اخت مسلمة
09-07-2009, 02:07 AM
مقتطفات من الشرح الممتع على زاد المستقنع - المجلد السادس
يُسَنُّ صِيَامُ أيَّامِ البِيضِ ............
قوله: «يسن صيام أيام البيض» لو عبر المؤلف بتعبير أعم فقال: يسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر والأفضل أن تكون في أيام البيض لكان أحسن.
وقوله: «يسن» المسنون في اصطلاح الأصوليين ما أثيب فاعله امتثالاً ولم يعاقب تاركه، وهو درجات ومراتب من حيث الأفضلية وكثرة الثواب كالواجب لكن الواجب أحب إلى الله ـ تعالى ـ لما ثبت في الحديث الصحيح القدسي أن الله قال: «ما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه» [(444)].
وقوله: أيام البيض هي اليوم الثالث عشر من الشهر، والرابع عشر، والخامس عشر، ودليل مسنونيتها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بصيامها[(445)].
وسميت بيضاً لابيضاض لياليها بنور القمر، ولهذا قيل أيام البيض، أي أيام الليالي البيض، فالوصف لليالي؛ لأنها بنور القمر صارت بيضاء وذكر أهل العلم بالطب أن فيها فائدة جسمية في هذه الأيام الثلاثة؛ لأنه وقت فوران الدم وزيادته، إذ إن الدم بإذن الله مقرون بالقمر، وإذا صام فإنه يخف عليه ضغط كثرة الدم فهذه فائدة طبية، لكن كما قلنا كثيراً بأن الفوائد الجسمية ينبغي أن يجعلها في ثاني الأمر بالنسبة للعبادات، حتى يكون الإنسان متعبداً الله لا للمصلحة الجسمية أو الدنيوية، ولكن من أجل التقرب إلى الله بالعبادات.
وهذه الثلاثة تغني عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله» [(446)]؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فثلاثة أيام بثلاثين حسنة عن شهر، وكذلك الشهر الثاني والثالث، فيكون كأنما صام السنة كلها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، تقول عائشة: «لا يبالي هل صامها من أول الشهر أو وسطه أو آخره» [(447)] وأمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة من أصحابه، أبو هريرة وأبو الدرداء وأبو ذر[(448)]، فعندنا أمران:
الأمر الأول: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، سواء أكانت في أول الشهر، أم في وسطه، أم في آخره، وسواء أكانت متتابعة أم متفرقة.
الأمر الثاني: أنه ينبغي أن يكون الصيام في أيام البيض الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فتعيينها في أيام البيض تعيين أفضلية كتعين الصلاة في أول وقتها، أي: أنَّ أفضل وقت للأيام الثلاثة هو أيام البيض، ولكن من صام الأيام الثلاثة في غير أيام البيض حصل على الأجر، وهو أجر صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لا صيام أيام البيض، وحصل له صيام الدهر.
وَالاثْنَيْنِ والخَمِيسِ،............
قوله: «والاثنين والخميس» أي ويسن صيام الاثنين والخميس.
وصوم الاثنين أوكد من الخميس، فيسن للإنسان أن يصوم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.
وقد علل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك: «بأنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله ـ عزّ وجل ـ، قال: فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» [(449)]، وهذا الحديث اختلف المحدثون فيه فمنهم من ضعفه وقال: لا تقوم به حجة، ومنهم من قال: إنه صحيح كابن خزيمة، ومنهم من سكت عنه فلم يحكم له باضطراب ولا تصحيح، وعلى كل حال فإن الفقهاء اعتبروه واستشهدوا به، واستدلوا به.
وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويعثت فيه أو أنزل علي فيه» [(450)] فبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن صيام يوم الاثنين مطلوب، وعلى هذا فيسن صيام يومين من كل أسبوع، هما يوم الاثنين والخميس.
وأما صيام يوم الثلاثاء والأربعاء فليس بسنة على التعيين، وإلا فهو سنة مطلقة، يسن للإنسان أن يكثر من الصيام، لكن لا نقول يسن أن تصوم يوم الثلاثاء، ولا يسن أن تصوم يوم الأربعاء، ولا يكره ذلك.
وأما الجمعة فلا يسن صوم يومها، ويكره أن يفرد صومه، والدليل على ذلك:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده» [(451)].
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم لإحدى أمهات المؤمنين وكانت صامت يوم جمعة: «أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري» [(452)] فدل ذلك على أن يوم الجمعة لا يفرد بصوم، بل قد ورد النهي عن ذلك.
3 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام، ولا ليلتها بقيام» [(453)].
وأما السبت فقيل: إنه كالأربعاء والثلاثاء يباح صومه.
وقيل: إنه لا يجوز إلا في الفريضة.
وقيل: إنه يجوز لكن بدون إفراد.
والصحيح أنه يجوز بدون إفراد، أي: إذا صمت معه الأحد، أو صمت معه الجمعة، فلا بأس، والدليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لزوجته «أتصومين غداً؟» أي: السبت.
وأما الحديث الذي رواه أبو داود: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء شجر» [(454)] يعني فليأكله، فهذا الحديث مختلف فيه هل هو صحيح أو ضعيف؟ وهل هو منسوخ أو غير منسوخ[(455)]؟ وهل هو شاذ أو غير شاذ؟ وهل المراد بذلك إفراده دون جَمْعِهِ إلى الجمعة أو الأحد؟ وسبق بيان القول الصحيح أن المكروه إفراده، لكن إن أفرده لسبب فلا كراهة، مثل أن يصادف يوم عرفة أو يوم عاشوراء، إذا لم نقل بكراهة إفراد يوم عاشوراء.
وأما الأحد: فبعض العلماء استحب أن يصومه الإنسان.
وكرهه بعض العلماء.
أما من استحبه فقال: إنه يوم عيد للنصارى، ويوم العيد يكون يوم أكل وسرور وفرح، فالأفضل مخالفتهم، وصيام هذا اليوم فيه مخالفة لهم.
وأما من كره صومه فقال: إن الصوم نوع تعظيم للزمن، وإذا كان يوم الأحد يوم عيد للكفار فصومه نوع تعظيم له، ولا يجوز أن يُعظم ما يعظمه الكفار على أنه شعيرة من شعائرهم.
والخلاصة أن الثلاثاء والأربعاء حكم صومهما الجواز، لا يسن إفرادهما ولا يكره، والجمعة والسبت والأحد يكره إفرادها، وإفراد الجمعة أشد كراهة لثبوت الأحاديث في النهي عن ذلك بدون نزاع، وأما ضمها إلى ما بعدها فلا بأس، وأما الاثنين والخميس فصومهما سنة.
وَسِتٍ مِنْ شَوَّالٍ،..........
قوله: «وست من شوال» أي ويسن صوم ست من شوال؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله» [(456)] فيسن للإنسان أن يصوم ستة أيام من شوال.
فائدة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأتبعه ستاً من شوال» والمعروف أن تذكير العدد يدل على تأنيث المعدود، والذي يصام اليوم لا الليل فلم لم يقل ستة؟
الجواب: أن الحكم في كون العدد يذكر مع المؤنث، ويؤنث مع المذكر، إذا ذُكِرَ المعدود فتقول ستة رجال وست نساء، قال تعالى: {{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ}} [الحاقة: 7] .
