المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لغز الوعي



ناجح سلهب
04-15-2009, 02:59 PM
لغز الوعي للمهتمين

نبيل حاجي نائف

وأخيراً شرع علماء الأعصاب في سبر أغوار واحد من أعمق أسرار الوجود . تعد الخبرة الواعية أكثر الأمور المألوفة في حياة كل منا وأكثرها غموضاً في آن معاً . فلا شيء نعرفه أكثر من الوعي معرفة مباشرة ، ولكن من الصعب التوفيق بينه وبين أي شيء آخر نعرفه .

إننا نتساءل : لماذا يوجد الوعي ؟ وما وظيفته ؟ وكيف يتسنى له أن ينشأ عن عمليات عصبية في الدماغ ؟ وتعد هذه الأسئلة من أكثر الأسئلة أهمية في العلم .

لقد تجنب الباحثون الخوض في موضوع الوعي سنوات عديدة عند دراسة الدماغ والعقل ، وبقي الوعي خارج إطار التناول ، ولكن على مدى السنوات القليلة الماضية تزايد عدد علماء الأعصاب وعلماء النفس والمفكرين الرافضين لفكرة كون الوعي شأنا لا يمكن دراسته وحاولوا التنقيب عن أسراره وأسسه .

والمشكلة الصعبة الأساسية هي :كيف يمكن لصيرورات فيزيائية ( عصبية كهربائية ) تحدث في الدماغ أن تشكل الوعي الذي هو خبرة ذاتية .

لا يوجد دليل على وجود مركز محدد للوعي بالذات ، والشيء المحتمل أن هذا النشاط ، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة المتلاحمة للاتصالات ، بين النظام الشبكي واللحاء (في الدماغ)، فعندما يصل هذا البناء الكلي إلى درجة كافية من التعقيد ، عندئذ فقط ، يمكن للوعي أن ينشأ (ينبثق) ، ويكون تفسيره وفقاً لتلك الرؤية طبيعياً تماماً . إذ يزداد مستوى الوعي بازدياد تعقيد الجهاز العصبي .

وعند الكائنات الأكثر تعقيداً فقط – الإنسان و الشمبانزي والثدييات العليا – يستطيع اللحاء أن يحمل فكرتين في وقت واحد ، الفكرة المعطاة ، والفكرة عن تلك الفكرة . فإذا كانت المعالجة المتزامنة للمعلومات ممكنة ، فالاحتمال الوارد ، أن نشاطاً مخباً معيناً ، يرتبط بفكرة معينة ، يمكن أن يولد تفكيراً بشأنه ، في نفس الوقت ، ويكون ذلك تفسيراً فيزيقياً للوعي بالذات .

ويبدو أن ذلك يحدث بانتقال المعلومات ، بين نصفي اللحاء ، فعندما نقطع الجسر بين هذين النصفين ، فإن كل نصف على حدة ، يستطيع معالجة المعلومات المتباينة ، عن ما يعالجه الآخر . وبذلك ينقطع التأثير المتبادل ، وتتوقف هذه الدورة من التأثيرات المتبادلة ، وهذا يؤدي إلى ضعف واختصار الوعي ، و يقول البروفسور " ماجون " :

إن النظام الشبكي في علاقاته الصاعدة والنازلة باللحاء ، يربط ارتباطاً وثيقاً ، ويساهم مساهمة فعالة ، في معظم فئات النشاط العصبي الراقي . ولسوف تزداد بلا شك على مر السنين ، المعلومات عن المخ التي تمكننا ، من السيطرة على مستويات الوعي والإدراك ، ولكن النتيجة الأهم ستكون النمو في إدراك ما يعنيه ذلك التحكم . إن الوعي يخضع لسلطان المخ المادي بنفس القدر الذي تخضع به الانفعالات والأحاسيس له .

إن هناك عداء قوي للثورة العقلية ، وينبع هذا العداء أساساً فيما نرى ، من التحدي الذي تحمله الثورة العقلية لحرية وتميز الإنسان ، التي يعتز بها ويقدسها . ولكن الثورة العقلية ، لا تمثل ذلك الخطر على الوعي ، إذ لن تضيع أبداً الطبيعة الذاتية له مهما فعلنا ، إنما سيحدق الخطر بالحرية، حرية الإرادة، وهذا ما يرفضه ويتحاشاه جميع الناس .

يمكننا أن نعرف الوعي الذاتي ، بأنه ما يحصل في الدماغ الفرد أثناء صحوه، أو أثناء الأحلام ، من شعور وإحساس وإدراك . ويطلق على المنطقة التي يحدث فيها الوعي ساحة الشعور أو سبورة الوعي أو الذاكرة العاملة (أو النفس أو الروح، أو الأنا الواعية ، أو الذات المدركة).

هناك فريق من المفكرين والعلماء يعتقدون أن الوعي لا يمكن إرجاعه إلى أسس مادية(فيزيائية) لأن له خصائص غير مادية وغير مرتبطة بالمادة ، و هناك انقطاع وفرق كبير بين الفيزياء أو المادة وبين الوعي أو الروح ، ويقولون أن صعوبة أو استحالة فهم الوعي هي نتيجة استحالة إرجاعه إلى مبدأ عام واستحالة صنعه بعناصر مادية ، وهو دوماً وعي ذاتي ولا يعرف ويلاحظ مباشرة إلا من قبل فقط الإنسان الذي يعيه ويستحيل دراسته موضوعياً ، وهو يربك تساؤلاتنا الموضوعية عنه ، إن هذا هو المنتشر بين أغلب الناس وجزء لابأس به من العلماء.

