أبو مريم
06-28-2009, 07:34 AM
ظنية الثبوت ومسألة إفادة خبر الآحاد للعلم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجميعن .. أما بعد
القرآن الكريم منقول بالتواتر المفيد لقطعية الثبوت وأما الإجماع فقد ذهب الأمدى إلي أنه لا يتطلب نقلا, والواقع أنه يحصل بالاستقراء وينقل كما ينقل الخبر وقد يصل لحد التواتر ، لكن المتواتر من السنة قليل بل نادر خاصة المتواتر اللفظى قال السفارينى:((والتواتر يكون في القرآن كالقراءات السبع، واختلف في الثلاث الباقية، هل هي متواترة أو لا؟ والحق أنها متواترة، وأما الإجماع فالمتواتر فيه كثير ، وأما السنة فالمتواتر فيها قليل، حتى إن بعضهم نفى المتواتر اللفظي من السنة إلا حديث (( من كذب علي متعمدا ))، وزاد بعضهم حديث الحوض ، وكذا حديث الشفاعة، قال القاضي عياض: بلغ التواتر، وحديث المسح على الخفين، قال ابن عبد البر: رواه نحو أربعين صحابيا، واستفاض وتواتر ))( 1) فهذه المسألة إذن خاصة بالسنة.
ومعلوم أن الدليل الشرعي عامة خبر منقول(2 ) وحقيقة الخبر قال الرازى إنها معلومة بالضرورة ,ولا يمكن حده إلا بنوع من الدور(3 ) وقال غيره يمكن حد الخبر, واختاره الأمدي وحده بأنه ((عبارة عن اللفظ الدال بالوضع علي نسبة معلوم إلي معلوم أو سلبها علي وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلي تمام, مع قصد المتكلم به الدلالة علي النسبة أو سلبها))( 4)
وهم يقسمون الخبر في ذاته إلي صادق وكاذب, الصادق: هو ما طابق الواقع, والكاذب هو ما يقابله.
قال بعضهم بل يشترط فيه مراعاة اعتقاد المخبر(5 ),والنزاع في هذه المسألة لفظي حيث إن أحد الطرفين يطلق أسم الصدق والكذب علي ما لا يطلقه الأخر(6 )
وقد قسم البغدادي الخبر بحسب المخبر به إلي:
1ـ خبر من دلت المعجزة علي صدقه.
2 ـ خبر من أخبر عن صدقه صاحب المعجزة.
3ـ خبر رواه في الأصل قوم ثقات ثم انتشر بعدهم.
4ـ خبر من أخبار الآحاد
أما القسمان الأول والثاني فهما مما اختص به طبقة الصحابة رضى الله عنهم ، والذي يخصنا إنما هو الثالث والرابع , وهو خبر الآحاد والخبر المتواتر.
أما ما وصل إلى درجة التواتر فهو يفيد العلم الضرورى ،وأما ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر فهو خبر من أخبار الآحاد .
وكما هو واضح فليس المقصود بخبر الآحاد هنا سوى المقبول وإنما يعتمد فى قبول الخبر على القواعد الثابتة التى وضعها علماء الحديث والأصوليون ومن أعظمها قاعدة الجرح والتعديل، وقد اتفق علي عدالة الصحابة لقوله –تعالى- (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )(7 ) وقوله النبي صلي الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذى نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))( 8)
قال البخارى ((ومن صحب النبي صلى الله عليه و سلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه))(9 ) فلا يشترط طول الصحبة فيدخل فيه من أتى النبى ( ص ) من الوفود ومن حج معه فى حجة الوداع، وقوله من المسلمين أى من رآه مسلما ومات على ذلك فهؤلاء يشملهم لفظ الصحبة بالمعنى الاصطلاحى.
فإن قيل ليس فيما وصفهم الله تعالى به دليلا على عدالتهم فى جميع الأوقات فإنه قد ورد مثله عن بنى إسرائيل قال –تعالى- ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾( 10) وقول –تعالى- ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾(11 ) ثم قال فى حقهم:﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾(12 ) كما لا يستدل على عدالتهم بالحديث المروى عنهم والمستند فى صحته إلى عدالتهم ففيه دور كما أنه بمعنى قول القائل أنا عدل.
فالجواب: أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يرد عنهم فى كتاب الله تعالى سوى الثناء عليهم وأنهم خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق، وقد عاتبهم الله تعالى على بعض الذنوب لكنه قرن ذلك بالصفح عنهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾(13)، أما الاستدلال بالسنة وكونه دورا فالجواب أن ذلك قد ورد عن النبى ( ص ) بأسانيد صحيحة ومتواترة لا يرقى إليها الشك كما فى حديث ((خير الناس قرنى))( 14).
ثم إنه يستدل على عدالتهم بإجماع من يعتد بهم قال ابن الصلاح(15 ): ((إن الأمة مجمعة علي تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم : فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع إحسانا للظن بهم ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر وكان الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم ))(16 )
ففيه إنه قد ثبتت عدالتهم بالإجماع، وهو ما ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب، والنووى فى التقريب، وابن جماعة فى المنهل الروى، وابن حجر فى نخبة الفكر( 17) ، وفيه أنه لا يقدح فى عدالة بعضهم تلبث بالفتن وذلك لكون العدالة ليست بمعنى العصمة بل المراد منها على الحقيقة ما تطمئن به النفس إلى أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله ( ص ) البتة ، وفيه أيضا تفسير يصلح دليلا عقليا على عدالة الصحابة وهو منقول عن إمام الحرمين فقد قال إمام الحرمين معللا حصول الإجماع على عدالتهم:((ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة، فلو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ( ص ) ولما استرسلت على سائر الأعصار))(18 ).
فإن قيل قد ورد فى القرآن والسنة ومن فعل الخلفاء الراشدين رد شهادة بعضهم، فالجواب: إن صح ذلك فهو لا يقدح فى صحة الرواية عنهم فحكم الرواية ليس كحكم الشهادة بدليل أنه تقبل رواية الواحد ولا تقبل شهادته، على أن ما ورد فى رد شهادة بعضهم إنما هو مشروط بعدم توبته وقد ثبت عنهم رضوان الله عليهم أنهم إما قد تابوا كحسان بن ثابت رضى الله عنه، أو أنهم لم يروا صحة اتهامهم بتلك التهمة حتى يجب عليهم التوبة منها كأبى بكرة رضى الله، ويحتمل أن يكون قد شبه له وهو ما ذكره المغيرة رضى الله عنه؛ فلا يأثم هو ولا المغيرة، وقد ثبتت عدالتهما باليقين فلا ينتقل عنه بالشك .
فإن قيل إن منهم منافقين بنص القرآن الكريم ومنهم من لا ترضى حالة.
