المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ظن الجاهلـية



ماكـولا
09-03-2009, 08:26 PM
الظانين بالله ظن السوء

يقول الله " { وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [ الْفَتْحُ 6 ]

يقول سليمان بن عبد الله رحمه الله :"وأكثر الناس يظنون باللّه ظن السوء"، فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم.

قال ابن القيم: فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينْزل إليهم كتبه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه، وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكافرين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبه [بما لا صنع له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة ولا إرادة له في
حصوله، بل يعاقبه على فعله سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويُجْريها على أيديهم ليُضلّوا بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شيء حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته، أي: كمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيخلده في الجحيم، أو في أسفل سافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته، وعداوة رسله ودينه، كأبي جهل فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا يعرف امتناع أحدهما، ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما، وحسن الآخر، فقد ظن به ظن السوء.

ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه1 رموزًا بعيدة، وصرح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، وإعانتهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل; فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أن يكون له في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لا سمع له، ولا بصر، ولا علم، ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لم يكلم أحدًا من الخلق، ولا يتكلم أبدًا، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائنًا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن، ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان والفساد، ولا يحب الإيمان والبر والطاعة والصلاح، فقد ظن به ظن السوء

ومن ظن أنه لا يحب، ولا يرضى، ولا يغضب، ولا يوالي، ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب عنده أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب منه، كذوات الملائكة المقربين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين في كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلده في الجحيم لتلك الكبيرة، كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين، واستنفد عمره في مساخطه، ومعاداة رسله ودينه; فقد ظن به ظن السوء.


وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أن له ولدًا أو شريكًا، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه، يتقربون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم فيدعونهم، ويخافونهم، ويرجونهم; فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما ينال بطاعته، والتقرب إليه، فهو من ظن السوء، ومن ظن أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يعوضه خيرًا منه، أو من فعل شيئًا لأجله، لم يعطه أفضل منه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يغضب على عبده، ويعاقبه بغير جرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة; فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه إذا صدق في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه وسأل واستعان به، وتوكل عليه أنه يخيبه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه، كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظن به خلاف ما هو أهله، وما لا يفعله، ومن ظن أنه إذا أغضبه وأسخطه، ووقع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه أولياء، ودعا من دونه ملكًا، أو بشرًا حيًا أو ميتًا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم أعداءه تسليطًا مستقرًا دائمًا في حياته ومماته، وابتلاه بهم لا يفارقونه، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيه، وأهل بيته، وسلبوهم حقهم، وأذلوهم من غير جرم، ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى ذلك، ويقدر على نصرة أوليائه وحزبه، ولا ينصرهم، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه صلى اللّه عليه وسلم في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت، كما تظنه الرافضة; فقد ظن به أقبح الظن. انتهى اختصارًا. وهو ينبهك على إحسان الظن باللّه في كل شيء.

فليعتن اللبيب. اللب: العقل، واللبيب العاقل.


قوله:"ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر"، وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا.

قلت: بل يبوحون بذلك، ويصرحون به جهارًا في أشعارهم وكلامهم.

قال ابن عقيل في"الفنون": الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودارًا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة، قال: انظر إلى إعطائهم مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم، ويذم معطيهم حتى يقول: فلان يصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ولا يأخذ ما ليس له، ويؤدي الزكاة إذا كان له مال، ويحج ويجاهد، ولا ينال خلة بقلبه، ويظهر الإعجاب كأنه ينطق إنه لو كانت الشرائع حقًّا لكان الأمر بخلاف ما ترى، وكان الصالح غنيًّا، والفاسق فقيرًا.

قال أبو الفرج ابن الجوزي: وهذه حالة قد شملت خلقًا كثيرًا من العلماء والجهال، أولهم إبليس فإنه نظر بعقله، فقال: كيف يفضل الطين على جوهر النار؟! وفي ضمن اعتراضه: إن حكمتك قاصرة وأنا أجود. واتبع إبليس في تفضيله واعتراضه خلق كثير، مثل الراوندي والمعري، ومن قوله: إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنونًا وترزق أحمقا

ولا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا ينتهي فتزندقا

وأمثال ذلك كثير في أولئك الذين ابتعدوا عن كتاب اللّه وسنة رسوله، وانطلقوا إلى أهوائهم، واعتمدوا على عقولهم القاصرة التي جعلتهم يعترضون على اللّه جل وعلا

وكان أبو طالب المكي يقول: ليس على المخلوق أضر من الخالق !.

قال ابن الجوزي: ودخلت على صدقة بن الحسين الحداد، وكان فقيهًا غير أنه كان كثير الاعتراض، وكان عليه جرب، فقال: هذا ينبغي أن يكون على حمد لا علي.

وكان يتفقد بعض الأكابر أكولاً، فيقول: بعث لي هذا على الكبر وقت لا أقدر على أكله.

وكان رجل يصحبني قد قارب ثمانين سنة، كثير الصلاة والصوم، فمرض واشتد به المرض، فقال: إن كان يريد أن أموت فيميتني، وأما هذا التعذيب، فما له معنى، واللّه لو أعطاني الفردوس كان مكفورًا.

ورأيت آخر تزيا بالعلم إذا ضاق عليه رزقه يقول: أيشٍ هذا التدبير؟

وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا، وربما قالوا: ما يريد يصلي. وإذا رأوا رجلاً صالحًا مؤذيًا قالوا ما يستحق قدحًا في القدر، وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة

وقال بعض من تزيا بالدين: هذا حكم بارد. وما فهم ذلك الأحمق، فإن للّه على الظالم أن يسلط عليه أظلم منه ، وفي الحمقى من يقول: أي فائدة في خلق الحيات والعقارب، وما علم أن ذلك نموذج لعقوبة المخالف، وهذا أمر قد شاع، ولهذا مددت النفس فيه.

واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكًا وعلا الخالق بالحكم عليه، وهؤلاء كلهم كفرة، لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصرة، وإذا كان قد توقف القلب عن الرضى بحكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم يخرج عن الإيمان. قال:{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }1. فكيف يصح الإيمان مع الاعتراض على اللّه؟

وكان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم، فقال: وارحمتي لك، واقلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك.
فقال له ابن عقيل: إن لم تقلد على حمل هذا الأمر لأجل رقبتك الحيوانية ومناسبتك الجنسية، فعندك عقل تعرف به حكم الصانع وحكمته يوجب عليك التأويل، فإن لم تجد استطرحت الفاطر العقل، حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك. انتهى.

قوله:"وفتش نفسك هل أنت سالم؟".

قال ابن القيم: أكثر الخلق إلا من شاء اللّه يظنون باللّه غير الحق، وظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه اللّه، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد، فاقرع زناد من شئت ينبئك شرارها عما في زناده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى اللّه ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء وصنيع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحكمة التامة، المنَزَّه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.

فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن اللّه أولى بالجميل.
ولا تظنن بنفسك قط خيرًا ... فكيف بظالم جان جهول
وظن بنفسك السوأى تجدها ... كذاك وخيرها كالمستحيل
وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل
وليس لها ولا منها ولكن ... من الرحمن فاشكر للدليل.
قوله:"فإن تنج منها". أي: من هذه الخصلة العظيمة.

قوله:"من ذي عظيمة". أي: تنج من شر عظيم.
قوله:"وإني لا إخا لك". هو بكسر الهمزة. أي: أظنك واللّه أعلم

تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد