المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عبدالله غريب ,, والرد على كتاب دراسات نقدية للاسلام لكامل نجار



اخت مسلمة
10-05-2009, 09:25 PM
(الغربُ غربٌ والشرقُ شرقٌ ولا يلتقيان)


من هذه النزعة الانتحارية التي أرى أنها ضد الإنسانية والحضارة العالمية, أبدء مشروعيّ هذا والذي هو عبارة عن طرح استفسارات والإجابة عنها وترك مجال للآخرين بإبداء الرأي مع الأخذ بعين الاعتبار نقطة هامة وهي أني لا أجور أو أتحايل وإنما اطرح الفكرة وأورد الرد مباشرة عليها والقارئ حرٌ في قناعاته.

ولنبدأ....

بسـم الله الرحمـن الرحيـم


(قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِـرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَـالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَـ فِي مَـا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

استهلال

منذ أن عقدت العزم على مناقشة هذا الكتاب، وأنا في حيرة من أمري، كيف سأبدأ؟ فالحديث عن الإساءة للدين بوجه عام والإسلام بوجه خاص ذو شجون. ويبدو أن الأخير حالة استثنائية في تاريخ العالم كله. قد لا تجد دعوة أو فكرة تم قبولها بدون ظهور معارضات وانتقادات لها، وهذا أمر طبيعي وظاهرة عادية كذلك. لكنك - في الجهة المقابلة - لن تجد مثل هذا الكم من الانتقادات الموجهة للدين الإسلامي!
ويبدو أن انتقاد الإسلام هو اللعبة المسلية لأي كان.
فمهما كانت درجة جهل من ينتقد الإسلام، فإن هذا لا يثني عن التصريح بمنتهى الوقار والثقة بإن الإسلام دعوة باطلة ورسالة زائفة، وأنه لا يجوز لها البقاء أكثر مما بقيت. الدين هي نظرية فاشلة والإسلام فكرة عقيمة! وفي معظم الأحوال تجد أن قراءة سريعة لمثل هذه "الانتقادات" لا تظهر لك إلا جهل أصحابها ليس فقط بالإسلام، بل بأبسط مبادئ وأسس التفكير العلمي والاستدلال المنطقي. لتقف في حيرة من أمرك، ما المفترض أن تفعله والحال هكذا؟! وهذا كان يؤدي بي في معظم الأحوال للزهد في المشاركة في الحديث مع من يسئ للإسلام.
لدينا حالة من الجهل واسع الانتشار بشأن حقيقة الإسلام، - وهذا موجود حتى بين كثيرين ممن يدعون التدين - إضافة إلى التفكير المبني على التمني لا على الحقيقة والواقع. عندما تجمع هذا إلى ذاك، الجهل، الموقف المسبق. تدرك مدى حساسية الموقف، وأسباب حيرتي. طريقة صياغة الكتاب تتوقف على القارئ الموجه له، هناك
من لديه خلفية جيدة عن الإسلام واقتناع تام به، ومن ثمّ فهو ليس بحاجة لقراءة كتاب تدعم معتقده. وعلى طرف النقيض هناك من قرر مسبقاً أن الإسلام دين زائف، وليس لديه استعداد لقراءة فكرة مخالفة لمعتقده، ناهيك عن الاقتناع بها، وهنا أيضاً لا داعي لانفاق الوقت فيما لا طائل منه. بين طرفي النقيض هناك من يمتلك حد أدنى من المعرفة تؤهله لتناول الموضوع.
لا أزعم أن الأفكار والمعلومات التي سأقدمها ستكون جديدة، فالكتب والدوريات المتخصصة وصفحات الانترنيت لم تترك شيئاً بدون التعليق عليه. فقط سأحاول - قدر الإمكان - جمع وعرض الأمور التي تبدو لي على قدر من الأهمية لجعل القارئ أكثر تفهماً لما يقال عن الإسلام. أي أن الغرض الأساسي لكل ما سأكتبه، هو دعوة كل قارئ ليخلق في نفسه، إن لم يكن حيزاً من الفهم والوضوح، فعلى الأقل حيزاً يكون فيه الجهل محصوراً، ومناطق العتمة محدودة.
كما أدعوكم - وأدعو نفسي كذلك - للتفكير ملياً في المواضيع المطروحة للنقاش قبل البحث عن إجابات لها، فيبدو أننا كثيراً ما نتوهم امتلاكنا إجابات ثم يثبت الزمن عدم فهمنا للأسئلة بعد.
ولا أجد شيئاً أنهي به هذا الاستهلال أفضل من التساؤل التالي: ما الذي تعنيه الإجابات عندما لا نكون قد استوعبنا فعلاً معنى الأسئلة؟


مقدمة توضيحية حول الكتاب وخطة العمل


الكتاب الذي نحن بصدد مناقشته ، يحمل عنوان (قراءة نقدية للإسلام) . لكن لا بد أن نفرق بين الإساءة و النقد. فعندما يدعي أحدهم أنه يتناول موضوعاً ما بالنقد، فهذا يعني أنه يتناوله من جميع جوانبه. وخاصة إذا هذا الأمر متعلقاً بمنظومة فكرية و اجتماعية متشعبة الجوانب. فلا بد للباحث والدارس أن يجد بعض الجوانب السيئة و
أخرى حسنة - وفق منظوره- وهذا ما نستطيع أن نسميه (نقداً).
أمّا الإساءة فيأخذ صفة العداء المسبق. ومن البديهي أن من يملك هـذه الرؤية فلـن يتناول الموضوع إلاّ من خلال جوانبه السيئة - وفق منظور ه أيضاً - فالأشياء
الحسنة تتغيب تماماً في فكره و يتم تجاهله عمداً.
وعلى الإطلاق لم نلحظ في كتابات هذا الكاتب أي مديح أو إشادة بأي شيء في الإسلام،كبيراًً كان ذلك الشيء أو ضئيلاً. فلا يجد الكاتب سوى الصفات السيئة في الإسلام، ولا يجد فيه إلا كلّ سوء. هكذا هو الأمر في فكر مؤلف الكتاب الدكتور (كامل النجار) الإساءة هي الأمر الوحيد الذي يستحق الذكر بحق الإسلام من منظوره ! وليته أتى بشيء جديد إنما هي أفكار مكررة سبقه بها كثيرون. هذا الدين لم يجد الدكتور كامل النجار فيه أي أمر مهما كان صغيراً يستحق به المديح أو الذكر الحسن.
لنرى ماذا فعل؟ على مدى الكتاب كله والذي يقع في عشرة فصول وتحت عناوين مختلفة. قام باسم "القراءة النقدية المحايدة"، بالافتراء على الإسلام افتراءاً لا حدود له، وأورد تهماً تنقصها الدليل, ولم أجد خلال قراءتي أي منهج يعتمده في قراءته للإسلام، سوى لمّ التهم ورصها من هنا وهناك.
قد يتفق معي بعض اللادينين أنفسهم أن الكتاب إجمالاً غير موضوعي وسطحي تماماً، ورغم ذلك تجد معظم الأفكار الإلحادية على الصفحات العربية للإنترنت موجودة في هذا المصدر. لذلك كانت فرصة جيدة أن تجتمع كل هذه الاتهامات الموجهة للإسلام أمامي للرد عليها، برغم أنها مكدسة ومكثفة جداً بدون فرصة لالتقاط الأنفاس.
وقد قمت بتتبع ما كتبه الرجل من المقدمة وحتى الخاتمة، متبقياً على نفس العناوين التي ذكرها. أيضاً قمت بإضافة بعض العناوين من عندي وسأشير إلى ذلك في وقتها. وهناك بعض المواضيع تكررت أكثر من مرة. وطبعاً لن أناقش أي موضوع مرتين، بل سأكتفي بالإشارة إلى إن هذا الموضوع سبق تعرض لـه. على سبيل المثال الفصل
العاشر والمسمى: (ماذا أخذ الإسلام من الأديان الأخرى) أهملناه، لأن ما يثار عن علاقة الإسلام بالأديان الأخرى، وما يقال عن اقتباس الإسلام من المسيحية واليهودية، وعن لغة القرآن سبق التعرض له.
و الكتاب عموماً يفتقر إلى الترابط و التماسك، وهذا يظهر بوضوح في الصفحات الأولى، فكل الكتاب عبارة عن فقرات متناثرة كان هم صاحبها الأول جمع ما يمكن جمعه من الطعون التي وجهت للإسلام قد تتناقض مع بعضها، ظناً منه أن بالكثرة يعطي لدعواه المصداقية. لذا كان من الصعب مناقشة الكتاب إجمالاُ، وكان أن اضطررت إلى مناقشة كل فقرة على حدة، وأتبعت في ذلك منهج الاقتباس من الكتاب، الذي يبدأ بـ : (يقول الكاتب) وبالخط العريض، ثم التعليق عليها فيما بعد. كما وردت بعض المواضيع التي ناقشناها بدون الاقتباس من الكتاب. ولن نعالج بطبيعة الحال في هذا الكتاب كل القضايا التي أثارها الكاتب بصدد الإسلام، لأن النقاش سيطول وسيشعر القارئ بالملل، بل سأكتفي بنقاش النقاط التي بدت لنا أكثر أهمية.
أما بالنسبة للمراجع المعتمدة في هذا الكتاب، فالقارئ سيلاحظ أن أسماء أغلب المراجع وردت في متن الكتاب، لذلك رأيت أن لا داع لإفراد هامش له. كما سيجد القارئ في نهاية الكتاب صفحة بأهم المواقع الانترنت التي اعتمدت عليها، والتي استفدت منها كثيراً.
هذا الكتاب الذي بين يديك ليس مجرد رد على شخص، ولكنه أكثر من ذلك؛ إنه حوار عام عن الإسلام، ومحاولة لفهم ما يقال عنه عموماً.
وألتمس من القارئ العزيز العذر على اللهجة المنفعلة في بعض المواقف، لأنني لم أستطع أن أكـون هادئاً كل الوقت، فتجاهل بعض الحقائق الواضحة، أو ليّ عنقها لأجل أحكام المسبقة، تجعل على الإنسان يخرج عن طوره أحياناً. ونحن في نهاية الأمر بشر، والكمال لله وحده.

نبدأ مع الكاتب من المقدمة:


(نعم أن العالم العربي يمر في مرحلة عصيبة، ولكن من المسئول عن هذه المحنة التي يمر بها العرب والمسلمون عامةً؟ لا شك أنها من صنع العرب والمسلمين أنفسهم ورغبتهم العارمة بالرجوع بأنفسهم إلى عصر الإسلام الذهبي قبل أربعة عشر قرناً من الزمان. وقاد هذا الهوس بالماضـي الجماعات السلفية إلى تنفيذ فاجعة 11 سبتمبر عام 2001 التـي جعلت الإسلام
مرادفاً للإرهاب والمسلم مرادفاً للإرهابي، وقسّموا العالم إلى معسكرين متناحرين في رأيهم: (إما فسطاط الإيمان أو فسطاط الكفر.. وإما نحن وإما هم ولا يمكن التعايش بينهما!!) على غرار بعض المتشددين الغربيين الذين قالوا: (الغربُ غربٌ والشرقُ شرقٌ ولا يلتقيان). وهذه النزعة الانتحارية هي ضد الإنسانية والحضارة العالمية، ناهيك عن تناقضها تماماً مع روح الأديان وجوهرها.)

هكذا تلاحظ تلميحاً أن الإسلام هو السبب في الوضع الحالي. ليست الغزوات الفكرية التي أهدرت سنين من عمر الأمة في تجارب لم تكن لتنجح قط.
الإسلام هو سبب كل خراب في العالم عند هؤلاء، حتى وهو يحارَب في داره.
هل الإسلام جاء ليقسم العالم، أم هم الذين قسموه لكتلة شرقية وغربية واستعمروا العالم كله. إن المرء ليأسف على هذه العقول المحتلة!

يقول الكاتب:

(ولكن هل كان عصر الخلفاء الراشدين عصراً إسلاميا ذهبياً كما يتوهم السلفيون؟ فإذا نظرنا لهذا العهد نجد أن الخلاف قد دب بين المسلمين بمجرد أن مات النبي. فنجد ان الأنصار والمهاجرين أوشكوا أن يتقاتلوا بالسيوف علي من سيخلف الرسول، هل يكون من الأنصار أم من المهاجرين. أراد الأنصار أن يبايعوا سعد بن عبادة، وأراد المهاجرون أن يكون الخليفة منهم.)

هنا يقرأ الكاتب التاريخ بدون اعتبار الواقع الاجتماعي والطابع الجدلي داخله. حين ندرس تاريخ الأمة الإسلامية، فلابد أن نعرف أن المسلمين بشر كسائر الناس. وليس من المعقول أن نتوقع تاريخاً ملائكياً خال من الصراعات. نحن لم نقل أن الإسلام قتل الطابع الجدلي داخل المجتمع البشري، فمن يقول ذلك كمن يقول أن الإسلام قضى على الفقر، أو قضى على الشر في العالم. مشكلة الكاتب وغيره من مدعي الطوباوية، أنهم ينظرون لحدث معين ويجعلون منه التاريخ كله. بل ويحصرون تقييم إحدى الفترات الفترات في نطاق ضيق يرفضون الخروج منه. لم يكن بمقدور الرسول الكريم أن يصب التاريخ في القالب الذي يريده ويتمناه، وهذه أيضاً ليس وظيفته فهو ليس إلهاً.
فالرسول صلي الله عليه وسلم توفي وترك في المسلمين خضوعاً لله من ناحية وثورة على الظلم من ناحية أخرى، فتجد المسلم خاضع وثائر في نفس الوقت، ونشأ عن هذا حركة اجتماعية قلما تجد لها نظيراً في التاريخ.
فترة الخلافة الراشدة التي يراها الكاتب غير جديرة بالثقة هي أفضل فترة عدالة مرت على البشرية في التاريخ، رغم وجود صراعات داخلية في بعض أوقاتها. هذه الصراعات من سنن هذا الكون تظهر وتختفي، ولكن المهم كيف نتعامل معها و نستوعبها.
هل معنى أن عمر بن الخطاب مات مقتولاً أن فترة حكمه فترة سيئة في التاريخ ؟ ما قوله إذن في ديكتاتور مثل ستالين الذي لم يمت مقتولاً، بل وصل لأرذل العمر وهو في منصبه. هل يرى فترة حكمه جيدة ومثالية؟
التاريخ يحكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاش بسيطاً بدون حرس وحاشية. عاش وسط البسطاء وكأنه منهم، ينام في خيمة أو تحت شجرة، وهو الذي كان حاكماً لدولة مترامية الأطراف. أناس عاشوا بهذا الشكل كانوا عرضة للقتل في أي لحظة، ولكنهم لم يكونوا يخشون شيئاً. لابد أن نعرف أن الفارق كبير بين من يدعو للعدل وهو مظلوم، ومن يدعوا له وهو حاكم مسيطر بيده مقاليد الأمور. فارق كبير أن تنادي بالزكاة وأنت فقير معدم، وأن تدعو لها وأنت بيدك كنوز الدنيا. فارق كبير بين من يدعو للحق، لأن فيه مصلحته وبين من يدعو له لأن الله أمره بذلك. هذا هو الفارق بين الصادق والمدعي.


يقول الكاتب:


(وحتى البغاء كان متفشيا في تلك الحقبة الذهبية. ففي سنة سبع عشرة ولى عمر ابا موسى الأشعري على البصرة وأمره أن يُشخص إليـه ( يرسل إليه) المغيرة ، وكان المغيرة يختلف على أم جميل، امرأة من بني هلال توفى عنها زوجها. وكانت أم جميل تغشى المغيرة وتغشى الأمراء والأشراف، تبيع جسدها، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها
والسرقة كانت متفشية في المدينة في خلافة عمر بن الخطاب. فيحدثنا أهل الذكر إن عمر بن الخطاب جاء إلى عبد الرحمن بن عوف في وقتٍ متأخر من الليل، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: رفقةٌ نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سُراق المدينة. فالخليفة كان يعلم أن المدينة مليئة بالسارقين، رغم قطـع الأيدي.)


سأفترض صحة هذه الروايات، ولكن ألم يتساءل الكاتب لماذا يكتب الإمام الطبري هذه الحوادث في كتابه تاريخ الطبري؟ هل تستحق حوادث السرقة و الزنا أن تسجل في كتب التاريخ؟ لو أن مؤرخاً معاصراً أراد أن يكتب تأريخاً عن عصرنا الحالي هل كان سيهتم بذكر حوادث السرقة والزنا؟ حتماً لم تكن هذه الأمور الصغيرة لتثير اهتمام أحد. فهي شيء تقليدي ومعتاد. بل سينبري أي مؤرخ للكتابة عن الأمور الهامة مثل الحروب الدولية و الصراعات الإقليمية ..إلخ .
أقول: أن ذكر حوادث السرقة والزنا في كتاب تاريخ هو دليل على ندرتها وغرابتها وليس لذلك معنى آخر.


يقول الكاتب:


(ولعل هذا الكتاب هو الأول من نوعه باللغة العربية الذي يتنـاول الإسلام بقـراءة
نقدية علمية محايدة دون أي تطرف أو انحياز لأية جهة. وإني اعتمدت على المصادر الإسلامية الكلاسيكية المحترمة من قبل جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، في توضيح وإثبات هذا الرأي أو ذاك. ولكن رغم ذلك سيثور المتزمتون لأنهم لا يعرفون التسامح مع الناقدين.)

سنرى الآن ما هي المصادر المحترمة التي يتحدث عنها الكاتب، والتي ذكرها الرجل في الهامش . ينقل لمؤلف اسمه ابن وراق- اسم مستعار على ما يبدو- كتبه المنشورة
بالانكليزية تحمل أسماء: [لماذا أنا لست مسلما]، و[أصول القرآن]، و[ماذا الذي يقوله الإسلام حقا]. وكتابه الأخير هذا يزعم فيه أن الإسلام لا يدعو سوى للدمار والتخريب، ويزعم أن القرآن كتاب غير معتدل مختل مليء بالعنف والقسوة، ويدعو الناس إلى عدم تصديق المسلمين فهم كذبة على حد زعمه.
لا تجد أي معلومات تفيدك من هو ابن وراق هذا، وما هي مؤهلاته العلمية، وإلى أي مؤسسة ينتسب؟ الأمور ضبابية تماماً.
الرجل كما هو واضح من كتبه يتعامل مع الإسلام كدين شيطاني يجب أن ينسف من أساسه، لذلك فهو يلجأ لاستخدام كل الطرق، يكذب ويحرف اقتباساته ويستعين بكل أنواع الخداع. لماذا ؟ ببساطة الرجل يحارب ديناً شيطانياً!
هذا المؤلف رغم ادعائه انه كان مسلماً، وأنه كان يحفظ القرآن كاملاً، إلا ان من يقرأ مقتطفات من كتبه يدرك انه لو كان صادقاً حقاً فيما يقول فهو إذن يتمتع ببلادة تفكير وسوء فهم لا يقاس. أيضاً مراجع ابن وراق هذا كلها من كتب أشد المستشرقين عداوةً للإسلام وأكثرهم عنصرية، وهذا يجعلني أشك في قصة أصله الإسلامي المزعومة، بل أشك أيضاً إن كان يتكلم العربية، فالذي كان مسلماً لا يدرس الإسلام من كتابات تحارب الإسلام لأسباب عنصرية بشهادة الغربيين أنفسهم. أريد أن أقول أن كتب ابن وراق هذا لا تعتمد أي منهجية في دراسة الإسلام، بل هي كتابات سوقية مكتوبة بسطحية لإرضاء العوام والسذج، ناهيك عن لغة قاسيةجداً. الكاتب قام ببساطة بتجميع كتب ابن وراق في كتاب واحد.
يعتمد أيضاً على كتاب عنوانه [23 عاما] لكاتب اسمه (علي داشتي). وهو كاتب ماركسي كما هو واضح من كتاباته. الكتاب عن حياة النبي محمد ويعقد فيه الرجل مقارنات بين رسولنا الكريم وشخصيات مثل لينين ونابليون وجنكيز خان.
الرجل طبعاً كماركسي يرفض الوحي و الإسراء، ويتعامل بانتقائية غريبة مع الروايات، فما يؤيد مبادئه يصدقه ومـا يخالف تفكيره المادي يرفضه ويعتبره خرافات.
تشعر منه أيضاً بجهل واضح للإسلام، ورغم أنه في البداية يقول أنه يرفض كتابات المستشرقين عن الرسول ويعتبرها عنصرية، إلا أنه يعود ويكرر نفس كلامهم عندما يقع في مأزق سيقوده للاعتراف بصدق نبوة محمد صلي الله عليه وسلم.
كتابات علي داشتي مثل ابن وراق كتابات غير محايدة إطلاقاً لأشخاص مجهولون لا يقرأ كتبهم سوى المتعصبين، الذين يهدفون من وراء تشويه صورة الإسلام الحصول على أكبر ربح.
كاتب ثالث ينقل منه الكاتب وهو (روبرت سبنسر). سبنسر هذا صحفي أمريكي
يكره كل شيء اسمه إسلامي. أنا لا أتجنى على أحد فسبنسر نفسه يتفاخر بذلك في كل كتاباته. الكتاب الذي اختاره الكاتب لسبنسر يحمل عنوان : [إماطة اللثام عن الإسلام] وهو يتكلم عن موضوع الجهاد في الإسلام، وكيف أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تسبب في انتشار العنف العالمي.
أنا لا أفشي سراً عندما أقول أن أسرع وسيلة نجاح للفاشلين في الغرب هو أن تكتب كتاباً تهاجم فيه الإسلام والمسلمين. هذا أمر يعرفه الجميع! لو سألت مثقفاً غربياً محايداً من هم أكثر الكتاب تحيزاً ضد الإسلام والمسلمين؟ لقال لك ابن وراق و روبرت سبنسر الذي يزعم الكاتب أنها مصادر محايدة محترمة! لا أحد يمتلك الشجاعة ليدافع عن ابن وراق وسبنسر تحديداً.
بخصوص المصادر العربية للكاتب مثل: [تاريخ الطبري] و[مختصر السيرة] لابن هشام وكتب ابن كثير، فكثيراً ما ستجد الصيغة التي يوردها الكاتب للرواية تختلف عن الصيغة في المصدر الأصلي، وهذا يدلني أن الرجل ينقل الرواية من كتابات مترجمة - فالترجمة تغير كثيراً في الألفاظ - وحتى القرآن ينقله الرجل من كتب مترجمة.
وهذا طبعاً يجعلني أضع الكاتب مع أبن وراق وداشتي وسبنسر في نفس التصنيف. فهؤلاء مصادرهم جميعاً عن الإسلام هي كتابات المستشرقين، وهذا مثير للريبة إلى أبعد الحدود! يجب أن نعلم أن معظم المستشرقين والمبشرين كانوا يكتبون عن الإسلام من باب التعصب الأعمى. ومن حقي كمسلم ألا أغفر لهؤلاء كتاباتهم التخريبية عن الإسلام.
أذكر قول (غولذير) يوماً وهو يرى الهوس الغربي في الهجوم على القرآن متسائلاً: (ترى ماذا يبقى لنا من الكتاب المقدس لو عاملناه بنفس الطريقة؟).
إن الكاتب كما ترى يعتمد إما على كتابات سوقية غير منهجية مثل ابن وراق و داشتي وسبنسر، وإما اقتباسات مقتضبة غامضة لا تعكس الصورة كاملة، كما يفعل مع المصادر الأخرى كما سنرى لاحقاً، ويزعم لنا في النهاية أنه يقدم قراءة نقدية!

نبذة تاريخية عن نشأة الأديان

إحدى الملاحظات التي توقف عندها علماء الانثربولوجيا، والباحثون في تاريخ الأديان، أن الوجود الديني مترادف للوجود الإنساني. ولعل ما نطق به المؤرخ الإغريقي (بلوتارك) من أنه: (وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور... ومدن بلا مدارس ... ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد) يختصر هذه الفكرة.
هذا الأمر دفع الكثيرين إلى التساؤل: لماذا تدين الإنسان؟ وما سبب هذا التلازم بين وجود الإنسان وتدينه؟ ومن يتابع هذه المسألة سيجد اتجاهات كثيرة لتعريف الدين، وماهيته، وأسباب نشأته. وطبعاً فكل هذه آراء توصف في خانة النظريات، و إمكانية تخطيء النظرية شرط أساسي لصحتها، وإلا صارت بديهة لا يمكن إثباتها ولا نفيها. الكاتب يسمي هذا الفصل: (نبذة تاريخية عن نشأة الأديان)، وليس نظريات عن نشأة الأديان، وكأننا أمام بديهيات لا تتطلب مناقشة أو مراجعة.
وعلى العموم فالرجل يعتمد على النظريات التي ترى أن الإنسان عاش مراحله الأولى بدون عقيدة، وبدون أن يعرف شيئاً عن الإله، ولكنه اخترع فكرة الآلهة من خلال تفاعله مع ظواهر البيئة المحيطة به ، وتطورت العقائد من التعدد إلى التوحيد تماماً كما تطورت نتاجات البشرية، كوسائل الإنتاج والصناعات بفعل الأزمان. ليصل إلى نتيجة ترى الدين مجرد نمط في التفكير والشعور قابل للتجاوز. وهي النظرة التي عبر عنها كارل ماركس، وما سماه أوغست كونت بـ "قانون الحالات الثلاث".


يقول الكاتب:

(في بداية حياة الإنسان على هذه الأرض، على حسب رأي علماء علـم الأجناس "Anthropology" كان الإنسان بسيطاً في تفكيره وفي استيعابه للظواهر الطبيعية مثل الليل والنهار، والمطر والرعد والبرق وما شابه ذلك.)

إن الفكرة التي تقول بأن الإنسان كان بسيطاً في تفكيره ثم ارتقى بتفكيره في خط مستقيم من الأدنى إلى الأعلى، هي نظريات قديمة ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر. لكن مع تقدم الانثربولوجيا، والمراجعات التي تمت للمفاهيم القديمة حول المجتمعات التي تسمى بدائية، أدى ذلك إلى ظهور جيل من الانثروبولوجيين في الغرب أخذ يرى بوضوح أن المجتمعات التي ندعوها بدائية ليست مرحلة طفولية من مراحل تطور البشر، بل هي شكل تام من أشكال الحياة الإنسانية الناضجة والمكيفة بنفسها.
أشهر الكتب التي تجد فيها هذا المعنى واضحاً هو كتاب [البدائية] لأشلي مونتاغيو. وهو يضم عدة بحوث ممتازة كتبها انثروبولوجيون معاصرون حول إعادة مصطلح البدائية.
في هذا الكتاب يستعرض أحد الباحثين هو: (فرانسيس ك.ل.هسو) ثلاثين كتاباً في انثروبولوجيا يستخلص إلى أن استخدامات مصطلح البدائية تتسم بالغموض و التضارب، ويستنتج إلى أن مفهوم البدائية غدا من النواحي التجريبية، والتطورية، و العلمية مفهوماً بالياً، وإن كان ما يزال يتمتع بدرجة عالية من الشيوع بشكل يتصف بالغموض والتضارب، وانعدام المعنى من الناحية العلمية.
ويشير (مونتاغيو) إلى أن معظم الثقافات التي تدعي بدائية بعيدة عن البدائية وعن البساطة، فهذه الثقافات من العديد من النواحي أعقد من أي ثقافة غربية. ويشير أيضاً إلى أن مصطلحاً بهذا القدر من الغموض وعدم التحديد إما أن يعاد تحديد معناه أو إذا أمكن أن يشطب من قاموس العالم، وأنا اعتقد - يقول- أن المصطلح يستحق الحل الثاني.

وفي نفس الكتاب ينبه (إدوارد ب. دوزيير) إلى الفهم الخاطئ عند جمهور القراء من غير المختصين الذين قبلوا المعاني السلبية التي توحي بها المصطلحات الانثروبولوجية عن المجتمعات اللاكتابية، لذا فإن الافتراض الشائع بين الناس العاديين عندما يستخدم اصطلاح البدائية ليصف مجتمعاً لا كتابياً معيناً، هو أن مثل هذا المجتمع متخلف عرقياً وعقلياً وثقافياً.

يقول الكاتب:

( ولما عجز الإنسان البدائي عن تفسير هذه الظواهر عزاها إلى قوة خارقة تتحكم فيها وفي حياته. هذه القوة الخارقة لم تكن محسوسة لديه، اي بمعنى آخر، كانت قوة وراء الطبيعة اي قوة ميتافيزيقية "####physical" وبالتالي اعتقد الإنسان البدائي بوجودكيان روحي "Spiritual Being" يتحكم في الظواهر الطبيعية وفي حياة الإنسان. هذه كانت بداية فكرة الأديان عند الإنسان البدائي حسب اعتقاد خبير علم الأجناس الانكليزي تايلر "E.B.Taylor" فقد ألف هذا العالم كتاباً يدعى الثقافة البدائية Primitive" "Culture في العام 1871. ويعتبر هذا الكتاب من أهم المراجع في دراسة تاريخ الأديان. ويعتقد "تايلر" هذا أن الاعتقاد بـ " الكيان الروحي" هذا نتج من تجربة الإنسان الجماعية في أشياء مثل الموت والنوم والأحلام، فجعلته هذه التجارب يعتقد أن الكيان الروحي منفصل عن الجسم ويمكنه أن يعيش حياة مستقلة تماماً. وبالتالي أصبح الإنسان الأول يعتقد في ألأشباح والخيالات "Phantoms".)

تايلر كان يحصل على أغلب معلوماته من الرحالة والمبشرين، ووفقاً ما كان شائعاً في زمانه كانت فرضية التطور ذي اتجاه الواحد لوحدة النفسية للبشر هي السائدة.
يقول: (إدوارد ب.دوزيير) أستاذ انثروبولوجيا في جامعة أريزونا: (الدراسات انثربولوجيا كانت في طفولتها عندما كتب تايلر ما كتبه عن انطباعاته عن البدائيين و افتراضاته التخمينية غير العلمية). رواد المدرسة الوظيفية للانثربولوجية كـ (براون) و (مالينوفسكي) أثبتوا سطحية آراء تايلر وفريزر، وخرجوا بأنه لم يوجد مجتمع بدائي بدون دين وبدون علم.

افتراض (تايلر) لمبدأ الروحية كأساس لظهور الأديان هو افتراض قديم، ولم يقدم الرجل أدلة قوية تثبت أن القدماء كانوا يعتبرون مظاهر الطبيعة آلهة، وليست مجرد قوى أو أدوات للآلهة كما هو راجح الآن.
الكاتب يقول أن الخوف من مظاهر البيئة المحيطة كان السبب في انبثاق فكرة الله كقوة ميتافيزيقية تتحكم في مصير الإنسان، وهذا ليس بصحيح فالخوف في مواقف الخطر يعيد الإنسان إلى تذكر الله، ولكنه ليس الدافع والمحرك الأول لظهور الدين على وجه الأرض. فعندما يرى الإنسان الرعد في السماء مثلاً فإنه قد يظن أن الإله غاضب أو قد يظن أنه قوة شريرة غاضب، ولكنه لا يعتقد أن هذا الرعد هو خالق السماء والأرض. نحن نتحدث عن الله كمعنى موجود في الذهن. من أين جاء هذا المعنى؟ نظرية الخوف هذه لا تفسر أي شيء. وإلا فليخبرنا الكاتب ما هي العلاقة بين الخوف كشعور وانبثاق فكرة الله؟ هذا شعور وذاك تصور ومعنى، ما العلاقة بينهما؟ لا يمكن تفسير الأمر سوى بافتراض وجود الله كمعنى مرتبط بالنفس البشرية (فطرة) يتجلى هذا المعنى ويطفو على السطح عندما يتفاعل مع شعور الخوف.
موضوع الخوف هذا ذكره القرآن أيضاً، ولكن بمدلوله الصحيح: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) العنكبوت 65. وأيضاً: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) الروم 33.
كما تلاحظون فالقرآن يتحدث عن الخشوع والتذلل الذي يصيب الإنسان في أوقات الشدة نتيجة لتركيبته الإيمانية الفطرية، ويجد الإنسان نفسه متعلقاً بقوة علوية يشعر أنها الوحيدة القادرة علي مساعدته في بلائه وشدته. فالإنسان يبحث عن الأمان وقت الخوف وهو يعلم جيداً أن هذا الأمان لن يجده سوى مع المطلق الذي فطره هكذا، والخوف ليس عيباً بل هو نعمة وهدف مقصود في ذاته؛ لأنه يكسر غرور الإنسان وعجرفته ويعيده إلى واقعه بأنه مخلوق ضعيف مهما تسلط أو تجبر: (هُوَ الَّذِي

يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) الرعد 12.
ستجد هذا الفكرة واضحة في كتاب العالم الرياضيات الأمريكي (جفري لانغ ) [الصراع من أجل الإيمان] الذي يحكي فيه تجربته الخاصة، وقصة إعتناقه الإسلام.


يقول الكاتب:


(وبالطبع لم يكن الانسان البدائي يعرف القراءة والكتابة ولذلك كل ما تعلمه كان عن طريق التلقين من آبائه واجداده وبالتالي اصبح علم وحكمة الاباء والاجداد، أي الاسلاف كنزاً قيماً يحفظه الاشخاص كبار السن في القرية او القبيلة. ويصبح الشخص الاكثر علماً رئيساً للقبيلة، وطبيباً يعالج امراضهم بما تعلمه من الاسلاف، ويحكم بينهم بما يراه عدلاً ان نشب بينهم خلاف. ولا شك ان موت شخص كهذا يمثل فقداً عظيماً للقبيلة، تحاول تعويضه بأن تتخيل ان روح هذا الفقيد ما زالت تعيش بينهم وتحاول ارشادهم الى ما فيه خيرهم. وبالتدريج اصبح لمثل هذه الروح مكانة عظيمة في ثقافة و" فولكلور" هذه المجموعات من البشر، ونتج عن هذا ما يسمى بـ "عبادة الاسلاف" . "Ancestor Worship" فكان اذا اصاب هذه المجموعة شر او مرض، عزوه الى ان روح احد الاسلاف غاضبة عليهم ولذلك وجب عليهم إرضاءها بالرقص وبتقديم الهدايا والقرابين. وهذه الهدايا والقرابين تمثل ركناً مهماً من اركان الدين، اذ يقوم الدين على ركنين: إيمان وعمل. والعمل تابع للايمان، فهو شعائره ومظهره.)

افتراض عبادة الأسلاف الذي قال به (سبنسر) تكمن نقاط ضعفه الأساسية في بساطته التي تقترب من حد السذاجة. فالدين عند الإنسان ليست بهذه البساطة، بل هي معاني معقدة جداً ومتشابكة. فالإنسان القديم لو كان يعتقد بإلوهية أسلافه فكيف كان يظنهم بشراً في البداية، ولو كان يعرف بأنهم بشر في الحقيقة فكيف تحولوا عنده لآلهة بكل بساطة؟
علماً بأن أرواحهم في حاجة لأجساد تستقر فيها ، والمفروض أن الآلهة ليست في حاجة لشيء. لاحظوا أننا نتكلم عن بدايات ظهور الدين ولا علاقة لنا بالحالات التي أضافت القدسية على بعض البشر فيما بعد. هناك أمثلة حية تنفي فرضية عبادة الأسلاف، وهم قبائل وسط استراليا فهم يؤمنون بعقيدة عودة أرواح أسلافهم، ولكنهم لا يعبدونهم ولا يعتبرونهم آلهة .
سبنسر لم يكن موفقاً في نظرية "الدار ونية الاجتماعية" على أي حال.

يقول الكاتب:

(ولكي يُقرّب الانسان البدائي كل هؤلاء الآلهة الى ذهنه تخيّل لهم اشكالاً معينـة ونحت اصناماً تمثلهم على الارض، وجاء وقت اعتقد فيه الانسان ان لهذه الاصنام قوة – اذا تقدم لها بقربان – على ان تفعل الخير له وتُلحق الضرر بأعدائه. فاذا تنازع رجل مع جاره جاء الى صنمه المحبوب وصلى له ليلحق الضرر بجاره، ولكن الجيران هم الاخرون كانت لهم اصنامهم. وبينما يدعو الرجل اصنامه لتضر أعداءه، راح يشعر بالقلق إزاء ما قد تفعله اصنام اعدائه له ولأهل بيته. واضطر الناس ان يفكروا في شئ يحميهم من اصنام اعدائهم، فوضعوا حول اعناقهم تماثيل صغيرة لاصنامهم لحماية انفسهم من قوة الارواح الشريرة التي تُحارب في صفوف الاعداء. واصبحت هذه التماثيل الصغيرة هي التمائم او الطواطم "Totem" وبدأ بعض الناس يعتقدون ان بعض هذه التمائم تستطيع القاء التعاويذ على الآخرين وتجعلهم يمارسون السحر. وراح هولاء البعض يؤمنون بأنهم بهذه التمائم ومناداة الاسماء الحقيقية لبعض الارواح يستطيعون فتح ابواب المستقبل ورؤية ما يُخبئه لهم.)

قام السيد (روبرتس سميث) بشرح تفصيلي لفكرة الطوطم في كتابه [ديانة الساميين] وقد أثرت آراءه في الدراسات التي أجريت على الأديان فيما بعد.
النقد الذي وجهه السيد (سميث) لهذه الصورة عن الدين البدائي يتمثل في الآتي:
- لا يوجد دليل على أن الإنسان كان يظن هذا الطوطم إلهاً، بل الراجح أن الطوطم يمثل في نظره شيئاً له احترامه.
- أمثلة كثيرة لقبائل لديها طوطم، ولكنهالم تعبده، ولم تضف عليه أي سمات إلهية.
- فكرة الطوطم ليست فكرة عالمية منتشرة، فكثير من المجتمعات لم تمر بهذه المرحلة الانتقالية من تطور الأديان.
- فكرة الله في المجتمعات عموماً هي إحساس بوجود قوة علوية تتحكم في الحياة وتدير شؤونها. والطوطم ليس هو هذه القوة، بل مجرد رمز لهذه القوة. أما الإله نفسه فيكمن فيما وراء الطوطم وليس في الطوطم نفسه.
- أما أقوى الانتقادات الموجهة لفكرة الطوطم سواء تم اعتبارها أساساً لبداية الأديان أو مرحلةً من مراحل تطورها، فهو يكمن في كون عقيدة الطوطم لم تكن أكثر من تعبير عن رمز للقبيلة أو المجتمع البسيط تستمد منها القبيلة قوتها الاجتماعية.
الجميع يتعامل مع فكرة العقيدة على أساس أنها تنشأ كفكرة موحدة من عقل المجتمع ككل وألغوا تماما العقل الفردي. صحيح عقلية الجماعة تؤثر في عقلية الفرد إلى حد ما، ولكنها لن تفكر بدلاً منه بطبيعة الحال. ما تناساه البعض هو أن البحث عن الله هو تفكير فردي خاص بكل فرد على حدة، الذي يرفض في أوقات كثيرة هيمنة العقل الجماعي وسيطرتها عليه. لهذا أقول أن الطوطم ليست عقائد في الواقع، بل مجرد تقليد اجتماعي، أو ربما عادة قبلية.

يتبع ...

اخت مسلمة
10-05-2009, 09:47 PM
يقول الكاتب:


(ولما تقدم الانسان البدائي في حياته واصبح مزارعاً، صارت مياه الامطار والانهار مصدر رزقه وقوته. ولما كان اعتماده على فيضان الانهار كبيراً، نجد ان قدماء المصريين، مثلاً، قدموا القرابين من العذارى لنهر النيل لكي يرضى عنهم ويفيض عليهم بالخيرات. وكذلك فعلت مجموعات اخرى من البشر. وقد ارتبطت فكرة خصوبة الارض بخصوبة الام التي تنتج اطفالاً كثيرين، ونتج عن هذا فكرة الإلهة الام"Mother Goddess". ونحت النحاتون الاصنام على هيئة أمرأة حبلى وعارية. وقد وجُدت هذه التماثيل في عدة اقطار في اوروبا والشرق الاوسط والهند. وقد سميت "الالهة الام" بعدة اسماء، فكانت إنانا"Inana" في سومر"Sumeria" وعشتار "Ishtar" في بابل وعنات "Anat" في ارض كنعان (فلسطين) وايسيس "Isis" في مصر و افرودايتي" Aphrodite" في اليونان.)

يقول فراس سواح في كتابه [الأسطورة والمعنى]: ماذا لو وجدنا الأساطير القديمة تصف الإله بأنه له عيون كثيرة وله آذان كثيرة؟ هل نفهم مـن ذلك أن القدماء كانوا
يعبدون وحشاً بعدة رؤوس، كما نراه في السينما؟ الأمر ليس كذلك طبعاً، بل نحن من أسأنا الفهم، فالقدماء يرمزون فقط أن الإله سميع بصير.
هنا تظهر مشكلة الفارق في التعبير بين لغة القدماء ولغتنا اليوم. لغة القدماء كانت لغة رمزية تصويرية حية كتبوها لأنفسهم ولم يكتبوها لنا، ولذلك من الخطأ أن نأتي اليوم وبعد آلاف السنين على تعامل مع هذه الرموز بشكل حرفي.
هناك دراسات حديثة عن تصحيح من المفاهيم المغلوطة عن الأساطير القديمة. فأسماء مثل (إنانا) و(عشتار) و(عنات) لم تكن ترمز لآلهة يعبدونها، بل لمظاهر الطبيعة وقوانينها ومنها قانون (الخصوبة).
الكتاب الذي يعتمد عليه الكاتب هنا هو كتاب: (History Of God) للسيدة (كارين أرمسترونغ). ومع أننا نكن كل الاحترام لها، إلا أن كتابها هذا ليس دراسة علمية بقدر ما يمثل تطور فكرة الإله من خلال وجهة نظرها هي، وليس من وجهة نظر التاريخ. في هذا الجزء من كتابها كانت تتكلم عن (إله الحاجة) أو (الإله الشخصي) فتفترض أن الإنسان قديماً اختار إلهاً يمثل حاجته، فإن كان مزارعاً فهو يختار إله للخصوبة.. وهكذا. ونحن نوافق السيدة أرمسترونغ بأن أساطير: (إنانا وعشتار وعنات) هي تعبير فكري بأسلوب تجسيدي تصويري. وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: لماذا إذن نفسر هذه الأساطير بشكل حرفي صارم؟ لماذا نفترض أنهم آلهة، وليسوا مجرد مظاهر لقوى الطبيعة وقوانينها؟
السيد (صمويل كريمر) الباحث المتخصص في الكتابات السومرية يعترف بالقصور في فهم وترجمة الكتابات القديمة، ويقول: (وهذا وأراني في غنى عن القول أن عدداً ليس بالقليل من الكلمات والعبارات السومرية لا يزال مشكوكاً فيه وغير محقق، وإني على ثقة تامة بأن أحد الأساتذة الباحثين سيوفق في المستقبل إلى ترجمة أدق وأضبط).
السيدة (أرمسترونغ ) لمن لا يعرفها هي انجليزية المولد عملت كراهبة كاثوليكية لفترة، ثم تحولت للكتابة وهي تتمتع بالقبول في الأوساط الإسلامية، وقد قامت بدراسة
الإسلام لمدة عشرين عاماً حسب قولها. ولها كتابات عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، مثل كتاب [الإسلام تاريخ قصير]، وكتاب [محمد سيرة النبي].

يقول الكاتب:


(وفي حوالي العام 4000 قبل الميلاد ظهرت حضارة عظيمة في منطقة ما بين النهرين دجلة والفرات"Mesopotamia"،اسسهاقوم عرفوابـ السومريون "Sumerians" بنوا مدن مثل أور " Ur" وكيش "Kish" وبنـوا معابد ضخمة لآلهتهم. وجاء بعدهم الكلدانيون "Chaldians" والاكديون "Akkadians" وبنوا اعظم مدينة في ذلك الحين وسموها "بابل" وتعني هذه التسمية " باب أيل" و"أيل" هذا هو إله الساميين القدماء. وكانت مدينة بابل مشهورة بالجنائن المعلقة التي بناها الملك نبخذنصر لزوجته، وتعتبر هذه الجنائن من عجائب الدنيا السبعة. وكان الكلدانيون يعتقدون ان للآلهة في السماء قصوراً ضخمة وحدائقا، ولذلك بنوا بابل على طراز القصور السماوية، كما تخيلوها. وكان في اعتقادهم ان كل الآلهة اتحدوا مع بعضهم البعض وتغلبوا على قوى الفوضى التي كانت تسيطر على العالم. ولذلك كانوا يقيمون احتفالاً سنوياً يستمر احدى عشر يوماً يلقي فيه رجال الدين الاشعار الدينية مثل قصيدة إنيوما إليش "Enuma Elish" التي تمجد انتصار الآلهة على قوى الفوضى وتحكي قصة خلق الكون. وتبتدئ القصة بخلق الآلهة انفسهم. تدعي الاسطورة ان الآلهة ظهروا، كل إلآهين مع بعض، من ماء مقدس كان موجوداً منذ القدم. واكبر ثلاثة من الآلهة كانوا: أبسو "Apsu" إله المياه العذبة، وزوجته تيامات "Tiamat" إلهة المياه المالحة، و مومو "Mummu" إله الفوضى. ثم تكاثرت الآلهة بأن خرج إلاهان من كل إله قبلهم. فظهر لاهمو ولاهامن "Lahmu and Lahamn"، إله الماء وإله الارض. ثم ظهر أنشر و كٍشر" Ansher and Kisher"، اله السماء واله البحر. واخيراً ظهر إله الشمس ماردوخ "Marduk"، الذي تغلب على الالهة " تيمات" وخلق كل القوانين التي تحفظ توازن العالم. واخيراً خلق "ماردوخ" الانسان.)

من يقرأ أسطورة التكوين البابلية: (إنيوما اليش) يجد فيها بعض الأمور العلمية، تدفع الإنسان للتساؤل، كيف عرف هؤلاء هذه الأمور في ذاك الوقت؟
كما قلنا أن القدماء كانوا يكتبون علومهم وعقيدتهم بأسلوب قصصي تصويري،
ومن الخطأ فهم هذه الأساطير بشكل حرفي. فإله المياه العذبة (إبسو) ليس إلهاً معبوداً وكذلك (تعامة) ليست إلهة المياه المالحة، فكل هذه رموز تعبر عن مظاهر وقوانين الطبيعة. هذا هو الأسلوب الأسطوري القديم في التعبير عن خلق الكون في شكل صراع بين قوى الطبيعة بشكل تجسيدي رمزي. لو فكرنا بنفس الأسلوب المادي، وتصوره عن الإنسان الأول ككائن تائه بلا دين وبلا علم سنجد نصاً مثل (إنيوما إليش) يوقعنا في حيرة كبيرة. من أين جاء القدماء بهذه الأفكار؟ هذا التصور الساذج للإنسان القديم - يسمونه بدائي - ناتج عن فكرة خاطئة هي: طالما الإنسان القديم كان بدائياً في أدواته فهو حتماً كان بدائياً في ثقافته وطقوسه الدينية. وعندما نرفض هذا التصور الغير عادل فإننا نرفضه لأن الأشياء المادية كالحجارة والعظام، وإن كانت تشير لبدائية صناعاته فهي ليست دليلاً على بدائية ثقافته وديانته. فالعلوم الإنسانية لا تسير مع الصناعات وعلوم التكنولوجيا في نفس الطريق ولا علاقة بينهما. النزعة الدينية عند الإنسان لم تأتي بالتطور كما يقول الماديون، بل هي فطرية يدعمها الوحي، وهي تختلف عن المعرفة و الصناعات التي تطورت بمرور الزمن. فهي فروع مكتسبة.
عالم النفس الأمريكي (سكينر) وهو من رجال المدرسة السلوكية يقول: (إن سقراط لو بعث في أيامنا الحالية لاكتشف مفاجأتين: الأولى هي شعوره بأنه طفل صغير لا يفقه شيئاً في العلوم الحديثة، وسوف يصعق من المعلومات الجديدة عن الفيزياء النووية بتركيب مضاد للمادة، وعلم البيولوجيا وكشف التركيب الجيني في نواة الخلية. ولكن المفاجأة الثانية هي أن العالم لم يتغير كثيراً في الحوارات الفلسفية، و الأخلاق العلوم الإنسانية, وسيجد نفسه يخوض فيها خوض المغامر الجسور).
فليس هناك تطور يذكر في علوم الإنسانيات، وما زالت الأسئلة الكبرى من نوع: "من يكون الإنسان"؟ "وكيف نشأت الحياة"؟ تتردد بدون أي إجابة، وإذا انتظر الملحد عمره كله بل أعمار البشرية جمعاء فلن تعطيه العلوم التجريبية إجابة. الدين فقط
هو من يعطي الأجوبة لمثل هذه التساؤلات.
ولكن ماذا يقول الإسلام عن بداية فكرة العقيدة والدين؛ القرآن ينفي ما يقوله الملحدون، ويقر بأن الإنسان فطر على التوحيد منذ البداية، وأن تعدد الآلهة لم تكـن البداية بل هو انحراف وقتي عن طريق الفطرة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم30. وأن الرسل كانوا ينيرون لهم الطريق ليعودا إلى الحق: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ - إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ- قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ - قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ- أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ - قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ - قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِين). الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الماديون هو أنهم وضعوا العقيدة في نفس الخانة مع باقي أنواع المعرفة، باعتبار كليهما أمور مكتسبة خاضعة للتطور.
ولكن ما هي الفطرة؟ مفهوم الفطرة كمصدر من مصادر المعرفة البشرية دار حوله جدل فلسفي كبير.
الفيلسوف (كانط) افترض أن الجانب الصوري للادراكات والعلوم الإنسانية كله فطري، بما يشتمل عليه من صورتي الزمان والمكان، والمقولات الاثنتي عشرة المعروفة عنه، وهو بهذا يقلص دور الحس كمصدر للمعرفة بشكل كبير. وهذا يعد منه شطط غير صحيح فالنفس البشرية بسيطة، ولا يمكن أن تكون سبباً بصورة فطرية لكل هذا العدد من الأفكار، بل يجب أن يكون وجود هذا العدد الضخم من الادراكات لدى النفس بسبب عوامل خارجية كثيرة، وهي آلات الحس، وما يطرأ عليها من مختلف أنواع الإحساسات.
القرآن أيضاً يوضح أن العلوم البشرية مصدرها الحس (سمع وبصر وفؤاد)، وأن الإنسان يولد لا يعلم شيئاً: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ
لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل 78.
على الجانب الآخـر نجد الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك)، وضع دراسة مفصلة
للمعرفة الإنسانية في كتابه: [مقالة في التفكير الإنساني] وحاول في هذا الكتاب إرجاع جميع التصورات، والأفكار إلى الحس بما ينفي دور الفطرة تماماً، وليس للذهن بناء على قول لوك إلا التصرف في صور المعاني المحسوسة، وذلك بالتركيب والتجزئة، أو بالتجريد والتعميم. وهذا أيضاً شطط غير صحيح فهناك بعض المفـاهيم في الذهن لا يمكن إرجاعها إلى الحس مثل: السبب والنتيجة (العلية) - الجوهر والعرض- الإمكان والوجوب- الوحدة والكثرة- الوجود والعدم، فكلها مفاهيم غير محسوسة.
التصور الإسلامي للفطرة هو: أن الإنسان يولد ولديه ميل طبيعي نحو الحق (قلب سليم) وهذا الميل يتشوه ويدخل عليه الخلل بارتكاب بعض الأفعال التي نهانا الله عنها ، فيفقد جهاز الاستشعار قدرته (قلب مريض). ولكي نفصل الأمر أكثر سأذكر تجربة نبي الله إبراهيم المذكورة في سورة الصافات: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ - إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيم - إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُون - أ َئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ- فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِين- فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُوم - فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ). إبراهيم لم يكن يشارك قومه عاداتهم، وأفكارهم المريضة (قلب سليم) لذلك لم يكن ميالاً لما يعبدون. وعندما نظر إلى النجوم، وكانت آلهة لدى البعض شعر أنه سقيم. فإبراهيم عليه السلام رفض كل الأباطيل بفطرته التي لم تتشوه بعد. وظل يبحث عن المطلق ليسلم له وجهه. هذا المعنى المطلق هو الله خالق السماوات والأرض، وهذا التسليم هو الإسلام دين الله الحنيف منذ الخلق الأول. أما المعارف والصناعات والتقنيات فهي أمور مكتسبة ناتجة عن تفاعل الحواس مع البيئة المحيطة.


ثم يقول الكاتب مختتماً هذا الفصل :

(ويلاحظ القارئ ان جميع الديانات المنزلة نزلت في الجزيرة العربية. فالهند والصين واليابان وجنوب شرق آسيا، مثل كوريا وفيتنام ولاوس مجتمعة تمثل اليوم اكثر من نصف سكان العالم، اي حوالي اثنين مليار ونصف المليار شخص. كل هولاء الناس يدينون بالديانات البوذية او "الهندوس" وهي ديانات وضعية غير منزلة. وسكان الجزيرة العربية مجتمعة، لا يتعدون المائة مليون شخص. فلو رجعنا بتعداد سكان العالم الى الوراء بطريقة عكسية نستطيع ان نقول قبل حوالي 4000 سنة، لو كان سكان الجزيرة العربية مليون شخص، افتراضاً، فان سكان الهند والصين واليابان مجتمعه، يكون تعدادهم ما يقارب 250 مليون شخص. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا ارسل الله كل هولاء الرسل الى مليون شخص في منطقة فلسطين والجزيرة العربيـة وتجـاهل المائتين وخمسين مليون الآخرين؟ لم ينزل ولا رسول واحد بلغة الصبن او الهند او اليابان؟)

لم أفهم ماذا يقصد الرجل بكلمة (الديانات المنزلة) فحسبما أعلم ويعلم كل مسلم أن الله لم ينزل سوى دين واحد منذ آدم حتى الآن. لو أنه يقصد الرسل والأنبياء فمن قال له أن كل الرسل والأنبياء اقتصروا فقط على الجزيرة العربية. هل القرآن يقول ذلك؟ التوراة تقصر الرسل علي اليهود فقط، ولكن الرجل يكتب نقداً للإسلام، وليس للتوراة على حد زعمه. هذه الفكرة الشهيرة أن المنطقة العربية هي المكان الوحيد للأنبياء، فكرة خاطئة تسبب فيها كتبة العهد القديم بإدعائهم أن كل الأنبياء يهود. كما نعلم أن ما من أمة إلا أتاها رسول أو نذير من الله كما يخبرنا القرآن:
- (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) يونس47
- (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) غافر 78.
ما يدرينا أن بوذا و كونفوشيوس ولاوتسو ليسوا أنبياء ، لكن وصلتنا الأخبار عنهم محرفة مكذوبة، كما حدث مع غيرهم؟ وما يدرينا أن الزرادشتية والمانوية ليستا إلاّ رسالتين سماويتين تشوهتا بمرور الزمن؟ لو لم يخبرنا القرآن بالقصة الحقيقية لعيسى ومريم عليهما السلام لكان من الصعب أن نفرق بين (زيوس) و (Jesus).
قبائل النيام نيام و الماو ماو مثلاً تؤمن بإله واحد يسكن في السماء لا يمكن رؤيته، ولا يلد ولا يولد، وليس له شريك فقط يأمر وأمره حق يحكم بين الناس بالحق، يسمون (Mucay). أليس هذا هو دين الله الإسلام؟
في كتاب للسيد ليوبولد بوسبسيل بعنوان: [قبائل الكاباكو في غينيا الغربية] يتحدث الرجل عن دين هؤلاء القوم، وأنهم يعبدون إلها يسمونه (Ugatame) وهو الخالق العليم القادر المحيط بكل شيء علما ولا يرى ولا يدرك بالحواس. ثم ينقل لنا السيد بوسبيل حواراً بين رجل من هؤلاء القوم وأحد المبشرين، يستنكر فيه هذا الرجل البسيط كيف للإنسان الأبيض أن يكون متقدماً، ويخترع الطائرات، وفي نفس الوقت يؤمن بإله يتجسد لكي يصلبه البشر. أليس هذا هو نفس المنطق الإسلامي في حوارهم مع الأخوة المسيحيون؟ أليست صفات الله عندهم هي نفس الصفات عندنا؟
الكتب الدينية الهندية مثل كتاب (Vedas) وهو يتكون من أربع أجزاء، من الممكن جداً أن تكون وحيا إلهياً تغير بمرور الزمن.
في عام 1935 كتب الدكتور( بران ناث) مقالاً في صحيفة التايمز الهندية يقول فيه أن كثيراً من أحداث هذا الكتاب تتشابه مع الكتابات البابلية والمصرية.
وفي كتاب: [الملل والنحل] للشهرستاني، ينقل الرجل لنا الكثير من عقائد أهل الهند والمجوس. فنجد أن معظمهم كان يؤمن بالأنبياء، ويذكر فرقة تسمى الثنوية، كانت تؤمن بنبي الله إبراهيم.
الانحراف يأتي عندما يشرك البشر آلهة أخرى مع الله، رغم أن الأنبياء حذروهم من ذلك: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ - وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ- وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ- فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ- أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) آل عمران 79-83.

ديانات التوحيد عند العرب

في هذا الفصل يتحدث الكاتب عن الوجود المسيحي واليهودي في جزيرة العرب، وهذا معروف بالنسبة للجميع. لكن يقصد من ذلك القول بأن الإسلام قد اقتبس عن أديان كانت معروفة للناس. نحن لا ننكر أن هناك تشابهاً بين الكتب السماوية الثلاث في أمور عدة. ولكن من قال بأن الإسلام بدعة أو شيء جديد لم يسمع به الناس من قبل؟
وحتى تتضح الصورة فلنقرأ ماذا يقول القرآن حول هذا الشأن: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الأحقاف9 والنبي الكريم لم يأت بشيء جديد مبتدع، بل جاء مذكراً بشيء قديم يعرفونه: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ) الغاشية21.
وتعريف القرآن للإسلام يكون باعتباره مكملاً للأديان السماوية السابقة، وقد أشار القرآن في عدة مواضع إلى هذه الفكرة. ويعرض القرآن الإسلام لا على أنها دعوة جديدة مستقلة عن سواها، تنافسها وتنازعها الحقيقة، بل إن الإيمان بمحمد يتبع الإيمان بجميع الأنبياء، من غير تمييز بينهم: ( قولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبََ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة 136.
وعلى هذا الأساس نجد الوصايا العشرة الموجودة في التوراة ما يعززها في كثير من آيات القرآن، وفي الإنجيل أيضاً نجد كثيراً من المبادئ التي تقابل القرآن.
سيقول الكاتب أن هذا التشابه هو (اقتباس)، وسنقول بل إنه (تكامل) يدل على أن مصدر هذه الكتب الثلاث هو الله.
الأحناف وشعراء الجاهلية


يقول الكاتب:

(وهناك مجموعة من رجال الجاهلية عرفوا بأنهم "حنفيين"، لم يعبدوا الأصنام وكانوا يؤمنون بالوحدانية. عرفنا من هؤلاء النفر قس بن ساعده الأيادي، وزيد بن عمرو بن ثفيل، وأمية بن أبي الصلت...)

الحنفاء كما يفهم من الروايات، كانوا من النسّاك الذين زهدوا في الحياة الدنيا، و انصرفوا إلى عبادة الإله الواحد. وإذا أردنا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، فإن الأحناف ليسوا سوى أفراد قلائل تمردوا على الوثنية. وهذا النموذج قد نجده في كل عصر، سقراط مثلاً لم ترضه فكرة تعدد آلهة ودعا إلى الإيمان بإله واحد.
لكن الأحناف العرب لم ترد الأخبار، بأن قام أحدهم بنشر فكرة، أو يحاولوا يوماً أن يكونوا دعاة مصلحين، بل إيمانهم بالوحدانية كان يتوقف عند الاعتقاد الشخصي و الممارسة الفردية. وما يمكن استخلاصه من وجود هؤلاء الأحناف كما يقول المستشرق (رِنان) أنه كان يوجد نوع من القلق والانتظار الغامض الذي كان يتفاعل في هذه النفوس المحتارة.

ثم يتحدث الكاتب عن أمية بن أبي صلت فيقول :


(هو أكثر الحنفاء حظاً في بقاء الذكر، وبقي كثير من شعره، وسبب ذلك بقاؤه الى ما بعد البعث وملاءمة شعـره لروح الاسلام. لم يكن مسلماً، ولم يرضـى ان يدخـل الاسلام لانه كان يعتقد بانه احق بالنبوة من محمد بن عبد الله. ولما كانت معركة بدر، رثى قتلى المشركين، ومات سنة تسعة للهجرة بالطائف قبـل ان يسلم قومه الثقفيـون. وقيل ان امية

هجا اصحاب رسول الله في بيتين من القصيدة التي رثى فيها قتلى المشركين في غزوة بـدر،
ولذلك اهمل ابن هشام صاحب السيرة هذه القصيدة، وذُكر ايضاً ان النبي نهى عن رواية هذه
وامية مثل سائر الحنفاء، سافر الى الشام واتصل بأهلها، واوى الى الاديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية. وكان تاجراً يذهب مع التجار في قوافلهم الى تلك الديار التي كانت في ايدي الروم. ثم انه كان قارئاً كاتباً، قرأ الكتب ووقف عليها، ومنها كوّن فكرته عن الدين وشكه في عبادة قومه. وقد بدا هذا التاثير واضحاً في الكلمات والمصطلحات الاعجمية المستعملة في شعره.ويتلخص ما جاء في شعر هذا الشاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود اله واحد، خلق الكون وسواه وعدله، وارسى الجبال على الارض، وانبت النباتات فيها، وهو الذي يحيي ويميت، ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على اعمالهم، فريق في الجنة وفريق في النار. يساق المجرمون عراة الى ذات المقامع والنكال مكبلين بالسلاسل الطويلة وبالاغلال، ثم يلقى بهم في النار، يبقون فيها معذبين بها ليسوا بميتين، لان في الموت راحة لهم، بل قضى الله ان يمكثوا فيها خالدين ابداً. اما المتقون فانهم بدار صدق ناعمون، تحت الظلال ، لهم ما يشتهون:
وسيق المجرمون وهم عراة الى ذات المقامع والنكال
جهنم تلك لا تبقي بغـياً وعدن لا يطالعها رجيم
ويروى ان النبي كان يسمع شعر أمية.)

الكاتب يورد هذه الفقرة ليوهم القارئ بأن النبي قد اقتبس من شعر أمية. وهو يردد كلام المستشرق (هوارت) بعد أن اطلع على شعر أمية ظن أنه اكتشف مصدراً من مصادر القرآن. وقد رد عليه بروكلمان في: [تاريخ الآداب العربية] بقوله: (أكثر ما روي من شعره - أي شعر أمية - منحول عليه، ما عدا مرثيته لقتلى بدر والتي منع النبي من إنشادها. وزعم (هوارت) أن شعره من مصادر القرآن. وهذا غير صحيح. و لكن الحق ما ذكره (تور أنديه) هو أن شعر التي نظر إليها (هوارت) إنما هي نظم جمع القصاص فيه ما استخرجه المفسرون من مواد القصص القرآني. ولا بد أن تكون هذه الأشعار قد نحلت لأمية في عهد مبكر لا يتجاوز القرن الأول للهجرة).
ونفس الشيء يقوله شوقي الضيف في كتابه [العصر الجاهلي]: (الشعر المصبوغ بصبغة إسلامية بحتة في العصر لجاهلي هو في جملته موضوع، وخاصة ما تشابه مع القرآن الكريم..... وربما كان أهم شاعر جاهلي ظهر عنده واضحاً التأثر بأهل الكتاب هو أمية بن أبي صلت، وهو من المعاصرين لرسو ل الله صلى الله عليه وسلم ، ومعاني شعره مستمدة من القرآن الكريم بصورة واضحة، وأسلوبه ضعيف. وأغلب الظن أن كثيراً من شعره نظمه بعض الوعاظ والقصاص في عصور متأخرة عن الجاهلية)
والغريب أن الكاتب يجعل مرجعه كتاب [تاريخ العرب قبل الإسلام ] لجواد علي ويقتطع فقرات من الكتاب ليدعم رأيه، مع أن الأستاذ (جواد علي) يميل إلى الرأي القائل بأن شعر أمية منحول – هذا ما يفعله سيد القمني أيضاً في كتابه: الحزب الهاشمي - فهو يقول مثلاً: (هو أكثر الحنفاء حظاً في بقاء الذكر، وبقي كثير من شعره، وربما وضعه كثير منه على لسانه .....) ونلاحظ أن الكاتب يذكر الفقرة الأولى دون الثانية التي أشرنا تحتها بالخط. ربما لغاية في نفسه!
فالأستاذ (جواد علي) بعدما يذكر القصص الواردة على أمية يقول: ( و هذا القصص الواردة عن أمية هو بالطبع من القصص المصنوع مثل كثير من أخباره .... و لا أستبعد أن بكون هذه القصص قد ظهر منذ أيام الحجاج عصبية وتقرباً، فقد كان الحجاج من ثقيف، وكان أمية من ثقيف كذلك، وقد أنتج الوضّاعون كثير من أخباره في قبيلة ثقيف). ويتابع الأستاذ جواد علي: (وأثر الوضع في بعض شعر أمية واضح ظاهرة لا يحتاج إلى دليل. ففميا نسب إليه قصيدة مطلعها:
لك الحمد و المن رب العباد وأنت المليك وأنت الحكم
هي قصيدة إسلامية لا يمكن أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام. الغريب أن بيتاً في قصيدة طويلة ذكر فيها:
محمداً أرسله بالهدى فعاش طويلاً و لم يهتضم
فهل كان معارضاً للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربا ًله؟!)
ولكن لنفترض شيئا ً آخر، وهو أن كل ما نسب إلى أمية بالفعل صحيح، هل يثبت ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سرق من شعر أمية؟
التاريخ يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمية قد عاصر كل منهما الآخر، وهما من نفس العمر، بالإضافة إلى أن أمية عاش واستمر يقول الشعر ما يقارب من ثماني سنوات بعد نزول آخر آية من سور القرآن المكية. ومن هنا نرى أنه من الخطأ الادعاء أن هذا الشعر كان سابقاً للقرآن من حيث التاريخ. ومن البديهي أنه لا يكفي أن يكون النص صحيحاً لكي يعتبر مصدراً للنص المشابه، إنما يجب أن يكون سابقاً له في التاريخ. مما يدفعنا إلى القول – على فرض صحة نسبة هذا الشعر إلى أمية – ربما اندفع إلى تقليد لغة القرآن بدافع المنافسة و التحدي.
وهل نسي الكاتب خصوم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع هل كانوا سيتركون الأمر يمر بسهولة؟ فلقد كانوا دائماً على يقظة لأقل ثغرة ليوجهوا من خلالها انتقادهم لنبي صلى الله عليه وسلم، أولم يكن من الأسهل لهم أن يضعوا يدهم على ما سرقه النبي من شعر أمية، بدلاً من يوجهوا اتهاماتهم في كل اتجاه، وأن يلجئوا إلى كل افترض، حتى ولو إلى اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون!

تحت عنوان: عادات الجاهلية التي اقتبسها الإسلام

في هذا الباب يسترسل الكاتب أيضاً في سرد عادات المجتمع العربي قبل الإسلام، مبرزاً التشابه بينها وبين العادات الإسلامية. ثم يطرح علينا في النهاية سؤالاً: ما الجديد الذي جاء به الإسلام؟ هو يتوقع أن المسلم في سذاجة سيبدأ في تجميع كل ما جاء به الإسلام، وعندما ينتهي سيقول الكاتب في ثقة ويقدم أدلته أن كل شعائر الإسلام كانت معروفة من قبل. وبالفعل هو استعرض كثيراً في إثبات ذلك.
قلنا سابقاً أن الإسلام ليست بدعة أو شيئاً جديداً لم يسمع به الناس من قبل، فقد كانت هناك بعض الآثار من ديانة إبراهيم مختلطة بكثير من الأوهام و الخرافات.
يقول القرآن في سورة الزخرف: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ - وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ). فدعوة إبراهيم عليه السلام ظلت باقية في هؤلاء القوم، حتى جاءهم النبي محمد عليه الصلاة والسلام يعيدهم إليها مرة أخرى.
بخصوص الصلاة فلم تكن بدعة، بل كانت مفروضة على كل الأمم السابقة، ثم خلف بعد ذلك من أضاعها و اتبع الشهوات: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً).
وكذلك الصوم فقد كتب على المسلمين كما كتب على الذين من قبلهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
والزكاة كذلك: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ - وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
والحج شريعة موجودة قبل النبي محمد منذ أمر الله إبراهيم: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

يقول الكاتب:

(هناك روايات تقول ان من الجاهليات من ورثن ازواجهن وذوي قرباهن، وان عادة حرمان النساء لم تكن عامة عندحميع العرب. وهناك رواية تذكر ان اول من جعل للبنات نصيباً في الارث من الجاهليين هو "ذو المجاسد" عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب يشكر، ورّث ماله لولده في الجاهلية فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، فوافق حكمه الاسلام.)

وجود بعض حالات الإرث لنساء عربيات عند بعض القبائل العربية مثل رواية
(ذو المجاسد)، إن صحت فهي حوادث فردية، لم تتحول إلى ظاهرة اجتماعية أو قانون
عام. ولا نستطيع من خلال هذه الروايات الشاذة والنماذج العشوائية، أن نذهب للقول بأن العرب في غنى عن تشريع الإرث لجميع نسائهم، أو أن نثبت أن المرأة كانت تورث في الجاهلية!
يقول الكاتب:
(كلمة "نجس" هي ضد "طاهر"، فالنجاسة هي عكس الطهارة. وهي بهذا المعنى في الجاهلية كذلك. وهناك كلمة اخرى لها معنى قريب من معنى هذه الكلمة، هي لفظة "رجس" وهي بمعنى "قذر". ومن الامور النجسة في نظر اهل الجاهلية "الطمث" اي "الحيض" ومن معاني الطمث "الدنس".)
هذا لا يسمى اقتباس . فوجود مثل هذه الكلمات في القرآن أمر طبيعي جداً؛ لأن القرآن نزل باللغة العربية وفي بيئة عربية. وإذا كان يقصد بأن هذه الكلمات لها نفس المعاني في الجاهلية، فهذا من الطبيعي أيضاً لأن لكل لفظ معنى.
فعن أي اقتباس يتحدث الكاتب؟!

محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام

لابد أن نعترف بأن كتب السيرة تساهلت كثيراً في نقل روايات غير صحيحة عـن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر جعل مستشرق مثل آرثر جفري في كتابه [البحث عن محمد التاريخي] يبدو مندهشاً من كم الروايات المسيئة للمصطفى صلى الله عليه وسلم في سيرة محمد بن اسحق. ولم يكن يتوقع هذا، بل كان يتوقع أن تكون الصورة المنقولة من المسلمين عن نبيهم مختلطة بالأساطير لتجعل منه شبه إله.
تم ترجمة كتاب محمد بن اسحق وأهتم به المستشرقون كثيراً، ربما لأنه تم كتابته بشكل شبيه بكتب الأنبياء في الكتاب المقدس. فيبدأ بسرد سلسلة النسب، ثم يسرد الأحـداث بشكل متسلسل زمنياً، وهو ما جعل بعضهم يظنه كتاب المسلمين المقدس.
ملاحظة صغيرة أيضاً، وهي أن هناك فارق بين المؤرخ والمحدث؛ فالمؤرخ كان يهتم بجمع أكبر قدر من المرويات بدون التأكد من صحتها، لحرصه على التدوين. أما المحدث فكان لا يغفل عن التحقق من صحة ما ينقل. لا ننكر أيضاً أن الكثير من المرويات كانت متأثرة بالعقائد السائدة، ككل كتب التاريخ.
سأتعرض لسلاسل اسناد الروايات التي يذكرها الكاتب، لفحص مدى صحتها. ورغم أن هذا منهج نقدي غير دقيق تماماً بالنسبة للتاريخ إلا أنه فعال إلى حد كبير. هذا بدون أن أغفل النظر في متن، وأحداث الروايات بقدر المعلومات المتاحة لدينا.

مولده وطفولته

يقول الكاتب:

(ولنسأل أنفسنا سؤالاً بسيطاً. إذا كان الله قد أرسل محمداً لأهل مكة والجزيرة العربية في المكان الأول، كما يذكرنا القرآن في عدة آيات انه انزله قرآناً عربياً، لماذا ارتج إيوان كسرى في العراق وخمدت نار المجوس في بلاد فارس ولم يحدث شيء في مكة وجوارها، أما كان الأجدر في الليلة التي ولد فيها رسول الله أن يسطع النور الباهر في الكعبة ليقنع أهل مكة أن الله مرسل رسولاً منهم؟ فيحدثنا ابن كثير، مثلاً، إن آمنة بنت وهب، أم النبي، قالت لحليمة السعدية التي أرضعته: " حملت به فما حملت حملاً قط اخف منه". ونحن نعلم ان محمداً لم يكن له أخوة ومات أبوه وأمه حبلى به. فكيف تقول أنها ما حملت قط حملاً اخف منه وهي لم تحمل غيره؟ وان كانت تعني حمل أشياء أخرى غير الجنين، فهي لا بد قد حملت عدة أشياء اخف من الجنين الذي يزن في المتوسط ثلاثة كيلوجرامات.)

الجميع يعلم أن الروايات التي تحكي أحداث غريبة وقعت قبل ميلاده صلى الله عليه وسلم، مثل سقوط أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمود النار التي يعبدها المجوس، وتهدم الكنائس حول بحيرة (ساوة) بعد أن غاضت، لا نستطيع أن نتأكد من صحتها، ونحن كمسلمين زاهدين في هذه الروايات، ولا وزن لها شرعاً أو عقائدياً.
الكاتب يكرر ما يقوله علي داشتي - كاتب ماركسي إيراني- ونحن نوافقه في هذه الجزئية.
وهذا ليس رأيه فقط، بل هناك عدد من علماء المسلمين المعاصرين يرفضون هذه الروايات، مثل الشيخ محمد الغزالي في كتابه [فقه السيرة] ، ومحمد أبو زهرة في كتابه [خاتم النبيين].
لاحظوا معي أن الكاتب لا يقبل هذه الروايات، فهل تراه سيستمر على منهجه، أم سيتحول إلى الفرز والانتقاء حسب هواه؟ لننتظر ونرى.