وهناك فريق آخر يعتبر أن الوعي لا بد أن يكون أساسه ومنشأه مادي فيزيائي وإن كان في الوقت الحالي غير ظاهر هذا الأساس الفيزيائي بشكل واضح ودقيق ، ولا يوجد في الوقت الحاضر ظواهر أو علاقات فيزيائية واضحة ودقيقة تظهر الاتصال بين الوعي وأسسه الفيزيائية ، ولكن يمكن في المستقبل القريب اكتشاف هذه العلاقات وتوضيحها ، ورأيهم هذا مبني على أن الوعي يحدث نتيجة عمل أجزاء معينة من الدماغ وبتوقفها عن العمل يتوقف الوعي ، ولديهم براهينهم وإثباتاتهم التجريبية المادية الكثيرة ، إن كان من ناحية عمل فزيولوجيا وكيمياء الدماغ أو من ناحية قياس التيارات الكهربائية الدماغية(مقاييس موجات الدماغ الكهربائية) ، فالوعي مرتبط بمناطق معينة في الدماغ وهي التشكيل الشبكي واللحاء بشكل أساسي وبتوقف عمل التشكيل الشبكي يطفأ أو يتوقف الوعي الذاتي ، ودليلهم على ذلك أن تلف التشكيل الشبكي يوقف الوعي نهائياً ، وتثبيط أو كف عمل التشكيل الشبكي يوقف الوعي طالما الكف موجود(أثناء النوم العميق أو أثناء التخدير أو غير ذلك) ، وكذلك تلف اللحاء أو بعض مناطقه يؤثر على الوعي .

أما أن الوعي ذاتي دوماً ولا يعرفه إلا صاحبه فهذا غير دقيق فالمشاعر والأحاسيس والأفكار(وهي ما تشكل الوعي) يمكن أن تنتقل وفي كثير من الأحيان من إنسان لآخر أو حتى من حيوان إلى إنسان ، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك فكل أشكال التعاطف وانتقال الانفعالات والأفكار والنوايا هي نتيجة انتقال الوعي من عقل لآخر ، وهذا يحدث بوسائل متعددة ، بصرية سمعية لغوية…، فالمفكر والأديب والفنان هما مثال على قدرة الإنسان على نقل وعيه إلى الآخرين .

إن التكوين الشبكي في ساق المخ يمكن اعتباره المركز المشرف على بث الوعي في المخ .ويوضح لنا مثل هذا التفسير النتائج التي تحدث عندما يقطع ساق المخ في أماكن مختلفة ، وقد درس هذا الأمر بعناية في حالة القطط فعندما يفصل المخ عن النخاع الشوكي يظل الحيوان محتفظاً بمظاهر اليقظة مع وجود رسم كهربائي للمخ يدل على نشاط عال كما أن حدقتي العينين تكون مفتوحتين تماماً ، إلا أنه عندما يفصل اللحاء والجزء الأعلى من ساق المخ عن الجزء الأسفل والنخاع الشوكي يبدو الحيوان نائماً والحدقتان شبه مغلقتان وتصبح موجات النشاط الكهربائي للمخ بطيئة ، ويبدو أن فصل الجزء الأعلى من ساق المخ واللحاء عن الجزء الأسفل قد فصلهم عن النظام الشبكي للتنشيط فأصبح هذا الأخير غير قادر على إرسال الإشارات إلى اللحاء لكي يبقى يقظاً .

وبالقيام بعدة تجارب قطع فيها ساق المخ في مواقع مختلفة أمكن التوصل إلى تحديد أهم مناطق التكوين الشبكي التي تسيطر أكبر سيطرة على الوعي ، ويبدو أنها تقع في منطقة القنطرة أوسط ساق المخ ، وقد لوحظ أن تدمير التكوين الشبكي على مرحلتين تفصل بينهم 3 أسابيع يقلل من انخفاض مستوى الوعي ، وأن استئصال جزء من التكوين الشبكي يمكن أن يضعف الوعي قليلاً ويستعاد هذا الضعف بعد مدة ، أما تدمير كامل النظام الشبكي دفعة واحدة فإنه يقضي على الوعي تماماً ويسبب الموت بعد إغماءة طويلة ، وهذا يعني أن وظيفة ذلك الجزء من التكوين الشبكي الذي استؤصل قد قامت بها أجزاء أخرى من ساق المخ في فترة قصيرة نسبياً وهذا أمر متوقع بالنسبة لوظيفة هامة جداً كاليقظة والانتباه التي لها قيمة هامة في استمرار الحياة.

ويبدو أن النظام الشبكي يتحكم في مستوى إدراك الواعي بأن يعمل كصمام يتحكم في الشدة ، فيزيد أو ينقص من كمية التنبيهات المندفعة في الممرات الحسية وكذلك من التوجهات الصادرة عن اللحاء إلى العضلات ، وهو يستطيع ذلك بسهولة حيث أن كافة الأنظمة الحسية الرئيسية والكثير من الممرات الحسية المتجهة إلى العضلات ، إما أن تمر لصيقة به أو ترسل إشاراتها إليه ، ويقوم النظام الشبكي التحكم بهذه الإشارات ، والنظام الشبكي له أكثر من مئة موقع تتمركز فيها الخلايا العصبية وهو نظام شديد التعقيد والتلاحم ، من مجموعة مراكز التحكم في الشدة ، وبالتالي فإن سيطرته على الوعي ليست بالبساطة الناشئة عن وجود مركز واحد لتلك العملية .

ويبدو في الحقيقة أن هناك على الأقل مركزين أساسيين للاستيقاظ ، أحدهم إلى الأسفل في وسط المخ ، والآخر إلى الأعلى قرب اللحاء . وهذا المركز هام للغاية ، إذ يبدو أن له تأثيراً سريعاً على اللحاء ، إذ يظن أن الاستيقاظ السريع من النوم ، أو التغيرات السريعة في الانتباه تحدث بواسطته ، وهو يحقق تلك السرعة بواسطة شبكة عظيمة الكفاءة من الاتصالات باللحاء . وعندما تستثار فإنها تؤدي إلى خلق النشاط في اللحاء ، وهو نشاط ينتشر بسرعة .

إن ما يحدث بالتفصيل في الخلايا العصبية داخل النظام الشبكي أثناء حدوث مثل تلك النشاطات ، يكتشف ببطء شديد ، وكذلك بصعوبة . فالمتوقع أن النشاط سيكون شديد التنوع في مثل ذلك النظام المعقد .