فالجواب: أن المنافقين ليسوا من الصحابة فهم كفار بل شر من الكفار، أما من لا ترضى حاله فهم مستثنون من تلك الخاصية بالنص وإن شملهم الحد، يقول ابن حزم ((قد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن ، وكان بها أيضا من لا ترضى حاله ، كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه ، والحكم الطريد ، وغيرهما ، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحبة )).( 20)
فالصحابة رضوان الله عليهم كلهم عدول مؤتمنون على نقل الشريعة لا يتعمدون الكذب على رسول الله ( ص ) البتة، وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع ، وقد خصهم الله تعالى بهذه الخاصية دون غيرهم لما يترتب على ذلك من استرسال الشريعة الخاتمة وعدم انحصارها فى زمن النبى ( ص ) .
وينبنى على ذلك الأصل مسائل منها :
هل تضر الجهالة باسم الصحابى ؟
ذهب فريق إلى أنه لا تضر الجهالة باسم الصحابى، وقد روى البخاري عن الحميدي قال: إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من أصحاب النبي ( ص ) فهو حجة وإن لم يسم ذلك الرجل، ونقل ذلك عن أحمد بن حنبل، وقال الحافظ عبد الكريم الحلبى إنه مذهب أكثر أهل العلم(21 )، وذهب آخرون إلى أن الجهالة بالصحابى مما يقدح فى صحة الحديث كالحاكم فقال في صفة الحديث الصحيح : (( أن يرويه عن رسول الله ( ص ) صحابي زائل عنه اسم الجهالة ، وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان ، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة )).( 22)
والواقع أن مدار ذلك على ثقتنا فى حكم الناقل الذى وصف المنقول عنه بأنه من الصحابة، ومعلوم أن للصحبة شروطا، وتطبيق تلك الشروط والتحقق منها ليس أمرا بديهيا بل كثيرا ما يخضع للاجتهاد ويقع فيه الخلاف، وهو ما أكد عليه ابن حزم فى تعليقه على رواية له عن أبى عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له من أصحاب النبي ( ص ).. حيث قال:(( هذا مسند صحيح, وأبو عمير مقطوع على أنه لا يخفى عليه من أعمامه من صحت صحبته ممن لم تصح صحبته وإنما يكون هذا علة ممن يمكن أن يخفى عليه هذا))( 23).
المسألة الثانية :حول صحة مرسل الصحابى.
قال ابن الصلاح ((ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه : مرسل الصحابي مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يسمعوه منه لأن ذلك في حكم الموصول المسند لأن روايتهم عن الصحابة والجهالة بالصحابي غير قادحة لأن الصحابة كلهم عدول والله أعلم ))( 24).
وهذا على اعتبار الغالب وهو أن الصحابى لا يرسل إلا عن صحابى مثله، لكن لا يستبعد أن يكو قد نقل عن تابعى خاصة إذا كان من صغار الصحابة الذين لم يدركوا ولم يسمعوا، وابن الصلاح نفسه يذكر فى نقل الأكابر عن الأصاغر أن ابن عباس و العبادلة قد رووا عن كعب الأحبار وهو من التابعين وهو نفسه يروى عن التابعين ، وقد ألف ابن حجر كتابا بعنوان ((نزهة السامعين فى رواية الصحابة عن التابعين )) فذكر فيمن روى من الصحابة عن التابعين: عمر،وابن مسعود، وابن عمر، وأبا هريرة، وأبا أمامة الباهلى.. وغيرهم رضى الله عنهم( 15)
فالأمر يحتاج لتفصيل، ثم هو بعد ذلك إن تقرر فى بعض كبار الصحابة فمبناه على الغالب فيقال: إن روايتهم عن غير الصحابة نادرة فلا أثر لذلك النادر، أو على الاستقراء الكامل فيقال إنه بتتبع تلك المراسيل تبين أنه لا يوجد فيها ما يعد منكرا أو ضعيفا لمجرد الإرسال .
المسألة الثالثة : أن ما يرويه الصحابى فى معنى المرفوع كقوله كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله ( ص ) ،أو ما يخبر به عن أمر من الأمور الغيبية أو حكم من الأحكام الشرعية التى لا تدرك إلا عن طريق النبى ( ص ) ولا مجال فيها للعقل والقياس، وكذلك ما يرويه فى أسباب النزول- يأخذ حكم الحديث المرفوع إن كان ممن لم يعهد عليهم النقل عن أهل الكتاب، يقول الحافظ ابن حجر : ((وإنما كان له حكم المرفوع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضى موقفا للقائل به، ولا موقف للصحابة إلا النبي ( ص )، أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة؛ فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني.فإذا كان كذلك، فله حكم ما لو قال: قال رسول الله ( ص )، فهو مرفوع سواء كان مما سمعه منه، أو عنه بواسطة))( 26)
فإن كان الراوي صحابيا فقد اتفق علي قبول روايته, وإلا فالقبول في بقية الطبقات موقوف على العلم بحال الراوي ، فما اتصل سنده بنقل العدل الضابط المشهود له من أهل العلم بالجرح والتعديل المعول عليهم فى هذا الشأن وخلا من العلة القادحة والشذوذ فهو الحديث الصحيح ، فإن رواه العدل الذى خف ضبطه فهو الحسن ، ومن نز ل عن رتبة الحسن فهو الضعيف وله أقسام كثيرة وقد تكلم عنها جميعا علماء الحديث وفصلوا القول فيها بما لا يتسع المجال لذكره .
وإن كانت السمة المميزة لأصحاب المناهج البراعة فى التنظير بما يتعدى القدرة على التطبيق الفعلى لتلك النظريات أو السير وراء أصحاب التطبيق العملى ووصف منهجهم بدلا من قيادتهم، فإن مثل ذلك لا ينطبق على المحدثين؛ فقد كانوا فى تطبيقهم للمنهج واستنباطهم له من الواقع العملى كالذى يضع قدمه عند منتهى بصره ، والواقع أننا لا نجد أحدا أسس منهجا وطبقه فى نفس الوقت بمنتهى الدقة كما وجدناه لدى المحدثين، وقد كان لذلك أبلغ الأثر فى حياة الأمة وحفظ الدين .
وتجدر الإشارة هنا إلى أمرين :
الأول : أن المحدث أشبه بالناقد يقتصر دوره عند نقد الحديث ولا يتعداه، فلا ينبغى أن يمتد دور المحدث ليشمل استنباط الأحكام فإن لذلك منهجا آخر، وقلما يجتمع فى شخص واحد القدرة على تطبيق المنهجين كل فى محله .
الثانى : لقد شاهدنا فى عصرنا الحالى من انشغل بالحديث على حساب الفقه والأصول، وانتهج منهجا شبيها بمنهج أهل الظاهر، وبدع أتباع المذاهب الأربعة بدعوى حرمة التقليد فى فروع الشريعة، وظنوا فى أنفسهم القدرة على استنباط الأحكام من أدلتها، وقد تلخص منهجهم فى نقطتين :
الأولى: نقد الأحاديث وفقا لما هو مكتوب فى كتب الرجال والحكم عليها وفقا للتعريفات المقررة فى المصطلح ، وقد ترتب على ذلك مخالفتهم لأئمة الحديث فتجدهم مثلا يضعفون ما حسنه الترمذى وربما يحكمون بوضعه لأنهم وجدوا فى أحد رواته من وصف بالضعف فى بعض الكتب، وهذا خطأ كبير؛ فالرجال لا تتلخص أحوالهم فى كلمات ورموز، وشتان بين من عايشهم وأخذ عنهم واجتمع له من قرائن الأحوال ما يمكنه من الحكم على كل حديث ورواية على حدة ما لا يمكن لغيره وبين هؤلاء .