زواجه من خديجة

يقول الكاتب:

(وقد يسأل سائل: لماذا تزوج محمد، وهو ابن بضع وعشرين عاماً، وكان رجلاً في غاية الوسامة، كما يخبرنا أهل السيرة، لماذا تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، وقد كانت قبله عند عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وولدت له بنتاً، ثم توفى عنها فتزوجت أبو هالة بن زرارة بن نباش بن زرارة بن حبيب بن سلامة بن عدي فولدت له هند بن أبي هالة، ثم توفى عنها فتزوجها الرسول. فلماذا إذا تزوج هذا الشاب ثيباً في الأربعين من عمرها ولديها طفلان؟ قد نجد الجواب في حديث نُسب إلى عائشة. فقد قال الإمام احمد عن ابن إسحاق، اخبرنا مُجالد، عن الشّعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء. قالت: فغرت يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها. قال: "ما أبدلني خيراً منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وآنستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء". فهل يجوز انه تزوجها من اجل مالها؟ وانه عندما كان في عنفوان شبابه، لم يتزوج غيرها، خوفاً من أن تحرمه مالها، ولما ماتت وعمره خمسون عاماً تزوج أربع عشرة امرأة أو يزيد؟)

هذا استنتاج خاطئ! فالحديث يتكلم عن إخلاص النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها بسنين طويلة، ويثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم الكريم لم ينساها يوماً، والرجل يتكلم عن أن الرسول تزوجها طمعاً في ماله.
وفاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة السيدة خديجة اكبر دليل على حبه لها، وهو الذي سمى عام وفاتها عام الحزن.
التاريخ يثبت أن الرسول رفض المال والسلطان دوماً، وهو الذي قال لعمه أبو طالب: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه)، والكاتب يصر على نقل كلام المستشرقين حرفياً.

نبـوتـه

يقول الكاتب:


( والأديان السماوية تقول بان الله خلق آدم وحواء ومنهم انتشر الجنس البشري للارض، ولذا أرسل الله الرسل لهاديتهم. وقد يسأل سائل: ما حكمة في ذلك؟ ما دام الله قد خلق الإنسان، وهو القادر على كل شئ، لماذا لم يخلقهم كلهم مؤمنين؟ ويجيبنا علماء الأديان بان الله أراد أن يختبر الإنسان. ولكن قد نسأل لماذا احتاج الله أن يختبر الإنسان وهو عالم بكل سرائره وما سيفعله في حياته من قبل ان يولد الإنسان؟ أننا نختبر الإنسان لمعرفة قدراته الفكرية او العملية، ولكن إذا كنا مسبقاً نعرف قدرات هذا الشخص، يكون الاختبار إضاعة للوقت والجهد.)

سنفصل الكلام هنا:
تعرفون السؤال الفلسفي الشهير: لماذا خلقنا الله؟ السؤال في الحقيقة يحمل شقين:
الشق الأول: ما هو الدور الذي ارتضاه الله لنا وخلقنا لنقوم به؟ هنا الإجابة في سورة الذاريات: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ). والعبادة هنا بمعناها الشامل.
ولكن في الحقيقة الملحد أو اللاديني لا يسأل عن هذا، فهو يسأل عن شيء آخر. الشيء الذي يسأل عنه اللاديني يتضح لنا عندما يعيد الكرة مرة أخرى قائلاً: ولكن الله ليس في حاجة لعبادتنا فلماذا خلقنا إذن؟
الشق الثاني من السؤال: ما هو الدافع أو الغرض الإلهي الذي جعل الله يخلقنا؟ هذا في الحقيقة ما يسأل عنه اللاديني أو الملحد بإصرار شديد. اللاديني يسأل عن الدافع الإلهي، ولكنه ينسى أن الدوافع والأغراض هي نتيجة للحاجة والحاجة هي نتيجة للنقص والله غير ناقص. اللاديني يبحث بإصرار عن نقص في الله ولن يجده أبداً أي عمل بشري يحركه الدوافع لأن الإنسان ناقص وغير كامل ويبحث عن الكمال.
أما الفعل الإلهي فليس وراءه دوافع؛ لأن الله هو الحق، وفعله كله حق، وقوله كله حق. هناك آية في سورة الأنبياء تقول : (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) عندما نذكركمؤمنين هذه الإجابة، فاللاديني يظن أننا ننهي الحوار، ولكن الآية في الحقيقة لا تغلق باب الحوار، ولكنها تتحدث عن صفة من صفات الله. هذه الصفة: (لا يسأل عما يفعل) ومعناها أن أفعال الله عز وجل غير مسببة، لذلك فلا يوجد أيضاً ما يسمى بـ (نية الله) لأن أفعال الله لا تسبقها نوايا.
سيظل اللاديني يبحث عن الدافع - النقص - الإلهي ولن يجده أبداً.
نعود إلى الكاتب: الكاتب يظن أن الله خلقنا ليختبرنا وهذا غير صحيح. الصحيح هو أن الله يميتنا ثم يحيينا ثانية ليحاسبنا على أعمالنا. انظروا إلى آية - سورة الملك- التالية ولاحظوا الترتيب فيها جيداً: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الموت جاء ذكره قبل الحياة، لأن هذه الآية تجيب عن سؤال آخر وهو: لماذا يميتنا الله ثم يحيينا ثانية؟ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون 115.
فنهاية كل شيء هي الرجوع إلى: - (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) 39- 42 النجم.
- (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) الحديد 5.

يقول الكاتب:

(و إذا كان الغرض من إرسال الرسل هو هداية البشر، فقد فشلت التجربة مرات عديدة. فلماذا استمر الله في إجراء نفس التجربة فكل الأنبياء الذين يزيد عددهم عن العشرين نبياً وأرسلوا إلى بني إسرائيل، لم ينجحوا إلا في هداية جزء يسير منهم. وتعداد اليهود اليوم في كل أنحاء العالم لا يزيد عن العشرين مليون شخصاً من مجموع سكان العام الذين يزيد عددهم عن ستة مليارات من الأشخاص. وأظن المنطق يقنعنا أن تجربة إرسال كل هؤلاء الأنبياء إلى بني إسرائيل كانت تجربة فاشلة. وقد قتل بنو إسرائيل بعض هؤلاء الأنبياء كما يخبرنا القرآن، وقد عاقب الله كل الأمم التي بعث فيهم رسولاً بأن خسف بهم الأرض أو أرسل عليهم الزلزال أو الصيحة التي دمرتهم ودمرت مساكنهم لان اغلبهم لم يؤمنوا.)

مازال الكاتب يتحدث عن الغرض أو الدافع الإلهي، وهذا كما أوضحنا من قبل مفهوم خاطئ.
الرجل يظن أن الأنبياء جاءوا كوسيلة لتحقيق مراد إلهي وهو اجبار الناس علي الاعتراف بالخالق، وكأن الله في حاجة لإيمانهم. ومن هنا ذهب إلى نتيجة مفادها: طالما أن البشر كانوا وما زالوا يكفرون بالله فقد فشلت هذه الطريقة، وكان يجب على الله أن يغير طريقته، ولا يصر عليها! كما قلت من قبل أن مجرد التفكير بأن الله له غرض من إرسال الأنبياء فنحن بذلك ننسب النقص إلى الله.
سأتحدث هنا عن دور الأنبياء، وليس الغرض الإلهي. يقول الله عز وجل لرسولنا الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً). شاهداً على قومك، مبشراً من اتبعك بثواب الله، نذيراً لمن عاند وكفر بعذاب الآخرة، داعياً إلى الله بإذنه، سراجاً منيراً لمن يريد طريق الهداية ليسير على الصراط المستقيم، ولا يتبع السبل فتفرق به عن سبيل الله.
ثم يفترض الكاتب أن أنبياء بني إسرائيل عشرين نبياً، ولا أدري من أين جاء بهذا العدد؟ فالقرآن لم يذكر سوى: اسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان و زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام. على أي حال فلنقرأ ماذا يقول الله لبني إسرائيل في سورة الإسراء: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).كما نرى فإيمان بني إسرائيل أو كفرهم هو لأنفسهم، ولا يضر الله كفرُ من كفر: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) آل عمران 177.


يقول الكاتب:

( لماذا أرسل الله موسى وهو يعلم أن بلسانه عقدة ولـن يستطيع أن يقنع الناس، ومهمة
الرسول الأولى هي تبليغ الرسالة، ولذا يجب أن يكون فصيحاً، فاضطر موسى أن يسأل الله أن يرسل معه أخاه هارون؟ لماذا لم يرسل هارون وحده؟)

ما الذي يراه الكاتب غريباً في أن يرسل الله اثنين يساعدان بعضهما؟ القرآن تحدث عن دور هارون هكذا: مرة كشد الأزر (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) والأزر هوالظهر. ومرة أخرى لشد كالعضد (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً). والعضد هو الذراع. كما نرى فدور هارون عليه السلام يأتي مرة كدعم نفسي ومعنوي لموسى (شد الأزر)، ومرة كأداة تنفيذ أو ذراع موسى الأيمن (شد العضد).
بخصوص عقدة اللسان ، سنجد أن موسى دعا الله : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي - وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي - يَفْقَهُوا قَوْلِي) . فاستجاب الله له بعد قليل قائلاً: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى). أمّا ما يحكى عن الجمرة التي لسعت لسانه، فهي من الاسرائليات التي لا شأن لنا بها.


يقول الكاتب:

(ومما يثبت فشل تجربة الرسل أن بني إسرائيل عندما قادهم موسى في هجرتهم من مصر ورأوا أن الله قد شق لهم البحر واناجاهم واغرق فرعون وجنده، وانزل لهم المن والسلوى من السماء ليطعمهم، لم يقتنعوا بوجوده أو برسالته فصنعوا لأنفسهم عجلاً من ذهب وعبدوه. فهل هناك معجزات أكثر من هذه لتقنع الناس بوجود الله؟ فإذا لم يقتنع بنو إسرائيل بعد أن رأوا كل هذه المعجزات، ألا يقنع كل هذا الله بأن إرسال الأنبياء لا يجدي فتيلا؟)

كثيرون يظنون أن الانحراف عن الحق مرة أو مرتين أو عشرة هو انحراف أبدي ودائم، وهذا غير صحيح. فكلنا عرضة لأن نضل الطريق، ولكن الأهم أن نعود مرة أخرى: (وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الأعراف149. لذلك يقول الله لهم : (وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأعراف 153.
وكما قلت من قبل فإيمان بني إسرائيل أو كفرهم هو لأنفسهم، ولن يضر الله
شيئاً: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) الإسراء.

يقول الكاتب:

(وفي سورة آل عمران، الآية 55 عندما يخاطب الله عيسى فيقول له: "وجاعل الذين أتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، فنفهم من هذه ألآية أنه سيكون هناك مسيحيون مؤمنون بعيسى إلى يوم القيامة، فما فائدة إرسال محمد بالإسلام ليظهره على الدين كله، وهو قد قرر أنه سيكون هناك مسيحيون إلى يوم القيامة. والدليل على ذلك أنه بعد ألف وأربعمائة سنة على إرسال محمد بالإسلام ليظهره على الدين كله، ما زالت المسيحية أكبر ديانة سماوية حتى ألان، وعدد أتباعها يفوق عدد المسلمين أضعافاً.)

الكاتب كثيراً ما يخطئ في فهم الآيات، وسنجد هذا كثيراً من خلال مناقشتنا لكتابه. قلت سابقاً أن الإيمان بمحمد يستتبع الإيمان بجميع الأنبياء، وبكل مبادئهم.
الآية تتحدث عن أتباع عيسى المذكور في القرآن (عبدٌ لله ونبي مرسل) وليس أتباع عيسى المذكور في إناجيل المسيحيين الآن (ابن الله ومخلص البشر من الخطيئة الأولى).
الأخوة المسيحيون أنفسهم ينكرون أنهم أتباع عيسى المذكور في القرآن.

يقول الكاتب:

(والقرآن يخبرنا في عدة آيات إن الله لو شاء لجعل الناس كلهم أمةً واحدةً يؤمنون برسالة واحدة ويكونون على دين واحد "ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة".وكذلك يخبرنا القرآن إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء: "من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم". ويخبرنا الله كذلك في سورة الإسراء انه إذا أراد أن يهلك قريةً، أمر مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فيدمرها تدميراً. فكل هذه الآيات تؤكد أن الإنسان مسيّر، ليس بيده اي شئ، الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويدمر القرى التي يختار تدميرها. فإذا ما الحكمة في إرسال الأنبياء لهداية البشر. )

موضوع الهداية والإضلال هذا يثار حوله لغط كثير. فعندما نراجع القرآن الكريم نجد أن خلق آدم في حوار الله مع الملائكة، كانت الغاية منه هو وجود كائن جديد يختلف عن الملائكة الذين بطبعهم لا يعصون الله ما أمرهم.
فكان الإنسان كائناً فيه قابلية الكفر وقابلية الإيمان، أي يمكن أن يسلك سبيل الشر، ويمكن أن يسلك سبيل الخير. فلديه القدرة على الاختيار. لذا لو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين.
سنتتبع الآيات لنعرف من هم هؤلاء الذين يهديهم الله، ومن هم الذين يضلهم:
أولاً: من هم الذين يهديهم الله؟
يهدي إليه من أناب: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) الرعد 27.
يهدي الذين آمنوا: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) الحج 54 .
يزيد الذين اهتدوا هدى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) محمد 17.
وهذه الآية تنبهنا أن الهداية ليست قرار في لحظة معينة بل هي عملية تراكمية.
يهدي الذين جاهدوا في الله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
ثانياً: من هم الذين يضلهم الله؟
الفاسقين: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ومَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) البقرة 26.
الذين زاغوا: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الصف5
هنا يتضح أيضاً أن الضلال ليس قرار في لحظة معينة بل هو أيضاً عملية تراكمية.
ثالثاً: هل الله يمنع العصاة أن يؤمنوا؟: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) فصلت 17. وهذه الآية تنسف كل ما قاله الكاتب، فثمود اختاروا الكفر بكامل إرادتهم.
من كل ما سبق يتضح أن مسألة الهداية والإضلال هي انعكاس لعمل الإنسان، و رغبته الصادقة. فمن يريد الهداية وعمل لها هداه الله، ولا يوجد إجبار كما يقول الكاتب.