ولقد بينت الدراسات التي قام بها البروفسور هاتن لوكر أن الخلايا العصبية في مركز الوعي في المخ الأوسط ، يكون نشاطها خلال نوم الأحلام ضعف النشاط الذي تقوم به خلال اليقظة ، بينما يكون نشاطها متوسط في النوم العميق الخالي من الأحلام ، ومما يزيد الصورة تعقيداً ، هو أنه يبدو أن ذلك النظام يؤثر على اللحاء بطريقة كيميائية أيضاً ، وكذلك يتأثر بالمواد الكيميائية.

إن الوعي هو القدرة على كف كل أوجه نشاط اللحاء و واردات الحواس ( منعها من دخول ساحة الشعور) فيما عدا المتعلق بناحية معينة ، وهذه الناحية هي ما يمكن أن نسميه بسلسة أو قطار الأفكار .

فالوعي هو عبارة عن مصباح كشاف يضيئ ذلك الموضع في اللحاء أو بعض واردات الحواس ، بنشاط هام ذي قيمة للبقاء على قيد الحياة ، وبشكل عام يضيء الوعي فكرة أو مجموعة أحاسيس معينة ، في وقت واحد . ولا يعني هذا أن العمليات اللا واعية ليست غير ذات أهمية ، ولكن معالجة المعلومات المرتبط بالوعي ، يبدو أنه عملية متعاقبة ، فلا يمكن متابعة سوى نشاط واحد في الوقت الواحد . إلا أنه يحدث أحياناً أن تكون العمليات أو الإشارات اللا واعية قوية الشدة ، فتجتاز مفتاح التحكم بالدخول وتندفع إلى الوعي .

ويتضمن عمل ( مفتاح الوعي ) في التكوين الشبكي أكثر من مسألة مجرد الفتح والغلق ، فقد رئي أن هذه الشبكة من الخلايا هي في الواقع أداة اتخاذ القرارات في المخ ، حيث أنها تختبر كافة المعلومات الحسية الداخلة إلى المخ ، كما أن لها سلطاناً كبيراً على كافة مراكز الانفعال والحركة فيه .

وللتكوين الشبكي هذا بنية خاصة ، تمكنه من تحقيق ذلك ، فكل خلية عصبية فيه تتصل بمجموعة الخلايا الأخرى ، بحيث تكًون قرصاً رقيقاً عبر ساق المخ ، وتتصل مختلف الأقراص ببعضها ، بطريقة تكاد تكون عشوائية ، وهذه الأقراص مرتبة فوق بعضها البعض كعمود من قطع النقود ، مكونة البنية العمودية لساق المخ ، ومن الممكن أن نتصور أن كل قرص من هذه الأقراص ، هو كومبيوتر صغير يعالج ويقيم مختلف المدخلات التي يتلقاها ، وهو ينقل محصلة ذلك التأثير إلى بقية زملائه ، التي عليها أن تضع تلك المعلومات في الاعتبار ، بالإضافة إلى الإشارات الحسية الأخرى التي تتلقاها ، والقرص الذي تكون استثارته أكبر ما يمكن ، هو الذي يفوز على الآخرين ، ويؤدي إلى حدوث استجابة مناسبة لما تلقاه هو بالذات ، وهذا النموذج للطبخ أو المعالجة المتوازية لعمل النظام الشبكي ، قدمه بنجاح منذ عدة سنوات الأستاذ " وارن ماكلوك" ومساعدوه في معهد ماساتشوست للتنلوجيا ، ويمكًن هذا النموذج من اتخاذ القرارات السريعة ، فيما يتعلق بنوع التصرفات المطلوبة ، رغم الكمية الهائلة الداخلة من المعلومات المختلفة .

نحن نستطيع أن نعتبر العقل مجموعة من العلاقات الفعالة بين نشاط المخ في الوقت الحالي ( الحاضر) والنشاط الذي حدث في الماضي أو ما سجل في الذاكرة عن أحداث هذا الماضي . أي أن النشاط الحالي للمخ يتبادل التأثير مع مخزون الذاكرة عن النشاطات السابقة له ، فلن يستطاع (التفكير) دون تلازم نشاط المخ الحالي مع بعض نشاط المخ السابق المسجل على شكل ذاكرة وتعلم وآليات (ميكانزمات) موروثة أو مكتسبة – ، أن تملك عقلاً معناه أن تملك أداة للمقارنة والقياس

إن مفتاح فهم الوعي هو " الطنين "

إن ظاهرة الطنين بشكلها الكهرطيسي لا يعرفها الكثيرون ، وهي معروفة في شكلها الصوتي فقط ، فالطنين الكهربائي عرف حديثاً . وعندما تعرفت على الطنين الكهربائي دهشت لهذه الظاهرة ووجدتها عجيبة ، فدارة الطنين الكهربائي الأساسية مؤلفة من ملف ومكثف ضمن دارة كهربائية مغلقة ، هذه الدارة يمكن أن يجري فيها تيار كهربائي متناوب ، فإذا كان هناك دارة كهربائية تماثلها في قيمة الملف والمكثف وقريبة منها عندها ينشأ فيها تيار متناوب، ويكون هذا التيار المتناوب تردده مماثل لتردد الدارة الأساسية ، هذه الظاهرة هي أساس كافة أنواع الاتصالات اللاسلكية .

إن ظاهرة الطنين موجودة لدى الكائنات الحية بأشكال متعددة ، فقرون الاستشعار والسمع والبصر والشم … ، تعتمد على ظاهرة الطنين ، فالصوت والضوء كما نعلم هما طنين(تردد لأمواج) ، وأساس عمل كافة الحواس لدي الحيوانات يعتمد على آليات تحول التأثيرات والتي تكون غالباً على شكل ترددات، أي تيارات كهربائية عصبية على شكل نبضات ، ترسل إلى الدماغ ، وهو يقوم بتمييزها وتصنيفها ، وتخزين معلومات عنها .