أما إذا حذف المعدود فإنه يجوز التأنيث والتذكير فتقول صمت ستاً من شوال وصمت ستة من شوال، ومنه قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}} [البقرة: 234] والمراد عشرة أيام لكنه ذكَّرها؛ لأن المعدود لم يُذْكَرْ، والظاهر أن الأفصح التذكير؛ لأن هذا هو الذي جاء بلفظ الحديث وهو أيضاً أخف على اللسان، وهذه القاعدة ما لم يحصل اشتباه، فإن حصل فإنه يجب أن يراعي الأصل، أي: لو كان اللفظ يحتمل أن يراد به المذكر أو أن يراد به المؤنث والحكم يختلف، فإن الواجب الرجوع إلى الأصل، كالقاعدة العامة في جميع ما يجوز في النحو يقيدونها بما لم يُخْشَ اللبس، فإن خيف اللبس وجب إرجاع كل شيء إلى أصله.
قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: والأفضل أن تكون هذه الست بعد يوم العيد مباشرة؛ لما في ذلك من السبق إلى الخيرات.
والأفضل أن تكون متتابعة؛ لأن ذلك أسهل غالباً؛ ولأن فيه سبقاً لفعل هذا الأمر المشروع.
فعليه يسن أن يصومها في اليوم الثاني من شوال ويتابعها حتى تنتهي، وهي ستنتهي في اليوم الثامن، من شهر شوال، وهذا اليوم الثامن يسميه العامة عيد الأبرار، أي: الذين صاموا ستة أيام من شوال.
ولكن هذا بدعة فهذا اليوم ليس عيداً للأبرار، ولا للفجار.
ثم إن مقتضى قولهم، أن من لم يصم ستة أيام من شوال ليس من الأبرار، وهذا خطأ، فالإنسان إذا أدى فرضه فهذا بَرُّ بلا شك، وإن كان بعض البر أكمل من بعض.
ثم إن السنة أن يصومها بعد انتهاء قضاء رمضان لا قبله، فلو كان عليه قضاء ثم صام الستة قبل القضاء فإنه لا يحصل على ثوابها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صام رمضان» ومن بقي عليه شيء منه فإنه لا يصح أن يقال إنه صام رمضان؛ بل صام بعضه، وليست هذه المسألة مبنيّة على الخلاف في صوم التطوع قبل القضاء؛ لأن هذا التطوع أعني صوم الست قيده النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيد وهو أن يكون بعد رمضان، وقد توهم بعض الناس فظن أنه مبني على الخلاف في صحة صوم التطوع قبل قضاء رمضان، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك، وبينا أن الراجح جواز التطوع وصحته، ما لم يضق الوقت عن القضاء.
تنبيه: لو أخر صيام الست من شوال عن أول الشهر ولم يبادر بها، فإنه يجوز لقوله صلّى الله عليه وسلّم «ثم أتبعه ستاً من شوال» فظاهره أنه ما دامت الست في شوال، ولو تأخرت عن بداية الشهر فلا حرج، لكن المبادرة وتتابعها أفضل من التأخير والتفريق، لما فيه من الإسراع إلى فعل الخير، ويستثنى من قول المؤلف «ستاً من شوال» يستثنى يوم العيد لأنه لا يجوز صومه.
مسألة: لو لم يتمكن من صيام الأيام الستة في شوال لعذر كمرض أو قضاء رمضان كاملاً حتى خرج شوال، فهل يقضيها ويكتب له أجرها أو يقال هي سنة فات محلها فلا تقضى؟
الجواب: يقضيها ويكتب له أجرها كالفرض إذا أخره عن وقته لعذر، وكالراتبة إذا أخرها لعذر حتى خرج وقتها، فإنه يقضيها كما جاءت به السنة.
فائدة: كره بعض العلماء صيام الأيام الستة كل عام مخافة أن يظن العامة أن صيامها فرض، وهذا أصل ضعيف غير مستقيم لأنه لو قيل به لزم كراهة الرواتب التابعة للمكتوبات، أن تصلى كل يوم وهذا اللازم باطل وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم والمحذور الذي يخشى منه يزول بالبيان.
وَشَهْرِ المُحَرَّمِ،...........
قوله: «وشهر المحرم» أي: يسن صوم شهر المحرم، وهو الذي يلي شهر ذي الحجة، وهو الذي جعله الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أول شهور السنة، وصومه أفضل الصيام بعد رمضان، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» [(457)].
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ أيهما أفضل صوم شهر المحرم، أم صوم شهر شعبان؟
فقال بعض العلماء: شهر شعبان أفضل؛ لأن النبي كان يصومه، إلا قليلاً منه ولم يحفظ عنه أنه كان يصوم شهر المحرم؛ لكنه حث على صيامه بقوله: «إنه أفضل الصيام بعد رمضان» .
قالوا: ولأن صوم شعبان ينزل منزلة الراتبة قبل الفريضة وصوم المحرم ينزل منزلة النفل المطلق، ومنزلة الراتبة أفضل من منزلة النفل المطلق، وعلى كل فهذان الشهران يسن صومهما، إلا أن شعبان لا يكمله.
وآكَدُهُ العَاشِرُ، ثُمَّ التَّاسِعُ، وَتِسْعِ ذِي الحِجَّةِ ..........
قوله: «وآكده العاشر ثم التاسع» يعني آكد صوم شهر المحرم العاشر ثم التاسع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» [(458)] فهو آكد من بقية الأيام من الشهر.
ثم يليه التاسع لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لئن بقيت، أو لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع» [(459)] يعني مع العاشر.
وهل يكره إفراد العاشر؟
قال بعض العلماء: إنه يكره، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده خالفوا اليهود» [(460)].
وقال بعض العلماء: إنه لا يكره، ولكن يفوت بإفراده أجر مخالفة اليهود.
والراجح أنه لا يكره إفراد عاشوراء.
فإن قال قائل: ما السبب في كون يوم العاشر آكد أيام محرم؟
فالجواب أن السبب في ذلك أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذا الحديث دليل على أن التوقيت كان في الأمم السابقة بالأهلة، وليس بالشهور الأفرنجية، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأن اليوم العاشر من محرم هو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون وقومه ونجى موسى وقومه[(461)].
قوله: «وتسع ذي الحجة» أي ويسن صوم تسع ذي الحجة.
وتسع ذي الحجة تبدأ من أول أيام ذي الحجة، وتنتهي باليوم التاسع، وهو يوم عرفة، والحجة بكسر الحاء أفصح من فتحها وعكسها القعدة.
ودليل استحبابها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» [(462)] والصوم من العمل الصالح.
