مدلية بعصبة أو وارث .

[ التدليل على تقديم جهة الأبوة في الحضانة ]

والثاني : أن لهم الحضانة والتفريع على هذا الوجه وهو قول أبي حنيفة وهذا يدل على رجحان جهة الأبوة على جهة الأمومة في الحضانة وأن الأم إنما قدمت لكونها أنثى لا لتقديم جهتها إذ لو كان جهتها راجحة لترجح رجالها ونساؤها على الرجال والنساء من جهة الأب ولما لم يترجح رجالها اتفاقا فكذلك النساء وما الفرق المؤثر ؟ وأيضا فإن أصول الشرع وقواعده شاهدة بتقديم أقارب الأب في الميراث وولاية النكاح وولاية الموت وغير ذلك ولم يعهد في الشرع تقديم قرابة الأم على قرابة الأب في حكم من الأحكام فمن قدمها في الحضانة فقد خرج عن موجب الدليل .

[ علة تقديم الأم في الحضانة ]

فالصواب في المأخذ هو أن الأم إنما قدمت لأن النساء أرفق بالطفل وأخبر بتربيته وأصبر على ذلك وعلى هذا فالجدة أم الأب أولى من أم الأم والأخت للأب أولى من الأخت للأم والعمة أولى من الخالة كما نص عليه أحمد في إحدى الروايتين وعلى هذا فتقدم أم الأب على أب الأب كما تقدم الأم على الأب .

[ تقديم الأنثى على الذكر حين اتفاق القرابة والدرجة وتقديم جهة الأب حين اتفاق الدرجة واختلاف القرابة ]

وإذا تقرر هذا الأصل فهو أصل مطرد منضبط لا تتناقض فروعه بل إن اتفقت القرابة والدرجة واحدة قدمت الأنثى على الذكر فتقدم الأخت على الأخ والعمة على العم والخالة على الخال والجدة على الجد وأصله تقديم الأم على الأب .

وإن اختلفت القرابة قدمت قرابة الأب على قرابة الأم فتقدم الأخت للأب على الأخت للأم والعمة على الخالة وعمة الأب على خالته وهلم جرا .

وهذا هو الاعتبار الصحيح والقياس المطرد وهذا هو الذي قضى به سيد قضاة الإسلام شريح كما روى وكيع في " مصنفه " عن الحسن بن عقبة عن سعيد بن الحارث قال اختصم عم وخال إلى شريح في طفل فقضى به للعم فقال الخال أنا أنفق عليه من مالي فدفعه إليه شريح .



[ بيان تناقض من قدم أم أم على أم الأب
ثم اختلافهم في تقديم الأخت للأم على الأخت للأب والخالة على العمة ]

ومن سلك غير هذا المسلك لم يجد بدا من التناقض مثاله أن الثلاثة وأحمد في إحدى روايتيه يقدمون أم الأم على أم الأب ثم قال الشافعي في ظاهر مذهبه وأحمد في المنصوص عنه تقدم الأخت للأب على الأخت للأم فتركوا القياس وطرده أبو حنيفة والمزني وابن سريج فقالوا : تقدم الأخت للأم على الأخت للأب .

قالوا : لأنها تدلي بالأم والأخت للأب بالأب فلما قدمت الأم على الأب قدم من يدلي بها على من يدلي به ولكن هذا أشد تناقضا من الأول لأن أصحاب القول الأول جروا على القياس والأصول في تقديم قرابة الأب على قرابة الأم وخالفوا ذلك في أم الأم وأم الأب وهؤلاء تركوا القياس في الموضعين وقدموا القرابة التي أخرها الشرع وأخروا القرابة التي قدمها ولم يمكنهم تقديمها في كل موضع فقدموها في موضع وأخروها في غيره مع تساويهما ومن ذلك تقديم الشافعي في الجديد الخالة على العمة مع تقديمه الأخت للأب على الأخت للأم وطرد قياسه في تقديم أم الأم على أم الأب فوجب تقديم الأخت للأم والخالة على الأخت للأب والعمة وكذلك من قدم من أصحاب أحمد الخالة على العمة وقدم الأخت للأب على الأخت للأم كقول القاضي وأصحابه وصاحب " المغني " : فقد تناقضوا .



[ علة تقديم العمة على الخالة ]

فإن قيل الخالة تدلي بالأم والعمة تدلي بالأب فكما قدمت الأم على الأب قدم من يدلي بها ويزيده بيانا كون الخالة أما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فالعمة بمنزلة الأب .

قيل قد بينا أنه لم يقدم الأم على الأب لقوة الأمومة وتقديم هذه الجهة بل لكونها أنثى فإذا وجد عمة وخالة فالمعنى الذي قدمت له الأم موجود فيهما وامتازت العمة بأنها تدلي بأقوى القرابتين وهي قرابة الأب والنبي صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها وقال الخالة أم حيث لم يكن لها مزاحم من أقارب الأب تساويها في درجتها .

[ صفية بنت عبد المطلب وقتلها رجلا من اليهود ]

فإن قيل فقد كان لها عمة وهي صفية بنت عبد المطلب أخت حمزة وكانت إذ ذاك موجودة في المدينة فإنها هاجرت وشهدت الخندق وقتلت رجلا من اليهود كان يطيف بالحصن الذي هي فيه وهي أول امرأة قتلت رجلا من المشركين وبقيت إلى خلافة عمر رضي الله عنه فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخالة عليها وهذا يدل على تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب .

قيل إنما يدل هذا إذا كانت صفية قد نازعت معهم وطلبت الحضانة فلم يقض لها بها بعد طلبها وقدم عليها الخالة هذا إذا كانت لم تمنع منها لعجزها عنها فإنها توفيت سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة فيكون لها وقت هذه الحكومة بضع وخمسون سنة فيحتمل أنها تركتها لعجزها عنها ولم تطلبها مع قدرتها والحضانة حق للمرأة فإذا تركتها انتقلت إلى غيرها .

وبالجملة فإنما يدل الحديث على تقديم الخالة على العمة إذا ثبت أن صفية خاصمت في ابنة أخيها وطلبت كفالتها فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخالة وهذا لا سبيل إليه .



فصل [ تناقض من قدم أم أم ثم الخالة على الأب وأم الأب ]
[ تناقض الرواية عن أحمد في تقديم الأخت عن الأم ]

ومن ذلك أن مالكا لما قدم أم الأم على أم الأب قدم الخالة بعدها على الأب وأمه واختلف أصحابه في تقديم خالة الخالة على هؤلاء على وجهين فأحد الوجهين تقديم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمه وهذا في غاية البعد فكيف تقدم قرابة الأم وإن بعدت على الأب نفسه وعلى قرابته مع أن الأب وأقاربه أشفق على الطفل وأرعى لمصلحته من قرابة الأم ؟

فإنه ليس إليهم بحال ولا ينسب إليهم بل هو أجنبي منهم وإنما نسبه وولاؤه إلى أقارب أبيه وهم أولى به يعقلون عنه وينفقون عليه عند الجمهور ويتوارثون بالتعصيب وإن بعدت القرابة بينهم بخلاف قرابة الأم فإنه لا يثبت فيها ذلك ولا توارث فيها إلا في أمهاتها وأول درجة من فروعها وهم ولدها فكيف تقدم هذه القرابة على الأب ومن في جهته ولا سيما إذا قيل بتقديم خالة الخالة على الأب نفسه وعلى أمه فهذا القول مما تأباه أصول الشريعة وقواعدها وهذا نظير إحدى الروايتين عن أحمد في تقديم الأخت على الأم والخالة على الأب وهذا أيضا في غاية البعد ومخالفة القياس .

وحجة هذا القول أن كلتيهما تدليان بالأم المقدمة على الأب فتقدمان عليه وهذا ليس بصحيح فإن الأم لما ساوت الأب في الدرجة وامتازت عليه بكونها أقوم بالحضانة وأقدر عليها وأصبر قدمت عليه وليس كذلك الأخت من الأم والخالة مع الأب فإنهما لا يساويانه وليس أحد أقرب إلى ولده منه فكيف تقدم عليه بنت امرأته أو أختها ؟ وهل جعل الله الشفقة فيهما أكمل منه ؟



[ اختلاف أصحاب أحمد في فهم نصه السابق ]

ثم اختلف أصحاب الإمام أحمد في فهم نصه هذا على ثلاثة أوجه .

أحدها : إنما قدمها على الأب لأنوثتها فعلى هذا تقدم نساء الحضانة على كل رجل فتقدم خالة الخالة وإن علت وبنت الأخت على الأب .

الثاني : أن الخالة والأخت للأم لم تدليا بالأب وهما من أهل الحضانة فتقدم نساء الحضانة على كل رجل إلا على من أدلين به فلا تقدمن عليه لأنهن فرعه فعلى هذا الوجه لا تقدم أم الأب على الأب ولا الأخت والعمة عليه وتقدم عليه أم الأم والخالة والأخت للأم وهذا أيضا ضعيف جدا إذ يستلزم تقديم قرابة الأم البعيدة على الأب وأمه ومعلوم أن الأب إذا قدم على الأخت للأب فتقديمه على الأخت للأم أولى لأن الأخت للأب مقدمة عليها فكيف تقدم على الأب نفسه ؟ هذا تناقض بين .

الثالث تقديم نساء الأم على الأب وأمهاته وسائر من في جهته قالوا : فعلى هذا فكل امرأة في درجة رجل تقدم عليه ويقدم من أدلى بها على من أدلى بالرجل فلما قدمت الأم على الأب وهي في درجته قدمت الأخت من الأم على الأخت من الأب وقدمت الخالة على العمة .

هذا تقرير ما ذكره أبو البركات بن تيمية في " محرره " من تنزيل نص أحمد على هذه المحامل الثلاث وهو مخالف لعامة نصوصه في تقديم الأخت للأب على الأخت للأم وعلى الخالة وتقديم خالة الأب على خالة الأم وهو الذي لم يذكر الخرقي في " مختصره " غيره وهو الصحيح وخرجها ابن عقيل على الروايتين في أم الأم وأم الأب ولكن نصه ما ذكره الخرقي وهذه الرواية التي حكاها صاحب " المحرر " ضعيفة مرجوحة فلهذا جاءت فروعها ولوازمها أضعف منها بخلاف سائر نصوصه في جادة مذهبه .


افتراضي

فصل [ ضابط في الحضانة لبعض أصحاب أحمد ]

وقد ضبط بعض أصحابه هذا الباب بضابط فقال كل عصبة فإنه يقدم على كل امرأة هي أبعد منه ويتأخر عمن هي أقرب منه وإذا تساويا فعلى وجهين . فعلى هذا الضابط يقدم الأب على أمه وعلى أم الأم ومن معها ويقدم الأخ على ابنته وعلى العمة والعم على عمة الأب وتقدم أم الأب على جد الأب وفي تقديمها على أب الأب وجهان .

وفي تقديم الأخت للأب على الأخ للأب وجهان وفي تقديم العمة على العم وجهان . والصواب تقديم الأنثى مع التساوي كما قدمت الأم على الأب لما استويا فلا وجه لتقديم الذكر على الأنثى مع مساواتها له وامتيازها بقوة أسباب الحضانة والتربية فيها . واختلف في بنات الإخوة والأخوات هل يقدمن على الخالات والعمات أو تقدم الخالات والعمات عليهن ؟

على وجهين مأخذهما : أن الخالة والعمة تدليان بإخوة الأم والأب وبنات الإخوة والأخوات يدلين ببنوة الأب فمن قدم بنات الإخوة راعى قوة البنوة على الأخوة وليس ذلك بجيد بل الصواب تقديم العمة والخالة لوجهين .

أحدهما : أنها أقرب إلى الطفل من بنات أخيه فإن العمة أخت أبيه وابنة الأخ ابنة ابن أبيه وكذلك الخالة أخت أمه وبنت الأخت من الأم أو لأب بنت بنت أمه أو أبيه ولا ريب أن العمة والخالة أقرب إليه من هذه القرابة .

الثاني : أن صاحب هذا القول إن طرد أصله لزمه ما لا قبل له به من تقديم بنت بنت الأخت وإن نزلت على الخالة التي هي أم وهذا فاسد من القول وإن خص ذلك ببنت الأخت دون من سفل منها تناقض .

واختلف أصحاب أحمد أيضا في الجد والأخت للأب أيهما أولى ؟

فالمذهب أن الجد أولى منها وحكى القاضي في " المجرد " وجها : أنها أولى منه وهذا يجيء على أحد التأويلات التي تأول عليها الأصحاب نص أحمد وقد تقدمت .

افتراضي

فصل [ بيان تناقض الضابط السابق ]

ومما يبين صحة الأصل المتقدم أنهم قالوا : إذا عدم الأمهات ومن في جهتهن انتقلت الحضانة إلى العصبات وقدم الأقرب فالأقرب منهم كما في الميراث فهذا جار على القياس فيقال لهم هلا راعيتم هذا في جنس القرابة فقدمتم القرابة القوية الراجحة على الضعيفة المرجوحة كما فعلتم في العصبات ؟

وأيضا فإن الصحيح في الأخوات عندكم أنه يقدم منهن من كانت لأبوين ثم من كانت لأب ثم من كانت لأم وهذا صحيح موافق للأصول والقياس لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم على قرابة الأب جاء التناقض وتلك الفروع المشكلة المتناقضة .

وأيضا فقد قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم وهو الصواب الموافق لأصول الشرع لكنه مناقض لتقديمهم أمهات الأم على أمهات الأب ويناقض تقديم الخالة والأخت للأم على الأب كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله والقول القديم للشافعي .

ولا ريب أن القول به أطرد للأصل لكنه في غاية البعد من قياس الأصول كما تقدم ويلزمهم من طرده أيضا تقديم من كان من الأخوات لأم على من كان منهن لأب وقد التزمه أبو حنيفة والمزني وابن سريج ويلزمهم من طرده أيضا تقديم بنت الخالة على الأخت للأب وقد التزمه زفر وهو رواية عن أبي حنيفة ولكن أبو يوسف استشنع ذلك فقدم الأخت للأب كقول الجمهور ورواه عن أبي حنيفة . ويلزمهم أيضا من طرده تقديم الخالة والأخت للأم على الجدة أم الأب وهذا في غاية البعد والوهن وقد التزمه زفر ومثل هذا من المقاييس التي حذر منها أبو حنيفة أصحابه وقال لا تأخذوا بمقاييس زفر فإنكم إن أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام .


فصل [ ضابط آخر في الحضانة لبعض أصحاب أحمد وبيان تناقضه ]

وقد رام بعض أصحاب أحمد ضبط هذا الباب بضابط زعم أنه يتخلص به من التناقض فقال الاعتبار في الحضانة بالولادة المتحققة وهي الأمومة ثم الولادة الظاهرة وهي الأبوة ثم الميراث .

قال ولذلك تقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم وعلى الخالة لأنها أقوى إرثا منهما .

قال ثم الإدلاء فتقدم الخالة على العمة لأن الخالة تدلي بالأم والعمة تدلي بالأب فذكر أربع أسباب للحضانة مرتبة الأمومة ثم بعدها الأبوة ثم بعدها الميراث ثم الإدلاء وهذه طريقة صاحب " المستوعب " وما زادته هذه الطريقة إلا تناقضا وبعدا عن قواعد الشريعة وهي من أفسد الطرق وإنما يتبين فسادها بلوازمها الباطلة فإنه إن أراد بتقديم الأمومة على الأبوة تقديم من في جهتها على الأب ومن في جهته كانت تلك اللوازم الباطلة المتقدمة من تقديم الأخت للأم وبنت الخالة على الأب وأمه وتقديم الخالة على العمة وتقديم خالة الأم على الأب وأمه وتقديم بنات الأخت من الأم على أم الأب وهذا مع مخالفته لنصوص إمامه فهو مخالف لأصول الشرع وقواعده .

وإن أراد أن الأم نفسها تقدم على الأب فهذا حق لكن الشأن في مناط هذا التقديم هل هو لكون الأم ومن في جهتها تقدم على الأب ومن في جهته أو لكونها أنثى في درجة ذكر وكل أنثى كانت في درجة ذكر قدمت عليه مع تقديم قرابة الأب على قرابة الأم ؟ وهذا هو الصواب كما تقدم وكذلك قوله " ثم الميراث " إن أراد به أن المقدم في الميراث مقدم في الحضانة فصحيح وطرده تقديم قرابة الأب على قرابة الأم لأنها مقدمة عليها في الميراث فتقدم الأخت على العمة والخالة .

وقوله " وكذلك تقديم الأخت للأب على الأخت للأم والخالة لأنها أقوى إرثا منهما فيقال لم يكن تقديمها لأجل الإرث وقوته ولو كان لأجل ذلك لكان العصبات أحق بالحضانة من النساء فيكون العم أولى من الخالة والعمة وهذا باطل .


فصل [ ضابط الحضانة عند ابن قدامة ]
وقد ضبط الشيخ في " المغني " هذا الباب بضابط آخر فقال فصل في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء .

وأولى الكل بها : الأم ثم أمهاتها وإن علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة فهن في معنى الأم وعن أحمد أن أم الأب وأمهاتها يقدمن على أم الأم فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم لأنهن يدلين به فيكون الأب بعد الأم ثم أمهاته والأولى هي المشهورة عند أصحابنا فإن المقدم الأم ثم أمهاتها ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته ثم جد الأب ثم أمهاته وإن كن غير وارثات لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة بخلاف أم أب الأم .

وحكي عن أحمد رواية أخرى : أن الأخت من الأم والخالة أحق من الأب فتكون الأخت من الأبوين أحق منه ومنهما ومن جميع العصبات والأولى هي المشهورة من المذهب فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات وتقدم الأخت من الأبوين ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم وتقدم الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضانة فقدمت على من في درجتها من الرجال كالأم تقدم على الأب وأم الأب على أب الأب وكل جدة في درجة جد تقدم عليه لأنها تلي الحضانة بنفسها والرجل لا يليها بنفسه .

وفيه وجه آخر أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه والأول أولى وفي تقديم الأخت من الأبوين أو من الأب على الجد وجهان وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ثم الأخ للأب ثم ابناهما ولا حضانة للأخ من الأم لما ذكرنا .

فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات على الصحيح وترتيبهن فيها كترتيب الأخوات ولا حضانة للأخوال فإذا عدموا صارت للعمات ويقدمن على الأعمام كتقديم الأخوات على الإخوة ثم للعم للأبوين ثم للعم للأب ولا حضانة للعم من الأم ثم ابناهما ثم إلى خالات الأب على قول الخرقي وعلى القول الآخر إلى خالات الأم ثم إلى عمات الأب ولا حضانة لعمات الأم لأنهن يدلين بأب الأم ولا حضانة له .

وإن اجتمع شخصان أو أكثر من أهل الحضانة في درجة قدم المستحق منهم بالقرعة انتهى كلامه .



[ المؤاخذات على ضابط ابن قدامة ]

وهذا خير مما قبله من الضوابط ولكن فيه تقديم أم الأم وإن علت على الأب وأمهاته فإن طرد تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب جاءت تلك اللوازم الباطلة وهو لم يطرده وإن قدم بعض من في جهة الأب على بعض من في جهة الأم كما فعل طولب بالفرق وبمناط التقديم .

وفيه إثبات الحضانة للأخت من الأم دون الأخ من الأم وهو في درجتها ومساو لها من كل وجه فإن كان ذلك لأنوثتها وهو ذكر انتقض برجال العصبة كلهم وإن كان ذلك لكونه ليس من العصبة والحضانة لا تكون لرجل إلا أن يكون من العصبة .

قيل فكيف جعلتموها لنساء ذوي الأرحام مع مساواة قرابتهن لقرابة من في درجتهن من الذكور من كل وجه ؟ فإما أن تعتبروا الأنوثة فلا تجعلوها للذكر أو الميراث فلا تجعلوها لغير وارث أو القرابة فلا تمنعوا منها الأخ من الأم والخال وأبا الأم أو التعصيب فلا تعطوها لغير عصبة .

فإن قلتم بقي قسم آخر وهو قولنا وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء .

قيل هذا مخالف لباب الولايات وباب الميراث والحضانة ولاية على الطفل فإن سلكتم بها مسلك الولايات فخصوها بالأب والجد وإن سلكتم بها مسلك الميراث فلا تعطوها لغير وارث وكلاهما خلاف قولكم وقول الناس أجمعين .

وفي كلامه أيضا : تقديم ابن الأخ وإن نزلت درجته على الخالة التي هي أم وهو في غاية البعد وجمهور الأصحاب إنما جعلوا أولاد الإخوة بعد أب الأب والعمات وهو الصحيح فإن الخالة أخت الأم وبها تدلي والأم مقدمة على الأب وابن الأخ إنما يدلي بالأخ الذي يدلي بالأب فكيف يقدم على الخالة وكذا العمة أخت الأب وشقيقته فكيف يقدم ابن ابنه عليها .



[ ضابط الحضانة عند ابن تيمية وبيان صحته واطراده ]
وقد ضبط هذا الباب شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بضابط آخر . فقال أقرب ما يضبط به باب الحضانة أن يقال لما كانت الحضانة ولاية تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة كان أحق الناس بها أقومهم بهذه الصفات وهم أقاربه يقدم منهم أقربهم إليه وأقومهم بصفات الحضانة .

فإن اجتمع منهم اثنان فصاعدا فإن استوت درجتهم قدم الأنثى على الذكر فتقدم الأم على الأب والجدة على الجد والخالة على الخال والعمة على العم والأخت على الأخ . فإن كانا ذكرين أو أنثيين قدم أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما وإن اختلفت درجتهما من الطفل فإن كانوا من جهة واحدة قدم الأقرب إليه فتقدم الأخت على ابنتها والخالة على خالة الأبوين وخالة الأبوين على خالة الجد والجدة والجد أبو الأم على الأخ للأم هذا هو الصحيح لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى من جهة الأخوة فيها .

وقيل يقدم الأخ للأم لأنه أقوى من أب الأم في الميراث . والوجهان في مذهب أحمد .

وفيه وجه ثالث أنه لا حضانة للأخ من الأم بحال لأنه ليس من العصبات ولا من نساء الحضانة وكذلك الخال أيضا فإن صاحب هذا الوجه يقول لا حضانة له ولا نزاع أن أبا الأم وأمهاته أولى من الخال وإن كانوا من جهتين كقرابة الأم وقرابة الأب مثل العمة والخالة والأخت للأب والأخت للأم وأم الأب وأم الأم وخالة الأب وخالة الأم قدم من في جهة الأب في ذلك كله على إحدى الروايتين فيه .

هذا كله إذا استوت درجتهم أو كانت جهة الأب أقرب إلى الطفل وأما إذا كانت جهة الأم أقرب وقرابة الأب أبعد كأم الأم وأم أب الأب وكخالة الطفل وعمة أبيه فقد تقابل الترجيحان ولكن يقدم الأقرب إلى الطفل لقوة شفقته وحنوه على شفقة الأبعد ومن قدم قرابة الأب فإنما يقدمها مع مساواة قرابة الأم لها فأما إذا كانت أبعد منها قدمت قرابة الأم القريبة وإلا لزم من تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة لا يقول بها أحد فبهذا الضابط يمكن حصر جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي واطرادها وموافقتها لأصول الشرع فأي مسألة وردت عليك أمكن أخذها من هذا الضابط مع كونه مقتضى الدليل ومع سلامته من التناقض ومناقضة قياس الأصول وبالله التوفيق .

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 03:02 AM
فصل الحضانة حق للأم وهل تحق لها الأجرة
وقوله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي فيه دليل على أن الحضانة حق للأم وقد اختلف الفقهاء هل هي للحاضن أم عليه ؟ على قولين في مذهب أحمد ومالك وينبني عليهما : هل لمن له الحضانة أن يسقطها فينزل عنها ؟ على قولين .

وأنه لا يجب عليه خدمة الولد أيام حضانته إلا بالأجرة إن قلنا : الحق له وإن قلنا : الحق عليه وجب خدمته مجانا .

وإن كان الحاضن فقيرا فله الأجرة على القولين . وإذا وهبت الحضانة للأب وقلنا : الحق لها لزمت الهبة ولم ترجع فيها وإن قلنا : الحق عليها فلها العود إلى طلبها .

والفرق بين هذه المسألة وبين ما لم يثبت بعد كهبة الشفعة قبل البيع حيث لا تلزم في أحد القولين أن الهبة في الحضانة قد وجد سببها فصار بمنزلة ما قد وجد وكذلك إذا وهبت المرأة نفقتها لزوجها شهرا ألزمت الهبة ولم ترجع فيها .

هذا كله كلام أصحاب مالك وتفريعهم والصحيح أن الحضانة حق لها وعليها إذا احتاج الطفل إليها ولم يوجد غيرها وإن اتفقت هي وولي الطفل على نقلها إليه جاز والمقصود أن في قوله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به دليلا على أن الحضانة حق لها .



فصل [ هل سقوط الحضانة بالنكاح للتعليل أو للتوقيت ؟ ]
وقوله ما لم تنكحي اختلف فيه هل هو تعليل أو توقيت على قولين ينبني عليهما : ما لو تزوجت وسقطت حضانتها ثم طلقت فهل تعود الحضانة ؟

فإن قيل اللفظ تعليل عادت الحضانة بالطلاق لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها وعلة سقوط الحضانة التزويج فإن طلقت زالت العلة فزال حكمها وهذا قول الأكثرين منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة .

ثم اختلفوا فيما إذا كان الطلاق رجعيا هل يعود حقها بمجرده أو يتوقف عودها على انقضاء العدة ؟ على قولين وهما في مذهب أحمد والشافعي أحدهما : تعود بمجرده وهو ظاهر مذهب الشافعي .

والثاني : لا تعود حتى تنقضي العدة وهو قول أبي حنيفة والمزني وهذا كله تفريع على أن قوله " ما لم تنكحي " تعليل وهو قول الأكثرين .

وقال مالك في المشهور من مذهبه إذا تزوجت ودخل بها لم يعد حقها من الحضانة وإن طلقت قال بعض أصحابه وهذا بناء على أن قوله " ما لم تنكحي " للتوقيت أي حقك من الحضانة موقت إلى حين نكاحك فإذا نكحت انقضى وقت الحضانة فلا تعود بعد انقضاء وقتها كما لو انقضى وقتها ببلوغ الطفل واستغنائه عنها . وقال بعض أصحابه يعود حقها إذا فارقها زوجها كقول الجمهور وهو قول المغيرة وابن أبي حازم .

قالوا : لأن المقتضي لحقها من الحضانة هو قرابتها الخاصة وإنما عارضها مانع النكاح لما يوجبه من إضاعة الطفل واشتغالها بحقوق الزوج الأجنبي منه عن مصالحه ولما فيه من تغذيته وتربيته في نعمة غير أقاربه وعليهم في ذلك منة وغضاضة فإذا انقطع النكاح بموت أو فرقة زال المانع والمقتضي قائم فترتب عليه أثره وهكذا كل من قام به من أهل الحضانة مانع منها ككفر أو رق أو فسق أو بدو فإنه لا حضانة له فإن زالت الموانع عاد حقهم من الحضانة فهكذا النكاح والفرقة .

وأما النزاع في عود الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي أو بوقفه على انقضاء العدة فمأخذه كون الرجعية زوجة في عامة الأحكام فإنه يثبت بينهما التوارث والنفقة ويصح منها الظهار والإيلاء ويحرم أن ينكح عليها أختها أو عمتها أو خالتها أو أربعا سواها وهي زوجة فمن راعى ذلك لم تعد إليها الحضانة بمجرد الطلاق الرجعي حتى تنقضي العدة فتبين حينئذ ومن أعاد الحضانة بمجرد الطلاق قال قد عزلها عن فراشه ولم يبق لها عليه قسم ولا لها به شغل والعلة التي سقطت الحضانة لأجلها قد زالت بالطلاق وهذا هو الذي رجحه الشيخ في " المغني " وهو ظاهر كلام الخرقي فإنه قال وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ثم طلقت رجعت على حقها من كفالته .



فصل [ هل مجرد عقد النكاح يسقط الحضانة ؟]
وقوله ما لم تنكحي اختلف فيه هل المراد به مجرد العقد أو العقد مع الدخول ؟ وفي ذلك وجهان .

أحدهما : أن بمجرد العقد تزول حضانتها وهو قول الشافعي وأبي حنيفة لأنه بالعقد يملك الزوج منافع الاستمتاع بها ويملك نفعها من حضانة الولد .

والثاني : أنها لا تزول إلا بالدخول وهو قول مالك فإن بالدخول يتحقق اشتغالها عن الحضانة والحديث يحتمل الأمرين والأشبه سقوط حضانتها بالعقد لأنها حينئذ صارت في مظنة الاشتغال عن الولد والتهيؤ للدخول وأخذها حينئذ في أسبابه وهذا قول الجمهور .



فصل اختلاف الفقهاء في سقوط الحضانة بالنكاح
واختلف الناس في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال .

أحدها : سقوطها به مطلقا سواء كان المحضون ذكرا أو أنثى وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه . قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم وقضى به شريح .

والقول الثاني : أنها لا تسقط بالتزويج بحال ولا فرق في الحضانة بين الأيم وذوات البعل وحكي هذا المذهب عن الحسن البصري وهو قول أبي محمد ابن حزم .

القول الثالث أن الطفل إن كان بنتا لم تسقط الحضانة بنكاح أمها وإن كان ذكرا سقطت وهذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله نص عليه في رواية مهنا بن يحيى الشامي فقال إذا تزوجت الأم وابنها صغير أخذ منها . قيل له والجارية مثل الصبي ؟ قال لا الجارية تكون مع أمها إلى سبع سنين . وعلى هذه الرواية فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ ؟ على روايتين . قال ابن أبي موسى : وعن أحمد أن الأم أحق بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ .

والقول الرابع أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال .

أحدها : أن المشترط أن يكون الزوج نسيبا للطفل فقط وهذا ظاهر قول أصحاب أحمد .

الثاني : أنه يشترط أن يكون مع ذلك ذا رحم محرم وهو قول أصحاب أبي حنيفة .

الثالث أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلاد بأن يكون جدا للطفل وهذا قول مالك وبعض أصحاب أحمد فهذا تحرير المذاهب في هذه المسألة .



[ حجة من أسقط الحضانة بالتزويج مطلقا ]

فأما حجة من أسقط الحضانة بالتزويج مطلقا فثلاث حجج

إحداها : حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره .

الثانية اتفاق الصحابة على ذلك وقد تقدم قول الصديق لعمر هي أحق به ما لم تتزوج وموافقة عمر له على ذلك ولا مخالف لهما من الصحابة ألبتة وقضى به شريح والقضاة بعده إلى اليوم في سائر الأعصار والأمصار .

[ اعتراض ابن حزم على الأدلة السابقة ورد المصنف عليه ]

الثالثة ما رواه عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج حدثنا أبو الزبير عن رجل صالح من أهل المدينة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال كانت امرأة من الأنصارتحت رجل من الأنصارفقتل عنها يوم أحد وله منها ولد فخطبها عم ولدها ورجل آخر إلى أبيها فأنكح الآخر فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت أنكحني أبي رجلا لا أريده وترك عم ولدي فيؤخذ مني ولدي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أباها فقال أنكحت فلانا فلانة؟ قال نعم قال " أنت الذي لا نكاح لك اذهبي فانكحي عم ولدك فلم ينكر أخذ الولد منها لما تزوجت بل أنكحها عم الولد لتبقى لها الحضانة ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح وبقائها إذا تزوجت بنسيب من الطفل . واعترض أبو محمد بن حزم على هذا الاستدلال بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة وحديث أبي سلمة هذا مرسل وفيه مجهول .
المدينة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال كانت امرأة من الأنصار تحت رجل من الأنصار فقتل عنها يوم أحد وله منها ولد فخطبها عم ولدها ورجل آخر إلى أبيها فأنكح الآخر فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت أنكحني أبي رجلا لا أريده وترك عم ولدي فيؤخذ مني ولدي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أباها فقال أنكحت فلانا فلانة ؟ قال نعم قال " أنت الذي لا نكاح لك اذهبي فانكحي عم ولدك فلم ينكر أخذ الولد منها لما تزوجت بل أنكحها عم الولد لتبقى لها الحضانة ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح وبقائها إذا تزوجت بنسيب من الطفل . واعترض أبو محمد بن حزم على هذا الاستدلال بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة وحديث أبي سلمة هذا مرسل وفيه مجهول .

وهذان الاعتراضان ضعيفان فقد بينا احتجاج الأئمة بعمرو في تصحيحهم حديثه وإذا تعارض معنا في الاحتجاج برجل قول ابن حزم وقول البخاري وأحمد وابن المديني والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم لم يلتفت إلى سواهم .

وأما حديث أبي سلمة هذا فإن أبا سلمة من كبار التابعين وقد حكى القصة عن الأنصارية ولا ينكر لقاؤه لها فلا يتحقق الإرسال ولو تحقق فمرسل جيد له شواهد مرفوعة وموقوفة وليس الاعتماد عليه وحده وعنى بالمجهول الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح ولا ريب أن هذه الشهادة لا تعرف به ولكن المجهول إذا عدله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته وإن كان واحدا على أصح القولين فإن التعديل من باب الإخبار والحكم لا من باب الشهادة ولا سيما التعديل في الرواية فإنه يكتفى فيه بالواحد ولا يزيد على أصل نصاب الرواية هذا مع أن أحد القولين إن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأما إذا روى عنه وصرح بتعديله فقد خرج عن الجهالة التي ترد لأجلها روايته لا سيما إذا لم يكن معروفا بالرواية عن الضعفاء والمتهمين وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس فليس معروفا بالتدليس عن المتهمين والضعفاء بل تدليسه من جنس تدليس السلف لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين .



[ حجة ابن حزم على عدم سقوط الحضانة بالتزويج ]

واحتج أبو محمد على قوله بما رواه من طريق البخاري عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم فأخذ أبو طلحة بيدي وانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك . قال فخدمته في السفر والحضر وذكر الخبر .

قال أبو محمد : فهذا أنس في حضانة أمه ولها زوج وهو أبو طلحة بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الاحتجاج في غاية السقوط والخبر في غاية الصحة فإن أحدا من أقارب أنس لم ينازع أمه فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل صغير لم يثغر ولم يأكل وحده ولم يشرب وحده ولم يميز وأمه مزوجة فحكم به لأمه وإنما يتم الاستدلال بهذه المقدمات كلها والنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان لأنس من العمر عشر سنين فكان عند أمه فلما تزوجت أبا طلحة لم يأت أحد من أقارب أنس ينازعها في ولدها ويقول قد تزوجت فلا حضانة لك وأنا أطلب انتزاعه منك ولا ريب أنه لا يحرم على المرأة المزوجة حضانة ابنها إذا اتفقت هي والزوج وأقارب الطفل على ذلك ولا ريب أنه لا يجب بل لا يجوز أن يفرق بين الأم وولدها إذا تزوجت من غير أن يخاصمها من له الحضانة ويطلب انتزاع الولد فالاحتجاج بهذه القصة من أبعد الاحتجاج وأبرده .

ونظير هذا أيضا احتجاجهم بأن أم سلمة لما تزوجت برسول الله صلى الله عليه وسلم لم تسقط كفالتها لابنها بل استمرت على حضانتها فيا عجبا من الذي نازع أم سلمة في ولدها ورغب عن أن يكون في حجر النبي صلى الله عليه وسلم .

واحتج لهذا القول أيضا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها وهي مزوجة بجعفر فلا ريب أن للناس في قصة ابنة حمزة ثلاث مآخذ . أحدها : أن النكاح لا يسقط الحضانة .

الثاني : أن المحضونة إذا كانت بنتا فنكاح أمها لا يسقط حضانتها ويسقطها إذا كان ذكرا .

الثالث أن الزوج إذا كان نسيبا من الطفل لم تسقط حضانتها وإلا سقطت فالاحتجاج بالقصة على أن النكاح لا يسقط الحضانة مطلقا لا يتم إلا بعد إبطال ذينك الاحتمالين الآخرين .



فصل

وقضاؤه صلى الله عليه وسلم بالولد لأمه وقوله أنت أحق به ما لم تنكحي لا يستفاد منه عموم القضاء لكل أم حتى يقضي به للأم . وإن كانت كافرة أو رقيقة أو فاسقة أو مسافرة فلا يصح الاحتجاج به على ذلك ولا نفيه فإذا دل دليل منفصل على اعتبار الإسلام والحرية والديانة والإقامة لم يكن ذلك تخصيصا ولا مخالفة لظاهر الحديث .

[ شروط الحاضن الاتفاق في الدين ]
وقد اشترط في الحاضن ستة شروط اتفاقهما في الدين فلا حضانة لكافر على مسلم لوجهين .

أحدهما : أن الحاضن حريص على تربية الطفل على دينه وأن ينشأ عليه ويتربى عليه فيصعب بعد كبره وعقله انتقاله عنه وقد يغيره عن فطرة الله التي فطر عليها عباده فلا يراجعها أبدا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . فلا يؤمن تهويد الحاضن وتنصيره للطفل المسلم .

فإن قيل الحديث إنما جاء في الأبوين خاصة .

قيل الحديث خرج مخرج الغالب إذ الغالب المعتاد نشوء الطفل بين أبويه فإن فقد الأبوان أو أحدهما قام ولي الطفل من أقاربه مقامهما .

[ حجة من أثبت الحضانة للكافرة على الولد المسلم ]

الوجه الثاني : أن الله سبحانه قطع الموالاة بين المسلمين والكفار وجعل المسلمين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم من بعض والحضانة من أقوى أسباب الموالاة التي قطعها الله بين الفريقين . وقال أهل الرأي وابن القاسم وأبو ثور : تثبت الحضانة لها مع كفرها وإسلام الولد واحتجوا بما روى النسائي في سننه من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو يشبهه وقال رافع ابنتي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اقعد ناحية " وقال لها : " اقعدي ناحية " وقال لهما : " ادعواها " فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها

قالوا : ولأن الحضانة لأمرين الرضاع وخدمة الطفل وكلاهما يجوز من الكافرة .



[ رد المسقطين لحق الحضانة للكافرة على المثبتين ]

قال الآخرون هذا الحديث من رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي وقد ضعفه إمام العلل يحيى بن سعيد القطان وكان سفيان الثوري يحمل عليه وضعف ابن المنذر الحديث وضعفه غيره وقد اضطرب في القصة فروى أن المخير كان بنتا وروى أنه كان ابنا . وقال الشيخ في " المغني " : وأما الحديث فقد روي على غير هذا الوجه ولا يثبته أهل النقل . وفي إسناده مقال قاله ابن المنذر .

ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الإسلام فإن الصبية لما مالت إلى أمها دعا النبي صلى الله عليه وسلم لها بالهداية فمالت إلى أبيها وهذا يدل على أن كونها مع الكافر خلاف هدى الله الذي أراده من عباده ولو استقر جعلها مع أمها لكان فيه حجة بل أبطله الله سبحانه بدعوة رسوله .

[ اشتراط الخلو من الفسق في الحضانة ]
ومن العجب أنهم يقولون لا حضانة للفاسق فأي فسق أكبر من الكفر ؟ وأين الضرر المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقع من الكافر مع أن الصواب أنه لا تشترط العدالة في الحاضن قطعا وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم واشتراطها في غاية البعد . ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم ولعظمت المشقة على الأمة واشتد العنت ولم يزل من حين قام الإسلام إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض لهم أحد في الدنيا مع كونهم الأكثرين .

ومتى وقع في الإسلام انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه ؟ وهذا في الحرج والعسر - واستمرار العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه - بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح فإنه دائم الوقوع في الأمصار والأعصار والقرى والبوادي مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك فساق ولم يزل الفسق في الناس ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة فاسقا من تربية ابنه وحضانته له ولا من تزويجه موليته والعادة شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق فإنه يحتاط لابنته ولا يضيعها ويحرص على الخير لها بجهده وإن قدر خلاف ذلك فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد والشارع يكتفي في ذلك بالباعث الطبيعي ولو كان الفاسق مسلوب الحضانة وولاية النكاح لكان بيان هذا للأمة من أهم الأمور واعتناء الأمة بنقله وتوارث العمل به مقدما على كثير مما نقلوه وتوارثوا العمل به فكيف يجوز عليهم تضييعه واتصال العمل بخلافه .

ولو كان الفسق ينافي الحضانة لكان من زنى أو شرب خمرا أو أتى كبيرة فرق بينه وبين أولاده الصغار والتمس لهم غيره والله أعلم .



[ اشتراط العقل في الحاضن ]
نعم العقل مشترط في الحضانة فلا حضانة لمجنون ولا معتوه ولا طفل لأن هؤلاء يحتاجون إلى من يحضنهم ويكفلهم فكيف يكونون كافلين لغيرهم .

[ الحرية ]

وأما اشتراط الحرية فلا ينتهض عليه دليل يركن القلب إليه وقد اشترطه أصحاب الأئمة الثلاثة . وقال مالك في حر له ولد من أمة إن الأم أحق به إلا أن تباع فتنتقل فيكون الأب أحق بها وهذا هو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا توله والدة عن ولدها وقال من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة

وقد قالوا : لا يجوز التفريق في البيع بين الأم وولدها الصغير فكيف يفرقون بينهما في الحضانة ؟ وعموم الأحاديث تمنع من التفريق مطلقا في الحضانة والبيع واستدلالهم بكون منافعها مملوكة للسيد فهي مستغرقة في خدمته فلا تفرغ لحضانة الولد ممنوع بل حق الحضانة لها تقدم به في أوقات حاجة الولد على حق السيد كما في البيع سواء . وأما اشتراط خلوها من النكاح فقد تقدم .

[ الخلو من النكاح ]

وهاهنا مسألة ينبغي التنبيه عليها وهي أنا إذا أسقطنا حقها من الحضانة بالنكاح ونقلناها إلى غيرها فاتفق أنه لم يكن له سواها لم يسقط حقها من الحضانة وهي أحق به من الأجنبي الذي يدفعه القاضي إليه وتربيته في حجر أمه ورأيه أصلح من تربيته في بيت أجنبي محض لا قرابة بينهما توجب شفقته ورحمته وحنوه ومن المحال أن تأتي الشريعة بدفع مفسدة بمفسدة أعظم منها بكثير والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم حكما عاما كليا : أن كل امرأة تزوجت سقطت حضانتها في جميع الأحوال حتى يكون إثبات الحضانة للأم في هذه الحالة مخالفة للنص .



[ اتحاد الدار شرط من شروط الحاضن ]
وأما اتحاد الدار فإن كان سفر أحدهما لحاجة ثم يعود والآخر مقيم فهو أحق به لأن السفر بالولد الطفل ولا سيما إن كان رضيعا إضرار به وتضييع له هكذا أطلقوه ولم يستثنوا سفر الحج من غيره وإن كان أحدهما منتقلا عن بلد الآخر للإقامة والبلد وطريقه مخوفان أو أحدهما فالمقيم أحق وإن كان هو وطريقه آمنين ففيه قولان وهما روايتان عن أحمد إحداهما : أن الحضانة للأب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمه وهو قول مالك والشافعي وقضى به شريح .

والثانية أن الأم أحق . وفيها قول ثالث أن المنتقل إن كان هو الأب فالأم أحق وإن كان الأم فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح فهي أحق به وإن انتقلت إلى غيره فالأب أحق وهو قول الحنفية . وحكوا عن أبي حنيفة رواية أخرى : أن نقلها إن كان من بلد إلى قرية فالأب أحق وإن كان من بلد إلى بلد فهي أحق وهذه أقوال كلها كما ترى لا يقوم عليها دليل يسكن القلب إليه فالصواب النظر والاحتياط للطفل في الأصلح له والأنفع من الإقامة أو النقلة فأيهما كان أنفع له وأصون وأحفظ روعي ولا تأثير لإقامة ولا نقلة هذا كله ما لم يرد أحدهما بالنقلة مضارة الآخر وانتزاع الولد منه . فإن أراد ذلك لم يجب إليه والله الموفق .


فصل [ قول من اشترط لسقوط الحضانة مع عقد النكاح والدخول حكم الحاكم ]
وقوله أنت أحق به ما لم تنكحي قيل فيه إضمار تقديره ما لم تنكحي ويدخل بك الزوج ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة . وهذا تعسف بعيد لا يشعر به اللفظ ولا يدل عليه بوجه ولا هو من دلالة الاقتضاء التي تتوقف صحة المعنى عليها والدخول داخل في قوله " تنكحي " عند من اعتبره فهو كقوله حتى تنكح زوجا غيره ومن لم يعتبره فالمراد بالنكاح عنده العقد .

وأما حكم الحاكم بسقوط الحضانة فذاك إنما يحتاج إليه عند التنازع والخصومة بين المتنازعين فيكون منفذا لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف سقوط الحضانة على حكمه بل قد حكم هو بسقوطها حكم به الحكام بعده أو لم يحكموا . والذي دل عليه هذا الحكم النبوي أن الأم أحق بالطفل ما لم يوجد منها النكاح فإذا نكحت زال ذلك الاستحقاق وانتقل الحق إلى غيرها . فأما إذا طلبه من له الحق وجب على خصمه أن يبذله له فإن امتنع أجبره الحاكم عليه وإن أسقط حقه أو لم يطالب به بقي على ما كان عليه أولا فهذه قاعدة عامة مستفادة من غير هذا الحديث .


فصل [ اختلاف الفقهاء في التخيير بين الأبوين ]
وقد احتج من لا يرى التخيير بين الأبوين بظاهر هذا الحديث ووجه الاستدلال أنه قال أنت أحق به ولو خير الطفل لم تكن هي أحق به إلا إذا اختارها كما أن الأب لا يكون أحق به إلا إذا اختاره فإن قدر أنت أحق به إن اختارك . قدر ذلك في جانب الأب والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها أحق به مطلقا عند المنازعة وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك . ونحن نذكر هذه المسألة ومذاهب الناس فيها والاحتجاج لأقوالهم ونرجح ما وافق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم منها .
أبي حنيفة ومالك . ونحن نذكر هذه المسألة ومذاهب الناس فيها والاحتجاج لأقوالهم ونرجح ما وافق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم منها .

ذكر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه

ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأته فذكر الأثر المتقدم وقال فيه ريحها وفراشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه فحكم به لأمه حين لم يكن له تمييز إلى أن يشب ويميز ويخير حينئذ .

ذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال الشافعي : حدثنا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . خير غلاما بين أبيه وأمه

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال خير عمر رضي الله عنه غلاما ما بين أبيه وأمه فاختار أمه فانطلقت به . وذكر عبد الرزاق أيضا : عن معمر عن أيوب عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال اختصم إلى عمر بن الخطاب في غلام فقال هو مع أمه حتى يعرب عنه لسانه ليختار . وذكر سعيد بن منصور عن هشيم عن خالد عن الوليد بن مسلم قال اختصموا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في يتيم فخيره فاختار أمه على عمه فقال عمر إن لطف أمك خير من خصب عمك

ذكر قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه

قال الشافعي رحمه الله تعالى : أنبأنا ابن عيينة عن يونس بن عبد الله الجرمي عن عمارة الجرمي قال خيرني علي بين أمي وعمي ثم قال لأخ لي أصغر مني : وهذا أيضا لو بلغ مبلغ هذا لخيرته

قال الشافعي رحمه الله قال إبراهيم عن يونس عن عمارة عن علي مثله قال في الحديث وكنت ابن سبع سنين أو ثمان سنين . قال يحيى القطان : حدثنا يونس بن عبد الله الجرمي حدثني عمارة بن رويبة أنه تخاصمت فيه أمه وعمه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال فخيرني علي ثلاثا كلهن أختار أمي ومعي أخ لي صغير فقال علي هذا إذا بلغ مبلغ هذا خير

ذكر قول أبي هريرة رضي الله عنه

قال أبو خيثمة زهير بن حرب : حدثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن هلال بن أبي ميمونة قال شهدت أبا هريرة خير غلاما بين أبيه وأمه وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه



[ مذهب ابن راهويه في التخيير ]

فهذا ما ظفرت به عن الصحابة . وأما الأئمة فقال حرب بن إسماعيل : سألت إسحاق بن راهويه إلى متى يكون الصبي والصبية مع الأم إذا طلقت ؟

قال أحب إلي أن يكون مع الأم إلى سبع سنين ثم يخير . قلت له أترى التخيير ؟ قال شديدا . قلت : فأقل من سبع سنين لا يخير ؟ قال قد قال بعضهم إلى خمس وأنا أحب إلي سبع .

[ مذهب أحمد ]

وأما مذهب الإمام أحمد فإما أن يكون الطفل ذكرا أو أنثى فإن كان ذكرا فإما أن يكون ابن سبع أو دونها فإن كان له دون السبع فأمه أحق بحضانته من غير تخيير وإن كان له سبع ففيه ثلاث روايات .

إحداها - وهي الصحيحة المشهورة من مذهبه - أنه يخير وهي اختيار أصحابه فإن لم يختر واحدا منهما أقرع بينهما وكان لمن قرع وإذا اختار أحدهما ثم عاد فاختار الآخر نقل إليه وهكذا أبدا .

والثانية أن الأب أحق به من غير تخيير . والثالثة أن الأم أحق به كما قبل السبع . وأما إذا كان أنثى فإن كان لها دون سبع سنين فأمها أحق بها من غير تخيير وإن بلغت سبعا فالمشهور من مذهبه أن الأم أحق بها إلى تسع سنين فإذا بلغت تسعا فالأب أحق بها من غير تخيير .

وعنه رواية رابعة أن الأم أحق بها حتى تبلغ ولو تزوجت الأم .

وعنه رواية خامسة أنها تخير بعد السبع كالغلام نص عليها وأكثر أصحابه إنما حكوا ذلك وجها في المذهب هذا تلخيص مذهبه وتحريره .

[ مذهب الشافعي ]

وقال الشافعي : الأم أحق بالطفل ذكرا كان أو أنثى إلى أن يبلغا سبع سنين فإذا بلغا سبعا وهما يعقلان عقل مثلهما خير كل منهما بين أبيه وأمه وكان مع من اختار .

[ مذهب مالك وأبي حنيفة ]

وقال مالك وأبو حنيفة لا تخيير بحال ثم اختلفا

فقال أبو حنيفة الأم أحق بالجارية حتى تبلغ وبالغلام حتى يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده ثم يكونان عند الأب ومن سوى الأبوين أحق بهما حتى يستغنيا ولا يعتبر البلوغ

وقال مالك الأم أحق بالولد ذكرا كان أو أنثى حثى يثغر هذه رواية ابن وهب وروى ابن القاسم : حتى يبلغ ولا يخير بحال .

[ مذهب الليث ]

وقال الليث بن سعد : الأم أحق بالابن حتى يبلغ ثمان سنين وبالبنت حتى تبلغ ثم الأب أحق بهما بعد ذلك .

[ مذهب الحسن بن حي ]

وقال الحسن بن حي الأم أولى بالبنت حتى يكعب ثدياها وبالغلام حتى ييفع فيخيران بعد ذلك بين أبويهما الذكر والأنثى سواء .


افتراضي

[ مذهب من قال بالتخيير في الغلام دون الجارية ]

قال المخيرون في الغلام دون الجارية قد ثبت التخيير عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغلام من حديث أبي هريرة : وثبت عن الخلفاء الراشدين وأبي هريرة ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ألبتة ولا أنكره منكر .

قالوا : وهذا غاية في العدل الممكن فإن الأم إنما قدمت في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية والحمل والرضاع والمداراة التي لا تتهيأ لغير النساء وإلا فالأم أحد الأبوين فكيف تقدم عليه ؟ فإذا بلغ الغلام حدا يعرب فيه عن نفسه ويستغني عن الحمل والوضع وما تعانيه النساء تساوى الأبوان وزال السبب الموجب لتقديم الأم والأبوان متساويان فيه فلا يقدم أحدهما إلا بمرجح والمرجح إما من خارج وهو القرعة وإما من جهة الولد وهو اختياره وقد جاءت السنة بهذا وهذا وقد جمعهما حديث أبي هريرة فاعتبرناهما جميعا ولم ندفع أحدهما بالآخر .

وقدمنا ما قدمه النبي وأخرنا ما أخره فقدم التخيير لأن القرعة إنما يصار إليها إذا تساوت الحقوق من كل وجه ولم يبق مرجح سواها وهكذا فعلنا هاهنا قدمنا أحدهما بالاختيار فإن لم يختر أو اختارهما جميعا عدلنا إلى القرعة فهذا لو لم يكن فيه موافقة السنة لكان من أحسن الأحكام وأعدلها وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين .

وفيه وجه آخر في مذهب أحمد والشافعي أنه إذا لم يختر واحدا منهما كان عند الأم بلا قرعة لأن الحضانة كانت لها وإنما ننقله عنها باختياره فإذا لم يختر بقي عندها على ما كان . فإن قيل فقد قدمتم التخيير على القرعة والحديث فيه تقديم القرعة أولا ثم التخيير وهذا أولى لأن القرعة طريق شرعي للتقديم عند تساوي المستحقين وقد تساوى الأبوان فالقياس تقديم أحدهما بالقرعة فإن أبيا القرعة لم يبق إلا اختيار الصبي فيرجح به فما بال أصحاب أحمد والشافعي قدموا التخيير على القرعة .

قيل إنما قدم التخيير لاتفاق ألفاظ الحديث عليه وعمل الخلفاء الراشدين به وأما القرعة فبعض الرواة ذكرها في الحديث وبعضهم لم يذكرها وإنما كانت في بعض طرق أبي هريرة رضي الله عنه وحده فقدم التخيير عليها فإذا تعذر القضاء بالتخيير تعينت القرعة طريقا للترجيح إذ لم يبق سواها .




[ رد المخيرين على من اقتصر بالتخيير على الغلام ]

ثم قال المخيرون للغلام والجارية روى النسائي في " سننه " والإمام أحمد في " مسنده " من حديث رافع بن سنان رضي الله عنه أنه تنازع هو وأم في ابنتهما وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقعده ناحية وأقعد المرأة ناحية وأقعد الصبية بينهما وقال " ادعواها " فمالت إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها

قالوا : ولو لم يرد هذا الحديث لكان حديث أبي هريرة رضي الله عنه والآثار المتقدمة حجة في تخيير الأنثى لأن كون الطفل ذكرا لا تأثير له في الحكم بل هي كالذكر في قوله صلى الله عليه وسلم من وجد متاعه عند رجل قد أفلس وفي قوله من أعتق شركا له في عبد بل حديث الحضانة أولى بعدم اشتراط الذكورية فيه لأن لفظ الصبي ليس من كلام الشارع إنما الصحابي حكى القصة وأنها كانت في صبي فإذا نقح المناط تبين أنه لا تأثير لكونه ذكرا .




[ رد الحنابلة على من أجاز التخيير للذكر والأنثى ]

قالت الحنابلة : الكلام معكم في مقامين أحدهما : استدلالكم بحديث رافع والثاني : إلغاؤكم وصف الذكورية في أحاديث التخيير .

فأما الأول فالحديث قد ضعفه ابن المنذر وغيره وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبد الحميد بن جعفر وأيضا فقد اختلف فيه على قولين . أحدهما : أن المخير كان بنتا وروي أنه كان ابنا . فقال عبد الرزاق : أخبرنا سفيان عن عثمان البتي عن عبد الحميد بن سلمة عن أبيه عن جده أن أبويه اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما مسلم والآخر كافر فتوجه إلى الكافر فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اهده " فتوجه إلى المسلم فقضى له به

قال أبو الفرج ابن الجوزي : ورواية من روى أنه كان غلاما أصح . قالوا : ولو سلم لكم أنه كان أنثى فأنتم لا تقولون به فإن فيه أن أحدهما كان مسلما والآخر كافرا فكيف تحتجون بما لا تقولون به . قالوا : وأيضا فلو كانا مسلمين ففي الحديث أن الطفل كان فطيما وهذا قطعا دون السبع والظاهر أنه دون الخمس وأنتم لا تخيرون من له دون السبع فظهر أنه لا يمكنكم الاستدلال بحديث رافع هذا على كل تقدير . فبقي المقام الثاني وهو إلغاء وصف الذكورة في أحاديث التخيير وغيرها فنقول لا ريب أن من الأحكام ما يكفي فيها وصف الذكورة أو وصف الأنوثة قطعا ومنها ما لا يكفي فيه بل يعتبر فيه إما هذا وإما هذا فيلغى الوصف في كل حكم تعلق بالنوع الإنساني المشترك بين الأفراد ويعتبر وصف الذكورة في كل موضع كان له تأثير فيه كالشهادة والميراث والولاية في النكاح ويعتبر وصف الأنوثة في كل موضع يختص بالإناث أو يقدمن فيه على الذكور كالحضانة إذا استوى في الدرجة الذكر والأنثى قدمت الأنثى .

بقي النظر فيما نحن فيه من شأن التخيير هل لوصف الذكورة تأثير في ذلك فيلحق بالقسم الذي تعتبر فيه أو لا تأثير له فيلحق بالقسم الذي يلغى فيه ؟ ولا سبيل إلى جعلها من القسم الملغى فيه وصف الذكورة لأن التخيير هاهنا تخيير شهوة لا تخيير رأي ومصلحة ولهذا إذا اختار غير من اختاره أولا نقل إليه فلو خيرت البنت أفضى ذلك إلى أن تكون عند الأب تارة وعند الأم أخرى فإنها كلما شاءت الانتقال أجيبت إليه وذلك عكس ما شرع للإناث من لزوم البيوت وعدم البروز ولزوم الخدور وراء الأستار فلا يليق بها أن تمكن من خلاف ذلك . وإذا كان هذا الوصف معتبرا قد شهد له الشرع بالاعتبار لم يمكن إلغاؤه .

قالوا : وأيضا فإن ذلك يفضي إلى ألا يبقى الأب موكلا بحفظها ولا الأم لتنقلها بينهما وقد عرف بالعادة أن ما يتناوب الناس على حفظه ويتواكلون فيه فهو آيل إلى ضياع ومن الأمثال السائرة " لا يصلح القدر بين طباخين " .

قالوا : وأيضا فالعادة شاهدة بأن اختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر فيه بالإحسان إليه وصيانته فإذا اختار أحدهما ثم انتقل إلى الآخر لم يبق أحدهما تام الرغبة في حفظه والإحسان إليه .

فإن قلتم فهذا بعينه موجود في الصبي ولم يمنع ذلك تخييره . قلنا : صدقتم لكن عارضه كون القلوب مجبولة على حب البنين واختيارهم على البنات فإذا اجتمع نقص الرغبة ونقص الأنوثة وكراهة البنات في الغالب ضاعت الطفلة وصارت إلى فساد يعسر تلافيه والواقع شاهد بهذا والفقه تنزيل المشروع على الواقع وسر الفرق أن البنت تحتاج من الحفظ والصيانة فوق ما يحتاج إليه الصبي ولهذا شرع في حق الإناث من الستر والخفر ما لم يشرع مثله للذكور في اللباس وإرخاء الذيل شبرا أو أكثر وجمع نفسها في الركوع والسجود دون التجافي ولا ترفع صوتها بقراءة القرآن ولا ترمل في الطواف ولا تتجرد في الإحرام عن المخيط ولا تكشف رأسها ولا تسافر وحدها هذا كله مع كبرها ومعرفتها فكيف إذا كانت في سن الصغر وضعف العقل الذي يقبل فيه الانخداع ؟ ولا ريب أن ترددها بين الأبوين مما يعود على المقصود بالإبطال أو يخل به أو ينقصه لأنها لا تستقر في مكان معين فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين من غير تخيير كما قاله الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق فتخييرها ليس منصوصا عليه ولا هو في معناه فيلحق به .



[ اختلاف الفقهاء في تعيين أحد الأبوين لمقام البنت عنده ]
ثم هاهنا حصل الاجتهاد في تعيين أحد الأبوين لمقامها عنده وأيهما أصلح لها فمالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه عينوا الأم وهو الصحيح دليلا وأحمد رحمه الله في المشهور عنه واختيار عامة أصحابه عينوا الأب .

قال من رجح الأم قد جرت العادة بأن الأب يتصرف في المعاش والخروج ولقاء الناس والأم في خدرها مقصورة في بيتها فالبنت عندها أصون وأحفظ بلا شك وعينها عليها دائما بخلاف الأب فإنه في غالب الأوقات غائب عن البنت أو في مظنة ذلك فجعلها عند أمها أصون لها وأحفظ .

قالوا : وكل مفسدة يعرض وجودها عند الأم فإنها تعرض أو أكثر منها عند الأب فإنه إذا تركها في البيت وحدها لم يأمن عليها وإن ترك عندها امرأته أو غيرها فالأم أشفق عليها وأصون لها من الأجنبية .

قالوا : وأيضا فهي محتاجة إلى تعلم ما يصلح للنساء من الغزل والقيام بمصالح البيت وهذا إنما تقوم به النساء لا الرجال فهي أحوج إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة وفي دفعها إلى أبيها تعطيل هذه المصلحة وإسلامها إلى امرأة أجنبية تعلمها ذلك وترديدها بين الأم وبينه وفي ذلك تمرين لها على البروز والخروج فمصلحة البنت والأم والأب أن تكون عند أمها وهذا القول هو الذي لا نختار سواه .

قال من رجح الأب الرجال أغير على البنات من النساء فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبدا وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه ويحملها على ذلك ضعف عقلها وسرعة انخداعها وضعف داعي الغيرة في طبعها بخلاف الأب ولهذا المعنى وغيره جعل الشارع تزويجها إلى أبيها دون أمها ولم يجعل لأمها ولاية على بضعها ألبتة ولا على مالها فكان من محاسن الشريعة أن تكون عند أمها ما دامت محتاجة إلى الحضانة والتربية فإذا بلغت حدا تشتهى فيه وتصلح للرجال فمن محاسن الشريعة أن تكون عند من هو أغير عليها وأحرص على مصلحتها وأصون لها من الأم .

قالوا : ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرجال من الغيرة ولو مع فسقه وفجوره ما يحمله على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يريبه لشدة الغيرة ونرى في طبيعة النساء من الانحلال والانخداع ضد ذلك قالوا : فهذا هو الغالب على النوعين ولا عبرة بما خرج عن الغالب على أنا إذا قدمنا أحد الأبوين فلا بد أن نراعي صيانته وحفظه للطفل ولهذا قال مالك والليث إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية فللأب أخذ البنت منها وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرواية المشهورة عنه فإنه يعتبر قدرته على الحفظ والصيانة .

فإن كان مهملا لذلك أو عاجزا عنه أو غير مرضي أو ذا دياثة والأم بخلافه فهي أحق بالبنت بلا ريب فمن قدمناه بتخيير أو قرعة أو بنفسه فإنما نقدمه إذا حصلت به مصلحة الولد ولو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب فإذا اختار من يساعده على ذلك لم يلتفت إلى اختياره وكان عند من هو أنفع له وأخير ولا تحتمل الشريعة غير هذا والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم على تركها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع والله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة [ التحريم 6 ] .

وقال الحسن علموهم وأدبوهم وفقهوهم فإذا كانت الأم تتركه في المكتب وتعلمه القرآن والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه وأبوه يمكنه من ذلك فإنه أحق به بلا تخيير ولا قرعة وكذلك العكس ومتى أخل أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطله والآخر مراع له فهو أحق وأولى به . وسمعت شيخنا رحمه الله يقول تنازع أبوان صبيا عند بعض الحكام فخيره بينهما فاختار أباه فقالت له أمه سله لأي شيء يختار أباه فسأله فقال أمي تبعثني كل يوم للكتاب والفقيه يضربني وأبي يتركني للعب مع الصبيان فقضى به للأم . قال أنت أحق به .

قال شيخنا : وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه فهو عاص ولا ولاية له عليه بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان . قال شيخنا : وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاء سواء كان الوارث فاسقا أو صالحا بل هذا من جنس الولاية التي لا بد فيها من القدرة على الواجب والعلم به وفعله بحسب الإمكان . قال فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة فالحضانة هنا للأم قطعا قال ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقا ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقا والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البر العادل المحسن والله أعلم .



[ مذهب من قال ببطلان التخيير ]

قالت الحنفية والمالكية : الكلام معكم في مقامين أحدهما : بيان الدليل الدال على بطلان التخيير والثاني : بيان عدم الدلالة في الأحاديث التي استدللتم بها على التخيير فأما الأول فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم أ نت أحق به ولم يخيره

وأما المقام الثاني : فما رويتم من أحاديث التخيير مطلقة لا تقييد فيها وأنتم لا تقولون بها على إطلاقها بل قيدتم التخيير بالسبع فما فوقها وليس في شيء من الأحاديث ما يدل على ذلك ونحن نقول إذا صار للغلام اختيار معتبر خير بين أبويه وإنما يعتبر اختياره إذا اعتبر قوله وذلك بعد البلوغ وليس تقييدكم وقت التخيير بالسبع أولى من تقييدنا بالبلوغ بل الترجيح من جانبنا لأنه حينئذ يعتبر قوله ويدل عليه قولها : " وقد سقاني من بئر أبي عنبة " وهي على أميال من المدينة وغير البالغ لا يتأتى منه عادة أن يحمل الماء من هذه المسافة ويستقي من البئر سلمنا أنه ليس في الحديث ما يدل على البلوغ فليس فيه ما ينفيه والواقعة واقعة عين وليس عن الشارع نص عام في تخيير من هو دون البلوغ حتى يجب المصير إليه سلمنا أنه فيه ما ينفي البلوغ فمن أين فيه ما يقتضي التقييد بسبع كما قلتم ؟

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 03:09 AM
[رد المثبتين للتخيير على مبطليه ]

قالت الشافعية والحنابلة ومن قال بالتخيير لا يتأتى لكم الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي بوجه من الوجوه فإن منكم من يقول إذا استغنى بنفسه وأكل بنفسه وشرب بنفسه فالأب أحق به بغير تخيير ومنكم من يقول إذا اثغر فالأب أحق به .

فنقول النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم لها به ما لم تنكح ولم يفرق بين أن تنكح قبل بلوغ الصبي السن الذي يكون عنده أو بعده وحينئذ فالجواب يكون مشتركا بيننا وبينكم ونحن فيه على سواء فما أجبتم به أجاب به منازعوكم سواء فإن أضمرتم أضمروا وإن قيدتم قيدوا وإن خصصتم خصصوا . وإذا تبين هذا فنقول الحديث اقتضى أمرين .

أحدهما : أنها لا حق لها في الولد بعد النكاح .

والثاني : أنها أحق به ما لم تنكح وكونها أحق به له حالتان إحداهما : أن يكون الولد صغيرا لم يميز فهي أحق به مطلقا من غير تخيير . الثاني : أن يبلغ سن التمييز فهي أحق به أيضا ولكن هذه الأولوية مشروطة بشرط والحكم إذا علق بشرط صدق إطلاقه اعتمادا على تقدير الشرط وحينئذ فهي أحق به بشرط اختياره لها وغاية هذا أنه تقييد للمطلق بالأدلة الدالة على تخييره . ولو حمل على إطلاقه وليس بممكن البتة لاستلزم ذلك إبطال أحاديث التخيير وأيضا فإذا كنتم قيدتموه بأنها أحق به إذا كانت مقيمة وكانت حرة ورشيدة وغير ذلك من القيود التي لا ذكر لشيء منها في الأحاديث البتة فتقييده بالاختيار الذي دلت عليه السنة واتفق عليه الصحابة اولى


افتراضي

[الرد على من قال إن التخيير يحصل بعد البلوغ ]

وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ فلا يصح لخمسة أوجه .

أحدها : أن لفظ الحديث أنه خير غلاما بين أبويه وحقيقة الغلام من لم يبلغ فحمله على البالغ إخراج له عن حقيقته إلى مجازه بغير موجب ولا قرينة صارفة .

الثاني : أن البالغ لا حضانة عليه فكيف يصح أن يخير ابن أربعين سنة بين أبوين ؟ هذا من الممتنع شرعا وعادة فلا يجوز حمل الحديث عليه .

الثالث أنه لم يفهم أحد من السامعين أنهم تنازعوا في رجل كبير بالغ عاقل وأنه خير بين أبويه ولا يسبق إلى هذا فهم أحد البتة ولو فرض تخييره لكان بين ثلاثة أشياء الأبوين والانفراد بنفسه .

الرابع أنه لا يعقل في العادة ولا العرف ولا الشرع أن تنازع الأبوان في رجل كبير بالغ عاقل كما لا يعقل في الشرع تخيير من هذه حاله بين أبويه .

الخامس أن في بعض ألفاظ الحديث أن الولد كان صغيرا لم يبلغ ذكره النسائي وهو حديث رافع بن سنان وفيه فجاء ابن لها صغير لم يبلغ فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا والأم هاهنا ثم خيره .

وأما قولكم إن بئر أبي عنبة على أميال من المدينة فجوابه مطالبتكم أولا : بصحة هذا الحديث ومن ذكره وثانيا : بأن مسكن هذه المرأة كان بعيدا من هذه البئر وثالثا بأن من له نحو العشر سنين لا يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة وكل هذا مما لا سبيل إليه فإن العرب وأهل البوادي يستقي أولادهم الصغار من آبار هي أبعد من ذلك .

وأما تقييدنا له بالسبع فلا ريب أن الحديث لا يقتضي ذلك ولا هو أمر مجمع عليه فإن للمخيرين قولين أحدهما : أنه يخير لخمس حكاه إسحاق بن راهويه ذكره عنه حرب في " مسائله " ويحتج لهؤلاء بأن الخمس هي السن التي يصح فيها سماع الصبي ويمكن أن يعقل فيها وقد قال محمود بن الربيع عقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في في وأنا ابن خمس سنين .

والقول الثاني : أنه إنما يخير لسبع وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله واحتج لهذا القول بأن التخيير يستدعي التمييز والفهم ولا ضابط له في الأطفال فضبط بمظنته وهي السبع فإنها أول سن التمييز ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم حدا للوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة .

وقولكم إن الأحاديث وقائع أعيان فنعم هي كذلك ولكن يمتنع حملها على تخيير الرجال البالغين كما تقدم . وفي بعضها لفظ غلام وفي بعضها لفظ صغير لم يبلغ وبالله التوفيق .




فصل [الاختلاف في قصة بنت حمزة ]
وأما قصة بنت حمزة واختصام علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فيها وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لجعفر فإن هذه الحكومة كانت عقيب فراغهم من عمرة القضاء فإنهم لما خرجوا من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم فأخذ علي بيدها ثم تنازع فيها هو وجعفر وزيد وذكر كل واحد من الثلاثة ترجيحا فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة وذكر علي كونها ابنة عمه وذكر جعفر مرجحين القرابة وكون خالتها عنده فتكون عند خالتها فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم مرجح جعفر دون مرجح الآخرين فحكم له وجبر كل واحد منهم وطيب قلبه بما هو أحب إليه من أخذ البنت .

فأما مرجح المؤاخاة فليس بمقتض للحضانة ولكن زيدا كان وصي حمزة وكان الإخاء حينئذ يثبت به التوارث فظن زيد أنه أحق بها لذلك .

[هل تستحق ببنوة العم الحضانة ]

وأما مرجح القرابة هاهنا وهي بنوة العم فهل يستحق بها الحضانة ؟ على قولين . أحدهما : يستحق بها وهو منصوص الشافعي وقول مالك وأحمد وغيره لأنه عصبة وله ولاية بالقرابة فقدم على الأجانب كما يقدم عليهم في الميراث وولاية النكاح وولاية الموت ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على جعفر وعلي ادعاءهما حضانتها ولو لم يكن لهما ذلك لأنكر عليهما الدعوى الباطلة فإنها دعوى ما ليس لهما وهو لا يقر على باطل .

والقول الثاني : أنه لا حضانة لأحد من الرجال سوى الآباء والأجداد هذا قول بعض أصحاب الشافعي وهو مخالف لنصه وللدليل . فعلى قول الجمهور - وهو الصواب - إذا كان الطفل أنثى وكان ابن العم محرما لها برضاع أو نحوه كان له حضانتها وإن جاوزت السبع وإن لم يكن محرما فله حضانتها صغيرة حتى تبلغ سبعا فلا يبقى له حضانتها بل تسلم إلى محرمها أو امرأة ثقة . وقال أبو البركات في " محرره " : لا حضانة له ما لم يكن محرما برضاع أو نحوه .

[هل وقع الحكم للخالة أو لجعفر ؟ ]

فإن قيل فالحكم بالحضانة من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة " هل وقع للخالة أو لجعفر ؟ قيل هذا مما اختلف فيه على قولين منشؤهما اختلاف ألفاظ الحديث في ذلك ففي " صحيح البخاري " من حديث البراء فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها .

وعن أبي داود : من حديث رافع بن عجير عن أبيه عن علي في هذه القصة . وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى وقال قضى بها لجعفر لأن خالتها عنده ثم ساقه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ وهبيرة بن يريم وقال فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال الخالة بمنزلة الأم

[ استشكال الفقهاء هذا الحكم ]

[طعن ابن حزم في القصة ]

واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا فإن القضاء إن كان لجعفر فليس محرما لها وهو وعلي في القرابة منها سواء وإن كان للخالة فهي مزوجة والحاضنة إذا تزوجت سقطت حضانتها ولما ضاق هذا على ابن حزم طعن في القصة بجميع طرقها وقال أما حديث البخاري فمن رواية إسرائيل وهو ضعيف وأما حديث هانئ وهبيرة فمجهولان وأما حديث ابن أبي ليلى فمرسل وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف وأما حديث نافع بن عجير فهو وأبوه مجهولان ولا حجة في مجهول قال إلا أن هذا الخبر بكل وجه حجة على الحنفية والمالكية والشافعية لأن خالتها كانت مزوجة بجعفر وهو أجمل شاب في قريش وليس هو ذا رحم محرم من بنت حمزة . قال ونحن لا ننكر قضاءه بها لجعفر من أجل خالتها لأن ذلك أحفظ لها .



[رد المصنف على ابن حزم ]

قلت وهذا من تهوره رحمه الله وإقدامه على تضعيف ما اتفقت الناس على صحته فخالفهم وحده فإن هذه القصة شهرتها في الصحاح والسنن والمسانيد والسير والتواريخ تغني عن إسنادها فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح ولم يحفظ عن أحد قبله الطعن فيها البتة وقوله إسرائيل ضعيف فالذي غره في ذلك تضعيف علي بن المديني له ولكن أبى ذلك سائر أهل الحديث واحتجوا به ووثقوه وثبتوه . قال أحمد : ثقة وتعجب من حفظه وقال أبو حاتم . وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ولا سيما وقد روى هذا الحديث عن أبي إسحاق وكان يحفظ حديثه كما يحفظ السورة من القرآن . وروى له الجماعة كلهم محتجين به .

وأما قوله إن هانئا وهبيرة مجهولان فنعم مجهولان عنده معروفان عند أهل السنن وثقهما الحفاظ فقال النسائي . هانئ بن هانئ ليس به بأس وهبيرة روى له أهل السنن الأربعة وقد وثق .

وأما قوله حديث ابن أبي ليلى وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس بالمعروف فالتعليلان باطلان فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث وعن عمر ومعاذ رضي الله عنهما . والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سفيان عن أبي فروة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر وظن أبو محمد أن عبد الرحمن لم يذكر عليا في الرواية فرماه بالإرسال وذلك من وهمه فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي فاختصرها أبو داود وذكر مكان الاحتجاج وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي وهذه القصة قد رواها علي وسمعها منه أصحابه هانئ بن هانئ وهبيرة بن يريم وعجير بن عبد يزيد وعبد الرحمن بن أبي ليلى فذكر أبو داود حديث الثلاثة الأولين لسياقهم لها بتمامها وأشار إلى حديث ابن أبي ليلى لأنه لم يتمه وذكر السند منه إليه فبطل الإرسال ثم رأيت أبا بكر الإسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحا فيه بالاتصال فقال أخبرنا الهيثم بن خلف حدثنا عثمان بن سعيد المقري حدثنا يوسف بن عدي حدثنا سفيان عن أبي فروة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي أنه اختصم هو وجعفر وزيد وذكر الحديث .

وأما قوله إن أبا فروة ليس بالمعروف فقد عرفه سفيان بن عيينة وغيره وخرجا له في " الصحيحين " .

وأما رميه نافع بن عجير وأباه بالجهالة فنعم ولا يعرف حالهما وليسا من المشهورين بنقل العلم وإن كان نافع أشهر من أبيه لرواية ثقتين عنه محمد بن إبراهيم التميمي وعبد الله بن علي فليس الاعتماد على روايتهما وبالله التوفيق فثبتت صحة الحديث .

[رد المصنف على الاستشكال السابق ]

وأما الجواب عن استشكال من استشكله فنقول وبالله التوفيق لا إشكال سواء كان القضاء لجعفر أو للخالة فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها جاز أن تجعل مع امرأته في بيته بل يتعين ذلك وهو أولى من الأجنبي لا سيما إن كان ابن العم مبرزا في الديانة والعفة والصيانة فإنه في هذه الحال أولى من الأجانب بلا ريب .


افتراضي

[علة عدم أخذه صلى الله عليه وسلم بنت حمزة ]

فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ابن عمها وكان محرما لها لأن حمزة كان أخاه من الرضاعة فهلا أخذها هو ؟

قيل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في شغل شاغل بأعباء الرسالة وتبليغ الوحي والدعوة إلى الله وجهاد أعداء الله عن فراغه للحضانة فلو أخذها لدفعها إلى بعض نسائه فخالتها أمس بها رحما وأقرب .

[ ترجيح المصنف أن الحكم كان للخالة وبه رد للإشكال ]

وأيضا فإن المرأة من نسائه لم تكن تجيئها النوبة إلا بعد تسع ليال فإن دارت الصبية معه حيث دار كان مشقة عليها وكان فيه من بروزها وظهورها كل وقت ما لا يخفى وإن جلست في بيت إحداهن كانت لها الحضانة وهي أجنبية .

هذا إن كان القضاء لجعفر وإن كان للخالة - وهو الصحيح وعليه يدل الحديث الصحيح الصريح - فلا إشكال لوجوه .

أحدها : أن نكاح الحاضنة لا يسقط حضانة البنت كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي العلماء وحجة هذا القول الحديث وقد تقدم سر الفرق بين الذكر والأنثى .

الثاني : أن نكاحها قريبا من الطفل لا يسقط حضانتها وجعفر ابن عمها .

الثالث أن الزوج إذا رضي بالحضانة وآثر كون الطفل عنده في حجره لم تسقط الحضانة هذا هو الصحيح وهو مبني على أصل وهو أن سقوط الحضانة بالنكاح هو مراعاة لحق الزوج فإنه يتنغص عليه الاستمتاع المطلوب من المرأة لحضانتها لولد غيره ويتنكد عليه عيشه مع المرأة لا يؤمن أن يحصل بينهما خلاف المودة والرحمة ولهذا كان للزوج أن يمنعها من هذا مع اشتغالها هي بحقوق الزوج فتضيع مصلحة الطفل فإذا آثر الزوج ذلك وطلبه وحرص عليه زالت المفسدة التي لأجلها سقطت الحضانة والمقتضي قائم فيترتب عليه أثره يوضحه أن سقوط الحضانة بالنكاح ليست حقا لله وإنما هي حق للزوج وللطفل وأقاربه فإذا رضي من له الحق جاز فزال الإشكال على كل تقدير ظهر أن هذا الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الأحكام وأوضحها وأشدها موافقة للمصلحة والحكمة والرحمة والعدل وبالله التوفيق .


افتراضي

[ الاختلاف في إسقاط الحضانة بالتزويج ]
فهذه ثلاثة مدارك في الحديث للفقهاء

أحدها : أن نكاح الحاضنة لا يسقط حضانتها كما قاله الحسن البصري وقضى به يحيى بن حمزة وهو مذهب أبي محمد ابن حزم .

والثاني : أن نكاحها لا يسقط حضانة البنت ويسقط حضانة الابن كما قاله أحمد في إحدى روايتيه .

والثالث أن نكاحها لقريب الطفل لا يسقط حضانتها ونكاحها للأجنبي يسقطها كما هو المشهور من مذهب أحمد .



[مذهب الطبري في الحضانة وسقوطها بالتزويج ]
وفيه مدرك رابع لمحمد بن جرير الطبري وهو أن الحاضنة إن كانت أما والمنازع لها الأب سقطت حضانتها بالتزويج وإن كانت خالة أو غيرها من نساء الحضانة لم تسقط حضانتها بالتزويج وكذلك إن كانت أما والمنازع لها غير الأب من أقارب الطفل لم تسقط حضانتها .

ونحن نذكر كلامه وما له وعليه فيه قال في " تهذيب الآثار " بعد ذكر حديث ابنة حمزة : فيه الدلالة الواضحة على أن قيم الصبية الصغيرة والطفل الصغير من قرابتهما من قبل أمهاتهما من النساء أحق بحضانتهما من عصباتهما من قبل الأب وإن كن ذوات أزواج غير الأب الذي هما منه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها في الحضانة وقد تنازع فيها ابنا عمها علي وجعفر ومولاها وأخو أبيها الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبينه وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها وذلك بعد مقتل حمزة وكان معلوما بذلك صحة قول من قال لا حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الأب في حضانته ما لم تبلغ حد الاختيار بل قرابتهما من النساء من قبل أمهما أحق وإن كن ذوات أزواج .

فإن قال قائل فإن كان الأمر في ذلك عندك على ما وصفت من أن أم الصغير والصغيرة وقرابتهما من النساء من قبل أمهاتهما أحق بحضانتهما وإن كن ذوات أزواج من قرابتهما من قبل الأب من الرجال الذين هم عصبتهما فهلا كانت الأم ذات الزوج كذلك مع والدهما الأدنى والأبعد كما كانت الخالة أحق بهما ؟ وإن كان لها زوج غير أبيهما وإلا فما الفرق ؟

قيل الفرق بينهما واضح وذلك لقيام الحجة بالنقل المستفيض روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأم أحق بحضانة الأطفال إذا كانت بانت من والدهم ما لم تنكح زوجا غيره ولم يخالف في ذلك من يجوز الاعتراض به على الحجة فيما نعلمه .

وقد روي في ذلك خبر وإن كان في إسناده نظر فإن النقل الذي وصفت أمره دال على صحته وإن كان واهي السند .

ثم ساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنت أحق به ما لم تنكحي من طريق المثنى بن الصباح عنه .

ثم قال وأما إذا نازعها فيه عصبة أبيه فصحة الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه أنه جعل الخالة ذات الزوج غير أبي الصبية أحق بها من بني عمها وهم عصبتها فكانت الأم أحق بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوج غير أبيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الأم وإذا كان ذلك كالذي وصفنا تبين أن القول الذي قلناه في المسألتين أصل إحداهما من جهة النقل المستفيض والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول فإذا كان كذلك فغير جائز رد حكم إحداهما إلى حكم الأخرى إذ القياس إنما يجوز استعماله فيما لا نص فيه من الأحكام فأما ما فيه نص من كتاب الله أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حظ فيه للقياس .

فإن قال قائل زعمت أنك إنما أبطلت حق الأم من الحضانة إذا نكحت زوجا غير أبي الطفل وجعلت الأب أولى بحضانتها منها بالنقل المستفيض فكيف يكون ذلك كما قلت ؟ وقد علمت أن الحسن البصري كان يقول المرأة أحق بولدها وإن تزوجت وقضى بذلك يحيى بن حمزة .

قيل إن النقل المستفيض الذي تلزم به الحجة في الدين عندنا ليس صفته ألا يكون له مخالف ولكن صفته أن ينقله قولا وعملا من علماء الأمة من ينتفي عنه أسباب الكذب والخطأ وقد نقل من صفته ذلك من علماء الأمة أن المرأة إذا نكحت بعد بينونتها من زوجها زوجا غيره أن الأب أولى بحضانة ابنتها منها فكان ذلك حجة لازمة غير جائز الاعتراض عليها بالرأي وهو قول من يجوز عليه الغلط في قوله انتهى كلامه .

ذكر ما في هذا الكلام من مقبول ومردود

[التعقيب على كلام الطبري ]

فأما قوله إن فيه الدلالة على أن قرابة الطفل من قبل أمهاته من النساء أحق بحضانته من عصباته من قبل الأب وإن كن ذوات أزواج فلا دلالة فيه على ذلك البتة بل أحد ألفاظ الحديث صريح في خلافه وهو قوله صلى الله عليه وسلم وأما الابنة فإني أقضي بها لجعفر وأما اللفظ الآخر فقضى بها لخالتها وقال هي أم وهو اللفظ الذي احتج به أبو جعفر فلا دليل على أن قرابة الأم مطلقا أحق من قرابة الأب بل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم عليا وجعفرا على دعوى الحضانة يدل على أن لقرابة الأب مدخلا فيها وإنما قدم الخالة لكونها أنثى من أهل الحضانة فتقديمها على قرابة الأب كتقديم الأم على الأب والحديث ليس فيه لفظ عام يدل على ما ادعاه لا من أن من كان من قرابة الأم أحق بالحضانة من العصبة من قبل الأب حتى تكون بنت الأخت للأم أحق من العم وبنت الخالة أحق من العم والعمة فأين في الحديث دلالة على هذا فضلا عن أن تكون واضحة .

قوله وكان معلوما بذلك صحة قول من قال لا حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الأب في حضانته ما لم يبلغ حد الاختيار يعني : فيخير بين قرابة أبيه وأمه فيقال ليس ذلك معلوما من الحديث ولا مظنونا وإنما دل الحديث على أن ابن العم المزوج بالخالة أولى من ابن العم الذي ليس تحته خالة الطفل ويبقى تحقيق المناط هل كانت جهة التعصيب مقتضية للحضانة فاستوت في شخصين ؟ فرجح أحدهما بكون خالة الطفل عنده وهي من أهل الحضانة كما فهمه طائفة من أهل الحديث أو أن قرابة الأم وهي الخالة أولى بحضانة الطفل من عصبة الأب ولم تسقط حضانتها بالتزويج إما لكون الزوج لا يسقط الحضانة مطلقا كقول الحسن ومن وافقه وإما لكون المحضونة بنتا كما قاله أحمد في رواية وإما لكون الزوج قرابة الطفل كالمشهور من مذهب أحمد وإما لكون الحاضنة غير أم نازعها الأب كما قاله أبو جعفر فهذه أربعة مدارك ولكن المدرك الذي اختاره أبو جعفر ضعيف جدا فإن المعنى الذي أسقط حضانة الأم بتزويجها هو بعينه موجود في سائر نساء الحضانة والخالة غايتها أن تقوم مقام الأم وتشبه بها فلا تكون أقوى منها وكذلك سائر قرابة الأم والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم حكما عاما أن سائر أقارب الأم من كن لا تسقط حضانتهن بالتزويج وإنما حكم حكما معينا لخالة ابنة حمزة بالحضانة مع كونها مزوجة بقريب من الطفل والطفل ابنة .

وأما الفرق الذي فرق بين الأم وغيرها بالنقل المستفيض إلى آخره فيريد به الإجماع الذي لا ينقضه عنده مخالفة الواحد والاثنين وهذا أصل تفرد به ونازعه فيه الناس .

وأما حكمه على حديث عمرو بن شعيب بأنه واه فمبني على ما وصل إليه من طريقه فإن فيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف أو متروك ولكن الحديث قد رواه الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه أبو داود في " سننه " .

فصل [المسلك الخامس في قصة بنت حمزة ]

وفي الحديث مسلك خامس وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها لخالتها وإن كانت ذات زوج لأن البنت تحرم على الزوج تحريم الجمع بين المرأة وخالتها وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بعينه في حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس فذكر الحديث بطوله وقال فيه وأنت يا جعفر أولى بها : تحتك خالتها ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم نص يقتضي أن يكون الحاضن ذا رحم تحرم عليه البنت على التأبيد حتى يعترض به على هذا المسلك بل هذا مما لا تأباه قواعد الفقه وأصول الشريعة فإن الخالة ما دامت في عصمة الحاضن فبنت أختها محرمة عليه فإذا فارقها فهي مع خالتها فلا محذور في ذلك أصلا ولا ريب أن القول بهذا أخير وأصلح للبنت من رفعها إلى الحاكم يدفعها إلى أجنبي تكون عنده إذ الحاكم غير متصد للحضانة بنفسه فهل يشك أحد أن ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة هو عين المصلحة والحكمة والعدل وغاية الاحتياط للبنت والنظر لها وأن كل حكم خالفه لا ينفك عن جور أو فساد لا تأتي به الشريعة فلا إشكال في حكمه صلى الله عليه وسلم والإشكال كل الإشكال فيما خالفه والله المستعان وعليه التكلان



ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في النفقة على الزوجات
وأنه لم يقدرها ولا ورد عنه ما يدل على تقديرها وإنما رد الأزواج فيها إلى العرف .

ثبت عنه في " صحيح مسلم " : " أنه قال في خطبة حجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل وفاته ببضعة وثمانين يوما : واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في " الصحيحين " : أن هندا امرأة أبي سفيان قالت له إن أبا سفيان رجل شحيح ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وفي " سنن أبي داود " : من حديث حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ما تقول في نسائنا ؟ قال أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تلبسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن

وهذا الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مطابق لكتاب الله عز وجل حيث يقول تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف [ البقرة 233 ] والنبي صلى الله عليه وسلم جعل نفقة المرأة مثل نفقة الخادم وسوى بينهما في عدم التقدير وردهما إلى المعروف فقال للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف فجعل نفقتهما بالمعروف ولا ريب أن نفقة الخادم غير مقدرة ولم يقل أحد بتقديرها . وصح عنه في الرقيق أنه قال أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون

رواه مسلم كما قال في الزوجة سواء .

وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال امرأتك تقول إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني. ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني فجعل نفقة الزوجة والرقيق والولد كلها الإطعام لا التمليك .

وروى النسائي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي .

وقال تعالى : من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم [ المائدة 89 ] وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الخبز والزيت وصح عن ابن عمر رضي الله عنه الخبز والسمن والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم

ففسر الصحابة إطعام الأهل بالخبز مع غيره من الأدم والله ورسوله ذكرا الإنفاق مطلقا من غير تحديد ولا تقدير ولا تقييد فوجب رده إلى العرف لو لم يرده إليه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف وأرشد أمته إليه ؟ ومن المعلوم أن أهل العرف إنما يتعارفون بينهم في الإنفاق على أهليهم حتى من يوجب التقدير الخبز والإدام دون الحب والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما كانوا ينفقون على أزواجهم كذلك دون تمليك الحب وتقديره ولأنها نفقة واجبة بالشرع فلم تقدر بالحب كنفقة الرقيق ولو كانت مقدرة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم هندا أن تأخذ المقدر لها شرعا ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في مدين ولا في رطلين بحيث لا يزيد عليهما ولا ينقص ولفظه لم يدل على ذلك بوجه ولا إيماء ولا إشارة وإيجاب مدين أو رطلين خبزا قد يكون أقل من الكفاية فيكون تركا للمعروف وإيجاب قدر الكفاية مما يأكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز إنفاق بالمعروف فيكون هذا هو الواجب بالكتاب والسنة ولأن الحب يحتاج إلى طحنه وخبزه وتوابع ذلك فإن أخرجت ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج وإن فرض عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حبا ودراهم ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حبا أو دقيقا أو غيره لم يلزمه بذله ولو عرض عليها ذلك أيضا لم يلزمها قبوله لأن ذلك معاوضة فلا يجبر أحدهما على قبولها ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه .

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 03:23 AM
[الاختلاف في مقدار النفقة عند من قدرها ]
والذين قدروا النفقة اختلفوا فمنهم من قدرها بالحب وهو الشافعي فقال نفقة الفقير مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل فقال فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم [ المائدة 89 ] قال وعلى الموسر مدان لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدان في كفارة الأذى وعلى المتوسط مد ونصف نصف نفقة الموسر ونصف نفقة الفقير .

وقال القاضي أبو يعلى : مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة والواجب رطلان من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارا بالكفارات وإنما يختلفان في صفته وجودته لأن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول وما تقوم به البنية وإنما يختلفان في جودته فكذلك النفقة الواجبة .

[حجج الجمهور على عدم التقدير ]

والجمهور قالوا : لا يحفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة لا بمد ولا برطل والمحفوظ عنهم بل الذي اتصل به العمل في كل عصر ومصر ما ذكرناه .

قالوا : ومن الذي سلم لكم التقدير بالمد والرطل في الكفارة والذي دل عليه القرآن والسنة أن الواجب في الكفارة الإطعام فقط لا التمليك قال تعالى في كفارة اليمين فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم [ المائدة 89 ] وقال في كفارة الظهار فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [ المجادلة 4 ] وقال في فدية الأذى : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة 196 ] وليس في القرآن في إطعام الكفارات غير هذا وليس في موضع واحد منها تقدير ذلك بمد ولا رطل وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن وطئ في نهار رمضان أطعم ستين مسكينا وكذلك قال للمظاهر ولم يحد ذلك بمد ولا رطل .



[ أقوال الصحابة في الكفارة ]

فالذي دل عليه القرآن والسنة أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الإطعام لا التمليك وهذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم . قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو خالد عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : يغديهم ويعشيهم خبزا وزيتا .

وقال إسحاق عن الحارث كان علي يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين يغديهم ويعشيهم خبزا وزيتا أو خبزا وسمنا .

وقال ابن أبي شيبة : حدثنا يحيى بن يعلى عن ليث قال كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول من أوسط ما تطعمون أهليكم قال الخبز والسمن والخبز والزيت والخبز واللحم .

وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز واللبن والخبز والزيت والخبز والسمن ومن أفضل ما يطعم الرجل أهله الخبز واللحم

وقال يزيد بن زريع حدثنا يونس عن محمد بن سيرين أن أبا موسى الأشعري كفر عن يمين له مرة فأمر بجيرا أو جبيرا يطعم عنه عشرة مساكين خبزا ولحما وأمر لهم بثوب معقد أو ظهراني .

وقال ابن أبي شيبة : حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب عن حميد أن أنسا رضي الله عنه مرض قبل أن يموت فلم يستطع أن يصوم وكان يجمع ثلاثين مسكينا فيطعمهم خبزا ولحما أكلة واحدة .



[ أقوال التابعين في الكفارة ]

وأما التابعون فثبت ذلك عن الأسود بن يزيد وأبي رزين وعبيدة ومحمد بن سيرين والحسن البصري وسعيد بن جبير وشريح وجابر بن زيد وطاووس والشعبي وابن بريدة والضحاك والقاسم وسالم ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن كعب وقتادة وإبراهيم النخعي والأسانيد عنهم بذلك في أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق منهم من يقول يغدي المساكين ويعشيهم ومنهم من يقول أكلة واحدة ومنهم من يقول خبز ولحم خبز وزيت خبز وسمن وهذا مذهب أهل المدينة وأهل العراق وأحمد في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى : أن طعام الكفارة مقدر دون نفقة الزوجات .

فالأقوال ثلاثة التقدير فيهما كقول الشافعي وحده وعدم التقدير فيهما كقول مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين . والتقدير في الكفارة دون النفقة كالرواية الأخرى عنه .


[ قول من قال بالتقدير في الكفارة دون النفقة ]

قال من نصر هذا القول الفرق بين النفقة والكفارة أن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار ولا هي مقدرة بالكفاية ولا أوجبها الشارع بالمعروف كنفقة الزوجة والخادم والإطعام فيها حق لله تعالى لا لآدمي معين فيرضى بالعوض عنه ولهذا لو أخرج القيمة لم يجزه وروي التقدير فيها عن الصحابة فقال القاضي إسماعيل حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا أبو عوانة عن منصور عن أبي وائل عن يسار بن نمير قال قال عمر إن ناسا يأتوني يسألوني فأحلف أني لا أعطيهم ثم يبدو لي أن أعطيهم فإذا أمرتك أن تكفر فأطعم عني عشرة مساكين لكل مسكين صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من بر .

حدثنا حجاج بن المنهال وسليمان بن حرب قالا : حدثنا حماد بن سلمة عن سلمة بن كهيل عن يحيى بن عباد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يا يرفا إذا حلفت فحنثت فأطعم عني ليميني خمسة أصوع عشرة مساكين .

وقال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى عن عمر ابن أبي مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع .

( حدثنا عبد الرحيم وأبو خالد الأحمر عن حجاج عن قرط عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت إنا نطعم نصف صاع من بر أو صاعا من تمر في كفارة اليمين .

وقال إسماعيل حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام بن أبي عبد الله حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن زيد بن ثابت قال يجزئ في كفارة اليمين لكل مسكين مد حنطة .

حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن يزيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا ذكر اليمين أعتق وإذا لم يذكرها أطعم عشرة مساكين لكل مسكين مد مد .

وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما : في كفارة اليمين مد ومعه أدمه .

وأما التابعون فثبت ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد وقال كل طعام ذكر في القرآن للمساكين فهو نصف صاع وكان يقول في كفارة الأيمان كلها : مدان لكل مسكين .

وقال حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أدركت الناس وهم يعطون في كفارة اليمين مدا بالمد الأول .

وقال القاسم وسالم وأبو سلمة مد مد من بر وقال عطاء فرقا بين عشرة ومرة قال مد مد . قالوا : وقد ثبت في " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة في كفارة فدية الأذى : أطعم ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين . فقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدية الأذى فجعلنا تقديرها أصلا وعديناها إلى سائر الكفارات ثم قال من قدر طعام الزوجة ثم رأينا النفقات والكفارات قد اشتركا في الوجوب فاعتبرنا إطعام النفقة بإطعام الكفارة ورأينا الله سبحانه قد قال في جزاء الصيد أو كفارة طعام مساكين [ المائدة 95 ] وما أجمعت الأمة أن الطعام مقدر فيها ولهذا لو عدم الطعام صام عن كل مد يوما كما أفتى به ابن عباس والناس بعده فهذا ما احتجت به هذه الطائفة على تقدير طعام الكفارة .



[ حجة من قال بعدم التقدير في النفقة والكفارات ]

قال الآخرون لا حجة في أحد دون الله ورسوله وإجماع الأمة وقد أمرنا تعالى أن نرد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله وذلك خير لنا حالا وعاقبة ورأينا الله سبحانه إنما قال في الكفارة إطعام عشرة مساكين و إطعام ستين مسكينا فعلق الأمر بالمصدر الذي هو الإطعام ولم يحد لنا جنس الطعام ولا قدره وحد لنا جنس المطعمين وقدرهم فأطلق الطعام وقيد المطعومين ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعام المسكين في كتابه فإنما أراد به الإطعام المعهود المتعارف كقوله تعالى : وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما [ البلد 12 ] . وقال ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ الإنسان 8 ] وكان من المعلوم يقينا أنهم لو غدوهم أو عشوهم أو أطعموهم خبزا ولحما أو خبزا ومرقا ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم وهو سبحانه عدل عن الطعام الذي هو اسم للمأكول إلى الإطعام الذي هو مصدر صريح وهذا نص في أنه إذا أطعم المساكين ولم يملكهم فقد امتثل ما أمر به وصح في كل لغة وعرف أنه أطعمهم .

قالوا : وفي أي لغة لا يصدق لفظ الإطعام إلا بالتمليك ؟ ولما قال أنس رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الصحابة في وليمة زينب خبزا ولحما . كان قد اتخذ طعاما ودعاهم إليه على عادة الولائم وكذلك قوله في وليمة صفية أطعمهم حيسا وهذا أظهر من أن نذكر شواهده قالوا : وقد زاد ذلك إيضاحا وبيانا بقوله من أوسط ما تطعمون أهليكم [ المائدة 89 ] ومعلوم يقينا أن الرجل إنما يطعم أهله الخبز واللحم والمرق واللبن ونحو ذلك فإذا أطعم المساكين من ذلك فقد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله بلا شك ولهذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم في إطعام الأهل على أنه غير مقدر كما تقدم والله سبحانه جعله أصلا لطعام الكفارة فدل بطريق الأولى على أن طعام الكفارة غير مقدر .

وأما من قدر طعام الأهل فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة فيقال هذا خلاف مقتضى النص فإن الله أطلق طعام الأهل وجعله أصلا لطعام الكفارة فعلم أن طعام الكفارة لا يتقدر كما لا يتقدر أصله ولا يعرف عن صحابي البتة تقدير طعام الزوجة مع عموم هذه الواقعة في كل وقت .

قالوا : فأما الفروق التي ذكرتموها فليس فيها ما يستلزم تقدير طعام الكفارة وحاصلها خمسة فروق أنها لا تختلف باليسار والإعسار وأنها لا تتقدر بالكفاية ولا أوجبها الشارع بالمعروف ولا يجوز إخراج العوض عنها وهي حق لله لا تسقط بالإسقاط بخلاف نفقة الزوجة فيقال نعم لا شك في صحة هذه الفروق ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها بمد ومدين ؟ بل هي إطعام واجب من جنس ما يطعم أهله ومع ثبوت هذه الأحكام لا يدل على تقديرها بوجه .

وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها فجوابه من وجهين .

أحدهما : أنا قد ذكرنا عن جماعة منهم علي وأنس وأبو موسى وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا : يجزئ أن يغديهم ويعشيهم .

الثاني : أن من روي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديرا وتحديدا بل تمثيلا فإن منهم من روي عنه المد وروي عنه مدان وروي عنه مكوك وروي عنه جواز التغدية والتعشية وروي عنه أكلة وروي عنه رغيف أو رغيفان فإن كان هذا اختلافا فلا حجة فيه وإن كان بحسب حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفر فظاهر وإن كان ذلك على سبيل التمثيل فكذلك . فعلى كل تقدير لا حجة فيه على التقديرين .

قالوا : وأما الإطعام في فدية الأذى فليس من هذا الباب فإن الله سبحانه قال ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة 196 ] والله سبحانه أطلق هذه الثلاثة ولم ويقيدها . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تقييد الصيام بثلاثة أيام وتقييد النسك بذبح شاة وتقييد الإطعام بستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ولم يقل سبحانه في فدية الأذى : فإطعام ستة مساكين ولكن أوجب صدقة مطلقة وصوما مطلقا ودما مطلقا فعينه النبي صلى الله عليه وسلم بالفرق والثلاثة الأيام والشاة .

وأما جزاء الصيد فإنه من غير هذا الباب فإن المخرج إنما يخرج قيمة الصيد من الطعام وهي تختلف بالقلة والكثرة فإنها بدل متلف لا ينظر فيها إلى عدد المساكين وإنما ينظر فيها إلى مبلغ الطعام فيطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل بعضهم على بعض فتقدير الطعام فيها على حسب المتلف وهو يقل ويكثر وليس ما يعطاه كل مسكين مقدرا .

ثم إن التقدير بالحب يستلزم أمرا باطلا بين البطلان فإنه إذا كان الواجب لها عليه شرعا الحب وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز فإن جعلتم هذا معاوضة كان ربا ظاهرا وإن لم تجعلوه معاوضة فالحب ثابت لها في ذمته ولم تعتض عنه فلم تبرأ ذمته منه إلا بإسقاطها وإبرائها فإذا لم تبرئه طالبته بالحب مدة طويلة مع إنفاقه عليها كل يوم حاجتها من الخبز والأدم وإن مات أحدهما كان الحب دينا له أو عليه يؤخذ من التركة مع سعة الإنفاق عليها كل يوم .

ومعلوم أن الشريعة الكاملة المشتملة على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كل الإباء وتدفعه كل الدفع كما يدفعه العقل والعرف ولا يمكن أن يقال إن النفقة التي في ذمته تسقط بالذي له عليها من الخبز والأدم لوجهين أحدهما : أنه لم يبعه إياها ولا اقترضه منها حتى يثبت في ذمتها بل هي معه فيه على حكم الضيف لامتناع المعاوضة عن الحب بذلك شرعا . ولو قدر ثبوته في ذمتها لما أمكنت المقاصة لاختلاف الدينين جنسا والمقاصة تعتمد اتفاقهما .

هذا وإن قيل بأحد الوجهين إنه لا يجوز المعاوضة على النفقة مطلقا لا بدراهم ولا بغيرها لأنه معاوضة عما لم يستقر ولم يجب فإنها إنما تجب شيئا فشيئا فإنه لا تصح المعاوضة عليها حتى تستقر بمضي الزمان فيعاوض عنها كما يعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون ولما لم يجد بعض أصحاب الشافعي من هذا الإشكال مخلصا قال الصحيح أنها إذا أكلت سقطت نفقتها .

قال الرافعي في " محرره " : أولى الوجهين السقوط وصححه النووي لجريان الناس عليه في كل عصر ومصر واكتفاء الزوجة به . وقال الرافعي في " الشرح الكبير " و " الأوسط " : فيه وجهان . أقيسهما : أنها لا تسقط لأنه لم يوف الواجب وتطوع بما ليس بواجب وصرحوا بأن هذين الوجهين في الرشيدة التي أذن لها قيمها فإن لم يأذن لها لم تسقط وجها واحدا .



فصل [ ما استنبط من حديث شكوى هند ]
[ جواز ذكر العيوب عند الشكوى ]

وفي حديث هند : دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه وأن ذلك ليس بغيبة ونظير ذلك قول الآخر في خصمه يا رسول الله إنه فاجر لا يبالي ما حلف عليه .

[ تفرد الأب بنفقة أولاده ]

وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده ولا تشاركه فيها الأم وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه أن على الأم من النفقة بقدر ميراثها وزعم صاحب هذا القول أنه طرد القياس على كل من له ذكر وأنثى في درجة واحدة وهما وارثان فإن النفقة عليهما كما لو كان له أخ وأخت أو أم وجد أو ابن وبنت فالنفقة عليهما على قدر ميراثهما فكذلك الأب والأم .

والصحيح انفراد العصبة بالنفقة وهذا كله كما ينفرد الأب دون الأم بالإنفاق وهذا هو مقتضى قواعد الشرع فإن العصبة تنفرد بحمل العقل وولاية النكاح وولاية الموت والميراث بالولاء وقد نص الشافعي على أنه إذا اجتمع أم وجد أو أب فالنفقة على الجد وحده وهو إحدى الروايات عن أحمد وهي الصحيحة في الدليل وكذلك إن اجتمع ابن وبنت أو أم وابن أو بنت وابن ابن فقال الشافعي : النفقة في هذه المسائل الثلاث على الابن لأنه العصبة وهي إحدى الروايات عن أحمد . والثانية أنها على قدر الميراث في المسائل الثلاث وقال أبو حنيفة : النفقة في مسألة الابن والبنت عليهما نصفان لتساويهما في القرب وفي مسألة بنت وابن ابن النفقة على البنت لأنها أقرب وفي مسألة أم وبنت على الأم الربع والباقي على البنت وهو قول أحمد وقال الشافعي : تنفرد بها البنت لأنها تكون عصبة مع أخيها والصحيح انفراد العصبة بالإنفاق لأنه الوارث المطلق .

وفيه دليل على أن نفقة الزوجة والأقارب مقدرة بالكفاية وأن ذلك بالمعروف وأن لمن له النفقة له أن يأخذها بنفسه إذا منعه إياها من هي عليه .



وقد احتج بهذا على جواز الحكم على الغائب ولا دليل فيه لأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد لم يكن مسافرا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة ولا يعطى المدعي بمجرد دعواه وإنما كان هذا فتوى منه صلى الله عليه وسلم . وقد احتج به على مسألة الظفر وأن للإنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه ولا يدل لثلاثة أوجه أحدها : أن سبب الحق هاهنا ظاهر وهو الزوجية فلا يكون الأخذ خيانة في الظاهر فلا يتناوله قول النبي صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقا بينهما فمنع من الأخذ في مسألة الظفر وجوز للزوجة الأخذ وعمل بكلا الحديثين .

الثاني : أنه يشق على الزوجة أن ترفعه إلى الحاكم فيلزمه بالإنفاق أو الفراق وفي ذلك مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها .

الثالث أن حقها يتجدد كل يوم فليس هو حقا واحدا مستقرا يمكن أن تستدين عليه أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين .



فصل [ هل تسقط النفقة بمضي الزمن ]
وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان لأنه لم يمكنها من أخذ ما مضى لها من قدر الكفاية مع قولها : إنه لا يعطيها ما يكفيها ولا دليل فيها لأنها لم تدع به ولا طلبته وإنما استفتته هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها ؟ فأفتاها بذلك . وبعد فقد اختلف الناس في نفقة الزوجات والأقارب هل يسقطان بمضي الزمان كلاهما أو لا يسقطان أو تسقط نفقة الأقارب دون الزوجات ؟ على ثلاثة أقوال .

أحدها : أنهما يسقطان بمضي الزمان وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد .

والثاني : أنهما لا يسقطان إذا كان القريب طفلا وهذا وجه للشافعية . والثالث تسقط نفقة القريب دون نفقة الزوجة وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد ومالك .

ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان منهم من قال إذا كان الحاكم قد فرضها لم تسقط وهذا قول بعض الشافعية والحنابلة . ومنهم من قال لا يؤثر فرض الحاكم في وجوبها شيئا إذا سقطت بمضي الزمان والذي ذكره أبو البركات في " محرره " الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب في ذلك فقال وإذا غاب مدة ولم ينفق لزمه نفقة الماضي وعنه لا يلزمه إلا أن يكون الحاكم قد فرضها .

وأما نفقة أقاربه فلا تلزمه لما مضى وإن فرضت إلا أن يستدان عليه بإذن الحاكم وهذا هو الصواب وأنه لا تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان نقلا وتوجيها أما النقل فإنه لا يعرف عن أحمد ولا عن قدماء أصحابه استقرار نفقة القريب بمضي الزمان إذا فرضها الحاكم ولا عن الشافعي وقدماء أصحابه والمحققين لمذهبه منهم كصاحب " المهذب " و " الحاوي " و " الشامل " و " النهاية " و " التهذيب " و " البيان " و " الذخائر " وليس في هذه الكتب إلا السقوط بدون استثناء فرض وإنما يوجد استقرارها إذا فرضها الحاكم في " الوسيط " و " الوجيز " وشرح الرافعي وفروعه وقد صرح نصر المقدسي في " تهذيبه " والمحاملي في " العدة " ومحمد بن عثمان في " التمهيد " والبندنيجي في " المعتمد " بأنها لا تستقر ولو فرضها الحاكم وعللوا السقوط بأنها تجب على وجه المواساة لإحياء النفس ولهذا لا تجب مع يسار المنفق عليه وهذا التعليل يوجب سقوطها فرضت أو لم تفرض .

وقال أبو المعالي : ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع لا تمليك وما لا يجب فيه التمليك وانتهى إلى الكفاية استحال مصيره دينا في الذمة واستبعد لهذا التعليل قول من يقول إن نفقة الصغير تستقر بمضي الزمان وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجاب الكفاية مع إيجاب عوض ما مضى متناقض ثم اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الأصح . إذا قلنا : إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة . قال ولهذا قلنا : تتقدر ثم قال هذا في الحمل والولد الصغير أما نفقة غيرهما فلا تصير دينا أصلا . انتهى .

وهذا الذي قاله هؤلاء هو الصواب فإن في تصور فرض الحاكم نظرا لأنه إما أن يعتقد سقوطها بمضي الزمان أو لا فإن كان يعتقده لم يسغ له الحكم بخلافه وإلزام ما يعتقد أنه غير لازم وإن كان لا يعتقد سقوطها مع أنه لا يعرف به قائل إلا في الطفل الصغير على وجه لأصحاب الشافعي . فإما أن يعني بالفرض الإيجاب أو إثبات الواجب أو تقديره أو أمرا رابعا فإن أريد به الإيجاب فهو تحصيل الحاصل ولا أثر لفرضه وكذلك إن أريد به إثبات الواجب ففرضه وعدمه سيان وإن أريد به تقدير الواجب فالتقدير إنما يؤثر في صفة الواجب من الزيادة والنقصان لا في سقوطه ولا ثبوته فلا أثر لفرضه في الواجب البتة هذا مع ما في التقدير من مصادمة الأدلة التي تقدمت على أن الواجب النفقة بالمعروف فيطعمهم مما يأكل ويكسوهم مما يلبس . وإن أريد به أمر رابع فلا بد من بيانه لينظر فيه .

فإن قيل الأمر الرابع المراد هو عدم السقوط بمضي الزمان فهذا هو محل الحكم وهو الذي أثر فيه حكم الحاكم وتعلق به . قيل فكيف يمكن أن يعتقد السقوط ثم يلزم ويقضي بخلافه ؟ وإن اعتقد عدم السقوط فخلاف الإجماع ومعلوم أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته فإذا كانت صفة هذا الواجب سقوطه بمضي الزمان شرعا لم يزله حكم الحاكم عن صفته .

فإن قيل بقي قسم آخر وهو أن يعتقد الحاكم السقوط بمضي الزمان ما لم يفرض فإن فرضت استقرت فهو يحكم باستقرارها لأجل الفرض لا بنفس مضي الزمان . قيل هذا لا يجدي شيئا فإنه إذا اعتقد سقوطها بمضي الزمان وإن هذا هو الحق والشرع لم يجز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم ثبوته وما هذا إلا بمثابة ما لو ترافع إليه مضطر وصاحب طعام غير مضطر فقضي به للمضطر بعوضه فلم يتفق أخذه حتى زال الاضطرار ولم يعط صاحبه العوض أنه يلزمه بالعوض ويلزم صاحب الطعام ببذله له والقريب يستحق النفقة لإحياء مهجته فإذا مضى زمن الوجوب حصل مقصود الشارع من إحيائه فلا فائدة في الرجوع بما فات من سبب الإحياء ووسيلته مع حصول المقصود والاستغناء عن السبب بسبب آخر .

فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بنفقة الزوجة فإنها تستقر بمضي الزمان ولو لم تفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه .



[ الفرق بين نفقة الأقارب والزوجات ]
قيل النقض لا بد أن يكون بمعلوم الحكم بالنص أو الإجماع وسقوط نفقة الزوجة بمضي الزمان مسألة نزاع فأبو حنيفة وأحمد في رواية يسقطانها والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يسقطانها والذين لا يسقطونها فرقوا بينها وبين نفقة القريب بفروق .

أحدها : أن نفقة القريب صلة .

الثاني : أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والإعسار بخلاف نفقة القريب .

الثالث أن نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها ونفقة القريب لا تجب إلا مع إعساره وحاجته .

الرابع أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى ولا يعرف عن أحد منهم قط أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى فصح عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولم يخالف عمر رضي الله عنه في ذلك منهم مخالف .

قال ابن المنذر رحمه الله هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها .

قال المسقطون قد شكت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان لا يعطيها كفايتها فأباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية ولم يجوز لها أخذ ما مضى وقولكم إنها نفقة معاوضة فالمعاوضة إنما هي بالصداق وإنما النفقة لكونها في حبسه فهي عانية عنده كالأسير فهي من جملة عياله ونفقتها مواساة وإلا فكل من الزوجين يحصل له من الاستمتاع مثل ما يحصل للآخر وقد عاوضها على المهر فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فلا وجه لإلزام الزوج به والنبي صلى الله عليه وسلم جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف وكنفقة الرقيق فالأنواع الثلاثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لإحياء نفس من هو في ملكه وحبسه ومن بينه وبينه رحم وقرابة فإذا استغنى عنها بمضي الزمان فلا وجه لإلزام الزوج بها وأي معروف في إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك والتضييق عليه وتعذيبه بطول الحبس وتعريض الزوجة لقضاء أوطارها من الدخول والخروج وعشرة الأخدان بانقطاع زوجها عنها وغيبة نظره عليها كما هو الواقع وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله حتى إن الفروج لتعج إلى الله من حبس حماتها ومن يصونها عنها وتسييبها في أوطارها ومعاذ الله أن يأتي شرع الله لهذا الفساد الذي قد استطار شراره واستعرت ناره وإنما أمر عمر بن الخطاب الأزواج إذا طلقوا أن يبعثوا بنفقة ما مضى ولم يأمرهم إذا قدموا أن يفرضوا نفقة ما مضى ولا يعرف ذلك عن صحابي البتة ولا يلزم من الإلزام بالنفقة الماضية بعد الطلاق وانقطاعها بالكلية الإلزام بها إذا عاد الزوج إلى النفقة والإقامة واستقبل الزوجة بكل ما تحتاج إليه فاعتبار أحدهما بالآخر غير صحيح ونفقة الزوجة تجب يوما بيوم فهي كنفقة القريب وما مضى فقد استغنت عنه بمضي وقته فلا وجه لإلزام الزوج به وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين وهو ضد ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة وهذا القول هو الصحيح المختار الذي لا تقتضي الشريعة غيره وقد صرح أصحاب الشافعي بأن كسوة الزوجة وسكنها يسقطان بمضي الزمان إذا قيل إنهما إمتاع لا تمليك فإن لهم في ذلك وجهين .

صل [ فرض الدراهم في النفقة لا أصل له في الكتاب والسنة ]
وأما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم البتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام وهذه كتب الآثار والسنن وكلام الأئمة بين أظهرنا فأوجدونا من ذكر فرض الدراهم .

والله سبحانه أوجب نفقة الأقارب والزوجات والرقيق بالمعروف وليس من المعروف فرض الدراهم بل المعروف الذي نص عليه صاحب الشرع أن يطعمهم مما يأكل ويكسوهم مما يلبس ليس المعروف سوى هذا وفرض الدراهم على المنفق من المنكر وليست الدراهم من الواجب ولا عوضه ولا يصح الاعتياض عما لم يستقر ولم يملك فإن نفقة الأقارب والزوجات إنما تجب يوما فيوما ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضة عنها بغير رضى الزوج والقريب فإن الدراهم تجعل عوضا عن الواجب الأصلي وهو إما البر عند الشافعي أو الطعام المعتاد عند الجمهور فكيف يجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم من غير رضاه ولا إجبار صاحب الشرع له على ذلك فهذا مخالف لقواعد الشرع ونصوص الأئمة ومصالح العباد ولكن إن اتفق المنفق والمنفق عليه على ذلك جاز باتفاقهما هذا مع أنه في جواز اعتياض الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاع معروف في مذهب الشافعي وغيره فقيل لا تعتاض لأن نفقتها طعام ثبت في الذمة عوضا فلا تعتاض عنه قبل القبض كالمسلم فيه وعلى هذا فلا يجوز الاعتياض لا بدراهم ولا ثياب ولا شيء البتة وقيل تعتاض بغير الخبز والدقيق فإن الاعتياض بهما ربا هذا إذا كان الاعتياض عن الماضي فإن كان عن المستقبل لم يصح عندهم وجها واحدا لأنها بصدد السقوط فلا يعلم استقرارها .



ذكر ما روي من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا أعسر بنفقتها
روى البخاري في " صحيحه " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة ما ترك غنى وفي لفظ ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الولد أطعمني إلى من تدعني ؟ قالوا : يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال لا . هذا من كيس أبي هريرة . .

وذكر النسائي هذا الحديث في كتابه وقال فيه وابدأ بمن تعول " فقيل من أعول يا رسول الله ؟ قال " امرأتك تقول أطعمني وإلا فارقني خادمك يقول أطعمني واستعملني ولدك يقول أطعمني إلى من تتركني . وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي هكذا وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه وسعيد ومحمد ثقتان .

وقال الدارقطني حدثنا أبو بكر الشافعي حدثنا محمد بن بشر بن مطر حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المرأة تقول لزوجها : أطعمني أو طلقني الحديث .

وقال الدارقطني حدثنا عثمان بن أحمد بن السماك وعبد الباقي ابن قانع وإسماعيل بن علي قالوا : أخبرنا أحمد بن علي الخزاز حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما . وبهذا الإسناد إلى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وقال سعيد بن منصور في " سننه " حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما ؟ قال نعم . قلت سنة ؟ قال سنة . وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغايته أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب .

واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال .

أحدها : أنه يجبر على أن ينفق أو يطلق روى سفيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب قال إذا لم يجد الرجل ما ينفق على امرأته أجبر على طلاقها .

الثاني : إنما يطلقها عليه الحاكم وهذا قول مالك لكنه قال يؤجل في عدم النفقة شهرا ونحوه فإن انقضى الأجل وهي حائض أخر حتى تطهر وفي الصداق عامين ثم يطلقها عليه الحاكم طلقة رجعية فإن أيسر في العدة فله ارتجاعها وللشافعي قولان . أحدهما : أن الزوجة تخير إن شاءت أقامت معه وتبقى نفقة المعسر دينا لها في ذمته . قال أصحابه هذا إذا أمكنته من نفسها وإن لم تمكنه سقطت نفقتها وإن شاءت فسخت النكاح .

والقول الثاني : ليس لها أن تفسخ لكن يرفع الزوج يده عنها لتكتسب والمذهب أنها تملك الفسخ . قالوا : وهل هو طلاق أو فسخ ؟ فيه وجهان .



[هل هذا الفراق طلاق أو فسخ ]

أحدهما : أنه طلاق فلا بد من الرفع إلى القاضي حتى يلزمه أن يطلقها أو ينفق فإن أبى طلق الحاكم عليه طلقة رجعية فإن راجعها طلق عليه ثانية فإن راجعها طلق عليه ثالثة .

والثاني : أنه فسخ فلا بد من الرفع إلى الحاكم ليثبت الإعسار ثم تفسخ هي وإن اختارت المقام ثم أرادت الفسخ ملكته لأن النفقة يتجدد وجوبها كل يوم وهل تملك الفسخ في الحال أو لا تملكه إلا بعد مضي ثلاثة أيام ؟ وفيه قولان . الصحيح عندهم الثاني . قالوا : فلو وجد في اليوم الثالث نفقتها وتعذر عليه نفقة اليوم الرابع فهل يجب استئناف هذا الإمهال ؟ فيه وجهان . وقال حماد بن أبي سليمان : يؤجل سنة ثم يفسخ قياسا على العنين .

وقال عمر بن عبد العزيز : يضرب له شهر أو شهران . وقال مالك : الشهر ونحوه . وعن أحمد روايتان . إحداهما وهي ظاهر مذهبه أن المرأة تخير بين المقام معه وبين الفسخ فإن اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم فيخير الحاكم بين أن يفسخ عليه أو يجبره على الطلاق أو يأذن لها في الفسخ فإن فسخ أو أذن في الفسخ فهو فسخ لا طلاق ولا رجعة له وإن أيسر في العدة . وإن أجبره على الطلاق فطلق رجعيا فله رجعتها فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها فطلبت الفسخ فسخ عليه ثانيا وثالثا وإن رضيت المقام معه مع عسرته ثم بدا لها الفسخ أو تزوجته عالمة بعسرته ثم اختارت الفسخ فلها ذلك .

قال القاضي : وظاهر كلام أحمد أنه ليس لها الفسخ في الموضعين ويبطل خيارها وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به فلم تملك الفسخ كما لو تزوجت عنينا عالمة بعنته . وقالت بعد العقد قد رضيت به عنينا . وهذا الذي قاله القاضي : هو مقتضى المذهب والحجة .

والذين قالوا : لها الفسخ - وإن رضيت بالمقام - قالوا : حقها متجدد كل يوم فيتجدد لها الفسخ بتجدد حقها قالوا : ولأن رضاها يتضمن إسقاط حقها فيما لم يجب فيه من الزمان فلم يسقط كإسقاط الشفعة قبل البيع . قالوا : وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة لم تسقط وكذلك لو أسقطتها قبل العقد جملة ورضيت بلا نفقة وكذلك لو أسقطت المهر قبله لم يسقط وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقط الفسخ الثابت به . والذين قالوا بالسقوط أجابوا عن ذلك بأن حقها في الجماع يتجدد ومع هذا إذا أسقطت حقها من الفسخ بالعنة سقط ولم تملك الرجوع فيه .

قالوا : وقياسكم ذلك على إسقاط نفقتها قياس على أصل غير متفق عليه ولا ثابت بالدليل بل الدليل يدل على سقوط الشفعة بإسقاطها قبل البيع كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق بالبيع وهذا صريح في أنه إذا أسقطها قبل البيع لم يملك طلبها بعده وحينئذ فيجعل هذا أصلا لسقوط حقها من النفقة بالإسقاط ونقول خيار لدفع الضرر فسقط بإسقاطه قبل ثبوته كالشفعة ثم ينتقض هذا بالعيب في العين المؤجرة فإن المستأجر إذا دخل عليه أو علم به ثم اختار ترك الفسخ لم يكن له الفسخ بعد هذا وتجدد حقه بالانتفاع كل وقت كتجدد حق المرأة من النفقة سواء ولا فرق وأما قوله لو أسقطها قبل النكاح أو أسقط المهر قبله لم يسقط فليس إسقاط الحق قبل انعقاد سببه بالكلية كإسقاطه بعد انعقاد سببه هذا إن كان في المسألة إجماع وإن كان فيها خلاف فلا فرق بين الإسقاطين وسوينا بين الحكمين وإن كان بينهما فرق امتنع القياس .

وعنه رواية أخرى : ليس لها الفسخ وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه . وعلى هذا لا يلزمها تمكينه من الاستمتاع لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم يلزمها تسليمه كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها وتحصل ما تنفقه على نفسها لأن في حبسها بغير نفقة إضرارا بها .

فإن قيل فلو كانت موسرة فهلا يملك حبسها ؟ قيل قد قالوا أيضا : لا يملك حبسها لأنه إنما يملكه إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لا بد لها منه من النفقة والكسوة ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب له عليها فإذا انتفى هذا وهذا لم يملك حبسها وهذا قول جماعة من السلف والخلف .

ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال سألت عطاء عمن لا يجد ما يصلح امرأته من النفقة ؟ قال ليس لها إلا ما وجدت ليس لها أن يطلقها . وروى حماد بن سلمة عن جماعة عن الحسن البصري أنه قال في الرجل يعجز عن نفقة امرأته قال تواسيه وتتقي الله وتصبر وينفق عليها ما استطاع . وذكر عبد الرزاق عن معمر قال سألت الزهري عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما ؟ قال تستأني به ولا يفرق بينهما وتلا : لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا [ الطلاق 7 ] . قال معمر وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مثل قول الزهري سواء . وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثوري في المرأة يعسر زوجها بنفقتها : قال هي امرأة ابتليت فلتصبر ولا تأخذ بقول من فرق بينهما .

قلت عن عمر بن عبد العزيز ثلاث روايات هذه إحداها . والثانية روى ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال شهدت عمر بن عبد العزيز يقول لزوج امرأة شكت إليه أنه لا ينفق عليها : اضربوا له أجلا شهرا أو شهرين فإن لم ينفق عليها إلى ذلك الأجل فرقوا بينه وبينها .

والثالثة ذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن أن رجلا شكا إلى عمر بن عبد العزيز بأنه أنكح ابنته رجلا لا ينفق عليها فأرسل إلى الزوج فأتى فقال أنكحني وهو يعلم أنه ليس لي شيء فقال عمر أنكحته وأنت تعرفه ؟ قال نعم . قال فما الذي أصنع ؟ اذهب بأهلك .



[مذهب من لم ير الفسخ بالإعسار ]

والقول بعدم التفريق مذهب أهل الظاهر كلهم وقد تناظر فيها مالك وغيره فقال مالك أدركت الناس يقولون إذا لم ينفق الرجل على امرأته فرق بينهما . فقيل له قد كانت الصحابة رضي الله عنهم يعسرون ويحتاجون فقال مالك ليس الناس اليوم كذلك إنما تزوجته رجاء .

ومعنى كلامه أن نساء الصحابة رضي الله عنهم كن يردن الدار الآخرة وما عند الله ولم يكن مرادهن الدنيا فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن لأن أزواجهن كانوا كذلك . وأما النساء اليوم فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا فصار هذا المعروف كالمشروط في العقد وكان عرف الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد والشرط العرفي في أصل مذهبه كاللفظي وإنما أنكر على مالك كلامه هذا من لم يفهمه ويفهم غوره .



[مذهب من قال بالحبس في الإعسار ]

وفي المسألة مذهب آخر وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة حبس حتى يجد ما ينفقه وهذا مذهب حكاه الناس عن ابن حزم وصاحب " المغني " وغيرهما عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة . ويالله العجب لأي شيء يسجن ويجمع عليه بين عذاب السجن وعذاب الفقر وعذاب البعد عن أهله ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم وما أظن من شم رائحة العلم يقول هذا .

[ مذهب ابن حزم من تكليف المرأة الإنفاق على الزوج إذ كان عاجزا عن نفقة نفسه ]

وفي المسألة مذهب آخر وهو أن المرأة تكلف الإنفاق عليه إذا كان عاجزا عن نفقة نفسه وهذا مذهب أبي محمد ابن حزم وهو خير بلا شك من مذهب العنبري . قال في " المحلى " : فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية - 462 كلفت النفقة عليه ولا ترجع بشيء من ذلك إن أيسر برهان ذلك قول الله عز وجل وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك [ البقرة 233 ] فالزوجة وارثة فعليها النفقة بنص القرآن .

ويا عجبا لأبي محمد لو تأمل سياق الآية لتبين له منها خلاف ما فهمه فإن الله سبحانه قال وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وهذا ضمير الزوجات بلا شك ثم قال وعلى الوارث مثل ذلك فجعل سبحانه على وارث المولود له أو وارث الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على الموروث فأين في الآية نفقة على غير الزوجات ؟ حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه .



[حجج من لم ير الفسخ بالإعسار ]

واحتج من لم ير الفسخ بالإعسار بقوله تعالى : لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها [ الطلاق 7 ] قالوا : وإذا لم يكلفه الله النفقة في هذه الحال فقد ترك ما لا يجب عليه ولم يأثم بتركه فلا يكون سببا للتفريق بينه وبين حبه وسكنه وتعذيبه بذلك . قالوا : وقد روى مسلم في " صحيحه " : من حديث أبي الزبير عن جابر دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجداه جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا فقال أبو بكر يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده فقلن والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ما ليس عنده ثم اعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا وذكر الحديث .

- 463 قالوا : فهذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يضربان ابنتيهما بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سألاه نفقة لا يجدها . ومن المحال أن يضربا طالبتين للحق ويقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فدل على أنه لا حق لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الإعسار وإذا كان طلبهما لها باطلا فكيف تمكن المرأة من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبه ولا يحل لها وقد أمر الله سبحانه صاحب الدين أن ينظر المعسر إلى الميسرة وغاية النفقة أن تكون دينا والمرأة مأمورة بإنظار الزوج إلى الميسرة بنص القرآن هذا إن قيل تثبت في ذمة الزوج وإن قيل تسقط بمضي الزمان فالفسخ أبعد وأبعد .

قالوا : فالله تعالى أوجب على صاحب الحق الصبر على المعسر وندبه إلى الصدقة بترك حقه وما عدا هذين الأمرين فجور لم يبحه له ونحن نقول لهذه المرأة كما قال الله تعالى لها سواء بسواء إما أن تنظريه إلى الميسرة وإما أن تصدقي ولا حق لك فيما عدا هذين الأمرين .

قالوا ولم يزل في الصحابة المعسر والموسر وكان معسروهم أضعاف أضعاف موسريهم فما مكن النبي صلى الله عليه وسلم قط امرأة واحدة من الفسخ بإعسار زوجها ولا أعلمها أن الفسخ حق لها فإن شاءت صبرت وإن شاءت فسخت وهو يشرع الأحكام عن الله تعالى بأمره فهب أن الأزواج تركن حقهن أفما كان فيهن امرأة واحدة تطالب بحقها وهؤلاء نساؤه صلى الله عليه وسلم خير نساء العالمين يطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه وحلف ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن فلو كان من المستقر في شرعه أن المرأة تملك الفسخ بإعسار زوجها لرفع إليه ذلك ولو من امرأة واحدة وقد رفع إليه ما ضرورته دون ضرورة فقد النفقة من فقد النكاح وقالت له امرأة رفاعة إني نكحت بعد رفاعة عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب . تريد أن يفرق بينه وبينها . ومن المعلوم أن هذا كان فيهم في - 464 غاية الندرة بالنسبة إلى الإعسار فما طلبت منه امرأة واحدة أن يفرق بينه وبينها بالإعسار .

قالوا : وقد جعل الله الفقر والغنى مطيتين للعباد فيفتقر الرجل الوقت ويستغني الوقت فلو كان كل من افتقر فسخت عليه امرأته لعم البلاء وتفاقم الشر وفسخت أنكحة أكثر العالم وكان الفراق بيد أكثر النساء فمن الذي لم تصبه عسرة ويعوز النفقة أحيانا .

قالوا : ولو تعذر من المرأة الاستمتاع بمرض متطاول وأعسرت بالجماع لم يمكن الزوج من فسخ النكاح بل يوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء فكيف يمكنونها من الفسح بإعساره عن النفقة التي غايتها أن تكون عوضا عن الاستمتاع ؟ قالوا : وأما حديث أبي هريرة فقد صرح فيه بأن قوله امرأتك تقول أنفق علي وإلا طلقني من كيسه لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في " الصحيح " عنه . ورواه عنه سعيد بن أبي سعيد وقال ثم يقول أبو هريرة . إذا حدث بهذا الحديث امرأتك تقول فذكر الزيادة .

وأما حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله فأشار إلى حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته . قال يفرق بينهما فحديث منكر لا يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلا وأحسن أحواله أن يكون عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا والظاهر أنه روي بالمعنى وأراد قول أبي هريرة رضي الله عنه امرأتك تقول أطعمني أو طلقني وأما أن يكون عند أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته فقال يفرق بينهما فوالله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سمعه أبو هريرة ولا حدث به كيف وأبو هريرة لا يستجيز أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم امرأتك تقول أطعمني وإلا طلقني - 465 ويقول هذا من كيس أبي هريرة لئلا يتوهم نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

والذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غر المرأة بأنه ذو مال فتزوجته على ذلك فظهر معدما لا شيء له أو كان ذا مال وترك الإنفاق على امرأته ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم أن لها الفسخ وإن تزوجته عالمة بعسرته أو كان موسرا ثم أصابته جائحة اجتاحت ماله فلا فسخ لها في ذلك ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن وبالله التوفيق .



[هل يثبت الفسخ بالإعسار بالصداق ]

وقد قال جمهور الفقهاء لا يثبت لها الفسخ بالإعسار بالصداق وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وهو الصحيح من مذهب أحمد رحمه الله اختاره عامة أصحابه وهو قول كثير من أصحاب الشافعي . وفصل الشيخ أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة فقالا : إن كان قبل الدخول ثبت به الفسخ وبعده لا يثبت وهو أحد الوجوه من مذهب أحمد هذا مع أنه عوض محض وهو أحق أن يوفى من ثمن المبيع كما دل عليه النص كل ما تقرر في عدم الفسخ به فمثله في النفقة وأولى .

فإن قيل في الإعسار بالنفقة من الضرر اللاحق بالزوجة ما ليس في الإعسار بالصداق فإن البنية تقوم بدونه بخلاف النفقة . قيل والبنية قد تقوم بدون نفقته بأن تنفق من مالها أو ينفق عليها ذو قرابتها أو تأكل من غزلها وبالجملة فتعيش بما تعيش به زمن العدة وتقدر زمن عسرة الزوج كله عدة .

ثم الذين يجوزون لها الفسخ يقولون لها أن تفسخ ولو كان معها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة إذا عجز الزوج عن نفقتها وبإزاء هذا القول قول منجنيق الغرب أبي محمد ابن حزم : إنه يجب عليها أن تنفق عليه في هذه الحال فتعطيه مالها وتمكنه من نفسها ومن العجب قول العنبري بأنه يحبس .

وإذا تأملت أصول الشريعة وقواعدها وما اشتملت عليه من المصالح ودرء - 466 المفاسد ودفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما تبين لك القول الراجح من هذه الأقوال وبالله التوفيق .



فصل في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الموافق لكتاب الله أنه لا نفقة للمبتوتة ولا سكنى
روى مسلم في " صحيحه " عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وما قال فقال ليس لك عليه نفقة " فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال " تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني . قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد " فكرهته ثم قال " انكحي أسامة بن زيد " فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت

وفي " صحيحه " أيضا : عنها أنها طلقها زوجها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أنفق عليها نفقة دونا فلما رأت ذلك قالت والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لي نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئا قالت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا نفقة لك ولا سكنى

وفي " صحيحه " أيضا عنها أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فقال لها أهله ليس لك علينا نفقة فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة فقالوا : إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست لها نفقة وعليها العدة وأرسل إليها : " أن لا تسبقيني بنفسك " وأمرها أن تنتقل إلى أم شريك ثم أرسل إليها : أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك فانطلقت إليه فلما انقضت عدتها أنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة

وفي " صحيحه " أيضا عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها : والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما فقال " لا نفقة لك " فاستأذنته في الانتقال فأذن لها فقالت أين يا رسول الله ؟ قال " إلى ابن أم مكتوم " وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث فحدثته به فقال مروان لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان بيني وبينكم القرآن قال الله عز وجل لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة إلى قوله لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ الطلاق 1 ] قالت هذا لمن كان له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها ؟

وروى أبو داود في هذا الحديث بإسناد مسلم عقيب قول عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام : لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا فاتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا . وفي " صحيحه " أيضا عن الشعبي قال دخلت على فاطمة بنت قيس فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فقالت طلقها زوجها البتة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة قالت فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم

وفي " صحيحه " عن أبي بكر بن أبي الجهم العدوي قال سمعت فاطمة بنت قيس تقول طلقها زوجها ثلاثا فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حللت فآذنيني فآذنته فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما معاوية فرجل ترب لا مال له وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء ولكن أسامة بن زيد ‏ فقالت بيدها هكذا : أسامة أسامة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة الله وطاعة رسوله خير لك ‏ فتزوجته فاغتبطت .

وفي " صحيحه " أيضا عنها قالت أرسل إلي زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة بطلاقي فأرسل معه بخمسة آصع تمر وخمسة آصع شعير فقلت أما لي نفقة إلا هذا ؟ ولا أعتد في منزلكم ؟ قال لا فشددت علي ثيابي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كم طلقك ؟ " قلت ثلاثا . قال " صدق ليس لك نفقة اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنه ضرير البصر تضعين ثوبك عنده فإذا انقضت عدتك فآذنيني

وروى النسائي في " سننه " هذا الحديث بطرقه وألفاظه وفي بعضها بإسناد صحيح لا مطعن فيه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة ورواه الدارقطني وقال فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قالت فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وقال إنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة وروى النسائي أيضا هذا اللفظ وإسنادهما صحيح .

ذكر موافقة هذا الحكم لكتاب الله عز وجل

قال الله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله إلى قوله قد جعل الله لكل شيء قدرا [ الطلاق 1 - 3 ] فأمر الله سبحانه الأزواج الذين لهم عند بلوغ الأجل الإمساك والتسريح بأن لا يخرجوا أزواجهم من بيوتهم وأمر أزواجهن أن لا يخرجن فدل على جواز إخراج من ليس لزوجها إمساكها بعد الطلاق فإنه سبحانه ذكر لهؤلاء المطلقات أحكاما متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض .

أحدها : أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتهن .

والثاني : أنهن لا يخرجن من بيوت أزواجهن .

والثالث أن لأزواجهن إمساكهن بالمعروف قبل انقضاء الأجل وترك الإمساك فيسرحوهن بإحسان .

والرابع إشهاد ذوي عدل وهو إشهاد على الرجعة إما وجوبا وإما استحبابا وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك وأنه في الرجعيات خاصة بقوله لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا والأمر الذي يرجى إحداثه هاهنا : هو المراجعة .

هكذا قال السلف ومن بعدهم قال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية عن داود الأودي عن الشعبي : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا قال لعلك تندم فيكون لك سبيل إلى الرجعة وقال الضحاك لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا قال لعله أن يراجعها في العدة وقاله عطاء وقتادة والحسن وقد تقدم قول فاطمة بنت قيس : أي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فهذا يدل على أن الطلاق المذكور هو الرجعي الذي ثبتت فيه هذه الأحكام وأن حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين اقتضته لعل الزوج أن يندم ويزول الشر الذي نزغه الشيطان بينهما فتتبعها نفسه فيراجعها كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لو أن الناس أخذوا بأمر الله في الطلاق ما تتبع رجل نفسه امرأة يطلقها أبدا

ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات فقال أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم [ الطلاق 6 ] فالضمائر كلها يتحد مفسرها وأحكامها كلها متلازمة وكان قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة مشتقا من كتاب الله عز وجل ومفسرا له وبيانا لمراد المتكلم به منه فقد تبين اتحاد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله عز وجل والميزان العادل معهما أيضا لا يخالفهما فإن النفقة إنما تكون للزوجة فإذا بانت منه صارت أجنبية حكمها حكم سائر الأجنبيات ولم يبق إلا مجرد اعتدادها منه وذلك لا يوجب لها نفقة كالموطوءة بشبهة أو زنى ولأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكن من الاستمتاع وهذا لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها ولأن النفقة لو وجبت لها عليه لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها من ماله ولا فرق بينهما البتة فإن كل واحد منهما قد بانت عنه وهي معتدة منه قد تعذر منهما الاستمتاع ولأنها لو وجبت لها السكنى لوجبت لها النفقة كما يقوله من يوجبها .

فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة فالنص والقياس يدفعه وهذا قول عبد الله بن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة وكانت فاطمة تناظر عليه وبه يقول أحمد بن حنبل وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأصحابه وداود بن علي وأصحابه وسائر أهل الحديث . وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن أحمد أحدها : هذا .

والثاني : أن لها النفقة والسكنى وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود وفقهاء الكوفة .

والثالث أن لها السكنى دون النفقة وهذا مذهب أهل المدينة وبه يقول مالك والشافعي .



ذكر المطاعن التي طعن بها على حديث فاطمة بنت قيس قديما وحديثا
فأولها طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروى مسلم في " صحيحه " : عن أبي إسحاق قال كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به فقال ويلك تحدث بمثل هذا ؟ قال عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ؟ لها السكنى والنفقة قال الله عز وجل لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قالوا : فهذا عمر يخبر أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها النفقة والسكنى ولا ريب أن هذا مرفوع فإن الصحابي إذا قال من السنة كذا كان مرفوعا فكيف إذا قال من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فكيف إذا كان القائل عمر بن الخطاب ؟ وإذا تعارضت رواية عمر رضي الله عنه ورواية فاطمة فرواية عمر رضي الله عنه أولى لا سيما ومعها ظاهر القرآن كما سنذكر . وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية - 472 حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال كان عمر بن الخطاب إذا ذكر عنده حديث فاطمة بنت قيس قال ما كنا نغير في ديننا بشهادة امرأة

ذكر طعن عائشة رضي الله عنها في خبر فاطمة بنت قيس

في " الصحيحين " : من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال تزوج يحيى بن سعيد بن العاص بنت عبد الرحمن بن الحكم فطلقها فأخرجها من عنده فعاب ذلك عليهم عروة فقالوا : إن فاطمة قد خرجت قال عروة فأتيت عائشة رضي الله عنها فأخبرتها بذلك فقالت ما لفاطمة بنت قيس خير أن تذكر هذا الحديث . وقال البخاري : فانتقلها عبد الرحمن فأرسلت عائشة إلى مروان وهو أمير المدينة اتق الله وارددها إلى بيتها . قال مروان إن عبد الرحمن بن الحكم غلبني وقال القاسم بن محمد : أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس ؟ قالت لا يضرك ألا تذكر حديث فاطمة فقال مروان إن كان بك شر فحسبك ما بين هذين من الشر .

ومعنى كلامه إن كان خروج فاطمة لما يقال من شر كان في لسانها فيكفيك ما بين يحيى بن سعيد بن العاص وبين امرأته من الشر .

وفي " الصحيحين " : عن عروة أنه قال لعائشة رضي الله عنها : ألم تري إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة فخرجت فقالت بئس ما صنعت فقلت ألم تسمعي إلى قول فاطمة فقالت أما إنه لا خير لها في ذكر ذلك .

وفي حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها يعني : في قولها : لا سكنى لها ولا نفقة . وفي " صحيح البخاري " : عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت - 473 لفاطمة ألا نتقي الله تعني في قولها لا سكنى لها ولا نفقة وفي " صحيحه " أيضا : عنها قالت إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها .

وقال عبد الرزاق : عن ابن جريح أخبرني ابن شهاب عن عروة أن عائشة رضي الله عنها أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس تعني : " انتقال المطلقة ثلاثا " .

وذكر القاضي إسماعيل حدثنا نصر بن علي حدثني أبي عن هارون عن محمد بن إسحاق قال أحسبه عن محمد بن إبراهيم أن عائشة رضي الله عنها قالت لفاطمة بنت قيس : إنما أخرجك هذا اللسان

ذكر طعن أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه على حديث فاطمة

روى عبد الله بن صالح كاتب الليث قال حدثني الليث بن سعد حدثني جعفر عن ابن هرمز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال كان محمد بن أسامة بن زيد يقول كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئا من ذلك يعني انتقالها في عدتها رماها بما في يده



[رد المطعن الأول وهو كون الراوي امرأة ]

فأما المطعن الأول وهو كون الراوي امرأة فمطعن باطل بلا شك والعلماء قاطبة على خلافه والمحتج بهذا من أتباع الأئمة أول مبطل له ومخالف له فإنهم لا يختلفون في أن السنن تؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرجل هذا وكم من سنة تلقاها الأئمة بالقبول عن امرأة واحدة من الصحابة وهذه مسانيد نساء الصحابة بأيدي الناس لا تشاء أن ترى فيها سنة تفردت بها امرأة منهن إلا رأيتها فما ذنب فاطمة بنت قيس دون نساء العالمين وقد أخذ الناس بحديث فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد في اعتداد المتوفى عنها في بيت زوجها وليست فاطمة بدونها علما وجلالة وثقة وأمانة بل هي أفقه منها بلا شك فإن فريعة لا تعرف إلا في هذا الخبر وأما شهرة فاطمة ودعاؤها من نازعها من الصحابة إلى كتاب الله ومناظرتها على ذلك فأمر مشهور وكانت أسعد بهذه المناظرة ممن خالفها كما مضى تقريره وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في الشيء فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فيأخذون به ويرجعون إليه ويتركون ما عندهم له وإنما فضلن على فاطمة بنت قيس بكونهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فهي من المهاجرات الأول وقد رضيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبه وابن حبه أسامة بن زيد وكان الذي خطبها له .

وإذا شئت أن تعرف مقدار حفظها وعلمها فاعرفه من حديث الدجال الطويل الذي حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فوعته فاطمة وحفظته وأدته كما سمعته ولم ينكره عليها أحد مع طوله وغرابته فكيف بقصة جرت لها وهي سببها وخاصمت فيها وحكم فيها بكلمتين وهي لا نفقة ولا سكنى والعادة توجب حفظ مثل هذا وذكره واحتمال النسيان فيه أمر مشترك بينها وبين من أنكر عليها فهذا عمر قد نسي تيمم الجنب وذكره عمار بن ياسر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بالتيمم من الجنابة فلم يذكره عمر رضي الله عنه وأقام على أن الجنب لا يصلي حتى يجد الماء .

ونسي قوله تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا [ النساء 20 ] حتى ذكرته به امرأة فرجع إلى قولها .

ونسي قوله إنك ميت وإنهم ميتون [ الزمر 30 ] حتى ذكر به فإن كان جواز النسيان على الراوي يوجب سقوط روايته سقطت رواية عمر التي عارضتم بها خبر فاطمة وإن كان لا يوجب سقوط روايته بطلت المعارضة بذلك فهي باطلة على التقديرين ولو ردت السنن بمثل هذا لم يبق بأيدي الأمة منها إلا اليسير ثم كيف يعارض خبر فاطمة ويطعن فيه بمثل هذا من يرى قبول خبر الواحد العدل ولا يشترط للرواية نصابا وعمر رضي الله عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في رد خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد ورد خبر المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتى شهد له محمد بن مسلمة وهذا كان تثبيتا منه رضي الله عنه حتى لا يركب الناس الصعب والذلول في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فقد قبل خبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي وقبل لعائشة رضي الله عنها عدة أخبار تفردت بها وبالجملة فلا يقول أحد : إنه لا يقبل قول الراوي الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان لا سيما إن كان من الصحابة .



فصل [ رد القول بأن رواية فاطمة مخالفة للقرآن ]
وأما المطعن الثاني : وهو أن روايتها مخالفة للقرآن فنجيب بجوابين مجمل ومفصل أما المجمل فنقول لو كانت مخالفة كما ذكرتم لكانت مخالفة لعمومه فتكون تخصيصا للعام فحكمها حكم تخصيص قوله يوصيكم الله في أولادكم [ النساء 11 ] بالكافر والرقيق والقاتل وتخصيص قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء 24 ] بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها ونظائره فإن القرآن لم يخص البائن بأنها لا تخرج ولا تخرج وبأنها تسكن من حيث يسكن زوجها بل إما أن يعمها ويعم الرجعية وإما أن يخص الرجعية .