إن الوعي هو وعي بطنينات حسية ( أو بأفكار على شكل طنينات حسية) ، فهو طنين لطنينات حسية أي طنين مكرر ، فهو طنين مضاعف ، أو طنين يتم تكرار بثه وانتشاره ، فيصبح شامل أغلب بنيات الدماغ . وهذا يماثل البث لإذاعي أو التلفزيوني .

فالوعي لأنه طنين حسي يمكن إحداثه في العقل ويمكن نقله من عقل لآخر . وطبعاً يمكن أن يحدث أثناء النقل تغيير أو تحريف نتيجة تداخله مع طنينات أخرى ، أو عدم استقبال مناسب مثل نقل أي رسالة.

الوعي وعلاقته بالذاكرة
إن الشعور" بالذات " بالنسبة لنا مرتبط بشكل أساسي بالذاكرة ، وبانعدام الذاكرة تنعدم الذات( أو النفس) ، فلا يبقى إلا أحاسيس لحظية غير مترابطة تبدأ وتنتهي فورا دون أن تترك أثر . و بتغيير ذاكرة شخص بذاكرة شخص آخر تنتقل ذات كل منهم إلى الآخر .

فالوعي الذاتي ( الوعي بالأنا ) تابع لمخزون الذاكرة بشكل أساسي ، وهذا يدل على أن الوعي كل منا بذاته عندما يسترجعه بعد أن يصحو من نومه أو من التخدير العام ، يتم استعادته بناء على ما هو مخزن في ذاكرته . وهذا يعني أن ذات كل منا تنعدم عندما يطفأ وعيه ، وتعود وتتشكل عندما يعود يعمل وعيه ، وبالاعتماد على ما يتم استدعاؤه من الذاكرة .

والذاكرة هي الطنينات الحسية التي تنتج عن إثارة المسارات العصبية لمحاور ومشابك الخلايا العصبية الهائلة العدد ، والمترابطة بشكل معقد جداً ، وهذه الطنينات تابعة للخصائص الفيزيائية والفزيولوجية والكهربائية للدماغ . والطنينات الحسية "الأساسية أو الخام" لدينا متشابهة بشكل كبير إلى حد التطابق الألوان والأصوات والروائح . . . .

لهذا يمكن أن نحل مشكلة الوعي عندما نعرف كيفية حدوث الطنين الحسي الأولي الخام ، وكيفية تفاعله مع باقي الطنينات الحسية ، وكيفية انتقاله وتفاعله مع بنيات الدماغ ، وكيف يبث في الدماغ .

إن هذا يشبه عمل الأجهزة الإلكترونية ولكن أعقد بمراحل كثيرة لأن دارات الطنين الكهربائية الحسية هي دارات فيزيائية وكيميائية و فزيولوجية معقدة كثيراً ، فالتفاعلات الفزيولوجية تعقد كثيراً عمل تلك الدارات ، بالإضافة إلى التعقيد الهائل جداً لمسارات تلك الدارات .

ولكن مع كل هذا يمكن أن نقلد صنع الطنينات الحسية وبدقة كبيرة ، بواسطة دارات إلكترونية فقط ، واختصار التأثيرات الفزيولوجية بتمثيلها بدارات إلكترونية ، أما من ناحية تعقيد اتصالات الخلايا العصبية فيمكن اختصاره بشكل كبير وذلك بتنظيمه ، ومع ذلك تبقى مشكلة الوعي الذاتي تبقى معقدة وصعبة .

الأنا الواعية(سبورة الوعي) و الذات ( أي الشخصية)
ليست الذات أو الشخصية ، الأنا فقط ، فذات كل منا ينتجها ما هو مخزون في الذاكرة . أما الأنا أو ما يوجد على سبورة الوعي فهو الجزء الصغير الذي يبث في تلك اللحظة ، فذات كل منا مضمرة دوماً ، لأنها متموضعة بشكل بنيوي في الخلايا العصبية ومحاور ومشابك هذه الخلايا ، ولا يظهر منها إلى الجزء الصغير جداً وهو الموجود على سبورة الوعي ، وهو ما يبث بشكل كهرطيسي .

وهذا يشبه نظام الويندوز في الكومبيوتر، فالموجود على الشاشة يمثل ما هو موجود على سبورة الوعي ، أما الباقي فهو المخزن في بنية الكومبيوتر . ونظام الويندوز سمح بوصل جيد وفعال لما هو مخزن في ذاكرة الكومبيوتر ، مع ما هو موجود في ذاكرة مستخدم الكومبيوتر .

إن الوعي أو الشعور بالذات( الأنا اللحظية) هو ما يبث على سبورة الوعي ، وهذا كما قلنا موجود بشكل كهرطيسي مبثوث في الدماغ . ونحن إذا استطعنا استخدام سبورة وعي أي إنسان لعرض ذات إنسان آخر، لما اختلفت تلك إلا قليلا جداً ، وهذا يشبه ما يبث من أي جهاز راديو أو تلفزيون أو فيديو ، فالأجهزة مختلفة ولكن ما ينتج متشابه بشكل كبير.

والذي يبرهن على ذلك ، انبثاق ذات كل منا عندما نصحو من النوم أو من التخدير العام ، فهذا يتم تكوينه بناءً على ما يتم استدعاؤه ( أو يأتي من تلقاء نفسه ) مما هو مخزن في الدماغ ، وبثه على سبورة الوعي .

" فأنا" كل منا تنعدم أو تطفأ ، وتعود وتظهر آلاف المرات . ويتم هذا الظهور بناءً على ما يتم بثه على سبورة الوعي ، فالموجود بنيوياً ( بنية الدماغ وما تم بناؤه أثناء الحياة) لا يتم الوعي أو الشعور به إلا إذا تم بثه وأصبح كهرطيسياً . وتنشأ الأحاسيس الواعية ، لأنها تتكرر خلال زمن قصير أو طويل ولا تكون لحظية تجري لمرة واحدة وتنتهي فوراً ، وأيضاً نتيجة تكرار حدوثها ، وهي تنتشر في أغلب بنيات الدماغ . و هي التي تنتج الوعي الذاتي.