وقد ورد حديثان متعارضان في هذه الأيام، أحدهما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يصوم هذه الأيام التسعة[(463)]، والثاني أنه كان يصومها[(464)]، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله في التعارض بين هذين الحديثين: إن المثبت مقدم على النافي، ورجح بعض العلماء النفي؛ لأن حديثه أصح من حديث الإثبات، لكن الإمام أحمد جعلهما ثابتين كليهما، وقال: إن المثبت مقدم على النافي، ونحن نقول: إذا تعارضا تساقطا بدون تقديم أحدهما على الآخر فعندنا الحديث الصحيح العام «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر» [(465)] فالعمل الصالح في أيام عشر ذي الحجة ومن ذلك الصوم أحب إلى الله من العمل الصالح في العشر الأواخر من رمضان، ومع ذلك فالأيام العشر من ذي الحجة، الناس في غفلة عنها، تَمُرُّ والناس على عاداتهم لا تجد زيادة في قراءة القرآن، ولا العبادات الأخرى بل حتى التكبير بعضهم يشح به.
وآكَدُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا،.............
قوله: «وآكده يوم عرفة» أي: آكد تسع ذي الحجة، صيام يوم عرفة لغير حاج بها، ويوم عرفة هو اليوم التاسع، وإنما كان آكد أيام العشر؛ لأن النبي (ص) «سئل عن صوم يوم عرفة فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» [(466)] وعلى هذا فصوم يوم عرفة أفضل من صوم عاشوراء؛ لأن صوم عاشوراء قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» فقط.
قوله: «لغير حاج بها» الباء بمعنى في، وقوله «لغير حاج بها» اشترط المؤلف شرطين: الأول: لغير حاج، الثاني: بها، أي: في عرفه، فظاهره أنه لو كان الحاج في غير عرفة، مثل أن يصادفه يوم عرفة في الطريق، ولم يصل إلى عرفة إلا في الليل، فظاهر كلام المؤلف أن صوم هذا اليوم مشروع، وظاهره أيضاً أنه لو كان الإنسان بعرفة لكنه لم يحج مثل العمال وشبههم فإنه يصوم، فالحاج في عرفة لا يصوم وليس مشروعاً له الصوم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» [(467)] وهذا الحديث في صحته نظر، لكن يؤيده أن الناس شَكُّوا في صومه صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة، فأرسل إليه بقدح من لبن فشربه ضحى يوم عرفة والناس ينظرون إليه[(468)]، ليتبين لهم أنه لم يصم؛ ولأن هذا اليوم يوم دعاء وعمل، ولا سيما أن أفضل زمن الدعاء هو آخر هذا اليوم، فإذا صام الإنسان فسوف يأتيه آخر اليوم وهو في كسل وتعب، لا سيما في أيام الصيف وطول النهار وشدة الحر، فإنه يتعب وتزول الفائدة العظيمة الحاصلة بهذا اليوم، والصوم يدرك في وقت آخر؛ ولهذا فالصواب أن صوم يوم عرفة للحاج مكروه، وأما لغير الحاج فهو سنة مؤكدة.
وَأَفْضَلُهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ.............
قوله: «وأفضله صوم يوم وفطر يوم» أي: أفضل صوم التطوع صوم يوم، وفطر يوم.
فإذا قال قائل: لماذا لم يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والرسول ينشر الأفضل وهو أخشانا لله وأتقانا له؟ قلنا: لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يشتغل بعبادات أخرى أجل من الصيام، من الدعوة إلى الله، والأعمال الأخرى الوظيفية التي تستدعي أن يفعلها، ولهذا ثبت عنه فضل الأذان، وأن المؤذنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة[(469)]، ومع ذلك لم يباشره؛ لأنه مشغول بعبادات أخرى جليلة لا يتمكن من مراقبة الشمس في طلوعها، وزوالها وما أشبه ذلك، وقال في الرجل الذي دخل وصلى وحده: من يتصدق على هذا؟ فقام بعض أصحابه فصلى معه [(470)]، فلا يقول قائل: لماذا لم يقم هو لأنها صدقة، وهو أسبق الناس إلى الخير؟ فالجواب لأنه مشتغل بما هو أهم، من تعليم الناس، والتحدث إليهم وتأليفهم وما أشبه ذلك، المهم أنه لا يُظن أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا ندب إلى فعل شيء وبين أنه أفضل ولم يفعله هو، فهو قصور منه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، ولكن اشتغاله بما هو أولى وأهم، ولهذا لما سئل عن صوم يوم وإفطار يومين؟ قال: «ليت أنا نقوى على ذلك» [(471)]، يعني أنه ما يقوى على ذلك مع أعماله الأخرى الجليلة التي لا يقوم بها غيره.
وعلى هذا إذا جاءنا طالب علم، وقال: إنني إذا صمت قصرت عن طلب العلم وصار عندي خورٌ وضعف وتعب، وإذا لم أصم نشطت على العلم، فهل الأفضل في أن أصوم يوماً وأفطر يوماً؛ لأنه أفضل الصيام، أو أن أقوم بطلب العلم؛ نقول: الأفضل أن تقوم بطلب العلم.
وإذا جاءنا رجل عابد ليس له شغل، لا قيام على عائلة، ولا طلب علم، وقال: ما الأفضل لي، أن أصوم يوماً وأفطر يوماً، أو لا أصوم؟ نقول: الأفضل أن تصوم يوماً وتفطر يوماً، فالمهم أن التفاضل في العبادات وتمييز بعضها عن بعض وتفضيل بعضها على بعض، أمر ينبغي التفطن له؛ لأن بعض الناس قد يلازم طاعة معينة ويترك طاعات أهم منها وأنفع، وقد جاء وفد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فجلس يتحدث إليهم وترك راتبة الظهر ولم يصلها إلا بعد العصر[(472)]، فعلى هذا ينبغي للإنسان أن يعادل بين نوافل العبادات وإذا ترك شيئاً لما هو أهم منه، فلا يقال إنه تركه، بل فعل ما هو خير منه، فلا يعد ذلك قصوراً.
ودليل ذلك أن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: «لأصومن النهار، ولا أفطر، ولأقومن الليل ولا أنام، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله: «أنت الذي قلت كذا؟ قال: نعم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: صم كذا، صم كذا، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال له: صم يوماً وأفطر يوماً فذلك أفضل الصيام، وهو صيام داود، وقال له في القيام: نم نصف الليل، وقم ثلث الليل، ونم سدس الليل، فذلك أفضل القيام وهو قيام داود» [(473)]؛ لأن هذا الصيام يعطي النفس بعض الحرية، والبدن بعض القوة؛ لأنه يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكذلك القيام إذا نام نصف الليل، ثم قام ثلثه، ثم نام سدسه، فإن تعبه في قيام الثلث سوف يزول بنومه السدس، فيقوم في أول النهار نشيطاً.
ولكن هذا، أي: صوم يوم وفطر يوم، مشروط بما إذا لم يضيع ما أوجب الله عليه، فإن ضيع ما أوجب الله عليه كان هذا منهياً عنه؛ لأنه لا يمكن أن تضاع فريضة من أجل نافلة، فلو فرض أن هذا الرجل إذا صام يوماً وأفطر يوماً، تخلف عن الجماعة في المسجد، لأنه يتعب في آخر النهار، ولا يستطيع أن يصل إلى المسجد، فنقول له: لا تفعل؛ لأن إضاعة الواجب أعظم من إضاعة المستحب، فهذا مستحب لا تأثم بتركه فاتركه.