فإن عم النوعين فالحديث مخصص لعمومه وإن خص الرجعيات وهو الصواب للسياق الذي من تدبره وتأمله قطع بأنه في الرجعيات من عدة أوجه قد أشرنا إليها فالحديث ليس مخالفا لكتاب الله بل موافق له ولو ذكر أمير المؤمنين رضي الله عنه بذلك لكان أول راجع إليه فإن الرجل كما يذهل عن النص يذهل عن دلالته وسياقه وما يقترن به مما يتبين المراد منه وكثيرا ما يذهل عن دخول الواقعة المعينة تحت النص العام واندراجه تحتها فهذا كثير جدا والتفطن له من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء من عباده ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من ذلك بالمنزلة التي لا تجهل ولا تستغرقها عبارة غير أن النسيان والذهول عرضة للإنسان وإنما الفاضل العالم من إذا ذكر ذكر ورجع .

فحديث فاطمة رضي الله عنها مع كتاب الله على ثلاثة أطباق لا يخرج عن واحد منها إما أن يكون تخصيصا لعامه .

الثاني : أن يكون بيانا لما لم يتناوله بل سكت عنه .

الثالث أن يكون بيانا لما أريد به وموافقا لما أرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه وهذا هو الصواب فهو إذن موافق له لا مخالف وهكذا ينبغي قطعا ومعاذ الله أن يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يخالف كتاب الله تعالى أو يعارضه وقد أنكر ا لإمام أحمد رحمه الله هذا من قول عمر رضي الله عنه وجعل يتبسم ويقول أين في كتاب الله إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة ثلاثا وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة وقالت بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ الطلاق 1 ] وأي أمر يحدث بعد الثلاث وقد تقدم أن قوله فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن [ الطلاق 2 ] يشهد بأن الآيات كلها في الرجعيات .



فصل [ رد مطعن أن خروجها كان لفحش لسانها ]
وأما المطعن الثالث وهو أن خروجها لم يكن إلا لفحش من لسانها فما أبرده من تأويل وأسمجه فإن المرأة من خيار الصحابة رضي الله عنهم وفضلائهم ومن المهاجرات الأول وممن لا يحملها رقة الدين وقلة التقوى على فحش يوجب إخراجها من دارها وأن يمنع حقها الذي جعله الله لها ونهى عن إضاعته فيا عجبا كيف لم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفحش ؟ ويقول لها : اتقي الله وكفي لسانك عن أذى أهل زوجك واستقري في مسكنك ؟ وكيف يعدل عن هذا إلى قوله لا نفقة لك ولا سكنى إلى قوله إنما السكنى والنفقة للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة فيا عجبا كيف يترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبي صلى الله عليه وسلم ويعلل بأمر موهوم لم يعلل به رسول الله صلى الله عليه وسلم البتة ولا أشار إليه ولا نبه عليه ؟ هذا من المحال البين .

ثم لو كانت فاحشة اللسان وقد أعاذها الله من ذلك لقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وسمعت وأطاعت كفي لسانك حتى تنقضي عدتك وكان من دونها يسمع ويطيع لئلا تخرج من سكنه .




فصل [ رد مطعن معارضة روايتها برواية عمر ]
وأما المطعن الرابع وهو معارضة روايتها برواية عمر رضي الله عنه فهذه المعارضة تورد من وجهين .

أحدهما : قوله لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا وأن هذا من حكم المرفوع .

الثاني : قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها السكنى والنفقة ونحن نقول قد أعاذ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل الذي لا يصح عنه أبدا .

قال الإمام أحمد : لا يصح ذلك عن عمر . وقال أبو الحسن الدارقطني : بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا ومن له إلمام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد شهادة الله أنه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة وعمر كان أتقى لله وأحرص على تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه السنة عنده ثم لا يرويها أصلا ولا يبينها ولا يبلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما حديث حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها السكنى والنفقة فنحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أن هذا كذب على عمر رضي الله عنه وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرط الانتصار للمذاهب والتعصب لها على معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة بالكذب البحت فلو يكون هذا عند عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لخرست فاطمة وذووها ولم ينبسوا بكلمة ولا دعت فاطمة إلى المناظرة ولا احتيج إلى ذكر إخراجها لبذاء لسانها ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام المنتصرين للسنن فقط لا لمذهب ولا لرجل هذا قبل أن نصل به إلى إبراهيم ولو قدر وصولنا بالحديث إلى إبراهيم لا نقطع نخاعه فإن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الله عنه وحسنا به الظن كان قد روى له قول عمر رضي الله عنه بالمعنى وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة حتى قال عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة فقد يكون الرجل صالحا ويكون مغفلا ليس تحمل الحديث وحفظه وروايته من شأنه وبالله التوفيق .



[ مناظرة ميمون لابن المسيب في حديث فاطمة ]
[ ذكر المصنف بعض الأحكام المستنبطة من حديث فاطمة ]

وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيب فذكر له ميمون خبر فاطمة فقال سعيد تلك امرأة فتنت الناس فقال له ميمون لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتنت الناس وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة مع أنها أحرم الناس عليه ليس لها عليه رجعة ولا بينهما ميراث .

انتهى . ولا يعلم أحد من الفقهاء رحمهم الله إلا وقد احتج بحديث فاطمة بنت قيس هذا وأخذ به في بعض الأحكام كمالك والشافعي .

وجمهور الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلا والشافعي نفسه احتج به على جواز جمع الثلاث لأن في بعض ألفاظه فطلقني ثلاثا وقد بينا أنه إنما طلقها آخر ثلاث كما أخبرت به عن نفسها .

واحتج به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال واحتج به الأئمة كلهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوجه أو يعامله أو يسافر معه وأن ذلك ليس بغيبة واحتجوا به على جواز نكاح القرشية من غير القرشي واحتجوا به على وقوع الطلاق في حال غيبة أحد الزوجين عن الآخر وأنه لا يشترط حضوره ومواجهته به واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن وكانت هذه الأحكام كلها حاصلة ببركة روايتها وصدق حديثها فاستنبطتها الأمة منها وعملت بها فما بال روايتها ترد في حكم واحد من أحكام هذا الحديث وتقبل فيما عداه ؟ فإن كانت حفظته قبلت في جميعه وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شيء من أحكامه وبالله التوفيق .

[ معنى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ]

فإن قيل بقي عليكم شيء واحد وهو أن قوله سبحانه أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم [ الطلاق 6 ] إنما هو في البوائن لا في الرجعيات بدليل قوله عقيبه ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن [ الطلاق 6 ] فهذا في البائن إذ لو كانت رجعية لما قيد النفقة عليها بالحمل ولكان عديم التأثير فإنها تستحقها حائلا كانت أو حاملا والظاهر أن الضمير في أسكنوهن هو والضمير في قوله وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن واحد .

فالجواب أن مورد هذا السؤال إما أن يكون من الموجبين النفقة والسكنى أو ممن يوجب السكنى دون النفقة فإن كان الأول فالآية على زعمه حجة عليه لأنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حوامل والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه فدل على أن البائن الحائل لا نفقة لها .

فإن قيل فهذه دلالة على المفهوم ولا يقول بها . قيل ليس ذلك من دلالة المفهوم بل من انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه فلو بقي الحكم بعد انتفائه لم يكن شرطا وإن كان فمن يوجب السكنى وحدها .

فيقال له ليس في الآية ضمير واحد يخص البائن بل ضمائرها نوعان نوع يخص الرجعية قطعا كقوله فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق 2 ] ونوع يحتمل أن يكون للبائن وأن يكون للرجعية وأن يكون لهما وهو قوله لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وقوله أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم [ الطلاق 6 ] فحمله على الرجعية هو المتعين لتتحد الضمائر ومفسرها فلو حمل على غيرها لزم اختلاف الضمائر ومفسرها وهو خلاف الأصل والحمل على الأصل أولى .

فإن قيل فما الفائدة في تخصيص نفقة الرجعية بكونها حاملا ؟

قيل ليس في الآية ما يقتضي أنه لا نفقة للرجعية الحائل بل الرجعية نوعان قد بين الله حكمهما في كتابه حائل فلها النفقة بعقد الزوجية إذ حكمها حكم الأزواج أو حامل فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها فتصير النفقة بعد الوضع نفقة قريب لا نفقة زوج فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده فإن الزوج ينفق عليها وحده إذا كانت حاملا فإذا وضعت صارت نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل ولا يكون حالها في حال حملها كذلك بحيث تجب نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل فإنه في حال حملها جزء من أجزائها فإذا انفصل كان له حكم آخر وانتقلت النفقة من حكم إلى حكم فظهرت فائدة التقييد وسر الاشتراط والله أعلم بما أراد من كلامه .

فإن قيل فهذه دلالة على المفهوم ولا يقول بها .

قيل ليس ذلك من دلالة المفهوم بل من انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه فلو بقي الحكم بعد انتفائه لم يكن شرطا وإن كان فمن يوجب السكنى وحدها فيقال له ليس في الآية ضمير واحد يخص البائن بل ضمائرها نوعان نوع يخص الرجعية قطعا كقوله فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق 2 ] ونوع يحتمل أن يكون للبائن وأن يكون للرجعية وأن يكون لهما وهو قوله لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وقوله أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم [ الطلاق 6 ] فحمله على الرجعية هو المتعين لتتحد الضمائر ومفسرها فلو حمل على غيرها لزم اختلاف الضمائر ومفسرها وهو خلاف الأصل والحمل على الأصل أولى .

فإن قيل فما الفائدة في تخصيص نفقة الرجعية بكونها حاملا ؟

قيل ليس في الآية ما يقتضي أنه لا نفقة للرجعية الحائل بل الرجعية نوعان قد بين الله حكمهما في كتابه حائل فلها النفقة بعقد الزوجية إذ حكمها حكم الأزواج أو حامل فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها فتصير النفقة بعد الوضع نفقة قريب لا نفقة زوج فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده فإن الزوج ينفق عليها وحده إذا كانت حاملا فإذا وضعت صارت نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل ولا يكون حالها في حال حملها كذلك بحيث تجب نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل فإنه في حال حملها جزء من أجزائها فإذا انفصل كان له حكم آخر وانتقلت النفقة من حكم إلى حكم فظهرت فائدة التقييد وسر الاشتراط والله أعلم بما أراد من كلامه .



ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الموافق لكتاب الله تعالى من وجوب النفقة للأقارب
روى أبو داود في سننه عن كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أبر ؟ قال أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة وروى النسائي عن طارق المحاربي قال

قدمت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول يد المعطي العليا ، وابدأ بمن تعول : أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك فأدناك وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال أمك ، قال ثم من ؟ قال أمك ، قال ثم من ؟ قال أمك قال ثم من ؟ قال أبوك ثم أدناك أدناك .

وفي الترمذي عن معاوية القشيري رضي الله عنه قال قلت : يا رسول الله من أبر ؟ قال أمك ، قلت ثم من ؟ قال أمك ، قلت : ثم من ؟ قال أمك قلت : ثم من ؟ قال أباك ثم الأقرب فالأقرب .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف .

وفي " سنن أبي داود " من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا .

ورواه أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا . وروى النسائي من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك فهكذا وهكذا .

وهذا كله تفسير قوله تعالى : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى [ النساء 36 ] وقوله تعالى : وآت ذا القربى حقه [ الإسراء : 26 ] فجعل سبحانه حق ذي القربى يلي حق الوالدين كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء وأخبر سبحانه أن لذي القربى حقا على قرابته وأمر بإتيانه إياه فإن لم يكن ذلك حق النفقة فلا ندري أي حق هو . وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القربى .

ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعا وعريا وهو قادر على سد خلته وستر عورته ولا يطعمه لقمة ولا يستر له عورة إلا بأن يقرضه ذلك في ذمته وهذا الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم مطابق لكتاب الله تعالى حيث يقول والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك [ البقرة 233 ] فأوجب سبحانه وتعالى على الوارث مثل ما أوجب على المولود له وبمثل هذا الحكم حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فروى سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه حبس عصبة صبي على أن ينفقوا عليه الرجال دون النساء

وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن شعيب أن ابن المسيب أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة فقالوا : لا مال له فقال ولو وقوفهم بالنفقة عليه كهيئة العقل

قال ابن المديني : قوله ولو أي ولو لم يكن له مال . وذكر ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن حجاج عن عمرو عن سعيد بن المسيب قال جاء ولي يتيم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أنفق عليه ثم قال لو لم أجد إلا أقضي عشيرته لفرضت عليهم وحكم بمثل ذلك أيضا زيد بن ثابت .

قال ابن أبي شيبة : حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن حسن عن مطرف عن إسماعيل عن الحسن عن زيد بن ثابت قال إذا كان أم وعم فعلى الأم بقدر ميراثها وعلى العم بقدر ميراثه ولا يعرف لعمر وزيد مخالف في الصحابة البتة .

وقال ابن جريج قلت لعطاء : وعلى الوارث مثل ذلك [ البقرة 233 ] قال على ورثة اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه . قلت له أيحبس وارث المولود إن لم يكن للمولود مال ؟ قال أفيدعه يموت ؟

وقال الحسن : وعلى الوارث مثل ذلك قال على الرجل الذي يرث أن ينفق عليه حتى يستغني .

وبهذا فسر الآية جمهور السلف منهم قتادة ومجاهد والضحاك وزيد بن أسلم وشريح القاضي وقبيصة بن ذؤيب وعبد الله بن عتبة بن مسعود وإبراهيم النخعي والشعبي وأصحاب ابن مسعود ومن بعدهم سفيان الثوري وعبد الرزاق وأبو حنيفة وأصحابه ومن بعدهم أحمد وإسحاق وداود وأصحابهم .



[ اختلاف الفقهاء في النفقة للأقارب ]
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال . أحدها : أنه لا يجبر أحد على نفقة أحد من أقاربه وإنما ذلك بر وصلة وهذا مذهب يعزى إلى الشعبي . قال عبد بن حميد الكشي حدثنا قبيصة عن سفيان الثوري عن أشعث عن الشعبي قال ما ر أيت أحدا أجبر أحدا على أحد يعني على نفقته .

وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلام نظر والشعبي أفقه من هذا والظاهر أنه أراد أن الناس كانوا أتقى لله من أن يحتاج الغني أن يجبره الحاكم على الإنفاق على قريبه المحتاج فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو إجباره . المذهب الثاني : أنه يجب عليه النفقة على أبيه الأدنى وأمه التي ولدته خاصة فهذان الأبوان يجبر الذكر والأنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين فأما نفقة الأولاد فالرجل يجبر على نفقة ابنه الأدنى حتى يبلغ فقط وعلى نفقة بنته الدنيا حتى تزوج ولا يجبر على نفقة ابن ابنه ولا بنت ابنه وإن سفلا ولا تجبر الأم على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة والأم في غاية الغنى ولا تجب على أحد النفقة على ابن ابن ولا جد ولا أخ ولا أخت ولا عم ولا عمة ولا خال ولا خالة ولا أحد من الأقارب البتة سوى ما ذكرنا .

وتجب النفقة مع اتحاد الدين واختلافه حيث وجبت وهذا مذهب مالك وهو أضيق المذاهب في النفقات .

المذهب الثالث أنه تجب نفقة عمودي النسب خاصة دون من عداهم مع اتفاق الدين ويسار المنفق وقدرته وحاجة المنفق عليه وعجزه عن الكسب بصغر أو جنون أو زمانة إن كان من العمود الأسفل .

وإن كان من العمود الأعلى : فهل يشترط عجزهم عن الكسب ؟ على قولين . ومنهم من طرد القولين أيضا في العمود الأسفل . فإذا بلغ الولد صحيحا سقطت نفقته ذكرا كان أو أنثى وهذا مذهب الشافعي وهو أوسع من مذهب مالك .

المذهب الرابع أن النفقة تجب على كل ذي رحم محرم لذي رحمه فإن كان من الأولاد وأولادهم أو الآباء والأجداد وجبت نفقتهم مع اتحاد الدين واختلافه .

وإن كان من غيرهم لم تجب إلا مع اتحاد الدين فلا يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر ثم إنما تجب النفقة بشرط قدرة المنفق وحاجة المنفق عليه .

فإن كان صغيرا اعتبر فقره فقط وإن كان كبيرا فإن كان أنثى فكذلك وإن كان ذكرا فلا بد مع فقره من عماه أو زمانته فإن كان صحيحا بصيرا لم تجب نفقته وهي مرتبة عنده على الميراث إلا في نفقة الولد فإنها على أبيه خاصة على المشهور من مذهبه .

وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طردا للقياس وهذا مذهب أبي حنيفة وهو أوسع من مذهب الشافعي المذهب الخامس أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبت نفقته مطلقا سواء كان وارثا أو غير وارث وهل يشترط اتحاد الدين بينهم ؟

على روايتين وعنه رواية أخرى : أنه لا تجب نفقتهم إلا بشرط أن يرثهم بفرض أو تعصيب كسائر الأقارب .

وإن كان من غير عمودي النسب وجبت نفقتهم بشرط أن يكون بينه وبينهم توارث .

ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبين أو يكفي أن يكون من أحدهما ؟ على روايتين . وهل يشترط ثبوت التوارث في الحال أو أن يكون من أهل الميراث في الجملة ؟

على روايتين فإن كان الأقارب من ذوي الأرحام الذين لا يرثون فلا نفقة لهم على المنصوص عنه وخرج بعض أصحابه وجوبها عليهم من مذهبه من توارثهم ولا بد عنده من اتحاد الدين بين المنفق والمنفق عليه حيث وجبت النفقة إلا في عمودي النسب في إحدى الروايتين .

فإن كان الميراث بغير القرابة كالولاء وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث دون الموروث وإذا لزمته نفقة رجل لزمته نفقة زوجته في ظاهر مذهبه . وعنه لا تلزمه . وعنه تلزمه في عمودي النسب خاصة دون من عداهم . وعنه تلزمه لزوجة الأب خاصة ويلزمه إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تسر إذا طلبوا ذلك .

قال القاضي أبو يعلى وكذلك يجيء في كل من لزمته نفقته أخ أو عم أو غيرهما يلزمه إعفافه لأن أحمد رحمه الله قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك وإلا بيع عليه وإذا لزمه إعفاف رجل لزمه نفقة زوجته لأنه لا تمكن من الإعفاف إلا بذلك وهذه غير المسألة المتقدمة وهو وجوب الإنفاق على زوجة المنفق عليه ولهذه مأخذ ولتلك مأخذ وهذا مذهب الإمام أحمد وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة وإن كان مذهب أبي حنيفة أوسع منه من وجه آخر حيث يوجب النفقة على ذوي الأرحام وهو الصحيح في الدليل وهو الذي تقتضيه أصول أحمد ونصوصه وقواعد الشرع وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل وحرم الجنة على كل قاطع رحم فالنفقة تستحق بشيئين بالميراث بكتاب الله وبالرحم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد تقدم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حبس عصبة صبي أن ينفقوا عليه وكانوا بني عمه وتقدم قول زيد بن ثابت إذا كان عم وأم فعلى العم بقدر ميراثه وعلى الأم بقدر ميراثها فإنه لا مخالف لهما في الصحابة البتة وهو قول جمهور السلف وعليه يدل قوله تعالى : وآت ذا القربى حقه [ الإسراء 26 ] وقوله تعالى : وبالوالدين إحسانا وبذي القربى [ النساء 36 ] وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم العطية للأقارب وصرح بأنسابهم فقال وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك حق واجب ورحم موصولة . فإن قيل فالمراد بذلك البر والصلة دون الوجوب .

قيل يرد هذا أنه سبحانه أمر به وسماه حقا وأضافه إليه بقوله حقه وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حق وأنه واجب وبعض هذا ينادي على الوجوب جهارا .

فإن قيل المراد بحقه ترك قطيعته . فالجواب من وجهين . أحدهما : أن يقال فأي قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى جوعا وعطشا ويتأذى غاية الأذى بالحر والبرد ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عورته ويقيه الحر والبرد ويسكنه تحت سقف يظله هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه أو عمه صنو أبيه أو خالته التي هي أمه إنما يجب عليه من ذلك ما يجب بذله للأجنبي البعيد بأن يعاوضه على ذلك في الذمة إلى أن يوسر ثم يسترجع به عليه هذا مع كونه في غاية اليسار والجدة وسعة الأموال . فإن لم تكن هذه قطيعة فإنا لا ندري ما هي القطيعة المحرمة والصلة التي أمر الله بها وحرم الجنة على قاطعها .

الوجه الثاني : أن يقال فما هذه الصلة الواجبة التي نادت عليها النصوص وبالغت في إيجابها وذمت قاطعها ؟ فأي قدر زائد فيها على حق الأجنبي حتى تعقله القلوب وتخبر به الألسنة وتعمل به الجوارح ؟ أهو السلام عليه إذا لقيه وعيادته إذا مرض وتشميته إذا عطس وإجابته إذا دعاه وإنكم لا توجبون شيئا من ذلك إلا ما يجب نظيره للأجنبي على الأجنبي ؟

وإن كانت هذه الصلة ترك ضربه وسبه وأذاه والإزراء به ونحو ذلك فهذا حق يجب لكل مسلم على كل مسلم بل للذمي البعيد على المسلم فما خصوصية صلة الرحم الواجبة ؟

ولهذا كان بعض فضلاء المتأخرين يقول أعياني أن أعرف صلة الرحم الواجبة . ولما أورد الناس هذا على أصحاب مالك وقالوا لهم ما معنى صلة الرحم عندكم ؟ صنف بعضهم في صلة الرحم كتابا كبيرا وأوعب فيه من الآثار المرفوعة والموقوفة وذكر جنس الصلة وأنواعها وأقسامها ومع هذا فلم يتخلص من هذا الإلزام فإن الصلة معروفة يعرفها الخاص والعام والآثار فيها أشهر من العلم ولكن ما الصلة التي تختص بها الرحم وتجب له الرحمة ولا يشاركه فيها الأجنبي ؟ فلا يمكنكم أن تعينوا وجوب شيء إلا وكانت النفقة أوجب منه ولا يمكنكم أن تذكروا مسقطا لوجوب النفقة إلا وكان ما عداها أولى بالسقوط منه والنبي صلى الله عليه وسلم قد قرن حق الأخ والأخت بالأب والأم فقال أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك فما الذي نسخ هذا وما الذي جعل أوله للوجوب وآخره للاستحباب ؟

وإذا عرف هذا فليس من بر الوالدين أن يدع الرجل أباه يكنس الكنف ويكاري على الحمر ويوقد في أتون الحمام ويحمل للناس على رأسه ما يتقوت بأجرته وهو في غاية الغنى واليسار وسعة ذات اليد وليس من بر أمه أن يدعها تخدم الناس وتغسل ثيابهم وتسقي لهم الماء ونحو ذلك ولا يصونها بما ينفقه عليها ويقول الأبوان مكتسبان صحيحان وليسا بزمنين ولا أعميين فيا الله العجب أين شرط الله ورسوله في بر الوالدين وصلة الرحم أن يكون أحدهم زمنا أو أعمى وليست صلة الرحم ولا بر الوالدين موقوفة على ذلك شرعا ولا لغة ولا عرفا وبالله التوفيق .



ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرضاعة وما يحرم بها وما لا يحرم وحكمه في القدر المحرم منها وحكمه في إرضاع الكبير هل له تأثير أم لا ؟
ثبت في " الصحيحين " : من حديث عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة .

وثبت فيهما : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة فقال " إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم .

وثبت فيهما : أنه قال لعائشة رضي الله عنهما : ائذني لأفلح أخي أبي القعيس فإنه عمك " وكانت امرأته أرضعت عائشة رضي الله عنها .

وبهذا أجاب ابن عباس لما سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما : أيحل للغلام أن يتزوج الجارية ؟ قال لا اللقاح واحد . وثبت في " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تحرم المصة والمصتان .

وفي رواية لا تحرم الإملاجة والإملاجتان . وفي لفظ له أن رجلا قال يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة ؟ قال لا .

وثبت في " صحيحه " أيضا : عن عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .

وثبت في " الصحيحين " : من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الرضاعة من المجاعة . وثبت في " جامع الترمذي " : من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام

" وقال الترمذي حديث صحيح . وفي " سنن الدارقطني " بإسناد صحيح عن ابن عباس يرفعه لا رضاع إلا ما كان في الحولين . وفي " سنن أبي داود " : من حديث ابن مسعود يرفعه لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشر العظم .

وثبت في " صحيح مسلم " : عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه تحرمي عليه .

وفي رواية له عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه فقالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قد علمت أنه كبير .

وفي لفظ لمسلم أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لعائشة رضي الله عنها : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة رضي الله عنها : أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ إن امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضعيه حتى يدخل عليك .

وساقه أبو داود في " سننه " سياقة تامة مطولة فرواه من حديث الزهري عن عروة عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه هندا بنت الوليد بن عتبة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه حتى أنزل الله تعالى في ذلك ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم [ الأحزاب 5 ] فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا وقد أنزل الله تعالى فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرضعيه " فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة رضي الله عنها أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن

عليهن أحدا بتلك الرضاعة من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس . فتضمنت هذه السنن الثابتة أحكاما عديدة بعضها متفق عليه بين الأمة وفي بعضها نزاع .



[ الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ]
الحكم الأول قوله صلى الله عليه وسلم الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة وهذا الحكم متفق عليه بين الأمة حتى عند من قال إن الزيادة على النص نسخ والقرآن لا ينسخ بالسنة فإنه اضطر إلى قبول هذا الحكم وإن كان زائدا على ما في القرآن سواء سماه نسخا أو لم يسمه كما اضطر إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها مع أنه زيادة على نص القرآن وذكرها هذا مع حديث أبي القعيس في تحريم لبن الفحل على أن المرضعة والزوج صاحب اللبن قد صارا أبوين للطفل وصار الطفل ولدا لهما فانتشرت الحرمة من هذه الجهات الثلاث فأولاد الطفل وإن نزلوا أولاد ولدهما وأولاد كل واحد من المرضعة والزوج من الآخر ومن غيره إخوته وأخواته من الجهات الثلاث .

فأولاد أحدهما من الآخر إخوته وأخواته لأبيه وأمه وأولاد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه وأولاد المرضعة من غيره إخوته وأخواته لأمه وصار آباؤها أجداده وجداته وصار إخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته وإخوة صاحب اللبن وأخواته أعمامه وعماته فحرمة الرضاع تنتشر من هذه الجهات الثلاث فقط .

ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته فيباح لأخيه نكاح من أرضعت أخاه وبناتها وأمهاتها ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه وكذلك لا ينتشر إلى من فوقه من آبائه وأمهاته ومن في درجته من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته فلأبي المرتضع من النسب وأجداده أن ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأمهاتها وأخواتها وبناتها وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته إذ نظير هذا من النسب حلال فللأخ من الأب أن يتزوج أخت أخيه من الأم وللأخ من الأم أن ينكح أخت أخيه من الأب وكذلك ينكح الرجل أم ابنه من النسب وأختها وأما أمها وبنتها فإنما حرمتا بالمصاهرة .



[ هل يحرم نظير المصاهرة بالرضاع ]
وهل يحرم نظير المصاهرة بالرضاع فيحرم عليه أم امرأته من الرضاع وبنتها من الرضاعة وامرأة ابنه من الرضاعة أو يحرم الجمع بين الأختين من الرضاعة أو بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها من الرضاعة ؟

فحرمه الأئمة الأربعة وأتباعهم وتوقف فيه شيخنا وقال إن كان قد قال أحد بعدم التحريم فهو أقوى . قال المحرمون تحريم هذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

فأجرى الرضاعة مجرى النسب وشبهها به فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة فإذا حرمت امرأة الأب والابن وأم المرأة وابنتها من النسب حرمن بالرضاعة .

وإذا حرم الجمع بين أختي النسب حرم بين أختي الرضاعة هذا تقدير احتجاجهم على التحريم . قال شيخ الإسلام الله سبحانه حرم سبعا بالنسب وسبعا بالصهر كذا قال ابن عباس . قال ومعلوم أن تحريم الرضاعة لا يسمى صهرا وإنما يحرم منه ما يحرم من النسب والنبي صلى الله عليه وسلم قال يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة وفي رواية ما يحرم من النسب ولم يقل وما يحرم بالمصاهرة ولا ذكره الله سبحانه في كتابه كما ذكر تحريم الصهر ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع كما ذكره في النسب والصهر قسيم النسب وشقيقه قال الله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا [ الفرقان : 54 ] فالعلاقة بين الناس بالنسب والصهر وهما سببا التحريم والرضاع فرع على النسب ولا تعقل المصاهرة إلا بين الأنساب والله تعالى إنما حرم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة .

ومعلوم أن الأختين من الرضاع ليس بينهما رحم محرمة في غير النكاح ولا ترتب على ما بينهما من أخوة الرضاع حكم قط غير تحريم أحدهما على الآخر فلا يعتق عليه بالملك ولا يرثه ولا يستحق النفقة عليه ولا يثبت له عليه ولاية النكاح ولا الموت ولا يعقل عنه ولا يدخل في الوصية والوقف على أقاربه وذوي رحمه ولا يحرم التفريق بين الأم وولدها الصغير من الرضاعة ويحرم من النسب والتفريق بينهما في الملك كالجمع بينهما في النكاح سواء ولو ملك شيئا من المحرمات بالرضاع لم يعتق عليه بالملك وإذا حرمت على الرجل أمه وبنته وأخته وعمته وخالته من الرضاعة لم يلزم أن يحرم عليه أم امرأته التي أرضعت امرأته فإنه لا نسب بينه وبينها ولا مصاهرة ولا رضاع والرضاعة إذا جعلت كالنسب في حكم لا يلزم أن تكون مثله في كل حكم بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعاف ما اجتمعا فيه منها وقد ثبت جواز الجمع بين اللتين بينهما مصاهرة محرمة كما جمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته من غيرها . وإن كان بينهما تحريم يمنع جواز نكاح أحدها للآخر لو كان ذكرا فهذا نظير الأختين من الرضاعة سواء لأن سبب تحريم النكاح بينهما في أنفسهما ليس بينهما وبين الأجنبي منهما الذي لا رضاع بينه وبينهما ولا صهر وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم .

واحتج أحمد بأن عبد الله بن جعفر جمع بين امرأة علي وابنته ولم ينكر ذلك أحد قال البخاري : وجمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة وجمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته وقال ابن شبرمة لا بأس به وكرهه الحسن مرة ثم قال لا بأس به . وكرهه جابر بن زيد للقطيعة وليس فيه تحريم لقوله عز وجل وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء 24 ] هذا كلام البخاري .

وبالجملة فثبوت أحكام النسب من وجه لا يستلزم ثبوتها من كل وجه أو من وجه آخر فهؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين في التحريم والحرمة فقط لا في المحرمية فليس لأحد أن يخلو بهن ولا ينظر إليهن بل قد أمرهن الله بالاحتجاب عمن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن ومن بينهن وبينه رضاع فقال تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب [ الأحزاب 53 ] ثم هذا الحكم لا يتعدى إلى أقاربهن البتة فليس بناتهن أخوات المؤمنين يحرمن على رجالهم ولا بنوهن إخوة لهم يحرم عليهن بناتهن ولا أخواتهن وأخواتهن خالات وأخوالا بل هن حلال للمسلمين باتفاق المسلمين وقد كانت أم الفضل أخت ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت العباس وكانت أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة رضي الله عنها تحت الزبير وكانت أم عائشة رضي الله عنها تحت أبي بكر وأم حفصة تحت عمر رضي الله عنه وليس لرجل أن يتزوج أمه

وقد تزوج عبد الله بن عمر وإخوته وأولاد أبي بكر وأولاد أبي سفيان من المؤمنات ولو كانوا أخوالا لهن لم يجز أن ينكحوهن فلم تنتشر الحرمة من أمهات المؤمنين إلى أقاربهن وإلا لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الأمة وبينهن ثبوت غيره من الأحكام .

ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في المحرمات وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم [ النساء 23 ] .

ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع فكيف إذا قيد بكونه ابن صلب وقصد إخراج ابن التبني بهذا لا يمنع إخراج ابن الرضاع ويوجب دخوله وقد ثبت في " الصحيح " : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة ليصير محرما لها فأرضعته بلبن أبي حذيفة زوجها وصار ابنها ومحرمها بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان هذا الحكم مختصا بسالم أو عاما كما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فبقي سالم محرما لها لكونها أرضعته وصارت أمه ولم يصر محرما لها لكونها امرأة أبيه من الرضاعة فإن هذا لا تأثير فيه لرضاعة سهلة له بل لو أرضعته جارية له أو امرأة أخرى صارت سهلة امرأة أبيه وإنما التأثير لكونه ولدها نفسها وقد علل بهذا في الحديث نفسه ولفظه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه فأرضعته خمس رضعات وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة ولا يمكن دعوى الإجماع في هذه المسألة ومن ادعاه فهو كاذب فإن سعيد بن المسيب وأبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبا قلابة لم يكونوا يثبتون التحريم بلبن الفحل وهو مروي عن الزبير وجماعة من الصحابة كما سيأتي إن شاء الله تعالى وكانوا يرون أن التحريم إنما هو من قبل الأمهات فقط فهؤلاء إذا لم يجعلوا المرتضع من لبن الفحل ولدا له فأن لا يحرموا عليه امرأته ولا على الرضيع امرأة الفحل بطريق الأولى فعلى قول هؤلاء فلا يحرم على المرأة أبو زوجها من الرضاعة ولا ابنه من الرضاعة .

فإن قيل هؤلاء لم يثبتوا البنوة بين المرتضع وبين الفحل فلم تثبت المصاهرة لأنها فرع ثبوت بنوة الرضاع فإذا لم تثبت له لم يثبت فرعها وأما من أثبت بنوة الرضاع من جهة الفحل كما دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وقال به جمهور أهل الإسلام فإنه تثبت المصاهرة بهذه البنوة فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل إن زوجة أبيه وابنه من الرضاعة لا تحرم ؟

قيل المقصود أن في تحريم هذه نزاعا وأنه ليس مجمعا عليه وبقي النظر في مأخذه هل هو إلغاء لبن الفحل وأنه لا تأثير له أو إلغاء المصاهرة من جهة الرضاع وأنه لا تأثير لها وإنما التأثير لمصاهرة النسب ؟

ولا شك أن المأخذ الأول باطل لثبوت السنة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل وقد بينا أنه لا يلزم من القول بالتحريم به إثبات المصاهرة به إلا بالقياس وقد تقدم أن الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعاف الجامع وأنه لا يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب ثبوت حكم آخر .

ويدل على هذا أيضا أنه سبحانه لم يجعل أم الرضاع وأخت الرضاعة داخلة تحت أمهاتنا وأخواتنا فإنه سبحانه قال حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم [ النساء 23 ] ثم قال وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء 23 ] فدل على أن لفظ أمهاتنا عند الإطلاق إنما يراد به الأم من النسب وإذا ثبت هذا فقوله تعالى : وأمهات نسائكم مثل قوله وأمهاتكم إنما هن أمهات نسائنا من النسب فلا يتناول أمهاتهن من الرضاعة ولو أريد تحريمهن لقال وأمهاتهن اللاتي أرضعنهن كما ذكر ذلك في أمهاتنا وقد بينا أن قوله يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب إنما يدل على أن من حرم على الرجل من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة ولا يدل على أن من حرم عليه بالصهر أو بالجمع حرم عليه نظيره من الرضاعة بل يدل مفهومه على خلاف ذلك مع عموم قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء 24



[ من جوز من السلف نكاح بنات الزوجة إذا لم تكن في حجره ]
ومما يدل على أن تحريم امرأة أبيه وابنه من الرضاعة ليس مسألة إجماع أنه قد ثبت عن جماعة من السلف جواز نكاح بنت امرأته إذا لم تكن في حجره كما صح عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري قال كانت عندي امرأة وقد ولدت لي فتوفيت فوجدت عليها فلقيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لي : ما لك ؟ قلت توفيت المرأة قال لها ابنة ؟ قلت : نعم قال كانت في حجرك ؟ قلت : لا هي في الطائف . قال فانكحها قلت : فأين قوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم ؟ [ النساء 23 ] . قال إنها لم تكن في حجرك وإنما ذلك إذا كانت في حجرك




وصح عن إبراهيم بن ميسرة أن رجلا من بني سواءة يقال له عبيد الله بن معبد أثنى عليه خيرا أخبره أن أباه أو جده كان قد نكح امرأة ذات ولد من غيره ثم اصطحبا ما شاء الله ثم نكح امرأة شابة فقال أحد بني الأولى قد نكحت على أمنا وكبرت واستغنيت عنها بامرأة شابة فطلقها قال لا والله إلا أن تنكحني ابنتك قال فطلقها وأنكحه ابنته ولم تكن في حجره هي ولا أبوها . قال فجئت سفيان بن عبد الله فقلت : استفت لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه . قال لتحجن معي فأدخلني على عمر رضي الله عنه بمنى فقصصت عليه الخبر فقال عمر لا بأس بذلك فاذهب فسل فلانا ثم تعال فأخبرني . قال ولا أراه إلا عليا قال فسألته فقال لا بأس بذلك وهذا مذهب أهل الظاهر .

فإذا كان عمر وعلي رضي الله عنهما ومن يقول بقولهما قد أباحا الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج مع أنها ابنة امرأته من النسب فكيف يحرمان عليه ابنتها من الرضاع وهذه ثلاثة قيود ذكرها الله سبحانه وتعالى في تحريمها .

أن تكون في حجره وأن تكون من امرأته وأن يكون قد دخل بأمها .

فكيف يحرم عليه مجرد ابنتها من الرضاعة وليست في حجره ولا هي ربيبته لغة فإن الربيبة بنت الزوجة والربيب ابنها باتفاق الناس وسميا ربيبا وربيبة لأن زوج أمهما يربهما في العادة وأما من أرضعتهما امرأته بغير لبنه ولم يربها قط ولا كانت في حجره فدخولها في هذا النص في غاية البعد لفظا ومعنى وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم الربيبة بكونها في الحجر .

ففي " صحيح البخاري " من حديث الزهري عن عروة أن زينب بنت أم سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت يا رسول الله أخبرت أنك تخطب بنت أبي سلمة فقال بنت أم سلمة ؟ قالت نعم فقال إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي

وهذا يدل على اعتباره صلى الله عليه وسلم القيد الذي قيده الله في التحريم وهو أن تكون في حجر الزوج .

ونظير هذا سواء أن يقال في زوجة ابن الصلب إذا كانت محرمة برضاع لو لم تكن حليلة ابني الذي لصلبي لما حلت لي سواء ولا فرق بينهما وبالله التوفيق .


فصل [ التحريم بلبن الفحل ]
الحكم الثاني : المستفاد من هذه السنة أن لبن الفحل يحرم وأن التحريم ينتشر منه كما ينتشر من المرأة وهذا هو الحق الذي لا يجوز أن يقال بغيره وإن خالف فيه من خالف من الصحابة ومن بعدهم فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع ويترك ما خالفها لأجلها ولا تترك هي لأجل قول أحد كائنا من كان .

ولو تركت السنن لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له أو لتأويلها أو غير ذلك لترك سنن كثيرة جدا وتركت الحجة إلى غيرها وقول من يجب اتباعه إلى قول من لا يجب اتباعه وقول المعصوم إلى قول غير المعصوم وهذه بلية نسأل الله العافية منها وأن لا نلقاه بها يوم القيامة .

قال الأعمش : كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسا حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس يعني : فتركوا قولهم ورجعوا عنه وهكذا يصنع أهل العلم إذا أتتهم السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا إليها وتركوا قولهم بغيرها .

قال الذين لا يحرمون بلبن الفحل إنما ذكر الله سبحانه في كتابه التحريم بالرضاعة من جهة الأم فقال وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء 23 ] واللام للعهد ترجع إلى الرضاعة المذكورة وهي رضاعة الأم وقد قال الله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء 24 ] فلو أثبتنا التحريم بالحديث لكنا قد نسخنا القرآن بالسنة وهذا - على أصل من يقول الزيادة على النص نسخ - ألزم قالوا : وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أعلم الأمة بسنته وكانوا لا يرون التحريم به فصح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمه زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه امرأة الزبير بن العوام قالت زينب وكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي ويقول أقبلي علي فحدثيني أرى أنه أبي وما ولد منه فهم إخوتي ثم إن عبد الله بن الزبير أرسل إلي يخطب أم كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير وكان حمزة للكلبية فقالت لرسوله وهل تحل له ؟ وإنما هي ابنة أخته فقال عبد الله إنما أردت بهذا المنع من قبلك . أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك وما كان من غير أسماء فليسوا لك بإخوة فأرسلي فاسألي عن هذا فأرسلت فسألت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فقالوا لها إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا فأنكحيها إياه فلم تزل عنده حتى هلك عنها . قالوا : ولم ينكر ذلك الصحابة رضي الله عنهم قالوا : ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة المرأة لا من الرجل .

قال الجمهور ليس فيما ذكرتم ما يعارض السنة الصحيحة الصريحة فلا يجوز العدول عنها . أما القرآن فإنه بين أمرين إما أن يتناول الأخت من الأب من الرضاعة فيكون دالا على تحريمها وإما أن لا يتناولها فيكون ساكتا عنها فيكون تحريم السنة لها تحريما مبتدأ ومخصصا لعموم قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء 24 ] والظاهر يتناول لفظ الأخت لها فإنه سبحانه عمم لفظ الأخوات من الرضاعة فدخل فيه كل من أطلق عليها أخته ولا يجوز أن يقال إن أخته من أبيه من الرضاعة ليست أختا له فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها : ائذني لأفلح فإنه عمك فأثبت العمومة بينها وبينه بلبن الفحل وحده فإذا ثبتت العمومة بين المرتضعة وبين أخي صاحب اللبن فثبوت الأخوة بينها وبين ابنه بطريق الأولى أو مثله .

فالسنة بينت مراد الكتاب لا أنها خالفته وغايتها أن تكون أثبتت تحريم ما سكت عنه أو تخصيص ما لم يرد عمومه .

وأما قولكم إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون التحريم بذلك فدعوى باطلة على جميع الصحابة فقد صح عن علي رضي الله عنه إثبات التحريم به وذكر البخاري في " صحيحه " أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما أيحل أن ينكحها ؟ فقال ابن عباس : لا اللقاح واحد وهذا الأثر الذي استدللتم به صريح عن الزبير أنه كان يعتقد أن زينب ابنته بتلك الرضاعة وهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تفتي : أن لبن الفحل ينشر الحرمة فلم يبق بأيديكم إلا عبد الله بن الزبير وأين يقع من هؤلاء .

وأما الذين سألتهم فأفتوها بالحل فمجهولون غير مسمين ولم يقل الراوي : فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون بل لعلها أرسلت فسألت من لم تبلغه السنة الصحيحة منهم فأفتاها بما أفتاها به عبد الله بن الزبير ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين بالمدينة بل كان معظمهم وأكابرهم بالشام والعراق ومصر .

وأما قولكم إن الرضاعة إنما هي من جهة الأم فالجواب أن يقال إنما اللبن للأب الذي ثار بوطئه والأم وعاء له وبالله التوفيق .

فإن قيل فهل تثبت أبوة صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة أو ثبوت أبوته فرع على ثبوت أمومة المرضعة ؟

قيل هذا الأصل فيه قولان للفقهاء وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي وعليه مسألة من له أربع زوجات فأرضعن طفلة كل واحدة منهن رضعتين فإنهن لا يصرن أما لها لأن كل واحدة منهن لم ترضعها خمس رضعات . وهل يصير الزوج أبا للطفلة ؟ فيه وجهان . أحدهما : لا يصير أبا كما لم تصر المرضعات أمهات والثاني وهو الأصح يصير أبا لكون الولد ارتضع من لبنه خمس رضعات ولبن الفحل أصل بنفسه غير متفرع على أمومة المرضعة فإن الأبوة إنما تثبت بحصول الارتضاع من لبنه لا لكون المرضعة أمه ولا يجيء هذا على أصلي أبي حنيفة ومالك فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرم فالزوجات الأربع أمهات للمرتضع فإذا قلنا بثبوت الأبوة وهو الصحيح حرمت المرضعات على الطفل لأنه ربيبهن وهن موطوآت أبيه فهو ابن بعلهن . وإن قلنا : لا تثبت الأبوة لم يحرمن عليه بهذا الرضاع .

وعلى هذه المسألة ما لو كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلا كل واحدة رضعة لم يصرن أمهات له . وهل يصير الرجل جدا له وأولاده الذين هم إخوة المرضعات أخوالا له وخالات ؟ على وجهين أحدهما : يصير جدا وأخوهن خالا لأنه قد كمل المرتضع خمس رضعات من لبن بناته فصار جدا كما لو كان المرتضع بنتا واحدة . وإذا صار جدا كان أولاده الذين هم إخوة البنات أخوالا وخالات لأنهن إخوة من كمل له منهن خمس رضعات فنزلوا بالنسبة إليه منزلة أم واحدة والآخر لا يصير جدا ولا أخواتهن خالات لأن كونه جدا فرع على كون ابنته أما وكون أخيها خالا فرع على كون أخته أما ولم يثبت الأصل فلا يثبت فرعه وهذا الوجه أصح في هذه المسألة بخلاف التي قبلها فإن ثبوت الأبوة فيها لا يستلزم ثبوت الأمومة على الصحيح .

والفرق بينهما : أن الفرعية متحققة في هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن فإنهن بناته واللبن ليس له فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها فإذا لم تكن أما لم يكن أبوها جدا بخلاف تلك فإن التحريم بين المرتضع وبين صاحب اللبن فسواء ثبتت أمومة المرضعة أو لا فعلى هذا إذا قلنا : يصير أخوهن خالا فهل تكون كل واحدة منهن خالة له ؟ فيه وجهان .

أحدهما : لا تكون خالة لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها خمس رضعات فلا تثبت الخؤولة .

والثاني : تثبت لأنه قد اجتمع من اللبن المحرم خمس رضعات وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتا للخؤولة ولا تثبت أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات ولا يستبعد ثبوت خؤولة بلا أمومة كما ثبت في لبن الفحل أبوة بلا أمومة وهذا ضعيف . والفرق بينهما . أن الخؤولة فرع محض على الأمومة فإذا لم يثبت الأصل فكيف يثبت فرعه ؟ بخلاف الأبوة والأمومة فإنهما أصلان لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر .

وعلى هذا مسألة ما لو كان لرجل أم وأخت وابنة وزوجة ابن فأرضعن طفلة كل واحدة منهن رضعة لم تصر واحدة منهن أمها وهل تحرم على الرجل ؟ على وجهين . أوجههما : ما تقدم . والتحريم هاهنا بعيد فإن هذا اللبن الذي كمل للطفل لا يجعل الرجل أبا له ولا جدا ولا أخا ولا خالا والله اعلم

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 03:41 AM
فصل [ تحريم المخلوقة من ماء الزاني ]
وقد دل التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة من ماء الزاني دلالة الأولى والأحرى لأنه إذا حرم عليه أن ينكح من قد تغذت بلبن ثار بوطئه فكيف يحل له أن ينكح من قد خلق من نفس مائه بوطئه ؟ وكيف يحرم الشارع بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان وطء الرجل سببا فيه ثم يبيح له نكاح من خلقت بنفس وطئه ومائه ؟ هذا من المستحيل فإن البعضية التي بينه وبين المخلوقة من مائه أكمل وأتم من البعضية التي بينه وبين من تغذت بلبنه فإن بنت الرضاع فيها جزء ما من البعضية والمخلوقة من مائه كاسمها مخلوقة من مائه فنصفها أو أكثرها بعضه قطعا والشطر الآخر للأم وهذا قول جمهور المسلمين ولا يعرف في الصحابة من أباحها ونص الإمام أحمد رحمه الله على أن من تزوجها قتل بالسيف محصنا كان أو غيره .

وإذا كانت بنته من الرضاعة بنتا في حكمين فقط الحرمة والمحرمية وتخلف سائر أحكام البنت عنها لم تخرجها عن التحريم وتوجب حلها فكذا بنته من الزنى تكون بنتا في التحريم وتخلف أحكام البنت عنها لا يوجب حلها والله سبحانه خاطب العرب بما تعقله في لغاتها ولفظ البنت لفظ لغوي لم ينقله الشارع عن موضعه الأصلي كلفظ الصلاة والإيمان ونحوهما فيحمل على موضوعه اللغوي حتى يثبت نقل الشارع له عنه إلى غيره فلفظ البنت كلفظ الأخ والعم والخال ألفاظ باقية على موضوعاتها اللغوية .

وقد ثبت في " الصحيح " أن الله تعالى أنطق ابن الراعي الزاني بقوله أبي فلان الراعي وهذا الإنطاق لا يحتمل الكذب وأجمعت الأمة على تحريم أمه عليه . وخلقه من مائها وماء الزاني خلق واحد وإثمهما فيه سواء وكونه بعضا له مثل كونه بعضا لها وانقطاع الإرث بين الزاني والبنت لا يوجب جواز نكاحها ثم من العجب كيف يحرم صاحب هذا القول أن يستمني الإنسان بيده ويقول هو نكاح ليده ويجوز للإنسان أن ينكح بعضه ثم يجوز له أن يستفرش بعضه الذي خلقه الله من مائه وأخرجه من صلبه كما يستفرش الأجنبية .



فصل [ لا تحرم المصة والمصتان من الرضاع ]
والحكم الثالث أنه لا تحرم المصة والمصتان كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحرم إلا خمس رضعات وهذا موضع اختلف فيه العلماء . فأثبتت طائفة من السلف والخلف التحريم بقليل الرضاع وكثيره وهذا يروى عن علي وابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم وحماد والأوزاعي والثوري وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وزعم الليث بن سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم وهذا رواية عن ا لإمام أحمد رحمه الله .

وقالت طائفة أخرى : لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث رضعات وهذا قول أبي ثور وأبي عبيد وابن المنذر وداود بن علي وهو رواية ثانية عن أحمد .

وقالت طائفة أخرى : لا يثبت بأقل من خمس رضعات وهذا قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاووس وهو إحدى الروايات الثلاث عن عائشة رضي الله عنها والرواية الثانية عنها : أنه لا يحرم أقل من سبع والثالثة لا يحرم أقل من عشر . والقول بالخمس مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وهو قول ابن حزم وخالف داود في هذه المسألة .

[ حجة من علق التحريم بقليل الرضاع وكثيره ]
فحجة الأولين أنه سبحانه علق التحريم باسم الرضاعة فحيث وجد اسمها وجد حكمها والنبي صلى الله عليه وسلم قال يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب وهذا موافق لإطلاق القرآن .

وثبت في " الصحيحين " عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني قال فتنحيت فذكرت ذلك له قال وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما فنهاه عنها ولم يسأل عن عدد الرضاع قالوا : ولأنه فعل يتعلق به التحريم فاستوى قليله وكثيره كالوطء الموجب له قالوا : ولأن إنشاز العظم وإنبات اللحم يحصل بقليله وكثيره . قالوا : ولأن أصحاب العدد قد اختلفت أقوالهم في الرضعة وحقيقتها واضطربت أشد الاضطراب وما كان هكذا لم يجعله الشارع نصابا لعدم ضبطه والعلم به .

[ حجة من علق التحريم بثلاث رضعات ]
قال أصحاب الثلاث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تحرم المصة والمصتان وعن أم الفضل بنت الحارث قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحرم الإملاجة والإملاجتان وفي حديث آخر أن رجلا قال يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة ؟ قال لا وهذه أحاديث صحيحة صريحة رواها مسلم في " صحيحه " فلا يجوز العدول عنها فأثبتنا التحريم بالثلاث لعموم الآية ونفينا التحريم بما دونها بصريح السنة قالوا : ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث . قالوا : ولأنها أول مراتب الجمع وقد اعتبرها الشارع في مواضع كثيرة جدا .




[ حجة من علق التحريم بخمس رضعات ]
قال أصحاب الخمس : الحجة لنا ما تقدم في أول الفصل من الأحاديث الصحيحة الصريحة وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي والأمر على ذلك قالوا : ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه قالوا : وعائشة أعلم الأمة بحكم هذه المسألة هي ونساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت عائشة رضي الله عنها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت إحدى بنات إخوتها أو أخواتها فأرضعته خمس رضعات . قالوا : ونفي التحريم بالرضعة والرضعتين صريح في عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيره وهي ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة بعضها خرج جوابا للسائل وبعضها تأسيس حكم مبتدأ . قالوا : وإذا علقنا التحريم بالخمس لم نكن قد خالفنا شيئا من النصوص التي استدللتم بها وإنما نكون قد قيدنا مطلقها بالخمس وتقييد المطلق بيان لا نسخ ولا تخصيص .

وأما من علق التحريم بالقليل والكثير فإنه يخالف أحاديث نفي التحريم بالرضعة والرضعتين وأما صاحب الثلاث فإنه وإن لم يخالفها فهو مخالف لأحاديث الخمس .

قال من لم يقيده بالخمس حديث الخمس لم تنقله عائشة رضي الله عنها نقل الأخبار فيحتج به وإنما نقلته نقل القرآن والقرآن إنما يثبت بالتواتر والأمة لم تنقل ذلك قرآنا فلا يكون قرآنا وإذا لم يكن قرآنا ولا خبرا امتنع إثبات الحكم به .

قال أصحاب الخمس الكلام فيما نقل من القرآن آحادا في فصلين أحدهما : كونه من القرآن والثاني : وجوب العمل به ولا ريب أنهما حكمان متغايران فإن الأول يوجب انعقاد الصلاة به وتحريم مسه على المحدث وقراءته على الجنب وغير ذلك من أحكام القرآن فإذا انتفت هذه الأحكام لعدم التواتر لم يلزم انتفاء العمل به فإنه يكفي فيه الظن وقد احتج كل واحد من الأئمة الأربعة به في موضع فاحتج به الشافعي وأحمد في هذا الموضع واحتج به أبو حنيفة في وجوب التتابع في صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " . واحتج به مالك والصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأم أنه السدس بقراءة أبي " وإن " كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس " فالناس كلهم احتجوا بهذه القراءة ولا مستند للإجماع سواها .

قالوا : وأما قولكم إما أن يكون نقله قرآنا أو خبرا قلنا : بل قرآنا صريحا . قولكم فكان يجب نقله متواترا قلنا : حتى إذا نسخ لفظه أو بقي أما الأول فممنوع والثاني مسلم وغاية ما في الأمر أنه قرآن نسخ لفظه وبقي حكمه فيكون له حكم قوله " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما " مما اكتفي بنقله آحادا وحكمه ثابت وهذا مما لا جواب عنه . وفي المسألة مذهبان آخران ضعيفان .




[ من حرم بسبع رضعات ]
أحدهما : أن التحريم لا يثبت بأقل من سبع كما سئل طاووس عن قول من يقول لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات فقال قد كان ذلك ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم المرة الواحدة تحرم وهذا المذهب لا دليل عليه .

[ من حرم بعشر رضعات ]
الثاني : التحريم إنما يثبت بعشر رضعات وهذا يروى عن حفصة وعائشة رضي الله عنهما .

وفيها مذهب آخر وهو الفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن قال طاووس : كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضعات محرمات ولسائر الناس رضعات معلومات ثم ترك ذلك بعد وقد تبين الصحيح من هذه الأقوال وبالله التوفيق .


افتراضي

فصل [حد الرضعة ]
فإن قيل ما هي الرضعة التي تنفصل من أختها وما حدها ؟ قيل الرضعة فعلة من الرضاع فهي مرة منه بلا شك كضربة وجلسة وأكلة فمتى التقم الثدي فامتص منه ثم تركه باختياره من غير عارض كان ذلك رضعة لأن الشرع ورد بذلك مطلقا فحمل على العرف والعرف هذا والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيرة أو لشيء يلهيه ثم يعود عن قرب لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة هذا مذهب الشافعي ولهم فيما إذا قطعت المرضعة عليه ثم أعادته وجهان .

أحدهما : أنها رضعة واحدة ولو قطعته مرارا حتى يقطع باختياره . قالوا : لأن الاعتبار بفعله لا بفعل المرضعة ولهذا لو ارتضع منها وهي نائمة حسبت رضعة فإذا قطعت عليه لم يعتد به كما لو شرع في أكلة واحدة أمره بها الطبيب فجاء شخص فقطعها عليه ثم عاد فإنها أكلة واحدة .

والوجه الثاني : أنها رضعة أخرى لأن الرضاع يصح من المرتضع ومن المرضعة ولهذا لو أوجرته وهو نائم احتسب رضعة .

ولهم فيما إذا انتقل من ثدي المرأة إلى ثدي غيرها وجهان . أحدهما : لا يعتد بواحد منهما لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة فلم تتم الرضعة من إحداهما . ولهذا لو انتقل من ثدي المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعة واحدة .

والثاني : أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة لأنه ارتضع وقطعه باختياره من شخصين . وأما مذهب الإمام أحمد رحمه الله فقال صاحب " المغني " : إذا قطع قطعا بينا باختياره كان ذلك رضعة فإن عاد كان رضعة أخرى فأما إن قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي إلى ثدي أو لشيء يلهيه أو قطعت عليه المرضعة نظرنا فإن لم يعد قريبا فهي رضعة وإن عاد في الحال ففيه وجهان أحدهما : أن الأولى رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى قال وهذا اختيار أبي بكر وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه قال أما ترى الصبي يرتضع من الثدي فإذا أدركه النفس أمسك عن الثدي ليتنفس أو ليستريح فإذا فعل ذلك فهي رضعة قال الشيخ وذلك أن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره .

والوجه الآخر أن جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة ففيه وجهان لأنه لو حلف لا أكلت اليوم إلا أكلة واحدة فاستدام الأكل زمنا أو انقطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد إلا أكلة واحدة فكذا هاهنا والأول أصح لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا .

قلت وكلام أحمد يحتمل أمرين أحدهما : ما ذكره الشيخ ويكون قوله " فهي رضعة " عائدا إلى الرضعة الثانية . الثاني : أن يكون المجموع رضعة فيكون قوله " فهي رضعة " عائدا إلى الأول والثاني وهذا أظهر محتمليه لأنه استدل بقطعه للتنفس أو الاستراحة على كونها رضعة واحدة . ومعلوم أن هذا الاستدلال أليق بكون الثانية مع الأولى واحدة من كون الثانية رضعة مستقلة فتأمله . وأما قياس الشيخ له على يسير السعوط والوجور فالفرق بينهما أن ذلك مستقل ليس تابعا لرضعة قبله ولا هو من تمامها فيقال رضعة بخلاف مسألتنا فإن الثانية تابعة للأولى وهي من تمامها فافترقا .



فصل [ زمن الرضاع المحرم ]
والحكم الرابع أن الرضاع الذي يتعلق به التحريم ما كان قبل الفطام في زمن الارتضاع المعتاد وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد : هو ما كان في الحولين ولا يحرم ما كان بعدهما وصح ذلك عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وروي عن سعيد بن المسيب والشعبي وابن شبرمة وهو قول سفيان . وإسحاق وأبي عبيد وابن حزم وابن المنذر وداود وجمهور أصحابه .

وقالت طائفة الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام ولم يحدوه بزمن صح ذلك عن أم سلمة وابن عباس وروي عن علي ولم يصح عنه وهو قول الزهري والحسن وقتادة وعكرمة والأوزاعي .

قال الأوزاعي : إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم رضع في الحولين لم يحرم هذا الرضاع شيئا فإن تمادى رضاعه ولم يفطم فما كان في الحولين فإنه يحرم . وما كان بعدهما فإنه لا يحرم وإن تمادى الرضاع .

وقالت طائفة الرضاع المحرم ما كان في الصغر ولم يوقته هؤلاء بوقت وروي هذا عن ابن عمر وابن المسيب وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا عائشة رضي الله عنها . وقال أبو حنيفة وزفر : ثلاثون شهرا وعن أبي حنيفة رواية أخرى كقول أبي يوسف ومحمد .

وقال مالك في المشهور من مذهبه يحرم في الحولين وما قاربهما ولا حرمة له بعد ذلك . ثم روي عنه اعتبار أيام يسيرة وروي عنه شهران . وروي شهر ونحوه . وروى عنه الوليد بن مسلم وغيره أن ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر فإنه عندي من الحولين وهذا هو المشهور عند كثير من أصحابه .

والذي رواه عنه أصحاب الموطأ وكان يقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه وما كان من الرضاع بعد الحولين كان قليله وكثيره لا يحرم شيئا إنما هو بمنزلة الطعام هذا لفظه .

وقال إذا فصل الصبي قبل الحولين واستغنى بالطعام عن الرضاع فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة .

وقال الحسن بن صالح وابن أبي ذئب وجماعة من أهل الكوفة : مدة الرضاع المحرم ثلاث سنين فما زاد عليها لم يحرم وقال عمر بن عبد العزيز : مدته إلى سبع سنين وكان يزيد بن هارون يحكيه عنه كالمتعجب من قوله . وروي عنه خلاف هذا وحكى عنه ربيعة أن مدته حولان واثنا عشر يوما .



[ من قال بتحريم رضاع الكبير ]
وقالت طائفة من السلف والخلف يحرم رضاع الكبير ولو أنه شيخ فروى مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاع الكبير فقال أخبرني عروة بن الزبير بحديث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم ففعلت وكانت تراه ابنا لها . قال عروة فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال .

وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج قال سمعت عطاء بن أبي رباح وسأله رجل فقال سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلا كبيرا أفأنكحها ؟ قال عطاء لا تنكحها فقلت له وذلك رأيك ؟ قال نعم كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بذلك بنات أخيها . وهذا قول ثابت عن عائشة رضي الله عنها . ويروى عن علي وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح وهو قول الليث بن سعد وأبي محمد بن حزم قال ورضاع الكبير ولو أنه شيخ يحرم كما يحرم رضاع الصغير . ولا فرق فهذه مذاهب الناس في هذه المسألة .

ولنذكر مناظرة أصحاب الحولين والقائلين برضاع الكبير فإنهما طرفان وسائر الأقوال متقاربة .



[ حجة من قال بعدم التحريم برضاع الكبير ]
قال أصحاب الحولين قال الله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [ البقرة 233 ] قالوا : فجعل تمام الرضاعة حولين فدل على أنه لا حكم لما بعدهما فلا يتعلق به التحريم . قالوا : وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصر الرضاعة المحرمة عليها . قالوا : وهذه مدة الثدي الذي قال فيها : لا رضاع إلا ما كان في الثدي أي في زمن الثدي وهذه لغة معروفة عند العرب فإن العرب يقولون فلان مات في الثدي أي في زمن الرضاع قبل الفطام ومنه الحديث المشهور إن إبراهيم مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة تتم رضاعه يعني إبراهيم ابنه صلوات الله وسلامه عليه . قالوا : وأكد ذلك بقوله لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام فهذه ثلاثة أوصاف للرضاع المحرم ومعلوم أن رضاع الشيخ الكبير عار من الثلاثة .

قالوا : وأصرح من هذا حديث ابن عباس : لا رضاع إلا ما كان في الحولين

قالوا : وأكده أيضا حديث ابن مسعود : لا يحرم من الرضاعة إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم ورضاع الكبير لا ينبت لحما ولا ينشز عظما .

قالوا : ولو كان رضاع الكبير محرما لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - وقد تغير وجهه وكره دخول أخيها من الرضاعة عليها لما رآه كبيرا : - " انظرن من إخوانكن " فلو حرم رضاع الكبير لم يكن فرق بينه وبين الصغير ولما كره ذلك وقال انظرن من إخوانكن " ثم قال " فإنما الرضاعة من المجاعة وتحت هذا من المعنى خشية أن يكون قد ارتضع في غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة فلا ينشر الحرمة فلا يكون أخا . قالوا : وأما حديث سهلة في رضاع سالم فهذا كان في أول الهجرة لأن قصته كانت عقيب نزول قوله تعالى : ادعوهم لآبائهم [ الأحزاب 5 ] وهي نزلت في أول الهجرة .

وأما أحاديث اشتراط الصغر وأن يكون في الثدي قبل الفطام فهي من رواية ابن عباس وأبي هريرة وابن عباس إنما قدم المدينة قبل الفتح وأبو هريرة إنما أسلم عام فتح خيبر بلا شك كلاهما قدم المدينة بعد قصة سالم في رضاعه من امرأة أبي حذيفة .


افتراضي

[ حجة من حرم برضاع الكبير ]
قال المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم صحة لا يمتري فيها أحد أنه أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة وكان كبيرا ذا لحية وقال أرضعيه تحرمي عليه ثم ساقوا الحديث وطرقه وألفاظه وهي صحيحة صريحة بلا شك .

ثم قالوا : فهذه الأخبار ترفع الإشكال وتبين مراد الله عز وجل في الآيات المذكورات أن الرضاعة التي تتم بتمام الحولين أو بتراضي الأبوين قبل الحولين إذا رأيا في ذلك صلاحا للرضيع إنما هي الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة والتي يجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها .

ولقد كان في الآية كفاية من هذا لأنه تعالى قال والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف [ البقرة 233 ] فأمر الله تعالى الوالدات بإرضاع المولود عامين وليس في هذا تحريم للرضاعة بعد ذلك ولا أن التحريم ينقطع بتمام الحولين وكان قوله تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء 23 ] ولم يقل في حولين ولا في وقت دون وقت زائدا على الآيات الأخر وعمومها لا يجوز تخصيصه إلا بنص يبين أنه تخصيص له لا بظن ولا محتمل لا بيان فيه وكانت هذه الآثار يعني التي فيها التحريم برضاع الكبير قد جاءت مجيء التواتر رواها نساء النبي صلى الله عليه وسلم وسهلة بنت سهيل وهي من المهاجرات وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم ورواها من التابعين القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع ورواها عن هؤلاء

الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ثم رواها عن هؤلاء

أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة ومالك وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم ثم رواها عن هؤلاء الجم الغفير والعدد الكثير فهي نقل كافة لا يختلف مؤالف ولا مخالف في صحتها فلم يبق من الاعتراض إلا قول القائل كان ذلك خاصا بسالم كما قال بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهن في ذلك فليعلم من تعلق بهذا أنه ظن ممن ظن ذلك منهن رضي الله عنهن .

هكذا في الحديث أنهن قلن ما نرى هذا إلا خاصا بسالم وما ندري لعلها كانت رخصة لسالم . فإذا هو ظن بلا شك فإن الظن لا يعارض به السنن الثابتة قال الله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ يونس 36 ] وشتان بين احتجاج أم سلمة رضي الله عنها بظنها وبين احتجاج عائشة رضي الله عنها بالسنة الثابتة ولهذا لما قالت لها عائشة أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة سكتت أم سلمة ولم تنطق بحرف وهذا إما رجوع إلى مذهب عائشة وإما انقطاع في يدها .

قالوا : وقول سهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أرضعه وهو رجل كبير ؟ بيان جلي أنه بعد نزول الآيات المذكورات .

قالوا : ونعلم يقينا أنه لو كان ذلك خاصا بسالم لقطع النبي صلى الله عليه وسلم الإلحاق ونص على أنه ليس لأحد بعده كما بين لأبي بردة بن نيار أن جذعته تجزئ عنه ولا تجزئ عن أحد بعده . .

وأين يقع ذبح جذعة أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به حل الفرج وتحريمه وثبوت المحرمية والخلوة بالمرأة والسفر بها ؟ فمعلوم قطعا أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصا .

قالوا : وقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الرضاعة من المجاعة حجة لنا لأن شرب الكبير للبن يؤثر في دفع مجاعته قطعا كما يؤثر في الصغير أو قريبا منه .

فإن قلتم فما فائدة ذكره إذا كان الكبير والصغير فيه سواء ؟ قلنا : فائدته إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن أو المصة الواحدة التي لا تغني من جوع ولا تنبت لحما ولا تنشز عظما .

قالوا : وقوله صلى الله عليه وسلم لا رضاع إلا ما كان في الحولين وكان في الثدي قبل الفطام ليس بأبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم لا ربا إلا في النسيئة وإنما الربا في النسيئة ولم يمنع ذلك ثبوت ربا الفضل بالأدلة الدالة عليه فكذا هذا .

فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه الثابتة كلها حق يجب اتباعها ولا يضرب بعضها ببعض بل تستعمل كلا منها على وجهه . قالوا : ومما يدل على ذلك أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأفقه نساء الأمة هي التي روت هذا وهذا فهي التي روت إنما الرضاعة من المجاعة وروت حديث سهلة وأخذت به فلو كان عندها حديث إنما الرضاعة من المجاعة مخالفا لحديث سهلة لما ذهبت إليه وتركت حديثا واجهها به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه وكره الرجل الذي رآه عندها وقالت هو أخي .

قالوا : وقد صح عنها أنها كانت تدخل عليها الكبير إذا أرضعته في حال كبره أخت من أخواتها الرضاع المحرم ونحن نشهد بشهادة الله ونقطع قطعا نلقاه به يوم القيامة أن أم المؤمنين لم تكن لتبيح ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث ينتهكه من لا يحل له انتهاكه ولم يكن الله عز وجل ليبيح ذلك على يد الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سموات وقد عصم الله سبحانه ذلك الجناب الكريم والحمى المنيع والشرف الرفيع أتم عصمة وصانه أعظم صيانة وتولى صيانته وحمايته والذب عنه بنفسه ووحيه وكلامه .

قالوا : فنحن نوقن ونقطع ونبت الشهادة لله بأن فعل عائشة رضي الله عنها هو الحق وأن رضاع الكبير يقع به من التحريم والمحرمية ما يقع برضاع الصغير ويكفينا أمنا أفقه نساء الأمة على الإطلاق وقد كانت تناظر في ذلك نساءه صلى الله عليه وسلم ولا يجبنها بغير قولهن ما أحد داخل علينا بتلك الرضاعة ويكفينا في ذلك أنه مذهب ابن عم نبينا وأعلم أهل الأرض على الإطلاق حين كان خليفة ومذهب الليث بن سعد الذي شهد له الشافعي بأنه كان أفقه من مالك إلا أنه ضيعه أصحابه ومذهب عطاء بن أبي رباح ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج عنه .

وذكر مالك عن الزهري أنه سئل عن رضاع الكبير فاحتج بحديث سهلة بنت سهيل في قصة سالم مولى أبي حذيفة وقال عبد الرزاق : وأخبرني ابن جريج قال أخبرني عبد الكريم أن سالم بن أبي جعد المولى الأشجعي أخبره أن أباه أخبره أنه سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال أردت أن أتزوج امرأة قد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به فقال له علي لا تنكحها ونهاه عنها

فهؤلاء سلفنا في هذه المسألة وتلك نصوصنا كالشمس صحة وصراحة . قالوا : وأصرح أحاديثكم حديث أم سلمة ترفعه لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام فما أصرحه لو كان سليما من العلة لكن هذا حديث منقطع لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة ولم تسمع منها شيئا لأنها كانت أسن من زوجها هشام باثني عشر عاما فكان مولده في سنة ستين ومولد فاطمة في سنة ثمان وأربعين وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين وفاطمة صغيرة لم تبلغها فكيف تحفظ عنها ولم تسمع من خالة أبيها شيئا وهي في حجرها كما حصل سماعها من جدتها أسماء بنت أبي بكر ؟

قالوا : وإذا نظر العالم المنصف في هذا القول ووازن بينه وبين قول من يحد مدة الرضاع المحرم بخمسة وعشرين شهرا أو ستة وعشرين شهرا أو سبعة وعشرين شهرا أو ثلاثين شهرا من تلك الأقوال التي لا دليل عليها من كتاب الله أو سنة رسوله ولا قول أحد من الصحابة تبين له فضل ما بين القولين فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهي قوته إلى هذا الحد وأنه ليس بأيدي أصحابه قدرة على تقديره وتصحيحه فاجلس أيها العالم المنصف مجلس الحكم بين هذين المتنازعين وافصل بينهما بالحجة والبيان لا بالتقليد وقال فلان .



واختلف القائلون بالحولين في حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك أحدها : أنه منسوخ وهذا مسلك كثير منهم ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى فإنهم لا يمكنهم إثبات التاريخ المعلوم التأخر بينه وبين تلك الأحاديث . ولو قلب أصحاب هذا القول عليهم الدعوى وادعوا نسخ تلك الأحاديث بحديث سهلة لكانت نظير دعواهم . وأما قولهم إنها كانت في أول الهجرة وحين نزول قوله تعالى : ادعوهم لآبائهم [ الأحزاب 5 ] ورواية ابن عباس رضي الله عنه وأبي هريرة بعد ذلك فجوابه من وجوه .

أحدها : أنهما لم يصرحا بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم بل لم يسمع منه ابن عباس إلا دون العشرين حديثا وسائرها عن الصحابة رضي الله عنهم .

الثاني : أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لم تحتج واحدة منهن بل ولا غيرهن على عائشة رضي الله عنها بذلك بل سلكن في الحديث بتخصيصه بسالم وعدم إلحاق غيره به .

الثالث أن عائشة رضي الله عنها نفسها روت هذا وهذا فلو كان حديث سهلة منسوخا لكانت عائشة رضي الله عنها قد أخذت به وتركت الناسخ أو خفي عليها تقدمه مع كونها هي الراوية له وكلاهما ممتنع وفي غاية البعد .

الرابع أن عائشة رضي الله عنها ابتليت بالمسألة وكانت تعمل بها وتناظر عليها وتدعو إليها صواحباتها فلها بها مزيد اعتناء فكيف يكون هذا حكما منسوخا قد بطل كونه من الدين جملة ويخفى عليها ذلك ويخفى على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلا تذكره لها واحدة منهن .


افتراضي

المسلك الثاني : أنه مخصوص بسالم دون من عداه وهذا مسلك أم سلمة ومن معها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهن وهذا المسلك أقوى مما قبله فإن أصحابه قالوا مما يبين اختصاصه بسالم أن فيه أن سهلة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب وهي تقتضي أنه لا يحل للمرأة أن تبدي زينتها إلا لمن ذكر في الآية وسمي فيها ولا يخص من عموم من عداهم أحد إلا بدليل .