يقول الكاتب:

(وفي بعض الأحيان نشعر أن الله لا يريد للناس أن يتبعوا الرسل، ففي سورة مريم الآية 83، نجد الله يقول: "ألم تر إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم ازاً" اي تهيّجهم إلى المعاصي حسب تفسير الجلالين. فما الحكمة في إرسال أنبياء لهداية الناس، وفي نفس الوقت يرسل الله الشياطين لتهيّجهم على المعاصي؟)

فلنوضح نقطة هنا: حسب المفهوم الإسلامي أن الأنبياء والرسل والشياطين هم جزء من تكوين العالم، فكلمة (أرسلنا) لا توحي لأحد بأنهم جاءوا من عالم آخر طبعاً.
ومن هنا نبدأ: الأنبياء والرسل يبشرون وينذرون ويدعون إلى الله. فهل يملكون القدرة على الإجبار؟ القرآن ينفي: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) الإسراء 45 .
وأيضاً: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) البقرة 272.
نأتي للجانب المقابل، الشيطان يدعو الناس للكفر ويزين لهم سوء أعمالهم, فهل تمتلك الشياطين القدرة على الإجبار؟ القرآن ينفي أيضاً: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا) الإسراء 65 - (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) الحجر 42.
والنتيجة تكون الآتي: أن كل من يكفر بالله ويقاوم الأنبياء، سيقع فريسة للشياطين. العلاقة علاقة توازن: فهو إن رفض إتباع الأنبياء بإرادته، مالت القوى لصالح الشياطين، وهم لا يملكون إجباره، فيستجيب للشياطين بإرادته.
نعود للآية التي يتحدث عنها الكاتب: (الأزّ) يعني غليان القدر وتقلب محتواه، وهذا يشير لمدى تسلط الشياطين على هؤلاء الكافرين.
مفهوم الشيطان في الإسلام يختلف عن مفهومه في الأديان الأخرى.
الشيطان في الإسلام ليس له سلطان على الإنسان، إنما سلطانه على الذين يتولونه ويتبعونه: (إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل 100.
الشيطان يحاول إغواء المؤمن والكافر، لكن لماذا ينجح مع الكافر تحديداً؟ (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) الحجر42.
يخبرنا الله عز وجل أن كل من يعبد غير الله، فهو يعبد الشيطان. ففي نفس السورة يقول إبراهيم لأبيه: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّا) مريم44
إذن الآية التي يستشهد بها الكاتب هي دعوة من الله - ألم تر - للنظر إلى حال الكافرين لنرى أن كفرهم بالله وبالرسل واتخاذهم الشياطين آلهة من دون الله جعلهم
ألعوبة في أيدي الشياطين (ويكونون عليهم ضدا). الآية تحكي عن الحال - حال الكافرين - وليس عن رغبة الله كما يقول الكاتب.
الآية التالية تلخص كل ما قلناه: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) إبراهيم 22.

يتبع ,,,

اخت مسلمة
10-05-2009, 10:07 PM
غـزواتـه


يقول الكاتب:
(الحل الذي لجأ إليه النبي كان السطو على قوافل قريش التي كانت دائماً محملةً بأثمن البضائع من الشام وكذلك غزو القبائل المجاورة. ففي شهر رمضان على رأس سبعة اشهر من هجرته إلى المدينة، عقد النبي لحمزة بن عبد المطلب لواءً ابيضاً في ثلاثين رجل من المهاجرين، وأمره أن يعترض لعيرات قريش، كما زعم الواقدي. ولكن حمزة لما حاول اعتراض القافلة وجد ابا جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني فافترقوا ولم يكن بينهم قتال.)


كان يوجد في جزيرة العرب أكثر من (500) قبيلة، تقوم بالتجارة من مكة إلى
الشام، وكلها كانت تمر بالمدينة. موقع المسلمين في المدينة كان استراتيجياً جداً، وكان بإمكانهم الحصول على ثروات قوافل الجزيرة العربية كلها لو أرادوا.
السؤال الآن: لماذا اعترض المسلمون طريق قافلة بعينها وتركوا باقي القوافل؟ الإجابة سهلة لمن يملك أدنى عقل: كانوا يبحثون عن حقوقهم المسلوبة في مكة. رغم أن الرسول الكريم أصر على رد الأمانات الخاصة بقريش عند هجرته، ولم يعاملهم بالمثل.


يقول الكاتب:


(وفي رجب من نفس العام أرسل عبد الله بن جحش مع ثمانية من المهاجرين، وكتب له كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه. فلما فتح الكتاب وجد فيه: "إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلةً بين مكة والطائف فترّصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم". وساروا حتى نزلوا نخلة، فمرت عيرُ لقريش فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان. وتشاور الصحابة فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب فقالوا: "والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعُن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام"، فاجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم واخذ ما معهم، فحلقوا رأس احدهم ليطمئن القرشيون أصحاب العير أنهم من عُمار بيت الله الحرام. وعندما أطمئن القرشيون ووضعوا سلاحهم رمي واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستاسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وافلت منهم نوفل بن عبد الله. واقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله. فقال عبد الله بن جحش لأصحابه: إن لرسول الله فيما غنمنا الخمس، فعزله وقسم الباقي بين أصحابه، وذلك قبل أن تنزل آية الخمس. ولما قالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم واخذوا فيه الأموال واسروا الرجال، أنزعج الرسول من هذا الكلام وقال لأصحابه: " ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام" . ورفض أن يأخذ نصيبه من الغنيمة، وهو الأسيرين وبعض العير. وحينئذ سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم أخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. ولكن سرعان ما نزلت الآية: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل: قتال فيه كبيرٌ، وصدٌ عن سبيل الله وكفرٌ به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه اكبر عند الله، والفتنة اكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا". فلما نزل القرآن بهذا الأمر وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، أخذ رسول الله (ص) العير والأسيرين. وهذا كان يمثل خمس الغنيمة، وكانت هذه أول غنيمة للمسلمين، وفادى الأسيرين بأربعين أوقية لكل منهما وهذا أول فداء لأول أسير في الإسلام. وهذه ألآية طبعاً عذر لا تسنده الوقائع، فقريش لم تكن تحاربهم في ذلك الوقت، بل بالعكس، حاول المسلمون اعتراض قوافل قريش ثلاث مرات قبل هذا. وحتى في هذه المرة لم تكن قريش قد اعتدت عليهم وإنما هم الذين اعتدوا، وفي الشهر الحرام.)

كما نرى، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش لمراقبة العدو ولم يأمرهم بقتال، فرأى المسلمون أن الفرصة سانحة لمهاجمة العدو، فهاجموهم. تقول بعض الروايات أن الواقعة بدأت في أواخر جمادى الثاني، ولم ينتبه المسلمون لدخول أول رجب. استغل المشركون هذه الواقعة كحرب إعلامية ضد المسلمين. لأنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام، ونسوا أنهم انتهكوا كل شيء بتعذيب المسلمين وطردهم من ديارهم، وكل هذا داخل البيت الحرام نفسه بمكة.
تأثر المسلمون لهذا الخطأ وشعروا بالحزن، فنزلت الآية تقول: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ...). فالآية تقول إذا كان القتال في الشهر الحرام كبير عند الله، فإخراج المسلمين من البيت الحرام، وتعذيبهم وفتنتهم عن دينهم أكبر عند الله بالتأكيد، إذا كان القتال في الشهر الحرام كبير، فالكفر بالله أكبر. هل يرى أحد شيئاً غريباً في هذا الأمر؟!


غـزوة بـدر الكبـرى


يقول الكاتب:

(واختلف الصحابة في بقية الأسرى: أيُقتلون أو يُفادون؟ فاستشار الرسول ابا بكر وعلياً وعمر، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، و اني أرى أن
تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوةً لنا، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً. فقال عمر: "والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله انه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين". فأخذ الرسول برأي أبي بكر وقرر أن يأخذ من الأسرى الفداء. وفي اليوم التالي وجد عمر الرسول وأبا بكر يبكيان، فلما سأل عن السبب، قال الرسول:" نبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء" وانزل الله " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم". ثم احل لهم الغنائم. المنطق يتطلب أن تكون الشرائع السماوية ارحم من تشريع البشر، فالله يصف نفسه بأنه رحيم بعباده غفور بهم. ومن أسمائه السلام الرؤوف وما إلى ذلك، فهل يعقل أن يغضب الله على الرسول لأنه لم يقتل الأسرى، وقرر أن يأخذ منهم الفداء بينما التشريع الإنساني يحرم قتلهم؟ ولم يذكر احد من المؤرخين ان الرسول انّبَ بلال وأصحابه على قتل الأسيرين أمية بن خلف وابنه. وأي اله هذا الذي يشجع على قتل الأسرى؟)

فلنقرأ الآية التي يستشهد بها الكاتب: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) الأنفال67 . الآية تنبه المسلمين إِلى نقطة هامة في الحرب، وهي أن عليهم عدم التفكير والانشغال بأخذ الأسرى قبل اندحار العدو بالكامل. لأن بعض المسلمين كان كل هدفهم هو الحصول على أكبر عدد من الأسرى في ساحة بدر قد استطاعتهم، وذلك لأن العادة كانت أن يدفع عن الأسير مبلغ من المال على شكل فدية مقابل الإفراج عنه بعد نهاية الحرب.
ما أخفاه الرجل من الآية توضح كل شيء: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ). فكما قلت سابقاً أن ظاهر الآية ينهى عن التسرع بأخذ الأسرى أثناء الحرب (قبل أن تضع الحرب أوزارها) ولا تنهي أبداً عن أخذ الأسرى بعدها.
المسلمون وقعوا في نفس الخطأ أثناء غزوة أحد، فتسبب ذلك في هزيمة قاسية لهم
كادت تقضي عليهم تماماً؛ لغفلتهم عن أمر الله ورسوله. نفس الشيء تقوله آية سورة محمد الآتية: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَـن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) فهنا أيضاً يقـول الله عز وجل أن شد الوثاق (أخذ الأسرى) يكون بعد إثخان العدو، وحتى تضع الحرب أوزارها. والموقف من الأسرى هو إما المن عليهم وإطلاق سراحهم بلا مقابل، وإما الفداء، سواء بمبادلة الأسرى، أو مقابل فدية من المال.
سأركز على عبارة سورة الأنفال (حتى يثخن في الأرض). لو فهمنا هذه العبارة بأنها تأمر بقتل كل الأسرى سنجد أنفسنا قد وقعنا في سوء فهم. لأن نفس الكلمة تأتي في سورة محمد هكذا: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء) نشد وثاق من؟ ونفدي من؟ ونمن على من؟ عبارة (حتى يثخن في الأرض) معناها حتى يتمكن المسلمون تماماً من الأعداء في أرض المعركة.
نبقى مع سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ .... ) الأنفال 70.
و أيضاً في سورة أخرى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً - إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) الإنسان 8 - 9.
فالله تعالى يمدح من يضحي بطعامه من أجل الأسير، وكل هذا لوجه الله بدون انتظار كلمة شكر. فكيف يقول أحد بعد كل هذا أن الإسلام يأمر بقتل الأسرى.
بخصوص الروايات التي تقول أن القرآن نزل مؤيداً لقول عمر رضي الله عنه بقتل الأسرى، فهي مرفوضة جملة، لمخالفتها ظاهر الآيات مخالفةً لا تقبل التأويل.
يقول (محمد أبو زهرة) في كتابه [خاتم النبيين] : (أن كثيرين كتبوا في الماضي - وتبعهم أهل الحاضر - أن القرآن الكريم نزل موافقاً لرأي الإمام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأسرى، ونحن نرى أن ما جاء به القرآن لا يوافق رأي عمر

لأن ما جاء به القرآن الكريم ، إنما كان لمعارضة الأسر قبل الإثخان).



يقول الكاتب:


(وحتى بعد أن كثر عدد المسلمين ونزلت سورة محمد، قال الله : "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فإما مناً بعد وإما فداء". ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية : قال الله : فضرب الرقاب ، ولم يقل اقتلوهم ، لأن في العبارة "ضرب الرقاب" من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن. فالله لا يكتفي بقتل الكافرين فحسب، بل يجب أن نقتلهم شر وأفظع قتل. أما ألاسرى، فرغم أن الله قال "إما مناً وإما فداء" فيقول القرطبي في تفسير الآية: " قال قتادة ومجاهد إذا أُسر المشرك لم يجز أن يُمن عليه، ولا أن يُفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يُفادى عندهم إلا بالمرأة لأنها لا تُقتل". فحتى بعد أن تلطف الله على المشركين بعد أن غضب على الرسول لأنه أخذ منهم الفداء في واقعة بدر، وقال " فأما مناً وإما فداء". يقول علماء المسلمين يجب قتل الأسرى.)


لو أن أحداً اطلع على ما أورده القرطبي لعلم أن الكاتب غير موضوعي.
من المعروف أن كتب التفسير بالمأثور كانت تسرد كل ما تم قوله حول الآية، ثم يوضح المفسر القول الأرجح في النهاية.
و القرطبي في تفسيره سرد كل ما استطاع جمعه من الأقوال، ثم بعد طرحه لخمس آراء ذكر القول الأرجح في النهاية، و هو:
(قال النحاس‏:‏ وهذا عى أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن، لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن، على ما فيه الصلاح للمسلمين.‏ وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة، والمشهور عنه ما قدمناه ، وبالله عز وجل التوفيق‏).


غـزوة بـني قينقـاع



يقول الكاتب:

(ويقال أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك منهم فجعلوا يراودونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، فشد بعض اليهود الحاضرين على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا على حكمه، رغم أن العقد بينهم يقول "إلا من ظلم وأثم فانه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته". فبدل أن يُحاسب الذين أثموا، حاصر النبي كل بني قينقاع. فكُتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمه فيهم عبد الله بن أبي بن سلول، فقال: يا محمد، أحسن في موالي- وكانوا حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه النبي. فادخل يده في جيب رسول الله، فقال الرسول: "أرسلني" ، وغضب رسول الله حتى رأوا في وجهه ظلالاً ثم قال: "ويحك أرسلني" فقال عبد الله: لا والله لا أرسلك حتى تحسن إلى موالي. أربعمائة حاسر وثلاثماية دارع قد منعوني من الأسود والأحمر، تحصدهم في غداة واحدة! واني والله لا آمن واخشي الدوائر. فقال الرسول: " هم لك. خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم". فأرسلوهم، ثم أمر بإجلائهم، وغنم المسلمون ما كان لهم من مال . وكان للرسول خُمس أموالهم. وواضح أن النبي أراد عذراً لغزوة بني قينقاع، فاتخذ ماحدث للمرأة الأعرابية كذريعة لغزوهم.)


الكاتب افترض شيئاً ثم بنى عليه حكماً. وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ واقعة المرأة المسلمة، كذريعة لطرد بنو قينقاع.
قصة المرأة المسلمة في السوق يرويها ابن هشام هكذا: (قال ابن هشام وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون) فنجد الإسناد منقطع بين ابن هشام وعبد الله بن جعفر، وينتهي بتابعي صغير هو (أبي عون) فالإسناد كله متهالك.
تفاصيل حصار بني قينقاع يذكرها الواقدي بدون إسناد، ويذكرها ابن اسحق عن (عـاصم بن عمر بن قتادة) وعـاصم كان تابعي صغير، وبذلك فالرواية مرسلة-
الحديث المرسل هو الحديث الذي سقط من إسناده الصحابي وهو غير مقبول عند المحدثين- والقصة محل شكوك. قصة اعتراض عبد الله بن أبي بن سلول يذكرها ابن اسحق عن (عاصم بن عمر بن قتادة) أيضاً وكما قلنا فعاصم تابعي صغير.
تفاصيل بني قينقاع بالكامل محل شك ، ونجد المصادر الأخرى في السنة لا تذكر عنها شيئاً. أنا ليس لدي اعتراض على القصة فليس فيها شيء غريب، وأراها منطقية ولكن هذا لايكفي لتصديقها. فلا أحد يستخلص أحكام من كتب السيرة التي تهتم بالسرد القصصي، وليس لها اعتبار في الميزان الشرعي.


