المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خبر في فرنسا.. محكمة تفتيش لباحث في الإسلاميات.



أمَة الرحمن
08-04-2009, 11:51 AM
جيسير وكتاب الإسلاموفوبيامع نهاية شهر يونيو-حزيران، ومطلع شهر يوليو-تموز من السنة الحالية تفجرت بفرنسا قضية ذات علاقة وثيقة بوضع الإسلام في فرنسا وسيطرة العقل الأمني على العقل العلمي.

أظهرت القضية الاستعداد الكامن لدى الدول "الحرة" و"الديمقراطية" للنكوص على الأعقاب والعودة إلى مصاف الدول الشمولية والمستبدة التي تعجز عن مواجهة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة، ولكنها تفضل أسلوب الحصار الجسدي والجغرافي.

"قضية جيسير" هو الاسم الذي أطلق على الجدل الكبير الذي رافق تقلبات صراع ظل خفيا داخل أروقة المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا طيلة سنوات بين رجال المخابرات وبعض الباحثين المتخصصين في الإسلام والإسلامية في فرنسا والعالم الغربي والعالم العربي والإسلامي.

البداية

فانسن جيسير، مكلف بالأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي وهو رئيس مركز الإعلام والدراسات حول الهجرات الدولية، بدأ العمل في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي في أكتوبر 1999 وعين في معهد الأبحاث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي ireman الموجود في إيكس بروفانس، وكان قبل هذا التعيين مكلفا بمهمة في وزارة الشئون الخارجية من 1995 إلى 1999، بصفته باحثا بمعهد البحث حول المغرب العربي المعاصر بتونس.

وعندما أصدر جيسير كتاب "الإسلاموفوبيا الجديدة" سنة 2003، هاجمته عدة جهات، خاصة من اليمين الفرنسي، وهذا ما أسفر عدة تطورات، على رأسها المراقبة اللصيقة التي قام بها موظف أمني بالمركز يدعى جوزيف إيلان.

قبل سبتمبر 2004، لم يكن جيسير يعلم بوجود هذا الموظف بالمركز، ولكن بعد ذلك التاريخ بدأت الأحداث تتوالى، إذ أرسل الموظف الأمني رسالة إلى الإدارة حول بعض الشروط المتعلقة ببحث فانسن جيسير حول موظفي المركز المغاربيين.

واعتقد جيسير أن الأمر طبيعي، لكنه أدرك بعد ذلك الخلفيات الأمنية للقضية، ففي الرسالة ذاتها، قال الموظف الأمني: إن مركز الأبحاث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي سيعتبر من الآن فصاعدا "مؤسسة حساسة" وينبغي على مديرها أن يقدم لائحة شهرية للمتدربين الأجانب المنتمين لبلدان غير المجموعة الأوروبية وتركزت المراقبة على كل باحث حول قضايا الإسلام والإسلامية والاستبداد بالعالم العربي..

ثم أخذ الموظف الأمني يضغط من أجل تخفيض الأنشطة العلمية والفكرية، إلى درجة التهديد بعقوبات لكل من يخالف ذلك، وقام الموظف بزيارة لمعهد بإيكس بروفانس، لمقابلة فانسن جيسير فظن هذا أن الأمر عادي، لكن بعد ساعتين تبين له من خلال الأسئلة أن الرجل يحقق معه، إذ أن الأسئلة انتقلت إلى مضامين كتابات جيسير ومحاضراته وندواته وتصريحاته الإعلامية.

وكانت دهشة جيسير كبيرة عندما تأكد أن الرجل يتوفر على ملف كامل عن أنشطته العمومية، وعندما بدأ يسأله عن بعض الانتقادات الصادرة عنه بخصوص منظمة "لا عاهرات ولا خاضعات"، تحولت المقابلة من لقاء تقني إلى تحقيق أمني حول الأنشطة الفلسفية والسياسية.

أيقن جيسير بعد ذلك أنه ليس الباحث الوحيد الذي يوجد ملفه الكامل بين يدي الموظف الأمني، بل توجد ملفات و معلومات عن باحثين آخرين.

وبعد طول انتظار، أدرك جيسير أن البحث الجديد الذي كان يهم بإنجازه، أوقف، تحت ذريعة أن صاحبه متهم بالتعاطف مع الإسلام وأن علاقاته وطيدة بالأوساط الإسلامية!!.

وهذا الأمر كشف له عن سر استشارة وزارة الدفاع حول احتمال وجود "لوبي عربي مسلم" في قلب المركز الوطني للبحث العلمي، وهكذا خرجت القضية إلى العلن.