قالوا : والمرأة إذا أرضعت أجنبيا فقد أبدت زينتها له فلا يجوز ذلك تمسكا بعموم الآية فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خاص به . قالوا : وإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الأمة بأمر أو أباح له شيئا أو نهاه عن شيء وليس في الشريعة ما يعارضه ثبت ذلك في حق غيره من الأمة ما لم ينص على تخصيصه وأما إذا أمر الناس بأمر أو نهاهم عن شيء ثم أمر واحدا من الأمة بخلاف ما أمر به الناس أو أطلق له ما نهاهم عنه فإن ذلك يكون خاصا به وحده ولا نقول في هذا الموضع إن أمره للواحد أمر للجميع وإباحته للواحد إباحة للجميع لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الأمر الأول والنهي الأول بل نقول إنه خاص بذلك الواحد لتتفق النصوص وتأتلف ولا يعارض بعضها بعضا فحرم الله في كتابه أن تبدي المرأة زينتها لغير محرم وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة أن تبدي زينتها لسالم وهو غير محرم عند إبداء الزينة قطعا فيكون ذلك رخصة خاصة بسالم مستثناة من عموم التحريم ولا نقول إن حكمها عام فيبطل حكم الآية المحرمة .

قالوا : ويتعين هذا المسلك لأنا لو لم نسلكه لزمنا أحد مسلكين ولا بد منهما إما نسخ هذا الحديث بالأحاديث الدالة على اعتبار الصغر في التحريم وإما نسخها به ولا سبيل إلى واحد من الأمرين لعدم العلم بالتاريخ ولعدم تحقق المعارضة ولإمكان العمل بالأحاديث كلها فإنا إذا حملنا حديث سهلة على الرخصة الخاصة والأحاديث الأخر على عمومها فيما عدا سالما لم تتعارض ولم ينسخ بعضها بعضا وعمل بجميعها .

قالوا : وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الرضاع إنما يكون في الحولين وأنه إنما يكون في الثدي وإنما يكون قبل الفطام كان ذلك ما يدل على أن حديث سهلة على الخصوص سواء تقدم أو تأخر فلا ينحصر بيان الخصوص في قوله هذا لك وحدك حتى يتعين طريقا .

قالوا : وأما تفسير حديث إنما الرضاعة من المجاعة بما ذكرتموه ففي غاية البعد من اللفظ ولا تتبادر إليه أفهام المخاطبين بل القول في معناه ما قاله أبو عبيد والناس قال أبو عبيد : قوله إنما الرضاعة من المجاعة يقول إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن إنما هو الصبي الرضيع .

فأما الذي شبعه من جوعه الطعام فإن رضاعه ليس برضاع ومعنى الحديث إنما الرضاع في الحولين قبل الفطام هذا تفسير أبي عبيد والناس وهو الذي يتبادر فهمه من الحديث إلى الأذهان حتى لو احتمل الحديث التفسيرين على السواء لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديث لهذا المعنى وكشفها له وإيضاحها ومما يبين أن غير هذا التفسير خطأ وأنه لا يصح أن يراد به رضاعة الكبير أن لفظة " المجاعة " إنما تدل على رضاعة الصغير فهي تثبت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها ومعلوم يقينا أنه إنما أراد مجاعة اللبن لا مجاعة الخبز واللحم فهذا لا يخطر ببال المتكلم ولا السامع فلو جعلنا حكم الرضاعة عاما لم يبق لنا ما ينفي ويثبت .

وسياق قوله لما رأى الرجل الكبير فقال إنما الرضاعة من المجاعة يبين المراد وأنه إنما يحرم رضاعة من يجوع إلى لبن المرأة والسياق ينزل اللفظ منزلة الصريح فتغير وجهه الكريم صلوات الله وسلامه عليه وكراهته لذلك الرجل وقوله انظرن من إخوانكن إنما هو للتحفظ في الرضاعة وأنها لا تحرم كل وقت وإنما تحرم وقتا دون وقت ولا يفهم أحد من هذا أنما الرضاعة ما كان عددها خمسا فيعبر عن هذا المعنى بقوله من المجاعة وهذا ضد البيان الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم .

وقولكم إن الرضاعة تطرد الجوع عن الكبير كما تطرد الجوع عن الصغير كلام باطل فإنه لا يعهد ذو لحية قط يشبعه رضاع المرأة ويطرد عنه الجوع بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقوم مقام اللبن فهو يطرد عنه الجوع فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلا والذي يوضح هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد حقيقة المجاعة وإنما أراد مظنتها وزمنها ولا شك أنه الصغر فإن أبيتم إلا الظاهرية وأنه أراد حقيقتها لزمكم أن لا يحرم رضاع الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائع فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئا .

وأما حديث الستر المصون والحرمة العظيمة والحمى المنيع فرضي الله عن أم المؤمنين فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يثبت المحرمية فسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخالفنها في ذلك ولا يرين دخول هذا الستر المصون والحمى الرفيع بهذه الرضاعة فهي مسألة اجتهاد وأحد الحزبين مأجور أجرا واحدا والآخر مأجور أجرين وأسعدهما بالأجرين من أصاب حكم الله ورسوله في هذه الواقعة فكل من المدخل للستر المصون بهذه الرضاعة والمانع من الدخول فائز بالأجر مجتهد في مرضاة الله وطاعة رسوله وتنفيذ حكمه ولهما أسوة بالنبيين الكريمين - داود وسليمان اللذين أثنى الله عليهما بالحكمة والحكم وخص بفهم الحكومة أحدهما .



فصل

وأما ردكم لحديث أم سلمة فتعسف بارد فلا يلزم انقطاع الحديث من أجل أن فاطمة بنت المنذر لقيت أم سلمة صغيرة فقد يعقل الصغير جدا أشياء ويحفظها وقد عقل محمود بن الربيع المجة وهو ابن سبع سنين ويعقل أصغر منه .

وقد قلتم إن فاطمة كانت وقت وفاة أم سلمة بنت إحدى عشرة سنة وهذا سن جيد لا سيما للمرأة فإنها تصلح فيه للزوج فمن هي في حد الزواج كيف يقال إنها لا تعقل ما تسمع ولا تدري ما تحدث به ؟

هذا هو الباطل الذي لا ترد به السنن مع أن أم سلمة كانت مصادقة لجدتها أسماء وكانت دارهما واحدة فنشأت فاطمة هذه في حجر جدتها أسماء مع خالة أبيها عائشة رضي الله عنها وأم سلمة وماتت عائشة رضي الله عنها سنة سبع وخمسين .

وقيل سنة ثمان وخمسين وقد يمكن سماع فاطمة منها وأما جدتها أسماء فماتت سنة ثلاث وسبعين وفاطمة إذ ذاك بنت خمس وعشرين سنة فلذلك كثر سماعها منها وقد أفتت أم سلمة بمثل الحديث الذي روته أسماء .

فقال أبو عبيد : حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أم سلمة أنها سئلت ما يحرم من الرضاع ؟ فقالت ما كان في الثدي قبل الفطام فروت الحديث وأفتت بموجبه .

وأفتى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما رواه الدارقطني من حديث سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول لا رضاع إلا في الحولين في الصغر

وأفتى به ابنه عبد الله رضي الله عنه فقال مالك رحمه الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان يقول لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر ولا رضاعة لكبير

وأفتى به ابن عباس رضي الله عنهما فقال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا رضاع بعد فطام



[ رجوع أبي موسى الأشعري إلى عدم التحريم إلا برضاع الصغير ]

وتناظر في هذه المسألة عبد الله بن مسعود وأبو موسى فأفتى ابن مسعود بأنه لا يحرم إلا في الصغر فرجع إليه أبو موسى فذكر الدارقطني أن ابن مسعود قال لأبي موسى : أنت تفتي بكذا وكذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم

وقد روى أبو داود : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع حدثنا سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم

ثم أفتى بذلك كما ذكره عبد الرزاق عن الثوري حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي عطية الوادعي قال جاء رجل إلى أبي موسى فقال إن امرأتي ورم ثديها فمصصته فدخل حلقي شيء سبقني فشدد عليه أبو موسى فأتى عبد الله بن مسعود فقال سألت أحدا غيري ؟ قال نعم أبا موسى فشدد علي فأتى أبا موسى فقال أرضيع هذا ؟ فقال أبو موسى : لا تسألوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم فهذه روايته وفتواه .

وأما علي بن أبي طالب فذكر عبد الرزاق عن الثوري عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي لا رضاع بعد الفصال وهذا خلاف رواية عبد الكريم عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عنه . لكن جويبر لا يحتج بحديثه وعبد الكريم أقوى منه .

فصل المسلك الثالث أن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص ولا عام في حق كل أحد وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة فتقيد بحديث سهلة أو عامة في الأحوال فتخصيص هذه الحال من عمومها وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين وقواعد الشرع تشهد له والله الموفق .



افتراضي

ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في العدد
هذا الباب قد تولى الله - سبحانه - بيانه في كتابه أتم بيان وأوضحه وأجمعه بحيث لا تشذ عنه معتدة فذكر أربعة أنواع من العدد وهي جملة أنواعها .

[ عدة الحامل ]
النوع الأول عدة الحامل بوضع الحمل مطلقا بائنة كانت أو رجعية مفارقة في الحياة أو متوفى عنها فقال وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ] وهذا فيه عموم من ثلاث جهات .

أحدها : عموم المخبر عنه وهو أولات الأحمال فإنه يتناول جميعهن .

الثاني : عموم الأجل فإنه أضافه إليهن وإضافة اسم الجمع إلى المعرفة يعم فجعل وضع الحمل جميع أجلهن فلو كان لبعضهن أجل غيره لم يكن جميع أجلهن .

الثالث أن المبتدأ والخبر معرفتان أما المبتدأ فظاهر وأما الخبر - وهو قوله تعالى : أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ] ففي تأويل مصدر مضاف أي أجلهن وضع حملهن والمبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين اقتضى ذلك حصر الثاني في الأول كقوله يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ فاطر 15 ] .

وبهذا احتج جمهور الصحابة على أن الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها وضع حملها ولو وضعته والزوج على المغتسل كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم لسبيعة الأسلمية وكان هذا الحكم والفتوى منه مشتقا من كتاب الله مطابقا له .


فصل [ عدة المطلقة التي تحيض ]
النوع الثاني : عدة المطلقة التي تحيض وهي ثلاثة قروء كما قال الله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة 228 ] .




[ عدة التي لا حيض لها ]
النوع الثالث عدة التي لا حيض لها وهي نوعان صغيرة لا تحيض وكبيرة قد يئست من الحيض . فبين الله سبحانه عدة النوعين بقوله واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن [ الطلاق 4 ] أي فعدتهن كذلك .




[ عدة المتوفى عنها زوجها ]
النوع الرابع المتوفى عنها زوجها فبين عدتها - سبحانه - بقوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة 234 ] فهذا يتناول المدخول بها وغيرها والصغيرة والكبيرة ولا تدخل فيه الحامل لأنها خرجت بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن فجعل وضع حملهن جميع أجلهن وحصره فيه بخلاف قوله في المتوفى عنهن يتربصن فإنه فعل مطلق لا عموم له وأيضا فإن قوله أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ] متأخر في النزول عن قوله يتربصن وأيضا فإن قوله يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة 234 ] في غير الحامل بالاتفاق فإنها لو تمادى حملها فوق ذلك تربصته فعمومها مخصوص اتفاقا وقوله أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ] غير مخصوص بالاتفاق هذا لو لم تأت السنة الصحيحة بذلك ووقعت الحوالة على القرآن فكيف والسنة الصحيحة موافقة لذلك مقررة له .

فهذه أصول العدد في كتاب الله مفصلة مبينة ولكن اختلف في فهم المراد من القرآن ودلالته في مواضع من ذلك وقد دلت السنة بحمد الله على مراد الله منها ونحن نذكرها ونذكر أولى المعاني وأشبهها بها ودلالة السنة عليها .




[الاختلاف في المتوفى عنها إذا كانت حاملا ]

فمن ذلك اختلاف السلف في المتوفى عنها إذا كانت حاملا فقال علي وابن عباس وجماعة من الصحابة أبعد الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرا وهذا أحد القولين في مذهب مالك رحمه الله اختاره سحنون . قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب عنه علي بن أبي طالب وابن عباس يقولان في المعتدة الحامل أبعد الأجلين وكان ابن مسعود يقول من شاء باهلته إن سورة النساء القصرى نزلت بعد وحديث سبيعة يقضي بينهم إذا وضعت فقد حلت . وابن مسعود يتأول القرآن أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ]

هي في المتوفى عنها والمطلقة مثلها إذا وضعت فقد حلت وانقضت عدتها ولا تنقضي عدة الحامل إذا أسقطت حتى يتبين خلقه فإذا بان له يد أو رجل عتقت به الأمة وتنقضي به العدة وإذا ولدت ولدا وفي بطنها آخر لم تنقض العدة حتى تلد الآخر ولا تغيب عن منزلها الذي أصيب فيه زوجها أربعة أشهر وعشرا إذا لم تكن حاملا والعدة من يوم يموت أو يطلق هذا كلام أحمد .

وقد تناظر في هذه المسألة ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما فقال أبو هريرة عدتها وضع الحمل وقال ابن عباس تعتد أقصى الأجلين فحكما أم سلمة رضي الله عنها فحكمت لأبي هريرة واحتجت بحديث سبيعة . وقد قيل إن ابن عباس رجع .

وقال جمهور الصحابة ومن بعدهم والأئمة الأربعة إن عدتها وضع الحمل ولو كان الزوج على مغتسله فوضعت حلت .

قال أصحاب الأجلين هذه قد تناولها عمومان وقد أمكن دخولها في كليهما فلا تخرج من عدتها بيقين حتى تأتي بأقصى الأجلين قالوا : ولا يمكن تخصيص عموم إحداهما بخصوص الأخرى لأن كل آية عامة من وجه خاصة من وجه قالوا : فإذا أمكن دخول بعض الصور في عموم الآيتين يعني إعمالا للعموم في مقتضاه . فإذا اعتدت أقصى الأجلين دخل أدناهما في أقصاهما . والجمهور أجابوا عن هذا بثلاثة أجوبة

أحدها : أن صريح السنة يدل على اعتبار الحمل فقط كما في " الصحيحين " : أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى فوضعت فأرادت أن تنكح فقال لها أبو السنابل ما أنت بناكحة حتى تعتدي آخر الأجلين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال كذب أبو السنابل قد حللت فانكحي من شئت .

الثاني أن قوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ] نزلت بعد قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة 234 ] وهذا جواب عبد الله بن مسعود كما في صحيح البخاري عنه أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ] .

[مفهوم النسخ عند السلف ]

وهذا الجواب يحتاج إلى تقرير فإن ظاهره أن آية الطلاق مقدمة على آية البقرة لتأخرها عنها فكانت ناسخة لها ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أعم منه عند المتأخرين فإنهم يريدون به ثلاثة معان :

أحدها : رفع الحكم الثابت بخطاب .

الثاني : رفع دلالة الظاهر إما بتخصيص وإما بتقييد وهو أعم مما قبله .

الثالث بيان المراد باللفظ الذي بيانه من خارج وهذا أعم من المعنيين الأولين فابن مسعود رضي الله عنه أشار بتأخر نزول سورة الطلاق إلا أن آية الاعتداد بوضع الحمل ناسخة لآية البقرة إن كان عمومها مرادا أو مخصصة لها إن لم يكن عمومها مرادا أو مبينة للمراد منها أو مقيدة لإطلاقها وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه ورسوخه في العلم ومما يبين أن أصول الفقه سجية للقوم وطبيعة لا يتكلفونها كما أن العربية والمعاني والبيان وتوابعها لهم كذلك فمن بعدهم فإنما يجهد نفسه ليتعلق بغبارهم وأنى له ؟ الثالث أنه لو لم تأت السنة الصريحة باعتبار الحمل ولم تكن آية الطلاق متأخرة لكان تقديمها هو الواجب لما قررناه أولا من جهات العموم الثلاثة فيها وإطلاق قوله يتربصن وقد كانت الحوالة على هذا الفهم ممكنة ولكن لغموضه ودقته على كثير من الناس أحيل في ذلك الحكم على بيان السنة وبالله التوفيق .



فصل [لا تنقضي العدة حتى تضع جميع الحمل ]
[ يكتفى في عدة المتوفى عنها زوجها بالتربص أربعة أشهر وعشرا ]

دل قوله سبحانه أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ] على أنها إذا كانت حاملا بتوأمين لم تنقض العدة حتى تضعهما جميعا ودلت على أن من عليها الاستبراء فعدتها وضع الحمل أيضا ودلت على أن العدة تنقضي بوضعه على أي صفة كان حيا أو ميتا تام الخلقة أو ناقصها نفخ فيه الروح أو لم ينفخ . ودل قوله يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة 234 ] على الاكتفاء بذلك وإن لم تحض وهذا قول الجمهور وقال مالك إذا كان عادتها أن تحيض في كل سنة مرة فتوفي عنها زوجها لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضتها فتبرأ من عدتها . فإن لم تحض انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم وفاته وعنه رواية ثانية كقول الجمهور أنه تعتد أربعة أشهر وعشرا ولا تنتظر حيضها .




فصل [من قال إن الأقراء هي الحيض ]
ومن ذلك اختلافهم في الأقراء هل هي الحيض أو الأطهار ؟ فقال أكابر – 532 – الصحابة إنها الحيض هذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وابن عباس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وهو قول أصحاب عبد الله بن مسعود كلهم كعلقمة والأسود وإبراهيم وشريح وقول الشعبي والحسن وقتادة وقول أصحاب ابن عباس سعيد بن جبير وطاووس وهو قول سعيد بن المسيب وهو قول أئمة الحديث كإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد القاسم والإمام أحمد رحمه الله فإنه رجع إلى القول به واستقر مذهبه عليه فليس له مذهب سواه وكان يقول إنها الأطهار فقال في رواية الأثرم رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف .

والأحاديث عمن قال إنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديث صحاح قوية وهذا النص وحده هو الذي ظفر به أبو عمر بن عبد البر فقال رجع أحمد إلى أن الأقراء الأطهار وليس كما قال بل كان يقول هذا أولا ثم توقف فيه فقال في رواية الأثرم أيضا : قد كنت أقول الأطهار ثم وقفت كقول الأكابر ثم جزم أنها الحيض وصرح بالرجوع عن الأطهار فقال في رواية ابن هانئ .
كنت أقول إنها الأطهار وأنا اليوم أذهب إلى أن الأقراء الحيض قال القاضي أبو يعلى وهذا هو الصحيح عن أحمد رحمه الله وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالأطهار ثم ذكر نص رجوعه من رواية ابن هانئ كما تقدم وهو قول أئمة أهل الرأي كأبي حنيفة وأصحابه .




[ من قال بأن الأقراء هي الأطهار ]
وقالت طائفة الأقراء الأطهار وهذا قول عائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر . ويروى والشافعي وأحمد عن الفقهاء السبعة وأبان بن عثمان والزهري وعامة فقهاء المدينة وبه قال مالك في إحدى الروايتين عنه . وعلى هذا القول فمتى طلقها في أثناء طهر فهل تحتسب ببقيته قرءا ؟ على ثلاثة أقوال

أحدها : تحتسب به وهو المشهور .

والثاني : لا تحتسب به وهو قول الزهري . كما لا تحتسب ببقية الحيضة عند من يقول القرء الحيض اتفاقا .
والثالث إن كان قد جامعها في ذلك الطهر لم تحتسب ببقيته وإلا احتسبت وهذا قول أبي عبيد . فإذا طعنت في الحيضة الثالثة أو الرابعة على قول الزهري انقضت عدتها . وعلى قول الأول لا تنقضي العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة .




[ هل يقف انقضاء العدة على اغتسال المعتدة من حيضتها الثالثة ]

وهل يقف انقضاء عدتها على اغتسالها منها ؟ على ثلاثة أقوال .

أحدها : لا تنقضي عدتها حتى تغتسل وهذا هو المشهور عن أكابر الصحابة قال الإمام أحمد : وعمر وعلي وابن مسعود يقولون له رجعتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة انتهى .

وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم كما في مصنف وكيع عن عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الخير فالخير منهم أبو بكر وعمر وابن عباس : أنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة

وفي " مصنفه " أيضا عن محمد بن راشد عن مكحول عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء مثله . وفي " مصنف عبد الرزاق " : عن معمر عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال أرسل عثمان إلى أبي بن كعب في ذلك فقال أبي بن كعب : أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من حيضتها الثالثة وتحل لها الصلاة قال فما أعلم عثمان إلا أخذ بذلك

وفي " مصنفه " أيضا : عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير أن عبادة بن الصامت قال لا تبين حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل لها الصلاة

فهؤلاء بضعة عشر من الصحابة وهو قول سعيد بن المسيب وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه .

قال شريك له الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله .

والثاني : أنها تنقضي بمجرد طهرها من الحيضة الثالثة ولا تقف على الغسل وهذا قول سعيد بن جبير والأوزاعي والشافعي في قوله القديم حيث كان يقول الأقراء الحيض وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب .

والثالث أنها في عدتها بعد انقطاع الدم ولزوجها رجعتها حتى يمضي عليها وقت الصلاة التي طهرت في وقتها وهذا قول الثوري والرواية الثالثة عن أحمد حكاها أبو بكر عنه وهو قول أبي حنيفة رحمه الله لكن إذا انقطع الدم لأقل الحيض وإن انقطع الدم لأكثره انقضت العدة عنها بمجرد انقطاعه .




[ هل يشترط كون الطهر مسبوقا بدم قبله على من قال بالأطهار ]

وأما من قال إنها الأطهار اختلفوا في موضعين أحدهما : هل يشترط كون الطهر مسبوقا بدم قبله أو لا يشترط ذلك ؟

على قولين لهم وهما وجهان في مذهب الشافعي وأحمد . أحدهما : يحتسب لأنه طهر بعده حيض فكان قرءا كما لو كان قبله حيض .

والثاني : لا يحتسب وهو ظاهر نص الشافعي في الجديد لأنها لا تسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم .



هل تنقضي العدة بالطعن في الحيضة الثالثة على من قال بالأطهار ]

الموضع الثاني : هل تنقضي العدة بالطعن في الحيضة الثالثة أو لا تنقضي حتى تحيض يوما وليلة ؟

على وجهين لأصحاب أحمد وهما قولان منصوصان للشافعي ولأصحابه وجه ثالث إن حاضت للعادة انقضت العدة بالطعن في الحيضة . وإن حاضت لغير العادة بأن كانت عادتها ترى الدم في عاشر الشهر فرأته في أوله لم تنقض حتى يمضي عليها يوم وليلة . ثم اختلفوا : هل يكون هذا الدم محسوبا من العدة ؟ على وجهين تظهر فائدتهما في رجعتها في وقته فهذا تقرير مذاهب الناس في الأقراء .



[ حجة من فسر الأقراء بالحيض ]
قال من نص إنها الحيض الدليل عليه وجوه

[ الدليل الأول لمن حمل القرء على الحيض ]

أحدها : أن قوله تعالى : يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة 228 ] إما أن يراد به الأطهار فقط أو الحيض فقط أو مجموعهما .

والثالث محال إجماعا حتى عند من يحمل اللفظ المشترك على معنييه . وإذا تعين حمله على أحدهما فالحيض أولى به لوجوه

[ الوجه الأول الدال على أولوية حمل القرء في الآية على الحيض ]

أحدها : أنها لو كانت الأطهار فالمعتدة بها يكفيها قرآن ولحظة من الثالث وإطلاق الثلاثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلاثة في العدد المخصوص .

فإن قلتم بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل قيل جوابه من ثلاثة أوجه . أحدها : أن هذا مختلف فيه كما تقدم فلم تجمع الأمة على أن بعض القرء قرء قط فدعوى هذا يفتقر إلى دليل .

الثاني : أن هذا دعوى مذهبية أوجب حمل الآية عليها إلزام كون الأقراء الأطهار والدعاوى المذهبية لا يفسر بها القرآن وتحمل عليها اللغة ولا يعقل في اللغة قط أن اللحظة من الطهر تسمى قرءا كاملا ولا اجتمعت الأمة على ذلك فدعواه لا تثبت نقلا ولا إجماعا وإنما هو مجرد الحمل ولا ريب أن الحمل شيء والوضع شيء آخر وإنما يفيد ثبوت الوضع لغة أو شرعا أو عرفا .

الثالث أن القرء إما أن يكون اسما لمجموع الطهر كما يكون اسما لمجموع الحيضة أو لبعضه أو مشتركا بين الأمرين اشتراكا لفظيا أو اشتراكا معنويا والأقسام الثلاثة باطلة فتعين الأول أما بطلان وضعه لبعض الطهر فلأنه يلزم أن يكون الطهر الواحد عدة أقراء ويكون استعمال لفظ " القرء " فيه مجازا .

وأما بطلان الاشتراك المعنوي فمن وجهين

أحدهما : أنه يلزم أن يصدق على الطهر الواحد أنه عدة أقراء حقيقة .

والثاني : أن نظيره - وهو الحيض - لا يسمى جزؤه قرءا اتفاقا ووضع القرء لهما لغة لا يختلف وهذا لا خفاء به .




[ حمل المشترك على معنييه والتشكيك في نسبته للشافعي والباقلاني ]

فإن قيل نختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركا بين كله وجزئه اشتراكا لفظيا ويحمل المشترك على معنييه فإنه أحفظ وبه تحصل البراءة بيقين .

قيل الجواب من وجهين .

أحدهما : أنه لا يصح اشتراكه كما تقدم .

الثاني : أنه لو صح اشتراكه لم يجز حمله على مجموع معنييه . أما على قول من لا يجوز حمل المشترك على معنييه فظاهر وأما من يجوز حمله عليهما فإنما يجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معا . فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل على إرادة أحدهما أو إرادتهما وحكى المتأخرون عن الشافعي والقاضي أبي بكر أنه إذا تجرد عن القرائن وجب حمله على معنييه كالاسم العام لأنه أحوط إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر ولا سبيل إلى معنى ثالث وتعطيله غير ممكن ويمتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة .

فإذا جاء وقت العمل ولم يتبين أن أحدهما هو المقصود بعينه علم أن الحقيقة غير مرادة إذ لو أريدت لبينت فتعين المجاز وهو مجموع المعنيين ومن يقول إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول لما لم يتبين أن المراد أحدهما علم أنه أراد كليهما .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الحكاية عن الشافعي والقاضي نظر أما القاضي فمن أصله الوقف في صيغ العموم وأنه لا يجوز حملها على الاستغراق إلا بدليل فمن يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ المشتركة بالاستغراق من غير دليل ؟ وإنما الذي ذكره في كتبه إحالة .


[ فساد حمل المشترك على معنييه ]

الاشتراك رأسا وما يدعى فيه الاشتراك فهو عنده من قبيل المتواطئ وأما الشافعي فمنصبه في العلم أجل من أن يقول مثل هذا وإنما استنبط هذا من قوله إذا أوصى لمواليه تناول المولى من فوق ومن أسفل وهذا قد يكون قاله لاعتقاده أن المولى من الأسماء المتواطئة وأن موضعه القدر المشترك بينهما فإنه من الأسماء المتضايفة كقوله " من كنت مولاه فعلي مولاه ولا يلزم من هذا أن يحكى عنه قاعدة عامة في الأسماء التي ليس من معانيها قدر مشترك أن تحمل عند الإطلاق على جميع معانيها ثم الذي يدل على فساد هذا القول وجوه .

أحدها : أن استعمال اللفظ في معنييه إنما هو مجاز إذ وضعه لكل واحد منهما على سبيل الانفراد هو الحقيقة واللفظ المطلق لا يجوز حمله على المجاز بل يجب حمله على حقيقته .

الثاني : أنه لو قدر أنه موضوع لهما منفردين ولكل واحد منهما مجتمعين فإنه يكون له حينئذ ثلاثة مفاهيم فالحمل على أحد مفاهيمه دون غيره بغير موجب ممتنع .

الثالث أنه حينئذ يستحيل حمله على جميع معانيه إذ حمله على هذا وحده وعليهما معا مستلزم للجمع بين النقيضين فيستحيل حمله على جميع معانيه وحمله عليهما معا حمل له على بعض مفهوماته فحمله على جميعها يبطل حمله على جميعها .

الرابع أن هاهنا أمورا . أحدها : هذه الحقيقة وحدها والثاني : الحقيقة الأخرى وحدها والثالث مجموعهما والرابع مجاز هذه وحدها والخامس مجاز الأخرى وحدها والسادس مجازهما معا والسابع الحقيقة وحدها مع مجازها والثامن الحقيقة مع مجاز الأخرى . والتاسع الحقيقة الواحدة مع مجازهما والعاشر الحقيقة الأخرى مع مجازها والحادي عشر مع مجاز الأخرى والثاني عشر مع مجازهما فهذه اثنا عشر محملا بعضها على سبيل الحقيقة وبعضها على سبيل المجاز فتعيين معنى واحد مجازي دون سائر المجازات والحقائق ترجيح من غير مرجح وهو ممتنع .

الخامس أنه لو وجب حمله على المعنيين جميعا لصار من صيغ العموم لأن حكم الاسم العام وجوب حمله على جميع مفرداته عند التجرد من التخصيص ولو كان كذلك لجاز استثناء أحد المعنيين منه ولسبق إلى الذهن منه عند الإطلاق العموم وكان المستعمل له في أحد معنييه بمنزلة المستعمل للاسم العام في بعض معانيه فيكون متجوزا في خطابه غير متكلم بالحقيقة وأن يكون من استعمله في معنييه غير محتاج إلى دليل وإنما يحتاج إليه من نفى المعنى الآخر ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص عند من يقول بذلك في صيغ العموم ولا ينفي الإجمال عنه إذ يصير بمنزلة سائر الألفاظ العامة وهذا باطل قطعا وأحكام الأسماء المشتركة لا تفارق أحكام الأسماء العامة وهذا مما يعلم بالاضطرار من اللغة ولكانت الأمة قد أجمعت في هذه الآية على حملها على خلاف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أحد منهم إلى حمل " القرء " على الطهر والحيض معا وبهذا يتبين بطلان قولهم حمله عليهما أحوط فإنه لو قدر حمل الآية على ثلاثة من الحيض والأطهار لكان فيه خروج عن الاحتياط .

وإن قيل نحمله على ثلاثة من كل منهما فهو خلاف نص القرآن إذ تصير الأقراء ستة . قولهم إما أن يحمل على أحدهما بعينه أو عليهما إلى آخره قلنا : مثل هذا لا يجوز أن يعرى عن دلالة تبين المراد منه كما في الأسماء المجملة وإن خفيت الدلالة على بعض المجتهدين فلا يلزم أن تكون خفية عن مجموع الأمة وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث فالكلام إذا لم يكن مطلقه يدل على المعنى المراد فلا بد من بيان المراد .



[ الوجه الثاني الدال على أولوية حمل القرء في الآية على الحيض ]

وإذا تعين أن المراد بالقرء في الآية أحدهما لا كلاهما فإرادة الحيض أولى لوجوه . منها : ما تقدم . الثاني : أن استعمال القرء في الحيض أظهر منه في الطهر فإنهم يذكرونه تفسيرا للفظه ثم يردفونه بقولهم وقيل أو قال فلان أو يقال على الطهر أو وهو أيضا الطهر فيجعلون تفسيره بالحيض كالمستقر المعلوم المستفيض وتفسيره بالطهر قول قيل . وهاك حكاية ألفاظهم .

قال الجوهري : القرء بالفتح الحيض والجمع أقراء وقروء .

وفي الحديث لا صلاة أيام أقرائك والقرء أيضا : الطهر وهو من الأضداد . وقال أبو عبيد : الأقراء الحيض ثم قال الأقراء الأطهار وقال الكسائي والفراء أقرأت المرأة إذا حاضت .

وقال ابن فارس : القروء أوقات يكون للطهر مرة وللحيض مرة والواحد قرء ويقال القرء وهو الطهر ثم قال . وقوم يذهبون إلى أن القرء الحيض فحكى قول من جعله مشتركا بين أوقات الطهر والحيض وقول من جعله لأوقات الطهر وقول من جعله لأوقات الحيض وكأنه لم يختر واحدا منهما بل جعله لأوقاتهما . قال وأقرأت المرأة إذا خرجت من حيض إلى طهر ومن طهر إلى حيض وهذا يدل على أنه لا بد من مسمى الحيض في حقيقته يوضحه أن من قال أوقات الطهر تسمى قروءا فإنما يريد أوقات الطهر التي يحتوشها الدم وإلا فالصغيرة والآيسة لا يقال لزمن طهرهما أقراء ولا هما من ذوات الأقراء باتفاق أهل اللغة .




[ الدليل الثاني لمن حمل القرء على الحيض ]

الدليل الثاني : أن لفظ القرء لم يستعمل في كلام الشارع إلا للحيض ولم يجئ عنه في موضع واحد استعماله للطهر فحمله في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى بل متعين فإنه صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك وهو صلى الله عليه وسلم المعبر عن الله تعالى وبلغة قومه نزل القرآن فإذا ورد المشترك في كلامه على أحد معنييه وجب حمله في سائر كلامه عليه إذا لم تثبت إرادة الآخر في شيء من كلامه البتة ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا بها وإن كان له معنى آخر في كلام غيره ويصير هذا المعنى الحقيقة الشرعية في تخصيص المشترك بأحد معنييه كما يخص المتواطئ بأحد أفراده بل هذا أولى لأن أغلب أسباب الاشتراك تسمية أحد القبيلتين الشيء باسم وتسمية الأخرى بذلك الاسم مسمى آخر ثم تشيع الاستعمالات بل قال المبرد وغيره لا يقع الاشتراك في اللغة إلا بهذا الوجه خاصة والواضع لم يضع لفظا مشتركا البتة فإذا ثبت استعمال الشارع لفظ القروء في الحيض علم أن هذا لغته فيتعين حمله على ما في كلامه .

ويوضح ذلك ما في سياق الآية من قوله ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن [ البقرة 228 ] وهذا هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين والمخلوق في الرحم إنما هو الحيض الوجودي ولهذا قال السلف والخلف هو الحمل والحيض وقال بعضهم الحمل وبعضهم الحيض ولم يقل أحد قط إنه الطهر ولهذا لم ينقله من عني بجمع أقوال أهل التفسير كابن الجوزي وغيره .

وأيضا فقد قال سبحانه واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن [ الطلاق 4 ] فجعل كل شهر بإزاء حيضة وعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض .



[ عدة الأمة حيضتان ]
وأيضا فحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث وفي لفظ للدارقطني فيه طلاق العبد ثنتان وروى ابن ماجه من حديث عطية العوفي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان وأيضا : قال ابن ماجه في " سننه " : حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض

وفي " المسند " : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة فاختارت نفسها وأمرها أن تعتد عدة الحرة وقد فسر عدة الحرة بثلاث حيض في حديث عائشة رضي الله عنها . فإن قيل فمذهب عائشة رضي الله عنها أن الأقراء الأطهار ؟ قيل ليس هذا بأول حديث خالفه راويه فأخذ بروايته دون رأيه وأيضا ففي حديث الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس بن شماس لما اختلعت من زوجها أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها رواه النسائي .

وفي " سنن أبي داود " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة

[ استبراء الأمة حيضة ]
وفي الترمذي أن الربيع بنت معوذ اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة . وأيضا فإن الاستبراء هو عدة الأمة وقد ثبت عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس : لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة رواه أحمد وأبو داود .

فإن قيل لا نسلم أن استبراء الأمة بالحيضة وإنما هو بالطهر الذي هو قبل الحيضة كذلك قال ابن عبد البر وقال قولهم إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنوا بل جائز لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة واستيقنت أن دمها دم حيض كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين أدخل عليه في مناظرته إياه .

قلنا : هذا يرده قوله صلى الله عليه وسلم لا توطأ الحامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة

وأيضا فالمقصود الأصلي من العدة إنما هو استبراء الرحم وإن كان لها فوائد أخر ولشرف الحرة المنكوحة وخطرها جعل العلم الدال على براءة رحمها ثلاثة أقراء فلو كان القرء هو الطهر لم تحصل بالقرء الأول دلالة فإنه لو جامعها في الطهر ثم طلقها ثم حاضت كان ذلك قرءا محسوبا من الأقراء عند من يقول الأقراء الأطهار . ومعلوم أن هذا لم يدل على شيء وإنما الذي يدل على البراءة الحيض الحاصل بعد الطلاق ولو طلقها في طهر لم يصبها فيه فإنما يعلم هنا براءة الرحم بالحيض الموجود قبل الطلاق والعدة لا تكون قبل الطلاق لأنها حكمه والحكم لا يسبق سببه فإذا كان الطهر الموجود بعد الطلاق لا دلالة له على البراءة أصلا لم يجز إدخاله في العدد الدالة على براءة الرحم وكان مثله كمثل شاهد غير مقبول ولا يجوز تعليق الحكم بشهادة شاهد لا شهادة له يوضحه أن العدة في المنكوحات كالاستبراء في المملوكات .

وقد ثبت بصريح السنة أن الاستبراء بالحيض لا بالطهر فكذلك العدة إذ لا فرق بينهما إلا بتعدد العدة والاكتفاء بالاستبراء بقرء واحد وهذا لا يوجب اختلافهما في حقيقة القرء وإنما يختلفان في القدر المعتبر منهما ولهذا قال الشافعي في أصح القولين عنه إن استبراء الأمة يكون بالحيض وفرق أصحابه بين البابين بأن العدة وجبت قضاء لحق الزوج فاختصت بأزمان حقه وهي أزمان الطهر وبأنها تتكرر فتعلم معها البراءة بتوسط الحيض بخلاف الاستبراء فإنه لا يتكرر والمقصود منه مجرد البراءة فاكتفي فيه بحيضة . وقال في القول الآخر تستبرأ بطهر طردا لأصله في العدد وعلى هذا فهل تحتسب ببعض الطهر ؟ على وجهين لأصحابه فإذا احتسبت به فلا بد من ضم حيضة كاملة إليه . فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن لم تحتسب به فلا بد من ضم طهر كامل إليه ولا تحتسب ببعض الطهر عنده قرءا قولا واحدا .




[ علة أولوية اعتداد الحرة على الأمة بالحيض ]
والمقصود أن الجمهور على أن عدة الاستبراء حيضة لا طهر وهذا الاستبراء في حق الأمة كالعدة في حق الحرة قالوا : بل الاعتداد في حق الحرة بالحيض أولى من الأمة من وجهين .

أحدهما : أن الاحتياط في حقها ثابت بتكرير القرء ثلاث استبراءات فهكذا ينبغي أن يكون الاعتداد في حقها بالحيض الذي هو أحوط من الطهر فإنها لا تحتسب ببقية الحيضة قرءا وتحتسب ببقية الطهر قرءا .

الثاني : أن استبراء الأمة فرع على عدة الحرة وهي الثابتة بنص القرآن والاستبراء إنما ثبت بالسنة فإذا كان قد احتاط له الشارع بأن جعله بالحيض فاستبراء الحرة أولى فعدة الحرة استبراء لها واستبراء الأمة عدة لها .

وأيضا فالأدلة والعلامات والحدود والغايات إنما تحصل بالأمور الظاهرة المتميزة عن غيرها والطهر هو الأمر الأصلي ولهذا متى كان مستمرا مستصحبا لم يكن له حكم يفرد به في الشريعة وإنما الأمر المتميز هو الحيض فإن المرأة إذا حاضت تغيرت أحكامها من بلوغها وتحريم العبادات عليها من الصلاة والصوم والطواف واللبث في المسجد وغير ذلك من الأحكام .

ثم إذا انقطع الدم واغتسلت فلم تتغير أحكامها بتجدد الطهر لكن لزوال المغير الذي هو الحيض فإنها تعود بعد الطهر إلى ما كانت عليه قبل الحيض من غير أن يجدد لها الطهر حكما والقرء أمر يغير أحكام المرأة وهذا التغيير إنما يحصل بالحيض دون الطهر . فهذا الوجه دال على فساد قول من يحتسب بالطهر الذي قبل الحيضة قرءا فيما إذا طلقت قبل أن تحيض ثم حاضت فإن من اعتد بهذا الطهر قرءا جعل شيئا ليس له حكم في الشريعة قرءا من الأقراء وهذا فاسد .



فصل [ حجة من فسر الأقراء بالأطهار ]
قال من جعل الأقراء الأطهار الكلام معكم في مقامين .

أحدهما : بيان الدليل على أنها الأطهار .

الثاني : في الجواب عن أدلتكم .

أما المقام الأول فقوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 1 ] ووجه الاستدلال به أن اللام هي لام الوقت أي فطلقوهن في وقت عدتهن كما في قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ الأنبياء 47 ] أي في يوم القيامة وقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس [ الإسراء : 78 ] أي وقت الدلوك وتقول العرب : جئتك لثلاث بقين من الشهر أي في ثلاث بقين منه وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بهذا التفسير ففي " الصحيحين " : عن ابن عمر رضي الله عنه أنه لما طلق امرأته وهي حائض أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يطلقها وهي طاهر قبل أن يمسها ثم قال فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة ولو كان القرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة لا في العدة وكان ذلك تطويلا عليها وهو غير جائز كما لو طلقها في الحيض .

قال الشافعي : قال الله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة 228 ] فالأقراء عندنا - والله أعلم - الأطهار فإن قال قائل ما دل على أنها الأطهار وقد قال غيركم الحيض ؟ قيل له دلالتان . إحداهما : الكتاب الذي دلت عليه السنة والأخرى : اللسان . فإن قال وما الكتاب ؟ قيل قال الله تبارك وتعالى : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 1 ] وأخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها تم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء

أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع ابن عمر يذكر طلاق امرأته حائضا فقال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا طهرت فليطلق أو يمسك وتلا النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل أو في قبل عدتهن [ الطلاق 1 ] قال الشافعي رحمه الله أنا شككت فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أن العدة الطهر دون الحيض وقرأ فطلقوهن لقبل عدتهن - 547 وهو أن يطلقها طاهرا لأنها حينئذ تستقبل عدتها ولو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض .

فإن قال فما اللسان ؟ قيل القرء اسم وضع لمعنى فلما كان الحيض دما يرخيه الرحم فيخرج والطهر دما يحتبس فلا يخرج وكان معروفا من لسان العرب أن القرء الحبس . تقول العرب : هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه وتقول العرب : هو يقري الطعام في شدقه يعني : يحبسه في شدقه . وتقول العرب : إذا حبس الرجل الشيء قرأه . يعني : خبأه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقرى في صحافها أي تحبس في صحافها .

قال الشافعي : أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة . قال ابن شهاب : فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن فقالت صدق عروة . وقد جادلها في ذلك ناس . وقالوا : إن الله تعالى يقول ثلاثة قروء فقالت عائشة رضي الله عنها : صدقتم وهل تدرون ما الأقراء ؟ الأقراء الأطهار

أخبرنا مالك عن ابن شهاب قال سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا . يريد الذي قالت عائشة رضي الله عنها . قال الشافعي رحمه الله وأخبرنا سفيان عن الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها : إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه

وأخبرنا مالك رحمه الله عن نافع وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار أن الأحوص - يعني ابن حكيم - هلك بالشام حين دخلت امرأته في الحيضة الثالثة وقد كان طلقها فكتب معاوية إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك ؟ فكتب إليه زيد إنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها

وأخبرنا سفيان عن الزهري قال حدثني سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال إذا طعنت المرأة في الحيضة الثالثة فقد برئت

وفي حديث سعيد بن أبي عروبة عن رجل عن سليمان بن يسار أن عثمان بن عفان وابن عمر قالا : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها

وأخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ولا ترثه ولا يرثها أخبرنا مالك رحمه الله أنه بلغه عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وابن شهاب أنهم كانوا يقولون إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه ولا ميراث بينهما . زاد غير الشافعي عن مالك رحمهما الله ولا رجعة له عليها . قال مالك وذلك الأمر الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا .

قال الشافعي رحمه الله ولا بعد أن تكون الأقراء الأطهار كما قالت عائشة رضي الله عنها والنساء بهذا أعلم لأنه فيهن لا في الرجال أو الحيض فإذا جاءت بثلاث حيض حلت ولا نجد في كتاب الله للغسل معنى ولستم تقولون بواحد من القولين يعني : أن الذين قالوا : إنها الحيض قالوا : وهو أحق برجعتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة كما قاله علي وابن مسعود وأبو موسى وهو قول عمر بن الخطاب أيضا .

فقال الشافعي : فقيل لهم يعني للعراقيين لم تقولوا بقول من احتججتم بقوله ورويتم هذا عنه ولا بقول أحد من السلف علمناه ؟ فإن قال قائل أين خالفناهم ؟ قلنا . قالوا : حتى تغتسل وتحل لها الصلاة وقلتم إن فرطت في الغسل حتى يذهب وقت الصلاة حلت وهي لم تغتسل ولم تحل لها الصلاة . انتهى كلام الشافعي رحمه الله .

قالوا : ويدل على أنها الأطهار في اللسان قول الأعشى :

أفي كل عام أنت جاشم غزوة

تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة عزا وفي الحي رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا


فالقروء في البيت الأطهار لأنه ضيع أطهارهن في غزاته وآثرها عليهن .

قالوا : ولأن الطهر أسبق إلى الوجود من الحيض فكان أولى بالاسم قالوا : فهذا أحد المقامين



وأما المقام الآخر وهو الجواب عن أدلتكم فنجيبكم بجوابين مجمل ومفصل . أما المجمل فنقول من أنزل عليه القرآن فهو أعلم بتفسيره وبمراد المتكلم به من كل أحد سواه وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء بالأطهار فلا التفات بعد ذلك إلى شيء خالفه بل كل تفسير يخالف هذا فباطل . قالوا : وأعلم الأمة بهذه المسألة أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهن بها عائشة رضي الله عنها لأنها فيهن لا في الرجال ولأن الله تعالى جعل قولهن في ذلك مقبولا في وجود الحيض والحمل لأنه لا يعلم إلا من جهتهن فدل على أنهن أعلم بذلك من الرجال فإذا قالت أم المؤمنين رضي الله عنها : إن الأقراء الأطهار .

فقد قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام


قالوا : وأما الجواب المفصل فنفرد كل واحد من أدلتكم بجواب خاص فهاكم الأجوبة .

أما قولكم إما أن يراد بالأقراء في الآية الأطهار فقط أو الحيض فقط أو مجموعهما إلى آخره .

فجوابه أن نقول الأطهار فقط لما ذكرنا من الدلالة . قولكم النص اقتضى ثلاثة إلى آخره . قلنا : عنه جوابان

أحدهما : أن بقية الطهر عندنا قرء كامل فما اعتدت إلا بثلاث كوامل .

الثاني : أن العرب توقع اسم الجمع على اثنين وبعض الثالث كقوله تعالى : الحج أشهر معلومات [ البقرة 197 ] فإنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة أو تسع أو ثلاثة عشر . ويقولون لفلان ثلاث عشرة سنة إذ دخل في السنة الثالثة عشر . فإذا كان هذا معروفا في لغتهم وقد دل الدليل عليه وجب المصير إليه . وأما قولكم إن استعمال القرء في الحيض أظهر منه في الطهر فمقابل بقول منازعيكم .

قولكم إن أهل اللغة يصدرون كتبهم بأن القرء هو الحيض فيذكرونه تفسيرا للفظ ثم يردفونه بقولهم بقيل أو وقال بعضهم هو الطهر .

قلنا : أهل اللغة يحكون أن له مسميين في اللغة ويصرحون بأنه يقال على هذا وعلى هذا ومنهم من يجعله في الحيض أظهر ومنهم من يحكي إطلاقه عليهما من غير ترجيح فالجوهري رجح الحيض . والشافعي من أئمة اللغة وقد رجح أنه الطهر وقال أبو عبيد : القرء يصلح للطهر والحيض .

وقال الزجاج أخبرني من أثق به عن يونس أن القرء عنده يصلح للطهر والحيض وقال أبو عمرو بن العلاء القرء الوقت وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر وإذا كانت هذه نصوص أهل اللغة فكيف يحتجون بقولهم إن الأقراء الحيض ؟

قولكم إن من جعله الطهر فإنه يريد أوقات الطهر التي يحتوشها الدم وإلا فالصغيرة والآيسة ليستا من ذوات الأقراء وعنه جوابان .

أحدهما : المنع بل إذا طلقت الصغيرة التي لم تحض ثم حاضت فإنها تعتد بالطهر الذي طلقت فيه قرءا على أصح الوجهين عندنا لأنه طهر بعده حيض وكان قرءا كما لو كان قبله حيض .

[ ذكر أشياء لا تسمى بأسماء معينة إلا بشرط معين ]

الثاني : إنا وإن سلمنا ذلك فإن هذا يدل على أن الطهر لا يسمى قرءا حتى يحتوشه دمان وكذلك نقول فالدم شرط في تسميته قرءا وهذا لا يدل على أن مسماه الحيض وهذا كالكأس الذي لا يقال على الإناء إلا بشرط كون الشراب فيه وإلا فهو زجاجة أو قدح والمائدة التي لا تقال للخوان إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان والكوز الذي لا يقال لمسماه إلا إذا كان ذا عروة وإلا فهو كوب والقلم الذي يشترط في صحة إطلاقه على القصبة كونها مبرية وبدون البري فهو أنبوب أو قصبة والخاتم شرط إطلاقه أن يكون ذا فص منه أو من غيره وإلا فهو فتخة والفرو شرط إطلاقه على مسماه الصوف وإلا فهو جلد .

والريطة شرط إطلاقها على مسماها أن تكون قطعة واحدة فإن كانت ملفقة من قطعتين فهي ملاءة والحلة شرط إطلاقها أن تكون ثوبين إزارا ورداء وإلا فهو ثوب والأريكة لا تقال على السرير إلا إذا كان عليه حجلة وهي التي تسمى بشخانة وخركاه وإلا فهو سرير واللطيمة لا تقال للجمال إلا إذا كان فيها طيب وإلا فهي عير والنفق لا يقال إلا لما له منفذ وإلا فهو سرب والعهن لا يقال للصوف إلا إذا كان مصبوغا وإلا فهو صوف والخدر لا يقال إلا لما اشتمل على المرأة وإلا فهو ستر .

والمحجن لا يقال للعصا إلا إذا كان محنية الرأس وإلا فهي عصا . والركية لا تقال على البئر إلا بشرط كون الماء فيها وإلا فهي بئر . والوقود لا يقال للحطب إلا إذا كانت النار فيه وإلا فهو حطب ولا يقال للتراب ثرى إلا بشرط نداوته وإلا فهو تراب . ولا يقال للرسالة مغلغلة إلا إذا حملت من بلد إلى بلد وإلا فهي رسالة ولا يقال للأرض قراح إلا إذا هيئت للزراعة ولا يقال لهروب العبد إباق إلا إذا كان هروبه من غير خوف ولا جوع ولا جهد وإلا فهو هروب والريق لا يقال له رضاب إلا إذا كان في الفم فإذا فارقه فهو بصاق وبساق والشجاع لا يقال له كمي إلا إذا كانشاكي السلاح وإلا فهو بطل .

وفي تسميته بطلا قولان
أحدهما : لأنه تبطل شجاعته قرنه وضربه وطعنه .
والثاني : لأنه تبطل شجاعة الشجعان عنده فعلى الأول فهو فعل بمعنى فاعل وعلى الثاني فعل بمعنى مفعول وهو قياس اللغة .

والبعير لا يقال له راوية إلا بشرط حمله للماء والطبق لا يسمى مهدى إلا أن يكون عليه هدية والمرأة لا تسمى ظعينة إلا بشرط كونها في الهودج هذا في الأصل وإلا فقد تسمى المرأة ظعينة وإن لم تكن في هودج ومنه في الحديث فمرت ظعن يجرين والدلو لا يقال له سجل إلا ما دام فيه ماء ولا يقال لها : ذنوب إلا إذا امتلأت به والسرير لا يقال له نعش إلا إذا كان عليه ميت والعظم لا يقال له عرق إلا إذا اشتمل عليه لحم والخيط لا يسمى سمطا إلا إذا كان فيه خرز .

ولا يقال للحبل قرن إلا إذا قرن فيه اثنان فصاعدا والقوم لا يسمون رفقة إلا إذا انضموا في مجلس واحد وسير واحد فإذا تفرقوا زال هذا الاسم ولم يزل عنهم اسم الرفيق والحجارة لا تسمى رضفا إلا إذا حميت بالشمس أو بالنار والشمس لا يقال لها : غزالة إلا عند ارتفاع النهار والثوب لا يسمى مطرفا إلا إذا كان في طرفيه علمان والمجلس لا يقال له النادي إلا إذا كان أهله فيه .

والمرأة لا يقال لها : عاتق إلا إذا كانت في بيت أبويها ولا يسمى الماء الملح أجاجا إلا إذا كان مع ملوحته مرا ولا يقال للسير إهطاع إلا إذا كان معه خوف ولا يقال للفرس محجل إلا إذا كان البياض في قوائمها كلها أو أكثرها وهذا باب طويل لو تقصيناه فكذلك لا يقال للطهر قرء إلا إذا كان قبله دم وبعده دم فأين في هذا ما يدل على أنه حيض ؟



قالوا : وأما قولكم إنه لم يجئ في كلام الشارع إلا للحيض فنحن نمنع مجيئه في كلام الشارع للحيض البتة فضلا عن الحصر . قالوا : إنه قال للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك فقد أجاب الشافعي عنه في كتاب حرملة بما فيه شفاء وهذا لفظه .

قال وزعم إبراهيم بن إسماعيل بن علية أن الأقراء الحيض واحتج بحديث سفيان عن أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في امرأة استحيضت تدع الصلاة أيام أقرائها قال الشافعي رحمه الله وما حدث بهذا سفيان قط إنما قال سفيان عن أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تدع الصلاة عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن

أو قال " أيام أقرائها " الشك من أيوب لا يدري . قال هذا أو هذا فجعله هو حديثا على ناحية ما يريد فليس هذا بصدق وقد أخبرنا مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم لتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتصل ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب وهو يقول بمثل أحد معنيي أيوب اللذين رواهما انتهى كلامه . قالوا : وأما الاستدلال بقوله تعالى : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن [ البقرة 228 ] .

وأنه الحيض أو الحبل أو كلاهما فلا ريب أن الحيض داخل في ذلك ولكن تحريم كتمانه لا يدل على أن القروء المذكورة في الآية هي الحيض فإنها إذا كانت الأطهار فإنها تنقضي بالطعن في الحيضة الرابعة أو الثالثة فإذا أرادت كتمان انقضاء العدة لأجل النفقة أو غيرها قالت لم أحض فتنقضي عدتي وهي كاذبة وقد حاضت وانقضت عدتها وحينئذ فتكون دلالة الآية على أن القروء الأطهار أظهر ونحن نقنع باتفاق الدلالة بها وإن أبيتم إلا الاستدلال فهو من جانبنا أظهر فإن أكثر المفسرين قالوا : الحيض والولادة . فإذا كانت العدة تنقضي بظهور الولادة فهكذا تنقضي بظهور الحيض تسوية بينهما في إتيان المرأة على كل واحد منهما .

وأما استدلالكم بقوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر [ الطلاق 4 ] فجعل كل شهر بإزاء حيضة فليس هذا بصريح في أن القروء هي الحيض بل غاية الآية أنه جعل اليأس من الحيض شرطا في الاعتداد بالأشهر فما دامت حائضا لا تنتقل إلى عدة الآيسات وذلك أن الأقراء التي هي الأطهار عندنا لا توجد إلا مع الحيض لا تكون بدونه فمن أين يلزم أن تكون هي الحيض ؟



[ ضعف حديث عدة الأمة حيضتان ]

وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها : طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان فهو حديث لو استدللنا به عليكم لم تقبلوا ذلك منا فإنه حديث ضعيف معلول قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث انتهى . ومظاهر بن أسلم هذا قال فيه أبو حاتم الرازي : منكر الحديث .

وقال يحيى بن معين : ليس بشيء مع أنه لا يعرف وضعفه أبو عاصم أيضا . وقال أبو داود : هذا حديث مجهول وقال الخطابي : أهل الحديث ضعفوا هذا الحديث وقال البيهقي : لو كان ثابتا لقلنا به إلا أنا لا نثبت حديثا يرويه من تجهل عدالته وقال الدارقطني : الصحيح عن القاسم بخلاف هذا ثم روي عن زيد بن أسلم قال سئل القاسم عن الأمة كم تطلق ؟ قال طلاقها ثنتان وعدتها حيضتان .

قال فقيل له هل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ؟ فقال لا . وقال البخاري في " تاريخه " : مظاهر بن أسلم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها يرفعه طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان

قال أبو عاصم أخبرنا ابن جريج عن مظاهر ثم لقيت مظاهرا فحدثنا به وكان أبو عاصم يضعف مظاهرا وقال يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب قال حدثني أسامة بن زيد بن أسلم أنه كان جالسا عند أبيه فأتاه رسول الأمير فقال إن الأمير يقول لك : كم عدة الأمة ؟ فقال عدة الأمة حيضتان وطلاق الحر الأمة ثلاث وطلاق العبد الحرة تطليقتان وعدة الحرة ثلاث حيض ثم قال للرسول أين تذهب ؟ قال أمرني أن أسأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله قال فأقسم عليك إلا رجعت إلي فأخبرتني ما يقولان فذهب ورجع إلى أبي فأخبره أنهما قالا كما قال وقالا له قل له إن هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عمل به المسلمون .

وقال أبو القاسم بن عساكر في " أطرافه " : فدل ذلك على أن الحديث المرفوع غير محفوظ

وأما استدلالكم بحديث ابن عمر مرفوعا طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان فهو من رواية عطية بن سعد العوفي وقد ضعفه غير واحد من الأئمة . قال الدارقطني : والصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه ما رواه سالم ونافع من قوله وروى الدارقطني أيضا عن سالم ونافع أن ابن عمر كان يقول طلاق العبد الحرة تطليقتان وعدتها ثلاثة قروء وطلاق الحر الأمة تطليقتان وعدتها عدة الأمة حيضتان

قالوا : والثابت بلا شك عن ابن عمر رضي الله عنه أن الأقراء الأطهار . قال الشافعي رحمه الله أخبرنا مالك رحمه الله عن نافع عن ابن عمر قال إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ولا ترثه ولا يرثها

قالوا : فهذا الحديث مداره على ابن عمر وعائشة ومذهبهما بلا شك أن الأقراء الأطهار فكيف يكون عندهما عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك ولا يذهبان إليه ؟ قالوا : وهذا بعينه هو الجواب عن حديث عائشة الآخر أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض

قالوا : وقد روي هذا الحديث بثلاثة ألفاظ أمرت أن تعتد وأمرت أن تعتد عدة الحرة وأمرت أن تعتد ثلاث حيض فلعل رواية من روى " ثلاث حيض " محمولة على المعنى ومن العجب أن يكون عند عائشة رضي الله عنها هذا وهي تقول الأقراء الأطهار وأعجب منه أن يكون هذا الحديث بهذا السند المشهور الذي كلهم أئمة ولا يخرجه أصحاب الصحيح ولا المساند ولا من اعتنى بأحاديث الأحكام وجمعها ولا الأئمة الأربعة وكيف يصبر عن إخراج هذا الحديث من هو مضطر إليه ولا سيما بهذا السند المعروف الذي هو كالشمس شهرة ولا شك أن بريرة أمرت أن تعتد وأما إنها أمرت بثلاث حيض فهذا لو صح لم نعده إلى غيره ولبادرنا إليه .



[ الفرق بين الاستبراء والعدة ]
قالوا : وأما استدلالكم بشأن الاستبراء فلا ريب أن الصحيح كونه بحيضة وهو ظاهر النص الصحيح فلا وجه للاشتغال بالتعلل بالقول إنها تستبرأ بالطهر فإنه خلاف ظاهر نص الرسول صلى الله عليه وسلم وخلاف القول الصحيح من قول الشافعي وخلاف قول الجمهور من الأمة فالوجه العدول إلى الفرق بين البابين فنقول الفرق بينهما ما تقدم أن العدة وجبت قضاء لحق الزوج فاختصت بزمان حقه وهو الطهر بأنها تتكرر فيعلم منها البراءة بواسطة الحيض بخلاف الاستبراء .

قولكم لو كانت الأقراء الأطهار لم تحصل بالقرء الأول دلالة لأنه لو جامعها ثم طلقها فيه حسبت بقيته قرءا ومعلوم قطعا أن هذا الطهر لا يدل على شيء .

فجوابه أنها إذا طهرت بعد طهرين كاملين صحت دلالته بانضمامه إليهما .

قولكم إن الحدود والعلامات والأدلة إنما تحصل بالأمور الظاهرة إلى آخره .

جوابه أن الطهر إذا احتوشه دمان كان كذلك وإذا لم يكن قبله دم ولا بعده دم فهذا لا يعتد به البتة .

قالوا : ويزيد ما ذهبنا إليه قوة أن القرء هو الجمع وزمان الطهر أولى به فإنه حينئذ يجتمع الحيض وإنما يخرج بعد جمعه .

قالوا : وإدخال التاء في ثلاثة قروء يدل على أن القرء مذكر وهو الطهر فلو كان الحيض لكان بغير تاء لأن واحدها حيضة .

فهذا ما احتج به أرباب هذا القول استدلالا وجوابا وهذا موضع لا يمكن فيه التوسط بين الفريقين إذ لا توسط بين القولين فلا بد من التحيز إلى أحد الفئتين ونحن متحيزون في هذه المسألة إلى أكابر الصحابة وقائلون فيها بقولهم إن القرء الحيض وقد تقدم الاستدلال على صحة هذا القول فنجيب عما عارض به أرباب القول الآخر ليتبين ما رجحناه وبالله التوفيق .



[ رد المصنف على اعتراضات من فسر الأقراء بالأطهار ]
[ الطلاق قبل العدة ]

فنقول أما استدلالكم بقوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 1 ] فهو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب منه إلى أن يكون حجة لكم فإن المراد طلاقها قبل العدة ضرورة إذ لا يمكن حمل الآية على الطلاق في العدة فإن هذا - مع تضمنه لكون اللام للظرفية بمعنى - في - فاسد معنى إذ لا يمكن إيقاع الطلاق في العدة فإنه سببها والسبب يتقدم الحكم وإذا تقرر ذلك فمن قال الأقراء الحيض فقد عمل بالآية وطلق قبل العدة .

فإن قلتم ومن قال إنها الأطهار فالعدة تتعقب الطلاق فقد طلق قبل العدة قلنا : فبطل احتجاجكم حينئذ وصح أن المراد الطلاق قبل العدة لا فيها وكلا الأمرين يصح أن يراد بالآية لكن إرادة الحيض أرجح وبيانه أن العدة فعلة مما تعد يعني معدودة لأنها تعد وتحصى كقوله وأحصوا العدة [ الطلاق 1 ] والطهر الذي قبل الحيضة مما يعد ويحصى فهو من العدة وليس الكلام فيه وإنما الكلام في أمر آخر وهو دخوله في مسمى القروء الثلاثة المذكورة في الآية أم لا ؟ فلو كان النص فطلقوهن لقروئهن لكان فيه تعليق فهنا أمران

قوله تعالى : يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة 228 ] والثاني : قوله فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 1 ] ولا ريب أن القائل افعل كذا لثلاث بقين من الشهر إنما يكون المأمور ممتثلا إذا فعله قبل مجيء الثلاث وكذلك إذا قال فعلته لثلاث مضين من الشهر إنما يصدق إذا فعله بعد مضي الثلاث وهو بخلاف حرف الظرف الذي هو " في " فإنه إذا قال فعلته في ثلاث بقين كان الفعل واقعا في نفس الثلاث وهاهنا نكتة حسنة وهي أنهم يقولون فعلته لثلاث ليال خلون أو بقين من الشهر وفعلته في الثاني أو الثالث من الشهر أو في ثانيه أو ثالثه فمتى أرادوا مضي الزمان أو استقباله أتوا باللام ومتى أرادوا وقوع الفعل فيه أتوا بفي وسر ذلك أنهم إذا أرادوا مضي زمن الفعل أو استقباله أتوا بالعلامة الدالة على اختصاص العدد الذي يلفظون به بما مضى أو بما يستقبل وإذا أرادوا وقوع الفعل في ذلك الزمان أتوا بالأداة المعينة له وهي أداة " في " وهذا خير من قول كثير من النحاة إن اللام تكون بمعنى قبل في قولهم كتبته لثلاث بقين وقوله فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 1 ] . وبمعنى بعد كقولهم لثلاث خلون . وبمعنى في : كقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ الأنبياء 47 ]
وقوله فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ آل عمران 25 ] والتحقيق أن اللام على بابها للاختصاص بالوقت المذكور كأنهم جعلوا الفعل للزمان المذكور اتساعا لاختصاصه به فكأنه له فتأمله .

وفرق آخر وهو أنك إذا أتيت باللام لم يكن الزمان المذكور بعده إلا ماضيا أو منتظرا ومتى أتيت بفي لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارنا للفعل وإذا تقرر هذا من قواعد العربية فقوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق 1 ] معناه لاستقبال عدتهن لا فيها وإذا كانت العدة التي يطلق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض فإن الطاهر لا تستقبل الطهر إذ هي فيه وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها هذا المعروف لغة وعقلا وعرفا فإنه لا يقال لمن هو في عافية هو مستقبل العافية ولا لمن هو في أمن هو مستقبل الأمن ولا لمن هو في قبض مغله وإحرازه هو مستقبل المغل وإنما المعهود لغة وعرفا أن يستقبل الشيء من هو على حال ضده وهذا أظهر من أن نكثر شواهده .

فإن قيل فيلزم من هذا أن يكون من طلق في الحيض مطلقا للعدة عند من يقول الأقراء الأطهار لأنها تستقبل طهرها بعد حالها التي هي فيها قلنا : نعم يلزمهم ذلك فإنه لو كان أول العدة التي تطلق لها المرأة هو الطهر لكان إذا طلقها في أثناء الحيض مطلقا للعدة لأنها تستقبل الطهر بعد ذلك الطلاق .

فإن قيل " اللام " بمعنى " في " والمعنى : فطلقوهن في عدتهن وهذا إنما يمكن إذا طلقها في الطهر بخلاف ما إذا طلقها في الحيض . قيل الجواب من وجهين .

أحدهما : أن الأصل عدم الاشتراك في الحروف والأصل إفراد كل حرف بمعناه فدعوى خلاف ذلك مردودة بالأصل .

الثاني : أنه يلزم منه أن يكون بعض العدة ظرفا لزمن الطلاق فيكون الطلاق واقعا في نفس العدة ضرورة صحة الظرفية كما إذا قلت : فعلته في يوم الخميس بل الغالب في الاستعمال من هذا أن يكون بعض الظرف سابقا على الفعل ولا ريب في امتناع هذا فإن العدة تتعقب الطلاق ولا تقارنه ولا تتقدم عليه .

قالوا : ولو سلمنا أن " اللام " بمعنى " في " وساعد على ذلك قراءة ابن عمر رضي الله عنه وغيره ( فطلقوهن في قبل عدتهن فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون القرء هو الطهر فإن القرء حينئذ يكون هو الحيض وهو المعدود والمحسوب وما قبله من الطهر يدخل في حكمه تبعا وضمنا لوجهين .


افتراضي

[ من ضرورة الحيض أن يتقدمه طهر ]

أحدهما : أن من ضرورة الحيض أن يتقدمه طهر فإذا قيل تربصي ثلاث حيض وهي في أثناء الطهر كان ذلك الطهر من مدة التربص كما لو قيل لرجل أقم هاهنا ثلاثة أيام وهو في أثناء ليلة فإنه يدخل بقية تلك الليلة في اليوم الذي يليها كما تدخل ليلة اليومين الآخرين في يوميهما . ولو قيل له في النهار أقم ثلاث ليال دخل تمام ذلك النهار تبعا لليلة التي تليه .

[ الطهر سبب لوجود الحيض ]

الثاني : أن الحيض إنما يتم باجتماع الدم في الرحم قبله فكان الطهر مقدمة وسببا لوجود الحيض فإذا علق الحكم بالحيض فمن لوازمه ما لا يوجد الحيض إلا بوجوده وبهذا يظهر أن هذا أبلغ من الأيام والليالي فإن الليل والنهار متلازمان وليس أحدهما سببا لوجود الآخر وهاهنا الطهر سبب لاجتماع الدم في الرحم فقوله سبحانه وتعالى : لعدتهن أي لاستقبال العدة التي تتربصها وهي تتربص ثلاث حيض بالأطهار التي قبلها . فإذا طلقت في أثناء الطهر فقد طلقت في الوقت الذي تستقبل فيه العدة المحسوبة وتلك العدة هي الحيض بما قبلها من الأطهار بخلاف ما لو طلقت في أثناء حيضة فإنها لم تطلق لعدة تحسبها لأن بقية ذلك الحيض ليس هو العدة التي تعتد بها المرأة أصلا ولا تبعا لأصل وإنما تسمى عدة لأنها تحبس فيها عن الأزواج إذا عرف هذا فقوله ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ الأنبياء 47 ] يجوز أن تكون اللام لام التعليل أي لأجل يوم القيامة .

وقد قيل إن القسط منصوب على أنه مفعول له أي نضعها لأجل القسط وقد استوفى شروط نصبه وأما قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس [ الإسراء : 78 ] فليست اللام بمعنى " في " قطعا بل قيل إنها لام التعليل أي لأجل دلوك الشمس وقيل إنها بمعنى بعد فإنه ليس المراد إقامتها وقت الدلوك سواء فسر بالزوال أو الغروب وإنما يؤمر بالصلاة بعده ويستحيل حمل آية العدة على ذلك وهكذا يستحيل حمل آية العدة عليه إذ يصير المعنى : فطلقوهن بعد عدتهن . فلم يبق إلا أن يكون المعنى : فطلقوهن لاستقبال عدتهن ومعلوم أنها إذا طلقت طاهرا استقبلت العدة بالحيض . ولو كانت الأقراء الأطهار لكانت السنة أن تطلق حائضا لتستقبل العدة بالأطهار فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي أن تطلق طاهرا لتستقبل عدتها بعد الطلاق .

فإن قيل فإذا جعلنا الأقراء الأطهار استقبلت عدتها بعد الطلاق بلا فصل ومن جعلها الحيض لم تستقبلها على قوله حتى ينقضي الطهر .

قيل كلام الرب تبارك وتعالى لا بد أن يحمل على فائدة مستقلة وحمل الآية على معنى : فطلقوهن طلاقا تكون العدة بعده لا فائدة فيه وهذا بخلاف ما إذا كان المعنى : فطلقوهن طلاقا يستقبلن فيه العدة لا يستقبلن فيه طهرا لا تعتد به فإنها إذا طلقت حائضا استقبلت طهرا لا تعتد به فلم تطلق لاستقبال العدة ويوضحه قراءة من قرأ فطلقوهن في قبل عدتهن . وقبل العدة هو الوقت الذي يكون بين يدي العدة تستقبل به كقبل الحائض يوضحه أنه لو أريد ما ذكروه لقيل في أول عدتهن فالفرق بين بين قبل الشيء وأوله .


افتراضي

[ يجب تأخر العدة عن الطلاق ]

وأما قولكم لو كانت القروء هي الحيض لكان قد طلقها قبل العدة . قلنا : أجل وهذا هو الواجب عقلا وشرعا فإن العدة لا تفارق الطلاق ولا تسبقه بل يجب تأخرها عنه .

[ التطويل عند الطلاق في الحيض ]

قولكم وكان ذلك تطويلا عليها كما لو طلقها في الحيض قيل هذا مبني على أن العلة في تحريم طلاق الحائض خشية التطويل عليها وكثير من الفقهاء لا يرضون هذا التعليل ويفسدونه بأنها لو رضيت بالطلاق فيه واختارت التطويل لم يبح له ولو كان ذلك لأجل التطويل لم تبح له برضاها كما يباح إسقاط الرجعة الذي هو حق المطلق بتراضيهما بإسقاطها بالعوض اتفاقا وبدونه في أحد القولين وهذا هو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد ومالك ويقولون إنما حرم طلاقها في الحيض لأنه طلقها في وقت رغبة عنها ولو سلمنا أن التحريم لأجل التطويل عليها فالتطويل المضر أن يطلقها حائضا فتنتظر مضي الحيضة والطهر الذي يليها ثم تأخذ في العدة فلا تكون مستقبلة لعدتها بالطلاق وأما إذا طلقت طاهرا فإنها تستقبل العدة عقيب انقضاء الطهر فلا يتحقق التطويل .

[ القرء مشتق من الجمع أي زمن الطهر ]

وقولكم إن القرء مشتق من الجمع وإنما يجمع الحيض في زمن الطهر . عنه ثلاثة أجوبة .

[ الرد على ذلك بأن ذلك مشتق من المعتل لا المهموز ]

أحدها : أن هذا ممنوع والذي هو مشتق من الجمع إنما هو من باب الياء من المعتل من قرى يقري كقضى يقضي والقرء من المهموز من بنات الهمز من قرأ يقرأ كنحر ينحر وهما أصلان مختلفان فإنهم يقولون قريت الماء في الحوض أقريه أي جمعته ومنه سميت القرية ومنه قرية النمل للبيت الذي تجتمع فيه لأنه يقريها أي يضمها ويجمعها . وأما المهموز فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد ومنه قراءة القرآن لأن قارئه يظهره ويخرجه مقدارا محدودا لا يزيد ولا ينقص ويدل عليه قوله إن علينا جمعه وقرآنه [ القيامة 17 ] ففرق بين الجمع والقرآن . ولو كانا واحدا لكان تكريرا محضا ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ القيامة 18 ] فإذا بيناه فجعل قراءته نفس إظهاره وبيانه لا كما زعم أبو عبيدة أن القرآن مشتق من الجمع . ومنه قولهم ما قرأت هذه الناقة سلى قط وما قرأت جنينا هو من هذا الباب أي ما ولدته وأخرجته وأظهرته ومنه فلان يقرؤك السلام ويقرأ عليك السلام هو من الظهور والبيان ومنه قولهم قرأت المرأة حيضة أو حيضتين أي حاضتهما لأن الحيض ظهور ما كان كامنا كظهور الجنين ومنه قروء الثريا وقروء الريح وهو الوقت الذي يظهر المطر والريح فإنهما يظهران في وقت مخصوص وقد ذكر هذا الاشتقاق المصنفون في كتب الاشتقاق وذكره أبو عمرو وغيره ولا ريب أن هذا المعنى في الحيض أظهر منه في الطهر .



[ الرد على قولهم النساء أعلم بهذا الباب من الرجال ]

قولكم إن عائشة رضي الله عنها قالت القروء الأطهار والنساء أعلم بهذا من الرجال .

