المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الانفتاح الفكري ... حقيقته وضوابطه



memainzin
06-01-2009, 01:11 PM
الانفتاح الفكري ... حقيقته وضوابطه (2/3)
29-6-2005
بقلم د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي
"...في الجزء الأول تحدت الكاتب عن حقيقة الانفتاح الفكري ، وبيِّن أنه مصطلح غربي نشأة ومدلولاً ، وبين أن الإسلام لا يتصادم مع الابداع والتطور والاستفادة من العلوم التجريبية ، وأنه يدعو إلى السعي في الأرض والتدبر فيها وعمارتها ، وفي هذا الجزء يستكمل الحديث عن ذلك..."
وفيما يتعلق بموقف الشريعة الإسلامية من العلم والمعرفة، عدة مسائل لابد من الوقوف عندها:


المسألة الأولى : الموقف الشرعي من علوم غير المسلمين ومخلفات حضارتهم :


- علوم غير المسلمين نوعان :


النوع الأول: علوم دينية سواءً كانت في أديانهم أو في دين الإسلام ، والموقف الشرعي من هذا النوع فيه تفصيل كالتالي :


أ- العلوم الدينية التي ينقلونها عن أهل ملتهم، فالموقف الشرعي منها يختلف بحسب نوع التعامل معها :


(1) فإن كان النقل منها لمعرفة دين أصحابها دون اعتقاد مضمونه فهذا لابأس به، إذا كان النقل عن مأمونٍ خبير فيما يتحدث فيه . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم التوراة فتعلمها في خمس عشرة يوماً، ولايزال العلماء ينقلون عن أهل الأديان من واقع مصنفاتهم لمعرفة حقيقة دينهم لبيان ما فيه من الباطل والتناقض . وهذا منهج علمي صحيح أن تنقل عن صاحب الشأن لا عن من نقل عنه وهومن العدل الذي أمرنا به في قوله تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (المائدة: من الآية8) . ولكن لاينبغي الاشتغال بهذا لمن لم ينضج في فهم دين الاسلام وذلك سداً للذريعة . وسيأتي الإشارة لهذا في ضوابط الإنفتاح .


(2) وإنْ كان النقل عنها للاستدلال بها والاعتماد عليها أو ترجمتها، فهذا لا يجوز؛ لأن في دين الاسلام غنية وكفاية في الدلائل والمسائل وفي العقائد والأعمال، وسيأتي الإشارة لهذا في الانفتاح الفكري المذموم .


ب— العلوم الدينية التي ينقلونها عن الاسلام سواءً في العقيدة أو الفقه أوالعلوم المساعدة لها كاللغة والأصول والتاريخ ونحوها . وهذا مثل كتب المستشرقين في العلوم الاسلامية، فالموقف الشرعي المنع من الاستفادة منها، والنهي عن ذلك، لما يلي :


(1) إن فيما كتبه علماء الاسلام غنية وكفاية في فهم قضايا الاسلام ولغته وتاريخه ، وهم أعلم به من الدخلاء الذين يكتبون عنه وهم خارجه .


(2) إن من أصول الرواية عدم قبول رواية ونقل الفاسق المسلم، كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (الحجرات:6)، فكيف برواية الكافر !


(3) إنه ثبت من واقع كتب المستشرقين أن لهم أغراضاً خبيثة وأهدافاً سيئة يريدون نشرها من خلال كتبهم ، ويلوون أعناق النصوص ويبترونها ويفسرونها تفسيراً غريباً على التصور الإسلامي ويحرفون الكلم عن مواضعه ، فلاشك أن من كانت هذا حاله لاينقل عنه ، فكيف وروايته مجروحة ، وعندنا غنية وكفاية ؟!


النوع الثاني: علوم دنيوية بحتة، مثل الصناعات والاختراعات العلمية :


هذا لابأس من أخذه وقبوله، ويكون ذلك بعد إخضاعه لقوانين النقد العلمي وظهور صحته وصدقه، وهو إرث إنساني يمكن لأي أمة أن تطوره وتزيد فيه، وهو علم تراكمي شارك فيه عناصر من أديان متعددة، لكن ينبغي التنبه لما يلي:


أ- التفريق بين الحقيقة العلمية الضرورية وبين النظرية الظنية، والتفريق بين العلوم المادية والانسانية لأن للأخير ارتباط بالتوجه والدين والأخلاق .