كذلك لو انشغل بذلك عن مؤونة أهله، أي: انقطع عن البيع والشراء والعمل الذي يحتاجه لمؤونة أهله، فإننا نقول له: لا تفعل؛ لأن القيام بالواجب أهم من القيام بالتطوع، وكذلك لو أدى هذا الصيام إلى عدم القيام بواجب الوظيفة كان منهياً عنه.
وقد التزم عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ بذلك حتى كبر فتمنى أنه قبل رخصة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، حتى اجتهد ـ رضي الله عنه ـ فصار يصوم خمسة عشر يوماً متتابعة، ويفطر خمسة عشر يوماً متتابعة، ويرى أن هذا بدل عن صيام يوم وإفطار يوم.
ونأخذ من هذا فائدة، وهي أن الإنسان ينبغي ألا يقيس نفسه في مستقبله على حاضره، فقد يكون الإنسان في أول العبادة نشيطاً يرى أنه قادر، ثم بعد ذلك يلحقه الملل، أو يلحقهُ ضعف وتعب، ثم يندم، لهذا ينبغي للإنسان أن يكون عمله قصداً، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم مرشداً أمته: «اكلفوا من العمل ما تطيقون» [(474)] أي: لا تكلفوا أنفسكم وقال: «استعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا» [(475)]، وقال «إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى» [(476)] والمنبت هو الذي يسير ليلاً ونهاراً، فالإنسان ينبغي له أن يقدر المستقبل، لا يقول أنا الآن نشيط سأحفظ القرآن والسنة، وزاد المستقنع وألفية ابن مالك كلها في أيام قليلة، فهذا لا يمكن، فأعط نفسك حقها، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل» [(477)] وكثير من الناس يكون عنده رغبة إما في العبادة، أو طلب العلم أو غير ذلك، ثم بعد هذا يكسل، فالذي ينبغي للإنسان، أن ينظر للمستقبل، كما ينظر للحاضر.
وفي حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ دليل على أن صوم يوم الجمعة أو السبت إذا صادف يوماً غير مقصود به التخصيص فلا بأس به، لأنه إذا صام يوماً، وأفطر يوماً فسوف يصادف الجمعة والسبت، وبذلك يتبين أن صومهما ليس بحرام، وإلا لقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: صم يوماً، وأفطر يوماً، ما لم تصادف الجمعة والسبت.
وَيُكْرَهُ إِفرَادُ رَجَبٍ، والجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، والشَّكِ............
قوله: «ويكره إفراد رجب» يعني بالصوم.
عللوا هذا بأنه من شعائر الجاهلية، وأن أهل الجاهلية هم الذين يعظمون هذا الشهر، أما السنة فلم يرد في تعظيمه شيء، ولهذا قالوا: إن كل ما يروى في فضل صومه، أو الصلاة فيه من الأحاديث فكذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وقد ألف ابن حجر ـ رحمه الله ـ رسالة صغيرة في هذا وهي «تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب».
ويؤخذ من قوله: «إفراد رجب» أنه لو صامه مع غيره، فلا يكره؛ لأنه إذا صام معه غيره لم يكن الصيام من أجل تخصيص رجب، فلو صام شعبان ورجباً فلا بأس، ولو صام جمادى الآخرة ورجباً فلا بأس.
قوله: «والجمعة» أي يكره إفراد الجمعة والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده» [(478)] وقال: «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام» [(479)] وقال لإحدى أمهات المؤمنين، وقد وجدها صائمة يوم الجمعة: «أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري» [(480)] فإن صامها مع غيرها فلا يكره، فلو صام الخميس والجمعة فلا بأس، أو الجمعة والسبت فلا بأس.
وإن صامها وحدها لا للتخصيص، لكن لأنه وقت فراغه كرجل عامل يعمل كل أيام الأسبوع، وليس له فراغ إلا يوم الجمعة، فهل يكره؟
الجواب: عندي فيه تردد، فإن نظرنا إلى ما رواه مسلم: «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام» قلنا: لا بأس؛ لأن هذا لم يخصه، وإن نظرنا إلى حديث «أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري» فإن هذا قد يؤخذ منه أنه يكره إفرادها، وإن كان في الأيام الأخرى لا يستطيع، وقد لا يؤخذ منه، فيقال: إن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أصمت أمس؟ أو أتصومين غداً؟» يدل على أنها قادرة على الصوم.
فالحاصل أنه إذا أفرد يوم الجمعة بصوم لا لقصد الجمعة، ولكن لأنه اليوم الذي يحصل فيه الفراغ، فالظاهر إن شاء الله أنه لا يكره، وأنه لا بأس بذلك.
قوله: «والسبت» أي: يكره إفراده، لحديث «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» [(481)] فيحمل إن صح على النهي عن إفراده، وأما جمعه، مع الجمعة، فلا بأس؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لجويرية: «أتصومين غداً؟» فدل هذا على أن صومه مع الجمعة لا بأس به، وهذه المسألة قد يلغز بها فيقال: يومان إن أفرد أحدهما بالصوم كره، وإن اجتمعا فلا كراهة؟ مع أن الذي يتبادر أن المكروه إذا ضم إلى مكروه ازدادت الكراهة، لكن هذا إذا ضم المكروه إلى مكروه زالت الكراهة، فيجاب أن الكراهة هي الإفراد، فإذا صام الجميع فلا كراهة، فإن قيل حديث النهي عن صوم السبت عام ليس فيه تفصيل، فالجواب أنه إذا ورد ما يخصص العام وجب العمل به، وقد ورد ما يدل على جواز صومه مع الجمعة وهذا تخصيص.
قوله: «والشك» أي: يكره صوم يوم الشك، ويوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان، إذا كان في السماء ما يمنع رؤية الهلال كغيم وقتر.
وقيل: هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كانت السماء صحواً.
والأول أرجح؛ لأنه إذا كانت السماء صحواً وتراءى الناس الهلال ولم يروه لم يبق عندهم شك أنه لم يهل، والشك يكون إذا كان هناك ما يمنع رؤية الهلال، ولكن لما كان فقهاؤنا ـ رحمهم الله ـ يرون أنه إذا كان ليلة الثلاثين، وحال ما يمنع رؤيته من غيم أو قتر يجب صومه، حملوا الشك على ما إذا كانت السماء صحواً، وهذه آفة يلجأ إليها بعض العلماء، وسبب هذه الآفة أن الإنسان يعتقد قبل أن يستدل، وهذا خطأ، والواجب أن تجعل اعتقادك تابعاً للدليل، فتستدل أولاً، ثم تحكم ثانياً.
فالأرجح أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كان في السماء ما يمنع رؤية الهلال، وأما إذا كانت السماء صحواً فلا شكَّ.
وهل صومه مكروه كما قال المؤلف أو محرم؟
الجواب: في هذا خلاف بين العلماء:
القول الأول: أنه محرم.
القول الثاني: أنه مكروه.
والصحيح أن صومه محرم إذا قصد به الاحتياط لرمضان ودليل ذلك:
1 ـ قول عمار بن ياسر رضي الله عنهما: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم» [(482)].
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» [(483)].
3 ـ ولأنه نوع من التعدي لحدود الله، فإن الله يقول في كتابه: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] ، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا رأيتموه فصوموا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» [(484)].