في 4 أبريل من 2009 بعث جيسير رسالة إلكترونية إلى لجنة مساعدة الباحثة الشابة سابرينا، وفي البلاغ المنشور لتلك اللجنة اتهام واضح للموظف الأمني بأنه تدخل شخصيا لمنع تجديد عمل الباحثة.

ووصف جيسير في رسالته سلوك الموظف الأمني بأنه شبيه بمطاردة اليهود وحركة العادلين في القرون السالفة، ولكن الرسالة نشرت على الإنترنت دون علم صاحبها، وبسبب مضمونها قررت الإدارة استدعاءه لحضور المجلس التأديبي للمركز.

فالقضية إذن ليست وليدة اليوم، و لكنها بدأت منذ 2004، و هذا ما يبين "التدخل المقلق" للأيادي الأمنية والبوليسية داخل الأوساط العلمية والجامعية، بقصد التحكم في الإنتاج المعرفي ونشره حسب بلاغ هيئة المساندة.

المساندة

وما إن خرجت القضية إلى العلن ونودي على جيسير ليمثل أمام اللجنة التأديبية لتنظر في "تصريحاته وتسريباته" حتى تداعى الأساتذة الباحثون بالمركز وخارجه، وفي فرنسا وخارجها، للوقوف إلى جانب جيسير، ليس حبا فيه ولا تأييدا لأفكاره وآرائه، ولكن دفاعا عن حرية التفكير والتعبير والبحث العلمي بعيداً عن رقابة العقل الأمني كما جاء في البيان المستفيض للجنة حماية الحرية الفكرية للباحثين والأساتذة الباحثين في الوظيفة العمومية برئاسة الباحثة اليهودية الفرنسية إيستير بنباسة، والباحث في الحركات الإسلامية أولييفيه روي، ووقع على البيان وعريضة المساندة أكثر من 4500 مفكر وباحث.

أكبر من جيسير

وأكد البيان في البداية أن الأمر "لا يتعلق بفانسن جيسير فحسب، بل يتجاوزه إلى الحرية الفكرية لكل واحد منا، كما أن في الأمر إساءة إلى المركز الوطني للبحث العلمي".

وأشار البيان إلى التدافع بين الأساتذة والإدارة التي أرادت الاستحواذ على اللجنة التأديبية، لكن صمود الأساتذة أرجع الأمور إلى نصابها القانوني بتنصيب عدد متساو من الأعضاء، للاجتماع يوم 29 يونيو-حزيران الماضي. وهذا النضال الجماعي جنب جيسير عقوبة كانت معدة له، ولو حدث هذا لاعتبر سابقة.

ورفضت اللجنة كل أنواع العقوبة المقترحة، والتهمة: تقصير خطير في الالتزام بواجب التحفظ، وهو واجب غير مفسر في أي نص قانوني.

وقال البيان: "منذ ست سنوات لوحظ تدخل موظف الأمن القومي في قضية جيسير.. جمعا ومتابعة لتحركات جيسير وأنشطته وتصريحاته للإعلام، وهذه الأعمال خارجة عن نطاق المهام المكلف بها هذا الموظف كما بينها رئيسه، ولذلك يحق لنا التساؤل عن مصدر هذه المبادرات والوسائل التي يملكها هذا الموظف".

وأضافت بنباسة وروي: "لقد أصبحت حرية الباحث والجامعي والمواطن في درجة أقل باسم الحس الأمني الذي يغمر مجتمعنا".

كما أعلن الباحثون أنهم لا يدافعون عن أعمال جيسير وأفكاره، و"لكن نعلن حاليا وبكل قوة تمسكنا بحرية معرضة للخطر، حرية التفكير، حرية البحث العلمي، حرية نشر المعرفة".

إذ لم تعد قضية جيسير قضية خاصة بل صارت قضية تهم كل مواطني فرنسا، وتتجاوز الضجيج القائم حول الإسلام منذ 11 سبتمبر إن مبدأ هاما من مبادئ الديمقراطية صار موضع الخطر".

وشدد الباحثون على أن دفاعهم عن زميلهم، ليس دفاعا عن التشدد الإسلامي، ولا عن تعاطفه المزعوم معه، بل هو دفاع "عن مبدأ الحرية، الذي ورثناه منذ عصر الأنوار، فمدوناتنا تغلق، وعناويننا الإلكترونية تراقب، وتسرق، وأعمالنا يفحصها العسكريون، فهل ستتعرض كتبنا للرقابة من أجل ألا تعرض فيها سوى المواقف والأفكار التي يرضى عنها حكامنا؟ هل هذا هو الاستثناء الفرنسي؟".