النقطة الثانية : أنهم يوجبون العمل بظواهر الأحاديث الصحيحة فإن تعارضت ظواهرها فبالأصح سندا على طريقتهم خاصة إذا خالف ما اشتهر عن الفقهاء ، أما الأحاديث الضعيفة فيوجبون العمل بنقيضها على أساس أن العمل بها بدعة وضلالة !!
ثم إن الحديث عن خبر الآحاد المقبول يتفرع إلى مسائل :
المسألة الأولى : هل يفيد العمل :
لا خلاف على ذلك بين الأصوليين وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب : فقوله تعالى﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾( 26) ووجه الاستدلال بتلك الآية كما يقول الرازى: ((أن الفرقة ثلاثة ، والطائفة من الفرقة إما اثنان وإما واحد، فقد أوجب الله تعالى على كل طائفة أن يتفقهوا فى الدين بغرض أن ينذروا قومهم بعد الرجوع إليهم ثم أوجب على أولئك السامعين لتلك الإنذارات الحذر لأن قوله تعالى:(لعلهم يحذرون) يجب حمله على الإيجاب لأن الرجاء من الله تعالى محال))(27 )
ومنه قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾( 28) فدل على أن العدل الواحد يثبت العمل بخبره وإلا لو كانا سواء لما كان لتخصيص الفاسق فائدة( 29)
وأما السنة : (( فما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يرسل رسله إلى القبائل لتعليم الأحكام وذلك يدل على أن خبر الواحد حجة ))( 30) لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يرسل ما يحصل بهم التواتر بل آحادا من الناس .
وأما الإجماع : فقد انعقد فى عهد الصحابة رضوان الله عليهم ذلك (( أن بعض الصحابة عمل بمقتضى خبر الواحد وسكت الباقون عن الإنكار ، ومتى عمل البعض وسكت الباقون حصل الإجماع ))(31 ) فقد كان العمل به شائعا عند الصحابة ـــ رضوان الله عليهم من غير نكير, وعلي ذلك جرت سنة التابعين, وتوضيح ذلك أن السكوت على الباطل باطلا، فلو كان العمل بخبر الواحد باطلا وسكتوا عنه جميعا لكانوا مجمعين على الباطل، وقد ثبت أن الأمة لا تجتمع على الباطل .. فثبت أن العمل به حق من تلك الجهة فهو ثابت بالإجماع المسمى سكوتيًا ، وقد تواتر عنهم ذلك من جهة المعني.
وقد دل العقل على جوازه - خلافا للجبائي وجماعة من المتكلمين- لأنه لا يلزم عنه محال في العقل ولا معني للجائز العقلي سوي ذلك، وقد اختلف فى وجوبه عقلا(32 ).
المسألة الثانية هل يفيد اليقين : وفيه مذهبان
الأول لا يفيد اليقين مطلقا بل يفيد الظن
وهو قول الإسفرايينى، والباقلانى، وابن عقيل، وابن الجوزي، ، والغزالى، والفخر الرازي، والآمدى .
ونص الإمام أحمد في رواية الأثرم: أنه يعمل به، ولا نشهد بأن النبي - ( ص ) - قاله. وأطلق ابن عبد البر وجماعة أنه قول جمهور أهل الأثر والنظر.(33 )
الثانى : يفيد يقينا نظريا بشرط، وهؤلاء انقسموا :
منهم من قال يفيد اليقين بشرط تلقى الأمة له بالقبول .
وهو قول أبى يعلى وأبى الخطاب وابن الزاغونى(34 ) وابن تيمية وعامة أهل الحديث وقال ابن الصلاح ((ما أسنده البخاري ومسلم العلم اليقيني النظرى واقع له)) واستدل على ذلك بأن ((ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ.)) ووافقه ابن كثير وقال ابن ((وإنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه))(35 )
وطريقة ابن الصلاح جيدة، ولكن تحتاج لبعض التقويم كما جاء فى شرح الطحاوية؛ لأنه لو قلنا إن ظن المعصوم لا يخطئ فلا يعنى ذلك أنه يفيد اليقين بل يعنى أنه يبقى بالنسبة لنا ظنا، والفرق بينه وبين ظن غير المعصوم أن الثانى هو ظن فى حق صاحبه فقط وليس فى حقنا نحن؛ إذ قد يرجح ما ليس من حقه الترجيح لإمكان وقوع الخطأ فى نظره وترجيحه فإن زال احتمال وقوع الخطأ منه فى النظر والترجيح وكان معصوما من ذلك كان ظنا بالنسبة لنا لكن لا يرتقى إلى أن يصير يقينا بالنسبة لنا .
ومنهم من قال: يفيد إذا توافرت له قرائن الأحوال .
قاله ابن قدامة، وابن حمدان، والطوفي، والمرداوى ((والقرائن وإن قال الماوردي: لا يمكن أن تضبط بعادة، فقد قال غيره: بل يمكن أن تضبط بما تسكن إليه النفس، كسكونها إلى المتواتر أو قريب منه، بحيث لا يبقى فيها احتمال عنده البتة))(36 )
ومنهم من قال يفيد العلم بشرط أن يكون مستفيضا
والمستفيض ما بلغ رواته فى كل طبقة ثلاثة أو أكثر وهو مذهب ابن مفلح، والإسفرايينى، وابن فورك .( 37)
المسألة الثالثة : هل يؤخذ به فى العقائد ؟
وفيه مذاهب :
الأول: يؤخذ به فى العقائد، وهم من قالوا بإفادته لليقين مطلقا أو بشرط و كذلك بعض من قال يفيد الظن فقط ، وحكى ابن عبد البر الإجماع على ذلك. قال الإمام أحمد: نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد منها شيئا إذا كانت بأحاديث صحاح وقال فى موضع آخر أحاديث الصحاح نؤمن بها ونقر وكل ما روى عن النبى ( ص ) بأسانيد صحيحة نؤمن بها( 38) و قال ابن قدامة: ((مذهب الحنابلة أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات، ذكره القاضي أبو يعلى في مقدمة المجرد، والشيخ تقي الدين في عقيدته)).