يتبع,,,
يُسَنُّ صِيَامُ أيَّامِ البِيضِ ............
قوله: «يسن صيام أيام البيض» لو عبر المؤلف بتعبير أعم فقال: يسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر والأفضل أن تكون في أيام البيض لكان أحسن.
وقوله: «يسن» المسنون في اصطلاح الأصوليين ما أثيب فاعله امتثالاً ولم يعاقب تاركه، وهو درجات ومراتب من حيث الأفضلية وكثرة الثواب كالواجب لكن الواجب أحب إلى الله ـ تعالى ـ لما ثبت في الحديث الصحيح القدسي أن الله قال: «ما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه» [(444)].
وقوله: أيام البيض هي اليوم الثالث عشر من الشهر، والرابع عشر، والخامس عشر، ودليل مسنونيتها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بصيامها[(445)].
وسميت بيضاً لابيضاض لياليها بنور القمر، ولهذا قيل أيام البيض، أي أيام الليالي البيض، فالوصف لليالي؛ لأنها بنور القمر صارت بيضاء وذكر أهل العلم بالطب أن فيها فائدة جسمية في هذه الأيام الثلاثة؛ لأنه وقت فوران الدم وزيادته، إذ إن الدم بإذن الله مقرون بالقمر، وإذا صام فإنه يخف عليه ضغط كثرة الدم فهذه فائدة طبية، لكن كما قلنا كثيراً بأن الفوائد الجسمية ينبغي أن يجعلها في ثاني الأمر بالنسبة للعبادات، حتى يكون الإنسان متعبداً الله لا للمصلحة الجسمية أو الدنيوية، ولكن من أجل التقرب إلى الله بالعبادات.
وهذه الثلاثة تغني عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله» [(446)]؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فثلاثة أيام بثلاثين حسنة عن شهر، وكذلك الشهر الثاني والثالث، فيكون كأنما صام السنة كلها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، تقول عائشة: «لا يبالي هل صامها من أول الشهر أو وسطه أو آخره» [(447)] وأمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة من أصحابه، أبو هريرة وأبو الدرداء وأبو ذر[(448)]، فعندنا أمران:
الأمر الأول: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، سواء أكانت في أول الشهر، أم في وسطه، أم في آخره، وسواء أكانت متتابعة أم متفرقة.
الأمر الثاني: أنه ينبغي أن يكون الصيام في أيام البيض الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فتعيينها في أيام البيض تعيين أفضلية كتعين الصلاة في أول وقتها، أي: أنَّ أفضل وقت للأيام الثلاثة هو أيام البيض، ولكن من صام الأيام الثلاثة في غير أيام البيض حصل على الأجر، وهو أجر صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لا صيام أيام البيض، وحصل له صيام الدهر.
وَالاثْنَيْنِ والخَمِيسِ،............
قوله: «والاثنين والخميس» أي ويسن صيام الاثنين والخميس.
وصوم الاثنين أوكد من الخميس، فيسن للإنسان أن يصوم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.
وقد علل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك: «بأنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله ـ عزّ وجل ـ، قال: فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» [(449)]، وهذا الحديث اختلف المحدثون فيه فمنهم من ضعفه وقال: لا تقوم به حجة، ومنهم من قال: إنه صحيح كابن خزيمة، ومنهم من سكت عنه فلم يحكم له باضطراب ولا تصحيح، وعلى كل حال فإن الفقهاء اعتبروه واستشهدوا به، واستدلوا به.
وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويعثت فيه أو أنزل علي فيه» [(450)] فبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن صيام يوم الاثنين مطلوب، وعلى هذا فيسن صيام يومين من كل أسبوع، هما يوم الاثنين والخميس.
وأما صيام يوم الثلاثاء والأربعاء فليس بسنة على التعيين، وإلا فهو سنة مطلقة، يسن للإنسان أن يكثر من الصيام، لكن لا نقول يسن أن تصوم يوم الثلاثاء، ولا يسن أن تصوم يوم الأربعاء، ولا يكره ذلك.
وأما الجمعة فلا يسن صوم يومها، ويكره أن يفرد صومه، والدليل على ذلك:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده» [(451)].
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم لإحدى أمهات المؤمنين وكانت صامت يوم جمعة: «أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري» [(452)] فدل ذلك على أن يوم الجمعة لا يفرد بصوم، بل قد ورد النهي عن ذلك.
3 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام، ولا ليلتها بقيام» [(453)].
وأما السبت فقيل: إنه كالأربعاء والثلاثاء يباح صومه.
وقيل: إنه لا يجوز إلا في الفريضة.
وقيل: إنه يجوز لكن بدون إفراد.
والصحيح أنه يجوز بدون إفراد، أي: إذا صمت معه الأحد، أو صمت معه الجمعة، فلا بأس، والدليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لزوجته «أتصومين غداً؟» أي: السبت.
وأما الحديث الذي رواه أبو داود: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء شجر» [(454)] يعني فليأكله، فهذا الحديث مختلف فيه هل هو صحيح أو ضعيف؟ وهل هو منسوخ أو غير منسوخ[(455)]؟ وهل هو شاذ أو غير شاذ؟ وهل المراد بذلك إفراده دون جَمْعِهِ إلى الجمعة أو الأحد؟ وسبق بيان القول الصحيح أن المكروه إفراده، لكن إن أفرده لسبب فلا كراهة، مثل أن يصادف يوم عرفة أو يوم عاشوراء، إذا لم نقل بكراهة إفراد يوم عاشوراء.
وأما الأحد: فبعض العلماء استحب أن يصومه الإنسان.
وكرهه بعض العلماء.
أما من استحبه فقال: إنه يوم عيد للنصارى، ويوم العيد يكون يوم أكل وسرور وفرح، فالأفضل مخالفتهم، وصيام هذا اليوم فيه مخالفة لهم.
وأما من كره صومه فقال: إن الصوم نوع تعظيم للزمن، وإذا كان يوم الأحد يوم عيد للكفار فصومه نوع تعظيم له، ولا يجوز أن يُعظم ما يعظمه الكفار على أنه شعيرة من شعائرهم.
والخلاصة أن الثلاثاء والأربعاء حكم صومهما الجواز، لا يسن إفرادهما ولا يكره، والجمعة والسبت والأحد يكره إفرادها، وإفراد الجمعة أشد كراهة لثبوت الأحاديث في النهي عن ذلك بدون نزاع، وأما ضمها إلى ما بعدها فلا بأس، وأما الاثنين والخميس فصومهما سنة.
وَسِتٍ مِنْ شَوَّالٍ،..........
قوله: «وست من شوال» أي ويسن صوم ست من شوال؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله» [(456)] فيسن للإنسان أن يصوم ستة أيام من شوال.
فائدة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأتبعه ستاً من شوال» والمعروف أن تذكير العدد يدل على تأنيث المعدود، والذي يصام اليوم لا الليل فلم لم يقل ستة؟
الجواب: أن الحكم في كون العدد يذكر مع المؤنث، ويؤنث مع المذكر، إذا ذُكِرَ المعدود فتقول ستة رجال وست نساء، قال تعالى: {{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ}} [الحاقة: 7] .
