المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ألبلاء ((( أنواعه ومقاصده )))



memainzin
06-02-2009, 07:42 PM
ألبلاء أنواعه ومقاصده

عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "


بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه، ونستغفره، ونعوذُ بالله من شُرورِ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وبعد.
فإن كثيراً من الناس ينزل بساحتهم البلاء فلا يفقهونه .. ولا يفقهون الغاية منه .. وبالتالي تراهم لا يُحسنون تفسيره، ولا التعامل معه!
لذا يتعين البحث في هذا الموضوع الهام .. من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: فما هو البلاء .. وما هي أنواعه .. وما هي مقاصده وغاياته .. وكيف ينبغي التعامل معه؟؟
البلاء: البلاء؛ واحد، والجمع " بلايا "، وبلاه جربَّه واختبره، وبلاه اللهُ؛ اختبره[ ]. ويُقال بَلِيَ الثوبُ وبلاءً؛ أي خَلُقَ، ومنه لمن قِيل سافرَ بلاهُ سفَرٌ؛ أي أبلاهُ السفرُ، وبلوتُه؛ اختبرتهُ كأني أخلَقتُهُ من كثرة اختباري له، وأبليتُ فلاناً إذا اختبرتَه، وسُمي الغمُّ بلاءً من حيث إنه يبلي الجسم، وسُمي التكليف بلاءً من أوجه: أحدُها أن التكاليف كلها مشاقُّ على الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاءً، والثاني أنها اختبارات.
وإذا قيل: ابتلَى فلانٌ كذا وأبلاهُ، فذلك يتضمن أمرين: أحدهما تعرُّف حاله، والوقوف على ما يُجهَلُ من أمره، والثاني ظهور جودته ورداءته، وربما قُصِد به الأمران، وربما قُصد به أحدهما [ ].
أنواع البلاء: البلاء نوعان: بلاء يأتي من جهة الشر والشدة، وبلاء يأتي من جهة الخير والرخاء والسِّعَة.
النوع الأول: بلاء الشَّرِّ والشِّدَّةِ: وهذا النوع من البلاء ينقسم إلى قسمين: بلاء قدري كوني؛ كأن يُقدِّر الله  على عبدٍ من عباده الفقر، أو الجوع، أو الخوف، أو المرض، ونحوه فقدان

الأصحاب والأحبة، ودليل هذا النوع من البلاء قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ البقرة:155. وكذلك قوله تعالى: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ الفجر:16. وقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ آل عمران:186.
وقوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ العنكبوت:2-3.
وقال تعالى عن بني إسرائيل وما نالهم من طغيان وظلم فرعون: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ البقرة:49. وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إبراهيم:6.
وبلاء شرعي تكليفي؛ كالجهاد في سبيل الله وما يترتب عليه من مشقة وجراح وآلام، والهجرة وما يترتب عليها من مفارقة الأهل والأوطان والديار، والعمل بما تقتضيه عقيدة الولاء والبراء في الإسلام، وكذلك الصلاة في أوقاتها، والزكاة، والحج، والصيام .. وغيرها من العبادات التكليفية الشرعية التي تستلزم بذل الجهد، وحمل النفس على خلاف المألوف وما اعتادته من دعة ورفاهية ورخاء.
ومن البلاء الشرعي التكليفي، كذلك الإمساك عن المنهيات والمحظورات التي نهى الشارع عنها، وحمل النفس على مخالفة الهوى .. وما أقل من يقدر على ذلك!
والدليل على هذا النوع من البلاء قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى النازعات:40-41. وقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُم محمد:31.
وفي قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك، وما عانوه من بلاء وشدة من جهة مقاطعة الأحبة لهم في الله بأمرٍ من النبي  .. يقول كعب بن مالك ـ وهو من الثلاثة الذين تخلفوا ـ:" فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام، ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك

غسان، وكنت كاتباً فقرأته، فإذا فيه : أما بعد، فإنه قد بلغنا أنَّ صاحبكَ قد جَفاَك، ولم يجعلكَ الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحقْ بنا نواسِك، قال : فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجَّرتها بها ..".
حقاً إنه من البلاء .. فقد اجتمع عليه بلاء الشدة والرخاء معاً؛ فبينما هو يُجافى من المجتمع
الإسلامي برمته، فلا يتكلم معه أحد، بما في ذلك زوجه وأهله .. تُعرض عليه دنيا الكافرين وزينتها وسعتها ورخائها .. فيأباها .. ولو قبلها في حينها لربما أخرجته من دائرة الإسلام، ولكن الله يعصم من عباده من يشاء.
النوع الثاني: بلاء الخير والسِّعَة: وهذا النوع من البلاء كذلك ينقسم إلى قسمين: بلاء قدري كوني؛ كأن يُقدِّر الله  على عبدٍ من عباده الغنى والسعة، والصحة، ويرزقه من البنين والذرية العدد الوفير .. مما يكون مدعاة للفخر والتباهي عند كثير من الناس .. والدليل على هذا النوع من البلاء في كتاب الله تعالى قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ الأنبياء:35. فالآية الكريمة دلت على نوعي البلاء: بلاء الشر والخير معاً.
وكذلك قوله تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الأعراف:168.
قال ابن كثير في التفسير:  وَبَلَوْنَاهُمْ ؛ أي اختبرناهم  بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ ؛ أي بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء ا- هـ.
وقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ الأنفال:28. والأموال والأولاد تكون فتنة وبلاء عندما تُشغل صاحبها عن ذكر الله، وعن القيام بما يجب عليه القيام به شرعاً. كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ المنافقون:9. فإن ألهتك عن ذكر الله، وعن القيام بالواجبات الشرعية فاعلم حينئذٍ أنها فتنة وبلاء عظيم.
وفي الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" إن الولدَ مبخلة مجبنة مجهَلةٌ محزَنةٌ "[ ]. وهذا من قبيل التحذير والتنبيه؛ أي لا يحملنَّك ولدك وتعلقك به على البخل إذا ما استدعى الأمر منك

الإنفاق في سبيل الله، كما لا ينبغي أن يحملك على الجبن إذا ما استدعى الأمر منك الإقدام، والنفير إلى الجهاد في سبيل الله.
والقسم الآخر من هذا النوع من البلاء شرعي تكليفي؛ كالإمساك عن الاستغناء والتوسع، وطلب سبل الخير والسعة عن الطرق المحرمة شرعاً؛ كطلب المال عن طريق الربا أو الميسر أو الغش، وكذلك طلب الصيد وقت الإحرام، والدليل على هذا النوع من البلاء في كتاب الله، قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ المائدة:94.
قال ابن كثير في التفسير: قال ابن عباس قوله: آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ  قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله عباده في إحرامهم، حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم، فنهاهم الله أن يقربوه.
وقال مجاهد: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ؛ يعني صغار الصيد وفراخه،  وَرِمَاحُكُمْ ؛ يعني كباره.
وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون  لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ؛ يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد، يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه باليد والرماح سراً وجهراً، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره ا- هـ.
وهذا النوع من البلاء قد ابتلي به مَن قبلنا من بني إسرائيل لما حرم الله عليهم صيد البحر يوم السبت؛ فكانت الأسماك والحيتان تأتيهم شُرَّعاً فتظهر على سطح الماء في هذا اليوم، وبصورة يسهل اصطيادها والتقاطها، وتختفي في سائر الأيام التي يجوز فيها الصيد بصورة يصعب اصطيادها .. ففتنوا فلم يصبروا أمام إغواء الصيد السهل .. فعصوا الله تعالى .. واصطادوا في اليوم المحرم عليهم الصيد فيه، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ الأعراف:163. فعاقبهم الله تعالى على عصيانهم هذا فمسخهم قردة خاسئين، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ البقرة:65.
ونحو ذلك قوله تعالى في مال اليتيم إذ قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ  الأنعام:152. وكذلك قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً الإسراء:34.