والثانى: يؤخذ به فى بعض المسائل المتعلقة بالسمعييات وتفاصيل مقادير الثواب والعقاب وصفة الجنة والنار حيث يتعذر فيها القطعيات . وهو مذهب متقدمى المتكلمين كالأشعرى وكان لا يرد مما رواه الثقات فى هذا الباب شيئا إذ أننا بصدد الحديث عن الاستدلال والبرهان لا الاعتقاد, علي أن الاعتماد علي أحاديث الآحاد الصحاح في باب السمعيات, وذلك لتعذر المتواترات, كما قد يؤخذ بها في باب العمليات في باب الأسماء والصفات(39 )
الثالث : لا يؤخذ به فى العقائد مطلقا ، قاله أبو الخطاب، وابن عقيل (40 )
ويلاحظ أن هناك ميزة فى خبر الواحد فيما يتعلق بالمقدمات الشرعية وليست هى كبقية الأخبار فهى منقولة عن مؤيد بالمعجزة وهذا يعنى بجانب صدق المصدر أن الله تعالى متكفل بحفظ ما ترتب على حفظه حفظ الدين من خبر الآحاد، يقول ابن أبى العز الحنفى قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))( 41) فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه، لئلا تبطل حججه وبيناته ؛ ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس. قال سفيان بن عيينة: ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث، وقال عبد الله بن المبارك: لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث، لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب.))(42 ) وليس هذا من باب ما يستأنس به، ولا من باب التعصب للدين بل إن العقل ليقر بأن الله تعالى إذا أسل رسولا أعانه على تبليغ رسالته، وإن كانت الرسالة هى الخاتمة فلا بد من أن يحفظها ويقيمها.
هذا لا يعنى أنه يستحيل عقلا الكذب على رسول الله تعالى وإنما يعنى أنه يستحيل عقلا أن يصل الكذب إلى حد إبطال الحق من السنة وتشويهها ولذلك كان لخبر الآحاد المروى عن النبى ( ص ) فى مجموعه ميزة تضاف إليه تميزه على ما سواه من أخبار الآحاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
--------
( 1) السفارينى : لوامع الأنوار ص 16
( 2) ولهذا سماه الأصوليون خبرا رغم أن معظمه أوامر ونواه, البرهان 1/565ـ566، أما تسمية المتكلمين للدليل السمعي بالخبر فواضحة لكونهم يتناولون أدلة الاعتقاد وهي أخبار في الجملة.
( 3) انظر الرازي: معالم أصول الفقه 6/ب -7/أ
( 4) الآمدى : الإحكام 2/15
( 5) انظر الجوينى: البرهان 1/564.
( 6) انظر الآمدى : الإحكام 2/19
( 7) سورة التوبة :100
( 8) رواه مسلم (7/188، رقم 6652)
( 9) البخارى: الجامع الصحيح 2/1333
( 10) سورة البقرة : 47
( 11) سورة السجدة : 24
( 12) سورة المائدة : 78
( 13) سورة آل عمران : 155
( 14) متفق عليه : البخارى (3/1335، رقم 3451- 5/2362 ، رقم 6065- 6/2452 ، رقم 6282-6/2463، رقم 6317-2/938، رقم 2508 ) ، ومسلم (7/184 ، رقم 6633-7/185، رقم 6634 وحتى رقم 6638 ) قال ابن تيمية إنه قد استفاض عن النبى ( ص ) ، وذكر السيوطى أنه أشبه بالمتواتر ، وصرح ابن حجر بتواتره ، انظر محمد بن جعفر الكتانى : نظم المتناثر فى الحديث المتواتر ، دار الكتب السلفية للطباعة والنشر مصر ، ط2، ص199.
( 15) هو الإمام تقى الدين أبو عمر بن عبد الرحمن بن موسى الكردى الشهرزورى المعروف بابن الصلاح الشرخانى الفقيه الحنبلى ، ولد ( 577هـ) وتوفى (643) انظر الزركلى : الأعلام طبعة دار العلم للملايين 4/207
( 16) ابن الصلاح: مقدمة ابن الصلاح ، ص 171
( 17) قال الحافظ العراقى : ((وفي حكاية الإجماع نظر ولكنه قول الجمهور كما حكاه ابن الحاجب والآمدي وقال: إنه المختار وحكيا معا قولا آخر أنهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا، وقولا آخر إنهم عدول إلى وقوع الفتن وأما بعد ذلك فلابد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة، وذهب المعتزلة إلى تفسيق من قاتل على بن أبي طالب منهم، وقيل يرد الداخلون في الفتن كلهم لأن أحد الفريقين فاسق من غير تعيين، وقيل نقبل الداخل في الفتن إذا انفرد لأن الأصل العدالة وشككنا في فسقه ولا يقبل مع مخالفه لتحقق فسق أحدهما من غير تعيين والله أعلم.))( الحافظ العراقى عبد الرحيم بن الحسين: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المدينة السلفية المدينة المنورة ، ط1 ، 1389-1969ص 302) ولا شك أنه لا ينخرق الإجماع بمثل من زعم فسق على أو معاوية ومن كان معهما من الصحابة رضى الله عنهم، ولا بمن ساواهم بغيرهم وقال نبحث فى أحوالهم.. فهؤلاء ممن أخرجهم النووى وابن الصلاح بتقييد القول بعبارة ((من يعتد بإجماعهم )) فما ذكره الحافظ العراقى هنا مما يؤكد على انعقاد الإجماع وليس العكس .
( 18) السيوطى:تدريب الراوى شرح تقريب النووى 2/214
( 19) ابن حزم : الإحكام 2/211
( 20) الحافظ العراقى : التقييد والإيضاح ص 74.
( 21) الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري: معرفة علوم الحديث، تحقيق السيد معظم حسين ، دار الكتب العلمية بيروت ،ط2 ، 1397-1977،ص 106
( 22) ابن حزم : المحلى 5/62
( 23) ابن الصلاح : المقدمة ص31
( 24) ابن حجر : نزهة السامعين فى رواية الصحابة عن التابعين ، تحقيق طارق محمد العمودى ،دار الهجرة للنشر والتوزيع الرياض ، 1415-1995، ص 25-27، 44، 47، 49، 79.
( 25) ابن حجر: نزهة النظر ص 134
( 26) سورة التوبة : 122
( 27) الرازى معالم أصول الفقه 10/ أ- ب
( 28) سورة الحجرات: 6
( 29) انظر الباجى: الإشارة فى أصول الفقه 10/أ
( 30) الرازى: معالم أصول الفقه 10/ ب
( 31) السابق 11/ أ - ب
( 32) انظر الآمدى : الإحكام 2/60
( 33)انظر السفارينى : لوامع الأنوار البهية 1/18
( 34) هو على بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله بن سهل الزاغونى الفقيه المحدث الواعظ أحد أعيان المذهب الحنبلي، من مؤلفاته: الإقناع، والواضح، والإيضاح في أصول الدين، ولد سنة 455هـ - وتوفي 527هـ، انظر الحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي: كتاب الذيل على طبقات الحنابلة تحقيق محمد حامد الفقى دار إحياء الكتب العربية القاهرة بدون تاريخ، 1/ 180 وما بعدها .