فالذي ينتج الوعي الذاتي هو تكرار جريان التيارات العصبية في بنيات الدماغ ، بين التشكيل الشبكي والمهاد واللحاء والدماغ الحوفي وأحياناً المخيخ ، فتكرر جريان هذه التيارات هو الذي يخلق " زمن الوعي " ، وبالتالي الزمن البشري الذاتي . فإذا لم يحدث هذا التكرار، فلا يمكن أن يحدث الوعي ، لأنه سوف يحدث في زمن قصير جداً ولمرة واحدة وينتهي بعدها ، فتكرار وجوده خلال زمن هو الذي يسمح بحدوث الجدل الفكري الذاتي بين الأفكار(الأحاسيس الواعية) والتي تجري معاً في نفس الوقت ونشوء " زمن الوعي أو الديمومة" .

ودور المهاد في إدارة وبث الوعي هام جداً، فهو يقوم بالتعاون مع التشكيل الشبكي والدماغ الحوفي واللحاء في إنشاء الوعي وبثه.

لقد كان المهاد لدى الأحياء الدنيا هو مركز قرع الأحاسيس ، وكانت غير محددة بشكل دقيق في أول الأمر ، وعندما تطور الدماغ وتشكل اللحاء ، وأخذ الدور الأساسي في قرع الأحاسيس ، وبمجال دقة وتحديد عالي ، وأوسع بكثير من المهاد، بقيت الأحاسيس العامة والألم بشكل خاص تابعين للمهاد ، وبالتالي أصبح دور المهاد نقل وترحيل التيارات الواردة من المستقبلات الحسية ، عن طريق التشكيل الشبكي ، إلى اللحاء والمراكز الأخرى ، وهذا أعطاه الدور الأساسي في إدارة قرع الأحاسيس في اللحاء .

فهو يساهم يشكل كبير في تشكيل الوعي لدينا ، فيتحكم بإدارة قرع الأحاسيس في اللحاء . ويقوم بذلك كما ذكرنا بالتنسيق مع الدماغ الحوفي ( الذي يقيم أهمية الأوضاع) ، ومع التشكيل الشبكي ، الذي ينظم ويدير واردات الحواس والاستجابات ، ويقوم بالبث.

وإذا أردنا تحديد البنية الأكثر تأثيراً في إنشاء الوعي وبثه ، فستكون المهاد ، فهو ينسق و يكامل ويدير ألحان الوعي التي تعزف.

التعرف على الذات
إن التعرف الجديد على "الذات" أو "الأنا" يحدث لنا كلما استيقظنا من النوم ، فعندما نستيقظ تفتح مسارات الذاكرة الدائمة ( اللحاء) مع التشكيل الشبكي ، والذي قد كان كفت أغلب هذه المسارات (العاملة أثناء الصحو) عند النوم، وكذلك تفتح المسرات مع باقي بنيات الدماغ والتي قد كانت أغلقت أو كفة أثناء النوم. ويقوم التشكيل الشبكي بعمله في تأمين الاتصالات بين هذه كافة البنيات ، ويوقظ أو يحدث الوعي العادي(أو وعي الصحو تمييزاً له عن الوعي أثناء الحلم) ويتم ذلك بالاعتماد بشكل أساسي على مخزون الذاكرة اللحاء . و" الأنا " متضمنة بشكل أساسي في هذه الذاكرة ، فإذا غيرنا ذاكرة شخص فسوف تتغير " أناه " و وعيه بذاته ، حسب هذا التغيير.

إن عقلنا هو جهاز إلكتروني معقد جداً ، والذي يعقده هو تغير السوفتوير، والهاردوير معاً ، وليس السوفتوير فقط كما في الأجهزة الإلكترونية ، فهو جهاز إلكتروني كيميائي فزيولوجي معاً.

والسؤال الهام من يدير ويتحكم في هذه الدارات العصبية ؟ كما ذكرنا على الأغلب هو التشكيل الشبكي ، فهو يديرها بناء على ما يتلقى من واردات من الدماغ الحوفي الذي يقيّم دائماً الوضع العام ويعطي أوامر أو استجابات تناسب ذلك الوضع . هناك حالة الوضع في الانتظار ، فأغلب الدارات العصبية الجارية يتم وضعها في الانتظار ولا تدخل تأثيراتها إلى سبورة الوعي ، وهناك إمكانية وضع من 5 حتى 9 دارات في الانتظار . فلا يمكن أن تجري في البنيات الأربعة ( التشكيل الشبكي والمهاد والدماغ الحوفي واللحاء) إلا دارة واحدة في نفس الوقت ، وهي التي تأخذ كامل الزمن الواعي . وهي التي يحدث تضخيم وبث لها نتيجة طنينها المتكرر لفترة زمنية ، وهذا ما ينشئ ساحة الشعور أو سبورة الوعي . وعندما تضعف و تتخامد هذه الدارة ، نتيجة الاستجابات المناسبة ، يظهر تأثير الدارات الموضوعة في الانتظار ، و الدارة ذات التأثير الأقوى تدخل وتبدأ الجريان في سبورة الوعي ، وهكذا دواليك.

عزف طنينات الوعي
إذا كان لدينا عدة مئات من الآلات الموسيقية المختلفة من حيث طبيعتها وطبيعة الأصوات التي تصدرها، ولكل منها طريقة أو آلية تقرع أو تعزف بها، ويمكن أن يصدر كل منها صوتاً حسب طريقة ومدة العزف، ولكل منها عتبة معينة أو مقدار لازم من القوة والمدة لكي يصدر النغمات ، فإذا كانت المدة أو القوة قليلة أو الطريقة في العزف غير مناسبة ، فلن تصدر النغمات . وهناك خصائص و عطالة لكل آلة ، تحدد طريقة وزمن إصدار النغمات المتكرر ، فلا يمكن أن يكرر إصدار نغمة ، قبل مدة معينة وقبل وضع معين . وإننا نستطيع العزف على بعض الآلات بعدة طرق أو وسائل ، وتكرار العزف على بعض الآلات يمكن أن يغير من خصائصها، وكذلك قلة العزف يمكن أن يغير من خصائصها . وهناك إمكانية للعزف على أي عدد من الآلات معاً . وهناك إمكانية خاصة وهي إمكانية جعل آلة تعزف عن طريق عمل آلة أخرى أو آلات أخرى .