فمال اليتيم بلاء شديد على من أودِع عنده ووكِّل عليه؛ وذلك أن اليتيم ضعيف لا يقوى على محاسبة موكله ومساءلته: أين وكيف ينفق ماله .. وهذا في العادة يُجرئ ضعاف النفوس على السطو على مال اليتيم والتصرف فيه بغير وجه حق .. فأنزل الله تعالى آياته محذراً من ذلك.
وبلاء الخير في كثير من الأحيان يكون أشد فتنة ووطأً على صاحبه من بلاء الشدة والشر، فالشدة غالباً ما تحمل صاحبها على الرجوع واللجوء إلى الله تعالى، وعلى طلب العون والمدد والغوث من رب العالمين، فيمده الله تعالى بالصبر والثبات، بينما بلاء الخير والسعة والدعة والرخاء غالباً ما يحمل صاحبه ـ إلا من رحم الله ـ على الطغيان والظلم والتعدي، وعلى النسيان وقساوة القلب، والركون إلى الدنيا وزينتها ومتاعها، فيقع ذليلاً في أسرها فلا يستطيع الفكاك ولا الخلاص منها، لذا نجد أن النبي  قد خاف على أمته فتنة وبلاء الخير والسعة أكثر من فتنة الشدة والشر، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه، أن رسول الله  بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدومه، فوافقت صلاة الصبح مع رسول الله  فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله  حين رآهم وقال:" أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة، وأنه جاء بشيء ". قالوا : أجل يا رسول الله، قال:" فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم ". وفي رواية:" فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم ".
وقال :" أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا "، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله! قال:" بركات الأرض .. إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه، كان كالذي يأكل ولا يشبع " مسلم.
وقال :" إذا فُتحت عليكم خزائِن فارس والروم، أي قومٍ أنتم؟" قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله :" أوْ غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض " مسلم.
وقال :" وإني لستُ أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافَسُوها " البخاري.
وقال :" أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى ".

صدق رسول الله  .. فداه نفسي .. إنني لأعرف رجالاً كانوا في الشدة وساحات الجهاد جبالاً ومثالاً في الجهاد والصبر والإقدام والعزيمة والهمة العالية .. فقدَّر الله لهم الهجرة إلى بعض بلاد الخليج وغيرها .. ففتحت عليهم أبواب الدنيا وزينتها .. وفتنتها .. فتنافسوها .. فهلكوا!
كان حديثهم من قبل؛ في أيام الشدة .. عن الأمة وآلامها .. وعن الجهاد .. والصبر والثبات .. وطلب الاستشهاد .. وكيف يزدادون إيماناً بالطاعات .. فأصبح حديثهم فيما بعد؛ أيام الرخاء والسعة والدعة عن الدينار والدولار .. وأنواع وألوان الطعام .. وعن ارتفاع العملة وانخفاضها .. وعن السيارات وجودتها وحداثتها وأسعارها .. وعن العمران والتطاول فيه .. إذا قاموا إلى الصلاة قاموا ـ في آخر أوقاتها ـ كسالى .. لا يُطيقون الحديث عن الإيمان والجهاد .. ولا الاستماع إليه .. ومن يُسمعهم بعض الكلمات عن الدين والإيمان .. يستمعون إليه وهم له ولحديثه كارهون متأففون
زاهدون .. سرعان ما تظهر على وجوههم علامات التجهم والضيق والضجر مما يسمعون، ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله في كتابه العظيم الظلال:" الابتلاء بالشر مفهوم أمره، ليكتشف مدى احتمال المبتلى، ومدى صبره على الضر، ومدى ثقته في ربه، ورجائه في رحمته .. فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان .. إن الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر .. إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.
كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم الجامحة في أوصالهم.
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان، وما يغريان به من متاع، وما يثيرانه من شهوات وأطماع!
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء!
كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح .. ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال، وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح!
إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها .. أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على