وأعلنوا عن رفضهم أي شكل من أشكال الرقابة الأمنية، مؤكدين أنه يمكن أن يكونوا مساندين لارتداء الحجاب في مقر العمل أو ضده، ولكن هذا الأمر لا ينبغي أن يتولاه موظف عسكري تحت ذريعة الأمن القومي، وإنما هو أمر موكول إلى القانون العام وقانون الشغل، ولا ينبغي أن تكون العلوم الإنسانية مجالا حساسا لدى العمل الأمني، تلك رؤية شمولية للمعرفة.

وعندما قامت جريدة "ليبراسيون"بإجراء مقابلة مع الموظف الأمني وحده ونشرتها علقت بنباسة وروي على ذلك فقالا: "يحق لنا أن نتساءل لماذا تقدم بعض الصحف خدماتها لهذا التوجه، لماذا لم تقابل صحيفة ليبيراسيون باحثا أو عالما آخر، أو حتى فانسن جيسير نفسه أو أحد أفراد اللجنة، لماذا فتحت أعمدة الجريدة لهذا الجنرال إيلان، وكيف يمكن للقارئ أن يمحص أقواله في مواجهة أقوال أخرى".

موقف الموظف الأمني

من جهته، صرح جوزيف إيلان لصحيفة ليبيراسيون بأن فانسن جيسير اتهم في رسالة إلكترونية بأنه إيديولوجي يطارد المسلمين وأصدقاءهم كما كان يفعل باليهود من قبل.

وسئل إيلان عن سرية الرسالة الإلكترونية فقال إن جيسير يزعم ذلك، ولكنه أرسلها إلى لجنة الدفاع عن باحثة في الدكتوراه سرحت من عملها بسبب ارتدائها ملابس ذات علامات دينية.

وفسر الموظف الأمني ضرورة إحاطته علما بأي سفر لباحثين إلى الخارج بأنه ليس طلب ترخيص ولكنه إشعار حتى نتخذ جميع الإجراءات من أجل حمايتهم.

وحول اتهام أوليفيه روي له بأنه أرسل سنة 2007/2008 بأنه يتناول الإسلام أفضل من المسيحية، قال إيلان كان ذلك رد فعل مني تجاه مقابلة أجرتها معه صحيفة لاكروا -الصليب-الفرنسية، وعندما قالت له كاترين كورولير التي أجرت معه المقابلة: "أليس هذا تدخلا في عمل أوليفيه روي؟" اعترف بأنه أساء التصرف، مستدركا: "لكني كنت أتحدث إلى أوليفيه بصفتي مواطنا فرنسيا ولم يكن علي أن أتقدم إليه بصفتي الوظيفية، ولكن رسالتي الإلكترونية لم يكن لها أي علاقة لمعالجته لكل من الإسلام والمسيحية، ولا أدري لماذا يقولني أوليفيه روي ما لم أقله، وشهادته كانت لها وزن كبير في النقاش الدائر بحيث ظهر كأن هنالك حملة صليبية جديدة ضد الإسلام".

وقال إيلان إنه يشعر بالخوف على حياته بعد أن وصفه جيسير بأنه "يطارد المسلمين" وأن المركز الوطني للبحث العلمي خصص له حماية قانونية، كما أنني رفعت ضده دعوى قضائية.

كارولين فوريست

ولم تترك الصحفية الفرنسية كارولين فوريست الفرصة لتمر دون أن تدلي بدلوها في القضية وهي المعروفة بتهجمها الدائم على الوجود الإسلامي بفرنسا وأوروبا، وحشرها كل التيارات الإسلامية في سلة واحدة، وبانتقادها للباحثين المنصفين والموضوعيين المنشغلين بالإسلام والمسلمين في أوروبا والعالم.

وكان مقالها المنشور في يومية لوموند يوم 20 يونيو الماضي شديد اللهجة بحق جيسير ومسانديه، وبعد أن استعرضت أطوار القضية قالت: "ينبغي القول إن فانسن جيسير واحد من الباحثين المفضلين عند الإخوان المسلمين وحركة النهضة التونسية لراشد الغنوشي وأتباع طارق رمضان واتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية".

وأضافت أن جيسير "يلقي المحاضرات أمام جمهور يفرق فيه بين النساء والرجال، وينشر مقالاته بانتظام في موقع "أمة.كوم" المعروف بهجومه الدائم على مناهضي التطرف، كما يشارك فيه بمداخلات مصورة على الفيديو وبمقالات كثيرة يوقعها بصفته باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي".