كذلك الأحاسيس يمكن اعتبارها آلات عزف ، وظيفتها أو دورها متنوع ، فبعضها للإنذار والتنبيه ، أو للإعلام ، أو للتنبؤ، وبعضها للمكافأة واللذة وإحداث الفرح والسرور ، وبعضها للألم والأحاسيس غير السارة وغير المرغوبة….الخ.

إن آلية عزف هذه الآلات الحسية ، تكون محددة وثابتة عند البدء باستعمالها(عند الولادة) ، ولكن بعد الاستعمال الكثير المتكرر تنشأ تداخلات وتأثيرات متبادلة فيما بينها، وتتغير وتتطور وتتعقد آليات العزف، وهذا يحدث باستمرار ولكنه ينتظم أو يميل إلى الانتظام والثبات مع الزمن وطول العمر، وهناك طريقتان لعزف هذه الآلات الحسية :

الأولى وهي الأساسية وتكون عن طريق مستقبلات الحواس.

والثانية تنشأ بعد ذلك نتيجة الحياة ، وهي العزف عن طريق الذاكرة أو مخزون اللحاء . ويحدث تداخل وتأثير متبادل بين هاتين الطريقتين ، وهما تعملان معاً . فالذاكرة تؤثر على واردات الحواس وكذلك العكس، بالإضافة إلى أن معالجات الدماغ لها تأثير أيضاً .

ويقول د. حكمت هاشم :

" إن الحواس لا تشبه القنوات أبداً، بل هي بمثابة أجراس كهربائية. فكما أنه لا شبه بين حركة الأصابع المعتمدة على الزر وقرع الجرس، فكذلك لا شبه بين الإثارة التي تهيج طرف العصب وما يداخل الوعي من احساسات من ذلك الطرف. إن عين النملة وعين الحرزون وعين الإنسان إذا وضعت ثلاثتهم بمثاقبة مشهد واحد وهيجت على صورة واحدة. أتت أولاها بإحساسات نملة والثانية بإحساسات حرزون والثالثة بإحساسات إنسان: الشأن في ذلك شأن الآلات الموسيقية الوترية التي تجيء ضربة القوس الواحد عليها بصوت يختلف من آلة لآلة ، إذاً فلا عجب أن ندرك بحواسنا عالماً يختلف عن العالم الحقيقي آليات وطرق عزف النغمات الحسية والوعي

إن مفاتيح النغمات الحسية موجودة أساساً في مستقبلات الحواس واللحاء ، أما النغمات فتحدث أو تطن أو تقرع في بنيات دماغية متعددة . وكما ذكرنا التنظيم الشبكي هو المسؤول والمتحكم والمنظم لهذا العزف ، وبمشاركة باقي بنيات الدماغ . فالتنظيم الشبكي يبدأ عمله بعد الولادة(وعلى الأغلب قبل)، فيقوم بتصنيف وتنظيم واردات مستقبلات الحواس ، ويقوم بالتحكم " بالانتباه " والتركيز على المهم من هذه الواردات ، ويكف الباقي، ويتقرر المهم(المعنى) بناء على عمل وتقييم باقي بنيات الدماغ وخاصة الدماغ الحوفي ، و وضع الجسم ككل .

ويقوم اللحاء وتساعده بعض بنيات الدماغ ، بتخزين صور أو معلومات عن النغمات التي تعزف(بناء الذاكرة الواعية) . ويبدأ اللحاء عندها في المشاركة في إرسال نغمات ، من ما خزٌن فيه إلى التنظيم الشبكي .

وعندما يتقدم الإنسان بالعمر، تتطور قدرات التنظيم الشبكي على التحكم في عزف النغمات(الأحاسيس) الواردة أو المطلوبة (ألمستدعاة)من اللحاء ، وذلك نتيجة الممارسة والتعلم .

فالتنظيم الشبكي عندها يستطيع أن يقوم بعزف كم هائل من النغمات ودون مشاركة واردات الحواس ، وذلك بالتفكير والتصور والتخيل والأحلام ، و بالاعتماد على مخزون اللحاء وباقي بنيات الدماغ( العقل ألحوافي وغيره).

إن النغمات التي يمكن أن تصدر من اللحاء ذات كم هائل ، ولا يمكن للتنظيم الشبكي استقبال وإذاعة إلا جزءاً صغيراً جداً ومحدوداً في نفس الوقت( الذاكرة العاملة أو سبورة الوعي) . ويمكن للتنظيم الشبكي وضع واردات من اللحاء أو من الحواس تكون ذات أهمية ، في الانتظار ريثما ينتهي من معالجة الموجود لديه.

كما ذكرنا الذي يقوم باختيار وتنظيم وإدارة ما يضخم ويبث من أحاسيس( أي الوعي) ، هو التنظيم الشبكي ( ويساعده المهاد والدماغ القديم )، والعقل الواعي هو ناتج عمل التنظيم الشبكي ، وعند تلف أو توقف التنظيم الشبكي ينتهي الوعي ، ففي النوم العميق دون أحلام، والغيبوبة ألكاملة أثناء التخدير يكون التنظيم الشبكي مطفأً، ومتوقفاً عن البث . مع ملاحظة إن عمل التشكيل الشبكي لوحده لا يكفي لتشكل الوعي ، فلا بد من مرور التيارات العصبية الآتية من مستقبلات الحواس ، والذاهبة للحاء و كذلك الآتية من اللحاء عبره (ذهاباً وإياباً) ، ومشاركة الدماغ القديم .