( 35) انظر السفارينى: لوامع الأنوار :1/19
( 36)انظر السابق : 1/17
( 37)انظر السابق والصفحة
( 38) الدكتور محمد السيد الجليند : منهج السلف بين العقل والنقل ص 50
( 39) انظر البيجورى : شرح الجوهرة ص106
( 40) انظر السفارينى : لوامع الأنوار 1/20
( 41) سورة التوبة :33
( 42) ابن أبى العز الحنفى : شرح العقيدة الطحاوية ، تحقيق أحمد محمد شاكر، وكالة الطباعة والترجمة في الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء الرياض ، ص239
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجميعن .. أما بعد
القرآن الكريم منقول بالتواتر المفيد لقطعية الثبوت وأما الإجماع فقد ذهب الأمدى إلي أنه لا يتطلب نقلا, والواقع أنه يحصل بالاستقراء وينقل كما ينقل الخبر وقد يصل لحد التواتر ، لكن المتواتر من السنة قليل بل نادر خاصة المتواتر اللفظى قال السفارينى:((والتواتر يكون في القرآن كالقراءات السبع، واختلف في الثلاث الباقية، هل هي متواترة أو لا؟ والحق أنها متواترة، وأما الإجماع فالمتواتر فيه كثير ، وأما السنة فالمتواتر فيها قليل، حتى إن بعضهم نفى المتواتر اللفظي من السنة إلا حديث (( من كذب علي متعمدا ))، وزاد بعضهم حديث الحوض ، وكذا حديث الشفاعة، قال القاضي عياض: بلغ التواتر، وحديث المسح على الخفين، قال ابن عبد البر: رواه نحو أربعين صحابيا، واستفاض وتواتر ))( 1) فهذه المسألة إذن خاصة بالسنة.
ومعلوم أن الدليل الشرعي عامة خبر منقول(2 ) وحقيقة الخبر قال الرازى إنها معلومة بالضرورة ,ولا يمكن حده إلا بنوع من الدور(3 ) وقال غيره يمكن حد الخبر, واختاره الأمدي وحده بأنه ((عبارة عن اللفظ الدال بالوضع علي نسبة معلوم إلي معلوم أو سلبها علي وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلي تمام, مع قصد المتكلم به الدلالة علي النسبة أو سلبها))( 4)
وهم يقسمون الخبر في ذاته إلي صادق وكاذب, الصادق: هو ما طابق الواقع, والكاذب هو ما يقابله.
قال بعضهم بل يشترط فيه مراعاة اعتقاد المخبر(5 ),والنزاع في هذه المسألة لفظي حيث إن أحد الطرفين يطلق أسم الصدق والكذب علي ما لا يطلقه الأخر(6 )
وقد قسم البغدادي الخبر بحسب المخبر به إلي:
1ـ خبر من دلت المعجزة علي صدقه.
2 ـ خبر من أخبر عن صدقه صاحب المعجزة.
3ـ خبر رواه في الأصل قوم ثقات ثم انتشر بعدهم.
4ـ خبر من أخبار الآحاد
أما القسمان الأول والثاني فهما مما اختص به طبقة الصحابة رضى الله عنهم ، والذي يخصنا إنما هو الثالث والرابع , وهو خبر الآحاد والخبر المتواتر.
أما ما وصل إلى درجة التواتر فهو يفيد العلم الضرورى ،وأما ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر فهو خبر من أخبار الآحاد .
وكما هو واضح فليس المقصود بخبر الآحاد هنا سوى المقبول وإنما يعتمد فى قبول الخبر على القواعد الثابتة التى وضعها علماء الحديث والأصوليون ومن أعظمها قاعدة الجرح والتعديل، وقد اتفق علي عدالة الصحابة لقوله –تعالى- (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )(7 ) وقوله النبي صلي الله عليه وسلم : ((لا تسبوا أصحابي، فوالذى نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))( 8)
قال البخارى ((ومن صحب النبي صلى الله عليه و سلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه))(9 ) فلا يشترط طول الصحبة فيدخل فيه من أتى النبى ( ص ) من الوفود ومن حج معه فى حجة الوداع، وقوله من المسلمين أى من رآه مسلما ومات على ذلك فهؤلاء يشملهم لفظ الصحبة بالمعنى الاصطلاحى.
فإن قيل ليس فيما وصفهم الله تعالى به دليلا على عدالتهم فى جميع الأوقات فإنه قد ورد مثله عن بنى إسرائيل قال –تعالى- ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾( 10) وقول –تعالى- ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾(11 ) ثم قال فى حقهم:﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾(12 ) كما لا يستدل على عدالتهم بالحديث المروى عنهم والمستند فى صحته إلى عدالتهم ففيه دور كما أنه بمعنى قول القائل أنا عدل.
فالجواب: أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يرد عنهم فى كتاب الله تعالى سوى الثناء عليهم وأنهم خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق، وقد عاتبهم الله تعالى على بعض الذنوب لكنه قرن ذلك بالصفح عنهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾(13)، أما الاستدلال بالسنة وكونه دورا فالجواب أن ذلك قد ورد عن النبى ( ص ) بأسانيد صحيحة ومتواترة لا يرقى إليها الشك كما فى حديث ((خير الناس قرنى))( 14).
ثم إنه يستدل على عدالتهم بإجماع من يعتد بهم قال ابن الصلاح(15 ): ((إن الأمة مجمعة علي تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم : فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع إحسانا للظن بهم ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر وكان الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم ))(16 )
ففيه إنه قد ثبتت عدالتهم بالإجماع، وهو ما ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب، والنووى فى التقريب، وابن جماعة فى المنهل الروى، وابن حجر فى نخبة الفكر( 17) ، وفيه أنه لا يقدح فى عدالة بعضهم تلبث بالفتن وذلك لكون العدالة ليست بمعنى العصمة بل المراد منها على الحقيقة ما تطمئن به النفس إلى أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله ( ص ) البتة ، وفيه أيضا تفسير يصلح دليلا عقليا على عدالة الصحابة وهو منقول عن إمام الحرمين فقد قال إمام الحرمين معللا حصول الإجماع على عدالتهم:((ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة، فلو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ( ص ) ولما استرسلت على سائر الأعصار))(18 ).
فإن قيل قد ورد فى القرآن والسنة ومن فعل الخلفاء الراشدين رد شهادة بعضهم، فالجواب: إن صح ذلك فهو لا يقدح فى صحة الرواية عنهم فحكم الرواية ليس كحكم الشهادة بدليل أنه تقبل رواية الواحد ولا تقبل شهادته، على أن ما ورد فى رد شهادة بعضهم إنما هو مشروط بعدم توبته وقد ثبت عنهم رضوان الله عليهم أنهم إما قد تابوا كحسان بن ثابت رضى الله عنه، أو أنهم لم يروا صحة اتهامهم بتلك التهمة حتى يجب عليهم التوبة منها كأبى بكرة رضى الله، ويحتمل أن يكون قد شبه له وهو ما ذكره المغيرة رضى الله عنه؛ فلا يأثم هو ولا المغيرة، وقد ثبتت عدالتهما باليقين فلا ينتقل عنه بالشك .
فإن قيل إن منهم منافقين بنص القرآن الكريم ومنهم من لا ترضى حالة.
فالجواب: أن المنافقين ليسوا من الصحابة فهم كفار بل شر من الكفار، أما من لا ترضى حاله فهم مستثنون من تلك الخاصية بالنص وإن شملهم الحد، يقول ابن حزم ((قد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن ، وكان بها أيضا من لا ترضى حاله ، كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه ، والحكم الطريد ، وغيرهما ، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحبة )).( 20)
فالصحابة رضوان الله عليهم كلهم عدول مؤتمنون على نقل الشريعة لا يتعمدون الكذب على رسول الله ( ص ) البتة، وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع ، وقد خصهم الله تعالى بهذه الخاصية دون غيرهم لما يترتب على ذلك من استرسال الشريعة الخاتمة وعدم انحصارها فى زمن النبى ( ص ) .