فالجواب أن يقال من جعل النساء أعلم بمراد الله من كتابه وأفهم لمعناه من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهم وأكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فنزول ذلك في شأنهن لا يدل على أنهن أعلم به من الرجال وإلا كانت كل آية نزلت في النساء تكون النساء أعلم بها من الرجال ويجب على الرجال تقليدهن في معناها وحكمها فيكن أعلم من الرجال بآية الرضاع وآية الحيض وتحريم وطء الحائض وآية عدة المتوفى عنها وآية الحمل والفصال ومدتهما وآية تحريم إبداء الزينة إلا لمن ذكر فيها وغير ذلك من الآيات التي تتعلق بهن وفي شأنهن نزلت ويجب على الرجال تقليدهن في حكم هذه الآيات ومعناها وهذا لا سبيل إليه البتة . وكيف ومدار العلم بالوحي على الفهم والمعرفة ووفور العقل والرجال أحق بهذا من النساء وأوفر نصيبا منه بل لا يكاد يختلف الرجال والنساء في مسألة إلا والصواب في جانب الرجال وكيف يقال إذا اختلفت عائشة وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود في مسألة إن الأخذ بقول عائشة رضي الله عنها أولى وهل الأولى إلا قول فيه خليفتان راشدان ؟ وإن كان الصديق معهما كما حكي عنه فذلك القول مما لا يعدوه الصواب البتة فإن النقل عن عمر وعلي ثابت وأما عن الصديق ففيه غرابة ويكفينا قول جماعة من الصحابة فيهم مثل عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وأبي موسى فكيف نقدم قول أم المؤمنين وفهمها على أمثال هؤلاء ؟

ثم يقال فهذه عائشة رضي الله عنها ترى رضاع الكبير ينشر الحرمة ويثبت المحرمية ومعها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وقد خالفها غيرها من الصحابة وهي روت حديث التحريم به فهلا قلتم النساء أعلم بهذا من الرجال ورجحتم قولها على قول من خالفها ؟

ونقول لأصحاب مالك رحمه الله وهذه عائشة رضي الله عنها لا ترى التحريم إلا بخمس رضعات ومعها جماعة من الصحابة وروت فيه حديثين فهلا قلتم النساء أعلم بهذا من الرجال وقدمتم قولها على قول من خالفها ؟

فإن قلتم هذا حكم يتعدى إلى الرجال فيستوي النساء معهم فيه قيل ويتعدى حكم العدة مثله إلى الرجال فيجب أن يستوي النساء معهم فيه وهذا لا خفاء به . ثم يرجح قول الرجال في هذه المسألة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لواحد من هذا الحزب بأن الله ضرب الحق على لسانه وقلبه . وقد وافق ربه تبارك وتعالى في عدة مواضع قال فيها قولا فنزل القرآن بمثل ما قال وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم فضل إنائه في النوم وأوله بالعلم وشهد له بأنه محدث ملهم فإذا لم يكن بد من التقليد فتقليده أولى وإن كانت الحجة هي التي تفصل بين المتنازعين فتحكيمها هو الواجب .



[ الأخذ بقول علي هو أحق برجعتها ما لم تغتسل ]

قولكم إن من قال إن الأقراء الحيض لا يقولون بقول علي وابن مسعود ولا بقول عائشة فإن عليا يقول هو أحق برجعتها ما لم تغتسل وأنتم لا تقولون بواحد من القولين فهذا غايته أن يكون تناقضا ممن لا يقول بذلك كأصحاب أبي حنيفة وتلك شكاة ظاهر عنك عارها عمن يقول بقول علي وهو الإمام أحمد وأصحابه كما تقدم حكاية ذلك فإن العدة تبقى عنده إلى أن تغتسل كما قاله علي ومن وافقه ونحن نعتذر عمن يقول الأقراء الحيض في ذلك ولا يقول هو أحق بها ما لم تغتسل فإنه وافق من يقول الأقراء الحيض في ذلك وخالفه في توقف انقضائها على الغسل لمعارض أوجب له مخالفته كما يفعله سائر الفقهاء .

ولو ذهبنا نعد ما تصرفتم فيه هذا التصرف بعينه فإن كان هذا المعارض صحيحا لم يكن تناقضا منهم وإن لم يكن صحيحا لم يكن ضعيف قولهم في إحدى المسألتين عندهم بمانع لهم من موافقتهم لهم في المسألة الأخرى فإن موافقة أكابر الصحابة وفيهم من فيهم من الخلفاء الراشدين في معظم قولهم خير وأولى من مخالفتهم في قولهم جميعه وإلغائه بحيث لا يعتبر البتة .

قالوا : ثم لم نخالفهم في توقف انقضائها على الغسل بل قلنا : لا تنقضي حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة فوافقناهم في قولهم بالغسل وزدنا عليهم انقضاءها بمضي وقت الصلاة لأنها صارت في حكم الطاهرات بدليل استقرار الصلاة في ذمتها فأين المخالفة الصريحة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 04:22 AM
[ بالاختلاف فيما ينقضي به أجل العدة ]

وقولكم لا نجد في كتاب الله للغسل معنى . فيقال كتاب الله تعالى لم يتعرض للغسل بنفي ولا إثبات وإنما علق الحل والبينونة بانقضاء الأجل .

وقد اختلف السلف والخلف فيما ينقضي به الأجل فقيل بانقطاع الحيض . وقيل بالغسل أو مضي صلاة أو انقطاعه لأكثره . وقيل بالطعن في الحيضة الثالثة وحجة من وقفه على الغسل قضاء الخلفاء الراشدين قال الإمام أحمد : عمر وعلي وابن مسعود يقولون حتى تغتسل من الحيضة الثالثة . قالوا : وهم أعلم بكتاب الله وحدود ما أنزل على رسوله وقد روي هذا المذهب عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء حكاه صاحب " المغني " وغيره عنهم . ومن هاهنا قيل إن مذهب الصديق ومن ذكر معه أن الأقراء الحيض .

قالوا : وهذا القول له حظ وافر من الفقه فإن المرأة إذا انقطع حيضها صارت في حكم الطاهرات من وجه وفي حكم الحيض من وجه والوجوه التي هي فيها في حكم الحيض أكثر من الوجوه التي هي فيها في حكم الطاهرات فإنها في حكم الطاهرات في صحة الصيام ووجوب الصلاة وفي حكم الحيض في تحريم قراءة القرآن عند من حرمه على الحائض واللبث في المسجد والطواف بالبيت وتحريم الوطء وتحريم الطلاق في أحد القولين فاحتاط الخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة للنكاح ولم يخرجوها منه بعد ثبوته إلا بقيد لا ريب فيه وهو ثبوت حكم الطاهرات في حقها من كل وجه إزالة لليقين بيقين مثله إذ ليس جعلها حائضا في تلك الأحكام أولى من جعلها حائضا في بقاء الزوجية وثبوت الرجعة وهذا من أدق الفقه وألطفه مأخذا .

قالوا : وأما قول الأعشى :

لما ضاع فيها من قروء نسائكا


فغايته استعمال القروء في الطهر ونحن لا ننكره .



[ الرد على من يقول الأسبق أولى بالاسم ]

قولكم إن الطهر أسبق من الحيض فكان أولى بالاسم فترجيح طريف جدا فمن أين يكون أولى بالاسم إذا كان سابقا في الوجود ؟ ثم ذلك السابق لا يسمى قرءا ما لم يسبقه دم عند جمهور من يقول الأقراء الأطهار وهل يقال في كل لفظ مشترك إن أسبق معانيه إلى الوجود أحق به فيكون عسعس من قوله والليل إذا عسعس [ التكوير 17 ] أولى بكونه لإقبال الليل لسبقه في الوجود فإن الظلام سابق على الضياء .




[ الرد على ادعاء تفسيره صلى الله عليه وسلم القروء بالأطهار ]
وأما قولكم إن النبي صلى الله عليه وسلم فسر القروء بالأطهار فلعمر الله لو كان الأمر كذلك لما سبقتمونا إلى القول بأنها الأطهار ولبادرنا إلى هذا القول اعتقادا وعملا وهل المعول إلا على تفسيره وبيانه

تقول سليمى لو أقمتم

بأرضنا ولم تدر أني للمقام أطوف


فقد بينا من صريح كلامه ومعناه ما يدل على تفسيره للقروء بالحيض وفي ذلك كفاية .

فصل في الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا

قولكم في الاعتراض على الاستدلال بقوله ثلاثة قروء فإنه يقتضي أن تكون كوامل أي بقية الطهر قرء كامل فهذا ترجمة المذهب والشأن في كونه قرءا في لسان الشارع أو في اللغة فكيف تستدلون علينا بالمذهب مع منازعة غيركم لكم فيه ممن يقول الأقراء الأطهار كما تقدم ؟ ولكن أوجدونا في لسان الشارع أو في لغة العرب أن اللحظة من الطهر تسمى قرءا كاملا وغاية ما عندكم أن بعض من قال القروء الأطهار لا كلهم يقولون بقية القرء المطلق فيه قرء وكان ماذا ؟ كيف وهذا الجزء من الطهر بعض طهر بلا ريب ؟ فإذا كان مسمى القرء في الآية هو الطهر وجب أن يكون هذا بعض قرء يقينا أو يكون القرء مشتركا بين الجميع والبعض وقد تقدم إبطال ذلك وأنه لم يقل به أحد .



[ الرد على قولهم إن العرب توقع اسم الجمع على اثنين وبعض الثالث ]

قولكم إن العرب توقع اسم الجمع على اثنين وبعض الثالث جوابه من وجوه .

[ الفرق بين أسماء الجموع وصيغ العدد ]

أحدها : أن هذا إن وقع فإنما يقع في أسماء الجموع التي هي ظواهر في مسماها وأما صيغ العدد التي هي نصوص في مسماها فكلا ولما ولم ترد صيغة العدد إلا مسبوقة بمسماها كقوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله [ التوبة 36 ] . وقوله ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ الكهف 25 ] . وقوله فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ البقرة 196 ] . وقوله سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما [ الحاقة 7 ] ونظائره مما لا يراد به في موضع واحد دون مسماه من العدد . وقوله ثلاثة قروء اسم عدد ليس بصيغة جمع فلا يصح إلحاقه بأشهر معلومات لوجهين .

أحدهما : أن اسم العدد نص في مسماه لا يقبل التخصيص المنفصل بخلاف الاسم العام فإنه يقبل التخصيص المنفصل فلا يلزم من التوسع في الاسم الظاهر التوسع في الاسم الذي هو نص فيما يتناوله .

الثاني : أن اسم الجمع يصح استعماله في اثنين فقط مجازا عند الأكثرين وحقيقة عند بعضهم فصحة استعماله في اثنين وبعض الثالث أولى بخلاف الثلاثة ولهذا لما قال الله تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ النساء 11 ] حمله الجمهور على أخوين ولما قال فشهادة أحدهم أربع شهادات [ النور 6 ] لم يحملها أحد على ما دون الأربع .

والجواب الثاني : أنه وإن صح استعمال الجمع في اثنين وبعض الثالث إلا أنه مجاز والحقيقة أن يكون المعنى على وفق اللفظ وإذا دار اللفظ بين حقيقته ومجازه فالحقيقة أولى به .

الجواب الثالث أنه إنما جاء استعمال الجمع في اثنين وبعض الثالث في أسماء الأيام والشهور والأعوام خاصة لأن التاريخ إنما يكون في أثناء هذه الأزمنة فتارة يدخلون السنة الناقصة في التاريخ وتارة لا يدخلونها . وكذلك الأيام وقد توسعوا في ذلك ما لم يتوسعوا في غيره فأطلقوا الليالي وأرادوا الأيام معها تارة وبدونها أخرى وبالعكس .

الجواب الرابع أن هذا التجوز جاء في جمع القلة وهو قوله الحج أشهر معلومات [ البقرة 197 ] . وقوله ثلاثة قروء جمع كثرة وكان من الممكن أن يقال ثلاثة أقراء إذ هو الأغلب على الكلام بل هو الحقيقة عند أكثر النحاة والعدول عن صيغة القلة إلى صيغة الكثرة لا بد له من فائدة ونفي التجوز في هذا الجمع يصلح أن يكون فائدة ولا يظهر غيرها فوجب اعتبارها .



[ يطلق اسم الجمع على اثنين وبعض الثالث فيما يقبل التبعيض ]

الجواب الخامس أن اسم الجمع إنما يطلق على اثنين وبعض الثالث فيما يقبل التبعيض وهو اليوم والشهر والعام ونحو ذلك دون ما لا يقبله والحيض والطهر لا يتبعضان ولهذا جعلت عدة الأمة ذات الأقراء قرأين كاملين بالاتفاق ولو أمكن تنصيف القرء لجعلت قرءا ونصفا هذا مع قيام المقتضي للتبعيض فأن لا يجوز التبعيض مع قيام المقتضي للتكميل أولى وسر المسألة أن القرء ليس لبعضه حكم في الشرع .

الجواب السادس أنه سبحانه قال في الآيسة والصغيرة فعدتهن ثلاثة أشهر ثم اتفقت الأمة على أنها ثلاثة كوامل وهي بدل عن الحيض فتكميل المبدل أولى .

قولكم إن أهل اللغة يصرحون بأن له مسميين الحيض والطهر لا ننازعكم فيه ولكن حمله على الحيض أولى للوجوه التي ذكرناها والمشترك إذا اقترن به قرائن ترجح أحد معانيه وجب الحمل على الراجح .




[ الرد على ادعائهم أن الطهر الذي لم يسبقه دم هو قرء ]
قولكم إن الطهر الذي لم يسبقه دم قرء على الأصح فهذا ترجيح وتفسير للفظه بالمذهب وإلا فلا يعرف في لغة العرب قط أن طهر بنت أربع سنين يسمى قرءا ولا تسمى من ذوات الأقراء لا لغة ولا عرفا ولا شرعا فثبت أن الدم داخل في مسمى القرء ولا يكون قرءا إلا مع وجوده .




[ بيان مجيء القرء على لسان الشارع للحيض ]
قولكم إن الدم شرط للتسمية كالكأس والقلم وغيرهما من الألفاظ المذكورة تنظير فاسد فإن مسمى تلك الألفاظ حقيقة واحدة مشروطة بشروط والقرء مشترك بين الطهر والحيض يقال على كل منهما حقيقة فالحيض مسماه حقيقة لا أنه شرط في استعماله في أحد مسمييه فافترقا .





[ تقوية حديث " دعي الصلاة أيام أقرائك " ]

قولكم لم يجئ في لسان الشارع للحيض قلنا قد بينا مجيئه في كلامه للحيض بل لم يجئ في كلامه للطهر البتة في موضع واحد وقد تقدم أن سفيان بن عيينة روى عن أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها

قولكم إن الشافعي قال ما حدث بهذا سفيان قط جوابه أن الشافعي لم يسمع سفيان يحدث به فقال بموجب ما سمعه من سفيان أو عنه من قوله لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر وقد سمعه من سفيان من لا يستراب بحفظه وصدقه وعدالته . وثبت في السنن من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء رواه أبو داود بإسناد صحيح فذكر فيه لفظ القرء أربع مرات في كل ذلك يريد به الحيض لا الطهر وكذلك إسناد الذي قبله وقد صححه جماعة من الحفاظ .

وأما حديث سفيان الذي قال فيه لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر فلا تعارض بينه وبين اللفظ الذي احتججنا به بوجه ما حتى يطلب ترجيح أحدهما على الآخر بل أحد اللفظين يجري من الآخر مجرى التفسير والبيان وهذا يدل على أن القرء اسم لتلك الليالي والأيام فإنه إن كانا جميعا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الظاهر - فظاهر وإن كان قد روي بالمعنى فلولا أن معنى أحد اللفظين معنى الآخر لغة وشرعا لم يحل للراوي أن يبدل لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يقوم مقامه ولا يسوغ له أن يبدل اللفظ بما يوافق مذهبه ولا يكون مرادفا للفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما والراوي لذلك من لا يدفع عن الإمامة والصدق والورع وهو أيوب السختياني وهو أجل من نافع وأعلم .

وقد روى عثمان بن سعد الكاتب حدثنا ابن أبي مليكة قال جاءت خالتي فاطمة بنت أبي حبيش إلى عائشة رضي الله عنها فقالت إني أخاف أن أقع في النار أدع الصلاة السنة والسنتين قالت انتظري حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فقالت عائشة رضي الله عنها : هذه فاطمة تقول كذا وكذا قال قولي لها فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها قال الحاكم : هذا حديث صحيح وعثمان بن سعد الكاتب بصري ثقة عزيز الحديث يجمع حديثه قال البيهقي : وتكلم فيه غير واحد . وفيه أنه تابعه الحجاج بن أرطاة عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها . وفي " المسند " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة إذا أقبلت أيام أقرائك فأمسكي عليك الحديث .

وفي " سنن أبي داود " من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي وفي " سننه " أيضا : أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء وقد تقدم .

قال أبو داود : وروى قتادة عن عروة عن زينب عن أم سلمة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدع الصلاة أيام أقرائها

وتعليل هذه الأحاديث بأن هذا من تغيير الرواة رووه بالمعنى لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه فلو كانت من جانب من عللها لأعاد ذكرها وأبداه وشنع على من خالفها . وأما قولكم إن الله سبحانه وتعالى جعل اليأس من الحيض شرطا في الاعتداد بالأشهر فمن أين يلزم أن تكون القروء هي الحيض ؟ قلنا : لأنه جعل الأشهر الثلاثة بدلا عن الأقراء الثلاثة وقال واللائي يئسن من المحيض من نسائكم [ الطلاق 4 ] فنقلهن إلى الأشهر عند تعذر مبدلهن وهو الحيض فدل على أن الأشهر بدل عن الحيض الذي يئسن منه لا عن الطهر وهذا واضح .


[ الجواب عن تضعيف حديث " عدة الأمة حيضتان " ]

قولكم حديث عائشة رضي الله عنها معلول بمظاهر بن أسلم ومخالفة عائشة له فنحن إنما احتججنا عليكم بما استدللتم به علينا في كون الطلاق بالنساء لا بالرجال فكل من صنف من أصحابكم في طريق الخلاف أو استدل على أن طلاق العبد طلقتان احتج علينا بهذا الحديث . وقال جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلاق العبد تطليقتين فاعتبر الطلاق بالرجال لا بالنساء واعتبر العدة بالنساء فقال وعدة الأمة حيضتان . فيا سبحان الله يكون الحديث سليما من العلل إذا كان حجة لكم فإذا احتج به منازعوكم عليكم اعتورته العلل المختلفة فما أشبهه بقول القائل

يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى

إليكم تلقى نشركم فيطيب


فنحن إنما كلنا لكم بالصاع الذي كلتم لنا به بخسا ببخس وإيفاء بإيفاء ولا ريب أن مظاهرا ممن لا يحتج به لكن لا يمتنع أن يعتضد بحديثه ويقوى به والدليل غيره .

وأما تعليله بخلاف عائشة رضي الله عنها له فأين ذلك من تقريركم أن مخالفة الراوي لا توجب رد حديثه وأن الاعتبار بما رواه لا بما رآه وتكثركم من الأمثلة التي أخذ الناس فيها بالرواية دون مخالفة راويها لها كما أخذوا برواية ابن عباس المتضمنة لبقاء النكاح مع بيع الزوجة وتركوا رأيه بأن بيع الأمة طلاقها وغير ذلك .

وأما ردكم لحديث ابن عمر رضي الله عنه طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان بعطية العوفي فهو وإن ضعفه أكثر أهل الحديث فقد احتمل الناس حديثه وخرجوه في السنن وقال يحيى بن معين في رواية عباس الدوري عنه صالح الحديث وقال أبو أحمد بن عدي رحمه الله روى عنه جماعة من الثقات وهو مع ضعفه يكتب حديثه فيعتضد به وإن لم يعتمد عليه وحده .

وأما ردكم الحديث بأن ابن عمر مذهبه أن القروء الأطهار فلا ريب أن هذا يورث شبهة في الحديث ولكن ليس هذا بأول حديث خالفه راويه فكان الاعتبار بما رواه لا بما ذهب إليه وهذا هو الجواب عن ردكم لحديث عائشة رضي الله عنها بمذهبها ولا يعترض على الأحاديث بمخالفة الرواة لها .



[ الجواب عن عدة المختلعة بحيضة ]

وأما ردكم لحديث المختلعة وأمرها أن تعتد بحيضة فإنا لا نقول به فللناس في هذه المسألة قولان وهما روايتان عن أحمد أحدهما : أن عدتها ثلاث حيض كقول الشافعي ومالك وأبي حنيفة .

والثاني : أن عدتها حيضة وهو قول أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وهو مذهب أبان بن عثمان وبه يقول إسحاق بن راهويه وابن المنذر وهذا هو الصحيح في الدليل والأحاديث الواردة فيه لا معارض لها والقياس يقتضيه حكما وسنبين هذه المسألة عند ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة المختلعة .

قالوا : ومخالفتنا لحديث اعتداد المختلعة بحيضة في بعض ما اقتضاه من جواز الاعتداد بحيضة لا يكون عذرا لكم في مخالفة ما اقتضاه من أن القروء الحيض فنحن وإن خالفناه في حكم فقد وافقناه في الحكم الآخر وهو أن القرء الحيض وأنتم خالفتموه في الأمرين جميعا هذا مع أن من يقول الأقراء الحيض ويقول المختلعة تعتد بحيضة قد سلم من هذه المطالبة فماذا تردون به قوله ؟




[ الرد على الفرق بين الاستبراء والعدة ]
وأما قولكم في الفرق بين الاستبراء والعدة إن العدة وجبت قضاء لحق الزوج فاختصت بزمان حقه كلام لا تحقيق وراءه فإن حقه في جنس الاستمتاع في زمن الحيض والطهر وليس حقه مختصا بزمن الطهر ولا العدة مختصة بزمن الطهر دون الحيض وكلا الوقتين محسوب من العدة وعدم تكرر الاستبراء لا يمنع أن يكون طهرا محتوشا بدمين كقرء المطلقة فتبين أن الفرق غير طائل .

قولكم إن انضمام قرأين إلى الطهر الذي جامع فيه يجعله علما جوابه أن هذا يفضي إلى أن تكون العدة قرأين حسب فإن ذلك الذي جامع فيه لا دلالة له على البراءة البتة وإنما الدال القرآن بعده وهذا خلاف موجب النص وهذا لا يلزم من جعل الأقراء الحيض فإن الحيضة وحدها علم ولهذا اكتفي بها في استبراء الإماء .

قولكم إن القرء هو الجمع والحيض يجتمع في زمان الطهر فقد تقدم جوابه وأن ذلك في المعتل لا في المهموز .

قولكم دخول التاء في ثلاثة يدل على أن واحدها مذكر وهو الطهر جوابه أن واحد القروء قرء وهو مذكر فأتى بالتاء مراعاة للفظه وإن كان مسماه حيضة وهذا كما يقال جاءني ثلاثة أنفس وهن نساء باعتبار اللفظ . والله أعلم .

فصل [ قول من سوى بين عدة الحرة والأمة ]
وقد احتج بعموم آيات العدد الثلاث من يرى أن عدة الحرة والأمة سواء قال أبو محمد ابن حزم : وعدة الأمة المتزوجة من الطلاق والوفاة كعدة الحرة سواء بسواء ولا فرق لأن الله تعالى علمنا العدد في الكتاب فقال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة 288 ] وقال والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة 234 ] وقال الله تعالى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ] وقد علم الله تعالى إذ أباح لنا زواج الإماء أنه يكون عليهن العدد المذكورات . وما فرق عز وجل بين حرة ولا أمة في ذلك وما كان ربك نسيا .

وثبت عمن سلف مثل قولنا : قال محمد بن سيرين رحمه الله . ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة إلا أن يكون مضت في ذلك سنة فالسنة أحق أن تتبع . قال وقد ذكر أحمد بن حنبل أن قول مكحول : إن عدة الأمة في كل شيء كعدة الحرة وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا هذا كلامه .



[ قول من قال إن عدة الأمة نصف عدة الحرة ]
وقد خالفهم في ذلك جمهور الأمة فقالوا : عدتها نصف عدة الحرة هذا قول فقهاء المدينة سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وزيد بن أسلم وعبد الله بن عتبة والزهري ومالك وفقهاء أهل مكة كعطاء بن أبي رباح ومسلم بن خالد وغيرهما وفقهاء البصرة كقتادة وفقهاء الكوفة كالثوري وأبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله .

وفقهاء الحديث كأحمد وإسحاق والشافعي وأبي ثور رحمهم الله وغيرهم وسلفهم في ذلك الخليفتان الراشدان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما صح ذلك عنهما وهو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما رواه مالك عن نافع عنه عدة الأمة حيضتان وعدة الحرة ثلاث حيض وهو قول زيد بن ثابت كما رواه الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت عدة الأمة حيضتان وعدة الحرة ثلاث حيض . وروى حماد بن زيد عن عمرو بن أوس الثقفي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لو استطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت فقال له رجل يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرا ونصفا .

وقال عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول جعل لها عمر رضي الله عنه حيضتين يعني : الأمة المطلقة .

وروى عبد الرزاق أيضا : عن ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر رضي الله عنه ينكح العبد اثنتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين فإن لم تحض فشهرين أو قال فشهرا ونصفا .

وذكر عبد الرزاق أيضا : عن معمر عن المغيرة عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود قال يكون عليها نصف العذاب ولا يكون لها نصف الرخصة .

وقال ابن وهب أخبرني رجال من أهل العلم أن نافعا وابن قسيط ويحيى بن سعيد وربيعة وغير واحد من أصحاب رسول الله والتابعين قالوا : عدة الأمة حيضتان . قالوا : ولم يزل هذا عمل المسلمين .

قال ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال عدة الأمة حيضتان .

قال القاسم مع أن هذا ليس في كتاب الله عز وجل ولا نعلمه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن قد مضى أمر الناس على هذا وقد تقدم هذا الحديث بعينه وقول القاسم وسالم فيه لرسول الأمير قل له إن هذا ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عمل به المسلمون . قالوا : ولو لم يكن في المسألة إلا قول عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر لكفى به .

وفي قول ابن مسعود رضي الله عنه تجعلون عليها نصف العذاب ولا تجعلون لها نصف الرخصة دليل على اعتبار الصحابة للأقيسة والمعاني وإلحاق النظير بالنظير .

ولما كان هذا الأثر مخالفا لقول الظاهرية في الأصل والفرع طعن ابن حزم فيه وقال لا يصح عن ابن مسعود قال وهذا بعيد على رجل من عرض الناس فكيف عن مثل ابن مسعود ؟ وإنما جرأه على الطعن فيه أنه من رواية إبراهيم النخعي عنه رواه عبد الرزاق عن معمر عن المغيرة عن إبراهيم وإبراهيم لم يسمع من عبد الله ولكن الواسطة بينه وبينه أصحاب عبد الله كعلقمة ونحوه .

وقد قال إبراهيم إذا قلت قال عبد الله فقد حدثني به غير واحد عنه وإذا قلت : قال فلان عنه فهو عمن سميت أو كما قال .

ومن المعلوم أن بين إبراهيم وعبد الله أئمة ثقات لم يسم قط متهما ولا مجروحا ولا مجهولا فشيوخه الذين أخذ عنهم عن عبد الله أئمة أجلاء نبلاء وكانوا كما قيل سرج الكوفة وكل من له ذوق في الحديث إذا قال إبراهيم قال عبد الله لم يتوقف في ثبوته عنه وإن كان غيره ممن في طبقته لو قال قال عبد الله لا يحصل لنا الثبت بقوله فإبراهيم عن عبد الله نظير ابن المسيب عن عمر ونظير مالك عن ابن عمر فإن الوسائط بين هؤلاء وبين الصحابة رضي الله عنهم إذا سموهم وجدوا من أجل الناس وأوثقهم وأصدقهم ولا يسمون سواهم البتة ودع ابن مسعود في هذه المسألة فكيف يخالف عمر وزيدا وابن عمر وهم أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ويخالف عمل المسلمين لا إلى قول صاحب البتة ولا إلى حديث صحيح ولا حسن بل إلى عموم أمره ظاهر عند جميع الأمة ليس هو مما تخفى دلالته ولا موضعه حتى يظفر به الواحد والاثنان دون سائر الناس هذا من أبين المحال .

ولو ذهبنا نذكر الآثار عن التابعين بتنصيف عدة الأمة لطالت جدا ثم إذا تأملت سياق الآيات التي فيها ذكر العدد وجدتها لا تتناول الإماء وإنما تتناول الحرائر فإنه سبحانه قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف [ البقرة 228 ] إلى أن قال ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة 229 ]

وهذا في حق الحرائر دون الإماء فإن افتداء الأمة إلى سيدها لا إليها . ثم قال فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ البقرة 230 ] فجعل ذلك إليهما والتراجع المذكور في حق الأمة وهو العقد إنما هو إلى سيدها لا إليها بخلاف الحرة فإنه إليها بإذن وليها وكذلك قوله سبحانه في عدة الوفاة والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف [ البقرة 234 ] وهذا إنما هو في حق الحرة وأما الأمة فلا فعل لها في نفسها البتة فهذا في العدة الأصلية . وأما عدة الأشهر ففرع وبدل . وأما عدة وضع الحمل فيستويان فيها كما ذهب إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وعمل به المسلمون وهو محض الفقه وموافق لكتاب الله في تنصيف الحد عليها ولا يعرف في الصحابة مخالف في ذلك وفهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله أولى من فهم من شذ عنهم من المتأخرين وبالله التوفيق .

ولا تعرف التسوية بين الحرة والأمة في العدة عن أحد من السلف إلا عن محمد بن سيرين ومكحول . فأما ابن سيرين فلم يجزم بذلك وأخبر به عن رأيه وعلق القول به على عدم سنة تتبع . وأما قول مكحول فلم يذكر له سندا وإنما حكاه عنه أحمد رحمه الله وهو لا يقبل عند أهل الظاهر ولا يصح فلم يبق معكم أحد من السلف إلا رأي ابن سيرين وحده المعلق على عدم سنة متبعة ولا ريب أن سنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك متبعة ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم .



[ عدة الأمة غير البالغة ]
فإن قيل كيف تدعون إجماع الصحابة وجماهير الأمة وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عدة الأمة التي لم تبلغ ثلاثة أشهر وصح ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومجاهد والحسن وربيعة والليث بن سعد والزهري وبكر بن الأشج ومالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه .

ومعلوم أن الأشهر في حق الآيسة والصغيرة بدل عن الأقراء الثلاث فدل على أن بدلها في حقها ثلاثة .

فالجواب أن القائلين بهذا هم بأنفسهم القائلون إن عدتها حيضتان وقد أفتوا بهذا وهذا ولهم في الاعتداد بالأشهر ثلاثة أقوال وهي للشافعي وهي ثلاث روايات عن أحمد . فأكثر الروايات عنه أنها شهران رواه عنه جماعة من أصحابه وهو إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكرها الأثرم وغيره عنه .

وحجة هذا القول أن عدتها بالأقراء حيضتان فجعل كل شهر مكان حيضة .

والقول الثاني : إن عدتها شهر ونصف نقلها عنه الأثرم والميموني وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عمر وابن المسيب وأبي حنيفة والشافعي في أحد أقواله . وحجته أن التنصيف في الأشهر ممكن فتنصفت بخلاف القروء . ونظير هذا : أن المحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مد أخرجه فإن أراد الصيام مكانه لم يجزه إلا صوم يوم كامل .

والقول الثالث أن عدتها ثلاثة أشهر كوامل وهو إحدى الروايتين عن عمر رضي الله عنه وقول ثالث للشافعي وهو فيمن ذكرتموه .

والفرق عند هؤلاء بين اعتدادها بالأقراء وبين اعتدادها بالشهور أن الاعتبار بالشهور للعلم ببراءة رحمها وهو لا يحصل بدون ثلاثة أشهر في حق الحرة والأمة جميعا لأن الحمل يكون نطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين ثم مضغة أربعين وهو الطور الثالث الذي يمكن أن يظهر فيه الحمل وهو بالنسبة إلى الحرة والأمة سواء بخلاف الأقراء فإن الحيضة الواحدة علم ظاهر على الاستبراء ولهذا اكتفي بها في حق المملوكة فإذا زوجت فقد أخذت شبها من الحرائر وصارت أشرف من ملك اليمين فجعلت عدتها بين العدتين .

قال الشيخ في " المغني " : ومن رد هذا القول قال هو مخالف لإجماع الصحابة لأنهم اختلفوا على القولين الأولين ومتى اختلفوا على قولين لم يجز إحداث قول ثالث لأنه يفضي إلى تخطئتهم وخروج الحق عن قول جميعهم .

قلت : وليس في هذا إحداث قول ثالث بل هو إحدى الروايتين عن عمر ذكرها ابن وهب وغيره وقال به من التابعين من ذكرناهم وغيرهم .



فصل[ عدة الآيسة والتي لم تحض ]
[ حد الإياس ]

[ الروايات عن أحمد في حد الإياس ]

وأما عدة الآيسة والتي لم تحض فقد بينها سبحانه في كتابه فقال واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن [ الطلاق 4 ] وقد اضطرب الناس في حد الإياس اضطرابا شديدا فمنهم من حده بخمسين سنة وقال لا تحيض المرأة بعد الخمسين وهذا قول إسحاق ورواية عن أحمد رحمه الله واحتج أرباب هذا القول بقول عائشة رضي الله عنها : إذا بلغت خمسين سنة خرجت من حد الحيض
وحده طائفة بستين سنة وقالوا : لا تحيض بعد الستين وهذه رواية ثانية عن أحمد .

وعنه رواية ثالثة الفرق بين نساء العرب وغيرهم فحده ستون في نساء العرب وخمسون في نساء العجم .

وعنه رواية رابعة أن ما بين الخمسين والستين دم مشكوك فيه تصوم وتصلي وتقضي الصوم المفروض وهذه اختيار الخرقي .

وعنه رواية خامسة أن الدم إن عاود بعد الخمسين وتكرر فهو حيض وإلا فلا .




[مذهب الشافعي في حد الإياس ]
وأما الشافعي رحمه الله فلا نص له في تقدير الإياس بمدة وله قولان بعد . أحدهما : أنه يعرف بيأس أقاربها . والثاني : أنه يعتبر بيأس جميع النساء فعلى القول الأول هل المعتبر جميع أقاربها أو نساء عصباتها أو نساء بلدها خاصة ؟ فيه ثلاثة أوجه ثم إذا قيل يعتبر بالأقارب فاختلفت عادتهن فهل يعتبر بأقل عادة منهن أو بأكثرهن عادة أو بأقصر امرأة في العالم عادة ؟ على – 583 – ثلاثة أوجه

والقول الثاني للشافعي رحمه الله أن المعتبر جميع النساء . ثم اختلف أصحابه هل لذلك حد أم لا ؟ على وجهين

أحدهما : ليس له حد وهو ظاهر نصه .
والثاني : له حد ثم اختلفوا فيه على وجهين

أحدهما : أنه ستون سنة قاله أبو العباس بن القاص والشيخ أبو حامد .
والثاني : اثنان وستون سنة قاله الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " وابن الصباغ في " الشامل " .

وأما أصحاب مالك رحمه الله فلم يحدوا سن الإياس بحد البتة .

وقال آخرون منهم شيخ الإسلام ابن تيمية : اليأس يختلف باختلاف النساء وليس له حد يتفق فيه النساء . والمراد بالآية أن يأس كل امرأة من نفسها لأن اليأس ضد الرجاء فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض ولم ترجه فهي آيسة وإن كان لها أربعون أو نحوها وغيرها لا تيأس منه وإن كان لها خمسون .

وقد ذكر الزبير بن بكار : أن بعضهم قال لا تلد لخمسين سنة إلا عربية ولا تلد لستين سنة إلا قرشية . وقال إن هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ولها ستون سنة .




وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه أنها تتربص تسعة أشهر فإن استبان بها حمل وإلا اعتدت ثلاثة أشهر وقد وافقه الأكثرون على هذا منهم مالك وأحمد والشافعي في القديم . قالوا : تتربص غالب مدة الحمل ثم تعتد عدة الآيسة ثم تحل للأزواج ولو كانت بنت ثلاثين سنة أو أربعين وهذا يقتضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه من السلف والخلف تكون المرأة آيسة عندهم قبل الخمسين وقبل الأربعين وأن اليأس عندهم ليس وقتا محدودا للنساء بل مثل هذه تكون آيسة وإن كانت بنت ثلاثين وغيرها لا تكون آيسة وإن بلغت خمسين . وإذا كانوا فيمن ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه جعلوها آيسة بعد تسعة أشهر فالتي تدري ما رفعه إما بدواء يعلم أنه لا يعود معه وإما بعادة مستقرة لها من أهلها وأقاربها أولى أن تكون آيسة . وإن لم تبلغ الخمسين وهذا بخلاف ما إذا ارتفع لمرض أو رضاع أو حمل فإن هذه ليست آيسة فإن ذلك يزول .

فالمراتب ثلاثة . أحدها : أن ترتفع ليأس معلوم متيقن بأن تنقطع عاما بعد عام ويتكرر انقطاعه أعواما متتابعة ثم يطلق بعد ذلك فهذه تتربص ثلاثة أشهر بنص القرآن سواء كانت بنت أربعين أو أقل أو أكثر وهي أولى بالتربص بثلاثة أشهر من التي حكم فيها الصحابة والجمهور بتربصها تسعة أشهر ثم ثلاثة فإن تلك كانت تحيض وطلقت وهي حائض ثم ارتفع حيضها بعد طلاقها لا تدري ما رفعه فإذا حكم فيها بحكم الآيسات بعد انقضاء غالب مدة الحمل فكيف بهذه ؟ ولهذا قال القاضي إسماعيل في " أحكام القرآن " : إذا كان الله سبحانه قد ذكر اليأس مع الريبة فقال تعالى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر [ الطلاق 4 ] ثم جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفظ موافق لظاهر القرآن لأنه قال أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفعت حيضتها لا تدري ما رفعها فإنها تنتظر تسعة أشهر ثم تعتد ثلاثة أشهر فلما كانت لا تدري ما الذي رفع الحيضة كان موضع الارتياب فحكم فيها بهذا الحكم وكان اتباع ذلك ألزم وأولى من قول من يقول إن الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين فيرتفع حيضها وهي شابة أنها تبقى ثلاثين سنة معتدة وإن جاءت بولد لأكثر من سنتين لم يلزمه فخالف ما كان من إجماع المسلمين الذي مضوا لأنهم كانوا مجمعين على أن الولد يلحق بالأب ما دامت المرأة في عدتها فكيف يجوز أن يقول قائل إن الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ويكون بينها وبين زوجها أحكام الزوجات ما دامت في عدتها من الموارثة وغيرها ؟ فإن جاءت بولد لم يلحقه وظاهر عدة الطلاق أنها جعلت من الدخول الذي يكون منه الولد فكيف تكون المرأة معتدة والولد لا يلزم ؟

قلت : هذا إلزام منه لأبي حنيفة فإن عنده أقصر مدة الحمل سنتان والمرتابة في أثناء عدتها لا تزال في عدة حتى تبلغ سن الإياس فتعتد به وهو يلزم الشافعي في قوله الجديد سواء إلا أن مدة الحمل عنده أربع سنين . فإذا جاءت به بعدها لم يلحقه وهي في عدتها منه .

قال القاضي إسماعيل واليأس يكون بعضه أكثر من بعض وكذلك القنوط وكذلك الرجاء وكذلك الظن ومثل هذا يتسع الكلام فيه فإذا قيل منه شيء أنزل على قدر ما يظهر من المعنى فيه فمن ذلك أن الإنسان يقول قد يئست من مريضي إذا كان الأغلب عنده أنه لا يبرأ ويئست من غائبي إذا كان الأغلب عنده أنه لا يقدم ولو قال إذا مات غائبه أو مات مريضه قد يئست منه لكان الكلام عند الناس على غير وجهه إلا أن يتبين معنى ما قصد له في كلامه مثل أن يقول كنت وجلا في مرضه مخافة أن يموت فلما مات وقع اليأس فينصرف الكلام على هذا وما أشبهه إلا أن أكثر ما يلفظ باليأس إنما يكون فيما هو الأغلب عند اليأس أنه لا يكون وليس واحد من اليائس والطامع يعلم يقينا أن ذلك الشيء يكون أو لا يكون وقال الله تعالى : والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة [ النور 60 ] والرجاء ضد اليأس والقاعدة من النساء قد يمكن أن تزوج غير أن الأغلب عند الناس فيها أن الأزواج لا يرغبون فيها . وقال الله تعالى : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا [ الشورى : 28 ] والقنوط شبه اليأس وليس يعلمون يقينا أن المطر لا يكون ولكن اليأس دخلهم حين تطاول إبطاؤه . وقال الله تعالى : حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا [ يوسف 110 ] فلما ذكر أن الرسل هم الذين استيأسوا كان فيه دليل على أنهم دخل قلوبهم يأس من غير يقين استيقنوه لأن اليقين في ذلك إنما يأتيهم من عند الله كما قال في قصة نوح وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون [ هودا : 36 ] وقال الله تعالى في قصة إخوة يوسف فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا [ يوسف 80 ] فدل الظاهر على أن يأسهم ليس بيقين وقد حدثنا ابن أبي أويس حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول في خطبته تعلمن أيها الناس أن الطمع فقر وأن اليأس غنى وأن المرء إذا يئس من شيء استغنى عنه فجعل عمر اليأس بإزاء الطمع وسمعت أحمد بن المعدل ينشد شعرا لرجل من القدماء يصف ناقة
صفراء من تلد بني العباس

صيرتها كالظبي في الكناس

تدر أن تسمع بالإبساس

فالنفس بين طمع وياس


فجعل الطمع بإزاء اليأس .

وحدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم عن الأعمش عن سلام بن شرحبيل قال سمع حبة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم قالا : علمنا شيئا ثم قال " لا تيأسا من الخير ما تهزهزت رءوسكما فإن كل عبد يولد أحمر ليس عليه قشرة ثم يرزقه الله ويعطيه

وحدثنا علي بن عبد الله حدثنا ابن عيينة قال قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم يا أبا حازم ما مالك . قال خير مال ثقتي بالله ويأسي مما في أيدي الناس . قال وهذا أكثر من أن يحصى انتهى .


قال شيخنا : وليس للنساء في ذلك عادة مستمرة بل فيهن من لا تحيض وإن بلغت وفيهن من تحيض حيضا يسيرا يتباعد ما بين أقرائها حتى تحيض في السنة مرة ولهذا اتفق العلماء على أن أكثر الطهر بين الحيضتين لا حد له وغالب النساء يحضن كل شهر مرة ويحضن ربع الشهر ويكون طهرهن ثلاثة أرباعه . ومنهن من تطهر الشهور المتعددة لقلة رطوبتها ومنهن من يسرع إليها الجفاف فينقطع حيضها وتيأس منه وإن كان لها دون الخمسين بل والأربعين . ومنهن من لا يسرع إليها الجفاف فتجاوز الخمسين وهي تحيض . قال وليس في الكتاب ولا السنة تحديد اليأس بوقت ولو كان المراد بالآيسة من المحيض من لها خمسون سنة أو ستون سنة أو غير ذلك لقيل واللائي يبلغن من السن كذا وكذا ولم يقل يئسن .

وأيضا فقد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم جعلوا من ارتفع حيضها قبل ذلك يائسة كما تقدم . والوجود مختلف في وقت يأسهن غير متفق وأيضا فإنه سبحانه قال واللائي يئسن ولو كان له وقت محدود لكانت المرأة وغيرها سواء في معرفة يأسهن وهو سبحانه قد خص النساء بأنهن اللائي يئسن كما خصهن بقوله واللائي لم يحضن فالتي تحيض هي التي تيأس وهذا بخلاف الارتياب فإنه سبحانه قال إن ارتبتم ولم يقل إن ارتبن أي إن ارتبتم في حكمهن وشككتم فيه فهو هذا لا هذا الذي عليه جماعة أهل التفسير كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث جرير وموسى بن أعين واللفظ له عن مطرف بن طريف عن عمرو بن سالم عن أبي بن كعب قال قلت : يا رسول الله إن ناسا بالمدينة يقولون في عدد النساء ما لم يذكر الله في القرآن الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله سبحانه في هذه السورة واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق 4 ]

فأجل إحداهن أن تضع حملها فإذا وضعت فقد قضت عدتها . ولفظ جرير قلت : يا رسول الله إن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدد النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار التي قد انقطع عنها الحيض وذوات الحمل قال فأنزلت التي في النساء القصرى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم [ الطلاق 4 ] - 588 –

ثم روي عن سعيد بن جبير في قوله واللائي يئسن من المحيض من نسائكم يعني الآيسة العجوز التي لا تحيض أو المرأة التي قعدت عن الحيضة فليست هذه من القروء في شيء .

وفي قوله إن ارتبتم في الآية يعني إن شككتم فعدتهن ثلاثة أشهر وعن مجاهد : إن ارتبتم لم تعلموا عدة التي قعدت عن الحيض أو التي لم تحض فعدتهن ثلاثة أشهر . فقوله تعالى : إن ارتبتم يعني : إن سألتم عن حكمهن ولم تعلموا حكمهن وشككتم فيه فقد بيناه لكم فهو بيان لنعمته على من طلب عليه ذلك ليزول ما عنده من الشك والريب بخلاف المعرض عن طلب العلم . وأيضا فإن النساء لا يستوين في ابتداء الحيض بل منهن من تحيض لعشر أو اثنتي عشرة أو خمس عشرة أو أكثر من ذلك فكذلك لا يستوين في آخر سن الحيض الذي هو سن اليأس والوجود شاهد بذلك . وأيضا فإنهم تنازعوا فيمن بلغت ولم تحض هل تعتد بثلاثة أشهر أو بالحول كالتي ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ؟ وفيه روايتان عن أحمد .

قلت : والجمهور على أنها تعتد بثلاثة أشهر ولم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بها حدا فكذلك يجب أن لا يكون للكبر الموجب للاعتداد بالشهور حد وهو ظاهر ولله الحمد .



فصل وأما عدة الوفاة فتجب بالموت
سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقا كما دل عليه عموم القرآن والسنة واتفقوا على أنهما يتوارثان قبل الدخول وعلى أن الصداق يستقر إذا كان مسمى لأن الموت لما كان انتهاء العقد استقرت به الأحكام فتوارثا واستقر المهر ووجبت العدة .




واختلفوا في مسألتين إحداهما : وجوب مهر المثل إذا لم يكن مسمى فأوجبه أحمد أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ولم يوجبه مالك والشافعي في القول الآخر وقضى بوجوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في السنة الصحيحة الصريحة من حديث بروع بنت واشق وقد تقدم . ولو لم ترد به السنة لكان هو محض القياس لأن الموت أجري مجرى الدخول في تقرير المسمى ووجوب العدة .


[هل يثبت تحريم الربيبة بموت الأم ]

والمسألة الثانية هل يثبت تحريم الربيبة بموت الأم كما يثبت بالدخول بها ؟ وفيه قولان للصحابة وهما روايتان عن أحمد .

والمقصود أن العدة فيه ليست للعلم ببراءة الرحم فإنها تجب قبل الدخول بخلاف عدة الطلاق .




[الاختلاف في حكمة عدة الوفاة من قال هي لبراءة الرحم]
وقد اضطرب الناس في حكمة عدة الوفاة وغيرها فقيل هي لبراءة الرحم وأورد على هذا القول وجوه كثيرة .

منها : وجوبها قبل الدخول في الوفاة ومنها : أنها ثلاثة قروء وبراءة الرحم يكفي فيها حيضة كما في المستبرأة ومنها : وجوب ثلاثة أشهر في حق من يقطع ببراءة رحمها لصغرها أو كبرها .

[من قال هو تعبد لا يعقل معناه ]

ومن الناس من يقول هو تعبد لا يعقل معناه وهذا فاسد لوجهين .

أحدهما : أنه ليس في الشريعة حكم إلا وله حكمة وإن لم يعقلها كثير من الناس أو أكثرهم .

الثاني : أن العدد ليست من العبادات المحضة بل فيها من المصالح رعاية حق الزوجين والولد والناكح .



[حكمة عدة الوفاة عند ابن تيمية ]
قال شيخنا : والصواب أن يقال أما عدة الوفاة فهي حرم لانقضاء النكاح ورعاية لحق الزوج ولهذا تحد المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج فجعلت العدة حريما لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني ولا يتصل الناكحان ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عظم حقه حرم نساؤه بعده وبهذا اختص الرسول لأن أزواجه في الدنيا هن أزواجه في الآخرة بخلاف غيره فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها تضررت المتوفى عنها وربما كان الثاني خيرا لها من الأول . ولكن لو تأيمت على أولاد الأول لكانت محمودة على ذلك مستحبا لها

وفي الحديث أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وأومأ بالوسطى والسبابة امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال وحبست نفسها على يتامى لها حتى بانوا أو ماتوا .

وإذا كان المقتضي لتحريمها قائما فلا أقل من مدة تتربصها وقد كانت في الجاهلية تتربص سنة فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشر وقيل لسعيد بن المسيب ما بال العشر ؟ قال فيها ينفخ الروح فيحصل بهذه المدة براءة الرحم حيث يحتاج إليه وقضاء حق الزوج إذا لم يحتج إلى ذلك .





فصل [حكمة عدة الطلاق ]
وأما عدة الطلاق فهي التي أشكلت فإنه لا يمكن تعليلها بذلك لأنها إنما تجب بعد المسيس ولأن الطلاق قطع للنكاح ولهذا يتنصف فيه المسمى ويسقط فيه مهر المثل .

فيقال والله الموفق للصواب - عدة الطلاق وجبت ليتمكن الزوج فيها من الرجعة ففيها حق للزوج وحق لله وحق للولد وحق للناكح الثاني . فحق الزوج ليتمكن من الرجعة في العدة وحق الله لوجوب ملازمتها المنزل كما نص عليه سبحانه وهو منصوص أحمد ومذهب أبي حنيفة . وحق الولد لئلا يضيع نسبه ولا يدرى لأي الواطئين . وحق المرأة لما لها من النفقة زمن العدة لكونها زوجة ترث وتورث ويدل على أن العدة حق للزوج قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ الأحزاب 49 ] فقوله فما لكم عليهن من عدة دليل على أن العدة للرجل على المرأة وأيضا فإنه سبحانه قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [ البقرة 228 ]

فجعل الزوج أحق بردها في العدة وهذا حق له . فإذا كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربص لينظر في أمره هل يمسكها أو يسرحها كما جعل سبحانه للمؤلي تربص أربعة أشهر لينظر في أمره هل يمسك ويفيء أو يطلق وكان تخيير المطلق كتخيير المؤلي لكن المؤلي جعل له أربعة أشهر كما جعل مدة التسيير أربعة أشهر لينظروا في أمرهم .





[معنى بلوغ الأجل في العدة ]

[هل الاغتسال من الحيض ومن تمام العدة شرط في عقد النكاح وفي الوطء]

ومما يبين ذلك أنه سبحانه قال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف [ البقرة 231 ] وبلوغ الأجل هو الوصول والانتهاء إليه وبلوغ الأجل في هذه الآية مجاوزته وفي قوله فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف مقاربته ومشارفته ثم فيه قولان أحدهما : أنه حد من الزمان وهو الطعن في الحيضة الثالثة أو انقطاع الدم منها أو من الرابعة وعلى هذا فلا يكون مقدورا لها وقيل بل هو فعلها وهو الاغتسال كما قاله جمهور الصحابة وهذا كما أنه بالاغتسال يحل للزوج وطؤها ويحل لها أن تمكنه من نفسها فالاغتسال عندهم شرط في النكاح الذي هو العقد وفي النكاح الذي هو الوطء .

وللناس في ذلك أربعة أقوال

أحدهما : أنه ليس شرطا لا في هذا ولا في هذا كما يقوله من يقول من أهل الظاهر .

والثاني : أنه شرط فيهما كما قاله أحمد وجمهور الصحابة كما تقدم حكايته عنهم .

والثالث أنه شرط في نكاح الوطء لا في نكاح العقد كما قاله مالك والشافعي .

والرابع أنه شرط فيهما أو ما يقوم مقامه وهو الحكم بالطهر بمضي وقت صلاة وانقطاعه لأكثره كما يقوله أبو حنيفة فإذا ارتجعها قبل غسلها كان غسلها لأجل وطئه لها وإلا كان لأجل حلها لغيره وبالاغتسال




[ ترجيح المصنف أنه عند انقضاء القروء الثلاثة يخير الزوج بين الإمساك أو التسريح ]

يتحقق كمال الحيض وتمامه كما قال الله تعالى : ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله [ البقرة 222 ] والله سبحانه أمرها أن تتربص ثلاثة قروء فإذا مضت الثلاثة فقد بلغت أجلها وهو سبحانه لم يقل إنها عقيب القرأين تبين من الزوج خير الزوج عند بلوغ الأجل بين الإمساك والتسريح فظاهر القرآن كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم أنه عند انقضاء القروء الثلاثة يخير الزوج بين الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان وعلى هذا فيكون بلوغ الأجل في القرآن واحدا لا يكون قسمين بل يكون باستيفاء المدة واستكمالها وهذا كقوله تعالى إخبارا عن أهل النار وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا [ الأنعام 128 ] وقوله فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف [ البقرة 234 ] . وإنما حمل من قال إن بلوغ الأجل هو مقارنته أنها بعد أن تحل للخطاب لا يبقى الزوج أحق برجعتها وإنما يكون أحق بها ما لم تحل لغيره فإذا حل لغيره أن يتزوج بها صار هو خاطبا من الخطاب . ومنشأ هذا ظن أنها ببلوغ الأجل تحل لغيره والقرآن لم يدل على هذا بل القرآن جعل عليها أن تتربص ثلاثة قروء وذكر أنها إذا بلغت أجلها فإما أن تمسك بمعروف وإما أن تسرح بإحسان . وقد ذكر سبحانه هذا الإمساك أو التسريح عقيب الطلاق فقال الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [ البقرة 229 ] ثم قال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن [ البقرة 232 ] وهذا هو تزوجها بزوجها الأول المطلق الذي كان أحق بها فالنهي عن عضلهن مؤكد لحق الزوج وليس في القرآن أنها بعد بلوغ الأجل تحل للخطاب بل فيه أنه في هذه الحال إما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان فإن سرح بإحسان حلت حينئذ للخطاب وعلى هذا فدلالة القرآن بينة أنها إذا بلغت أجلها وهو انقضاء ثلاثة قروء بانقطاع الدم فإما أن يمسكها قبل أن تغتسل فتغتسل عنده وإما أن يسرحها فتغتسل وتنكح من شاءت وبهذا يعرف قدر فهم الصحابة رضي الله عنهم وأن من بعدهم إنما يكون غاية اجتهاده أن يفهم ما فهموه ويعرف ما قالوه .

فإن قيل فإذا كان له أن يرتجعها في جميع هذه المدة ما لم تغتسل فلم قيد التخيير ببلوغ الأجل ؟ قيل ليتبين أنها في مدة العدة كانت متربصة لأجل حق الزوج والتربص الانتظار وكانت منتظرة هل يمسكها أو يسرحها ؟ وهذا التخيير ثابت له من أول المدة إلى آخرها كما خير المؤلي بين الفيئة وعدم الطلاق وهنا لما خيره عند بلوغ الأجل كان تخييره قبله أولى وأحرى لكن التسريح بإحسان إنما يمكن إذا بلغت الأجل وقبل ذلك هي في العدة .

[التسريح هو إرسالها إلى أهلها ]

وقد قيل إن تسريحها بإحسان مؤثر فيها حين تنقضي العدة ولكن ظاهر القرآن يدل على خلاف ذلك فإنه سبحانه جعل التسريح بإحسان عند بلوغ الأجل ومعلوم أن هذا الترك ثابت من أول المدة فالصواب أن التسريح إرسالها إلى أهلها بعد بلوغ الأجل ورفع يده عنها فإنه كان يملك حبسها مدة العدة فإذا بلغت أجلها فحينئذ إن أمسكها كان له حبسها وإن لم يمسكها كان عليه أن يسرحها بإحسان ويدل على هذا قوله تعالى في المطلقة قبل المسيس فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا [ الأحزاب 49 ] فأمر بالسراح الجميل ولا عدة فعلم أن تخلية سبيلها إرسالها كما يقال سرح الماء والناقة إذا مكنها من الذهاب وبهذا الإطلاق والسراح يكون قد تم تطليقها وتخليتها وقبل ذلك لم يكن الإطلاق تاما وقبل ذلك كان له أن يمسكها وأن يسرحها وكان مع كونه مطلقا قد جعل أحق بها من غيره مدة التربص وجعل التربص ثلاثة قروء لأجله ويؤيد هذا أشياء .

أحدها : أن الشارع جعل عدة المختلعة حيضة كما ثبتت به السنة وأقر به عثمان بن عفان وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وحكاه أبو جعفر النحاس في " ناسخه ومنسوخه " إجماع الصحابة وهو مذهب إسحاق وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه دليلا كما سيأتي تقرير المسألة عن قرب إن شاء الله تعالى . فلما لم يكن على المختلعة رجعة لم يكن عليها عدة بل استبراء بحيضة لأنها لما افتدت منه وبانت ملكت نفسها فلم يكن أحق بإمساكها فلا معنى لتطويل العدة عليها بل المقصود العلم ببراءة رحمها فيكفي مجرد الاستبراء .

والثاني : أن المهاجرة من دار الحرب قد جاءت السنة بأنها إنما تستبرأ بحيضة ثم تزوج كما سيأتي .

الثالث أن الله سبحانه لم يشرع لها طلاقا بائنا بعد الدخول إلا الثالثة وكل طلاق في القرآن سواها فرجعي وهو سبحانه إنما ذكر القروء الثلاثة في هذا الطلاق الذي شرعه لهذه الحكمة . وأما المفتدية فليس افتداؤها طلاقا بل خلعا غير محسوب من الثلاث والمشروع فيه حيضة .

فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بصورتين .

إحداهما : بمن استوفت عدد طلاقها فإنها تعتد ثلاثة قروء ولا يتمكن زوجها من رجعتها .

الثانية بالمخيرة إذا عتقت تحت حر أو عبد فإن عدتها ثلاثة قروء بالسنة كما في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها : أمرت بريرة أن تعتد عدة الحرة وفي " سنن ابن ماجه " : أمرت أن تعتد ثلاث حيض ولا رجعة لزوجها عليها



[الحكمة من بقاء المبتوتة في بيت الزوج في العدة]
فالجواب أن الطلاق المحرم للزوجة لا يجب فيه التربص لأجل رجعة الزوج بل جعل حريما للنكاح وعقوبة للزوج بتطويل مدة تحريمها عليه فإنه لو سوغ لها أن تتزوج بعد مجرد الاستبراء بحيضة لأمكن أن يتزوجها الثاني ويطلقها بسرعة إما على قصد التحليل أو بدونه فكان تيسير عودها إلى المطلق والشارع حرمها عليه بعد الثالثة عقوبة له لأن الطلاق الذي أبغض الحلال إلى الله إنما أباح منه قدر الحاجة وهو الثلاث وحرم المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره وكان من تمام الحكمة أنها لا تنكح حتى تتربص ثلاثة قروء وهذا لا ضرر عليها به فإنها في كل مرة من الطلاق لا تنكح حتى تتربص ثلاثة قروء فكان التربص هناك نظرا في مصلحته لما لم يوقع الثلاث المحرمة وهنا التربص بالثلاث من تمام عقوبته فإنه عوقب بثلاثة أشياء أن حرمت عليه حبيبته وجعل تربصها ثلاثة قروء ولم يجز أن تعود إليه حتى يحظى بها غيره حظوة الزوج الراغب بزوجته المرغوب فيها وفي كل من ذلك عقوبة مؤلمة على إيقاع البغيض إلى الله المكروه له .

فإذا علم أنه بعد الثالثة لا تحل له إلا بعد تربص وتزوج بزوج آخر وأن الأمر بيد ذلك الزوج ولا بد أن تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها علم أن المقصود أن ييأس منها فلا تعود إليه إلا باختيارها لا باختياره ومعلوم أن الزوج الثاني إذا كان قد نكح نكاح رغبة وهو النكاح الذي شرعه الله لعباده وجعله سببا لمصالحهم في المعاش والمعاد وسببا لحصول الرحمة والوداد فإنه لا يطلقها لأجل الأول بل يمسك امرأته فلا يصير لأحد من الناس اختيار في عودها إليه فإذا اتفق فراق الثاني لها بموت أو طلاق كما يفترق الزوجان اللذان هما زوجان أبيح للمطلق الأول نكاحها كما يباح للرجل نكاح مطلقة الرجل ابتداء وهذا أمر لم يحرمه الله سبحانه في الشريعة الكاملة المهيمنة على جميع الشرائع بخلاف الشريعتين قبلنا فإنه في شريعة التوراة قد قيل إنها متى تزوجت بزوج آخر لم تحل للأول أبدا .

وفي شريعة الإنجيل قد قيل إنه ليس له أن يطلقها ألبتة فجاءت هذه الشريعة الكاملة الفاضلة على أكمل الوجوه وأحسنها وأصلحها للخلق ولهذا لما كان التحليل مباينا للشرائع كلها




[مذهب ابن اللبان في عدة المبتوتة التي من ذوات الحيض والآيسة والصغيرة]

والعقل والفطرة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له . ولعنه صلى الله عليه وسلم لهما إما خبر عن الله تعالى بوقوع لعنته عليهما أو دعاء عليهما باللعنة وهذا يدل على تحريمه وأنه من الكبائر .

والمقصود أن إيجاب القروء الثلاث في هذا الطلاق من تمام تأكيد تحريمها على الأول على أنه ليس في المسألة إجماع فذهب ابن اللبان الفرضي صاحب " الإيجاز " وغيره إلى أن المطلقة ثلاثا ليس عليها غير استبراء بحيضة ذكره عنه أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى فقال مسألة إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا بعد الدخول فعدتها ثلاثة أقراء إن كانت من ذوات الأقراء وقال ابن اللبان عليها الاستبراء بحيضة دليلنا قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولم يقف شيخ الإسلام على هذا القول وعلق تسويغه على ثبوت الخلاف فقال إن كان فيه نزاع كان القول بأنه ليس عليها ولا على المعتقة المخيرة إلا الاستبراء قولا متوجها ثم قال ولازم هذا القول أن الآيسة لا تحتاج إلى عدة بعد الطلقة الثالثة . قال وهذا لا نعلم أحدا قاله .

وقد ذكر الخلاف أبو الحسين فقال مسألة إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا وكانت ممن لا تحيض لصغر أو هرم فعدتها ثلاثة أشهر خلافا لابن اللبان أنه لا عدة عليها دليلنا : قوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن . قال شيخنا : وإذا مضت السنة بأن على هذه ثلاثة أقراء لم يجز مخالفتها ولو لم يجمع عليها فكيف إذا كان مع السنة إجماع ؟ قال وقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس : اعتدي قد فهم منه العلماء أنها تعتد ثلاثة قروء فإن الاستبراء قد يسمى



[عدة الفسخ والخلع ]

عدة . قلت : كما في حديث أبي سعيد في سبايا أوطاس أنه فسر قوله تعالى : والمحصنات من النساء بالسبايا ثم قال أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن فجعل الاستبراء عدة . قال فأما حديث عائشة رضي الله عنها : أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض فحديث منكر . فإن مذهب عائشة رضي الله عنها أن الأقراء الأطهار . قلت ومن جعل أن عدة المختلعة حيضة فبطريق الأولى تكون عدة الفسوخ كلها عنده حيضة لأن الخلع الذي هو شقيق الطلاق وأشبه به لا يجب فيه الاعتداد عنده بثلاثة قروء فالفسخ أولى وأحرى من وجوه .

أحدها : أن كثيرا من الفقهاء يجعل الخلع طلاقا ينقص به عدده بخلاف الفسخ لرضاع ونحوه .

الثاني : أن أبا ثور ومن وافقه يقولون إن الزوج إذا رد العوض ورضيت المرأة برده وراجعها فلهما ذلك بخلاف الفسخ .

الثالث أن الخلع يمكن فيه رجوع المرأة إلى زوجها في عدتها بعقد جديد بخلاف الفسخ لرضاع أو عدد أو محرمية حيث لا يمكن عودها إليه فهذه بطريق الأولى يكفيها استبراء بحيضة ويكون المقصود مجرد العلم ببراءة رحمها كالمسبية والمهاجرة والمختلعة والزانية على أصح القولين فيهما دليلا وهما روايتان عن أحمد .




فصل [الفرق بين عدة الرجعية والبائن ]
ومما يبين الفرق بين عدة الرجعية والبائن أن عدة الرجعية لأجل الزوج وللمرأة فيها النفقة والسكنى باتفاق المسلمين ولكن سكناها هل هي كسكنى الزوجة فيجوز أن ينقلها المطلق حيث شاء أم يتعين عليها المنزل فلا تخرج ولا تخرج ؟ فيه قولان . وهذا الثاني هو المنصوص عن أحمد وأبي حنيفة وعليه يدل القرآن . والأول قول الشافعي وهو قول بعض أصحاب أحمد .

والصواب ما جاء به القرآن فإن سكنى الرجعية من جنس سكنى المتوفى عنها ولو تراضيا بإسقاطها لم يجز كما أن العدة فيها كذلك بخلاف البائن فإنها لا سكنى لها ولا عليها فالزوج له أن يخرجها ولها أن تخرج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس : لا نفقة لك ولا سكنى


[هل الرجعة حق للزوج ] ؟

وأما الرجعة فهل هي حق للزوج يملك إسقاطها بأن يطلقها واحدة بائنة أم هي حق لله فلا يملك إسقاطها ؟ ولو قال أنت طالق طلقة بائنة وقعت رجعية أم هي حق لهما فإن تراضيا بالخلع بلا عوض وقع طلاقا بائنا ولا رجعة فيه ؟ فيه ثلاثة أقوال .

فالأول مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايات عن أحمد .

والثاني : مذهب الشافعي والرواية الثانية عن أحمد .

والثالث مذهب مالك والرواية الثالثة عن أحمد .

والصواب أن الرجعة حق لله تعالى ليس لهما أن يتفقا على إسقاطها وليس له أن يطلقها طلقة بائنة ولو رضيت الزوجة كما أنه ليس لهما أن يتراضيا بفسخ النكاح بلا عوض بالاتفاق .

فإن قيل فكيف يجوز الخلع بغير عوض في أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وهل هذا إلا اتفاق من الزوجين على فسخ النكاح بغير عوض ؟ قيل إنما يجوز أحمد في إحدى الروايتين الخلع بلا عوض إذا كان طلاقا فأما إذا كان فسخا فلا يجوز بالاتفاق قاله شيخنا رحمه الله . قال ولو جاز هذا لجاز أن يتفقا على أن يبينها مرة بعد مرة من غير أن ينقص عدد الطلاق ويكون الأمر إليهما إذا أرادا أن يجعلا الفرقة بين الثلاث جعلاها وإن أرادا لم يجعلاها من الثلاث ويلزم من هذا إذا قالت فادني بلا طلاق أن يبينها بلا طلاق ويكون مخيرا إذا سألته إن شاء أن يجعله رجعيا وإن شاء أن يجعله بائنا وهذا ممتنع فإن مضمونه أنه يخير إن شاء أن يحرمها بعد المرة الثالثة وإن شاء لم يحرمها ويمتنع أن يخير الرجل بين أن يجعل الشيء حلالا وأن يجعله حراما ولكن إنما يخير بين مباحين له وله أن يباشر أسباب الحل وأسباب التحريم وليس له إنشاء نفس التحليل والتحريم والله سبحانه إنما شرع له الطلاق واحدة بعد واحدة ولم يشرع له إيقاعه مرة واحدة لئلا يندم وتزول نزغة الشيطان التي حملته على الطلاق فتتبع نفسه المرأة فلا يجد إليها سبيلا فلو ملكه الشارع أن يطلقها طلقة بائنة ابتداء لكان هذا المحذور بعينه موجودا والشريعة المشتملة على مصالح العباد تأبى ذلك فإنه يبقى الأمر بيدها إن شاءت راجعته وإن شاءت فلا والله سبحانه جعل الطلاق بيد الزوج لا بيد المرأة رحمة منه وإحسانا ومراعاة لمصلحة الزوجين .

نعم له أن يملكها أمرها باختياره فيخيرها بين القيام معه وفراقها . وإما أن يخرج الأمر عن يد الزوج بالكلية إليها فهذا لا يمكن فليس له أن يسقط حقه من الرجعة ولا يملك ذلك فإن الشارع إنما يملك العبد ما ينفعه ملكه ولا يتضرر به ولهذا لم يملكه أكثر من ثلاث ولا ملكه جمع الثلاث ولا ملكه الطلاق في زمن الحيض والطهر المواقع فيه ولا ملكه نكاح أكثر من أربع ولا ملك المرأة الطلاق وقد نهى سبحانه الرجال أن يؤتوا السفهاء أموالهم التي جعل الله لهم قياما فكيف يجعلون أمر الأبضاع إليهن في الطلاق والرجعة فكما لا يكون الطلاق بيدها لا تكون الرجعة بيدها فإن شاءت راجعته وإن شاءت فلا فتبقى الرجعة موقوفة على اختيارها وإذا كان لا يملك الطلاق البائن فلأن لا يملك الطلاق المحرم ابتداء أولى وأحرى لأن الندم في الطلاق المحرم أقوى منه في البائن . فمن قال إنه لا يملك الإبانة ولو أتى بها لم تبن كما هو قول فقهاء الحديث لزمه أن يقول إنه لا يملك الثلاث المحرمة ابتداء بطريق الأولى والأحرى وأن له رجعتها . وإن أوقعها كان له رجعتها . وإن قال أنت طالق واحدة بائنة فإذا كان لا يملك إسقاط الرجعة فكيف يملك إثبات التحريم الذي لا تعود بعده إلا بزوج وإصابة ؟

فإن قيل فلازم هذا أنه لا يملكه ولو بعد اثنتين قلنا : ليس ذلك بلازم فإن الله سبحانه ملكه الطلاق على وجه معين وهو أن يطلق واحدة ويكون أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها ثم إن شاء طلق الثانية كذلك ويبقى له واحدة وأخبر أنه إن أوقعها حرمت عليه ولا تعود إليه إلا أن تتزوج غيره ويصيبها ويفارقها فهذا هو الذي ملكه إياه لم يملكه أن يحرمها ابتداء تحريما تاما من غير تقدم تطليقتين . وبالله التوفيق .



فصل [عدة المختلعة]
قد ذكرنا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المختلعة أنها تعتد بحيضة وأن هذا مذهب عثمان بن عفان وابن عباس وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه اختارها شيخنا . ونحن نذكر الأحاديث بذلك بإسنادها .

قال النسائي في " سننه الكبير " : باب في عدة المختلعة . أخبرني أبو علي محمد بن يحيى المروزي حدثنا شاذان عبد العزيز بن عثمان أخو عبدان حدثنا أبي حدثنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير قال أخبرني محمد بن عبد الرحمن أن ربيع بنت معوذ بن عفراء أخبرته أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فجاء أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت فقال خذ الذي لها عليك وخل سبيلها فقال نعم فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها

أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد قال حدثني عمي قال أخبرنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن ربيع بنت معوذ قال قلت لها : حدثيني حديثك قالت اختلعت من زوجي ثم جئت عثمان فسألت ماذا علي من العدة قال لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين حتى تحيضي حيضة . قالت وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فاختلعت منه

وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحيم البزاز عن علي بن بحر القطان عن هشام بن يوسف عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة . ورواه الترمذي عن محمد بن عبد الرحيم بهذا السند بعينه . وقال حديث حسن غريب .

وهذا كما أنه موجب السنة وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافق لأقوال الصحابة فهو مقتضى القياس فإنه استبراء لمجرد العلم ببراءة الرحم فكفت فيه حيضة كالمسبية والأمة المستبرأة والحرة والمهاجرة والزانية إذا أرادت أن تنكح . وقد تقدم أن الشارع من تمام حكمته جعل عدة الرجعية ثلاثة قروء لمصلحة المطلق والمرأة ليطول زمان الرجعة وقد تقدم النقص على هذه الحكمة والجواب عنه .



ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتداد المتوفى عنها في منزلها الذي توفي زوجها وهي فيه وأنه غير مخالف لحكمه بخروج المبتوتة واعتدادها حيث شاءت
ثبت في " السنن " : عن زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي قالت فقال " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فقضى به واتبعه

قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقال أبو عمر بن عبد البر : هذا حديث مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق . وقال أبو محمد بن حزم : هذا الحديث لا يثبت فإن زينب هذه مجهولة لم يرو حديثها غير سعد بن إسحاق بن كعب وهو غير مشهور بالعدالة ومالك رحمه الله وغيره يقول فيه سعد بن إسحاق وسفيان يقول سعيد . وما قاله أبو محمد غير صحيح فالحديث حديث صحيح مشهور في الحجاز والعراق وأدخله مالك في " موطئه " واحتج به وبنى عليه مذهبه .

وأما قوله إن زينب بنت كعب مجهولة فنعم مجهولة عنده فكان ماذا ؟ وزينب هذه من التابعيات وهي امرأة أبي سعيد روى عنها سعد بن إسحاق بن كعب وليس بسعيد وقد ذكره ا ابن حبان في كتاب الثقات . والذي غر أبا محمد قول علي بن المديني : لم يرو عنها غير سعد بن إسحاق وقد روينا في " مسند الإمام أحمد " : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة وكانت عند أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد قال اشتكى الناس عليا رضي الله عنه فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فسمعته يقول يا أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله فهذه امرأة تابعية كانت تحت صحابي وروى عنها الثقات ولم يطعن فيها بحرف واحتج الأئمة بحديثها وصححوه .

وأما قوله إن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة فقد قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : ثقة . وقال النسائي أيضا والدار قطني أيضا : ثقة . وقال أبو حاتم صالح وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقد روى عنه الناس حماد بن زيد وسفيان الثوري وعبد العزيز الدراوردي وابن جريج ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد الأنصاري والزهري وهو أكبر منه وحاتم بن إسماعيل وداود بن قيس وخلق سواهم من الأئمة ولم يعلم فيه قدح ولا جرح البتة ومثل هذا يحتج به اتفاقا .