ويجب أن ننتبه إلى أن التشكيل الشبكي ليس منتج الوعي ، والوعي لا يحدث فيه ، فهو المتحكم و المفتاح للوعي ، فالوعي يحدث في الدماغ كله ولتوضيح ذلك نأخذ الفرضية التالية:

إذا استطعنا بطريقة من الطرق ، نقل تشكيل شبكي لإنسان معين ، إلى إنسان آخر، ماذا يحصل؟

من المفروض أن لا تحصل تغيرات أساسية أو جذرية ، في وعي كل منهم . والذي يحدث هو تغيرات في التنظيم و التحكم ببث الوعي (مع أنها تظل تابعة لأوامر اللحاء وباقي بنيات الدماغ) ، أي يظل كل منهم هو ذاته ، مع حدوث فروقات طفيفة جداً غير ملاحظة ، فالذي يرد من اللحاء وخاصة من المناطق الجبهوية ومن النتوء اللوزي وقرن أمون وباقي بنيات الدماغ القديم… هو الذي يقرر ويحدد بشكل أساسي مضمون الوعي ، وهذا معناه أن التشكيل الشبكي هو مركز تجمع وبث إلى أغلب بنيات الدماغ ، أي أن عمل التشكيل الشبكي يكون فقط كمفتاح لبث ، للأمور التي اعتبرت الهامة . والذي يقرر أهميتها هو نتيجة معالجة اللحاء وتقييم الدماغ القديم (المهاد، والنتوء اللوزي…الخ) .

وبما أن ما يأتي من اللحاء والدماغ القديم هو تابع لما هو موجود فيهما (والذي هو موروث أو تم تعلمه واكتسابه أثناء الحياة ، وهو خاص بكل إنسان) ، لذلك لن تحدث تغيرات كبيرة و واضحة نتيجة استبدال التشكيل الشبكي لإنسان مع آخر( فهذا بمثابة تغيير أجهزة بث بأجهزة أخرى) . فالذي يحدث هو تغيرات طفيفة جداً لن تلاحظ ، فهي تغيرات تماثل التغيرات التي تحصل دوما نتيجة تغير أوضاع الجسم والجهاز العصبي أثناء الحياة اليومية . ويمكن أن تؤثر على عمل التشكيل الشبكي تغير الانفعالات والمزاج والدوافع .

أن التشكيل الشبكي لدى كل منا متشابه بشكل كبير ، أن لم يكن متطابقاً ، وهو ليس مصدر اختلاف الأنا أو الذات عند كل منا ، فالاختلاف راجع إلى ما تعلمناه و تم بناؤه من ذاكرة ، نتيجة نمو وترابط مشابك ومحاور الخلايا العصبية في الدماغ ، وخاصة في اللحاء، والذي تم نتيجة حياة كل منا.

لذلك إذا استطعنا تغيير لحاء دماغ إنسان بلحاء دماغ إنسان آخر، فسوف تنتقل ذات كل منهم إلى الآخر، أي يتبدل جسم كل منهم مع الآخر ، وسوف تبقى الانفعالات وبناء المعاني والتقييم الأولي بدون تغير، لأنها ناتجة عن الدماغ القديم ، أما المعالجات الفكرية العادية والمنطقية والذاكرة فهي تتبع للحاء.

من هذا المنظور نحن لا نحس ولا نعي نتيجة تأثراتنا بالواقع ، إلا ما تتأثر به مستقبلاتنا الحسية ، وبالذات ما تنتجه من تيارات عصبية يتم استقبالها في الدماغ ، أما الواقع الذي أنتج هذه التأثيرات، فهو معرٌف ( أو يعرف ) فقط ، بما أنتج من تأثيرات على المستقبلات الحسية، وبالطريقة التي قامت هذه المستقبلات بتشفير هذه المؤثرات بتيارات عصبية .

فهذه المستقبلات هي التي تحدد وتعين لنا الواقع بشكل أولي وأساسي ، وكل ما لدينا من أحاسيس ومفاهيم ومعارف ، تم بناؤه من واردات المستقبلات الحسية ، بعد تفاعله ومعالجته في بنيات الدماغ ، فالذي يرد من المستقبلات الحسية ، يعدل ويصحح ويطور، ليصبح يصف ويفسر الواقع ، بشكل أوسع وأشمل وأدق وأصح ، وذلك نتيجة عمل ومعالجات الدماغ . فكل المعارف والمفاهيم تم بناؤها من واردات المستقبلات الحسية .

لقد كان للتواصل اللغوي الصوتي ثم المكتوب الدور الأساسي ، في تكون هذه المعارف والمفاهيم الفكرية العامة (البنيات الفكرية أو عالم الفكر) . وكان لنشوء المفاهيم والمعارف المتطورة والمجردة ، تأثيره على الوعي البشري الذاتي كبير، فقد أصبح الوعي والشعور بالذات متطور جداً ، وكذلك الوعي بالوجود .

فتأثير الثقافة على الوعي جعل كل إنسان يشعر ويدرك ويعي بأنه عالم أو كون ووجود قائم بذاته . فقد أصبح الإنسان يدرك الزمن و التاريخ (الماضي والحاضر والمستقبل) ، إن كان بالنسبة للوجود ، أو بالنسبة لنفسه . وصار كل إنسان يعي ويفهم الكثير من بنيات الوجود ، بشكل أعمق وأوسع . وأصبح وعيه وإدراكه للآخرين وللمجتمع وبنيات هذا المجتمع عميق وكبير . وهذا ما جعل قضية الوعي الذاتي معقدة وصعبة .

فالوعي الذاتي يحدث في بنيات الدماغ ، وهو يعتمد في منشئة على خصائصها، فهو الشعور والإحساس الذي تكون نتيجة واردات المستقبلات الحسية ، التي استقبلت وعولجت في بنيات الدماغ .

فهو ينبثق بالتدرج بعد الولادة وأثناء الحياة ، ولكن بعد أن تمر بضعة سنين يصبح الوعي الذاتي يعتمد بشكل أساسي على ما تم تعلمه وتخزينه في اللحاء والبنيات الدماغية الأخرى ، وتنخفض نسبة تأثيرات ودور المتقبلات الحسية ، ويصبح بالإمكان الوعي والتفكير بالاعتماد على مخزون الدماغ فقط ، ودون الاعتماد نهائياً على واردات المستقبلات الحسية . وهذا ما يحدث أيضاً أثناء الأحلام أن كانت أثناء النوم ، أو إثناء الصحو(أحلام اليقظة) . فالقدرة على الوعي والمعالجات الفكري والتصورات. . . تصبح ممكنة دون الاعتماد على الواقع الخارجي وتأثيراته.