ب- تصفية بعض المخترعات من المخزون الثقافي الذي تتضمنه، فكل تقنية لها ضلال ثقافي لا بد من تصفيته منها قبل نقلها، وتكييفها لتناسب الأمة المسلمة ذات الرسالة الربانية .


ج- عدم الوقوف عند الأخذ والتلقي وتجاوز ذلك إلى التفكير والابداع والتطوير .


د- كل الأمور المادية تدخل في الجواز سواءً كانت من الصناعات المادية أو غيرها مثل الفنون الإدارية والعسكرية مع أهمية تصفية ذلك مما يعلق فيه من المضامين الفكرية .


هذا ما يتعلق بعلوم غير المسلمين .


أما الآثار والمخلفات الحضارية للامم البائدة متنوعة، ويتنوع الحكم عليها بحسب نوعها (1):


(1) مافيه فائدة علمية أو مادية مثل الوثائق والنقوش وقطع النقود والجسور والآبار والعيون والسدود والقناطر والطرق ونحوه . فهذه يستفاد منها، وقيمتها بقدر الخدمة التي تؤديها للناس ، وليس لها فائدة أكثر من ذلك . فلا يجوز الاهتمام بها باعتبارها أثراًلايقدم خدمة عملية ، ولايجوز تعظيمها أو تقديسها .


(2) ما في وجوده منافاة للعقيدة الصحيحة، مثل التماثيل والصور والأصنام وبيوت العبادة لغير الله والمشاهد المبنية على القبور والمزارات ونحوها . فهذه يجب تحطيمها وإزالتها؛ لأنه ذريعة إلى الشرك .


(3) ما لاينفع فيه ولا ضرر منه لذاته مثل المباني الخربة وبقايا الأسوار والحصون والبنايات الكبيرة كالأهرامات وإيوان كسرى وحدائق بابل ونحوها . فهذا يهمل كما أهمله الصحابة، ولا يعنى به لأنه أث ، لأن هذا نوع تعظيم له ولمن خلَّفه .


وقد أرشدنا القرآن للمنهج الصحيح في دراسة الآثار وعرفنا القيمة الحقيقية لها، وهو أخذ العبرة والعظة من مصارع الذين هلكوا وظلموا أنفسهم، يقول تعالى: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } (النمل:69) . ويقول جل ذكره: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } (القصص:58) .


المسألة الثانية: مدى الحاجة إلى (الانفتاح) على الفكر الآخر .


"إن الاسلام تصور مستقل للوجود والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومن ثمّّّ ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها ، ويقوم عليه نظام ذوخصائص معينة . هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديماً وحديثاً" (2) .


وليس له حاجة في الانفتاح على أي فكرٍ آخر؛ لأن هذا الفكر الآخر إنساني والاسلام منهج رباني كامل . وإذا كان لايستوي الخالق مع المخلوق، فكذلك لاتستوي شريعة الخالق مع أوهام المخلوق . وكلمة (الفكر الآخر) كلمة فضفاضة يراد بها أنواعاً متعددة من الأفكار والأهواء، لكنها جميعاً تجتمع في خصيصة واحدة وهي أن مصدرها (بشري) أرضي .


فإذا كان المقصود بالفكر: نتاج المعرفة الإنسانية فيما فيه منفعة دنيوية فهذا أمر مشترك بين سائر البشر يستفيد فيه بعضهم من بعض دون نكير . وإذا أريد بالفكر مايكون موافقاً لمعنى الدين مثل التفسير الفكري للكون والإنسان والحياة والغيب ونحوذلك ففي الإسلام غنية كافية وصادقة وهذا مانريد بمنع الانفتاح عليه لما فيه من الضرر والشك في الدين الحق .


إذا عرفنا ذلك، وعرفنا منزلة العلم والنظر وعمارة الأرض في هذا الدين، وأدركنا إدراكاً جازماً بالفرق بين الخالق والمخلوق، ندرك حينها أنه ليس هناك أي حاجة للانفتاح على الفكر الآخر؛ إلا في دعوته إلى الحق وترك الضلال بالأدلة البرهانية المقنعة . فكل خصائص الكمال والتمام موجودة في الإسلام، لأنه منهج رباني ومصدره "إلهي"، فهو وحده مناط الثقة في أنه التصور المبرأ من النقص، والمبرأ من الجهل، والمبرأ من الهوى . وهذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري والتي نراها مجسدة في جميع التصورات التي صاغها البشر ابتداءً من وثنيات وفلسفات، أو التي تدخل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة ! ، وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصور الموافق للفطرة الانسانية، الملبي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها . ومن ثم فهو التصور الذي يمكن أن ينبثق منه ، ويقوم عليه ، أقوم منهج للحياة وأشمله" (3) .