أما إذا حذف المعدود فإنه يجوز التأنيث والتذكير فتقول صمت ستاً من شوال وصمت ستة من شوال، ومنه قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}} [البقرة: 234] والمراد عشرة أيام لكنه ذكَّرها؛ لأن المعدود لم يُذْكَرْ، والظاهر أن الأفصح التذكير؛ لأن هذا هو الذي جاء بلفظ الحديث وهو أيضاً أخف على اللسان، وهذه القاعدة ما لم يحصل اشتباه، فإن حصل فإنه يجب أن يراعي الأصل، أي: لو كان اللفظ يحتمل أن يراد به المذكر أو أن يراد به المؤنث والحكم يختلف، فإن الواجب الرجوع إلى الأصل، كالقاعدة العامة في جميع ما يجوز في النحو يقيدونها بما لم يُخْشَ اللبس، فإن خيف اللبس وجب إرجاع كل شيء إلى أصله.
قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: والأفضل أن تكون هذه الست بعد يوم العيد مباشرة؛ لما في ذلك من السبق إلى الخيرات.
والأفضل أن تكون متتابعة؛ لأن ذلك أسهل غالباً؛ ولأن فيه سبقاً لفعل هذا الأمر المشروع.
فعليه يسن أن يصومها في اليوم الثاني من شوال ويتابعها حتى تنتهي، وهي ستنتهي في اليوم الثامن، من شهر شوال، وهذا اليوم الثامن يسميه العامة عيد الأبرار، أي: الذين صاموا ستة أيام من شوال.
ولكن هذا بدعة فهذا اليوم ليس عيداً للأبرار، ولا للفجار.
ثم إن مقتضى قولهم، أن من لم يصم ستة أيام من شوال ليس من الأبرار، وهذا خطأ، فالإنسان إذا أدى فرضه فهذا بَرُّ بلا شك، وإن كان بعض البر أكمل من بعض.
ثم إن السنة أن يصومها بعد انتهاء قضاء رمضان لا قبله، فلو كان عليه قضاء ثم صام الستة قبل القضاء فإنه لا يحصل على ثوابها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صام رمضان» ومن بقي عليه شيء منه فإنه لا يصح أن يقال إنه صام رمضان؛ بل صام بعضه، وليست هذه المسألة مبنيّة على الخلاف في صوم التطوع قبل القضاء؛ لأن هذا التطوع أعني صوم الست قيده النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيد وهو أن يكون بعد رمضان، وقد توهم بعض الناس فظن أنه مبني على الخلاف في صحة صوم التطوع قبل قضاء رمضان، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك، وبينا أن الراجح جواز التطوع وصحته، ما لم يضق الوقت عن القضاء.
تنبيه: لو أخر صيام الست من شوال عن أول الشهر ولم يبادر بها، فإنه يجوز لقوله صلّى الله عليه وسلّم «ثم أتبعه ستاً من شوال» فظاهره أنه ما دامت الست في شوال، ولو تأخرت عن بداية الشهر فلا حرج، لكن المبادرة وتتابعها أفضل من التأخير والتفريق، لما فيه من الإسراع إلى فعل الخير، ويستثنى من قول المؤلف «ستاً من شوال» يستثنى يوم العيد لأنه لا يجوز صومه.
مسألة: لو لم يتمكن من صيام الأيام الستة في شوال لعذر كمرض أو قضاء رمضان كاملاً حتى خرج شوال، فهل يقضيها ويكتب له أجرها أو يقال هي سنة فات محلها فلا تقضى؟
الجواب: يقضيها ويكتب له أجرها كالفرض إذا أخره عن وقته لعذر، وكالراتبة إذا أخرها لعذر حتى خرج وقتها، فإنه يقضيها كما جاءت به السنة.
فائدة: كره بعض العلماء صيام الأيام الستة كل عام مخافة أن يظن العامة أن صيامها فرض، وهذا أصل ضعيف غير مستقيم لأنه لو قيل به لزم كراهة الرواتب التابعة للمكتوبات، أن تصلى كل يوم وهذا اللازم باطل وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم والمحذور الذي يخشى منه يزول بالبيان.
وَشَهْرِ المُحَرَّمِ،...........
قوله: «وشهر المحرم» أي: يسن صوم شهر المحرم، وهو الذي يلي شهر ذي الحجة، وهو الذي جعله الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أول شهور السنة، وصومه أفضل الصيام بعد رمضان، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» [(457)].
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ أيهما أفضل صوم شهر المحرم، أم صوم شهر شعبان؟
فقال بعض العلماء: شهر شعبان أفضل؛ لأن النبي كان يصومه، إلا قليلاً منه ولم يحفظ عنه أنه كان يصوم شهر المحرم؛ لكنه حث على صيامه بقوله: «إنه أفضل الصيام بعد رمضان» .
قالوا: ولأن صوم شعبان ينزل منزلة الراتبة قبل الفريضة وصوم المحرم ينزل منزلة النفل المطلق، ومنزلة الراتبة أفضل من منزلة النفل المطلق، وعلى كل فهذان الشهران يسن صومهما، إلا أن شعبان لا يكمله.
وآكَدُهُ العَاشِرُ، ثُمَّ التَّاسِعُ، وَتِسْعِ ذِي الحِجَّةِ ..........
قوله: «وآكده العاشر ثم التاسع» يعني آكد صوم شهر المحرم العاشر ثم التاسع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» [(458)] فهو آكد من بقية الأيام من الشهر.
ثم يليه التاسع لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لئن بقيت، أو لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع» [(459)] يعني مع العاشر.
وهل يكره إفراد العاشر؟
قال بعض العلماء: إنه يكره، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده خالفوا اليهود» [(460)].
وقال بعض العلماء: إنه لا يكره، ولكن يفوت بإفراده أجر مخالفة اليهود.
والراجح أنه لا يكره إفراد عاشوراء.
فإن قال قائل: ما السبب في كون يوم العاشر آكد أيام محرم؟
فالجواب أن السبب في ذلك أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذا الحديث دليل على أن التوقيت كان في الأمم السابقة بالأهلة، وليس بالشهور الأفرنجية، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأن اليوم العاشر من محرم هو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون وقومه ونجى موسى وقومه[(461)].
قوله: «وتسع ذي الحجة» أي ويسن صوم تسع ذي الحجة.
وتسع ذي الحجة تبدأ من أول أيام ذي الحجة، وتنتهي باليوم التاسع، وهو يوم عرفة، والحجة بكسر الحاء أفصح من فتحها وعكسها القعدة.
ودليل استحبابها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» [(462)] والصوم من العمل الصالح.