اليقظة والمقاومة ..لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء!"ا- هـ.
فإذا عرفت ذلك يا عبد الله عرفت المراد من قوله :" إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا، و هو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام و الشراب تخافون عليه "[ ].
وقوله :" إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدُكم يحمي سقيمه الماء "[ ].
وإذا عرفت ذلك عرفت كذلك أن الإنعام على العبد في الدنيا بنعم الدنيا العديدة والواسعة ليس دليلاً على محبة الرب  لهذا العبد ولا دليلاً على رضاه على هذا العبد ـ كما يظن البعض! ـ وبخاصة إن كان هذا العبد مقيماً على الذنوب والمعاصي.
فالدنيا يعطيها الله تعالى من يحب ومن لا يُحب، بينما الآخرة ونعيمها لا يُعطيها إلا من يُحب ويرضى من عباده، كما في الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، و إن الله يعطي الدنيا من يحب و من لا يحب، و لا يعطي الإيمان إلا من أحب "[ ].
فإن كان العبد مقيماً على الذنوب والمعاصي أو الكفر ومع ذلك يمن الله تعالى عليه بنعم الدنيا وخيراتها وزينتها فاعلم أنها استدراج من الله تعالى لهذا العبد، وإمهال له، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر.
فقد صح عن النبي  أنه قال:" إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ  "[ ].


وقال :" إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. قال: ثم قرأ : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ  "البخاري.
وقال تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ الزخرف:33-35.
قال ابن كثير في التفسير: أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطينا، فيجتمعون على الكفر لأجل المال، هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغيرهم،  لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ  أي سلالم ودرجاً من فضة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي وابن زيد وغيرهم،  وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  أي إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى، أي يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الآخرة، وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها،  وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ  أي هي خالصة لا يُشاركهم فيها أحد غيرهم ا- هـ.
قلت: ومما يدل على أن العطاء ليس دليلاً ولا مقياساً على المحبة والرضى أن النبي  كان أحياناً يُعطي المؤلفة قلوبهم ما لم يُعطي المهاجرين والأنصار، ولم يكن ذلك دليلاً على أن النبي  يحب المؤلفة قلوبهم أكثر من المهاجرين والأنصار.
ـ مقاصد البلاء: بعد أن عرفنا البلاء وأنواعه، وأقسامه، بقي أن نتعرف على مقاصد البلاء والغاية منه، وهو الجانب الأهم من الموضوع؛ لأنه يُعين المرء على فهم البلاء الذي نزل بساحته، ولماذا نزل به أو بغيره، وما الحكمة منه.
وإليك أهم وأبرز مقاصد وغايات البلاء:
1- لرفع مقامات ودرجات العبد عند ربه يوم القيامة: والبلاء الذي ينزل بساحة الأنبياء، والصديقين، والشهداء، فهو من هذا القبيل؛ لرفع درجاتهم ومقاماتهم، ومضاعفة الأجر الجزيل لهم يوم القيامة، كما في الحديث عن سعد بن أبي وقاص، قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟

قال:" الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى العبد على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه .. "[ ].
وعن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي  وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حرَّهُ بين يدي فوق اللحاف. فقلت يا رسول الله ما أشدها عليك! قال إنَّا كذلك يُضَعَّفُ لنا البلاء ويُضعَّف لنا الأجر ". قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال:" الأنبياء "، قلت يا رسول الله ثم من ؟ قال:" ثم الصالحون إنْ كان أحدُهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها وإن كان
أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء "[ ].
وقال :" إنا كذلك، يشتد علينا البلاء ويُضاعف لنا الأجر "، فقال: يا رسول الله ! أي الناس أشد بلاء ؟ قال:" الأنبياء، ثم الصالحون، وقد كان أحدهم يُبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها فيلبسها، ويُبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء، من أحدكم بالعطاء " .
وقال :" إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السَّخَطُ "[ ].
وسئل رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال:" الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الناس على قدر دينهم؛ فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه "[ ].
وعن أبي سعيد  أنه دخل على رسول الله  وهو موعوك عليه قطيفةٌ، فوضع يده فوق القطيفة، فقال: ما أشدَّ حُمَّاك يا رسول الله!، قال :" إنا كذلك يُشدد علينا البلاء، ويُضاعف لنا الأجر "، ثم قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قال:" الأنبياء " قال: ثم من ؟ قال :" العلماء "، قال: ثم من؟ قال:" الصالحون، وكان أحدهم يبتلى بالقَمْلِ حتى يقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء "[ ].

لنكمل ماتبقي علي هذا ألرابط
http://www.abubaseer.bizland.com/books/read/b19.doc