إن القول بحاجة الفكر الاسلامي إلى أي فكر بشري آخر هو كالقول بحاجة الله تعالى للانسان، ولكن المنهزمون فكرياً ونفسياً لم يتصوروا أولاً : طبيعة الفكر الاسلامي وخصائصه ومميزاته ومصدره، ثم لم يعرفوا - ثانياً - الخلل الكبير الذي وقع فيه الفكر الانساني المبتعد عن الله تعالى في تصوره وقيمه وأدبياته . ونحن هنا لا نقصد أفكار آحاد المسلمين التي هي قابلة للأخذ والرد ولكن نريد الفكر الإسلامي المجمع عليه والمستند بقطعية ووضوح إلى الوحي الرباني .


المسألة الثالثة : امتلاك الحقيقة المطلقة .


لاشك أن الاسلام يملك الحقيقة المطلقة في الله تعالى والغيبيات والتشريعات، لأنه هو الحق، وغيره المخالف له هو الباطل: { فماذا بعد الحق إلا الضلال } . هذا فيما يتعلق بالأمور الواضحة في النصوص الشرعية، أما فيما يتعلق بالأمور الخفية التي يختلف فيها المجتهدون من المسلمين فهذا لا يمكن فيه القول بامتلاك الحقيقة المطلقة لأحد من المجتهدين دون الآخر مع وجود الحقيقة في ذاتها ثابتة .


وللمجتهد أن يخطِّئ مخالفَه، ويعتقد بصواب قوله، أما الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة في أمر خفي، فهذا غير صحيح لأنه يوحي بعدم إعذار المخالف له المنضبط في نظره واجتهاده . وهذا لا يعني أن الحق في قضايا الاجتهاد نسبي لا يوجد فيه حقيقة في نفس الأمر، بل الحقيقة ثابتة والحق يمكن الوصول إليه في قضايا الاجتهاد، ولهذا كان المصيب من الجتهدين واحد والآخر مخطئ، وهذا هو الصواب خلافاً لمن زعم أن كل مجتهد مصيب، ففي الحديث : (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر) .


وشعار "إمتلاك الحقيقة المطلقة" تهمة يرفعها أصحاب الملل المنحرفة، والمذاهب الزائفة في وجوه أهل السنة، ليقولوا لهم إنكم قد حكمتم على المخالف قبل الحوار فما هي فائدته ؟


والحقيقة أنه ليس هناك حوار بين أهل الاسلام وأهل الأديان غير حوار الدعوة وإقامة الأدلة العقلية المقنعة على صحة الحق، وليس المقصود بالحوار التوصل إلى نقاط مشتركة والعمل من خلالها وترك نقاط الخلاف والاعذار فيها، أو إعادة النظر في المنهج الإسلامي من حيث صحته أوتطبيقه وهذا المعنى في الحوار مناقض للتسليم بصدق هذا الدين الذي هو شرط أساسي في صحة الإيمان . وهذا لا يعني أن أهل الاسلام غير قادرين على مناقشة غيرهم ، بل هم أهل الحجة والبرهان، ولكن الدخول في الحوار بمفهومه السابق منهج غير مرضي في الشرع، ويتضمن الشك في الدين وهو كفر بالاسلام إذ من شروطه الأساسية: (اليقين) .








ضوابط الانفتاح الفكري


سبق أن بينت أن مصطلح (الانفتاح) فيه غموض وضبابية، ويتضمن معان سلبية في فهم طبيعة الدين ومقوماته . ولكن سأستعمل هذا المصطلح بمعناه العام الذي يدل على معنى الاطلاع والاستفادة مما عند الآخرين وترك الانكفاء على الذات والانغلاق عليها . وهذا المعنى العام يمكن تطبيقه بشكل صحيح إذا روعي فيه الضوابط الآتية، ويمكن أن يطبق بشكل خاطئ عند عدم مراعاة الضوابط .