وعلقت كارولين فوريست التي منحت لها جائزة عن كتابها "إغراء ظلامي"، على ذلك بالقول: "طبعا له الحق في ذلك، كما أن له الحق في احترام خصوصية بريده الإلكتروني، ولكنه بالمقابل يصعب التسليم بالميزة العلمية لآرائه وأفكاره دون مساءلتها".

وختمت فوريست مقالها الهجومي قائلة: "من بين شبكة الداعمين له، يوجد فريق من يشبه قضية جيسير بقضية ريديكير، لكن لنتذكر أن هذا الأخير واجه خطر الموت واضطر لمغادرة منصبه، أما فانسن جيسير، فإنه في أحسن الحالات يواجه تنبيها، وعلى زملائه أن يطمئنوا، فإن الدولة ستواصل دفع مستحقاته المالية لينشر مقالاته في موقع يحض على الكراهية ضد العقول النقدية".

أسئلة مفتوحة

وعلقت بنباسة رفيقة روي على أقوال الموظف الأمني في ليبيراسيون واضعة عدة أسئلة منها: "لماذا لم يصرح إيلان بأي شيء بخصوص فتح البحث والتنقيب الأمني حول أنشطة جيسير منذ 2006، ولم يقل شيئا عن اللقاءات التي كان يقوم بها مع رؤساء جيسير حول قضايا القرآن، والخلق.. وكيف أعرب عن انشغالاته حول الإسلام والباحثين حوله، لماذا لم يقل شيئا عن تدخلاته من أجل طرد أستاذة حاملة للدكتوراه و محجبة تنتمي لفوجه؟"..

السؤال الوحيد الذي يقلقنا ويبقى مفتوحا هو حضور موظف كهذا في المؤسسات الجامعية وما هي وظيفته بالضبط؟ وهل له الحق في أن يحشر نفسه في مضامين الأبحاث المنجزة؟ وهل له الحق في أن يتخذ مواقف حيال مواقفنا نحن المفكرين المعروفين؟ وأي علاقة بين المركز ووزارة الداخلية ووزارة الأمن القومي والدفاع؟.

الموظف السامي في وزارة الدفاع لم يخف أبدا نظرته للإسلام واعتباره مشكلا.. وانطلاقا من هذا المعطى فإن فانسن جيسير ليس الضحية الأولى ولا الوحيدة لرقابة هذا الموظف وضغوطه، بل هناك باحثون آخرون يبحثون جميعهم في الإسلام –منهم أوليفيه روي– وجد أسماؤهم في لائحة التضامن وقد اعترفوا بأنهم كانوا ضحايا.

لكن هذا التدخل في حياة المختبرات وأعمال أعضائها يتجاوز قضية الإسلام، ويتدخل في مجال بعيد عن عمله، فإنه يعطي لنفسه وظيفة انتقاد أعمال جيسير وهذا الأمر المخول فقط لنظراء هذا الباحث، لقد توسع مجال هذا الموظف، إدارة المركز لم تعد تعتبر الأساتذة بمثابة باحثين ولكن بمثابة موظفين عندها، الإدارة بهذا لم تعد تعرف ما هو المركز.

وأكدت بنباسة أن هناك عدة أسباب تجعلنا رافضين لأفكار جيسير وأعماله ولكن ليس عن طريق تكميم الأفراد بل عن طريق الكتابة والتأليف، وجيسير ليست له سلطة على أي أحد، ومواقفه لا تلزمه إلا هو، ولكن لا يحق للموظف العسكري أن يحث المؤسسات على تحطيم فانسن جيسير، لماذا لا يلجأ إلى القضاء وتطبيق القانون، إن هذا السلوك لا يوجد إلا في الأنظمة الشمولية الاستبدادية (روسيا – تركيا – مصر – الجزائر – تونس) ولا مكان له في فرنسا.

إننا لا نطلب شيئا آخر سوى احترام عملنا كباحثين ومفكرين وهو العمل الذي تعاقدت علينا معه الدولة، وإن الثقة بين الباحثين والجامعيين والمفكرين والدولة قد انقطعت، ولن يعيدها سوى عمل قوي للوزارة ورئاسة المركز، ولذلك نطالب بما يلي:

- إلغاء المجلس التأديبي ضد فانسن جيسير ورفض مشروعيته في حال انعقاده.

- إبعاد العلوم الإنسانية عن كل تدخل للموظف العسكري للموظف العسكري.

- فتح المفاوضات بين إدارة المركز ومديري المختبرات العلمية من أجل ميثاق حول حدود وواجبات الموظف الأمني.