[اختلاف الفقهاء في هذه المسألة ]

[من أفتى بخروج المتوفى عنها زوجها ومن قال تعتد حيث شاءت ]

وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في حكم هذه المسألة فروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها . أنها كانت تفتي المتوفى عنها بالخروج في عدتها وخرجت بأختها أم كلثوم حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة

ومن طريق عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء عن ابن عباس أنه قال إنما قال الله عز وجل تعتد أربعة أشهر وعشرا ولم يقل تعتد في بيتها فتعتد حيث شاءت وهذا الحديث سمعه عطاء من ابن عباس فإن علي بن المديني : قال حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء قال سمعت ابن عباس يقول قال الله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ولم يقل يعتددن في بيوتهن تعتد حيث شاءت قال سفيان قاله لنا ابن جريج كما أخبرنا .

وقال عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول تعتد المتوفى عنها حيث شاءت

وقال عبد الرزاق عن الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرحل المتوفى عنهن في عدتهن

وذكر عبد الرزاق أيضا عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاووس وعطاء قالا جميعا : المبتوتة والمتوفي عنها تحجان وتعتمران وتنتقلان وتبيتان .

وذكر أيضا عن ابن جريج عن عطاء قال لا يضر المتوفى عنها أين اعتدت

وقال ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء وأبي الشعثاء قالا جميعا : المتوفى عنها تخرج في عدتها حيث شاءت

وذكر ابن أبي شيبة حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن حبيب المعلم قال سألت عطاء عن المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها أتحجان في عدتهما ؟ قال نعم . وكان الحسن يقول بمثل ذلك

وقال ابن وهب : أخبرني ابن لهيعة عن حنين بن أبي حكيم أن امرأة مزاحم لما توفي عنها زوجها بخناصرة سألت عمر بن عبد العزيز أأمكث حتى . تنقضي عدتي ؟ فقال لها : بل الحقي بقرارك ودار أبيك فاعتدي فيها

قال ابن وهب : وأخبرني يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال في رجل توفي بالإسكندرية ومعه امرأته وله بها دار وله بالفسطاط دار فقال إن أحبت أن تعتد حيث توفي زوجها فلتعتد وإن أحبت أن ترجع إلى دار زوجها وقراره بالفسطاط فتعتد فيها فلترجع

قال ابن وهب : وأخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج قال سألت سالم بن عبد الله بن عمر عن المرأة يخرج بها زوجها إلى بلد فيتوفى ؟ قال تعتد حيث توفي عنها زوجها أو ترجع إلى بيت زوجها حتى تنقضي عدتها وهذا مذهب أهل الظاهر كلهم .

ولأصحاب هذا القول حجتان احتج بهما ابن عباس وقد حكينا إحداهما وهي أن الله سبحانه إنما أمرها باعتداد أربعة أشهر وعشر ولم يأمرها بمكان معين .

والثانية ما رواه أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا موسى بن مسعود حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح قال قال عطاء قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله عز وجل غير إخراج قال عطاء إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله عز وجل فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما قال عطاء ثم جاء الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث شاءت



[من قال تعتد في منزلها التي توفي زوجها وهي فيه ]

وقالت طائفة ثانية من الصحابة والتابعين ومن بعدهم تعتد في منزلها التي توفي زوجها وهي فيه قال وكيع : حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب أن عمر رد نسوة من ذي الحليفة حاجات أو معتمرات توفي عنهن أزواجهن

وقال عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرنا حميد الأعرج عن مجاهد قال كان عمر وعثمان يرجعانهن حاجات ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة أن امرأة متوفى عنها زارت أهلها في عدتها فضربها الطلق فأتوا عثمان فقال احملوها إلى بيتها وهي تطلق

وذكر أيضا عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كانت له ابنة تعتد من وفاة زوجها وكانت تأتيهم بالنهار فتتحدث إليهم فإذا كان الليل أمرها أن ترجع إلى بيتها

وقال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أن عمر رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياض يومها وأن زيد بن ثابت لم يرخص لها إلا في بياض يومها أو ليلها

وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال سأل ابن مسعود نساء من همدان نعي إليهن أزواجهن فقلن إنا نستوحش فقال ابن مسعود : تجتمعن بالنهار ثم ترجع كل امرأة منكن إلى بيتها بالليل

وذكر الحجاج بن المنهال حدثنا أبو عوانة عن منصور عن إبراهيم أن امرأة بعثت إلى أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها : إن أبي مريض وأنا في عدة أفآتيه أمرضه ؟ قالت نعم ولكن بيتي أحد طرفي الليل في بيتك

وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أنه سئل عن المتوفى عنها : أتخرج في عدتها ؟ فقال كان أكثر أصحاب ابن مسعود أشد شيء في ذلك يقولون لا تخرج وكان الشيخ - يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه - يرحلها

وقال حماد بن سلمة : أخبرنا هشام بن عروة أن أباه قال المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها إلا أن ينتوي أهلها فتنتوي معهم

وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم أخبرنا يحيى بن سعيد هو الأنصاري أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسعيد بن المسيب قالوا في المتوفى عنها : لا تبرح حتى تنقضي عدتها

وذكر أيضا عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء وجابر كلاهما قال في المتوفى عنها : لا تخرج

وذكر وكيع عن الحسن بن صالح عن المغيرة عن إبراهيم في المتوفى عنها : لا بأس أن تخرج بالنهار ولا تبيت عن بيتها

وذكر حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أن امرأة توفي عنها زوجها وهي مريضة فنقلها أهلها ثم سألوا فكلهم يأمرهم أن ترد إلى بيت زوجها قال ابن سيرين : فرددناها في نمط وهذا قول الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله وأصحابهم والأوزاعي وأبي عبيد وإسحاق .

قال أبو عمر بن عبد البر : وبه تقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر .

وحجة هؤلاء حديث الفريعة بنت مالك وقد تلقاه عثمان بن عفان رضي الله عنه بالقبول وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول ولم يعلم أن أحدا منهم طعن فيه ولا في رواته وهذا مالك مع تحريه وتشدده في الرواية . وقوله للسائل له عن رجل أثقة هو ؟ فقال لو كان ثقة لرأيته في كتبي : قد أدخله في " موطئه " وبنى عليه مذهبه . قالوا : ونحن لا ننكر النزاع بين السلف في المسألة ولكن السنة تفصل بين المتنازعين .

قال أبو عمر بن عبد البر : أما السنة فثابتة بحمد الله . وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قول من وافقته السنة .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال أخذ المترخصون في المتوفى عنها بقول عائشة رضي الله عنها وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر




[هل ملازمة المنزل حق على المعتدة أو حق لها ]
فإن قيل فهل ملازمة المنزل حق عليها أو حق لها ؟ قيل بل هو حق عليها إذا تركه لها الورثة ولم يكن عليها فيه ضرر أو كان المسكن لها فلو حولها الوراث أو طلبوا منها الأجرة لم يلزمها السكن وجاز لها التحول .

ثم اختلف أصحاب هذا القول هل لها أن تتحول حيث شاءت أو يلزمها التحول إلى أقرب المساكن إلى مسكن الوفاة ؟ على قولين .

فإن خافت هدما أو غرقا أو عدوا أو نحو ذلك أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية رجع فيها أو بإجارة انقضت مدتها أو منعها السكنى تعديا أو امتنع من إجارته أو طلب به أكثر من أجر المثل أو لم تجد ما تكتري به أو لم تجد إلا من مالها فلها أن تنتقل لأنها حال عذر ولا يلزمها بذل أجر المسكن وإنما الواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن وإذا تعذرت السكنى سقطت وهذا قول أحمد والشافعي .




[هل الإسكان حق على الورثة يقدم على الغرماء ]

فإن قيل فهل الإسكان حق على الورثة تقدم الزوجة به على الغرماء وعلى الميراث أم لا حق لها في التركة سوى الميراث ؟ قيل هذا موضوع اختلف فيه .

فقال الإمام أحمد : إن كانت حائلا فلا سكنى لها في التركة ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بذل لها كما تقدم وإن كانت حاملا ففيه روايتان إحداهما أن الحكم كذلك .

والثاني : أن لها السكنى حق ثابت في المال تقدم به على الورثة والغرماء ويكون من رأس المال لا تباع الدار في دينه بيعا يمنعها سكناها حتى تنقضي عدتها وإن تعذر ذلك فعلى الوارث أن يكتري لها سكنا من مال الميت .

فإن لم يفعل أجبره الحاكم وليس لها أن تنتقل عنه إلا لضرورة . وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم يجز لأنه يتعلق بهذه السكنى حق الله تعالى فلم يجز اتفاقهما على إبطالها بخلاف سكنى النكاح فإنها حق لله تعالى لأنها وجبت من حقوق العدة والعدة فيها حق للزوجين .

والصحيح المنصوص أن سكنى الرجعية كذلك ولا يجوز اتفاقهما على إبطالها هذا مقتضى نص الآية وهو منصوص أحمد وعنه رواية ثالثة أن للمتوفى عنها السكنى بكل حال حاملا كانت أو حائلا فصار في مذهبه ثلاث روايات وجوبها للحامل والحائل وإسقاطها في حقهما ووجوبها للحامل دون الحائل هذا تحصيل مذهب أحمد في سكنى المتوفى عنها .

يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 04:39 AM
وأما مذهب مالك فإيجاب السكنى لها حاملا كانت أو حائلا وإيجاب السكنى عليها مدة العدة قال أبو عمر : فإذا كان المسكن بكراء ؟ فقال مالك : هي أحق بسكناه من الورثة والغرماء وهو من رأس مال المتوفى إلا أن يكون فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجها .

وإذا كان المسكن لزوجها لم يبع في دينه حتى تنقضي عدتها انتهى كلامه .

وقال غيره من أصحاب مالك : هي أحق بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت أو كان قد أدى كراءه وإن لم يكن قد أدى ففي " التهذيب " : لا سكنى لها في مال الميت وإن كان موسرا وروى محمد عن مالك : الكراء لازم للميت في ماله ولا تكون الزوجة أحق به وتحاص الورثة في السكنى وللورثة إخراجها إلا أن تحب أن تسكن في حصتها وتؤدي كراء حصتهم .




وأما مذهب الشافعي : فإن له في سكنى المتوفى عنها قولين أحدهما : لها السكنى حاملا كانت أو حائلا .

والثاني : لا سكنى لها حاملا كانت أو حائلا ويجب عنده ملازمتها للمسكن في العدة بائنا كانت أو متوفى عنها وملازمة البائن للمنزل عنده آكد من ملازمة المتوفى عنها فإنه يجوز للمتوفى عنها الخروج نهارا لقضاء حوائجها ولا يجوز ذلك في البائن في أحد قوليه وهو القديم ولا يوجبه في الرجعية بل يستحبه .

وأما أحمد فعنده ملازمة المتوفى عنها آكد من الرجعية ولا يوجبه في البائن . وأورد أصحاب الشافعي رحمه الله على نصه بوجوب ملازمة المنزل على المتوفى عنها مع نصه في أحد القولين على أنه لا سكنى لها سؤالا . وقالوا : كيف يجتمع النصان وأجابوا بجوابين .

أحدهما : أنه لا تجب عليها ملازمة المسكن على ذلك القول لكن لو ألزم الوارث أجرة المسكن وجبت عليها الملازمة حينئذ وأطلق أكثر أصحابه الجواب هكذا .

والثاني : أن ملازمة المنزل واجبة عليها ما لم يكن عليها فيه ضرر بأن تطالب بالأجرة أو يخرجها الوارث أو المالك فتسقط حينئذ .

وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا : لا يجوز للمطلقة الرجعية ولا للبائن الخروج من بيتها ليلا ولا نهارا وأما المتوفى عنها فتخرج نهارا وبعض الليل ولكن لا تبيت في منزلها قالوا : والفرق أن المطلقة نفقتها في مال زوجها .

فلا يجوز لها الخروج كالزوجة بخلاف المتوفى عنها فإنها لا نفقة لها فلا بد أن تخرج بالنهار لإصلاح حالها قالوا : وعليها أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حال وقوع الفرقة قالوا : فإن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها أو أخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت لأن هذا عذر والكون في بيتها عبادة والعبادة تسقط بالعذر قالوا : فإن عجزت عن كراء البيت الذي هي فيه لكثرته فلها أن تنتقل إلى بيت أقل كراء منه وهذا من كلامهم يدل على أن أجرة السكن عليها وإنما يسقط السكن عنها لعجزها عن أجرته ولهذا صرحوا بأنها تسكن في نصيبها من التركة إن كفاها وهذا لأنه لا سكنى عندهم للمتوفى عنها حاملا كانت أو حائلا وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذي توفي زوجها وهي فيه ليلا لا نهارا فإن بذله لها الورثة وإلا كانت الأجرة عليها فهذا تحرير مذاهب الناس في هذه المسألة ومأخذ الخلاف فيها وبالله التوفيق .

ولقد أصاب فريعة بنت مالك في هذا الحديث نظير ما أصاب فاطمة بنت قيس في حديثها فقال بعض المنازعين في هذه المسألة لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة فإن الله سبحانه إنما أمرها بالاعتداد أربعة أشهر وعشرا ولم يأمرها بالمنزل . وقد أنكرت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وجوب المنزل وأفتت المتوفى عنها بالاعتداد حيث شاءت كما أنكرت حديث فاطمة بنت قيس وأوجبت السكنى للمطلقة .

وقال بعض من نازغ في حديث الفريعة قد قتل من الصحابة رضي الله عنهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق كثير يوم أحد ويوم بئر معونة ويوم مؤتة وغيرها واعتد أزواجهم بعدهم فلو كان كل امرأة منهن تلازم منزلها زمن العدة لكان ذلك من أظهر الأشياء وأبينها بحيث لا يخفى على من هو دون ابن عباس وعائشة فكيف خفي هذا عليهما وعلى غيرهما من الصحابة الذين حكى أقوالهم مع استمرار العمل به استمرارا شائعا هذا من أبعد الأشياء ثم لو كانت السنة جارية بذلك لم تأت الفريعة تستأذنه صلى الله عليه وسلم أن تلحق بأهلها ولما أذن لها في ذلك ثم يأمر بردها بعد ذهابها ويأمرها بأن تمكث في بيتها فلو كان ذلك أمرا مستمرا ثابتا لكان قد نسخ بإذنه لها في اللحاق بأهلها ثم نسخ ذلك الإذن بأمره لها بالمكث في بيتها فيفضي إلى تغيير الحكم مرتين وهذا لا عهد لنا به في الشريعة في موضع متيقن .

قال الآخرون ليس في هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة التي تلقاها أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأكابر الصحابة بالقبول ونفذها عثمان وحكم بها ولو كنا لا نقبل رواية النساء عن النبي صلى الله عليه وسلم لذهبت سنن كثيرة من سنن الإسلام لا يعرف أنه رواها عنه إلا النساء وهذا كتاب الله ليس فيه ما ينبغي وجوب الاعتداد في المنزل حتى تكون السنة مخالفة له بل غايتها أن تكون بيانا لحكم سكت عنه الكتاب ومثل هذا لا ترد به السنن وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه أن تترك السنة إذا لم يكن نظير حكمها في الكتاب .

وأما ترك أم المؤمنين رضي الله عنها لحديث الفريعة - فلعله لم يبلغها ولو بلغها فلعلها تأولته ولو لم تتأوله فلعله قام عندها معارض له وبكل حال فالقائلون به في تركهم لتركها لهذا الحديث أعذر من التاركين له لترك أم المؤمنين له فبين التركين فرق عظيم .

وأما من قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مات في حياته فلم يأت قط أن نساءهم كن يعتددن حيث شئن ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث فريعة البتة فلا يجوز ترك السنة الثابتة لأمر لا يعلم كيف كان ولو علم أنهن كن يعتددن حيث شئن ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث الفريعة فلعل ذلك قبل استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الأصل براءة الذمة وعدم الوجوب .

وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير قال قال مجاهد : استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن إنا نستوحش يا رسول الله بالليل فنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا تبددنا في بيوتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن فإذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها

وهذا وإن كان مرسلا فالظاهر أن مجاهدا إما أن يكون سمعه من تابعي ثقة أو من صحابي والتابعون لم يكن الكذب معروفا فيهم وهم ثاني القرون المفضلة وقد شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا العلم عنهم وهم خير الأمة بعدهم فلا يظن بهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الرواية عن الكذابين ولا سيما العالم منهم إذا جزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرواية وشهد له بالحديث فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر ونهى فيبعد كل البعد أن يقدم على ذلك مع كون الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كذابا أو مجهولا وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم فكلما تأخرت القرون ساء الظن بالمراسيل ولم يشهد بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالجملة فليس الاعتماد على هذا المرسل وحده وبالله التوفيق .



ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحداد المعتدة نفيا وإثباتا
ثبت في " الصحيحين " : عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة قالت زينب : دخلت على أم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة رضي الله عنها بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا

قالت زينب : ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا

قالت زينب : وسمعت أمي أم سلمة رضي الله عنها تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن بنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول " لا " ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول

فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى يمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره . قال مالك تفتض تمسح به جلدها .

وفي " الصحيحين " : عن أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة توفي عنها زوجها فخافوا على عينها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد كانت إحداكن تكون في شر بيتها أو في شر أحلاسها في بيتها حولا فإذا مر كلب رمت ببعرة فخرجت أفلا أربعة أشهر وعشرا

وفي " الصحيحين " عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار

وفي " سنن أبي داود " : من حديث الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تكتحل ولا تختضب

وفي " سننه " أيضا : من حديث ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه قال سمعت المغيرة بن الضحاك يقول أخبرتني أم حكيم بنت أسيد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء .

قال أحمد بن صالح رحمه الله الصواب بكحل الجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة رضي الله عنها فسألتها عن كحل الجلاء فقالت لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار ثم قالت عند ذلك أم سلمة دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال " ما هذا يا أم سلمة ؟ فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب . فقال " إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب " قالت قلت : بأي شيء امتشط يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال " بالسدر تغلفين به رأسك



[وجوب الإحداد وجوازه ]

وقد تضمنت هذه السنة أحكاما عديدة . أحدها : أنه لا يجوز الإحداد على ميت فوق ثلاثة أيام كائنا من كان إلا الزوج وحده .

وتضمن الحديث الفرق بين الإحدادين من وجهين .

أحدهما : من جهة الوجوب والجواز فإن الإحداد على الزوج واجب وعلى غيره جائز .



[مدة الإحداد ]

الثاني : من مقدار مدة الإحداد فالإحداد على الزوج عزيمة وعلى غيره رخصة وأجمعت الأمة على وجوبه على المتوفى عنها زوجها إلا ما حكي عن الحسن والحكم بن عتيبة .

أما الحسن فروى حماد بن سلمة عن حميد عنه أن المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتتطيبان وتختضبان وتنتقلان وتصنعان ما شاءتا وأما الحكم فذكر عنه شعبة : أن المتوفى عنها لا تحد

قال ابن حزم : واحتج أهل هذه المقالة ثم ساق من طريق أبي الحسن محمد بن عبد السلام حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثنا الحكم بن عتيبة عن عبد الله بن شداد بن الهاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة جعفر بن أبي طالب : إذا كان ثلاثة أيام فالبسي ما شئت أو إذا كان بعد ثلاثة أيام شعبة شك .

ومن طريق حماد بن سلمة حدثنا الحجاج بن أرطاة عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن شداد أن أسماء بنت عميس استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تبكي على جعفر وهي امرأته فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي

قالوا : وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد لأنه بعدها فإن أم سلمة رضي الله عنها روت حديث الإحداد وأنه صلى الله عليه وسلم أمرها به إثر موت أبي سلمة ولا خلاف أن موت أبي سلمة كان قبل موت جعفر رضي الله عنهما .

وأجاب الناس عن ذلك بأن هذا حديث منقطع فإن عبد الله بن شداد بن الهاد لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه فكيف يقدم حديثه على الأحاديث الصحيحة المسندة التي لا مطعن فيها ؟ وفي الحديث الثاني : الحجاج بن أرطاة ولا يعارض بحديثه حديث الأئمة الأثبات الذين هم فرسان الحديث .




فصل [ تبعية الإحداد للعدة ]
الحكم الثاني : إن الإحداد تابع للعدة بالشهور أما الحامل فإذا انقضى حملها سقط وجوب الإحداد عنها اتفاقا فإن لها أن تتزوج وتتجمل وتتطيب لزوجها وتتزين له ما شاءت .

فإن قيل فإذا زادت مدة الحمل على أربعة أشهر وعشر فهل يسقط وجوب الإحداد أم يستمر إلى حين الوضع ؟ قيل بل يستمر الإحداد إلى حين الوضع فإنه من توابع العدة ولهذا قيد بمدتها وهو حكم من أحكام العدة وواجب من واجباتها فكان معها وجودا وعدما .




فصل [تستوي الزوجات بالإحداد حتى الكافرة والأمة والصغيرة ]
الحكم الثالث أن الإحداد تستوي فيه جميع الزوجات المسلمة والكافرة والحرة والأمة الصغيرة والكبيرة وهذا قول الجمهور أحمد والشافعي ومالك . إلا أن أشهب وابن نافع قالا لا إحداد على الذمية رواه أشهب عن مالك وهو قول أبي حنيفة ولا إحداد عنده على الصغيرة .

واحتج أرباب هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإحداد من أحكام من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل فيه الكافرة ولأنها غير مكلفة بأحكام الفروع .

قالوا : وعدوله عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيد بالإيمان يقتضي أن هذا من أحكام الإيمان ولوازمه وواجباته فكأنه قال من التزم الإيمان فهذا من شرائعه وواجباته .

والتحقيق أن نفي حل الفعل عن المؤمنين لا يقتضي نفي حكمه عن الكفار ولا إثبات لهم أيضا وإنما يقتضي أن من التزم الإيمان وشرائعه فهذا لا يحل له ويجب على كل حال أن يلزم الإيمان وشرائعه ولكن لا يلزمه الشارع شرائع الإيمان إلا بعد دخوله فيه وهذا كما لو قيل لا يحل لمؤمن أن يترك الصلاة والحج والزكاة فهذا لا يدل على أن ذلك حل للكافر وهذا كما قال في لباس الحرير لا ينبغي هذا للمتقين فلا يدل أنه ينبغي لغيرهم .

وكذا قوله لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا

وسر المسألة أن شرائع الحلال والحرام والإيجاب إنما شرعت لمن التزم أصل الإيمان ومن لم يلتزمه وخلي بينه وبين دينه فإنه يخلى بينه وبين شرائع الدين الذي التزمه كما خلي بينه وبين أصله ما لم يحاكم إلينا وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء ولكن عذر الذين أوجبوا الإحداد على الذمية أنه يتعلق به حق الزوج المسلم وكان منه إلزامها به كأصل العدة ولهذا لا يلزمونها به في عدتها من الذمي ولا يتعرض لها فيها فصار هذا كعقودهم مع المسلمين فإنهم يلزمون فيها بأحكام الإسلام وإن لم يتعرض لعقودهم مع بعضهم بعضا ومن ينازعهم في ذلك يقولون الإحداد حق لله تعالى ولهذا لو اتفقت هي والأولياء والمتوفى على سقوطه بأن أوصاها بتركه لم يسقط ولزمها الإتيان به فهو جار مجرى العبادات وليست الذمية من أهلها فهذا سر المسألة .



فصل [ لا يجب الإحداد على الأمة ولا أم الولد ]
الحكم الرابع أن الإحداد لا يجب على الأمة ولا أم الولد إذا مات سيدهما لأنهما ليسا بزوجين . قال ابن المنذر : لا أعلمهم يختلفون في ذلك .

فإن قيل فهل لهما أن تحدا ثلاثة أيام ؟ قيل نعم لهما ذلك فإن النص إنما حرم الإحداد فوق الثلاث على غير الزوج وأوجبه أربعة أشهر وعشرا على الزوج فدخلت الأمة وأم الولد فيمن يحل لهن الإحداد لا فيمن يحرم عليهن ولا فيمن يجب .



[لا إحداد على غير المتوفى عنها زوجها ]
فإن قيل فهل يجب على المعتدة من طلاق أو وطء شبهة أو زنى أو استبراء إحداد ؟

قلنا : هذا هو الحكم الخامس الذي دلت عليه السنة أنه لا إحداد على واحدة من هؤلاء لأن السنة أثبتت ونفت فخصت بالإحداد الواجب الزوجات وبالجائز غيرهن على الأموات خاصة وما عداهما فهو داخل في حكم التحريم على الأموات فمن أين لكم دخوله في الإحداد على المطلقة البائن ؟ وقد قال سعيد بن المسيب وأبو عبيد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها الخرقي إن البائن يجب عليها الإحداد وهو محض القياس لأنها معتدة بائن من نكاح فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها لأنهما اشتركا في العدة واختلفا في سببها ولأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه .

قالوا : ولا ريب أن الإحداد معقول المعنى وهو أن إظهار الزينة والطيب والحلي مما يدعو المرأة إلى الرجال ويدعو الرجال إليها : فلا يؤمن أن تكذب في انقضاء عدتها استعجالا لذلك فمنعت من دواعي ذلك وسدت إليه الذريعة هذا مع أن الكذب في عدة الوفاة يتعذر غالبا بظهور موت الزوج وكون العدة أياما معدودة بخلاف عدة الطلاق فإنها بالأقراء وهي لا تعلم إلا من جهتها فكان الاحتياط لها أولى .

قيل قد أنكر الله سبحانه وتعالى على من حرم زينته التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يحرم من الزينة إلا ما حرمه الله ورسوله والله سبحانه قد حرم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم زينة الإحداد على المتوفى عنها مدة العدة وأباح رسوله الإحداد بتركها على غير الزوج فلا يجوز تحريم غير ما حرمه بل هو على أصل الإباحة وليس الإحداد من لوازم العدة ولا توابعها ولهذا لا يجب على الموطوءة بشبهة ولا المزني بها ولا المستبرأة ولا الرجعية اتفاقا وهذا القياس أولى من قياسها على المتوفى عنها لما بين العدتين من القروء قدرا أو سببا وحكما فإلحاق عدة الأقراء بالأقراء أولى من إلحاق عدة الأقراء بعدة الوفاة وليس المقصود من الإحداد على الزوج الميت مجرد ما ذكرتم من طلب الاستعجال فإن العدة فيه لم تكن لمجرد العلم ببراءة الرحم ولهذا تجب قبل الدخول وإنما هو من تعظيم هذا العقد وإظهار خطره وشرفه وأنه عند الله بمكان فجعلت العدة حريما له وجعل الإحداد من تمام هذا المقصود وتأكده ومزيد الاعتناء به حتى جعلت الزوجة أولى بفعله على زوجها من أبيها وابنها وأخيها وسائر أقاربها وهذا من تعظيم هذا العقد وتشريفه وتأكد الفرق بينه وبين السفاح من جميع أحكامه ولهذا شرع في ابتدائه إعلانه والإشهاد عليه والضرب بالدف لتحقق المضادة بينه وبين السفاح وشرع في آخره وانتهائه من العدة والإحداد ما لم يشرع في غيره .



فصل [الخصال التي تجتنبها الحادة ]
الحكم السادس في الخصال التي تجتنبها الحادة وهي التي دل عليها النص دون الآراء والأقوال التي لا دليل عليها وهي أربعة .

الطيب أحدها : الطيب بقوله في الحديث الصحيح لا تمس طيبا ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد ولهذا لما خرجت أم حبيبة رضي الله عنها من إحدادها على أبيها أبي سفيان دعت بطيب فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم ذكرت الحديث ويدخل في الطيب المسك والعنبر والكافور والند والغالية والزباد والذريرة والبخور والأدهان المطيبة كدهن البان والورد والبنفسج والياسمين والمياه المعتصرة من الأدهان الطيبة كماء الورد وماء القرنفل وماء زهر النارنج فهذا كله طيب ولا يدخل فيه الزيت ولا الشيرج ولا السمن ولا تمنع من الأدهان بشيء من ذلك .



فصل [ تجتنب الحادة الزينة في بدنها ]

الحكم السابع وهي ثلاثة أنواع . أحدها : الزينة في بدنها فيحرم عليها الخضاب والنقش والتطريف والحمرة والاسفيداج فإن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الخضاب منبها به على هذه الأنواع التي هي أكثر زينة منه وأعظم فتنة وأشد مضادة لمقصود الإحداد ومنها : الكحل والنهي عنه ثابت بالنص بالصريح الصحيح .

ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف منهم أبو محمد بن حزم : لا تكتحل ولو ذهبت عيناها لا ليلا ولا نهارا ويساعد قولهم حديث أم سلمة المتفق عليه أن امرأة توفي عنها زوجها فخافوا على عينها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فما أذن فيه بل قال " لا " مرتين أو ثلاثا ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الإحداد البليغ سنة ويصبرن على ذلك أفلا يصبرن أربعة أشهر وعشرا

ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة فهو كالطيب أو أشد منه . وقال بعض الشافعية : للسوداء أن تكتحل وهذا تصرف مخالف للنص والمعنى وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفرق بين السود والبيض كما لا تفرق بين الطوال والقصار ومثل هذا القياس بالرأي الفاسد الذي اشتد نكير السلف له وذمهم إياه .

وأما جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم فقالوا : إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداويا لا زينة فلها أن تكتحل به ليلا وتمسحه نهارا وحجتهم حديث أم سلمة المتقدم رضي الله عنها فإنها قالت في كحل الجلاء لا تكتحل إلا لما لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار

ومن حجتهم حديث أم سلمة رضي الله عنها الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وقد جعلت عليها صبرا فقال ما هذا يا أم سلمة ؟ فقلت : صبر يا رسول الله ليس فيه طيب فقال إنه يشب الوجه فقال " لا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار وهما حديث واحد فرقه الرواة وأدخل مالك هذا القدر منه في " موطئه " بلاغا وذكر أبو عمر في " التمهيد " له طرقا يشد بعضها بعضا ويكفي احتجاج مالك به وأدخله أهل السنن في كتبهم واحتج به الأئمة وأقل درجاته أن يكون حسنا ولكن حديثها هذا مخالف في الظاهر لحديثها المسند المتفق عليه فإنه يدل على المتوفى عنها لا تكتحل بحال فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن للمشتكية عينها في الكحل لا ليلا ولا نهارا ولا من ضرورة ولا غيرها وقال " لا " مرتين أو ثلاثا ولم يقل إلا أن تضطر .

وقد ذكر مالك عن نافع عن صفية ابنة عبيد أنها اشتكت عينها وهي حاد على زوجها عبد الله بن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان

قال أبو عمر وهذا عندي وإن كان ظاهره مخالفا لحديثها الآخر لما فيه من إباحته بالليل وقوله في الحديث الآخر " لا " مرتين أو ثلاثا على الإطلاق أن ترتيب الحديثين والله أعلم على أن الشكاة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لم تبلغ - والله أعلم - منها مبلغا لا بد لها فيه من الكحل فلذلك نهاها ولو كانت محتاجة مضطرة تخاف ذهاب بصرها لأباح لها ذلك كما فعل بالتي قال لها : اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار والنظر يشهد لهذا التأويل لأن الضرورات تنقل المحظورات إلى حال المباح في الأصول ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضي الله عنها تفسيرا للحديث المسند في الكحل لأن أم سلمة رضي الله عنها روته وما كانت لتخالفه إذا صح عندها وهي أعلم بتأويله ومخرجه والنظر يشهد لذلك لأن المضطر إلى شيء لا يحكم له بحكم المرفه المتزين بالزينة وليس الدواء والتداوي من الزينة في شيء وإنما نهيت الحادة عن الزينة لا عن التداوي وأم سلمة رضي الله عنها أعلم بما روت مع صحته في النظر وعليه أهل الفقه وبه قال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء .

وقد ذكر مالك رحمه الله في " موطئه " أنه بلغه عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهما كانا يقولان في المرأة يتوفى عنها زوجها : إنها إذا خشيت على بصرها من رمد بعينيها أو شكوى أصابتها أنها تكتحل وتتداوى بالكحل وإن كان فيه طيب .

قال أبو عمر لأن القصد إلى التداوي لا إلى التطيب والأعمال بالنيات .

وقال الشافعي رحمه الله الصبر يصفر فيكون زينة وليس بطيب وهو كحل الجلاء فأذنت أم سلمة رضي الله عنها للمرأة بالليل حيث لا ترى وتمسحه بالنهار حيث يرى وكذلك ما أشبهه .

وقال أبو محمد ابن قدامة في " المغني " : وإنما تمنع الحادة من الكحل بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به لأنه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها .

قال ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه يشب الوجه

قال ولا تمنع من تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث أم سلمة رضي الله عنها ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب وقال إبراهيم بن هانئ النيسابوري في " مسائله " قيل لأبي عبد الله المتوفى عنها تكتحل بالإثمد ؟ قال لا ولكن إذا أرادت اكتحلت بالصبر إذا خافت على عينها واشتكت شكوى شديدة .


افتراضي

فصل [تجتنب الحادة زينة الثياب ]

النوع الثاني : زينة الثياب فيحرم عليها ما نهاها عنه النبي صلى الله عليه وسلم وما هو أولى بالمنع منه وما هو مثله . وقد صح عنه أنه قال " ولا تلبس ثوبا مصبوغا " . وهذا يعم المعصفر والمزعفر وسائر المصبوغ بالأحمر والأصفر والأخضر والأزرق الصافي وكل ما يصبغ للتحسين والتزيين .

وفي اللفظ الآخر ولا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق وههنا نوعان آخران .

أحدهما : مأذون فيه وهو ما نسج من الثياب على وجهه ولم يدخل فيه صبغ من خز أو قز أو قطن أو كتان أو صوف أو وبر أو شعر أو صبغ غزله ونسج مع غيره كالبرود .

والثاني : ما لا يراد بصبغه الزينة مثل السواد وما صبغ لتقبيح أو ليستر الوسخ فهذا لا يمنع منه .

قال الشافعي رحمه الله في الثياب زينتان . إحداهما : جمال الثياب على اللابسين والسترة للعورة . فالثياب زينة لمن يلبسها وإنما نهيت الحادة عن زينة بدنها ولم تنه عن ستر عورتها فلا بأس أن تلبس كل ثوب من البياض لأن البياض ليس بمزين وكذلك الصوف والوبر وكل ما ينسج على وجهه ولم يدخل عليه صبغ من خز أو غيره وكذلك كل صبغ لم يرد به تزيين الثوب مثل السواد وما صبغ لتقبيحه أو لنفي الوسخ عنه فأما ما كان من زينة أو وشي في ثوبه أو غيره فلا تلبسه الحادة وذلك لكل حرة أو أمة كبيرة أو صغيرة مسلمة أو ذمية . انتهى كلامه .

قال أبو عمر : وقول الشافعي رحمه الله في هذا الباب نحو قول مالك وقال أبو حنيفة : لا تلبس ثوب عصب ولا خز وإن لم يكن مصبوغا إذا أرادت به الزينة وإن لم ترد بلبس الثوب المصبوغ الزينة فلا بأس أن تلبسه .

وإذا اشتكت عينها اكتحلت بالأسود وغيره وإن لم تشتك عينها لم تكتحل .



فصل

وأما الإمام أحمد رحمه الله فقال في رواية أبي طالب ولا تتزين المعتدة ولا تتطيب بشيء من الطيب ولا تكتحل بكحل زينة وتدهن بدهن ليس فيه طيب ولا تقرب مسكا ولا زعفرانا للطيب والمطلقة واحدة أو اثنتين تتزين وتتشوف لعله أن يراجعها . وقال أبو داود في " مسائله " : سألت أحمد قال المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا والمحرمة يجتنبن الطيب والزينة .

وقال حرب في " مسائله " : سألت أحمد رحمه الله قلت : المتوفى عنها زوجها والمطلقة هل تلبسان البرد ليس بحرير ؟ فقال لا تتطيب المتوفى عنها ولا تتزين بزينة وشدد في الطيب إلا أن يكون قليلا عند طهرها .

ثم قال وشبهت المطلقة ثلاثا بالمتوفى عنها لأنه ليس لزوجها عليها رجعة ثم ساق حرب بإسناده إلى أم سلمة قال المتوفى عنها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا تختضب ولا تكتحل ولا تتطيب ولا تمتشط بطيب .

وقال إبراهيم بن هانئ النيسابوري في " مسائله " : سألت أبا عبد الله عن المرأة تنتقب في عدتها أو تدهن في عدتها ؟ قال لا بأس به وإنما كره للمتوفى عنها زوجها أن تتزين .

وقال أبو عبد الله : كل دهن فيه طيب فلا تدهن به فقد دار كلام الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله على أن الممنوع منه من الثياب ما كان من لباس الزينة من أي نوع كان وهذا هو الصواب قطعا فإن المعنى الذي منعت من المعصفر والممشق لأجله مفهوم والنبي صلى الله عليه وسلم خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيها على ما هو مثله وأولى بالمنع فإذا كان الأبيض والبرود المحبرة الرفيعة الغالية الأثمان مما يراد للزينة لارتفاعهما وتناهي جودتهما كان أولى بالمنع من الثوب المصبوغ .

وكل من عقل عن الله ورسوله لم يسترب في ذلك لا كما قال أبو محمد بن حزم : إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط ومباح لها أن تلبس بعد ما شاءت من حرير أبيض وأصفر من لونه الذي لم يصبغ وصوف البحر الذي هو لونه وغير ذلك .

ومباح لها أن تلبس المنسوج بالذهب والحلي كله من الذهب والفضة والجوهر والياقوت والزمرد وغير ذلك فهي خمسة أشياء تجتنبها فقط وهي الكحل كله لضرورة أو لغير ضرورة ولو ذهبت عيناها لا ليلا ولا نهارا وتجتنب فرضا كل ثوب مصبوغ مما يلبس في الرأس والجسد أو على شيء منه سواء في ذلك السواد والخضرة والحمرة والصفرة وغير ذلك إلا العصب وحده وهي ثياب موشاة تعمل في اليمن فهو مباح لها .

وتجتنب أيضا : فرضا الخضاب كله جملة وتجتنب الامتشاط حاشا التسريح بالمشط فقط فهو حلال لها وتجتنب أيضا : فرضا الطيب كله ولا تقرب شيئا حاشا شيئا من قسط أو أظفار عند طهرها فقط فهذه الخمسة التي ذكرها حكينا كلامه فيها بنصه .




[الرد على ابن حزم في تضعيفه إبراهيم بن طهمان ]

وليس بعجيب منه تحريم لبس ثوب أسود عليها من الزينة في شيء وإباحة ثوب يتقد ذهبا ولؤلؤا وجوهرا ولا تحريم المصبوغ الغليظ لحمل الوسخ وإباحة الحرير الذي يأخذ بالعيون حسنه وبهاؤه ورواؤه وإنما العجب منه أن يقول هذا دين الله في نفس الأمر وأنه لا يحل لأحد خلافه .

وأعجب من هذا إقدامه على خلاف الحديث الصحيح في نهيه صلى الله عليه وسلم لها عن لباس الحلي .

وأعجب من هذا أنه ذكر الخبر بذلك ثم قال ولا يصح ذلك لأنه من رواية إبراهيم بن طهمان وهو ضعيف ولو صح لقلنا به فلله ما لقي إبراهيم بن طهمان من أبي محمد بن حزم وهو من الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمة الستة على إخراج حديثه واتفق أصحاب الصحيح وفيهم الشيخان على الاحتجاج بحديثه وشهد له الأئمة بالثقة والصدق ولم يحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش ولا يحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه ولا تضعيفه به .

وقرئ على شيخنا أبي الحجاج الحافظ في " التهذيب " وأنا أسمع قال إ براهيم بن طهمان بن سعيد الخراساني أبو سعيد الهروي ولد بهراة وسكن نيسابور وقدم بغداد وحدث بها ثم سكن بمكة حتى مات بها ثم ذكر عمن روى ومن روى عنه ثم قال قال نوح بن عمرو بن المروزي عن سفيان بن عبد الملك عن ابن المبارك صحيح الحديث وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه وأبي حاتم : ثقة وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن يحيى بن معين : لا بأس به وكذلك قال العجلي وقال أبو حاتم صدوق حسن الحديث وقال عثمان بن سعيد الدارمي : كان ثقة في الحديث ثم لم تزل الأئمة يشتهون حديثه ويرغبون فيه ويوثقونه .

وقال أبو داود : ثقة . وقال إسحاق بن راهويه : كان صحيح الحديث حسن الرواية كثير السماع ما كان بخراسان أكثر حديثا منه وهو ثقة وروى له الجماعة .

وقال يحيى بن أكثم القاضي : كان من أنبل من حدث بخراسان والعراق والحجاز وأوثقهم وأوسعهم علما .

وقال المسعودي : سمعت مالك بن سليمان يقول مات إبراهيم بن طهمان سنة ثمان وستين ومائة بمكة ولم يخلف مثله .

وقد أفتى الصحابة رضي الله عنهم بما هو مطابق لهذه النصوص وكاشف عن معناها ومقصودها فصح عن ابن عمر أنه قال لا تكتحل ولا تتطيب ولا تختضب ولا تلبس المعصفر ولا ثوبا مصبوغا ولا بردا ولا تتزين بحلي ولا تلبس شيئا تريد به الزينة ولا تكتحل بكحل تريد به الزينة إلا أن تشتكي عينها

وصح عنه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : ولا تمس المتوفى عنها طيبا ولا تختضب ولا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب تتجلبب به وصح عن أم عطية : لا تلبس الثياب المصبغة إلا العصب ولا تمس طيبا إلا أدنى الطيب بالقسط والأظفار ولا تكتحل بكحل زينة

وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال تجتنب الطيب والزينة

وصح عن أم سلمة رضي الله عنها : لا تلبس من الثياب المصبغة شيئا ولا تكتحل ولا تلبس حليا ولا تختضب ولا تتطيب

وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : لا تلبس معصفرا ولا تقرب طيبا وتكتحل وتلبس حليا وتلبس إن شاءت ثياب العصب



فصل [هل تجتنب الحادة النقاب ]
وأما النقاب فقال الخرقي في " مختصره " : وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة والبيتوتة في غير منزلها والكحل بالإثمد والنقاب .

ولم أجد بهذا نصا عن أحمد . وقد قال إسحاق بن هانئ في " مسائله " : سألت أبا عبد الله عن المرأة تنتقب في عدتها أو تدهن في عدتها ؟ قال لا بأس به وإنما كره للمتوفى عنها زوجها أن تتزين .

ولكن قد قال أبو داود في " مسائله " عن المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا والمحرمة تجتنبن الطيب والزينة .

فجعل المتوفى عنها بمنزلة المحرمة فيما تجتنبه فظاهر هذا أنها تجتنب النقاب فلعل أبا القاسم أخذ من نصه هذا - والله أعلم - وبهذا علله أبو محمد في " المغني " فقال فصل الثالث فيما تجتنبه الحادة النقاب وما في معناه مثل البرقع ونحوه لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة والمحرمة تمتنع من ذلك .

وإذا احتاجت إلى ستر وجهها سدلت عليه كما تفعل المحرمة .



فصل هل تلبس الحادة الثوب إذا صبغ غزله ثم نسج ؟
فإن قيل فما تقولون في الثوب إذا صبغ غزله ثم نسج هل لها لبسه ؟ قيل فيه وجهان وهما احتمالان في المغني أحدهما : يحرم لبسه لأنه أحسن وأرفع ولأنه مصبوغ للحسن فأشبه ما صبغ بعد نسجه والثاني : لا يحرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها : إلا ثوب عصب وهو ما صبغ غزله قبل نسجه ذكره القاضي

قال الشيخ والأول أصح وأما العصب فالصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب قال السهيلي الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به فأرخص النبي صلى الله عليه وسلم للحادة في لبس ما يصبغ بالعصب لأنه في معنى ما يصبغ لغير تحسين كالأحمر والأصفر فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه كحصولها بما صبغ بعد نسجه . والله أعلم .




ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستبراء
ثبت في " صحيح مسلم " : من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس فلقي عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا سبايا فكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجل في ذلك والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء 24 ] أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن .

وفي " صحيحه " أيضا : من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال " لعله يريد أن يلم بها " . فقالوا : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له .

وفي الترمذي : من حديث عرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن

وفي " المسند " و " سنن أبي داود " : من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس : لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة .

وفي الترمذي : من حديث رويفع بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره . قال الترمذي : حديث حسن .

ولأبي داود من حديثه أيضا : لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها .

ولأحمد : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض . وذكر البخاري في " صحيحه " : قال ابن عمر : إذا وهبت الوليدة التي توطأ أو بيعت أو عتقت فلتستبرأ بحيضة ولا تستبرأ العذراء .

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن طاووس : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا في بعض مغازيه لا يقعن رجل على حامل ولا حائل حتى تحيض .

وذكر عن سفيان الثوري : عن زكريا عن الشعبي قال أصاب المسلمون سبايا يوم أوطاس فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقعوا على حامل حتى تضع ولا على غير حامل حتى تحيض .




فصل [ لا يجوز وطء المسبية حتى يعلم براءة رحمها ]
فتضمنت هذه السنن أحكاما عديدة . أحدها : أنه لا يجوز وطء المسبية حتى يعلم براءة رحمها فإن كانت حاملا فبوضع حملها وإن كانت حائلا فبأن تحيض حيضة . فإن لم تكن من ذوات الحيض فلا نص فيها واختلف فيها وفي البكر وفي التي يعلم براءة رحمها بأن حاضت عند البائع ثم باعها عقيب الحيض ولم يطأها ولم يخرجها عن ملكه أو كانت عند امرأة وهي مصونة فانتقلت عنها إلى رجل فأوجب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد الاستبراء في ذلك كله أخذا بعموم الأحاديث واعتبارا بالعدة حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم واحتجاجا بآثار الصحابة كما ذكر عبد الرزاق . حدثنا ابن جريج قال قال عطاء تداول ثلاثة من التجار جارية فولدت فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه القافة فألحقوا ولدها بأحدهم ثم قال عمر رضي الله عنه من ابتاع جارية قد بلغت المحيض فليتربص بها حتى تحيض فإن كانت لم تحض فليتربص بها خمسا وأربعين ليلة

قالوا : وقد أوجب الله العدة على من يئست من المحيض وعلى من لم تبلغ سن المحيض وجعلها ثلاثة أشهر والاستبراء عدة الأمة فيجب على الآيسة ومن لم تبلغ سن المحيض .

وقال آخرون . المقصود من الاستبراء العلم ببراءة الرحم فحيث تيقن المالك براءة رحم الأمة فله وطؤها ولا استبراء عليه كما رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء وذكره البخاري في " صحيحه " عنه .

وذكر حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي عن ابن عمر قال وقعت في سهمي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة قال ابن عمر فما ملكت نفسي أن جعلت أقبلها والناس ينظرون

ومذهب مالك إلى هذا يرجع وهاك قاعدته وفروعها : قال أبو عبد الله المازري وقد عقد قاعدة لباب الاستبراء فنذكرها بلفظها . والقول الجامع في ذلك أن كل أمة أمن عليها الحمل فلا يلزم فيها الاستبراء وكل من غلب على الظن كونها حاملا أو شك في حملها أو تردد فيه فالاستبراء لازم فيها وكل من غلب الظن ببراءة رحمها لكنه مع الظن الغالب يجوز حصوله فإن المذهب على قولين في ثبوت الاستبراء وسقوطه .

ثم خرج على ذلك الفروع المختلفة فيها كاستبراء الصغيرة التي تطيق الوطء والآيسة وفيه روايتان عن مالك قال صاحبا الجواهر " : ويجب في الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن الحمل كبنت ثلاث عشرة أو أربع عشرة وفي إيجاب الاستبراء إذا كانت ممن تطيق الوطء ولا يحمل مثلها كبنت تسع وعشر روايتان أثبته في رواية ابن القاسم ونفاه في رواية ابن عبد الحكم وإن كانت ممن لا يطيق الوطء فلا استبراء فيها . قال ويجب الاستبراء فيمن جاوزت سن الحيض ولم تبلغ سن الآيسة مثل ابنة الأربعين والخمسين .

وأما التي قعدت عن المحيض ويئست عنه فهل يجب فيها الاستبراء أو لا يجب ؟ روايتان لابن القاسم وابن عبد الحكم . قال المازري ووجه استبراء الصغيرة التي تطيق الوطء والآيسة أنه يمكن فيهما الحمل على الندور أو لحماية الذريعة لئلا يدعى في مواضع الإمكان أن لا إمكان .

قال ومن ذلك استبراء الأمة خوفا أن تكون زنت وهو المعبر عنه بالاستبراء لسوء الظن وفيه قولان والنفي لأشهب . قال ومن ذلك استبراء الأمة الوخش فيه قولان الغالب عدم وطء السادات لهن وإن كان يقع في النادر .

ومن ذلك استبراء من باعها مجبوب أو امرأة أو ذو محرم ففي وجوبه روايتان عن مالك . ومن ذلك استبراء المكاتبة إذا كانت تتصرف ثم عجزت فرجعت إلى سيدها فابن القاسم يثبت الاستبراء وأشهب ينفيه .

ومن ذلك استبراء البكر قال أبو الحسن اللخمي : هو مستحب على وجه الاحتياط غير واجب وقال غيره من أصحاب مالك هو واجب .

ومن ذلك إذا استبرأ البائع الأمة وعلم المشتري أنه قد استبرأها فإنه يجزئ استبراء البائع عن استبراء المشتري .

ومن ذلك إذا أودعه أمة فحاضت عند المودع حيضة ثم استبرأها لم يحتج إلى استبراء ثان وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها وهذا بشرط أن لا تخرج ولا يكون سيدها يدخل عليها .

ومن ذلك أن يشتريها من زوجته أو ولد له صغير في عياله وقد حاضت عند البائع فابن القاسم يقول إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك وأشهب يقول إن كان مع المشتري في دار وهو الذاب عنها والناظر في أمرها أجزأه ذلك سواء كانت تخرج أو لا تخرج . ومن ذلك إن كان سيد الأمة غائبا فحين قدم اشتراها منه رجل قبل أن تخرج أو خرجت وهي حائض فاشتراها قبل أن تطهر فلا استبراء عليه . ومن ذلك إذا بيعت وهي حائض في أول حيضها فالمشهور من مذهبه أن ذلك يكون استبراء لها لا يحتاج إلى حيضة مستأنفة . ومن ذلك الشريك يشتري نصيب شريكه من الجارية وهي تحت يد المشتري منهما وقد حاضت في يده فلا استبراء عليه .

وهذه الفروع كلها من مذهبه تنبيك عن مأخذه في الاستبراء وأنه إنما يجب حيث لا يعلم ولا يظن براءة الرحم فإن علمت أو ظنت فلا استبراء وقد قال أبو العباس ابن سريج وأبو العباس ابن تيمية : إنه لا يجب استبراء البكر كما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما وبقولهم نقول وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم نص عام في وجوب استبراء كل من تجدد له عليها ملك على أي حالة كانت وإنما نهى عن وطء السبايا حتى تضع حواملهن وتحيض حوائلهن .

فإن قيل فعمومه يقتضي تحريم وطء أبكارهن قبل الاستبراء كما يمتنع وطء الثيب ؟ قيل نعم وغايته أنه عموم أو إطلاق ظهر القصد منه فيخص أو يقيد عند انتفاء موجب الاستبراء ويخص أيضا بمفهوم قوله في حديث رويفع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكح ثيبا من السبايا حتى تحيض ويخص أيضا بمذهب الصحابي ولا يعلم له مخالف .

وفي " صحيح البخاري " : من حديث بريدة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه إلى خالد يعني باليمين ليقبض الخمس فاصطفى علي منها سبيه فأصبح وقد اغتسل فقلت لخالد أما ترى إلى هذا ؟ وفي رواية فقال خالد لبريدة ألا ترى ما صنع هذا ؟ قال بريدة . وكنت أبغض عليا رضي الله عنه فلما قدمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال " يا بريدة أتبغض عليا ؟ قلت : نعم قال " لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك " . فهذه الجارية إما أن تكون بكرا فلم ير علي وجوب استبرائها وإما أن تكون في آخر حيضها فاكتفى بالحيضة قبل تملكه لها . وبكل حال فلا بد أن يكون تحقق براءة رحمها بحيث أغناه عن الاستبراء .

فإذا تأملت قول النبي حق التأمل وجدت قوله ولا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض ظهر لك منه أن المراد بغير ذات الحمل من يجوز أن تكون حاملا وأن لا تكون فيمسك عن وطئها مخافة الحمل لأنه لا علم له بما اشتمل عليه رحمها وهذا قاله في المسبيات لعدم علم السابي بحالهن .




[عدة أم الولد ]

وعلى هذا فكل من ملك أمة لا يعلم حالها قبل الملك هل اشتمل رحمها على حمل أم لا ؟ لم يطأها حتى يستبرئها بحيضة هذا أمر معقول وليس بتعبد محض لا معنى له فلا معنى لاستبراء العذراء والصغيرة التي لا يحمل مثلها والتي اشتراها من امرأته وهي في بيته لا تخرج أصلا ونحوها ممن يعلم براءة رحمها فكذلك إذا زنت المراة وأرادت أن تتزوج استبرأها بحيضة ثم تزوجت وكذلك إذا زنت وهي مزوجة أمسك عنها زوجها حتى تحيض حيضة . وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدها اعتدت بحيضة .

قال عبد الله بن أحمد سألت أبي كم عدة أم الولد إذا توفي عنها مولاها أو أعتقها ؟ قال عدتها حيضة وإنما هي أمة في كل أحوالها إن جنت فعلى سيدها قيمتها وإن جني عليها فعلى الجاني ما نقص من قيمتها . وإن ماتت فما تركت من شيء فلسيدها وإن أصابت حدا فحد أمة وإن زوجها سيدها فما ولدت فهم بمنزلتها يعتقون بعتقها ويرقون برقها . وقد اختلف الناس في عدتها فقال بعض الناس أربعة أشهر وعشرا فهذه عدة الحرة وهذه عدة أمة خرجت من الرق إلى الحرية فيلزم من قال أربعة أشهر وعشرا أن يورثها وأن يجعل حكمها حكم الحرة لأنه قد أقامها في العدة مقام الحرة .

وقال بعض الناس عدتها ثلاث حيض وهذا قول ليس له وجه إنما تعتد ثلاث حيض المطلقة وليست هي بمطلقة ولا حرة وإنما ذكر الله العدة فقال والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ البقرة 234 ] وليست أم الولد بحرة ولا زوجة فتعتد بأربعة أشهر وعشر . قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وإنما هي أمة خرجت من الرق إلى الحرية وهذا لفظ أحمد رحمه الله .

وكذلك قال في رواية صالح تعتد أم الولد إذا توفي عنها مولاها أو أعتقها حيضة وإنما هي أمة في كل أحوالها .

وقال في رواية محمد بن العباس عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر إذا توفي عنها سيدها .

وقال الشيخ في " المغني " : وحكى أبو الخطاب رواية ثالثة عن أحمد أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام . قال ولم أجد هذه الرواية عن أحمد رحمه الله في " الجامع " ولا أظنها صحيحة عن أحمد رحمه الله وروي ذلك عن عطاء وطاووس وقتادة لأنها حين الموت أمة فكانت عدتها عدة الأمة كما لو مات رجل عن زوجته الأمة فعتقت بعد موته فليست هذه رواية إسحاق بن منصور عن أحمد .

قال أبو بكر عبد العزيز في " زاد المسافر " : باب القول في عدة أم الولد من الطلاق والوفاة . قال أبو عبد الله في رواية ابن القاسم إذا مات السيد وهي عند زوج فلا عدة عليها كيف تعتد وهي مع زوجها ؟ وقال في رواية مهنا إذا أعتق أم الولد فلا يتزوج أختها حتى تخرج من عدتها . وقال في رواية إسحاق بن منصور وعدة أم الولد عدة الأمة في الوفاة والطلاق والفرقة انتهى كلامه .

وحجة من قال عدتها أربعة أشهر وعشر ما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص أنه قال لا تفسدوا علينا سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر وهذا قول السعيدين ومحمد بن سيرين ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وخلاس بن عمرو والزهري والأوزاعي وإسحاق . قالوا : لأنها حرة تعتد للوفاة فكانت عدتها أربعة أشهر وعشرا كالزوجة الحرة .

وقال عطاء والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه تعتد بثلاث حيض وحكي عن علي وابن مسعود قالوا : لأنها لا بد لها من عدة وليست زوجة فتدخل في آية الأزواج المتوفى عنهن ولا أمة فتدخل في نصوص استبراء الإماء بحيضة فهي أشبه شيء بالمطلقة فتعتد بثلاثة أقراء .

والصواب من هذه الأقوال أنها تستبرأ بحيضة وهو قول عثمان بن عفان وعائشة وعبد الله بن عمر والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وأبي قلابة ومكحول ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل في أشهر الروايات عنه وهو قول أبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر فإن هذا إنما هو لمجرد الاستبراء لزوال الملك عن الرقبة فكان حيضة واحدة في حق من تحيض كسائر استبراءات المعتقات والمملوكات والمسبيات . وأما حديث عمرو بن العاص فقال ابن المنذر ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص .

وقال محمد بن موسى : سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص فقال لا يصح . وقال الميموني رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال أين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ؟ وقال أربعة أشهر وعشرا إنما هي عدة الحرة من النكاح وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية ويلزم من قال بهذا أن يورثها وليس لقول من قال تعتد ثلاث حيض وجه إنما تعتد بذلك المطلقة انتهى كلامه .

وقال المنذري في إسناد حديث عمرو مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق وقد ضعفه غير واحد وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ في كتاب " التهذيب " قال أبو طالب سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق . فقال كان يحيى بن سعيد يضعف حديثه عن عطاء وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن مطر الوراق قال كان يحيى بن سعيد يشبه حديث مطر الوراق بابن أبي ليلى في سوء الحفظ قال عبد الله فسألت أبي عنه ؟ فقال ما أقربه من ابن أبي ليلى في عطاء خاصة .

وقال مطر في عطاء ضعيف الحديث قال عبد الله قلت ليحيى بن معين مطر الوراق ؟ فقال ضعيف في حديث عطاء بن أبي رباح وقال النسائي ليس بالقوي . وبعد فهو ثقة قال أبو حاتم الرازي صالح الحديث وذكره ابن حبان في كتاب الثقات واحتج به مسلم فلا وجه لضعف الحديث به . وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ولم يسمع منه قاله الدارقطني وله علة أخرى وهي أنه موقوف لم يقل لا تلبسوا علينا سنة نبينا .

قال الدارقطني والصواب لا تلبسوا علينا ديننا . موقوف . وله علة أخرى وهي اضطراب الحديث واختلافه عن عمرو على ثلاثة أوجه
أحدها : هذا .
والثاني : عدة أم الولد عدة الحرة .
والثالث عدتها إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا فإذا أعتقت فعدتها ثلاث حيض والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقي . قال الإمام أحمد هذا حديث منكر حكاه البيهقي عنه وقد روى خلاس عن علي مثل رواية قبيصة عن عمرو أن عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر ولكن خلاس بن عمرو قد تكلم في حديثه فقال أيوب لا يروى عنه فإنه صحفي وكان مغيرة لا يعبأ بحديثه .

وقال أحمد روايته عن علي يقال إنه كتاب وقال البيهقي روايات خلاس عن علي ضعيفة عند أهل العلم بالحديث فقال هي من صحيفة . ومع ذلك فقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر في أم الولد يتوفى عنها سيدها قال تعتد بحيضة .

فإن ثبت عن علي وعمرو ما روي عنهما فهي مسألة نزاع بين الصحابة والدليل هو الحاكم وليس مع من جعلها أربعة أشهر وعشرا إلا التعلق بعموم المعنى إذ لم يكن معهم لفظ عام ولكن شرط عموم المعنى تساوي الأفراد في المعنى الذي ثبت الحكم لأجله فما لم يعلم ذلك لا يتحقق الإلحاق والذين ألحقوا أم الولد بالزوجة رأوا أن الشبه الذي بين أم الولد وبين الزوجة أقوى من الشبه الذي بينها وبين الأمة من جهة أنها بالموت صارت حرة فلزمتها العدة مع حريتها بخلاف الأمة ولأن المعنى الذي جعلت له عدة الزوجة أربعة أشهر وعشرا موجود في أم الولد وهو أدنى الأوقات الذي يتيقن فيها خلق الولد وهذا لا يفترق الحال فيه بين الزوجة وأم الولد والشريعة لا تفرق بين متماثلين ومنازعوهم يقولون أم الولد أحكامها أحكام الإماء لا أحكام الزوجات ولهذا لم تدخل في قوله ولكم نصف ما ترك أزواجكم [ النساء 12 ] وغيرها فكيف تدخل في قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا [ البقرة 234 ] ؟ قالوا : والعدة لم تجعل أربعة أشهر وعشرا لأجل مجرد براءة الرحم فإنها تجب على من يتيقن براءة رحمها وتجب قبل الدخول والخلوة فهي من حريم عقد النكاح وتمامه .

وأما استبراء الأمة فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها وهذا يكفي فيه حيضة ولهذا لم يجعل استبراؤها ثلاثة قروء كما جعلت عدة الحرة كذلك تطويلا لزمان الرجعة ونظرا للزوج وهذا المعنى مقصود في المستبرأة فلا نص يقتضي إلحاقها بالزوجات ولا معنى فأولى الأمور بها أن يشرع لها ما شرعه صاحب الشرع في المسبيات والمملوكات ولا تتعداه وبالله التوفيق .



فصل [ لا يحصل استبراء المسبية بطهر بل لا بد من حيضة ]
الحكم الثاني : أنه لا يحصل الاستبراء بطهر البتة بل لا بد من حيضة وهذا قول الجمهور وهو الصواب وقال أصحاب مالك والشافعي في قول له يحصل بطهر كامل ومتى طعنت في الحيضة تم استبراؤها بناء على قولهما : إن الأقراء الأطهار ولكن يرد هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة

وقال رويفع بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة رواه الإمام أحمد وعنده فيه ثلاثة ألفاظ هذا أحدها .

الثاني : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا توطأ الأمة حتى تحيض وعن الحبالى حتى تضعن .

الثالث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض فعلق الحل في ذلك كله بالحيض وحده لا بالطهر فلا يجوز إلغاء ما اعتبره واعتبار ما ألغاه ولا تعويل على ما خالف نصه وهو مقتضى القياس المحض فإن الواجب هو الاستبراء والذي يدل على البراءة هو الحيض فأما الطهر فلا دلالة فيه على البراءة فلا يجوز أن يعول في الاستبراء على ما لا دلالة له فيه عليه دون ما يدل عليه وبناؤهم هذا على أن الأقراء هي الأطهار بناء على الخلاف للخلاف وليس بحجة ولا شبهة ثم لم يمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه فجعلوا الطهر الذي طلقها فيه قرءا ولم يجعلوا طهر المستبرأة التي تجدد عليها الملك فيه أو مات سيدها فيه قرءا وحتى خالفوا الحديث أيضا كما تبين وحتى خالفوا المعنى كما بيناه ولم يمكنهم هذا البناء إلا بعد هذه الأنواع الثلاثة من المخالفة وغاية ما قالوا : إن بعض الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة فيقال لهم فيكون الاعتماد عليهم حينئذ على بعض الحيضة وليس ذلك قرءا عند أحد ؟ فإن قالوا : هو اعتماد على بعض حيضة وطهر .

قلنا : هذا قول ثالث في مسمى القروء ولا يعرف وهو أن تكون حقيقته مركبة من حيض وطهر .

فإن قالوا : بل هو اسم للطهر بشرط الحيض . فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط قلنا : هذا إنما يمكن لو علق الشارع الاستبراء بقرء فأما مع تصريحه على التعليق بحيضة فلا .



فصل [ لا يحصل ببعض حيضة في يد المشتري اكتفاء بها ]
الحكم الثالث أنه لا يحصل ببعض حيضة في يد المشتري اكتفاء بها . قال صاحب " الجواهر " : فإن بيعت الأمة في آخر أيام حيضها لم يكن ما بقي من أيام حيضها استبراء لها من غير خلاف وإن بيعت وهي في أول حيضتها فالمشهور من المذهب أن ذلك يكون استبراء لها .

وقد احتج من نازع مالكا بهذا الحديث فإنه علق الحل بحيضة فلا بد من تمامها ولا دليل فيه على بطلان قوله فإنه لا بد من الحيضة بالاتفاق ولكن النزاع في أمر آخر وهو أنه هل يشترط أن يكون جميع الحيضة وهي في ملكه أو يكفي أن يكون معظمها في ملكه فهذا لا ينفيه الحديث ولا يثبته ولكن لمنازعيه أن يقولوا : لما اتفقنا على أنه لا يكفي أن يكون بعضها في ملك المشتري وبعضها في ملك البائع إذا كان أكثرها عند البائع علم أن الحيضة المعتبرة أن تكون وهي عند المشتري ولهذا لو حاضت عند البائع لم يكن ذلك كافيا في الاستبراء .

ومن قال بقول مالك يجيب عن هذا بأنها إذا حاضت قبل البيع وهي مودعة عند المشتري ثم باعها عقيب الحيضة ولم تخرج من بيته اكتفي بتلك الحيضة ولم يجب على المشتري استبراء ثان وهذا أحد القولين في مذهب مالك كما تقدم فهو يجوز أن يكون الاستبراء واقعا قبل البيع في صور منها هذه .

ومنها إذا وضعت للاستبراء عند ثالث فاستبرأها ثم بيعت بعده . قال في " الجواهر " : ولا يجزئ الاستبراء قبل البيع إلا في حالات منها أن تكون تحت يده للاستبراء أو بالوديعة فتحيض عنده ثم يشتريها حينئذ أو بعد أيام وهي لا تخرج ولا يدخل عليها سيدها .

ومنها : أن يشتريها ممن هو ساكن معه من زوجته أو ولد له صغير في عياله . وقد حاضت فابن القاسم يقول إن كانت لا تخرج أجزأه ذلك . وقال أشهب إن كانت معه في دار وهو الذاب عنها والناظر في أمرها فهو استبراء سواء كانت تخرج أو لا تخرج .

ومنها : إذا كان سيدها غائبا فحين قدم استبرأها قبل أن تخرج أو خرجت وهي حائض فاشتراها منه قبل أن تطهر .

ومنها : الشريك يشتري نصيب شريكه من الجارية وهي تحت يد المشتري منهما وقد حاضت في يده . وقد تقدمت هذه المسائل فهذه وما في معناها تضمنت الاستبراء قبل البيع واكتفى به مالك عن استبراء ثان .

فإن قيل فكيف يجتمع قوله هذا وقوله إن الحيضة إذا وجد معظمها عند البائع لم يكن استبراء ؟ قيل لا تناقض بينهما وهذه لها موضع وهذه لها موضع فكل موضع يحتاج فيه المشتري إلى استبراء مستقل لا يجزئ إلا حيضة لم يوجد معظمها عند البائع وكل موضع لا يحتاج فيه إلى استبراء مستقل لا يحتاج فيه إلى حيضة ولا بعضها ولا اعتبار بالاستبراء قبل البيع كهذه الصور ونحوها .




فصل [ استبراء المسبية الحامل بوضع الحمل ]
الحكم الرابع أنها إذا كانت حاملا فاستبراؤها بوضع الحمل وهذا كما أنه حكم النص فهو مجمع عليه بين الأمة .

فصل [ لا يجوز وطء المسبية الحامل قبل وضع حملها ]
الحكم الخامس أنه لا يجوز وطؤها قبل وضع حملها أي حمل كان سواء كان يلحق بالواطئ كحمل الزوجة والمملوكة والموطوءة بشبهة أو لا يلحق به كحمل الزانية فلا يحل وطء حامل من غير الواطئ البتة كما صرح به النص وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره وهذا يعم الزرع الطيب والخبيث ولأن صيانة ماء الواطئ عن الماء الخبيث حتى لا يختلط به أولى من صيانته عن الماء الطيب ولأن حمل الزاني وإن كان لا حرمة له ولا لمائه فحمل هذا الواطئ وماؤه محترم فلا يجوز له خلطه بغيره ولأن هذا مخالف لسنة الله في تمييز الخبيث من الطيب وتخليصه منه وإلحاق كل قسم بمجانسه ومشاكله .

والذي يقضي منه العجب تجويز من جوز من الفقهاء الأربعة العقد على الزانية قبل استبرائها ووطئها عقيب العقد فتكون الليلة عند الزاني وقد علقت منه والليلة التي تليها فراشا للزوج .

ومن تأمل كمال هذه الشريعة علم أنها تأبى ذلك كل الإباء وتمنع منه كل المنع




[ تحريم نكاح الزانية ]
ومن محاسن مذهب الإمام أحمد أن حرم نكاحها بالكلية حتى تتوب ويرتفع عنها اسم الزانية والبغي والفاجرة فهو رحمه الله لا يجوز أن يكون الرجل زوج بغي ومنازعوه يجوزون ذلك وهو أسعد منهم في هذه المسألة بالأدلة كلها من النصوص والآثار والمعاني والقياس والمصلحة والحكمة وتحريم ما رآه المسلمون قبيحا .

والناس إذا بالغوا في سب الرجل صرحوا له بالزاي والقاف فكيف تجوز الشريعة مثل هذا مع ما فيه من تعرضه لإفساد فراشه وتعليق أولاد عليه من غيره وتعرضه للاسم المذموم عند جميع الأمم ؟ وقياس قول من جوز العقد على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملا أن لا يوجب استبراء الأمة إذا كانت حاملا من الزنى بل يطؤها عقيب ملكها وهو مخالف لصريح السنة .

فإن أوجب استبراءها نقض قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها وإن لم يوجب استبراءها خالف النصوص ولا ينفعه الفرق بينهما بأن الزوج لا استبراء عليه بخلاف السيد فإن الزوج إنما لم يجب عليه الاستبراء لأنه لم يعقد على معتدة ولا حامل من غيره بخلاف السيد ثم إن الشارع إنما حرم الوطء بل العقد في العدة خشية إمكان الحمل فيكون واطئا حاملا من غيره وساقيا ماءه لزرع غيره مع احتمال أن لا يكون كذلك فكيف إذا تحقق حملها .

وغاية ما يقال إن ولد الزانية ليس لاحقا بالواطئ الأول فإن الولد للفراش وهذا لا يجوز إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره وإن لم يلحق بالواطئ الأول فصيانة مائة ونسبه عن نسب لا يلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به .

والمقصود أن الشرع حرم وطء الأمة الحامل حتى تضع سواء كان حملها محرما أو غير محرم وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الرجل والمرأة التي تزوج بها فوجدها حبلى وجلدها الحد وقضى لها بالصداق وهذا صريح في بطلان العقد على الحامل من الزنى .

وصح عنه أنه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال " لعل سيدها يريد أن يلم بها " ؟ قالوا : نعم . قال لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يستخدمه وهو لا يحل له كيف يورثه وهو لا يحل له ؟

فجعل سبب همه بلعنته وطأه للأمة الحامل ولم يستفصل عن حملها هل هو لاحق بالواطئ أم غير لاحق به ؟ وقوله كيف يستخدمه وهو لا يحل له أي كيف يجعله عبدا له يستخدمه وذلك لا يحل فإن ماء هذا الواطئ يزيد في خلق الحمل فيكون بعضه منه قال الإمام أحمد يزيد وطؤه في سمعه وبصره .

وقوله كيف يورثه وهو لا يحل له سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه أي كيف يجعله تركة موروثة عنه فإنه يعتقده عبده فيجعله تركة تورث عنه ويحل له ذلك لأن ماءه زاد في خلقه ففيه جزء منه .

وقال غيره المعنى : كيف يورثه على أنه ابنه ولا يحل له ذلك لأن الحمل من غيره وهو بوطئه يريد أن يجعله منه فيورثه ماله وهذا يرده أول الحديث وهو قوله كيف يستعبده ؟ أي كيف يجعله عبده ؟ وهذا إنما يدل على المعنى الأول .

وعلى القولين فهو صريح في تحريم وطء الحامل من غيره سواء كان الحمل من زنى أو من غيره وأن فاعل ذلك جدير باللعن بل قد صرح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بأن الرجل إذا ملك زوجته الأمة لم يطأها حتى يستبرئها خشية أن تكون حاملا منه في صلب النكاح فيكون على ولده الولاء لموالي أمه بخلاف ما علقت به في ملكه فإنه لا ولاء عليه وهذا كله احتياط لولده هل هو صريح الحرية لا ولاء عليه أو عليه ولاء ؟ فكيف إذا كانت حاملا من غيره ؟


افتراضي

فصل [ لا تحيض الحامل ]
الحكم السادس استنبط من قوله لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة أن الحامل لا تحيض وأن ما تراه من الدم يكون دم فساد بمنزلة الاستحاضة تصوم وتصلي وتطوف بالبيت وتقرأ القرآن وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء فذهب عطاء والحسن وعكرمة ومكحول وجابر بن زيد ومحمد بن المنكدر والشعبي والنخعي والحكم وحماد والزهري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر والإمام أحمد في المشهور من مذهبه والشافعي في أحد قوليه إلى أنه ليس دم حيض .

وقال قتادة وربيعة ومالك والليث بن سعد وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه : إنه دم حيض وقد ذكره البيهقي في " سننه " وقال إسحاق بن راهويه : قال لي أحمد بن حنبل : ما تقول في الحامل ترى الدم ؟ فقلت : تصلي واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضي الله عنها . قال فقال أحمد بن حنبل أين أنت عن خبر المدنيين خبر أم علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها ؟ فإنه أصح .

قال إسحاق فرجعت إلى قول أحمد وهو كالتصريح من أحمد بأن دم الحامل دم حيض وهو الذي فهمه إسحاق عنه والخبر الذي أشار إليه أحمد وهو ما رويناه من طريق البيهقي أخبرنا الحاكم حدثنا أبو بكر بن إسحاق حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا ابن بكير حدثنا الليث عن بكير بن عبد الله عن أم علقمة مولاة عائشة أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت لا تصلي قال البيهقي : ورويناه عن أنس بن مالك . وروينا عن عمر بن الخطاب ما يدل على ذلك .

وروينا عن عائشة رضي الله عنها أنها أنشدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبي كبير الهذلي


ومبرأ من كل غبر حيضة

وفساد مرضعة وداء مغيل


قال وفي هذا دليل على ابتداء الحمل في حال الحيض حيث لم ينكر الشعر .

قال وروينا عن مطر عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت الحبلى لا تحيض إذا رأت الدم صلت قال وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية ويضعف رواية ابن أبي ليلى ومطر عن عطاء .

قال وروى محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها نحو رواية مطر فإن كانت محفوظة فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها لا تحيض ثم كانت تراها تحيض فرجعت إلى ما رواه المدنيون والله أعلم .