ومن حيث المبدأ فإن الإنفتاح على العالم فكريا وثقافيا له آثاره المفيدة في العلوم الدنيوية اذا كان ممن إلتزم بدينه وعقيدته ولا يخاف عليه الضلال . أما المطالبة بشكل عام بالانفتاح على الآخر دون تحديد لنوعية القضايا التي يتم فيها الانفتاح، ونوعية المطالب به فليس كل أحد يقدر على أخذ المفيد وترك الزغل؛ فهذا لا شك في خطأه وبعده عن الصواب، ومنافاته للمحافظة على الخصوصية التي تميزبها المسلمون عن غيرهم . ولذا فلا بد من وجود ضوابط أثناء الانفتاح على الثقافة والمعارف بشكل عام، ولعلنا نوجزها في ما يلي :


أولاً: أن يكون الانفتاح بعد العلم الشرعي:


فإن العلم بالشريعة الإسلامية ضرورة لمعرفة دين الإسلام وتطبيقه والعمل به, وهو أيضاً ضرورة للانفتاح الفكري على الثقافات والآداب غير الإسلامية . فالانفتاح المفيد يكون بعد تصور عقيدة الإسلام وأحكامه تصوراً صحيحاً والثقة بها ورد كل ما يخالفها من عقيدة أو عمل . أما الانفتاح قبل العلم فإنه مزلق خطير يجعل صـاحبه يتخبط في الأفـكار والمناهج و الفلسفات, ويقع فيما يخالف ويناقض أصول دينه ومن أقل آثاره الشك في صحة دينه والشعور بالنقص نحوه . وهذا هو أحد أسباب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب والإنكار عليه عندما رأى في يده صحائف من التوراة فقال له : ( أ متهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة, والذي نفسي بيده, لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ) [ رواه أحمد بسند صحيح ] . ومعنى ( متهوكون أي : متحيرون ) . فيكون هذا النهي عن قراءة كتب الأديان وعموم المعارف، دون علم بالشريعة، أو قراءتها للاهتداء بها . ويدل على ذلك رواية البيهقي وفيها: ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ) . ويوضح ذلك قول عمر رضي الله عنه - كما في رواية البيهقي -: ( إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا أ فترى أن نكتب بعضها ) . يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "فلم كان هذا الاشتداد في الإنكار ؟ ما ذلك إلاّ لأنه كان في مرحلة التأسيس والتكوين للعقيدة والملة, ولا ينبغي أنَّ يشوش عليها في هذه المرحلة الخطيرة حتى تترسخ أسسها, ويقوم بنيانها, ويخرج زرعها شطأه, وليستغلظ ويستوي على سوقه, ثم بعد ذلك تنفتح على ما شاءت من الديانات والثقافات والحضارات" (4) .


ولا ريب أنّ ما ذكره الدكتور أمر معتبر، لكن ينبغي أنْ ينضاف إلى ذلك العلم الكافي المانع من الانسياق وراء الشبهات, كما أن مما يضاف إلى أسباب نهيه عن الاطلاع على التوراة قصد الاهتداء والانتفاع بما فيها, فالإسلام كان مغني في باب الهداية إلى الصراط المستقيم . أما الاطلاع على التوراة للرد على الباطل ونحو ذلك مما لا يقصد به الاهتداء بها فهذا أمر مباح في الأصل, وقد يكون مستحباً أو واجباً بحسب الحاجة لذلك ودفع الشبهة .


ثانياً: أن يكون الانفتاح مع الالتزام بالإسلام .


الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة الإنسانيّة: الروحية والمادية، الفردية والجماعيّة, العلمية والعملية, وهو دين ثابت في قواعده وعقائده، وقد صور الأستاذ سيد قطب كيفيّة ثبات الإسلام مع تطوّر الحياة وأنماطها المختلفة فقال : "إنه تصور رباني . جاء من عند الله بكل خصائصه, وبكل مقوماته, وتلقّاه الإنسان كاملاً بخصائصه هذه ومقوماته؛ لا ليزيد عليه من عنده شيئاً, ولا لينقص كذلك منه شيئاً . ولكن ليتكيّف هو به وليطبق مقتضياته في حياته . وهو - من ثَمَّ - تصور غير متطور في ذاته, إنما تتطور البشرية في إطاره وترتقي في إدراكه, وفي الاستجابة له، وتظل تتطور وتترقى, وتنمو وتتقدم, وهذا الإطار يسعها دائماً, وهذا التصور يقودها دائماً، لأنه المصدر الذي أنشأ هذا التصور هو نفسه المصدر الذي خلق الإنسان، هو الخالق المدبر, الذي يعلم طبيعة هذا الإنسان, وحاجات حياته المتطورة على مدى الزمان، وهو الذي جعل في هذا التصور من الخصائص ما يلبي هذه الحاجات المتطورة في داخل هذا الإطار" (5) .