وينبنى على ذلك الأصل مسائل منها :
هل تضر الجهالة باسم الصحابى ؟
ذهب فريق إلى أنه لا تضر الجهالة باسم الصحابى، وقد روى البخاري عن الحميدي قال: إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من أصحاب النبي ( ص ) فهو حجة وإن لم يسم ذلك الرجل، ونقل ذلك عن أحمد بن حنبل، وقال الحافظ عبد الكريم الحلبى إنه مذهب أكثر أهل العلم(21 )، وذهب آخرون إلى أن الجهالة بالصحابى مما يقدح فى صحة الحديث كالحاكم فقال في صفة الحديث الصحيح : (( أن يرويه عن رسول الله ( ص ) صحابي زائل عنه اسم الجهالة ، وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان ، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة )).( 22)
والواقع أن مدار ذلك على ثقتنا فى حكم الناقل الذى وصف المنقول عنه بأنه من الصحابة، ومعلوم أن للصحبة شروطا، وتطبيق تلك الشروط والتحقق منها ليس أمرا بديهيا بل كثيرا ما يخضع للاجتهاد ويقع فيه الخلاف، وهو ما أكد عليه ابن حزم فى تعليقه على رواية له عن أبى عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له من أصحاب النبي ( ص ).. حيث قال:(( هذا مسند صحيح, وأبو عمير مقطوع على أنه لا يخفى عليه من أعمامه من صحت صحبته ممن لم تصح صحبته وإنما يكون هذا علة ممن يمكن أن يخفى عليه هذا))( 23).
المسألة الثانية :حول صحة مرسل الصحابى.
قال ابن الصلاح ((ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه : مرسل الصحابي مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يسمعوه منه لأن ذلك في حكم الموصول المسند لأن روايتهم عن الصحابة والجهالة بالصحابي غير قادحة لأن الصحابة كلهم عدول والله أعلم ))( 24).
وهذا على اعتبار الغالب وهو أن الصحابى لا يرسل إلا عن صحابى مثله، لكن لا يستبعد أن يكو قد نقل عن تابعى خاصة إذا كان من صغار الصحابة الذين لم يدركوا ولم يسمعوا، وابن الصلاح نفسه يذكر فى نقل الأكابر عن الأصاغر أن ابن عباس و العبادلة قد رووا عن كعب الأحبار وهو من التابعين وهو نفسه يروى عن التابعين ، وقد ألف ابن حجر كتابا بعنوان ((نزهة السامعين فى رواية الصحابة عن التابعين )) فذكر فيمن روى من الصحابة عن التابعين: عمر،وابن مسعود، وابن عمر، وأبا هريرة، وأبا أمامة الباهلى.. وغيرهم رضى الله عنهم( 15)
فالأمر يحتاج لتفصيل، ثم هو بعد ذلك إن تقرر فى بعض كبار الصحابة فمبناه على الغالب فيقال: إن روايتهم عن غير الصحابة نادرة فلا أثر لذلك النادر، أو على الاستقراء الكامل فيقال إنه بتتبع تلك المراسيل تبين أنه لا يوجد فيها ما يعد منكرا أو ضعيفا لمجرد الإرسال .
المسألة الثالثة : أن ما يرويه الصحابى فى معنى المرفوع كقوله كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله ( ص ) ،أو ما يخبر به عن أمر من الأمور الغيبية أو حكم من الأحكام الشرعية التى لا تدرك إلا عن طريق النبى ( ص ) ولا مجال فيها للعقل والقياس، وكذلك ما يرويه فى أسباب النزول- يأخذ حكم الحديث المرفوع إن كان ممن لم يعهد عليهم النقل عن أهل الكتاب، يقول الحافظ ابن حجر : ((وإنما كان له حكم المرفوع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضى موقفا للقائل به، ولا موقف للصحابة إلا النبي ( ص )، أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة؛ فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني.فإذا كان كذلك، فله حكم ما لو قال: قال رسول الله ( ص )، فهو مرفوع سواء كان مما سمعه منه، أو عنه بواسطة))( 26)
فإن كان الراوي صحابيا فقد اتفق علي قبول روايته, وإلا فالقبول في بقية الطبقات موقوف على العلم بحال الراوي ، فما اتصل سنده بنقل العدل الضابط المشهود له من أهل العلم بالجرح والتعديل المعول عليهم فى هذا الشأن وخلا من العلة القادحة والشذوذ فهو الحديث الصحيح ، فإن رواه العدل الذى خف ضبطه فهو الحسن ، ومن نز ل عن رتبة الحسن فهو الضعيف وله أقسام كثيرة وقد تكلم عنها جميعا علماء الحديث وفصلوا القول فيها بما لا يتسع المجال لذكره .
وإن كانت السمة المميزة لأصحاب المناهج البراعة فى التنظير بما يتعدى القدرة على التطبيق الفعلى لتلك النظريات أو السير وراء أصحاب التطبيق العملى ووصف منهجهم بدلا من قيادتهم، فإن مثل ذلك لا ينطبق على المحدثين؛ فقد كانوا فى تطبيقهم للمنهج واستنباطهم له من الواقع العملى كالذى يضع قدمه عند منتهى بصره ، والواقع أننا لا نجد أحدا أسس منهجا وطبقه فى نفس الوقت بمنتهى الدقة كما وجدناه لدى المحدثين، وقد كان لذلك أبلغ الأثر فى حياة الأمة وحفظ الدين .
وتجدر الإشارة هنا إلى أمرين :
الأول : أن المحدث أشبه بالناقد يقتصر دوره عند نقد الحديث ولا يتعداه، فلا ينبغى أن يمتد دور المحدث ليشمل استنباط الأحكام فإن لذلك منهجا آخر، وقلما يجتمع فى شخص واحد القدرة على تطبيق المنهجين كل فى محله .
الثانى : لقد شاهدنا فى عصرنا الحالى من انشغل بالحديث على حساب الفقه والأصول، وانتهج منهجا شبيها بمنهج أهل الظاهر، وبدع أتباع المذاهب الأربعة بدعوى حرمة التقليد فى فروع الشريعة، وظنوا فى أنفسهم القدرة على استنباط الأحكام من أدلتها، وقد تلخص منهجهم فى نقطتين :
الأولى: نقد الأحاديث وفقا لما هو مكتوب فى كتب الرجال والحكم عليها وفقا للتعريفات المقررة فى المصطلح ، وقد ترتب على ذلك مخالفتهم لأئمة الحديث فتجدهم مثلا يضعفون ما حسنه الترمذى وربما يحكمون بوضعه لأنهم وجدوا فى أحد رواته من وصف بالضعف فى بعض الكتب، وهذا خطأ كبير؛ فالرجال لا تتلخص أحوالهم فى كلمات ورموز، وشتان بين من عايشهم وأخذ عنهم واجتمع له من قرائن الأحوال ما يمكنه من الحكم على كل حديث ورواية على حدة ما لا يمكن لغيره وبين هؤلاء .