[ أدلة من منع كون دم الحامل دم حيض ]
قال المانعون من كون دم الحامل دم حيض قد قسم النبي صلى الله عليه وسلم الإماء قسمين حاملا وجعل عدتها وضع الحمل وحائلا فجعل عدتها حيضة فكانت الحيضة علما على براءة رحمها فلو كان الحيض يجامع الحمل لما كانت الحيضة علما على عدمه قالوا : ولذلك جعل عدة المطلقة ثلاثة أقراء ليكون دليلا على عدم حملها فلو جامع الحمل الحيض لم يكن دليلا على عدمه قالوا : وقد ثبت في " الصحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طلق ابنه امرأته وهي حائض مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء


افتراضي

[ طلاق الحامل ليس ببدعة ]
ووجه الاستدلال به أن طلاق الحامل ليس ببدعة في زمن الدم وغيره إجماعا فلو كانت تحيض لكان طلاقها فيه وفي طهرها بعد المسيس بدعة عملا بعموم الخبر قالوا : وروى مسلم في " صحيحه " من حديث ابن عمر أيضا مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا وهذا يدل على أن ما تراه من الدم لا يكون حيضا فإنه جعل الطلاق في وقته نظير الطلاق في وقت الطهر سواء .

فلو كان ما تراه من الدم حيضا لكان لها حالان حال طهر وحال حيض ولم يجز طلاقها في حال حيضها فإنه يكون بدعة قالوا : وقد روى أحمد في " مسنده " من حديث رويفع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لأحد أن يسقي ماءه زرع غيره ولا يقع على أمة حتى تحيض أو يتبين حملها

فجعل وجود الحيض علما على براءة الرحم من الحمل . قالوا : وقد روي عن علي أنه قال إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم مما تغيض الأرحام

وقال ابن عباس رضي الله عنه إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم رزقا للولد رواهما أبو حفص بن شاهين .

قالوا : وروى الأثرم والدارقطني بإسنادهما عن عائشة رضي الله عنها في الحامل ترى الدم فقالت الحامل لا تحيض وتغتسل وتصلي

وقولها : وتغتسل بطريق الندب لكونها مستحاضة قالوا : ولا يعرف عن غيرهم خلافهم لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت الحامل لا تصلي . وهذا محمول على ما تراه قريبا من الولادة باليومين ونحوهما وأنه نفاس جمعا بين قوليها قالوا : ولأنه دم لا تنقضي به العدة فلم يكن حيضا كالاستحاضة .

وحديث عائشة رضي الله عنها يدل على أن الحائض قد تحبل ونحن نقول بذلك لكنه يقطع حيضها ويرفعه . قالوا : ولأن الله سبحانه أجرى العادة بانقلاب دم الطمث لبنا غذاء للولد فالخارج وقت الحمل يكون غيره فهو دم فساد .



[ أدلة من جوز كون دم الحامل دم حيض ]
قال المحيضون لا نزاع أن الحامل قد ترى الدم على عادتها لا سيما في أول حملها وإنما النزاع في حكم هذا الدم لا في وجوده . وقد كان حيضا قبل الحمل بالاتفاق فنحن نستصحب حكمه حتى يأتي ما يرفعه بيقين . قالوا : والحكم إذا ثبت في محل فالأصل بقاؤه حتى يأتي ما يرفعه فالأول استصحاب لحكم الإجماع في محل النزاع والثاني استصحاب للحكم الثابت في المحل حتى يتحقق ما يرفعه والفرق بينهما ظاهر .

قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف . وهذا أسود يعرف فكان حيضا . قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أليست إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل ؟ . وحيض المرأة خروج دمها في أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعا وهذا كذلك لغة والأصل في الأسماء تقريرها لا تغييرها .

قالوا : ولأن الدم الخارج من الفرج الذي رتب الشارع عليه الأحكام قسمان حيض واستحاضة ولم يجعل لهما ثالثا وهذا ليس باستحاضة فإن الاستحاضة الدم المطبق والزائد على أكثر الحيض أو الخارج عن العادة وهذا ليس واحدا منها فبطل أن يكون استحاضة فهو حيض قالوا : ولا يمكنكم إثبات قسم ثالث في هذا المحل وجعله دم فساد فإن هذا لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه وهو منتف .

قالوا : وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة إلى عادتها وقال اجلسي قدر الأيام التي كنت تحيضين .

فدل على أن عادة النساء معتبرة في وصف الدم وحكمه فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال دلت عادتها على أنه حيض ووجب تحكيم عادتها وتقديمها على الفساد الخارج عن العبادة .

قالوا : وأعلم الأمة بهذه المسألة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمهن عائشة وقد صح عنها من رواية أهل المدينة أنها لا تصلي وقد شهد له الإمام أحمد بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قول أحمد بن حنبل قالوا : ولا تعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة ولو صحت فهي مسألة نزاع بين الصحابة ولا دليل يفصل .

قالوا : ولأن عدم مجامعة الحيض للحمل إما أن يعلم بالحس أو بالشرع وكلاهما منتف أما الأول فظاهر وأما الثاني : فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان .

وأما قولكم إنه جعله دليلا على براءة الرحم من الحمل في العدة والاستبراء .

قلنا : جعل دليلا ظاهرا أو قطعيا الأول صحيح .

والثاني : باطل فإنه لو كان دليلا قطعيا لما تخلف عنه مدلوله ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض وهذا لم يقله أحد بل أول المدة من حين الوطء ولو حاضت بعده عدة حيض فلو وطئها ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين الوطء ولأقل منها من حين انقطاع الحيض لحقه النسب اتفاقا فعلم أنه أمارة ظاهرة قد يتخلف عنها مدلولها تخلف المطر عن الغيم الرطب وبهذا يخرج الجواب عما استدللتم به من السنة فإنا بها قائلون وإلى حكمها صائرون وهي الحكم بين المتنازعين .

والنبي صلى الله عليه وسلم ؟ قسم النساء إلى قسمين حامل فعدتها وضع حملها وحائل فعدتها بالحيض ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصوم معه وتصلي ؟ هذا أمر آخر لا تعرض للحديث به وهذا يقول القائلون بأن دمها دم حيض هذه العبارة بعينها ولا يعد هذا تناقضا ولا خللا في العبارة .

قالوا : وهكذا قوله في شأن عبد الله بن عمر رضي الله عنه مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا قبل أن يمسها إنما فيه إباحة الطلاق إذا كانت حائلا بشرطين الطهر وعدم المسيس فأين في هذا التعرض لحكم الدم الذي تراه على حملها ؟ وقولكم إن الحامل لو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدم بدعة وقد اتفق الناس على أن طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم ؟ قلنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أحوال المرأة التي يريد طلاقها إلى حال حمل وحال خلو عنه وجوز طلاق الحامل مطلقا من غير استثناء وأما غير ذات الحمل فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين وليس في هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد بل على أن الحامل تخالف غيرها في الطلاق وأن غيرها إنما تطلق طاهرا غير مصابة ولا يشترط في الحامل شيء من هذا بل تطلق عقيب الإصابة وتطلق وإن رأت الدم فكما لا يحرم طلاقها عقيب إصابتها لا يحرم حال حيضها .

وهذا الذي تقتضيه حكمة الشارع في وقت الطلاق إذنا ومنعا فإن المرأة متى استبان حملها كان المطلق على بصيرة من أمره ولم يعرض له من الندم ما يعرض لهن كلهن بعد الجماع ولا يشعر بحملها فليس ما منع منه نظير ما أذن فيه لا شرعا ولا واقعا ولا اعتبارا ولا سيما من علل المنع من الطلاق في الحيض بتطويل العدة فهذا لا أثر له في الحامل .

قالوا : وأما قولكم إنه لو كان حيضا لانقضت به العدة فهذا لا يلزم لأن الله سبحانه جعل عدة الحامل بوضع الحمل وعدة الحائل بالأقراء ولا يمكن انقضاء عدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثاني ويتزوجها وهي حامل من غيره فيسقي ماءه زرع غيره .

قالوا : وإذا كنتم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل وحملتم على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به فقد أعطيتم أن الحيض والحبل يجتمعان فبطل استدلالكم من رأسه لأن مداره على أن الحيض لا يجامع الحبل . فإن قلتم نحن إنما جوزنا ورود الحمل على الحيض وكلامنا في عكسه وهو ورود الحيض على الحمل وبينهما فرق .

قيل إذا كانا متنافيين لا يجتمعان فأي فرق بين ورود هذا على هذا وعكسه ؟ وأما قولكم إن الله سبحانه أجرى العادة بانقلاب دم الطمث لبنا يتغذى به الولد ولهذا لا تحيض المراضع . قلنا : وهذا من أكبر حجتنا عليكم فإن هذا الانقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع وهو زمن سلطان اللبن وارتضاع المولود وقد أجرى الله العادة بأن المرضع لا تحيض . ومع هذا فلو رأت دما في وقت عادتها لحكم له بحكم الحيض بالاتفاق فلأن يحكم له بحكم الحيض في الحال التي لم يستحكم فيها انقلابه ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى .

قالوا : وهب أن هذا كما تقولون فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن وهذا بعد أن ينفخ فيه الروح . فأما قبل ذلك فإنه لا ينقلب لبنا لعدم حاجة الحمل إليه . وأيضا فإنه لا يستحيل كله لبنا بل يستحيل بعضه ويخرج الباقي وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلا ودليلا والله المستعان .


افتراضي

هل يمنع من الاستمتاع بالمستبرأة بغير الوطء في الموضع الذي يجب فيه الاستبراء ؟

فإن قيل فهل تمنعون من الاستمتاع بالمستبرأة بغير الوطء في الموضع الذي يجب فيه الاستبراء ؟ قيل أما إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها فهذه لا تحرم قبلتها ولا مباشرتها وهذا منصوص أحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها أبو محمد المقدسي وشيخنا وغيرهما فإنه قال إن كانت صغيرة بأي شيء تستبرأ إذا كانت رضيعة ؟

وقال في رواية أخرى : تستبرأ بحيضة إن كانت تحيض وإلا ثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل . قال أبو محمد فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها ولا تحرم مباشرتها وهذا اختيار ابن أبي موسى وقول مالك وهو الصحيح لأن سبب الإباحة متحقق وليس على تحريمها دليل فإنه لا نص فيها ولا معنى نص فإن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعيا إلى الوطء المحرم أو خشية أن تكون أم ولد لغيره ولا يتوهم هذا في هذه فوجب العمل بمقتضى الإباحة انتهى كلامه .




فصل [ مباشرة البكر في وقت الاستبراء ]
وإن كانت ممن يوطأ مثلها فإن كانت بكرا وقلنا : لا يجب استبراؤها فظاهر وإن قلنا : يجب استبراؤها فقال أصحابنا : تحرم قبلتها ومباشرتها وعندي أنه لا يحرم ولو قلنا بوجوب استبرائها لأنه لا يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه كما في حق الصائم لا سيما وهم إنما حرموا تحريم مباشرتها لأنها قد تكون حاملا فيكون مستمتعا بأمة الغير هكذا عللوا تحريم المباشرة ثم قالوا : ولهذا لا يحرم الاستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الاستبراء في إحدى الروايتين لأنها لا يتوهم فيها انفساخ الملك لأنه قد استقر بالسبي فلم يبق لمنع الاستمتاع بالقبلة وغيرها من البكر معنى .

وإن كانت ثيبا فقال أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم يحرم الاستمتاع بها قبل الاستبراء قالوا : لأنه استبراء يحرم الوطء فحرم الاستمتاع بها قبل الاستبراء كالعدة ولأنه لا يأمن كونها حاملا فتكون أم ولد والبيع باطل فيكون مستمتعا بأم ولد غيره . قالوا : ولهذا فارق وطء تحريم الحائض والصائم .

وقال الحسن البصري : لا يحرم من المستبرأة إلا فرجها وله أن يستمتع منها بما شاء ما لم يطأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منع من الوطء قبل الاستبراء ولم يمنع مما دونه ولا يلزم من تحريم الوطء تحريم ما دونه كالحائض والصائمة وقد قيل إن ابن عمر قبل جاريته من السبي حين وقعت في سهمه قبل استبرائها . ولمن نصر هذا القول أن يقول الفرق بين المشتراة والمعتدة أن المعتدة قد صارت أجنبية منه فلا يحل وطؤها ولا دواعيه بخلاف المملوكة فإن وطأها إنما يحرم قبل الاستبراء خشية اختلاط مائه بماء غيره وهذا لا يوجب تحريم الدواعي فهي أشبه بالحائض والصائمة ونظير هذا أنه لو زنت امرأته أو جاريته حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء ولا يحرم دواعيه وكذلك المسبية كما سيأتي . وأكثر ما يتوهم كونها حاملا من سيدها فينفسخ البيع فهذا بناء على تحريم بيع أمهات الأولاد على علاته ولا يلزم القائل به لأنه لما استمتع بها كانت ملكه ظاهرا وذلك يكفي في جواز الاستمتاع كما يخلو بها ويحدثها وينظر منها ما لا يباح من الأجنبية وما كان جوابكم عن هذه الأمور فهو الجواب عن القبلة والاستمتاع ولا يعلم في جواز هذا نزاع فإن المشتري لا يمنع من قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحده قبل الاستبراء ولا يجب عليها أن تستر وجهها منه ولا يحرم عليه النظر إليها والخلوة بها والأكل معها واستخدامها والانتفاع بمنافعها وإن لم يجز له ذلك في ملك الغير .


فصل [ الاستمتاع بغير الوطء للمسبية ]
وإن كانت مسبية ففي جواز الاستمتاع بغير الوطء قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد رحمه الله .

إحداهما : أنها كغير المسبية فيحرم الاستمتاع منها بما دون الفرج وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه قال ومن ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بعد تمام ملكه لها .

والثانية لا يحرم وهو قول ابن عمر رضي الله عنه . والفرق بينها وبين المملوكة بغير السبي أن المسبية لا يتوهم فيها كونها أم ولد بل هي مملوكة له على كل حال بخلاف غيرها كما تقدم والله أعلم .

[ هل تبدأ مدة الاستبراء من حين البيع ]

فإن قيل فهل يكون أول مدة الاستبراء من حين البيع أو من حين القبض ؟

قيل فيه قولان وهما وجهان في مذهب أحمد رحمه الله . أحدهما : من حين البيع لأن الملك ينتقل به .

والثاني : من حين القبض لأن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره ولا يحصل ذلك مع كونها في يده وهذا على أصل الشافعي وأحمد . أما على أصل مالك فيكفي عنده الاستبراء قبل البيع في المواضع التي تقدمت . فإن قيل فإن كان في البيع خيار فمتى يكون ابتداء مدة الاستبراء ؟

قيل هذا ينبني على الخلاف في انتقال الملك في مدة الخيار فمن قال ينتقل فابتداء المدة عنده من حين البيع ومن قال لا ينتقل فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار . فإن قيل فما تقولون لو كان الخيار خيار عيب ؟ قيل ابتداء المدة من حين البيع قولا واحدا لأن خيار العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف والله أعلم .



فصل [ هل سكتت السنة عن استبراء الآيسة والتي لم تحض ]
فإن قيل قد دلت السنة على استبراء الحامل بوضع الحمل وعلى استبراء الحائل بحيضة فكيف سكتت عن استبراء الآيسة والتي لم تحض ولم تسكت عنهما في العدة ؟ قيل لم تسكت عنهما بحمد الله بل بينتهما بطريق الإيماء والتنبيه فإن الله سبحانه جعل عدة الحرة ثلاثة قروء ثم جعل عدة الآيسة والتي لم تحض ثلاثة أشهر فعلم أنه سبحانه جعل في مقابلة كل قرء شهرا . ولهذا أجرى سبحانه عادته الغالبة في إمائه أن المرأة تحيض في كل شهر حيضة وبينت السنة أن استبراء الأمة الحائض بحيضة فيكون الشهر قائما مقام الحيضة وهذا إحدى الروايات عن أحمد وأحد قولي الشافعي .

وعن أحمد رواية ثانية أنها تستبرأ بثلاثة أشهر وهي المشهورة عنه وهو أحد قولي الشافعي . ووجه هذا القول ما احتج به أحمد في رواية أحمد بن القاسم فإنه قال قلت لأبي عبد الله كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة وإنما جعل الله سبحانه في القرآن مكان كل حيضة شهرا ؟

فقال أحمد إنما قلنا : ثلاثة أشهر من أجل الحمل فإنه لا يتبين في أقل من ذلك فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك ثم قال ألا تسمع قول ابن مسعود : إن النطفة تكون أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة بعد ذلك فإذا خرجت الثمانون صارت بعدها مضغة وهي لحم فيتبين حينئذ

قال ابن القاسم : قال لي : هذا معروف عند النساء . فأما شهر فلا معنى فيه انتهى كلامه .

وعنه رواية ثالثة أنها تستبرأ بشهر ونصف فإنه قال في رواية حنبل قال عطاء إن كانت لا تحيض فخمسة وأربعون ليلة . قال حنبل قال عمي : لذلك أذهب لأن عدة المطلقة الآيسة كذلك انتهى كلامه .

ووجه هذا القول أنها لو طلقت وهي آيسة اعتدت بشهر ونصف في رواية فلأن تستبرأ الأمة بهذا القدر أولى .

وعن أحمد رواية رابعة أنها تستبرأ بشهرين حكاها القاضي عنه واستشكلها كثير من أصحابه حتى قال صاحب " المغني " : ولم أر لذلك وجها .

قال ولو كان استبراؤها بشهرين لكان استبراء ذات القروء بقرأين ولم نعلم به قائلا .

ووجه هذه الرواية أنها اعتبرت بالمطلقة ولو طلقت وهي أمة لكانت عدتها شهرين هذا هو المشهور عن أحمد رحمه الله واحتج فيه بقول عمر رضي الله عنه وهو الصواب لأن الأشهر قائمة مقام القروء وعدة ذات القروء قرءان فبدلهما شهران وإنما صرنا إلى استبراء ذات القرء بحيضة لأنها علم ظاهر على براءتها من الحمل ولا يحصل ذلك بشهر واحد فلا بد من مدة تظهر فيها براءتها وهي إما شهران أو ثلاثة فكانت الشهران أولى لأنها جعلت علما على البراءة في حق المطلقة ففي حق المستبرأة أولى فهذا وجه هذه الرواية .

وبعد فالراجح من الدليل الاكتفاء بشهر واحد وهو الذي دل عليه إيماء النص وتنبيهه وفي جعل مدة استبرائها ثلاثة أشهر تسوية بينها وبين الحرة وجعلها بشهرين تسوية بينها وبين المطلقة فكان أولى المدد بها شهرا فإنه البدل التام والشارع قد اعتبر نظير هذا البدل في نظير الأمة وهي الحرة واعتبره الصحابة في الأمة المطلقة فصح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال عدتها حيضتان فإن لم تكن تحيض فشهران احتج به أحمد رحمه الله . وقد نص أحمد رحمه الله في أشهر الروايات عنه على أنها إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بعشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة .

وعنه رواية ثانية تعتد بسنة هذه طريقة الشيخ أبي محمد قال وأحمد هاهنا جعل مكان الحيضة شهرا لأن اعتبار تكرارها في الآيسة لتعلم براءتها من الحمل وقد علم براءتها منه هاهنا بمضي غالب مدته فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس وهذا هو الذي ذكره الخرقي مفرقا بين الآيسة وبين من ارتفع حيضها فقال فإن كانت آيسة فبثلاثة أشهر وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة .

وأما الشيخ أبو البركات فجعل الخلاف في الذي ارتفع حيضها كالخلاف في الآيسة وجعل فيها الروايات الأربع بعد غالب مدة الحمل تسوية بينها وبين الآيسة فقال في " محرره " : والآيسة والصغيرة بمضي شهر . وعنه بمضي ثلاثة أشهر . وعنه شهرين وعنه شهر ونصف . وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فبذلك بعد تسعة أشهر .

وطريقة الخرقي والشيخ أبي محمد أصح وهذا الذي اخترناه من الاكتفاء بشهر هو الذي مال إليه الشيخ في " المغني " فإنه قال ووجه استبرائها بشهر أن الله جعل الشهر مكان الحيضة ولذلك اختلفت الشهور باختلاف الحيضات فكانت عدة الحرة الآيسة ثلاثة أشهر مكان الثلاثة قروء وعدة الأمة شهرين مكان القرأين وللأمة المستبرأة التي ارتفع حيضها عشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة فيجب أن يكون مكان الحيضة هنا شهر كما في حق من ارتفع حيضها .

قال فإن قيل فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر .

قلنا : وهاهنا ما يدل على البراءة وهو الإياس فاستويا .



ذكر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع
ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم فيما يحرم بيعه
ثبت في " الصحيحين " : من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام

فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال " لا هو حرام " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه

وفيهما أيضا : عن ابن عباس قال بلغ عمر رضي الله عنه أن سمرة باع خمرا فقال قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها

فهذا من " مسند عمر " رضي الله عنه وقد رواه البيهقي والحاكم في " مستدركه " فجعلاه من " مسند ابن عباس " وفيه زيادة ولفظه عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد يعني الحرام فرفع بصره إلى السماء فتبسم فقال لعن الله اليهود لعن الله اليهود لعن الله اليهود إن الله عز وجل حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه وإسناده صحيح فإن البيهقي رواه عن ابن عبدان عن الصفار عن إسماعيل القاضي حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس . وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . نحوه دون قوله إن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه

[ أجناس المحرمات ]

فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلاثة أجناس مشارب تفسد العقول ومطاعم تفسد الطباع وتغذي غذاء خبيثا ؟ وأعيان تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك .

فصان بتحريم النوع الأول العقول عما يزيلها ويفسدها وبالثاني : القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها والغاذي شبيه بالمغتذي وبالثالث الأديان عما وضع لإفسادها .

فتضمن هذا التحريم صيانة العقول والقلوب والأديان .

ولكن الشأن في معرفة حدود كلامه صلوات الله عليه وما يدخل فيه وما لا يدخل فيه لتستبين عموم كلماته وجمعها وتناولها لجميع الأنواع التي شملها عموم كلماته وتأويلها بجميع الأنواع التي شملها عموم لفظه ومعناه وهذه خاصية الفهم عن الله ورسوله التي تفاوت فيه العلماء ويؤتيه الله من يشاء .



[ تحرم بيع الخمر ]
فأما تحريم بيع الخمر فيدخل فيه تحريم بيع كل مسكر مائعا كان أو جامدا عصيرا أو مطبوخا فيدخل فيه عصير العنب وخمر الزبيب والتمر والذرة والشعير والعسل والحنطة واللقمة الملعونة لقمة الفسق والقلب التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن فإن هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه إذ صح عنه قوله كل مسكر خمر

وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده أن الخمر ما خامر العقل فدخول هذه الأنواع تحت اسم الخمر كدخول جميع أنواع الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب تحت قوله لا تبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل

فكما لا يجوز إخراج صنف من هذه الأصناف عن تناول اسمه له فهكذا لا يجوز إخراج صنف من أصناف المسكر عن اسم الخمر فإنه يتضمن محذورين . أحدهما : أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه .

والثاني : أن يشرع لذلك النوع الذي أخرج حكم غير حكمه فيكون تغييرا لألفاظ الشارع ومعانيه فإنه إذا سمى ذلك النوع بغير الاسم الذي سماه به الشارع أزال عنه حكم ذلك المسمى وأعطاه حكما آخر . ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم من أمته من يبتلى بهذا كما قال ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها قضى قضية كلية عامة لا يتطرق إليها إجمال ولا احتمال بل هي شافية كافية فقال كل مسكر خمر هذا ولو أن أبا عبيدة والخليل وأضرابهما من أئمة اللغة ذكروا هذه الكلمة هكذا لقالوا : قد نص أئمة اللغة على أن كل مسكر خمر وقولهم حجة وسيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر هديه في الأطعمة والأشربة مزيد تقرير لهذا وأنه لو لم يتناوله لفظه لكان القياس الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل وجه حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر في تحريم البيع والشرب فالتفريق بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه .


افتراضي

فصل [ تحريم بيع الميتة ]
[ تحريم بيع شحم الميتة ]

وأما تحريم بيع الميتة فيدخل فيه كل ما يسمى ميتة سواء مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة لا تفيد حله . ويدخل فيه أبعاضها أيضا ولهذا استشكل الصحابة رضي الله عنهم تحريم بيع الشحم مع ما لهم فيه من المنفعة فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرام وإن كان فيه ما ذكروا من المنفعة وهذا موضع اختلف الناس فيه لاختلافهم في فهم مراده صلى الله عليه وسلم وهو أن قوله لا هو حرام هل هو عائد إلى البيع أو عائد إلى الأفعال التي سألوا عنها ؟ فقال شيخنا : هو راجع إلى البيع فإنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة قالوا : إن في شحومها من المنافع كذا وكذا يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها ؟ فقال لا هو حرام

قلت : كأنهم طلبوا تخصيص الشحوم من جملة الميتة بالجواز كما طلب العباس رضي الله عنه تخصيص الإذخر من جملة تحريم نبات الحرم بالجواز فلم يجبهم إلى ذلك فقال لا هو حرام

وقال غيره من أصحاب أحمد وغيرهم التحريم عائد إلى الأفعال المسئول عنها وقال هو حرام ولم يقل هي لأنه أراد المذكور جميعه ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور ويرجحه من جهة المعنى أن إباحة هذه الأشياء ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها ويرجحه أيضا : أن في بعض ألفاظ الحديث فقال لا هي حرام وهذا الضمير إما أن يرجع إلى الشحوم وإما إلى هذه الأفعال وعلى التقديرين فهو حجة على تحريم الأفعال التي سألوا عنها .

ويرجحه أيضا قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الفأرة التي وقعت في السمن إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه وإن كان مائعا فلا تقربوه وفي الانتفاع به في الاستصباح وغيره قربان له . ومن رجح الأول يقول ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما حرم من الميتة أكلها وهذا صريح في أنه لا يحرم الانتفاع بها في غير أكل كالوقيد وسد البثوق ونحوهما . قالوا : والخبيث إنما تحرم ملابسته باطنا وظاهرا كالأكل واللبس وأما الانتفاع به من غير ملابسة فلأي شيء يحرم ؟

قالوا : ومن تأمل سياق حديث جابر علم أن السؤال إنما كان منهم عن البيع وأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لما فيها من المنافع فأبى عليهم وقال هو حرام فإنهم لو سألوه عن حكم هذه الأفعال لقالوا : أرأيت شحوم الميتة هل يجوز أن يستصبح بها الناس وتدهن بها الجلود ؟ ولم يقولوا : فإنه يفعل بها كذا وكذا فإن هذا إخبار منهم لا سؤال وهم لم يخبروه بذلك عقيب تحريم هذه الأفعال عليهم ليكون قوله " لا هو حرام " صريحا في تحريمها وإنما أخبروه به عقيب تحريم بيع الميتة فكأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكروها فلم يفعل . ونهاية الأمر أن الحديث يحتمل الأمرين فلا يحرم ما لم يعلم أن الله ورسوله حرمه .

قالوا : وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الاستسقاء من آبار ثمود وأباح لهم أن يطعموا ما عجنوا منه من تلك الآبار للبهائم قالوا : ومعلوم أن إيقاد النجاسة والاستصباح بها انتفاع خال عن هذه المفسدة وعن ملابستها باطنا وظاهرا فهو نفع محض لا مفسدة فيه . وما كان هكذا فالشريعة لا تحرمه فإن الشريعة إنما تحرم المفاسد الخالصة أو الراجحة وطرقها وأسبابها الموصلة إليها .

قالوا : وقد أجاز أحمد في إحدى الروايتين الاستصباح بشحوم الميتة إذا خالطت دهنا طاهرا فإنه في أكثر الروايات عنه يجوز الاستصباح بالزيت النجس وطلي السفن به وهو اختيار طائفة من أصحابه منهم الشيخ أبو محمد وغيره واحتج بأن ابن عمر أمر أن يستصبح به .

وقال في رواية ابنيه صالح وعبد الله لا يعجبني بيع النجس ويستصبح به إذا لم يمسوه لأنه نجس وهذا يعم النجس والمتنجس ولو قدر أنه إنما أراد به المتنجس فهو صريح في القول بجواز الاستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها وهذا مذهب الشافعي وأي فرق بين الاستصباح بشحم الميتة إذا كان منفردا وبين الاستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه ؟ فإن قيل إذا كان مفردا فهو نجس العين وإذا خالطه غيره تنجس به فأمكن تطهيره بالغسل فصار كالثوب النجس ولهذا يجوز بيع الدهن المتنجس على أحد القولين دون دهن الميتة .

قيل لا ريب أن هذا هو الفرق الذي عول عليه المفرقون بينهما ولكنه ضعيف لوجهين .

أحدهما : أنه لا يعرف عن الإمام أحمد ولا عن الشافعي البتة غسل الدهن النجس وليس عنهم في ذلك كلمة واحدة وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين وقد روي عن مالك أنه يطهر بالغسل هذه رواية ابن نافع وابن القاسم عنه .

الثاني : أن هذا الفرق وإن تأتى لأصحابه في الزيت والشيرج ونحوهما فلا يتأتى لهم في جميع الأدهان فإن منها ما لا يمكن غسله وأحمد والشافعي قد أطلقا القول بجواز الاستصباح بالدهن النجس من غير تفريق .

وأيضا فإن هذا الفرق لا يفيد في دفع كونه مستعملا للخبيث والنجاسة سواء كانت عينية أو طارئة فإنه إن حرم الاستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث فلا فرق وإن حرم لأجل دخان النجاسة فلا فرق وإن حرم لكون الاستصباح به ذريعة إلى اقتنائه فلا فرق فالفرق بين المذهبين في جواز الاستصباح بهذا دون هذا لا معنى له .

وأيضا فقد جوز جمهور العلماء الانتفاع بالسرقين النجس في عمارة الأرض للزرع والثمر والبقل مع نجاسة عينه وملابسة المستعمل له أكثر من ملابسة الموقد وظهور أثره في البقول والزروع والثمار فوق ظهور أثر الوقيد وإحالة النار أتم من إحالة الأرض والهواء والشمس للسرقين فإن كان التحريم لأجل دخان النجاسة فمن سلم أن دخان النجاسة نجس وبأي كتاب أم بأية سنة ثبت ذلك ؟ وانقلاب النجاسة إلى الدخان أتم من انقلاب عين السرقين والماء النجس ثمرا أو زرعا وهذا أمر لا يشك فيه بل معلوم بالحس والمشاهدة حتى جوز بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة رحمهما الله بيعه فقال ابن الماجشون لا بأس ببيع العذرة لأن ذلك من منافع الناس . وقال ابن القاسم : لا بأس ببيع الزبل . قال اللخمي وهذا يدل من قوله على أنه يرى بيع العذرة . وقال أشهب في الزبل المشتري أعذر فيه من البائع يعني في اشترائه . وقال ابن عبد الحكم : لم يعذر الله واحدا منهما وهما سيان في الإثم .

قلت : وهذا هو الصواب وأن بيع ذلك حرام وإن جاز الانتفاع به والمقصود أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريم الانتفاع بها في غير ما حرم الله ورسوله منها كالوقيد وإطعام الصقور والبزاة وغير ذلك . وقد نص مالك على جواز الاستصباح بالزيت النجس في غير المساجد وعلى جواز عمل الصابون منه وينبغي أن يعلم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به بل لا تلازم بينهما فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع .



فصل [ تحريم بيع أجزاء الميتة التي تحلها الحياة وتفارقها بالموت وحل بيع الشعر والوبر والصوف ]
ويدخل في تحريم بيع الميتة بيع أجزائها التي تحلها الحياة وتفارقها بالموت كاللحم والشحم والعصب وأما الشعر والوبر والصوف فلا يدخل في ذلك لأنه ليس بميتة ولا تحله الحياة . وكذلك قال جمهور أهل العلم إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارها طاهرة إذا كانت من حيوان طاهر هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والثوري وداود وابن المنذر والمزني ومن التابعين الحسن وابن سيرين وأصحاب عبد الله بن مسعود وانفرد الشافعي بالقول بنجاستها واحتج له بأن اسم الميتة يتناولها كما يتناول سائر أجزائها بدليل الأثر والنظر أما الأثر ففي " الكامل " لابن عدي من حديث ابن عمر يرفعه ادفنوا الأظفار والدم والشعر فإنها ميتة

وأما النظر فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه فينجس بالموت كسائر أعضائه وبأنه شعر نابت في محل نجس فكان نجسا كشعر الخنزير وهذا لأن ارتباطه بأصله خلقة يقتضي أن يثبت له حكمه تبعا فإنه محسوب منه عرفا والشارع أجرى الأحكام فيه على وفق ذلك فأوجب غسله في الطهارة وأوجب الجزاء يأخذه من الصيد كالأعضاء وألحقه بالمرأة في النكاح والطلاق حلا وحرمة وكذلك هاهنا وبأن الشارع له تشوف إلى إصلاح الأموال وحفظها وصيانتها وعدم إضاعتها .

وقد قال لهم في شاة ميمونة هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ولو كان الشعر طاهرا لكان إرشادهم إلى أخذه أولى لأنه أقل كلفة وأسهل تناولا .

قال المطهرون للشعور قال الله تعالى : ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ النحل 80 ] وهذا يعم أحياءها وأمواتها وفي " مسند أحمد " : عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنه قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة لميمونة ميتة فقال ألا انتفعتم بإهابها قالوا : وكيف وهي ميتة ؟ قال إنما حرم لحمها وهذا ظاهر جدا في إباحة ما سوى اللحم والشحم والكبد والطحال والألية كلها داخلة في اللحم كما دخلت في تحريم لحم الخنزير ولا ينتقض هذا بالعظم والقرن والظفر والحافر فإن الصحيح طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة .

قالوا : ولأنه لو أخذ حال الحياة لكان طاهرا فلم ينجس بالموت كالبيض وعكسه الأعضاء . قالوا : ولأنه لما لم ينجس بجزه في حال حياة الحيوان بالإجماع دل على أنه ليس جزءا من الحيوان وأنه لا روح فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أبين من حي فهو ميتة رواه أهل السنن . ولأنه لا يتألم بأخذه ولا يحس بمسه وذلك دليل عدم الحياة فيه وأما النماء فلا يدل على الحياة والحيوانية التي يتنجس الحيوان بمفارقتها فإن مجرد النماء لو دل على الحياة ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة لتنجس الزرع بيبسه لمفارقة حياة النمو والاغتذاء له .

قالوا : فالحياة نوعان حياة حس وحركة وحياة نمو واغتذاء فالأولى : هي التي يؤثر فقدها في طهارة الحي دون الثانية .

قالوا : واللحم إنما ينجس لاحتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة فيه والشعور والأصواف بريئة من ذلك ولا ينتقض بالعظام والأظفار لما سنذكره .

قالوا : والأصل في الأعيان الطهارة وإنما يطرأ عليها التنجيس باستحالتها كالرجيع المستحيل عن الغذاء وكالخمر المستحيل عن العصير وأشباهها والشعور في حال استحالتها كانت طاهرة ثم لم يعرض لها ما يوجب نجاستها بخلاف أعضاء الحيوان فإنها عرض لها ما يقتضي نجاستها وهو احتقان الفضلات الخبيثة .

قالوا : وأما حديث عبد الله بن عمر ففي إسناده عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد . قال أبو حاتم الرازي : أحاديثه منكرة ليس محله عندي الصدق وقال علي بن الحسين بن الجنيد : لا يساوي فلسا يحدث بأحاديث كذب .

وأما حديث الشاة الميتة وقوله ألا انتفعتم بإهابها ولم يتعرض للشعر فعنه ثلاثة أجوبة .

أحدها : أنه أطلق الانتفاع بالإهاب ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر مع أنه لا بد فيه من شعر وهو صلى الله عليه وسلم لم يقيد الإهاب المنتفع به بوجه دون وجه فدل على أن الانتفاع به فروا وغيره مما لا يخلو من الشعر .

والثاني : أنه صلى الله عليه وسلم قد أرشدهم إلى الانتفاع بالشعر في الحديث نفسه حيث يقول إنما حرم من الميتة أكلها أو لحمها

والثالث أن الشعر ليس من الميتة ليتعرض له في الحديث لأنه لا يحله الموت وتعليلهم بالتبعية يبطل بجلد الميتة إذا دبغ وعليه شعر فإنه يطهر دون الشعر عندهم وتمسكهم بغسله في الطهارة يبطل بالجبيرة وتمسكهم بضمانه من الصيد يبطل بالبيض وبالحمل . وأما في النكاح فإنه يتبع الجملة لاتصاله وزوال الجملة بانفصاله عنها وهاهنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها في التنجس لم يفارقها فيه عندهم فعلم الفرق .



فصل [ هل يحرم بيع عظم الميتة وقرنها وجلدها بعد الدباغ ]
فإن قيل فهل يدخل في تحريم بيعها تحريم بيع عظمها وقرنها وجلدها بعد الدباغ لشمول اسم الميتة لذلك ؟ قيل الذي يحرم بيعه منها هو الذي يحرم أكله واستعماله كما أشار إليه النبي بقوله إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه وفي اللفظ الآخر إذا حرم أكل شيء " حرم ثمنه فنبه على أن الذي يحرم بيعه يحرم أكله .



[ بيع جلد الميتة ]

وأما الجلد إذا دبغ فقد صار عينا طاهرة ينتفع في اللبس والفرش وسائر وجوه الاستعمال فلا يمتنع جواز بيعه وقد نص الشافعي في كتابه القديم على أنه لا يجوز بيعه واختلف أصحابه فقال القفال لا يتجه هذا إلا بتقدير قول يوافق مالكا في أنه يطهر ظاهره دون باطنه وقال بعضهم لا يجوز بيعه وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد فإنه جزء من الميتة حقيقة فلا يجوز بيعه كعظمها ولحمها .

وقال بعضهم بل يجوز بيعه بعد الدبغ لأنه عين طاهرة ينتفع بها فجاز بيعها كالمذكى وقال بعضهم بل هذا ينبني على أن الدبغ إزالة أو إحالة فإن قلنا : إحالة جاز بيعه لأنه قد استحال من كونه جزء ميتة إلى عين أخرى وإن قلنا : إزالة لم يجز بيعه لأن وصف الميتة هو المحرم لبيعه وذلك باق لم يستحل .

وبنوا على هذا الخلاف جواز أكله ولهم فيه ثلاثة أوجه أكله مطلقا وتحريمه مطلقا والتفصيل بين جلد المأكول وغير المأكول فأصحاب الوجه الأول غلبوا حكم الإحالة وأصحاب الوجه الثاني غلبوا حكم الإزالة وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغ مجرى الذكاة فأباحوا بها ما يباح أكله بالذكاة إذا ذكي دون غيره والقول بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنة ولهذا لم يمكن قائله القول به إلا بعد منعه كون الجلد بعد الدبغ ميتة وهذا منع باطل فإنه جلد ميتة حقيقة وحسا وحكما ولم يحدث له حياة بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة وكون الدبغ إحالة باطل حسا فإن الجلد لم يستحل ذاته وأجزاؤه وحقيقته بالدباغ فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة أخرى كما تحيل النار الحطب إلى الرماد والملاحة ما يلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى باطلة .

وأما أصحاب مالك رحمه الله ففي " المدونة " لابن القاسم المنع من بيعها وإن دبغت وهو الذي ذكره صاحب " التهذيب " . وقال المازري هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهر بالدباغ . قال وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة فإنا نجيز بيعها لإباحة جملة منافعها .

قلت : عن مالك في طهارة الجلد المدبوغ روايتان . إحداهما : يطهر ظاهره وباطنه وبها قال وهب وعلى هذه الرواية جوز أصحابه بيعه . والثانية - وهي أشهر الروايتين عنه - أنه يطهر طهارة مخصوصة يجوز معها استعماله في اليابسات وفي الماء وحده دون سائر المائعات قال أصحابه وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعه ولا الصلاة فيه ولا الصلاة عليه .

وأما مذهب الإمام أحمد : فإنه لا يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه . وعنه في جوازه بعد الدبغ روايتان هكذا أطلقهما الأصحاب وهما عندي مبنيتان على اختلاف الرواية عنه في طهارته بعد الدباغ .




[ بيع الدهن النجس ]

وأما بيع الدهن النجس ففيه ثلاثة أوجه في مذهبه .

أحدها : أنه لا يجوز بيعه .

والثاني : أنه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاسته وهو المنصوص عنه . قلت : والمراد بعلم النجاسة العلم بالسبب المنجس لا اعتقاد الكافر نجاسته .

والثالث يجوز بيعه لكافر ومسلم . وخرج هذا الوجه من جواز إيقاده وخرج أيضا من طهارته بالغسل فيكون كالثوب النجس وخرج بعض أصحابه وجها ببيع السرقين النجس للوقيد من بيع الزيت النجس له وهو تخريج صحيح .

[ بيع السرجين النجس ]

وأما أصحاب أبي حنيفة فجوزوا بيع السرقين النجس إذا كان تبعا لغيره ومنعوه إذا كان مفردا .



فصل [ بيع عظم الميتة ]
وأما عظمها فمن لم ينجسه بالموت كأبي حنيفه وبعض أصحاب أحمد واختيار ابن وهب من أصحاب مالك فيجوز بيعه عندهم وإن اختلف مأخذ الطهارة فأصحاب أبي حنيفة قالوا : لا يدخل في الميتة ولا يتناوله اسمها ومنعوا كون الألم دليل حياته قالوا : وإنما تؤلمه لما جاوره من اللحم لا ذات العظم وحملوا قوله تعالى : قال من يحيي العظام وهي رميم [ يس : 78 ] على حذف مضاف أي أصحابها . وغيرهم ضعف هذا المأخذ جدا وقال العظم يألم حسا وألمه أشد من ألم اللحم ولا يصح حمل الآية على حذف مضاف لوجهين أحدهما : أنه تقدير ما لا دليل عليه فلا سبيل إليه . الثاني : أن هذا التقدير يستلزم الإضراب عن جواب سؤال السائل الذي استشكل حياة العظام فإن أبي بن خلف أخذ عظما باليا ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففته في يده فقال يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثك ويدخلك النار

فمأخذ الطهارة أن سبب تنجيس الميتة منتف في العظام فلم يحكم بنجاستها ولا يصح قياسها على اللحم لأن احتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة يختص به دون العظام كما أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت وهو حيوان كامل لعدم سبب التنجيس فيه . فالعظم أولى وهذا المأخذ أصح وأقوى من الأول وعلى هذا فيجوز بيع عظام الميتة إذا كانت من حيوان طاهر العين .

وأما من رأى نجاستها فإنه لا يجوز بيعها إذ نجاستها عينية قال ابن القاسم : قال مالك لا أرى أن تشترى عظام الميتة ولا تباع ولا أنياب الفيل ولا يتجر فيها ولا يمتشط بأمشاطها ولا يدهن بمداهنها وكيف يجعل الدهن في الميتة ويمشط لحيته بعظام الميتة وهي مبلولة وكره أن يطبخ بعظام الميتة وأجاز مطرف وابن الماجشون بيع أنياب الفيل مطلقا وأجازه ابن وهب وأصبغ إن غليت وسلقت وجعلا ذلك دباغا لها .
يتبع

اخت مسلمة
04-10-2009, 04:52 AM
فصل [ تحريم بيع الخنزير ]
وأما تحريم بيع الخنزير فيتناول جملته وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة وتأمل كيف ذكر لحمه عند تحريم الأكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم فذكر اللحم تنبيها على تحريم أكله دون ما قبله بخلاف الصيد فإنه لم يقل فيه وحرم عليكم لحم الصيد بل حرم نفس الصيد ليتناول ذلك أكله وقتله . وههنا لما حرم البيع ذكر جملته ولم يخص التحريم بلحمه ليتناول بيعه حيا وميتا .




فصل [ تحريم بيع الأصنام ]
وأما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت ومن أي نوع كانت صنما أو وثنا أو صليبا وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر ذكرها لخفة أمرها ولكنه تدرج من الأسهل إلى ما هو أغلظ منه فإن الخمر أحسن حالا من الميتة فإنها قد تصير مالا محترما إذا قلبها الله سبحانه ابتداء خلا أو قلبها الآدمي بصنعته عند طائفة من العلماء وتضمن إذا أتلفت على الذمي عند طائفة بخلاف الميتة وإنما لم يجعل الله في أكل الميتة حدا اكتفاء بالزاجر الذي جعله الله في الطباع من كراهتها والنفرة عنها وإبعادها عنها بخلاف الخمر .

والخنزير أشد تحريما من الميتة ولهذا أفرده الله تعالى بالحكم عليه أنه رجس في قوله قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو [ الأنعام 145 ] فالضمير في قوله " فإنه " وإن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه . أحدها : قربه منه والثاني : تذكيره دون قوله فإنها رجس والثالث أنه أتى " بالفاء " و " إن " تنبيها على علة التحريم لتزجر النفوس عنه ويقابل هذه العلة ما في طباع بعض الناس من استلذاذه واستطابته فنفى عنه ذلك وأخبر أنه رجس وهذا لا يحتاج إليه في الميتة والدم لأن كونهما رجسا أمر مستقر معلوم عندهم ولهذا في القرآن نظائر فتأملها . ثم ذكر بعد تحريم بيع الأصنام وهو أعظم تحريما وإثما وأشد منافاة للإسلام من بيع الخمر والميتة والخنزير .




فصل [ تحريم الشيء تحريم لثمنه ]
وفي قوله إن الله إذا حرم شيئا أو حرم أكل شيء حرم ثمنه يراد به أمران أحدهما : ما هو حرام العين والانتفاع جملة كالخمر والميتة والدم والخنزير وآلات الشرك فهذه ثمنها حرام كيفما اتفقت .

والثاني : ما يباح الانتفاع به في غير الأكل وإنما يحرم أكله كجلد الميتة بعد الدباغ وكالحمر الأهلية والبغال ونحوها مما يحرم أكله دون الانتفاع به فهذا قد يقال إنه لا يدخل في الحديث وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الإطلاق . وقد يقال إنه داخل فيه ويكون تحريم ثمنه إذا بيع لأجل المنفعة التي حرمت منه فإذا بيع البغل والحمار لأكلهما حرم ثمنهما بخلاف ما إذا بيعا للركوب وغيره وإذا بيع جلد الميتة للانتفاع به حل ثمنه . وإذا بيع لأكله حرم ثمنه وطرد هذا ما قاله جمهور من الفقهاء كأحمد ومالك وأتباعهما : إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمرا حرم أكل ثمنه . بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما حرم أكل ثمنه وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل الله فثمنه من الطيبات وكذلك ثياب الحرير إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه حرم أكل ثمنها بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها .




هل يجوز بيع المسلم الخمر والخنزير للذمي ]

فإن قيل فهل تجوزون للمسلم بيع الخمر والخنزير من الذمي لاعتقاد الذمي حلهما كما جوزتم بيعه الدهن المتنجس إذا بين حاله لاعتقاده طهارته وحله ؟ قيل لا يجوز ذلك وثمنه حرام والفرق بينهما : أن الدهن المتنجس عين طاهرة خالطها نجاسة ويسوغ فيها النزاع . وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا ينجس إلا بالتغير . وإن تغير فذهب طائفة إلى إمكان تطهيره بالغسل بخلاف العين التي حرمها الله في كل ملة وعلى لسان كل رسول كالميتة والدم والخنزير فإن استباحته مخالفة لما أجمعت الرسل على تحريمه وإن اعتقد الكافر حله - فهو كبيع الأصنام للمشركين وهذا هو الذي حرمه الله ورسوله بعينه وإلا فالمسلم لا يشتري صنما .

فإن قيل فالخمر حلال عند أهل الكتاب فجوزوا بيعها منهم .

قيل هذا هو الذي توهمه من توهمه من عمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى كتب إليهم عمر رضي الله عنه ينهاهم عنه وأمر عماله أن يولوا أهل الكتاب بيعها بأنفسهم وأن يأخذوا ما عليهم من أثمانها فقال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان بن سعيد عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي عن سويد بن غفلة قال بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ناسا يأخذون الجزية من الخنازير فقام بلال فقال إنهم ليفعلون فقال عمر رضي الله عنه لا تفعلوا ولوهم بيعها

قال أبو عبيد : وحدثنا الأنصاري عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر رضي الله عنه إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال لا تأخذوا منهم ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن

قال أبو عبيد : يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزية رءوسهم وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فهذا الذي أنكره بلال ونهى عنه عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة هم المتولين لبيعها لأن الخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة ولا تكون مالا للمسلمين .

قال ومما يبين ذلك حديث آخر لعمر رضي الله عنه حدثنا علي بن معبد عن عبيد الله بن عمرو عن ليث بن أبي سليم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير وقبض أثمانها لأهل الجزية من جزيتهم .

قال أبو عبيد : فهو لم يجعلها قصاصا من الجزية إلا وهو يراها من أموالهم . فأما إذا مر الذمي بالخمر والخنازير على العاشر فإنه لا يطيب له أن يعشرها ولا يأخذ ثمن العشر منها . وإن كان الذمي هو المتولي لبيعها أيضا وهذا ليس من الباب الأول ولا يشبهه لأن ذلك حق وجب على رقابهم وأرضيهم وأن العشر هاهنا إنما هو شيء يوضع على الخمر والخنازير أنفسها وكذلك ثمنها لا يطيب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أفتى في مثل هذا بغير ما أفتى به في ذاك وكذلك قال عمر بن عبد العزيز .

حدثنا أبو الأسود المصري حدثنا عبد الله بن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة السبائي أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر بن الخطاب بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر رضي الله عنه بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين وأخبر بذلك الناس وقال والله لا استعملتك على شيء بعدها قال فتركه

حدثنا عبد الرحمن عن المثنى بن سعيد الضبعي قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن ابعث إلي بتفصيل الأموال التي قبلك من أين دخلت ؟ فكتب إليه بذلك وصنفه له وكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم . قال فلبثنا ما شاء الله ثم جاء جواب كتابه إنك كتبت إلي تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهم وإن الخمر لا يعشرها مسلم ولا يشتريها ولا يبيعها فإذا أتاك كتابي هذا فاطلب الرجل فارددها عليه فهو أولى بما كان فيها . فطلب الرجل فردت عليه .

قال أبو عبيد : فهذا عندي الذي عليه العمل وإن كان إبراهيم النخعي قد قال غير ذلك . ثم ذكر عنه في الذمي يمر بالخمر على العاشر قال يضاعف عليه العشور .

قال أبو عبيد : وكان أبو حنيفة يقول إذا مر على العاشر بالخمر والخنازير عشر الخمر ولم يعشر الخنازير سمعت محمد بن الحسن يحدث بذلك عنه قال أبو عبيد : وقول الخليفتين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما أولى بالاتباع والله أعلم



حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن الكلب والسنور
في " الصحيحين " : عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن

وفي " صحيح مسلم " : عن أبي الزبير قال سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور فقال زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك

وفي " سنن أبي داود " : عنه أن النبي نهى عن ثمن الكلب والسنور

وفي " صحيح مسلم " : من حديث رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام

فتضمنت هذه السنن أربعة أمور .

[ تحريم بيع الكلب ]
أحدها : تحريم بيع الكلب وذلك يتناول كل كلب صغيرا كان أو كبيرا للصيد أو للماشية أو للحرث وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث قاطبة والنزاع في ذلك معروف عن أصحاب مالك وأبي حنيفة فجوز أصحاب أبي حنيفة بيع الكلاب وأكل أثمانها وقال القاضي عبد الوهاب اختلف أصحابنا في بيع ما أذن في اتخاذه من الكلاب فمنهم من قال يكره ومنهم من قال يحرم انتهى .

وعقد بعضهم فصلا لما يصح بيعه وبنى عليه اختلافهم في بيع الكلب فقال ما كانت منافعه كلها محرمة لم يجز بيعه إذ لا فرق بين المعدوم حسا والممنوع شرعا وما تنوعت منافعه إلى محللة ومحرمة فإن كان المقصود من العين خاصة كان الاعتبار بها والحكم تابع لها فاعتبر نوعها وصار الآخر كالمعدوم . وإن توزعت في النوعين لم يصح البيع لأن ما يقابل ما حرم منها أكل مال بالباطل وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولا .

قال وعلى هذا الأصل مسألة بيع كلب الصيد فإذا بني الخلاف فيها على هذا الأصل قيل في الكلب من المنافع كذا وكذا وعددت جملة منافعه ثم نظر فيها فمن رأى أن جملتها محرمة منع ومن رأى جميعها محللة أجاز ومن رآها متنوعة نظر هل المقصود المحلل أو المحرم فجعل الحكم للمقصود ومن رأى منفعة واحدة منها محرمة وهي مقصودة منع أيضا ومن التبس عليه كونها مقصودة وقف أو كره فتأمل هذا التأصيل والتفصيل وطابق بينهما يظهر لك ما فيهما من التناقض والخلل وأن بناء بيع كلب الصيد على هذا الأصل من أفسد البناء فإن قوله من رأى أن جملة منافع كلب الصيد محرمة بعد تعديدها لم يجز بيعه فإن هذا لم يقله أحد من الناس قط وقد اتفقت الأمة على إباحة منافع كلب الصيد من الاصطياد والحراسة وهما جل منافعه ولا يقتنى إلا لذلك فمن الذي رأى منافعه كلها محرمة ولا يصح أن تراد منافعه الشرعية ؟ فإن إعارته جائزة .

وقوله ومن رأى جميعها محللة أجاز كلام فاسد أيضا فإن منافعه المذكورة محللة اتفاقا والجمهور على عدم جواز بيعه .

وقوله ومن رآها متنوعة نظر هل المقصود المحلل أو المحرم ؟ كلام لا فائدة تحته البتة فإن منفعة كلب الصيد هي الاصطياد دون الحراسة فأين التنوع وما يقدر في المنافع من التحريم يقدر مثله في الحمار والبغل ؟ وقوله ومن رأى منفعة واحدة محرمة وهي مقصودة منع . أظهر فسادا مما قبله فإن هذه المنفعة المحرمة ليست هي المقصودة من كلب الصيد وإن قدر أن مشتريه قصدها فهو كما لو قصد منفعة محرمة من سائر ما يجوز بيعه وتبين فساد هذا التأصيل وأن الأصل الصحيح هو الذي دل عليه النص الصريح الذي لا معارض له البتة من تحريم بيعه .



فإن قيل كلب الصيد مستثنى من النوع الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل ما رواه الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد

وقال النسائي : أخبرني إبراهيم بن الحسن المصيصي حدثنا حجاج بن محمد عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد

وقال قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثنا المثنى بن الصباح عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثمن الكلب سحت إلا كلب صيد

وقال ابن وهب عمن أخبره عن ابن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث هن سحت حلوان الكاهن ومهر الزانية وثمن الكلب العقور

وقال ابن وهب : حدثني الشمر بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب العقور

ويدل على صحة هذا الاستثناء أيضا أن جابرا أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ثمن الكلب وقد رخص جابر نفسه في ثمن كلب الصيد وقول الصحابي صالح لتخصيص عموم الحديث عند من جعله حجة فكيف إذا كان معه النص باستثنائه والقياس ؟ وأيضا لأنه يباح الانتفاع به ويصح نقل اليد فيه بالميراث والوصية والهبة وتجوز إعارته وإجارته في أحد قولي العلماء وهما وجهان للشافعية فجاز بيعه كالبغل والحمار .

فالجواب أنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء كلب الصيد بوجه أما حديث جابر رضي الله عنه فقال الإمام أحمد وقد سئل عنه هذا من الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف وقال الدارقطني : الصواب أنه موقوف على جابر . وقال الترمذي لا يصح إسناد هذا الحديث . وقال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا لا يصح أبو المهزم ضعيف يريد راويه عنه . وقال البيهقي : روى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ثمن الكلب جماعة منهم ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو هريرة ورافع بن خديج وأبو جحيفة اللفظ مختلف والمعنى واحد . والحديث الذي روي في استثناء كلب الصيد لا يصح وكأن من رواه أراد حديث النهي عن اقتنائه فشبه عليه والله أعلم .

وأما حديث حماد بن سلمة عن أبي الزبير فهو الذي ضعفه الإمام أحمد رحمه الله بالحسن بن أبي جعفر وكأنه لم يقع له طريق حجاج بن محمد وهو الذي قال فيه الدارقطني : الصواب أنه موقوف وقد أعله ابن حزم بأن أبا الزبير لم يصرح فيه بالسماع من جابر وهو مدلس وليس من رواية الليث عنه . وأعله البيهقي بأن أحد رواته وهم من استثناء كلب الصيد مما نهي عن اقتنائه من الكلاب فنقله إلى البيع .

قلت : ومما يدل على بطلان حديث جابر هذا وأنه خلط عليه أنه صح عنه أنه قال أربع من السحت ضراب الفحل وثمن الكلب ومهر البغي وكسب الحجام وهذا علة أيضا للموقوف عليه من استثناء كلب الصيد فهو علة للموقوف والمرفوع .

وأما حديث المثنى بن الصباح عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه فباطل لأن فيه يحيى بن أيوب وقد شهد مالك عليه بالكذب وجرحه الإمام أحمد . وفيه المثنى بن الصباح وضعفه عندهم مشهور ويدل على بطلان الحديث ما رواه النسائي حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أسباط حدثنا الأعمش عن عطاء بن أبي رباح قال قال أبو هريرة رضي الله عنه أربع من السحت ضراب الفحل وثمن الكلب ومهر البغي وكسب الحجام

وأما الأثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلا يدرى من أخبر ابن وهب عن ابن شهاب ولا من أخبر ابن شهاب عن الصديق رضي الله عنه ومثل هذا لا يحتج به .

وأما الأثر عن علي رضي الله عنه ففيه ابن ضميرة في غاية الضعف ومثل هذه الآثار الساقطة المعلولة لا تقدم على الآثار التي رواها الأئمة الثقات الأثبات حتى قال بعض الحفاظ إن نقلها نقل تواتر وقد ظهر أنه لم يصح عن صحابي خلافها البتة بل هذا جابر وأبو هريرة وابن عباس يقولون ثمن الكلب خبيث قال وكيع : حدثنا إسرائيل عن عبد الكريم عن قيس بن حبتر عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه ثمن الكلب ومهر البغي وثمن الخمر حرام

وهذا أقل ما فيه أن يكون قول ابن عباس . وأما قياس الكلب على البغل والحمار فمن أفسد القياس بل قياسه على الخنزير أصح من قياسه عليهما لأن الشبه الذي بينه وبين الخنزير أقرب من الشبه الذي بينه وبين البغل والحمار وله تعارض القياسان لكان القياس المؤيد بالنص الموافق له أصح وأولى من القياس المخالف له .

فإن قيل كان النهي عن ثمنها حين كان الأمر بقتلها فلما حرم قتلها وأبيح اتخاذ بعضها نسخ النهي فنسخ تحريم البيع .

قيل هذه دعوى باطلة ليس مع مدعيها لصحتها دليل ولا شبهة وليس في الأثر ما يدل على صحة هذه الدعوى البتة بوجه من الوجوه ويدل على بطلانها : أن أحاديث تحريم بيعها وأكل ثمنها مطلقة عامة كلها وأحاديث الأمر بقتلها والنهي عن اقتنائها نوعان نوع كذلك وهو المتقدم ونوع مقيد مخصص وهو المتأخر فلو كان النهي عن بيعها مقيدا مخصوصا لجاءت به الآثار كذلك فلما جاءت عامة مطلقة علم أن عمومها وإطلاقها مراد فلا يجوز إبطاله . والله أعلم .



فصل [ تحريم بيع السنور ]
الحكم الثاني : تحريم بيع السنور كما دل عليه الحديث الصحيح الصريح الذي رواه جابر وأفتى بموجبه كما رواه قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا محمد بن آدم حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه كره ثمن الكلب والسنور قال أبو محمد فهذه فتيا جابر بن عبد الله أنه كره بما رواه ولا يعرف له مخالف من الصحابة وكذلك أفتى أبو هريرة رضي الله عنه وهو مذهب طاووس ومجاهد وجابر بن زيد وجميع أهل الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز وهو الصواب لصحة الحديث بذلك وعدم ما يعارضه فوجب القول به .

قال البيهقي : ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوما بنجاستها فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم الهرة ليست بنجس صار ذلك منسوخا في البيع .

ومنهم من حمله على السنور إذا توحش ومتابعة ظاهر السنة أولى . ولو سمع الشافعي رحمه الله الخبر الواقع فيه لقال به إن شاء الله وإنما لا يقول به من توقف في تثبيت روايات أبي الزبير وقد تابعه أبو سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس وحفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان انتهى كلامه .

ومنهم من حمله على الهر الذي ليس بمملوك ولا يخفى ما في هذه المحامل من الوهن .




فصل [ تحريم مهر البغي ]
[ هل للحرة المكرهة على الزنى مهر ]

والحكم الثالث مهر البغي وهو ما تأخذه الزانية في مقابلة الزنى بها فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك خبيث على أي وجه كان حرة كانت أو أمة ولا سيما فإن البغاء إنما كان على عهدهم في الإماء دون الحرائر ولهذا قالت هند : وقت البيعة " أو تزني الحرة ؟ " ولا نزاع بين الفقهاء في أن الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رجلا من نفسها فزنى بها أنه لا مهر لها واختلف في مسألتين

إحداهما : الحرة المكرهة .

والثانية الأمة المطاوعة فأما الحرة المكرهة على الزنى ففيها أربعة أقوال وهي روايات منصوصات عن أحمد .

أحدها : أن لها المهر بكرا كانت أو ثيبا سواء وطئت في قبلها أو دبرها .

والثاني : أنها إن كانت ثيبا فلا مهر لها وإن كانت بكرا فلها المهر وهل يجب معه أرش البكارة ؟ على روايتين منصوصتين وهذا القول اختيار أبي بكر

والثالث أنها إن كانت ذات محرم فلا مهر لها وإن كانت أجنبية فلها المهر

والرابع أن من تحرم ابنتها كالأم والبنت والأخت فلا مهر لها ومن تحل ابنتها كالعمة والخالة فلها المهر .

وقال أبو حنيفة رحمه الله لا مهر للمكرهة على الزنى بحال بكرا كانت أو ثيبا فمن أوجب المهر قال إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوما في الشرع بالمهر وإنما لم يجب للمختارة لأنها باذلة للمنفعة التي عوضها لها فلم يجب لها شيء كما لو أذنت في إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه .

ومن لم يوجبه قال الشارع إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهر في عقد أو شبهة عقد ولم يقومها بالمهر في الزنى البتة وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس . قالوا : وإنما جعل الشارع في مقابلة هذا الاستمتاع الحد والعقوبة فلا يجمع بينه وبين ضمان المهر . قالوا : والوجوب إنما يتلقى من الشارع من نص خطابه أو عمومه أو فحواه أو تنبيهه أو معنى نصه وليس شيء من ذلك ثابتا متحققا عنه .

وغاية ما يدعى قياس السفاح على النكاح ويا بعد ما بينهما . قالوا : والمهر إنما هو من خصائص النكاح لفظا ومعنى ولهذا إنما يضاف إليه فيقال مهر النكاح ولا يضاف إلى الزنى فلا يقال مهر الزنا وإنما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم المهر وأراد به العقد كما قال إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . وكما قال ورجل باع حرا فأكل ثمنه ونظائره كثيرة .

والأولون يقولون الأصل في هذه المنفعة أن تقوم بالمهر وإنما أسقطه الشارع في حق البغي وهي التي تزني باختيارها وأما المكرهة على الزنى فليست بغيا فلا يجوز إسقاط بدل منفعتها التي أكرهت على استيفائها كما لو أكره الحر على استيفاء منافعه فإنه يلزمه عوضها وعوض هذه المنفعة شرعا هو المهر فهذا مأخذ القولين .

ومن فرق بين البكر والثيب رأى أن الواطئ لم يذهب على الثيب شيئا وحسبه العقوبة التي ترتبت على فعله وهذه المعصية لا يقابلها شرعا مال يلزم من أقدم عليها بخلاف البكر فإنه أزال بكارتها فلا بد من ضمان ما أزاله فكانت هذه الجناية مضمونة عليه في الجملة فضمن ما أتلفه من جزء منفعة وكانت المنفعة تابعة للجزء في الضمان كما كانت تابعة له في عدمه من البكر المطاوعة .

ومن فرق بين ذوات المحارم وغيرهن رأى أن تحريمهن لما كان تحريما مستقرا وأنهن غير محل الوطء شرعا كان استيفاء هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط فلا يوجب مهرا وهذا قول الشعبي وهذا بخلاف تحريم المصاهرة فإنه عارض يمكن زواله .

قال صاحب المغني وهكذا ينبغي أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاع لأنه طارئ أيضا . ومن فرق في ذوات المحارم بين من تحرم ابنتها وبين من لا تحرم فكأنه رأى أن من لا تحرم ابنتها تحريمها أخف من تحريم الأخرى فأشبه العارض .

فإن قيل فما حكم المكرهة على الوطء في دبرها أو الأمة المطاوعة على ذلك ؟ قيل هو أولى بعدم الوجوب فهذا كاللواط لا يجب فيه المهر اتفاقا . – 689 –

وقد اختلف في هذه المسألة الشيخان أبو البركات ابن تيمية وأبو محمد بن قدامة فقال أبو البركات في " محرره " ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة والمكرهة على الزنى في قبل أو دبر وقال أبو محمد في المغني لا يجب المهر بالوطء في الدبر ولا اللواط لأن الشرع لم يرد ببدله ولا هو إتلاف لشيء فأشبه القبلة والوطء دون الفرج وهذا القول هو الصواب قطعا فإن هذا الفعل لم يجعل له الشارع قيمة أصلا ولا قدر له مهرا بوجه من الوجوه وقياسه على وطء الفرج من أفسد القياس ولازم من قاله إيجاب المهر لمن فعلت به اللوطية من الذكور وهذا لم يقل به أحد البتة .



فصل [ هل للأمة المطاوعة على الزنا مهر ]
وأما المسألة الثانية وهى الأمة المطاوعة فهل يجب لها المهر ؟ فيه قولان . أحدهما : يجب وهو قول الشافعي وأكثر أصحاب أحمد رحمه الله . قالوا : لأن هذه المنفعة لغيرها فلا يسقط بدلها مجانا كما لو أذنت في قطع طرفها . والصواب المقطوع به أنه لا مهر لها وهذه هي البغي التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهرها وأخبر أنه خبيث وحكم عليه وعلى ثمن الكلب وأجر الكاهن بحكم واحد والأمة داخلة في هذا الحكم دخولا أوليا فلا يجوز تخصيصها من عمومه لأن الإماء هن اللاتي كن يعرفن بالبغاء وفيهن وفي ساداتهن أنزل الله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا [ النور 33 ] فكيف يجوز أن تخرج الإماء من نص أردن به قطعا ويحمل على غيرهن .

وأما قولكم إن منفعتها لسيدها ولم يأذن في استيفائها فيقال هذه المنفعة يملك السيد استيفاءها بنفسه ويملك المعاوضة عليها بعقد النكاح أو شبهته ولا يملك المعاوضة عليها إلا إذا أذنت ولم يجعل الله ورسوله للزنى عوضا قط غير العقوبة فيفوت على السيد حتى يقضى له بل هذا تقويم مال أهدره الله ورسوله وإثبات عوض حكم الشارع بخبثه وجعله بمنزلة ثمن الكلب وأجر الكاهن وإن كان عوضا خبيثا شرعا لم يجز أن يقضي به .

ولا يقال فأجر الحجام خبيث ويقضى له به لأن منفعة الحجامة منفعة مباحة وتجوز بل يجب على مستأجره أن يوفيه أجره فأين هذا من المنفعة الخبيثة المحرمة التي عوضها من جنسها وحكمه حكمها وإيجاب عوض في مقابلة هذه المعصية كإيجاب عوض في مقابلة اللواط إذ الشارع لم يجعل في مقابلة هذا الفعل عوضا .

فإن قيل فقد جعل في مقابلة الوطء في الفرج عوضا وهو المهر من حيث الجملة بخلاف اللواطة .

قلنا : إنما جعل في مقابلته عوضا إذا استوفي بعقد أو بشبهة عقد ولم يجعل له عوضا إذا استوفي بزنى محض لا شبهة فيه وبالله التوفيق . ولم يعرف في الإسلام قط أن زانيا قضي عليه بالمهر للمزني بها ولا ريب أن المسلمين يرون هذا قبيحا فهو عند الله عز وجل قبيح .



فصل [ ما تفعل الزانية بكسبها إذا قبضته ثم تابت ]
فإن قيل فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه أم يطيب لها أم تصدق به ؟

قيل هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ثم أراد التخلص منه فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفى عوضه رده عليه . فإن تعذر رده عليه قضى به دينا يعلمه عليه فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته فإن تعذر ذلك تصدق به عنه فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له . وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم .

وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنى أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه . وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به ولا يسوغ القول به وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر . ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهرا وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء فلا تأتي به شريعة ولكن لا يطيب للقابض أكله بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خبثه لخبث مكسبه لا لظلم من أخذ منه فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة به فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينا كان أو منفعة ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام ولا يجب رده على دافعه .

فإن قيل فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه بل حجر عليه فيه الشارع فلم يقع قبضه موقعه بل وجود هذا القبض كعدمه فيجب رده على مالكه كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء أو لأجنبي بزيادة على الثلث أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك ونحو ذلك .

وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده .

قيل هذا قياس فاسد لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به أو حق نفسه المقدمة على غيره وأما ما نحن فيه فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة فقد قبض عوضا محرما وأقبض مالا محرما فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه وبذل فيه ما لا يجوز بذله فالقابض قبض مالا محرما والدافع استوفى عوضا محرما وقضية العدل تراد العوضين لكن قد تعذر رد أحدهما فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه . نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه أو دفع إليها المال ولم يفجر بها وجب رد المال في الصورتين قطعا كما في سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبض .

فإن قيل وأي تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة ومعلوم أن قبض ما لا يجوز قبضه بمنزلة عدمه إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا فقابض المال قبضه بغير حق فعليه أن يرده إلى دافعه ؟

قيل والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه وقبض ما ليس لهما قبضه وكلاهما عاص لله فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه ويفوت على الآخر العوض والمعوض .

فإن قيل هو فوت المنفعة على نفسه باختياره . قيل والآخر فوت العوض على نفسه باختياره فلا فرق بينهما وهذا واضح بحمد الله .

وقد توقف شيخنا في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله أو الصدقة به في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم " وقال الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم فاستوفوا العوض المحرم والتحريم الذي فيه ليس لحقهم وإنما هو لحق الله تعالى وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعا منه بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها . ثم أورد على نفسه سؤالا فقال فيقال على هذا فينبغي أن تقضوا بها إذا طالب بقبضها .

وأجاب عنه بأن قال قيل نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم فلا يقضى لك بالأجرة . فإذا قبضها وقال الدافع هذا المال اقضوا لي برده فإني أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له دفعته معاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت إذا كان له في بقائه معه منفعة فهذا محتمل . قال وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد انتهى .



[ هل لمن حمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا لنصراني كراء ]
وقد نص أحمد في رواية أبي النضر فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يقضى للحمال بالكراء . وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة . فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق .

إحداها : إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة . قال ابن أبي موسى : وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني . فإن فعل قضي له بالكراء وهل يطيب له أم لا ؟ على وجهين . أوجههما : أنه لا يطيب له ويتصدق به وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره نص عليه وهذه كراهة تحريم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حاملها . إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء وإن كان محرما كإجارة الحجام انتهى . فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح .

الطريقة الثانية تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها وجعل المسألة رواية واحدة وهي أن هذه الإجارة لا تصح وهذه طريقة القاضي في " المجرد " وهي طريقة ضعيفة وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة فإنه صنف " المجرد " قديما .




الطريقة الثالثة تخريج هذه المسألة على روايتين إحداهما : أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة . والثانية لا تصح الإجارة ولا يستحق بها أجرة وإن حمل . وهذا على قياس قوله في الخمر لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها . قال في رواية أبي طالب ؟ إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر وتسرح الخنازير وقد حرما عليه وإن قتلها فلا بأس . فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها ولأنه قد نص في رواية ابن منصور أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنطارة كرم لنصراني لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر وهذه طريقة القاضي في " تعليقه " وعليها أكثر أصحابه والمنصور عندهم الرواية المخرجة وهي عدم الصحة وأنه لا يستحق أجرة ولا يقضى له بها وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد .

وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب أو لأكل الخنزير أو مطلقا فأما إذا استأجره لحملها ليريقها أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها فإن الإجارة تجوز حينئذ لأنه عمل مباح لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح واستحق أجرة المثل وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه هذا قول شيخنا وهو مذهب مالك . والظاهر أنه مذهب الشافعي .

وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله فمذهبه كالرواية الأولى أنه تصح الإجارة ويقضى له بالأجرة ومأخذه في ذلك أن الحمل إذا كان مطلقا لم يكن المستحق نفس حمل الخمر فذكره وعدم ذكره سواء وله أن يحمل شيئا آخر غيره كخل وزيت وهكذا قال فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة أو ليبيع فيها الخمر قال أبو بكر الرازي : لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط وهو يعلم أنه يبيع - فيه الخمر أن الإجارة تصح لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء وإن شرط ذلك لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ولا يتخذ الدار كنيسة ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواء كما لو اكترى دارا لينام فيها أو ليسكنها فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا : أنه يصح لأنه لا يتعين حمل الخمر بل لو حمله بدله عصيرا استحق الأجرة فهذا التقييد عندهم لغو فهو بمنزلة الإجارة المطلقة والمطلقة عنده جائزة . وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة . قال لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى وقالوا : ليس المقيد كالمطلق بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة وهي لا تستحق بعقد إجارة .

ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا : إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها والعاصر إنما يعصر عصيرا ولكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا فيعصره له استحق اللعنة .