وقد ورد حديثان متعارضان في هذه الأيام، أحدهما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يصوم هذه الأيام التسعة[(463)]، والثاني أنه كان يصومها[(464)]، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله في التعارض بين هذين الحديثين: إن المثبت مقدم على النافي، ورجح بعض العلماء النفي؛ لأن حديثه أصح من حديث الإثبات، لكن الإمام أحمد جعلهما ثابتين كليهما، وقال: إن المثبت مقدم على النافي، ونحن نقول: إذا تعارضا تساقطا بدون تقديم أحدهما على الآخر فعندنا الحديث الصحيح العام «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر» [(465)] فالعمل الصالح في أيام عشر ذي الحجة ومن ذلك الصوم أحب إلى الله من العمل الصالح في العشر الأواخر من رمضان، ومع ذلك فالأيام العشر من ذي الحجة، الناس في غفلة عنها، تَمُرُّ والناس على عاداتهم لا تجد زيادة في قراءة القرآن، ولا العبادات الأخرى بل حتى التكبير بعضهم يشح به.
وآكَدُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا،.............
قوله: «وآكده يوم عرفة» أي: آكد تسع ذي الحجة، صيام يوم عرفة لغير حاج بها، ويوم عرفة هو اليوم التاسع، وإنما كان آكد أيام العشر؛ لأن النبي (ص) «سئل عن صوم يوم عرفة فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» [(466)] وعلى هذا فصوم يوم عرفة أفضل من صوم عاشوراء؛ لأن صوم عاشوراء قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» فقط.
قوله: «لغير حاج بها» الباء بمعنى في، وقوله «لغير حاج بها» اشترط المؤلف شرطين: الأول: لغير حاج، الثاني: بها، أي: في عرفه، فظاهره أنه لو كان الحاج في غير عرفة، مثل أن يصادفه يوم عرفة في الطريق، ولم يصل إلى عرفة إلا في الليل، فظاهر كلام المؤلف أن صوم هذا اليوم مشروع، وظاهره أيضاً أنه لو كان الإنسان بعرفة لكنه لم يحج مثل العمال وشبههم فإنه يصوم، فالحاج في عرفة لا يصوم وليس مشروعاً له الصوم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» [(467)] وهذا الحديث في صحته نظر، لكن يؤيده أن الناس شَكُّوا في صومه صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة، فأرسل إليه بقدح من لبن فشربه ضحى يوم عرفة والناس ينظرون إليه[(468)]، ليتبين لهم أنه لم يصم؛ ولأن هذا اليوم يوم دعاء وعمل، ولا سيما أن أفضل زمن الدعاء هو آخر هذا اليوم، فإذا صام الإنسان فسوف يأتيه آخر اليوم وهو في كسل وتعب، لا سيما في أيام الصيف وطول النهار وشدة الحر، فإنه يتعب وتزول الفائدة العظيمة الحاصلة بهذا اليوم، والصوم يدرك في وقت آخر؛ ولهذا فالصواب أن صوم يوم عرفة للحاج مكروه، وأما لغير الحاج فهو سنة مؤكدة.
وَأَفْضَلُهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ.............
قوله: «وأفضله صوم يوم وفطر يوم» أي: أفضل صوم التطوع صوم يوم، وفطر يوم.
فإذا قال قائل: لماذا لم يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والرسول ينشر الأفضل وهو أخشانا لله وأتقانا له؟ قلنا: لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يشتغل بعبادات أخرى أجل من الصيام، من الدعوة إلى الله، والأعمال الأخرى الوظيفية التي تستدعي أن يفعلها، ولهذا ثبت عنه فضل الأذان، وأن المؤذنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة[(469)]، ومع ذلك لم يباشره؛ لأنه مشغول بعبادات أخرى جليلة لا يتمكن من مراقبة الشمس في طلوعها، وزوالها وما أشبه ذلك، وقال في الرجل الذي دخل وصلى وحده: من يتصدق على هذا؟ فقام بعض أصحابه فصلى معه [(470)]، فلا يقول قائل: لماذا لم يقم هو لأنها صدقة، وهو أسبق الناس إلى الخير؟ فالجواب لأنه مشتغل بما هو أهم، من تعليم الناس، والتحدث إليهم وتأليفهم وما أشبه ذلك، المهم أنه لا يُظن أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا ندب إلى فعل شيء وبين أنه أفضل ولم يفعله هو، فهو قصور منه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، ولكن اشتغاله بما هو أولى وأهم، ولهذا لما سئل عن صوم يوم وإفطار يومين؟ قال: «ليت أنا نقوى على ذلك» [(471)]، يعني أنه ما يقوى على ذلك مع أعماله الأخرى الجليلة التي لا يقوم بها غيره.
وعلى هذا إذا جاءنا طالب علم، وقال: إنني إذا صمت قصرت عن طلب العلم وصار عندي خورٌ وضعف وتعب، وإذا لم أصم نشطت على العلم، فهل الأفضل في أن أصوم يوماً وأفطر يوماً؛ لأنه أفضل الصيام، أو أن أقوم بطلب العلم؛ نقول: الأفضل أن تقوم بطلب العلم.
وإذا جاءنا رجل عابد ليس له شغل، لا قيام على عائلة، ولا طلب علم، وقال: ما الأفضل لي، أن أصوم يوماً وأفطر يوماً، أو لا أصوم؟ نقول: الأفضل أن تصوم يوماً وتفطر يوماً، فالمهم أن التفاضل في العبادات وتمييز بعضها عن بعض وتفضيل بعضها على بعض، أمر ينبغي التفطن له؛ لأن بعض الناس قد يلازم طاعة معينة ويترك طاعات أهم منها وأنفع، وقد جاء وفد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فجلس يتحدث إليهم وترك راتبة الظهر ولم يصلها إلا بعد العصر[(472)]، فعلى هذا ينبغي للإنسان أن يعادل بين نوافل العبادات وإذا ترك شيئاً لما هو أهم منه، فلا يقال إنه تركه، بل فعل ما هو خير منه، فلا يعد ذلك قصوراً.
ودليل ذلك أن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: «لأصومن النهار، ولا أفطر، ولأقومن الليل ولا أنام، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله: «أنت الذي قلت كذا؟ قال: نعم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: صم كذا، صم كذا، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال له: صم يوماً وأفطر يوماً فذلك أفضل الصيام، وهو صيام داود، وقال له في القيام: نم نصف الليل، وقم ثلث الليل، ونم سدس الليل، فذلك أفضل القيام وهو قيام داود» [(473)]؛ لأن هذا الصيام يعطي النفس بعض الحرية، والبدن بعض القوة؛ لأنه يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكذلك القيام إذا نام نصف الليل، ثم قام ثلثه، ثم نام سدسه، فإن تعبه في قيام الثلث سوف يزول بنومه السدس، فيقوم في أول النهار نشيطاً.
ولكن هذا، أي: صوم يوم وفطر يوم، مشروط بما إذا لم يضيع ما أوجب الله عليه، فإن ضيع ما أوجب الله عليه كان هذا منهياً عنه؛ لأنه لا يمكن أن تضاع فريضة من أجل نافلة، فلو فرض أن هذا الرجل إذا صام يوماً وأفطر يوماً، تخلف عن الجماعة في المسجد، لأنه يتعب في آخر النهار، ولا يستطيع أن يصل إلى المسجد، فنقول له: لا تفعل؛ لأن إضاعة الواجب أعظم من إضاعة المستحب، فهذا مستحب لا تأثم بتركه فاتركه.