فالانفتاح والتطور والتجديد والعقل والإبداع ونحو ذلك، لا يمكن أن تصادم هذا الدين إذا كانت صحيحة وحقاً, أما إذا كانت باطلاً فمن الطبيعي أنْ يعارض الباطل الحق، والخطأ الصواب، وكل ما سبقت الإشارة إليه يعود إلى (العقل), وقد قرر العلماء استحالة ورود العقل الصريح مناقض للنقل الصحيح, فإما أن تكون دلالة العقل غير صحيحة فهي غير مقبولة أصلاً, وإما أن يكون النص غير صحيح أو غير صريح في دلالته, وحينئذٍ فالدين موافق للعقل لأن الجميع من عند الله تعالى (6) .


لقد فطن شيخ الإسلام ابن تيميّة لأساس المشكلة عند دعاة الانفتاح والتطوير والتجديد وهو (تعظيم العقل), وسوء الظن بالنقل, ولهذا ردوه أو أولوه وحرفوه, فبين التوافق والانسجام للعقل مع النقل، وبين عظمة النقل واتساقه مع حاجات الإنسان النفسية والعقليّة والاجتماعية, وهذا ما لم يتصوره هؤلاء ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث فيه وإدراكه .


وما زالت المشكلة قائمة إلى اليوم وإن اختلفت العبارات فكان الأقدمون يسمونها "تعارض العقل والنقل" أما المعاصرون فقد يغيرون كلمة ( العقل والنقل ) إلى ( العلم والدين ) أو ( الدين والمدنية ) أو ( الدين والتطور ) أو غير ذلك . والحقيقة أن كتاب "درء تعارض العقل والنقل" علاج لقضايا عصره وعصرنا, وكما أنه رد على الفلاسفة والمتكلمين فهو يصلح أن يكون رداً على دعاة التنوير و العصرانيين . نعم هناك اختلاف في الأمثلة والنماذج المضروبة لكنّ اللباب والقضيّة الجوهرية واحدة .


والمهم أنه يمكن للإنسان الانفتاح والاطلاع والثقافة والإبداع في إطار الالتزام بالشريعة الإسلاميةعقيدة وعملاً ومنهجاً . وافتراض التعارض هو جهل بالشريعة نفسها أو جهل بحقيقة التطور والانفتاح والإبداع .


ثالثاً: الانفتاح دون الانبهار بثقافة الغير .


الانبهار بثقافة غير المسلمين وآدابهم وأفكارهم ومناهجهم دليل على عدم العلم بالإسلام والاعتزاز به والثقة المطلقة بصدقه ودلالته على الفلاح والهداية في الدنيا والآخرة . وهو من جهة أخرى يدل على ضعف شخصيّة المنبهر , وهزيمة نفسه , وقصور فكره . ومن كانت هذه حاله فلن يتجاوز التقليد المجرد . أما التجديد والتطوير والإبداع والابتكار فلا يمكن أن يحصلها المنبهر حتى يفوق من سكر انبهاره بالغير , ويقوم بنقده نقداً واعياً ليأخذ ما يفيده ويرد ما عداه .


يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "ومن الانفتاح المحذور ... الانفتاح المبهور بثقافة الآخر, حين ينظر إليه مضخماً من شأنه, معظماً من فكره, شاعراً بالدونية تجاهه لسبب أو لآخر, فكل ما قاله هذا الآخر, فهو صدق, وكل ما رآه فهو صواب, وكل ما فعله فهو جميل ..." (7) .


ويمكن للمسلم أن يطلع على ثقافات الأمم الأخرى بعد العلم, ومع الالتزام ودون انبهار ليعرف نعمة الله تعالى عليه, أو للاطلاع على الصناعات والمخترعات المفيدة في قوة المسلمين أو غيرها من المصالح المشروعة . وأي أمة جادة تريد تطوير نفسها لا يمكن أن تسمح بالانبهار بالآخر بين أبنائها . ولما ذهب جيل من اليابانيين إلى الغرب رجع وهو يلبس الجينز ويقلد الغرب في كل شئ ؛ ذبحهم حاكم اليابان وأرسل جيلاً آخر لم يتأثر بشيء من العادات أو الأفكار بل تعلم التقنية والتكنولوجيا وطورتها فأصبحت من الدول الصناعية المنافسة .

http://alqlm.net/index.cfm?method=home.con&contentID=156