قالوا : وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخطه الله ويبغضه ويلعن فاعله فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه وبطلان العقد عليه وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم بتحريم العينة وما يترتب عليها من العقوبة . قال شيخنا : والأشبه طريقة ابن موسى يعني أنه يقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة ولكن لا يطيب له أكلها . قال فإنها أقرب إلى مقصود أحمد وأقرب إلى القياس وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه . فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا وهي ليست محرمة في نفسها وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل فهو كما لو باع عنبا وعصيرا لمن يتخذه خمرا وفات العصير والخمر في يد المشتري فإن مال البائع لا يذهب مجانا بل يقضى له بعوضه . كذلك هنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا بل يعطى بدلها فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها جاز . ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر فهو كما لو باع ميتة أو خمرا فإنه لا يقضى له بثمنها لأن نفس هذه العين محرمة وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة .

قال شيخنا : ومثل هذه الإجارة والجعالة يعني الإجارة على حمل الخمر والميتة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا بل يقال هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه يجب عليه العوض وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجر ولهذا في الشريعة نظائر . قال ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نطارة كرم النصراني فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه ثم نقضي له بكرائه قال ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه فإذا لم يعطوه شيئا ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم كان ذلك أعظم العون لهم وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال يعني كالزانية والمغني والنائحة فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة ولو قبضوا منهم المال فهل يلزمهم رده عليهم أم يتصدقون به ؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده ولا يطيب لهم أكله والله الموفق للصواب .



فصل [ تحريم حلوان الكاهن ]
الحكم الخامس حلوان الكاهن . قال أبو عمر بن عبد البر : لا خلاف في حلوان الكاهن أنه ما يعطاه على كهانته وهو من أكل المال بالباطل والحلوان في أصل اللغة العطية . قال علقمة

فمن رجل أحلوه رحلي وناقتي

يبلغ عني الشعر إذ مات قائله


انتهى .

وتحريم حلوان الكاهن تنبيه على تحريم حلوان المنجم والزاجر وصاحب القرعة التي هي شقيقة الأزلام وضاربة الحصا والعراف والرمال ونحوهم ممن تطلب منهم الأخبار عن المغيبات وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهان وأخبر أن من أتى عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وبما يجيء به هؤلاء لا يجتمعان في قلب واحد وإن كان أحدهم قد يصدق أحيانا فصدقه بالنسبة إلى كذبه قليل من كثير وشيطانه الذي يأتيه بالأخبار لا بد له أن يصدقه أحيانا ليغوي به الناس ويفتنهم به .

وأكثر الناس مستجيبون لهؤلاء مؤمنون بهم ولا سيما ضعفاء العقول كالسفهاء والجهال والنساء وأهل البوادي ومن لا علم لهم بحقائق الإيمان فهؤلاء هم المفتونون بهم وكثير منهم يحسن الظن بأحدهم ولو كان مشركا كافرا بالله مجاهرا بذلك ويزوره وينذر له ويلتمس دعاءه . فقد رأينا وسمعنا من ذلك كثيرا وسبب هذا كله خفاء ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق على هؤلاء وأمثالهم ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور وقد قال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء يحدثوننا أحيانا بالأمر فيكون كما قالوا فأخبرهم أن ذلك من جهة الشياطين يلقون إليهم الكلمة تكون حقا فيزيدون هم معها مائة كذبة فيصدقون من أجل تلك الكلمة .

وأما أصحاب الملاحم فركبوا ملاحمهم من أشياء .

أحدها : من أخبار الكهان .

والثاني : من أخبار منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بين أهل الكتاب .

والثالث من أمور أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بها جملة وتفصيلا .

والرابع من أمور أخبر بها من له كشف من الصحابة ومن بعدهم .

والخامس من منامات متواطئة على أمر كلي وجزئي . فالجزئي يذكرونه بعينه والكلي يفصلونه بحدس وقرائن تكون حقا أو تقارب .

والسادس من استدلال بآثار علوية جعلها الله تعالى علامات وأدلة وأسبابا لحوادث أرضية لا يعلمها أكثر الناس فإن الله سبحانه لم يخلق شيئا سدى ولا عبثا . وربط سبحانه العالم العلوي بالسفلي وجعل علويه مؤثرا في سفليه دون العكس فالشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته وإن كان كسوفهما لسبب شر يحدث في الأرض ولهذا شرع سبحانه تغيير الشر عند كسوفهما بما يدفع ذلك الشر المتوقع من الصلاة والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار والعتق فإن هذه الأشياء تعارض أسباب الشر وتقاومها وتدفع موجباتها إن قويت عليها .

وقد جعل الله سبحانه حركة الشمس والقمر واختلاف مطالعهما سببا للفصول التي هي سبب الحر والبرد والشتاء والصيف وما يحدث فيهما مما يليق بكل فصل منها فمن له اعتناء بحركاتهما واختلاف مطالعهما يستدل بذلك على ما يحدث في النبات والحيوان وغيرهما وهذا أمر يعرفه كثير من أهل الفلاحة والزراعة ونواتي السفن لهم استدلالات بأحوالهما وأحوال الكواكب على أسباب السلامة والعطب من اختلاف الرياح وقوتها وعصوفها لا تكاد تختل .

والأطباء لهم استدلالات بأحوال القمر والشمس على اختلاف طبيعة الإنسان وتهيئها لقبول التغير واستعدادها لأمور غريبة ونحو ذلك .

وواضعو الملاحم لهم عناية شديدة بهذا وأمور متوارثة عن قدماء المنجمين ثم يستنتجون من هذا كله قياسات وأحكاما تشبه ما تقدم ونظيره . وسنة الله في خلقه جارية على سنن اقتضته حكمته فحكم النظير حكم نظيره وحكم الشيء حكم مثله وهؤلاء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام القضاء والقدر واعتبار بعضه ببعض والاستدلال ببعضه على بعض " كما صرف أئمة الشرع قوى أذهانهم إلى أحكام الأمر والشرع واعتبار بعضه ببعض والاستدلال ببعضه على بعض والله سبحانه له الخلق والأمر ومصدر خلقه وأمره عن حكمة لا تختل ولا تتعطل ولا تنتقض ومن صرف قوى ذهنه وفكره واستنفد ساعات عمره في شيء من أحكام هذا العالم وعلمه كان له فيه من النفوذ والمعرفة والاطلاع ما ليس لغيره .

ويكفي الاعتبار بفرع واحد من فروعه وهو عبارة الرؤيا فإن العبد إذا نفذ فيها وكمل اطلاعه جاء بالعجائب .



وقد شاهدنا نحن وغيرنا من ذلك أمورا عجيبة يحكم فيها المعبر بأحكام متلازمة صادقة سريعة وبطيئة ويقول سامعها : هذه علم غيب .

وإنما هي معرفة ما غاب عن غيره بأسباب انفرد هو بعلمها وخفيت على غيره والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك ما مضرته راجحة على منفعته أو ما لا منفعة فيه أو ما يخشى على صاحبه أن يجره إلى الشرك وحرم بذل المال في ذلك وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يفسد عليها الإيمان أو يخدشه بخلاف علم عبارة الرؤيا فإنه حق لا باطل لأن الرؤيا مستندة إلى الوحي المنامي وهي جزء من أجزاء النبوة ولهذا كلما كان الرائي أصدق كانت رؤياه أصدق وكلما كان المعبر أصدق وأبر وأعلم كان تعبيره أصح بخلاف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين فإن صناعتهم لا تصح من صادق ولا بار ولا متقيد بالشريعة بل هم أشبه بالسحرة الذين كلما كان أحدهم أكذب وأفجر وأبعد عن الله ورسوله ودينه كان السحر معه أقوى وأشد تأثيرا بخلاف علم الشرع والحق فإن صاحبه كلما كان أبر وأصدق وأدين كان علمه به ونفوذه فيه أقوى وبالله التوفيق .



فصل [خبث كسب الحجام ]
الحكم السادس خبث كسب الحجام ويدخل فيه الفاصد والشارط وكل من يكون كسبه من إخراج الدم ولا يدخل فيه الطبيب ولا الكحال ولا البيطار لا في لفظه ولا في معناه وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه حكم بخبثه وأمر صاحبه أن يعلفه ناضحه أو رقيقه وصح عنه أنه احتجم وأعطى الحجام أجره

فأشكل الجمع بين هذين على كثير من الفقهاء وظنوا أن النهي عن كسبه منسوخ بإعطائه أجره وممن سلك هذا المسلك الطحاوي فقال في احتجاجه للكوفيين في إباحة بيع الكلاب وأكل أثمانها : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال ما لي وللكلاب ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم وكان بيع الكلاب إذ ذاك والانتفاع به حراما وكان قاتله مؤديا للفرض عليه في قتله ثم نسخ ذلك وأباح الاصطياد به فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه قال ومثل ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام وقال كسب الحجام خبيث ثم أعطى الحجام أجره وكان ذلك ناسخا لمنعه وتحريمه ونهيه . انتهى كلامه .

وأسهل ما في هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليل عليها فلا تقبل كيف وفي الحديث نفسه ما يبطلها فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ثم قال ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص لهم في كلب الصيد .

وقال ابن عمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب إلا كلب الصيد أو كلب غنم أو ماشية وقال عبد الله بن مغفل : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم

والحديثان في " الصحيح " فدل على أن الرخصة في كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب فالكلب الذي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتنائه هو الذي حرم ثمنه وأخبر أنه خبيث دون الكلب الذي أمر بقتله فإن المأمور بقتله غير مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه ولم تجر العادة ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى من حاجتهم إلى بيان ما لم تجر عادتهم ببيعه بل قد أمروا بقتله .

ومما يبين هذا أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأربعة التي تبذل فيها الأموال عادة لحرص النفوس عليها وهي ما تأخذه الزانية والكاهن والحجام وبائع الكلب فكيف يحمل هذا على كلب لم تجر العادة ببيعه وتخرج منه الكلاب التي إنما جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البين امتناعه وإذا تبين هذا ظهر فساد ما شبه به من نسخ خبث أجرة الحجام بل دعوى النسخ فيها أبعد .

وأما إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره فلا يعارض قوله كسب الحجام خبيث فإنه لم يقل إن إعطاءه خبيث بل إعطاؤه إما واجب وإما مستحب وإما جائز ولكن هو خبيث بالنسبة إلى الآخذ وخبثه بالنسبة إلى أكله فهو خبيث الكسب ولم يلزم من ذلك تحريمه فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما ولا يلزم من إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره حل أكله فضلا عن كون أكله طيبا فإنه قال إني لأعطي الرجل العطية يخرج بها يتأبطها نارا والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعطي المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة والفيء مع غناهم وعدم حاجتهم إليه ليبذلوا من الإسلام والطاعة ما يجب عليهم بذله بدون العطاء ولا يحل لهم توقف بذله على الأخذ بل يجب عليهم المبادرة إلى بذله بلا عوض .

وهذا أصل معروف من أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكون جائزا أو مستحبا أو واجبا من أحد الطرفين مكروها أو محرما من الطرف الآخر فيجب على الباذل أن يبذل ويحرم على الآخذ أن يأخذه .

وبالجملة فخبث أجر الحجام من جنس خبث أكل الثوم والبصل لكن هذا خبيث الرائحة وهذا خبيث لكسبه .




[أطيب المكاسب وأحلها ]
فإن قيل فما أطيب المكاسب وأحلها ؟ قيل هذا فيه ثلاثة أقوال للفقهاء .

أحدها : أنه كسب التجارة

والثاني : أنه عمل اليد في غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوها .

والثالث أنه الزراعة ولكل قول من هذه وجه من الترجيح أثرا ونظرا والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كسب الغانمين وما أبيح لهم على لسان الشارع وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم ولهذا اختاره الله لخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقول بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله وجعل أحب شيء إلى الله فلا يقاومه كسب غيره . والله أعلم .



فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في بيع عسب الفحل وضرابه
في " صحيح البخاري " عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل

وفي " صحيح مسلم " عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ضراب الفحل

وهذا الثاني تفسير للأول وسمى أجرة ضرابه بيعا إما لكون المقصود هو الماء الذي له فالثمن مبذول في مقابلة عين مائه وهو حقيقة البيع وإما أنه سمى إجارته لذلك بيعا إذ هي عقد معاوضة وهي بيع المنافع والعادة أنهم يستأجرون الفحل للضراب وهذا هو الذي نهي عنه والعقد الوارد عليه باطل سواء كان بيعا أو إجارة وهذا قول جمهور العلماء منهم أحمد والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم .

وقال أبو الوفاء بن عقيل : ويحتمل عندي الجواز لأنه عقد على منافع الفحل ونزوه على الأنثى وهي منفعة مقصودة وماء الفحل يدخل تبعا والغالب حصوله عقيب نزوه فيكون كالعقد على الظئر ليحصل اللبن في بطن الصبي وكما لو استأجر أرضا وفيها بئر ماء فإن الماء يدخل تبعا وقد يغتفر في الأتباع ما لا يغتفر في المتبوعات .

وأما مالك فحكي عنه جوازه والذي ذكره أصحابه التفصيل فقال صاحب " الجواهر " في باب فساد العقد من جهة نهي الشارع ومنها بيع عسب الفحل ويحمل النهي فيه على استئجار الفحل على لقاح الأنثى وهو فاسد لأنه غير مقدور على تسليمه فأما أن يستأجره على أن ينزو عليه دفعات معلومة فذلك جائز إذ هو أمد معلوم في نفسه ومقدور على تسليمه .




[علة النهي عن عسب الفحل ]
والصحيح تحريمه مطلقا وفساد العقد به على كل حال ويحرم على الآخر أخذ أجرة ضرابه ولا يحرم على المعطي لأنه بذل ماله في تحصيل مباح يحتاج إليه ولا يمنع من هذا كما في كسب الحجام وأجرة الكساح والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضراب وسمى ذلك بيع عسبه فلا يجوز حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذي قصد بالنهي ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح في نزو الفحل على الأنثى الذي له دفعات معلومة وإنما غرضه نتيجة ذلك وثمرته ولأجله بذل ماله . وقد علل التحريم بعدة علل .

إحداها : أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه فأشبه إجارة الآبق فإن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته .

الثانية أن المقصود هو الماء وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد فإنه مجهول القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر فإنها احتملت بمصلحة الآدمي فلا يقاس عليها غيرها وقد يقال - والله أعلم - إن النهي عن ذلك من محاسن الشريعة وكمالها فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان وجعله محلا لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجن عند العقلاء وفاعل ذلك عندهم ساقط من أعينهم في أنفسهم وقد جعل الله سبحانه فطر عباده لا سيما المسلمين ميزانا للحسن والقبيح فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح .

ويزيد هذا بيانا أن ماء الفحل لا قيمة له ولا هو مما يعاوض عليه ولهذا لو نزا فحل الرجل على رمكة غيره فأولدها فالولد لصاحب الرمكة اتفاقا لأنه لم ينفصل عن الفحل إلا مجرد الماء وهو لا قيمة له فحرمت هذه الشريعة الكاملة المعاوضة على ضرابه ليتناوله الناس بينهم مجانا لما فيه من تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل ولا نقصان من ماله فمن محاسن الشريعة إيجاب بذل هذا مجانا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من حقها إطراق فحلها وإعارة دلوها فهذه حقوق يضر بالناس منعها إلا بالمعاوضة فأوجبت الشريعة بذلها مجانا .

فإن قيل فإذا أهدى صاحب الأنثى إلى صاحب الفحل هدية أو ساق إليه كرامة فهل له أخذها ؟ قيل إن كان ذلك على وجه المعاوضة والاشتراط في الباطن لم يحل له أخذه وإن لم يكن كذلك فلا بأس به قال أصحاب أحمد والشافعي : وإن أعطى صاحب الفحل هدية أو كرامة من غير إجارة جاز واحتج أصحابنا بحديث روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا كان إكراما فلا بأس ذكره صاحب " المغني " ولا أعرف حال هذا الحديث ولا من خرجه وقد نص أحمد في رواية ابن القاسم على خلافه فقيل له ألا يكون مثل الحجام يعطى وإن كان منهيا عنه ؟ فقال لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى في مثل هذا شيئا كما بلغنا في الحجام .

واختلف أصحابنا في حمل كلام أحمد رحمه الله على ظاهره أو تأويله فحمله القاضي على ظاهره وقال هذا مقتضى النظر لكن ترك مقتضاه في الحجام فبقي فيما عداه على مقتضى القياس . وقال أبو محمد في " المغني " : كلام أحمد يحمل على الورع لا على التحريم والجواز أرفق بالناس وأوفق للقياس .

ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس
ثبت في " صحيح مسلم " من حديث جابر رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء .

وفيه عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الفحل وعن بيع الماء والأرض لتحرث فعن ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ وفي لفظ آخر لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ وقال البخاري في بعض طرقه لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلإ

وفي " المسند " من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة

وفي " سنن ابن ماجه " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار

وفي " سننه " أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون شركاء في ثلاث : الماء والنار والكلأ وثمنه حرام

وفي " صحيح البخاري " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل ورجل بايع إمامه لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط ورجل أقام سلعة بعد العصر فقال والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل ثم قرأ هذه الآية إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية .

وفي " سنن أبي داود " عن بهيسة قالت استأذن أبي النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يدنو منه ويلتزمه ثم قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال الماء قال " يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال الملح قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال أن تفعل الخير خير لك

الماء خلقه الله في الأصل مشتركا بين العباد والبهائم وجعله سقيا لهم فلا يكون أحد أخص به من أحد ولو أقام عليه وتنأ عليه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابن السبيل أحق بالماء من التانئ عليه ذكره أبو عبيد عنه . وقال أبو هريرة : ابن السبيل أول شارب



[جواز بيع الماء إذا كان في قربته أو إنائه ]
فأما من حازه في قربته أو إنائه فذاك غير المذكور في الحديث وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى ملكه ثم أراد بيعها كالحطب والكلأ والملح وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه رواه البخاري .

وفي " الصحيحين " عن علي رضي الله عنه قال أصبت شارفا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغنم يوم بدر وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفا آخر فأنختهما يوما عند باب رجل من الأنصار وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخرا لأبيعه

وذكر الحديث فهذا في الكلأ والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه وكذلك السمك وسائر المباحات وليس هذا محل النهي بالضرورة ولا محل النهي أيضا بيع مياه الأنهار الكبار المشتركة بين الناس فإن هذا لا يمكن منعها والحجر عليها وإنما محل النهي صور أحدها : المياه المنتقعة من الأمطار إذا اجتمعت في أرض مباحة فهي مشتركة بين الناس وليس أحد أحق بها من أحد إلا بالتقديم لقرب أرضه كما سيأتي إن شاء الله تعالى فهذا النوع لا يحل بيعه ولا منعه ومانعه عاص مستوجب لوعيد الله ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه .

فإن قيل فلو اتخذ في أرضه المملوكة له حفرة يجمع فيها الماء أو حفر بئرا فهل يملكه بذلك ويحل له بيعه ؟ قيل لا ريب أنه أحق به من غيره ومتى كان الماء النابع في ملكه والكلأ والمعدن فوق كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابه لم يجب عليه بذله نص عليه أحمد وهذا لا يدخل تحت وعيد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إنما توعد من منع فضل الماء ولا فضل في هذا .



فصل [يجب بذل ما فضل من الماء عن حاجته وحاجة بهائمه وزرعه لمن طلبه لحاجته أو حاجة بهائمه والاختلاف في بذله لزرع غيره ]
وما فضل منه عن حاجته وحاجة بهائمه وزرعه واحتاج إليه آدمي مثله أو بهائمه بذله بغير عوض ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب . ويسقي ماشيته وليس لصاحب الماء منعه من ذلك ولا يلزم الشارب وساقي البهائم عوض . وهل يلزمه أن يبذل له الدلو والبكرة والحبل مجانا أو له أن يأخذ أجرته ؟ على قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد في وجوب إعارة المتاع عند الحاجة إليه أظهرهما دليلا وجوبه وهو من الماعون .

قال أحمد : إنما هذا في الصحاري والبرية دون البنيان يعني : أن البنيان إذا كان فيه الماء فليس لأحد الدخول إليه إلا بإذن صاحبه وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره ؟ فيه وجهان وهما روايتان عن أحمد .

أحدهما : لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأن الزرع لا حرمة له في نفسه ولهذا لا يجب على صاحبه سقيه بخلاف الماشية .

والثاني : يلزمه بذله واحتج لهذا القول بالأحاديث المتقدمة وعمومها ومما روي عن عبد الله بن عمرو أن قيم أرضه بالوهط كتب إليه يخبره أنه سقى أرضه وفضل له من الماء فضل يطلب بثلاثين ألفا فكتب إليه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : أقم قلدك ثم اسق الأدنى فالأدنى فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع فضل الماء

قالوا : وفي منعه من سقي الزرع إهلاكه وإفساده فحرم كالماشية . وقولكم لا حرمة له فلصاحبه حرمة فلا يجوز التسبب إلى إهلاك ماله ومن سلم لكم أنه لا حرمة للزرع ؟ قال أبو محمد المقدسي : ويحتمل أن يمنع نفي الحرمة عنه فإن إضاعة المال منهي عنها وإتلافه محرم وذلك دليل على حرمته .



[هل تملك البئر النابعة أو العين المستنبطة والمعادن في أرضه ]

فإن قيل فإذا كان في أرضه أو داره بئر نابعة أو عين مستنبطة فهل تكون ملكا له تبعا لملك الأرض والدار ؟ قيل أما نفس البئر وأرض العين فمملوكة لمالك الأرض وأما الماء ففيه قولان وهما روايتان عن أحمد ووجهان لأصحاب الشافعي .

أحدهما : أنه غير مملوك لأنه يجري من تحت الأرض إلى ملكه فأشبه الجاري في النهر إلى ملكه .

والثاني : أنه مملوك له قال أحمد في رجل له أرض ولآخر ماء فاشترك صاحب الأرض وصاحب الماء في الزرع يكون بينهما ؟ فقال لا بأس وهذا القول اختيار أبي بكر .

وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك كالقار والنفط والموميا والملح وكذلك الكلأ النابت في أرضه كل ذلك يخرج على الروايتين في الماء وظاهر المذهب أن هذا الماء لا يملك وكذلك هذه الأشياء قال أحمد : لا يعجبني بيع الماء البتة وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن قوم بينهم نهر تشرب منه أرضهم لهذا يوم ولهذا يومان يتفقون عليه بالحصص فجاء يومي ولا أحتاج إليه أكريه بدراهم ؟ قال ما أدري أما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن بيع الماء قيل إنه ليس يبيعه إنما يكريه قال إنما احتالوا بهذا ليحسنوه فأي شيء هذا إلا البيع انتهى .

[ ترجيح المصنف المنع من البيع ]

وأحاديث اشتراك الناس في الماء دليل ظاهر على المنع من بيعه وهذه المسألة التي سئل عنها أحمد هي التي قد ابتلي بها الناس في أرض الشام وبساتينه وغيرها فإن الأرض والبستان يكون له حق من الشرب من نهر فيفصل عنه أو يبنيه دورا وحوانيت ويؤجر ماءه فقد توقف أحمد أولا ثم أجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء فلما قيل له إن هذه إجارة قال هذه التسمية حيلة وهي تحسين اللفظ وحقيقة العقد البيع وقواعد الشريعة تقتضي المنع من بيع هذا الماء فإنه إنما كان له حق التقديم في سقي أرضه من هذا الماء المشترك بينه وبين غيره فإذا استغنى عنه لم يجز له المعاوضة عنه وكان المحتاج إليه أولى به بعده وهذا كمن أقام على معدن فأخذ منه حاجته لم يجز له أن يبيع باقيه بعد نزعه عنه .

وكذلك من سبق إلى الجلوس في رحبة أو طريق واسعة فهو أحق بها ما دام جالسا فإذا استغنى عنها وأجر مقعده لم يجز وكذلك الأرض المباحة إذا كان فيها كلأ أو عشب فسبق بدوابه إليه فهو أحق برعيه ما دامت دوابه فيه فإذا طلب الخروج منها وبيع ما فضل عنه لم يكن له ذلك وهكذا هذا الماء سواء فإنه إذا فارق أرضه لم يبق له فيه حق وصار بمنزلة الكلأ الذي لا اختصاص له به ولا هو في أرضه .

فإن قيل الفرق بينهما أن هذا الماء في نفس أرضه فهو منفعة من منافعها فملكه بملكها كسائر منافعها بخلاف ما ذكرتم من الصور فإن تلك الأعيان ليست من ملكه وإنما له حق الانتفاع والتقديم إذا سبق خاصة .

قيل هذه النكتة التي لأجلها جوز من جوز بيعه وجعل ذلك حقا من حقوق أرضه فملك المعاوضة عليه وحده كما يملك المعاوضة عليه مع الأرض فيقال حق أرضه في الانتفاع لا في ملك العين التي أودعها الله فيها بوصف الاشتراك وجعل حقه في تقديم الانتفاع على غيره في التحجر والمعاوضة فهذا القول هو الذي تقتضيه قواعد الشرع وحكمته واشتماله على مصالح العالم وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه فأخذ منه شيئا ملكه لأنه مباح في الأصل فأشبه ما لو عشش في أرضه طائر أو حصل فيها ظبي أو نضب ماؤها عن سمك فدخل إليه فأخذه .



[يجوز الدخول في ملك غيره بغير إذنه للرعي وسقي البهائم ]

فإن قيل فهل له منعه من دخول ملكه وهل يجوز دخوله في ملكه بغير إذنه ؟

قيل قد قال بعض أصحابنا : لا يجوز له دخول ملكه لأخذ ذلك بغير إذنه وهذا لا أصل له في كلام الشارع ولا في كلام الإمام أحمد بل قد نص أحمد على جواز الرعي في أرض غير مباحة مع أن الأرض ليست مملوكة له ولا مستأجرة ودخولها لغير الرعي ممنوع منه . فالصواب أنه يجوز له دخولها لأخذ ما له أخذه وقد يتعذر عليه غالبا استئذان مالكها ويكون قد احتاج إلى الشرب وسقي بهائمه ورعي الكلأ ومالك الأرض غائب فلو منعناه من دخولها إلا بإذنه كان في ذلك إضرار ببهائمه .

وأيضا فإنه لا فائدة لهذا الإذن لأنه ليس لصاحب الأرض منعه من الدخول بل يجب عليه تمكينه فغاية ما يقدر أنه لم يأذن له وهذا حرام عليه شرعا لا يحل له منعه من الدخول فلا فائدة في توقف دخوله على الإذن .

وأيضا فإنه إذا لم يتمكن من أخذ حقه الذي جعله له الشارع إلا بالدخول فهو مأذون فيه شرعا بل لو كان دخوله بغير إذنه لغيرة على حريمه وعلى أهله فلا يجوز له الدخول بغير إذن فأما إذا كان في الصحراء أو دار فيها بئر ولا أنيس بها فله الدخول بإذن وغيره وقد قال الله تعالى : ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم [ النور 29 ] وهذا الدخول الذي رفع عنه الجناح هو الدخول بلا إذن فإنه قد منعهم قبل من الدخول لغير بيوتهم حتى يستأنسوا ويسلموا على أهلها والاستئناس هنا : الاستئذان وهي في قراءة بعض السلف كذلك ثم رفع عنهم الجناح في دخول البيوت غير المسكونة لأخذ متاعهم فدل ذلك على جواز الدخول إلى بيت غيره وأرضه غير المسكونة لأخذ حقه من الماء والكلأ فهذا ظاهر القرآن وهو مقتضى نص أحمد وبالله التوفيق .



[ يجوز بيع البئر والعين ومشتريها أحق بمائها ]
[شراء عثمان بئر رومة ]

فإن قيل فما تقولون في بيع البئر والعين نفسها : هل يجوز ؟ قال الإمام أحمد : إنما نهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره ويجوز بيع البئر نفسها والعين ومشتريها أحق بمائها وهذا الذي قاله الإمام أحمد هو الذي دلت عليه السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله الجنة أو كما قال فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسبلها للمسلمين وكان اليهودي يبيع ماءها . وفي الحديث أن عثمان رضي الله عنه اشترى منه نصفها باثني عشر ألفا ثم قال لليهودي اختر إما أن تأخذها يوما وآخذها يوما وإما أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا فاختار يوما ويوما فكان الناس يستقون منها في يوم عثمان لليومين فقال اليهودي أفسدت علي بئري فاشتر باقيها فاشتراه بثمانية آلاف فكان في هذا حجة على صحة بيع البئر وجواز شرائها وتسبيلها وصحة بيع ما يسقى منها وجواز قسمة الماء بالمهايأة وعلى كون المالك أحق بمائها وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك .

[ كان إقرار اليهودي على بيع الماء في أول الإسلام ]

فإن قيل فإذا كان الماء عندكم لا يملك ولكل واحد أن يستقي منه حاجته فكيف أمكن اليهودي تحجره حتى اشترى عثمان البئر وسبلها فإن قلتم اشترى نفس البئر وكانت مملوكة ودخل الماء تبعا أشكل عليكم من وجه آخر وهو أنكم قررتم أنه يجوز للرجل دخول أرض غيره لأخذ الكلأ والماء وقضية بئر اليهودي تدل على أحد أمرين ولا بد إما ملك الماء بملك قراره وإما على أنه لا يجوز دخول الأرض لأخذ ما فيها من المباح إلا بإذن مالكها .

قيل هذا سؤال قوي وقد يتمسك به من ذهب إلى واحد من هذين المذهبين ومن منع الأمرين يجيب عنه بأن هذا كان في أول الإسلام وحين قدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل تقرر الأحكام وكان اليهود إذ ذاك لهم شوكة بالمدينة ولم تكن أحكام الإسلام جارية عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم صالحهم وأقرهم على ما بأيديهم ولم يتعرض له ثم استقرت الأحكام وزالت شوكة اليهود لعنهم الله وجرت عليهم أحكام الشريعة وسياق قصة هذه البئر ظاهر في أنها كانت حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في أول الأمر .


افتراضي

فصل [ هل يملك ماء البرك والمصانع ] ؟
وأما المياه الجارية فما كان نابعا من غير ملك كالأنهار الكبار وغير ذلك لم يملك بحال ولو دخل إلى أرض رجل لم يملكه بذلك وهو كالطير يدخل إلى أرضه فلا يملك بذلك ولكل واحد أخذه وصيده فإن جعل له في أرضه مصنعا أو بركة يجتمع فيها ثم يخرج منها فهو كنقع البئر سواء وفيه من النزاع ما فيه وإن كان لا يخرج منها فهو أحق به للشرب والسقي وما فضل عنه فحكمه حكم ما تقدم .

وقال الشيخ في " المغني " : وإن كان ماء يسير في البركة لا يخرج منها فالأولى أنه يملكه بذلك على ما سنذكره في مياه الأمطار .

ثم قال فأما المصانع المتخذة لمياه الأمطار تجتمع فيها ونحوها من البرك وغيرها فالأولى أن يملك ماؤها ويصح بيعه إذا كان معلوما لأنه مباح حصله في شيء معد له فلا يجوز أخذ شيء منه إلا بإذن مالكه .

وفي هذا نظر مذهبا ودليلا أما المذهب فإن أحمد قال إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره ومعلوم أن ماء البئر لا يفارقها فهو كالبركة التي اتخذت مقرا كالبئر سواء ولا فرق بينهما وقد تقدم من نصوص أحمد ما يدل على المنع من بيع هذا وأما الدليل فما تقدم من النصوص التي سقناها وقوله في الحديث الذي رواه البخاري في وعيد الثلاثة والرجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل ولم يفرق بين أن يكون ذلك الفضل في أرضه المختصة به أو في الأرض المباحة وقوله الناس شركاء في ثلاث ولم يشترط في هذه الشركة كون مقره مشتركا وقوله وقد سئل ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ فقال الماء ولم يشترط كون مقره مباحا فهذا مقتضى الدليل في هذه المسألة أثرا ونظرا .



ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع الرجل من بيع ما ليس عنده
في " السنن " و " المسند " من حديث حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال لا تبع ما ليس عندك قال الترمذي : حديث حسن .

وفي " السنن " نحوه من حديث ابن عمرو رضي الله عنه ولفظه لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

فاتفق لفظ الحديثين على نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده فهذا هو المحفوظ من لفظه صلى الله عليه وسلم وهو يتضمن نوعا من الغرر فإنه إذا باعه شيئا معينا وليس في ملكه ثم مضى ليشتريه أو يسلمه له كان مترددا بين الحصول وعدمه فكان غررا يشبه القمار فنهي عنه .

وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهى عنه لكونه معدوما فقال لا يصح بيع المعدوم وروى في ذلك حديثا أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعدوم وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث ولا له أصل والظاهر أنه مروي بالمعنى من هذا الحديث وغلط من ظن أن معناهما واحد وأن هذا المنهي عنه في حديث حكيم وابن عمرو رضي الله عنه لا يلزم أن يكون معدوما وإن كان فهو معدوم خاص فهو كبيع حبل الحبلة وهو معدوم يتضمن غررا وترددا في حصوله .




[ أقسام المعدوم ]
[ أولها بيع السلم ]

والمعدوم ثلاثة أقسام معدوم موصوف في الذمة فهذا يجوز بيعه اتفاقا وإن كان أبو حنيفة شرط في هذا النوع أن يكون وقت العقد في الوجود من حيث الجملة وهذا هو السلم وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .

[ ثانيها بيع الثمار بعد بدو صلاحها ]

والثاني : معدوم تبع للموجود وإن كان أكثر منه وهو نوعان نوع متفق عليه ونوع مختلف فيه فالمتفق عليه بيع الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها فاتفق الناس على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاح واحدة منه وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومة وقت العقد ولكن جاز بيعها تبعا للموجود وقد يكون المعدوم متصلا بالموجود وقد يكون أعيانا أخر منفصلة عن الوجود لم تخلق بعد .

[ الاختلاف في بيع المقاثئ والمباطخ إذا طابت ]

والنوع المختلف فيه كبيع المقاثئ والمباطخ إذا طابت فهذا فيه قولان أحدهما : أنه يجوز بيعها جملة ويأخذها المشتري شيئا بعد شيء كما جرت به العادة ويجري مجرى بيع الثمرة بعد بدو صلاحها وهذا هو الصحيح من القولين الذي استقر عليه عمل الأمة ولا غنى لهم عنه ولم يأت بالمنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا أثر ولا قياس صحيح وهو مذهب مالك وأهل المدينة وأحد القولين في مذهب أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .

والذين قالوا : لا يباع إلا لقطة لقطة لا ينضبط قولهم شرعا ولا عرفا ويتعذر العمل به غالبا وإن أمكن ففي غاية العسر ويؤدي إلى التنازع والاختلاف الشديد فإن المشتري يريد أخذ الصغار والكبار ولا سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع لا يؤثر ذلك وليس في ذلك عرف منضبط وقد تكون المقثأة كثيرة فلا يستوعب المشتري اللقطة الظاهرة حتى يحدث فيها لقطة أخرى ويختلط المبيع بغيره ويتعذر تمييزه ويتعذر أو يتعسر على صاحب المقثأة أن يحضر لها كل وقت من يشتري ما تجدد فيها ويفرده بعقد وما كان هكذا فإن الشريعة لا تأتي به فهذا غير مقدور ولا مشروع ولو ألزم الناس به لفسدت أموالهم وتعطلت مصالحهم ثم إنه يتضمن التفريق بين متماثلين من كل الوجوه فإن بدو الصلاح في المقاثئ بمنزلة بدو الصلاح في الثمار وتلاحق أجزائها كتلاحق أجزاء الثمار وجعل ما لم يخلق منها تبعا لما خلق في الصورتين واحد فالتفريق بينهما تفريق بين متماثلين .

ولما رأى هؤلاء ما في بيعها لقطة لقطة من الفساد والتعذر قالوا : طريق رفع ذلك بأن يبيع أصلها معها ويقال إذا كان بيعها جملة مفسدة عندكم وهو بيع معدوم وغرر فإن هذا لا يرتفع ببيع العروق التي لا قيمة لها وإن كان لها قيمة فيسيرة جدا بالنسبة إلى الثمن المبذول وليس للمشتري قصد في العروق ولا يدفع فيها الجملة من المال وما الذي حصل ببيع العروق معها من المصلحة لهما حتى شرط وإذا لم يكن بيع أصول الثمار شرطا في صحة بيع الثمرة المتلاحقة كالتين والتوت وهي مقصودة فكيف يكون بيع أصول المقاثئ شرطا في صحة بيعها وهي غير مقصودة والمقصود أن هذا المعدوم يجوز بيعه تبعا للموجود ولا تأثير للمعدوم وهذا كالمنافع المعقود عليها في الإجارة فإنها معدومة وهي مورد العقد لأنها لا يمكن أن تحدث دفعة واحدة والشرائع مبناها على رعاية مصالح العباد وعدم الحجر عليهم فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به .



فصل [ الثالث من أقسام المعدوم التفريق بين هذا وبين السلم ]
الثالث معدوم لا يدرى يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدوما بل لكونه غررا فمنه صورة النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيها بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه وكذلك بيع حبل الحبلة - وهو بيع حمل ما تحمل ناقته - ولا يختص هذا النهي بحمل الحمل بل لو باعه ما تحمل ناقته أو بقرته أو أمته كان من بيوع الجاهلية التي يعتادونها وقد ظن طائفة أن بيع السلم مخصوص من النهي عن بيع ما ليس عنده وليس هو كما ظنوه فإن السلم يرد على أمر مضمون في الذمة ثابت فيها مقدور على تسليمه عند محله ولا غرر في ذلك ولا خطر بل هو جعل المال في ذمة المسلم إليه يجب عليه أداؤه عند محله فهو يشبه تأجيل الثمن في ذمة المشتري فهذا شغل لذمة المشتري بالثمن المضمون وهذا شغل لذمة البائع بالمبيع المضمون فهذا لون وبيع ما ليس عنده لون ورأيت لشيخنا في هذا الحديث فصلا مفيدا وهذه سياقته .



[ كلام لابن تيمية عن حديث النهي عن بيع ما ليس عندك ]
قال للناس في هذا الحديث أقوال قيل المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي مال الغير فيبيعها ثم يتملكها ويسلمها إلى المشتري والمعنى : لا تبع ما ليس عندك من الأعيان ونقل هذا التفسير عن الشافعي فإنه يجوز السلم الحال وقد لا يكون عند المسلم إليه ما باعه فحمله على بيع الأعيان ليكون بيع ما في الذمة غير داخل تحته سواء كان حالا أو مؤجلا .

وقال آخرون هذا ضعيف جدا فإن حكيم بن حزام ما كان يبيع شيئا معينا هو ملك لغيره ثم ينطلق فيشتريه منه ولا كان الذين يأتونه يقولون نطلب عبد فلان ولا دار فلان وإنما الذي يفعله الناس أن يأتيه الطالب فيقول أريد طعاما كذا وكذا أو ثوبا كذا وكذا أو غير ذلك فيقول نعم أعطيك فيبيعه منه ثم يذهب فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده هذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس ولهذا قال " يأتيني فيطلب مني المبيع ليس عندي " لم يقل يطلب مني ما هو مملوك لغيري فالطالب طلب الجنس لم يطلب شيئا معينا كما جرت به عادة الطالب لما يؤكل ويلبس ويركب إنما يطلب جنس ذلك ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه مما هو مثله أو خير منه ولهذا صار الإمام أحمد وطائفة إلى القول الثاني فقالوا : الحديث على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن عنده لكن جاءت الأحاديث بجواز السلم المؤجل فبقي هذا في السلم الحال .

والقول الثالث - وهو أظهر الأقوال - إن الحديث لم يرد به النهي عن السلم المؤجل ولا الحال مطلقا وإنما أريد به أن يبيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكا له ولا يقدر على تسليمه ويربح فيه قبل أن يملكه ويضمنه ويقدر على تسليمه فهو نهي عن السلم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه فيلزم ذمته بشيء حال ويربح فيه وليس هو قادرا على إعطائه وإذا ذهب يشتريه فقد يحصل وقد لا يحصل فهو من نوع الغرر والمخاطرة وإذا كان السلم حالا وجب عليه تسليمه في الحال وليس بقادر على ذلك ويربح فيه على أن يملكه ويضمنه وربما أحاله على الذي ابتاع منه فلا يكون قد عمل شيئا بل أكل المال بالباطل وعلى هذا فإذا كان السلم الحال والمسلم إليه قادرا على الإعطاء فهو جائز وهو كما قال الشافعي إذا جاز المؤجل فالحال أولى بالجواز .

ومما يبين أن هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم لكن إذا لم يجز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة فإنما سأله عن بيعه حالا فإنه قال أبيعه ثم أذهب فأبتاعه فقال له لا تبع ما ليس عندك فلو كان السلف الحال لا يجوز مطلقا لقال له ابتداء لا تبع هذا سواء كان عنده أو ليس عنده فإن صاحب هذا القول يقول بيع ما في الذمة حالا لا يجوز ولو كان عنده ما يسلمه بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا معينا لا يبيع شيئا في الذمة فلما لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مطلقا بل قال لا تبع ما ليس عندك علم أنه صلى الله عليه وسلم فرق بين ما هو عنده ويملكه ويقدر على تسليمه وما ليس كذلك وإن كان كلاهما في الذمة .

ومن تدبر هذا تبين له أن القول الثالث هو الصواب فإن قيل إن بيع المؤجل جائز للضرورة وهو بيع المفاليس لأن البائع احتاج أن يبيع إلى أجل وليس عنده ما يبيعه الآن فأما الحال فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه فلا حاجة إلى بيع موصوف في الذمة أو بيع عين غائبة موصوفة لا يبيع شيئا مطلقا ؟ . قيل لا نسلم أن السلم على خلاف الأصل بل تأجيل المبيع كتأجيل الثمن كلاهما من مصالح العالم .



[ الاختلاف في مبيع الغائب ]
والناس لهم في مبيع الغائب ثلاثة أقوال منهم من يجوزه مطلقا ولا يجوزه معينا موصوفا كالشافعي في المشهور عنه ومنهم من يجوزه معينا موصوفا ولا يجوزه مطلقا كأحمد وأبي حنيفة والأظهر جواز هذا وهذا ويقال للشافعي مثل ما قال هو لغيره إذا جاز بيع المطلق الموصوف في الذمة فالمعين الموصوف أولى بالجواز فإن المطلق فيه من الغرر والخطر والجهل أكثر مما في المعين فإذا جاز بيع حنطة مطلقة بالصفة فجواز بيعها معينة بالصفة أولى بل لو جاز بيع المعين بالصفة فللمشتري الخيار إذا رآه جاز أيضا كما نقل عن الصحابة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وقد جوز القاضي وغيره من أصحاب أحمد السلم الحال بلفظ البيع .



[ بيع السلف ]
والتحقيق أنه لا فرق بين لفظ ولفظ فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها ونفس بيع الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضها يسمى سلفا إذا عجل له الثمن كما في " المسند " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يسلم في الحائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه فإذا بدا صلاحه وقال أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز كما يجوز أن يقول ابتعت عشرة أوسق من هذه الصبرة ولكن الثمن يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه فإذا عجل له الثمن قيل له سلف لأن السلف هو الذي تقدم والسالف المتقدم قال الله تعالى : فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ الزخرف 56 ] .

والعرب تسمي أول الرواحل السالفة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون . وقول الصديق رضي الله عنه لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي . وهي العنق .

722 - ولفظ السلف يتناول القرض والسلم لأن المقرض أيضا أسلف القرض أي قدمه ومنه هذا الحديث لا يحل سلف وبيع .

ومنه الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف بكرا وقضى جملا رباعيا والذي يبيع ما ليس عنده لا يقصد إلا الربح وهو تاجر فيستلف بسعر ثم يذهب فيشتري بمثل ذلك الثمن فإنه يكون قد أتعب نفسه لغيره بلا فائدة وإنما يفعل هذا من يتوكل لغيره فيقول أعطني فأنا أشتري لك هذه السلعة فيكون أمينا أما أنه يبيعها بثمن معين يقبضه ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثمن من غير فائدة في الحال فهذا لا يفعله عاقل نعم إذا كان هناك تاجر فقد يكون محتاجا إلى الثمن فيستسلفه وينتفع به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة فهذا يقع في السلم المؤجل وهو الذي يسمى بيع المفاليس فإنه يكون محتاجا إلى الثمن وهو مفلس وليس عنده في الحال ما يبيعه ولكن له ما ينتظره من مغل أو غيره فيبيعه في الذمة فهذا يفعل مع الحاجة ولا يفعل بدونها إلا أن يقصد أن يتجر بالثمن في الحال أو يرى أنه يحصل به من الربح أكثر مما يفوت بالسلم فإن المستسلف يبيع السلعة في الحال بدون ما تساوي نقدا والمسلف يرى أن يشتريها إلى أجل بأرخص مما يكون عند حصولها وإلا فلو علم أنها عند طرد الأصل تباع بمثل رأس مال السلم لم يسلم فيها فيذهب نفع ماله بلا فائدة وإذا قصد الأجر أقرضه ذلك قرضا ولا يجعل ذلك سلما إلا إذا ظن أنه في الحال أرخص منه وقت حلول الأجل فالسلم المؤجل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلف إلى الثمن وأما الحال فإن كان عنده فقد يكون محتاجا إلى الثمن فيبيع ما عنده معينا تارة وموصوفا أخرى وأما إذا لم يكن عنده فإنه لا يفعله إلا إذا قصد التجارة والربح فيبيعه بسعر ويشتريه بأرخص منه .

ثم هذا الذي قدره قد يحصل كما قدره وقد لا يحصل له تلك السلعة التي يسلف فيها إلا بثمن أغلى مما أسلف فيندم وإن حصلت بسعر أرخص من ذلك قدم السلف إذ كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الثمن فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة كبيع العبد الآبق والبعير الشارد يباع بدون ثمنه فإن حصل ندم البائع وإن لم يحصل ندم المشتري وكذلك بيع حبل الحبلة وبيع الملاقيح والمضامين ونحو ذلك مما قد يحصل وقد لا يحصل فبائع ما ليس عنده من جنس بائع الغرر الذي قد يحصل وقد لا يحصل وهو من جنس القمار والميسر .

والمخاطرة مخاطرتان مخاطرة التجارة وهو أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على الله في ذلك والخطر
الثاني : الميسر الذي يتضمن أكل المال بالباطل فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله مثل بيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين وبيع الثمار قبل بدو صلاحها ومن هذا النوع يكون أحدهما قد قمر الآخر وظلمه ويتظلم أحدهما من الآخر بخلاف التاجر الذي قد اشترى السلعة ثم بعد هذا نقص سعرها فهذا من الله سبحانه ليس لأحد فيه حيلة ولا يتظلم مثل هذا من البائع وبيع ما ليس عنده من قسم القمار والميسر لأنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما ليس عنده والمشتري لا يعلم أنه يبيعه ثم يشتري من غيره وأكثر الناس لو علموا ذلك لم يشتروا منه بل يذهبون ويشترون من حيث اشترى هو وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم فإذا اشترى التاجر السلعة وصارت عنده ملكا وقبضا فحينئذ دخل في خطر التجارة وباع بيع التجارة كما أحله الله بقوله لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء 29 ] والله أعلم .



ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحصاة والغرر والملامسة والمنابذة
في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر

وفي " الصحيحين " عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة زاد مسلم أما الملامسة فأن يلمس كل منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه الآخر .

وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين ولبستين نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع .
والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض .




[ بيع الحصاة ]
أما بيع الحصاة فهو من باب إضافة المصدر إلى نوعه كبيع الخيار وبيع النسيئة ونحوهما وليس من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الميتة والدم .

والبيوع المنهي عنها ترجع إلى هذين القسمين ولهذا فسر بيع الحصاة بأن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم وفسر بأن بيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة وفسر بأن يقبض على كف من حصا ويقول لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من الحصا ويقول لي بكل حصاة درهم وفسر بأن يمسك أحدهما حصاة في يده ويقول أي وقت سقطت الحصاة وجب البيع وفسر بأن يتبايعا ويقول أحدهما : إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع وفسر بأن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول أي شاة أصبتها فهي لك بكذا وهذه الصور كلها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال بالباطل ومن الغرر والخطر الذي هو شبيه بالقمار .

فصل [ بيع الغرر ]
وأما بيع الغرر فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح والمضامين والغرر هو المبيع نفسه وهو فعل بمعنى مفعول أي مغرور به كالقبض والسلب بمعنى المقبوض والمسلوب وهذا كبيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه والفرس الشارد والطير في الهواء وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته أو ما يرضى له به زيد أو يهبه له أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه أو لا يعرف حقيقته ومقداره ومنه بيع حبل الحبلة كما ثبت في " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وهو نتاج النتاج في أحد الأقوال والثاني : أنه أجل فكانوا يتبايعون إليه هكذا رواه مسلم وكلاهما غرر والثالث أنه بيع حمل الكرم قبل أن يبلغ قاله المبرد .

قال والحبلة الكرم بسكون الباء وفتحها وأما ابن عمر رضي الله عنه فإنه فسره بأنه أجل كانوا يتبايعون إليه وإليه ذهب مالك والشافعي وأما أبو عبيدة ففسره ببيع نتاج النتاج وإليه ذهب أحمد ومنه بيع الملاقيح والمضامين كما ثبت في حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المضامين والملاقيح . قال أبو عبيد الملاقيح ما في البطون من الأجنة والمضامين ما في أصلاب الفحول وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضربه الفحل في عام أو أعوام وأنشد

إن المضامين التي في الصلب

ماء الفحول في الظهور الحدب


ومنه بيع المجر فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه . قال ابن الأعرابي المجر ما في بطن الناقة والمجر الربا والمجر القمار والمجر المحاقلة والمزابنة .




[ بيع الملامسة والمنابذة ]
ومنه بيع الملامسة والمنابذة وقد جاء تفسيرهما في نفس الحديث ففي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه نهى عن بيعتين الملامسة والمنابذة أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه هذا لفظ مسلم .

وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين ولبستين في البيع والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض

وفسرت الملامسة بأن يقول بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا والمنابذة بأن يقول أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا وهذا أيضا نوع من الملامسة والمنابذة وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله والغرر في ذلك ظاهر وليس العلة تعليق البيع شرط بل ما تضمنه من الخطر والغرر .




فصل [ بيع المغيبات ]
وليس من بيع الغرر بيع المغيبات في الأرض كاللفت والجزر والفجل والقلقاس والبصل ونحوها فإنها معلومة بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها وظاهرها عنوان باطنها فهو كظاهر الصبرة مع باطنها ولو قدر أن في ذلك غررا فهو غرر يسير يغتفر في جنب المصلحة العامة التي لا بد للناس منها فإن ذلك غرر لا يكون موجبا للمنع فإن إجارة الحيوان والدار والحانوت مساناة لا تخلو عن غرر لأنه يعرض فيه موت الحيوان وانهدام الدار وكذا دخول الحمام وكذا الشرب من فم السقاء فإنه غير مقدر مع اختلاف الناس في قدره وكذا بيوع السلم وكذا بيع الصبرة العظيمة التي لا يعلم مكيلها وكذا بيع البيض والرمان والبطيخ والجوز واللوز والفستق وأمثال ذلك مما لا يخلو من الغرر فليس كل غرر سببا للتحريم والغرر إذا كان يسيرا أو لا يمكن الاحتراز منه لم يكن مانعا من صحة العقد فإن الغرر الحاصل في أساسات الجدران وداخل بطون الحيوان أو آخر الثمار التي بدا صلاح بعضها دون بعض لا يمكن الاحتراز منه والغرر الذي في دخول الحمام والشرب من السقاء ونحوه غرر يسير فهذان النوعان لا يمنعان البيع بخلاف الغرر الكثير الذي يمكن الاحتراز منه وهو المذكور في الأنواع التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان مساويا لها لا فرق بينها وبينه فهذا هو المانع من صحة العقد .

فإذا عرف هذا فبيع المغيبات في الأرض انتفى عنه الأمران فإن غرره يسير ولا يمكن الاحتراز منه فإن الحقول الكبار لا يمكن بيع ما فيها من ذلك إلا وهو في الأرض فلو شرط لبيعه إخراجه دفعة واحدة كان في ذلك من المشقة وفساد الأموال ما لا يأتي به شرع وإن منع بيعه إلا شيئا فشيئا كلما أخرج شيئا باعه ففي ذلك من الحرج والمشقة وتعطيل مصالح أرباب تلك الأموال ومصالح المشتري ما لا يخفى وذلك مما لا يوجبه الشارع ولا تقوم مصالح الناس بذلك البتة حتى إن الذين يمنعون من بيعها في الأرض إذا كان لأحدهم خراج كذلك أو كان ناظرا عليه لم يجد بدا من بيعه في الأرض اضطرارا إلى ذلك وبالجملة فليس هذا من الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نظيرا لما نهى عنه من البيوع .




فصل [ بيع المسك في فأرته ]
وليس منه بيع المسك في فأرته بل هو نظير ما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز والفستق وجوز الهند فإن فأرته وعاء له تصونه من الآفات وتحفظ عليه رطوبته ورائحته وبقاؤه فيها أقرب إلى صيانته من الغش والتغير والمسك الذي في الفأرة عند الناس خير من المنفوض وجرت عادة التجار ببيعه وشرائه فيها ويعرفون قدره وجنسه معرفة لا تكاد تختلف فليس من الغرر في شيء فإن الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات وعلى القاعدة الأخرى : هو ما طويت معرفته وجهلت عينه وأما هذا ونحوه فلا يسمى غررا لا لغة ولا شرعا ولا عرفا ومن حرم بيع شيء وادعى أنه غرر طولب بدخوله في مسمى الغرر لغة وشرعا وجواز بيع المسك في الفأرة أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهو الراجح دليلا والذين منعوه جعلوه مثل بيع النوى في التمر والبيض في الدجاج واللبن في الضرع والسمن في الوعاء والفرق بين النوعين ظاهر .

ومنازعوهم يجعلونه مثل بيع قلب الجوز واللوز والفستق في صوانه لأنه من مصلحته ولا ريب أنه أشبه بهذا منه بالأول فلا هو مما نهى عنه الشارع ولا في معناه فلم يشمله نهيه لفظا ولامعنى .



[ بيع السمن في الوعاء ]
وأما بيع السمن في الوعاء ففيه تفصيل فإنه إن فتحه ورأى رأسه بحيث يدله على جنسه ووصفه جاز بيعه في السقاء لكنه يصير كبيع الصبرة التي شاهد ظاهرها وإن لم يره ولم يوصف له لم يجز بيعه لأنه غرر فإنه يختلف جنسا ونوعا ووصفا وليس مخلوقا في وعائه كالبيض والجوز واللوز والمسك في أوعيتها فلا يصح إلحاقه بها .

[ بيع اللبن في الضرع ]
وأما بيع اللبن في الضرع فمنعه أصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة والذي يجب فيه التفصيل فإن باع الموجود المشاهد في الضرع فهذا لا يجوز مفردا ويجوز تبعا للحيوان لأنه إذا بيع مفردا تعذر تسليم المبيع بعينه لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع فإنه وإن كان مشاهدا كاللبن في الظرف لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع فاختلط المبيع بغيره على وجه لا يتميز وإن صح الحديث الذي رواه الطبراني في " معجمه " من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع فهذا إن شاء الله محمله وأما إن باعه آصعا معلومة من اللبن يأخذه من هذه الشاة أو باعه لبنها أياما معلومة فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بدو صلاحها لا يجوز وأما إن باعه لبنا مطلقا موصوفا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة فقال شيخنا : هذا جائز واحتج بما في " المسند " من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه قال فإذا بدا صلاحه وقال أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز كما يجوز أن يقول ابتعت منك عشرة أوسق من هذه الصبرة ولكن الثمن يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه هذا لفظه .




فصل [ إجارة الحلوبة مدة معلومة لأخذ لبنها ]
وأما إن أجره الشاة أو البقرة أو الناقة مدة معلومة لأخذ لبنها في تلك المدة فهذا لا يجوزه الجمهور واختار شيخنا جوازه وحكاه قولا لبعض أهل العلم وله فيها مصنف مفرد قال إذا استأجر غنما أو بقرا أو نوقا أيام اللبن بأجرة مسماة وعلفها على المالك أو بأجرة مسماة مع علفها على أن يأخذ اللبن جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظئر
قال وهذا يشبه البيع ويشبه الإجارة ولهذا يذكره بعض الفقهاء في البيع وبعضهم في الإجارة لكن إذا كان اللبن يحصل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم فإنه يشبه استئجار الشجر وإن كان المالك هو الذي يعلفها وإنما يأخذ المشتري لبنا مقدرا فهذا بيع محض وإن كان يأخذ اللبن مطلقا فهو بيع أيضا فإن صاحب اللبن يوفيه اللبن بخلاف الظئر فإنما هي تسقي الطفل وليس هذا داخلا فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر لأن الغرر تردد بين الوجود والعدم فنهى عن بيعه لأنه من جنس القمار الذي هو الميسر والله حرم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل وذلك من الظلم الذي حرمه الله تعالى وهذا إنما يكون قمارا إذا كان أحد المتعاوضين يحصل له مال والآخر قد يحصل له وقد لا يحصل فهذا الذي لا يجوز كما في بيع العبد الآبق والبعير الشارد وبيع حبل الحبلة فإن البائع يأخذ مال المشتري والمشتري قد يحصل له شيء وقد لا يحصل ولا يعرف قدر الحاصل فأما إذا كان شيئا معروفا بالعادة كمنافع الأعيان بالإجارة مثل منفعة الأرض والدابة ومثل لبن الظئر المعتاد ولبن البهائم المعتاد ومثل الثمر والزرع المعتاد فهذا كله من باب واحد وهو جائز .

ثم إن حصل على الوجه المعتاد وإلا حط عن المستأجر بقدر ما فات من المنفعة المقصودة وهو مثل وضع الجائحة في البيع ومثل ما إذا تلف بعض المبيع قبل التمكن من القبض في سائر البيوع .

[ إيراد على جواز هذه الإجارة ]

فإن قيل مورد عقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان ولهذا لا يصح استئجار الطعام ليأكله والماء ليشربه وأما إجارة الظئر فعلى المنفعة وهي وضع الطفل في حجرها وإلقامه ثديها واللبن يدخل ضمنا وتبعا فهو كنقع البئر في إجارة الدار ويغتفر فيما دخل ضمنا وتبعا ما لا يغتفر في الأصول والمتبوعات .

[ الجواب عن هذا الإيراد ]

قيل الجواب عن هذا من وجوه .



[ ثبوت ورود الإجارة على الأعيان ]
أحدها : منع كون عقد الإجارة لا يرد إلا على منفعة فإن هذا ليس ثابتا بالكتاب ولا بالسنة ولا بالإجماع بل الثابت عن الصحابة خلافه كما صح عن عمر رضي الله عنه أنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وأخذ الأجرة فقضى بها دينه والحديقة هي النخل فهذه إجارة الشجر لأخذ ثمرها وهو مذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا يعلم له في الصحابة مخالف واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب أحمد واختيار شيخنا فقولكم إن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منفعة غير مسلم ولا ثابت بالدليل وغاية ما معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للأكل والماء للشرب وهذا من أفسد القياس فإن الخبز تذهب عينه ولا يستخلف مثله بخلاف اللبن ونقع البئر فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئا فشيئا كان بمنزلة المنافع .

[ الثمر يجري مجرى المنافع ]

يوضحه الوجه الثاني : وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوها فيجوز أن يقف الشجرة لينتفع أهل الوقف بثمراتها كما يقف الأرض لينتفع أهل الوقف بغلتها ويجوز إعارة الشجرة كما يجوز إعارة الظهر وعارية الدار ومنيحة اللبن وهذا كله تبرع بنماء المال وفائدته فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه فهو بمنزلة من دفع دابته إلى من يركبها وبمنزلة من دفع شجرة إلى من يستثمرها وبمنزلة من دفع أرضه إلى من يزرعها وبمنزلة من دفع شاته إلى من يشرب لبنها فهذه الفوائد تدخل في عقود التبرع سواء كان الأصل محبسا بالوقف أو غير محبس . ويدخل أيضا في عقود المشاركات فإنه إذا دفع شاة أو بقرة أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها صح على أصح الروايتين عن أحمد فكذلك يدخل في العقود للإجارات .

[ المرتبة الوسطى بين المنافع والأعيان ]

يوضحه الوجه الثالث وهو أن الأعيان نوعان نوع لا يستخلف شيئا فشيئا بل إذا ذهب ذهب جملة ونوع يستخلف شيئا فشيئا كلما ذهب منه شيء خلفه شيء مثله فهذا رتبة وسطى بين المنافع وبين الأعيان التي لا تستخلف فينبغي أن ينظر في شبهه بأي النوعين فيلحق به ومعلوم أن شبهه بالمنافع أقوى فإلحاقه بها أولى .

[ نص القرآن على إجازة الظئر ]
يوضحه الوجه الرابع وهو أن الله سبحانه نص في كتابه على إجارة الظئر وسمى ما تأخذه أجرا وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله تعالى : فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف [ الطلاق 6 ] .

قال شيخنا : وإنما ظن الظان أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة وليس الأمر كذلك بل الإجارة تكون على كل ما يستوفى مع بقاء أصله سواء كان عينا أو منفعة كما أن هذه العين هي التي توقف وتعار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعير بلا عوض يستوفيه المستأجر وبالعوض فلما كان لبن الظئر مستوفى مع بقاء الأصل جازت الإجارة عليه كما جازت على المنفعة وهذا محض القياس فإن هذه الأعيان يحدثها الله شيئا بعد شيء وأصلها باق كما يحدث الله المنافع شيئا بعد شيء وأصلها باق .



[ الأصل في العقود وجوب الوفاء ]

ويوضحه الوجه الخامس وهو أن الأصل في العقود وجوب الوفاء إلا ما حرمه الله ورسوله فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا فلا يحرم من الشروط والعقود إلا ما حرمه الله ورسوله وليس مع المانعين نص بالتحريم البتة وإنما معهم قياس قد علم أن بين الأصل والفرع فيه من الفرق ما يمنع الإلحاق وأن القياس الذي مع من أجاز ذلك أقرب إلى مساواة الفرع لأصله وهذا ما لا حيلة فيه وبالله التوفيق .

[ ما تمحله المانعون لعلة جواز إجارة الظئر ]

يوضحه الوجه السادس وهو أن الذين منعوا هذه الإجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتة بالنص والإجماع والمقصود بالعقد إنما هو اللبن وهو عين تمحلوا لجوازها أمرا يعلمون هم والمرضعة والمستأجر بطلانه فقالوا : العقد إنما وقع على وضعها الطفل في حجرها وإلقامه ثديها فقط واللبن يدخل تبعا والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصودا أصلا ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفا ولا حقيقة ولا شرعا ولو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها أو في مهده لاستحقت الأجرة ولو كان المقصود إلقام الثدي المجرد لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي ولو لم يكن لها لبن فهذا هو القياس الفاسد حقا والفقه البارد فكيف يقال إن إجارة الظئر على خلاف القياس ويدعى أن هذا هو القياس الصحيح .

[ ندبه صلى الله عليه وسلم إلى منيحة الغنم للبنها ]

الوجه السابع أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى منيحة العنز والشاة للبنها وحض على ذلك وذكر ثواب فاعله ومعلوم أن هذا ليس ببيع ولا هبة فإن هبة المعدوم المجهول لا تصح وإنما هو عارية الشاة للانتفاع بلبنها كما يعيره الدابة لركوبها فهذا إباحة للانتفاع بدرها وكلاهما في الشرع واحد وما جاز أن يستوفى بالعارية جاز أن يستوفى بالإجارة فإن موردهما واحد وإنما يختلفان في التبرع بهذا والمعاوضة على الآخر .



[ إجارة الشجر لأخذ ثمرها ]
والوجه الثامن ما رواه حرب الكرماني في " مسائله " : حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عباد بن عباد عن هشام بن عروة عن أبيه أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه " غرماءه فقبلهم أرضه سنتين " وفيها الشجر والنخل وحدائق المدينة الغالب عليها النخل والأرض البيضاء فيها قليل فهذا إجارة الشجر لأخذ ثمرها ومن ادعى أن ذلك خلاف الإجماع فمن عدم علمه بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب فإن عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد المهاجرين والأنصار وهي قصة في مظنة الاشتهار ولم يقابلها أحد بالإنكار بل تلقاها الصحابة بالتسليم والإقرار وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر رضي الله عنه كما أنكر عليه عمران بن حصين وغيره شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه الواقعة وسنبين إن شاء الله تعالى أنها محض القياس وأن المانعين منها لا بد لهم منها وأنهم يتحيلون عليها بحيل لا تجوز .

[ تشابه إجارة الأرض بإجارة الحيوان ]

الوجه التاسع أن المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو عين من الأعيان وهو المغل الذي يستغله المستأجر وليس له مقصود في منفعة الأرض غير ذلك وإن كان له قصد جرى في الانتفاع بغير الزرع فذلك تبع .

فإن قيل المعقود عليه هو منفعة شق الأرض وبذرها وفلاحتها والعين تتولد من هذه المنفعة كما لو استأجر لحفر بئر فخرج منها الماء فالمعقود عليه هو نفس العمل لا الماء .

قيل مستأجر الأرض ليس له مقصود في غير المغل والعمل وسيلة مقصودة لغيرها ليس له فيه منفعة بل هو تعب ومشقة وإنما مقصوده ما يحدثه الله من الحب بسقيه وعمله وهكذا مستأجر الشاة للبنها سواء مقصوده ما يحدثه الله من لبنها بعلفها وحفظها والقيام عليها فلا فرق بينهما البتة إلا ما لا تناط به الأحكام من الفروق الملغاة وتنظيركم بالاستئجار لحفر البئر تنظير فاسد بل نظير حفر البئر أن يستأجر أكارا لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها ولا ريب أن تنظير إجارة الحيوان للبنه بإجارة الأرض لمغلها هو محض القياس وهو كما تقدم أصح من التنظير بإجارة الخبز للأكل .

[ الغرر في إجارة الأرض أعظم منه في إجارة الحيوان ]

يوضحه الوجه العاشر وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مغلها أعظم بكثير من الغرر الذي في إجارة الحيوان للبنه فإن الآفات والموانع التي تعرض للزرع أكثر من آفات اللبن فإذا اغتفر ذلك في إجارة الأرض فلأن يغتفر في إجارة الحيوان للبنه أولى وأحرى .



فصل [ الاختلاف في العقد على اللبن في الضرع ]
فالأقوال في العقد على اللبن في الضرع ثلاثة .

أحدها : منعه بيعا وإجارة وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة .

والثاني : جوازه بيعا وإجارة .

والثالث جوازه إجارة لا بيعا وهو اختيار شيخنا رحمه الله .

وفي المنع من بيع اللبن في الضرع حديثان أحدهما حديث عمر بن فروخ وهو ضعيف عن حبيب بن الزبير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا نهى أن يباع صوف على ظهر أو سمن في لبن أو لبن في ضرع وقد رواه أبو إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله دون ذكر السمن رواه البيهقي وغيره .

[ جملة بيوع منهي عنها ]
والثاني حديث رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا جهضم بن عبد الله اليماني عن محمد بن إبراهيم الباهلي عن محمد بن زيد العبدي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعما في ضروعها إلا بكيل أو وزن وعن شراء العبد وهو آبق وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض وعن ضربة الغائص

ولكن هذا الإسناد لا تقوم به حجة والنهي عن شراء ما في بطون الأنعام ثابت بالنهي عن الملاقيح والمضامين والنهي عن شراء العبد الآبق وهو آبق معلوم بالنهي عن بيع الغرر والنهي عن شراء المغانم حتى تقسم داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده فهو بيع غرر ومخاطرة وكذلك الصدقات قبل قبضها وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع انتقاله إلى المشتري وثبوت ملكه عليه وتعيينه له وانقطاع تعلق غيره به فالمغانم والصدقات قبل قبضها أولى بالنهي . وأما ضربة الغائص فغرر ظاهر لا خفاء به .



[ بيع اللبن في الضرع ]
وأما بيع اللبن في الضرع فإن كان معينا لم يمكن تسليم المبيع بعينه وإن كان بيع لبن موصوف في الذمة فهو نظير بيع عشرة أقفزة مطلقة من هذه الصبرة وهذا النوع له جهتان جهة إطلاق وجهة تعيين ولا تنافي بينهما وقد دل على جوازه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه رواه الإمام أحمد فإذا أسلم إليه في كيل معلوم من لبن هذه الشاة وقد صارت لبونا جاز ودخل تحت قوله ونهى عن بيع ما في ضروعها إلا بكيل أو وزن فهذا إذن لبيعه بالكيل والوزن معينا أو مطلقا لأنه لم يفصل ولم يشترط سوى الكيل والوزن ولو كان التعيين شرطا لذكره .

فإن قيل فما تقولون لو باعه لبنها أياما معلومة من غير كيل ولا وزن .

قيل إن ثبت الحديث لم يجز بيعه إلا بكيل أو وزن وإن لم يثبت وكان لبنها معلوما لا يختلف بالعادة جاز بيعه أياما وجرى حكمه بالعادة مجرى كيله أو وزنه وإن كان مختلفا فمرة يزيد ومرة ينقص أو ينقطع فهذا غرر لا يجوز وهذا بخلاف الإجارة فإن اللبن يحدث على ملكه بعلفه الدابة كما يحدث الحب على ملكه بالسقي فلا غرر في ذلك نعم إن نقص اللبن عن العادة أو انقطع فهو بمنزلة نقصان المنفعة في الإجارة أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة هذا قياس المذهب وقال ابن عقيل وصاحب " المغني " : إذا اختار الإمساك لزمته جميع الأجرة لأنه رضي بالمنفعة ناقصة فلزمه جميع العوض كما لو رضي بالمبيع معيبا والصحيح أنه يسقط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة لأنه إنما بذل العوض الكامل في منفعة كاملة سليمة فإذا لم تسلم له لم يلزمه جميع العوض .

وقولهم إنه رضي بالمنفعة معيبة فهو كما لو رضي بالبيع معيبا جوابه من وجهين .

أحدهما : أنه إن رضي به معيبا بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب فرضاه بالعيب مع الأرش لا يسقط حقه .

الثاني : إن قلنا : إنه لا أرش لممسك له الرد لم يلزم سقوط الأرش في الإجارة لأنه قد استوفى بعض المعقود عليه فلم يمكنه رد المنفعة كما قبضها ولأنه قد يكون عليه ضرر في رد باقي المنفعة وقد لا يتمكن من ذلك فقد لا يجد بدا من الإمساك فإلزامه بجميع الأجرة مع العيب المنقص ظاهرا ومنعه من استدراك ظلامته إلا بالفسخ ضرر عليه ولا سيما لمستأجر الزرع والغرس والبناء أو مستأجر دابة للسفر فتتعيب في الطريق فالصواب أنه لا أرش في المبيع لممسك له الرد وأنه في الإجارة له الأرش .

والذي يوضح هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بوضع الجوائح وهي أن يسقط عن مشتري الثمار من الثمرة بقدر ما أذهبت عليه الجائحة من ثمرته ويمسك الباقي بقسطه من الثمن وهذا لأن الثمار لم تستكمل صلاحها دفعة واحدة ولم تجر العادة بأخذها جملة واحدة وإنما تؤخذ شيئا فشيئا فهي بمنزلة المنافع في الإجارة سواء والنبي صلى الله عليه وسلم في المصراة خير المشتري بين الرد وبين الإمساك بلا أرش وفي الثمار جعل له الإمساك مع الأرش والفرق ما ذكرناه والإجارة أشبه ببيع الثمار وقد ظهر اعتبار هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل قبض الثمن .

فإن قيل فالمنافع لا توضع فيها الجائحة باتفاق العلماء .

قيل ليس هذا من باب وضع الجوائح في المنافع ومن ظن ذلك فقد وهم قال شيخنا : وليس هذا من باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها .



وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها فإنه لا تجب الأجرة مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل التمكن من قبضه وهو بمنزلة أن يشتري قفيزا من صبرة فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز فإنه من ضمان البائع بلا نزاع ولهذا لو لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لآفة حصلت لم يكن عليه الأجرة .

وإن نبت الزرع ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن من حصاده ففيه نزاع فطائفة ألحقته بالثمرة والمنفعة وطائفة فرقت والذين فرقوا بينه وبين الثمرة والمنفعة قالوا : الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة وهنا الزرع ليس معقودا عليه بل المعقود عليه هو المنفعة وقد استوفاها والذين سووا بينهما قالوا المقصود بالإجارة هو الزرع فإذا حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة كأن قد تلف المقصود بالعقد قبل التمكن من قبضه وإن لم يعاوض على زرع فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر من حصول الزرع فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها بل تلفت قبل التمكن من الانتفاع ولا فرق بين تعطيل منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من استيفاء شيء من المنفعة ومعلوم أن الآفة السماوية إذا كانت بعد الزرع مطلقا بحيث لا يتمكن من الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة فلا فرق بين تقدمها وتأخرها .


فصل [ بيع الصوف على الظهر ]
وأما بيع الصوف على الظهر فلو صح هذا الحديث بالنهي عنه لوجب القول به ولم تسغ مخالفته وقد اختلف الرواية فيه عن أحمد فمرة منعه ومرة أجازه بشرط جزه في الحال ووجه هذا القول أنه معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالرطبة وما يقدر من اختلاط المبيع الموجود بالحادث على ملك البائع يزول بجزه في الحال والحادث يسير جدا لا يمكن ضبطه هذا ولو قيل بعدم اشتراط جزه في الحال ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئا فشيئا وإن كانت تطول في زمن أخذها كان له وجه صحيح وغايته بيع معدوم لم يخلق تبعا للموجود فهو كأجزاء الثمار التي لم تخلق فإنها تتبع الموجود منها فإذا جعلا للصوف وقتا معينا يؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة وقت كمالها .

ويوضح هذا أن الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان وقالوا : متصل - 740 بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه وهذا من أفسد القياس لأن الأعضاء لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان .

فإن قيل فما الفرق بينه وبين اللبن في الضرع وقد سوغتم هذا دونه ؟ قيل اللبن في الضرع يختلط ملك المشتري فيه بملك البائع سريعا فإن اللبن سريع الحدوث كلما حلبه در بخلاف الصوف . والله أعلم وأحكم .

يتبع ..

اخت مسلمة
04-10-2009, 04:55 AM
انتهى الكتاب وهو كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد

لا تنسونا من صالح دعائكم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تحياتي :hearts:

خادمة القرآن الكريم
04-10-2009, 07:32 PM
حفظك المولى عز وجل وعفى عنك في الدنيا والآخرة