النقطة الثانية : أنهم يوجبون العمل بظواهر الأحاديث الصحيحة فإن تعارضت ظواهرها فبالأصح سندا على طريقتهم خاصة إذا خالف ما اشتهر عن الفقهاء ، أما الأحاديث الضعيفة فيوجبون العمل بنقيضها على أساس أن العمل بها بدعة وضلالة !!
ثم إن الحديث عن خبر الآحاد المقبول يتفرع إلى مسائل :
المسألة الأولى : هل يفيد العمل :
لا خلاف على ذلك بين الأصوليين وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب : فقوله تعالى﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾( 26) ووجه الاستدلال بتلك الآية كما يقول الرازى: ((أن الفرقة ثلاثة ، والطائفة من الفرقة إما اثنان وإما واحد، فقد أوجب الله تعالى على كل طائفة أن يتفقهوا فى الدين بغرض أن ينذروا قومهم بعد الرجوع إليهم ثم أوجب على أولئك السامعين لتلك الإنذارات الحذر لأن قوله تعالى:(لعلهم يحذرون) يجب حمله على الإيجاب لأن الرجاء من الله تعالى محال))(27 )
ومنه قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾( 28) فدل على أن العدل الواحد يثبت العمل بخبره وإلا لو كانا سواء لما كان لتخصيص الفاسق فائدة( 29)
وأما السنة : (( فما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يرسل رسله إلى القبائل لتعليم الأحكام وذلك يدل على أن خبر الواحد حجة ))( 30) لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يرسل ما يحصل بهم التواتر بل آحادا من الناس .
وأما الإجماع : فقد انعقد فى عهد الصحابة رضوان الله عليهم ذلك (( أن بعض الصحابة عمل بمقتضى خبر الواحد وسكت الباقون عن الإنكار ، ومتى عمل البعض وسكت الباقون حصل الإجماع ))(31 ) فقد كان العمل به شائعا عند الصحابة ـــ رضوان الله عليهم من غير نكير, وعلي ذلك جرت سنة التابعين, وتوضيح ذلك أن السكوت على الباطل باطلا، فلو كان العمل بخبر الواحد باطلا وسكتوا عنه جميعا لكانوا مجمعين على الباطل، وقد ثبت أن الأمة لا تجتمع على الباطل .. فثبت أن العمل به حق من تلك الجهة فهو ثابت بالإجماع المسمى سكوتيًا ، وقد تواتر عنهم ذلك من جهة المعني.
وقد دل العقل على جوازه - خلافا للجبائي وجماعة من المتكلمين- لأنه لا يلزم عنه محال في العقل ولا معني للجائز العقلي سوي ذلك، وقد اختلف فى وجوبه عقلا(32 ).
المسألة الثانية هل يفيد اليقين : وفيه مذهبان
الأول لا يفيد اليقين مطلقا بل يفيد الظن
وهو قول الإسفرايينى، والباقلانى، وابن عقيل، وابن الجوزي، ، والغزالى، والفخر الرازي، والآمدى .
ونص الإمام أحمد في رواية الأثرم: أنه يعمل به، ولا نشهد بأن النبي - ( ص ) - قاله. وأطلق ابن عبد البر وجماعة أنه قول جمهور أهل الأثر والنظر.(33 )
الثانى : يفيد يقينا نظريا بشرط، وهؤلاء انقسموا :
منهم من قال يفيد اليقين بشرط تلقى الأمة له بالقبول .
وهو قول أبى يعلى وأبى الخطاب وابن الزاغونى(34 ) وابن تيمية وعامة أهل الحديث وقال ابن الصلاح ((ما أسنده البخاري ومسلم العلم اليقيني النظرى واقع له)) واستدل على ذلك بأن ((ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ.)) ووافقه ابن كثير وقال ابن ((وإنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه))(35 )
وطريقة ابن الصلاح جيدة، ولكن تحتاج لبعض التقويم كما جاء فى شرح الطحاوية؛ لأنه لو قلنا إن ظن المعصوم لا يخطئ فلا يعنى ذلك أنه يفيد اليقين بل يعنى أنه يبقى بالنسبة لنا ظنا، والفرق بينه وبين ظن غير المعصوم أن الثانى هو ظن فى حق صاحبه فقط وليس فى حقنا نحن؛ إذ قد يرجح ما ليس من حقه الترجيح لإمكان وقوع الخطأ فى نظره وترجيحه فإن زال احتمال وقوع الخطأ منه فى النظر والترجيح وكان معصوما من ذلك كان ظنا بالنسبة لنا لكن لا يرتقى إلى أن يصير يقينا بالنسبة لنا .
ومنهم من قال: يفيد إذا توافرت له قرائن الأحوال .
قاله ابن قدامة، وابن حمدان، والطوفي، والمرداوى ((والقرائن وإن قال الماوردي: لا يمكن أن تضبط بعادة، فقد قال غيره: بل يمكن أن تضبط بما تسكن إليه النفس، كسكونها إلى المتواتر أو قريب منه، بحيث لا يبقى فيها احتمال عنده البتة))(36 )
ومنهم من قال يفيد العلم بشرط أن يكون مستفيضا
والمستفيض ما بلغ رواته فى كل طبقة ثلاثة أو أكثر وهو مذهب ابن مفلح، والإسفرايينى، وابن فورك .( 37)
المسألة الثالثة : هل يؤخذ به فى العقائد ؟
وفيه مذاهب :
الأول: يؤخذ به فى العقائد، وهم من قالوا بإفادته لليقين مطلقا أو بشرط و كذلك بعض من قال يفيد الظن فقط ، وحكى ابن عبد البر الإجماع على ذلك. قال الإمام أحمد: نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد منها شيئا إذا كانت بأحاديث صحاح وقال فى موضع آخر أحاديث الصحاح نؤمن بها ونقر وكل ما روى عن النبى ( ص ) بأسانيد صحيحة نؤمن بها( 38) و قال ابن قدامة: ((مذهب الحنابلة أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات، ذكره القاضي أبو يعلى في مقدمة المجرد، والشيخ تقي الدين في عقيدته)).