كذلك لو انشغل بذلك عن مؤونة أهله، أي: انقطع عن البيع والشراء والعمل الذي يحتاجه لمؤونة أهله، فإننا نقول له: لا تفعل؛ لأن القيام بالواجب أهم من القيام بالتطوع، وكذلك لو أدى هذا الصيام إلى عدم القيام بواجب الوظيفة كان منهياً عنه.
وقد التزم عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ بذلك حتى كبر فتمنى أنه قبل رخصة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، حتى اجتهد ـ رضي الله عنه ـ فصار يصوم خمسة عشر يوماً متتابعة، ويفطر خمسة عشر يوماً متتابعة، ويرى أن هذا بدل عن صيام يوم وإفطار يوم.
ونأخذ من هذا فائدة، وهي أن الإنسان ينبغي ألا يقيس نفسه في مستقبله على حاضره، فقد يكون الإنسان في أول العبادة نشيطاً يرى أنه قادر، ثم بعد ذلك يلحقه الملل، أو يلحقهُ ضعف وتعب، ثم يندم، لهذا ينبغي للإنسان أن يكون عمله قصداً، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم مرشداً أمته: «اكلفوا من العمل ما تطيقون» [(474)] أي: لا تكلفوا أنفسكم وقال: «استعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا» [(475)]، وقال «إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى» [(476)] والمنبت هو الذي يسير ليلاً ونهاراً، فالإنسان ينبغي له أن يقدر المستقبل، لا يقول أنا الآن نشيط سأحفظ القرآن والسنة، وزاد المستقنع وألفية ابن مالك كلها في أيام قليلة، فهذا لا يمكن، فأعط نفسك حقها، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل» [(477)] وكثير من الناس يكون عنده رغبة إما في العبادة، أو طلب العلم أو غير ذلك، ثم بعد هذا يكسل، فالذي ينبغي للإنسان، أن ينظر للمستقبل، كما ينظر للحاضر.
وفي حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ دليل على أن صوم يوم الجمعة أو السبت إذا صادف يوماً غير مقصود به التخصيص فلا بأس به، لأنه إذا صام يوماً، وأفطر يوماً فسوف يصادف الجمعة والسبت، وبذلك يتبين أن صومهما ليس بحرام، وإلا لقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: صم يوماً، وأفطر يوماً، ما لم تصادف الجمعة والسبت.
وَيُكْرَهُ إِفرَادُ رَجَبٍ، والجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، والشَّكِ............
قوله: «ويكره إفراد رجب» يعني بالصوم.
عللوا هذا بأنه من شعائر الجاهلية، وأن أهل الجاهلية هم الذين يعظمون هذا الشهر، أما السنة فلم يرد في تعظيمه شيء، ولهذا قالوا: إن كل ما يروى في فضل صومه، أو الصلاة فيه من الأحاديث فكذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وقد ألف ابن حجر ـ رحمه الله ـ رسالة صغيرة في هذا وهي «تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب».
ويؤخذ من قوله: «إفراد رجب» أنه لو صامه مع غيره، فلا يكره؛ لأنه إذا صام معه غيره لم يكن الصيام من أجل تخصيص رجب، فلو صام شعبان ورجباً فلا بأس، ولو صام جمادى الآخرة ورجباً فلا بأس.
قوله: «والجمعة» أي يكره إفراد الجمعة والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده» [(478)] وقال: «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام» [(479)] وقال لإحدى أمهات المؤمنين، وقد وجدها صائمة يوم الجمعة: «أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري» [(480)] فإن صامها مع غيرها فلا يكره، فلو صام الخميس والجمعة فلا بأس، أو الجمعة والسبت فلا بأس.
وإن صامها وحدها لا للتخصيص، لكن لأنه وقت فراغه كرجل عامل يعمل كل أيام الأسبوع، وليس له فراغ إلا يوم الجمعة، فهل يكره؟
الجواب: عندي فيه تردد، فإن نظرنا إلى ما رواه مسلم: «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام» قلنا: لا بأس؛ لأن هذا لم يخصه، وإن نظرنا إلى حديث «أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري» فإن هذا قد يؤخذ منه أنه يكره إفرادها، وإن كان في الأيام الأخرى لا يستطيع، وقد لا يؤخذ منه، فيقال: إن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أصمت أمس؟ أو أتصومين غداً؟» يدل على أنها قادرة على الصوم.
فالحاصل أنه إذا أفرد يوم الجمعة بصوم لا لقصد الجمعة، ولكن لأنه اليوم الذي يحصل فيه الفراغ، فالظاهر إن شاء الله أنه لا يكره، وأنه لا بأس بذلك.
قوله: «والسبت» أي: يكره إفراده، لحديث «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» [(481)] فيحمل إن صح على النهي عن إفراده، وأما جمعه، مع الجمعة، فلا بأس؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لجويرية: «أتصومين غداً؟» فدل هذا على أن صومه مع الجمعة لا بأس به، وهذه المسألة قد يلغز بها فيقال: يومان إن أفرد أحدهما بالصوم كره، وإن اجتمعا فلا كراهة؟ مع أن الذي يتبادر أن المكروه إذا ضم إلى مكروه ازدادت الكراهة، لكن هذا إذا ضم المكروه إلى مكروه زالت الكراهة، فيجاب أن الكراهة هي الإفراد، فإذا صام الجميع فلا كراهة، فإن قيل حديث النهي عن صوم السبت عام ليس فيه تفصيل، فالجواب أنه إذا ورد ما يخصص العام وجب العمل به، وقد ورد ما يدل على جواز صومه مع الجمعة وهذا تخصيص.
قوله: «والشك» أي: يكره صوم يوم الشك، ويوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان، إذا كان في السماء ما يمنع رؤية الهلال كغيم وقتر.
وقيل: هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كانت السماء صحواً.
والأول أرجح؛ لأنه إذا كانت السماء صحواً وتراءى الناس الهلال ولم يروه لم يبق عندهم شك أنه لم يهل، والشك يكون إذا كان هناك ما يمنع رؤية الهلال، ولكن لما كان فقهاؤنا ـ رحمهم الله ـ يرون أنه إذا كان ليلة الثلاثين، وحال ما يمنع رؤيته من غيم أو قتر يجب صومه، حملوا الشك على ما إذا كانت السماء صحواً، وهذه آفة يلجأ إليها بعض العلماء، وسبب هذه الآفة أن الإنسان يعتقد قبل أن يستدل، وهذا خطأ، والواجب أن تجعل اعتقادك تابعاً للدليل، فتستدل أولاً، ثم تحكم ثانياً.
فالأرجح أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كان في السماء ما يمنع رؤية الهلال، وأما إذا كانت السماء صحواً فلا شكَّ.
وهل صومه مكروه كما قال المؤلف أو محرم؟
الجواب: في هذا خلاف بين العلماء:
القول الأول: أنه محرم.
القول الثاني: أنه مكروه.
والصحيح أن صومه محرم إذا قصد به الاحتياط لرمضان ودليل ذلك:
1 ـ قول عمار بن ياسر رضي الله عنهما: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم» [(482)].
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» [(483)].
3 ـ ولأنه نوع من التعدي لحدود الله، فإن الله يقول في كتابه: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] ، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا رأيتموه فصوموا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» [(484)].
يتبع,,,