وهذا ما جعل الوعي والتفكير ذو خصائص غير مادية ، لأنه يصبح في هذه الحالة غير مرتبط بالواقع أو المادة الخارجية ، فهو ناشئ عن الدماغ الذاتي (العقل الذاتي أو النفس أو الروح) فقط .

فالعقل الفردي الذاتي أصبح بإمكانه خلق عالم ووجود وكون ( حسي و فكري خاص فيه) ، ودون الاعتماد إلا على نفسه ، فهو يملك القدرات لعمل ذلك . وهذا شيء عجيب ورهيب ومذهل ، فكثير من المفكرين اعتبروا الإنسان بمستوى الآلهة ، لما يملك من وعي وإدراك وشعور وأفكار .

فالوعي البشري شيء غير عادي ، وفوق مستوى باقي أنواع الموجودات التي يعرفها الإنسان ، فالأحاسيس والوعي الذاتي الذي يعيشه كل إنسان ، يختلف عن أي شيء آخر في هذا الوجود ، ولا يمكن فهمه كما تفهم باقي الأشياء.

وبالنسبة لوعي الأحلام : فعلى الأغلب يقوم بناءً على عمل المهاد والتشكيل الشبكي والدماغ الحوفي ، ولكن هنا نجد أن التيارات الآتية من المستقبلات الحسية قد تم كفها ، وكذلك أغلب مسارات التشكيل الشبكي والمهاد مع اللحاء ، كفت(أغلقت) أيضاً.

والوعي في هذه الحالة يتم تشكيله ، بناءً على التيارات العصبية المرتدة ، الآتية من الدماغ الحوفي عن طريق اللحاء ، ويقوم المهاد بالتعامل معها وإدارتها ، فيرسل تياراته إلى اللحاء والدماغ الحوفي أيضاً ، وهنا تتداخل(تتفاعل) الدارات التي ينشؤها المهاد مع الدارات التي تكون عاملة قبلها ، بين الدماغ الحوفي واللحاء والمهاد نفسه ، نتيجة إضرامها الذاتي ، أو نتيجة وصول بعض التيارات الآتية من المستقبلات الحسية .

وتعقيد آلية تشكل الأحلام ، ناتج عن عدم سيطرت المهاد الكاملة على إدارة هذا البث ، نتيجة التدخل الكبير للدماغ الحوفي ، الذي يصبح تأثيره كبير .

لذلك نلاحظ وجود ازدواجية أو ثنائية أثناء الحلم ، فهناك صانع ومخرج للحلم ، وهناك المشاهد والمعلق على ذلك، فالدماغ الحوفي باستخدامه مخزون اللحاء ، يصنع ويخرج حوادث الحلم ، والمهاد مع مشاركة محدودة من للحاء(جزء صغير من الذاكرة) يقوم بالمراقبة والتعليق والتدخل الضعيف بحوادث الحلم . لذلك كان فهم الحلم أصعب بكثير مما تصوره فرويد . فأعقد عمليات الدماغ تكون أثناء الحلم وليس أثناء الصحو . صحيح أن الدماغ الحوفي يتدخل في الإدارة أثناء الصحو ، ولكن تأثيره يكون محدود وضعيف، أي مدير الدماغ يكون واحد وليس اثنان كما في الحلم.

وجود الأنا
إن "أنا" السمكة و"أنا "النحلة و"أنا" السلحفاة و"أنا" التمساح و"أنا" الفأر و"أنا" الحصان و"أنا" الدب و"أنا" القرد و"أنا" الإنسان ، لهم جذر واحد أساسي ، ويمكن اعتباره ، ما يمثل الذات الداخلية المترابطة مقابل العالم ، الذات أو الداخل مقابل الخارج أو العالم .

وتتم قيادة وإدارة هذه الذات ككل مترابطة ذات انتماء واحد ، إدارة فزيولوجية عصبية واحدة، مبرمجة سابقاً ، على حماية هذه الذات ونموها واستمرارها ، و لكي تحقق التوالد، وهي مبرمجة لكي تموت بعد ذلك .

وقد كانت الإدارة لدى الكائنات الأولية البسيطة (وحيدات الخلية ) فزيولوجية فقط ، ثم نشأت الأجهزة الحسية ثم العصبية ( والتي هي بنيات فزيولوجية متخصصة ) لكي تساعد في الإدارة والتحكم والقيادة ، لتنفيذ الأهداف أو البرامج الموضوع . وذلك حسب الخيارات المتاحة .

ثم نشأت الأجهزة الحسية والعصبية المتطورة ، التي أنتجت الإدراك والوعي . وقد تسلمت هذه البنيات ( أي الإدراك والوعي ) مجالات واسعة من القيادة والتحكم ، وكانت تتضارب وتتناقض أحياناً مع مراكز القيادة السابقة الفزيولوجية والغريزية ( أو العصبية المبرمجة ) وأحياناً أخرى تراعى قرارات كل منهم .

وبعد نشوء المجتمعات البشرية ونشوء اللغة ، نشأ ما يشبه العقل الجماعي العام ، وحدث تداخل بين دوافع وأهداف وخيارات " أنا " الأفراد ، وخيارات البنيات الاجتماعية التي تشكلت .

أن ذات كل كائن حي هي مرجع ومركز متماسك له هوية وانتماء واحد ، ويتم تبادل التأثيرات بينه وبين باقي الوجود حسب الداخل ( الذات ) والخارج ( العالم أو الوجود )، أي أن هناك وجود هذه الذات مقابل وجود كل العالم أو الوجود ، ويكون وجود هذه الذات ، هو مرجع أو مركز يرصد جزء من الوجود العام .