والثانى: يؤخذ به فى بعض المسائل المتعلقة بالسمعييات وتفاصيل مقادير الثواب والعقاب وصفة الجنة والنار حيث يتعذر فيها القطعيات . وهو مذهب متقدمى المتكلمين كالأشعرى وكان لا يرد مما رواه الثقات فى هذا الباب شيئا إذ أننا بصدد الحديث عن الاستدلال والبرهان لا الاعتقاد, علي أن الاعتماد علي أحاديث الآحاد الصحاح في باب السمعيات, وذلك لتعذر المتواترات, كما قد يؤخذ بها في باب العمليات في باب الأسماء والصفات(39 )
الثالث : لا يؤخذ به فى العقائد مطلقا ، قاله أبو الخطاب، وابن عقيل (40 )
ويلاحظ أن هناك ميزة فى خبر الواحد فيما يتعلق بالمقدمات الشرعية وليست هى كبقية الأخبار فهى منقولة عن مؤيد بالمعجزة وهذا يعنى بجانب صدق المصدر أن الله تعالى متكفل بحفظ ما ترتب على حفظه حفظ الدين من خبر الآحاد، يقول ابن أبى العز الحنفى قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))( 41) فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه، لئلا تبطل حججه وبيناته ؛ ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس. قال سفيان بن عيينة: ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث، وقال عبد الله بن المبارك: لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث، لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب.))(42 ) وليس هذا من باب ما يستأنس به، ولا من باب التعصب للدين بل إن العقل ليقر بأن الله تعالى إذا أسل رسولا أعانه على تبليغ رسالته، وإن كانت الرسالة هى الخاتمة فلا بد من أن يحفظها ويقيمها.
هذا لا يعنى أنه يستحيل عقلا الكذب على رسول الله تعالى وإنما يعنى أنه يستحيل عقلا أن يصل الكذب إلى حد إبطال الحق من السنة وتشويهها ولذلك كان لخبر الآحاد المروى عن النبى ( ص ) فى مجموعه ميزة تضاف إليه تميزه على ما سواه من أخبار الآحاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
--------
( 1) السفارينى : لوامع الأنوار ص 16
( 2) ولهذا سماه الأصوليون خبرا رغم أن معظمه أوامر ونواه, البرهان 1/565ـ566، أما تسمية المتكلمين للدليل السمعي بالخبر فواضحة لكونهم يتناولون أدلة الاعتقاد وهي أخبار في الجملة.
( 3) انظر الرازي: معالم أصول الفقه 6/ب -7/أ
( 4) الآمدى : الإحكام 2/15
( 5) انظر الجوينى: البرهان 1/564.
( 6) انظر الآمدى : الإحكام 2/19
( 7) سورة التوبة :100
( 8) رواه مسلم (7/188، رقم 6652)
( 9) البخارى: الجامع الصحيح 2/1333
( 10) سورة البقرة : 47
( 11) سورة السجدة : 24
( 12) سورة المائدة : 78
( 13) سورة آل عمران : 155
( 14) متفق عليه : البخارى (3/1335، رقم 3451- 5/2362 ، رقم 6065- 6/2452 ، رقم 6282-6/2463، رقم 6317-2/938، رقم 2508 ) ، ومسلم (7/184 ، رقم 6633-7/185، رقم 6634 وحتى رقم 6638 ) قال ابن تيمية إنه قد استفاض عن النبى ( ص ) ، وذكر السيوطى أنه أشبه بالمتواتر ، وصرح ابن حجر بتواتره ، انظر محمد بن جعفر الكتانى : نظم المتناثر فى الحديث المتواتر ، دار الكتب السلفية للطباعة والنشر مصر ، ط2، ص199.
( 15) هو الإمام تقى الدين أبو عمر بن عبد الرحمن بن موسى الكردى الشهرزورى المعروف بابن الصلاح الشرخانى الفقيه الحنبلى ، ولد ( 577هـ) وتوفى (643) انظر الزركلى : الأعلام طبعة دار العلم للملايين 4/207
( 16) ابن الصلاح: مقدمة ابن الصلاح ، ص 171
( 17) قال الحافظ العراقى : ((وفي حكاية الإجماع نظر ولكنه قول الجمهور كما حكاه ابن الحاجب والآمدي وقال: إنه المختار وحكيا معا قولا آخر أنهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا، وقولا آخر إنهم عدول إلى وقوع الفتن وأما بعد ذلك فلابد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة، وذهب المعتزلة إلى تفسيق من قاتل على بن أبي طالب منهم، وقيل يرد الداخلون في الفتن كلهم لأن أحد الفريقين فاسق من غير تعيين، وقيل نقبل الداخل في الفتن إذا انفرد لأن الأصل العدالة وشككنا في فسقه ولا يقبل مع مخالفه لتحقق فسق أحدهما من غير تعيين والله أعلم.))( الحافظ العراقى عبد الرحيم بن الحسين: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المدينة السلفية المدينة المنورة ، ط1 ، 1389-1969ص 302) ولا شك أنه لا ينخرق الإجماع بمثل من زعم فسق على أو معاوية ومن كان معهما من الصحابة رضى الله عنهم، ولا بمن ساواهم بغيرهم وقال نبحث فى أحوالهم.. فهؤلاء ممن أخرجهم النووى وابن الصلاح بتقييد القول بعبارة ((من يعتد بإجماعهم )) فما ذكره الحافظ العراقى هنا مما يؤكد على انعقاد الإجماع وليس العكس .
( 18) السيوطى:تدريب الراوى شرح تقريب النووى 2/214
( 19) ابن حزم : الإحكام 2/211
( 20) الحافظ العراقى : التقييد والإيضاح ص 74.
( 21) الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري: معرفة علوم الحديث، تحقيق السيد معظم حسين ، دار الكتب العلمية بيروت ،ط2 ، 1397-1977،ص 106
( 22) ابن حزم : المحلى 5/62
( 23) ابن الصلاح : المقدمة ص31
( 24) ابن حجر : نزهة السامعين فى رواية الصحابة عن التابعين ، تحقيق طارق محمد العمودى ،دار الهجرة للنشر والتوزيع الرياض ، 1415-1995، ص 25-27، 44، 47، 49، 79.
( 25) ابن حجر: نزهة النظر ص 134
( 26) سورة التوبة : 122
( 27) الرازى معالم أصول الفقه 10/ أ- ب
( 28) سورة الحجرات: 6
( 29) انظر الباجى: الإشارة فى أصول الفقه 10/أ
( 30) الرازى: معالم أصول الفقه 10/ ب
( 31) السابق 11/ أ - ب
( 32) انظر الآمدى : الإحكام 2/60
( 33)انظر السفارينى : لوامع الأنوار البهية 1/18
( 34) هو على بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله بن سهل الزاغونى الفقيه المحدث الواعظ أحد أعيان المذهب الحنبلي، من مؤلفاته: الإقناع، والواضح، والإيضاح في أصول الدين، ولد سنة 455هـ - وتوفي 527هـ، انظر الحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي: كتاب الذيل على طبقات الحنابلة تحقيق محمد حامد الفقى دار إحياء الكتب العربية القاهرة بدون تاريخ، 1/ 180 وما بعدها .
( 35) انظر السفارينى: لوامع الأنوار :1/19
( 36)انظر السابق : 1/17
( 37)انظر السابق والصفحة
( 38) الدكتور محمد السيد الجليند : منهج السلف بين العقل والنقل ص 50
( 39) انظر البيجورى : شرح الجوهرة ص106
( 40) انظر السفارينى : لوامع الأنوار 1/20
( 41) سورة التوبة :33
( 42) ابن أبى العز الحنفى : شرح العقيدة الطحاوية ، تحقيق أحمد محمد شاكر، وكالة الطباعة والترجمة في الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء الرياض ، ص239