غـزوة بـني النضيـر


يقول الكاتب:


(كان بين عمرو بن أمية وبني النضير عهدٌ وحلف، وعندما قتل عمرو بن أمية رجلين من بني عامر، خرج رسول الله إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين، رغم المعاهدة سابقة الذكر التي كتبها بينه وبين يهود المدينة وقال فيها: "وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه". ورغم هذا قال له بنو النضير: نعم يا ابا القاسم نعينك على ما أحببت. ويبدو أن النبي جلس إلى جنب جدار، فهمّ احد بني النضير بالطلوع فوق البيت لكي يرمي حجراً علي النبي فيقتله. ولكن النبي ترك مكانه من عند الجدار ورجع إلى المدينة وأرسل محمد بن مسلمة يأمر يهود بني النضير بالخروج من المدينة. فرفضوا الخروج، وعندئذ أمر الناس بالخروج إليهم، وحاصرهم خمسة عشر يوماً وهم يقاومون في حصونهم. وعندها أمر رسول الله ( ص ) بقطع نخيلهم والتحريق فيها . فنادوا عليه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها، إذا كان لك هذا فخذه وان ان لنا فلا تقطعه. وتنبه جماعة من المسلمين إلى أن النخيل سوف يصير لهم بعد هزيمة بني النضير، فمنعوا أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام من أن يقطعوه، وكان النبي قد أوكل إليهما قطعه . وذهب جماعة منهم إلى النبي وقالوا له كيف نقطع النخيل وسوف يصير لنا؟ فانزل الله: "ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمة على أصولها فبأذن الله". ولما اشتد عليهم الحصار سألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم. فحملوا ما استطاعوا من أموالهم وخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام. وخلوا النخيل والمزارع لرسول الله، فكانت له خاصة لان المسلمين لم يحاربوا من اجلها.)


ابن هشام يذكر: أنه بعد غزوة بدر ذهب أبو سفيان ومعه جيش من مائتين إلى أربعمائة محارب إلى بني النضير، والتقوا بزعيمهم (سلام بن مشكم)، فاستقبلهم سلام، ونقل لهم أخبار المدينة والمسلمين (جاسوساً ومساعداً للعدو) فانطلق أبو سفيان بجيشه مهاجماً العريض، فقتل أنصارياً ومساعده في الحقل وأحرقوا منزلين، ثم فر هارباً.
سمي ذلك (غزوة السويق) وكانت أول حالة غدر غير مبررة من بني النضير. عقب تلك القصة المعروفة بدعوتهم الرسول إلى ديارهم، ثم محاولة قتله غدراً لولا عناية الله. أليس هذا كافياً لاعتبارهم أعداء للمسلمين. على أي حال الرسول كان متسامحاً معهم لأبعد الحدود عندما رضي أن يكتفي بمغادرتهم المدينة محملين بكل ما يستطيعوا حمله من ممتلكاتهم. قال ابن إسحاق‏:‏ (فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام). وقال العوفي، عن ابن عباس‏: (أعطى كل ثلاثة بعيراً يتعقبونه وسقا‏) رواها البيهقي‏.‏


غـزوة بـني قريظـة


يقول الكاتب:

(بعد غزوة الخندق اخبر الرسول اصطحابه ان جبريل أتى إليه واخبره ان الله قد أمره ان يغزو يهود بني قريظة، رغم الحلف الذي كان بينه وبينهم، فساروا إليهم وحاصـروهم خمساً
وعشرين ليلة. فبعثوا إلى رسول الله ان ابعث إلينا أبا لُبابة بن عبد المنذر نستشيره في أمرنا. فأرسله لهم، فلما رأوه جهش إليه النساء والصبيان يبكون، فرق لهم، فقالوا: يا ابا لبابه أترى ان ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده إلى حلقه انه الذبح. فاجتمع نفر من الأوس، وكانوا حلفاء بني قريظة، وقالوا للنبي: يا رسول الله أنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد عفوت عـن بني قينقاع موالي الخزرج، فاعف عن بني قريظة. فقال النبي: يا معشر الأوس ألا
ترضون ان يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. فقال: ذلك إلى سعد بن معاذ. فقالوا لسعد: يا ابا عمرو أحسن في مواليك، فان رسول الله إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فقال لهم: قد آن لسعد إلا تأخذه في الله لومة لائم. وحكم سعد بان يُقتل الرجال وتُقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال له النبي: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة ارقعة. وخرج النبي إلى سوق المدينة و أمر ان تُحفر بهـا خنادق ثم انزلوا رجال بني قريظة وضربت أعناقهم في تلك الخنادق، حتى بلغ عددهم ستمائة أو سبعمائة قتيل، وقال آخرون ان القتلى كانوا ثمانمائة إلى تسعمائة. وقتل منهم امرأة واحدة، هي زوجة حسن القريظي، كانت قد رمت بحجر نحو النبي في أيام الحصار.ورغم ان النبي قد وافق مقدماً ان يقبل حكم سعد، وعندما سمعه قال انه حكم الله، لكنه خالف حكم الله واعدم امرأةً رغم ان سعد قال تُسبى النساء. وقد رأينا سابقاً أن قتادة ومجاهد قالا: لا يجوز أن يُفادى الأسير المشرك إلا بالمرأة لأن المرأة الأسيرة لا تُقتل. وبعث الرسول سعد بن زيد الأنصاري بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلاً وسلاحاً، واختار لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خُناقة وعرض عليها ان تسلم فيتزوجها، أو تكون مما ملكت يمينه. فقالت: يا رسول الله بل اتركني في ملكك فهو اخف علي وعليك. وقد يسال سائلٌ: أيُعقل ان يحكم الله من فوق سبعة ارقعة بقتل كل هذا العدد من الأسرى وسبي نسائهم وأطفالهم، مع العلم بأنهم لم يحاربوا الرسول، وان كانوا قد شجعوا قريشاً على حربه؟)


نحن نعترف بأن الصورة المنقولة عن غزوة بني قريظة في المصادر الإسلامية فيها بعض القسوة. لكن طريقة العرض هي ما تحرك المشاعر. لذلك يجب علينا أن نحكم على تفاصيل الحرب بالعقل وليس بالمشاعر. ليس متوقعاً أن تقرأ حكايات رومانسية في المعارك بطبيعة الحال. السؤال المهم هل بنو قريظة كانوا يستحقون الإعدام أم لا؟
قبل أن أوضح سبب عقوبة بني قريظة لابد أن أوضح أمراً غاب عن ذهن الكاتب؛ وهو أن مجتمع المدينة في ذلك الوقت كانت مجتمع متعدداً بالمفهوم الحديث.
البعض يظن أن المسلمين كانت لهم دولتهم ولليهود دولتهم وهذا خطأ. مجتمع المدينة (يثرب) كان أشبه بدولة ذات حكم فيدرالي، يعيش فيها أناس من أديان مختلفة وأعراق مختلفة. وبنو قريظة كانوا مجموعة من السكان يشتركون مع المسلمين في المواطنة وإن اختلفوا معهم في الدين.
ولأن أمن وسلام المدينة كان مسئولية جميع المواطنين فقد اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود على اتفاقية حماية ودفاع مشترك عن المدينة. لذلك فخيانة العهد والتجسس لصالح العدو وإمداده بالمال والسلاح من طرف بعض السكان يستوجب عقوبتهم بدون أدنى شك. هذا الشيئ متبع في أي قانون دولي. والعقوبة التي اختارها سعد بن معاذ وقد كان حليفهم من قبل وهم ارتضوا لتحكيمه كانت الإعدام. يقع بعض المسلمين في خطأ عندما يقولون أن سعد بن معاذ حكم في اليهود بحكم التوراة كما جاء في سفر التثنية حسب الشريعة الموسوية. وهذا غير صحيح فسعد حكم بقتل (المقاتلة) وليس (من أنبت منهم) كما سأوضح ذلك لاحقاً.
أيضاً المسلمون لم يقتلوا النساء والأطفال، كما يروج لذلك المستشرقون، بل قتلوا المقاتلة لأنهم من اشتركوا في الخيانة. لنرى هل عقوبة بنو قريظة تتناسب مع فعلهم أم لا:
في شهر شوال من العام الخامس من الهجرة ذهبت جماعة من اليهود، منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق من بني النضير، وهوزة بن قيس وأبي عمار من بني وائل إلى قريش في مكة، وأغروهم بحرب رسول الله قائلين: (نحن معكم حتى نستأصل شأفته) فقال لهم أهل مكة: (يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول وأنتم أهل للحكم بيننا وبين محمد فمن على حق ديننا أم دين محمد؟) فرد عليهم اليهود: (دينكم خير من دينه وأنتم على الحق دونه).
وعندما سمع القريشيون ذلك تهللت أساريرهم، وتحفزوا لقبول ما عرضوه عليهم من حرب رسول الله وأبرموا اتفاقاً فيما بينهم و تواعدوا على الحرب. ثم رحل هؤلاء اليهود، وذهبوا إلى قبيلة غطفان، وهي من بطون قيس عيلان وأغروهم بحرب رسول الله قائلين لهم: سنكون معكم نحن وقريش. وسار القريشيون يتقدمهم أبو سفيان ومعه
قبيلة غطفان. ثم ذهب حيي بن أخطب اليهودي إلى كعب بن أسد زعيم بني قريظة ، ودعاه إلى نقض حلفه مع النبي ومساعدة قريش وبني غطفان عندما يأتون ويهاجمون المدينة. وافق بنو قريظة على نقض عهدهم مع رسول الله، وأخذوا يجهـزون قريش وغطفان بالمـؤن والذخيرة استعداداً لاستئصال شأفة المسلمون كما يقولون.
وصلت الأخبار لرسول الله بأمر الخيانة ولم يصدق في البداية، فأرسل سعد بن معاذ زعيم الأوس وسعد بن عبادة زعيم الخزرج إلى بنو قريظة ليتأكدوا من الخبر. فرد عليهم بنو قريظة: (ومن هو محمد؟ ليس بيننا عهد أو ميثاق معه). موقف بنو قريظة هذا لا مبرر له على الإطلاق. فهم لم يروا من الرسول سوى حسن الجيرة ووفاء العهد طوال فترة جواره في المدينة.
كانت حرب الخندق من أشد الحروب التي هددت النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فقد اجتمعت فيها قريش وتهامة وكنانة وغطفان ونجد في عشرة آلاف مقاتل، كانوا قد أعدوا كامل العدة للقضاء على المسلمين بضربة قاضية. كانت النية هي إبادة المسلمين وكانوا قادرين على ذلك لولا لطف الله تعالى.
القرآن يصور هذا الموقف المهول هكذا: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا - هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً). لابد أن نضع في الاعتبار هذا الجو الملبد بالهوس والرغبة في إبادة المسلمين، والجميع متواطئ لإراقة دمائهم بدون أي ذنب. عدو مصر على إراقة الدماء، ومعاهدات تتحطم، وخيانات تتم، ومؤامرات تحاك. لماذا كل هذا العداء؟
لذلك فبعد أن نصر الله المسلمين في الأحزاب كان يجب أن يسيروا إلى الخونة لمعقابتهم بما يناسب فعلتهم.
وفي الأخير لا بد من توضيح بعض الأمور:
ذكر ابن هشام أن سعد بن معاذ حكم بقتل (من أنبت منهم) كل هذا برواية محمد
ابن إسحق، عن أبيه، وهو إسحق بن يسار، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري ... و الرواية مرسلة، لأن معبد بن كعب تابعي. وذكر الواقدي في المغازي أن سعد بن معاذ أمر بقتل من (جرت عليه الموسى) ولكن الواقدي يذكرها بدون إسناد. والرواية الصحيحة بلفظ البخاري و مسلم: (أن تقتل المقاتلة). وكذلك أوردها الطبري بعدما ذكر رواية بن اسحق بدون أن يعلق عليها.
سبب تمسكي بلفظ (المقاتلة) هوالآتي:
- أن هناك روايات تحكي العفو عن البعض ممن لم يشارك في الخيانة، رغم أنهم ممن أنبتوا (بلغوا الحلم) مثل عمرو بن سعدى الذي قال فيه رسول الله: ذلك رجل نجاه الله بوفائه.
- وأيضاً هناك من أبدى توبته من بني قريظة، وأعلن إسلامه فنجي بذلك: مثل
ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد‏،كما جاء في [الكامل ]لابن الأثير.
- لا يوجد مصدر موثوق يقول أن مقاتلة بني قريظة قتلوا عن آخرهم، فهذا أمر مشكوك فيه.
- إذ كان رسول الله مع أصحابه حتى جاء ثعلبة بن سعية يبشر الرسول بإسلام ريحانة رضي الله عنها، وقد سر النبي لذلك. فقط أنا أكمل الروايات التي يقصها الكاتب بشكل مستفز.
- المرأة التي قتلت منهم كانت قد قتلت خلاد بن سويد فانطبق عليها حكم المقاتـلين وليس كما يقول الكاتب. فهو غير أمين في النقل.
كلمة حق لابد أن أقولها في النهاية، هناك جو من الغموض يحيط واقعة بنو قريظة
تستشعره من الروايات.
أشياء غريبة تشعر معها أن بنو قريظة كانوا راضين بل مصرين على الموت بشجاعة لم تعرف عنهم من قبل. فقد كان بإمكان الكثير منهم أن يطلب الأمان من أحد معارفه من المسلمين لينجوا، ولكنك تشعر أن الجميع كانوا راضين بالموت ومصرين عليه. تنقل الروايات أن رجلاً منهم يدعى الزبير بن باطا طلب الأمان من ثابت بن قيس، فوافق الرسول على طلب ثابت، و لكن بعد ذلك أصر على الموت
ليلحق بأهله من بني إسرائيل . هناك أحداث غائبة بالتأكيد.
تنقل الروايات أيضاً قول حيي بن أخطب: (يا أيها الناس, لا بأس بأمر الله, قدر وكتاب, ملحمة كتبت على بني إسرائيل).


غــزوة خيــبر

يقول الكاتب:



(في السنة السابعة للهجرة قرر النبي غزو يهود خيبر وكان فيهم يهود بني قينقاع ويهود بني النضير الذين سبق ان أُخُرجوا من المدينة. فسار النبي بجيشه حتى نزل بوادي يقال له الرجيع، فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان ليحول بينهم وبين ان يمدوا أهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين. بدأ الرسول بالأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتحها حصناً حصناً، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم ثم القموص، حصن ابن أبي العقيق، وأصاب النبي منهم سبايا منهن صفية بنت حُيي بن أخطب، فاصطفى النبي صفية لنفسه. ثم جعل النبي يتدنى الحصون والأموال. فلما فتح النبي من حصونهم ما فتح وحاز من اموالهم ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح - وكان آخر حصون خيبر- حاصرهم النبي بضع عشرة ليلة. قال ابن اسحق: واتى النبي بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق – وكان عنده كنز بني النضير- فسأله فجحد ان يكون له علم بالكنز، فأتى النبي برجل من يهود، فقال الرجل للنبي: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال النبي لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر النبي بالخربة فحُفرت فاخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقي فأبى ان يؤديه، فأمر به رسول الله الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى اشرف على الهلاك، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه.)

هذه الرواية أوردها ابن اسحق بدون إسناد. وذكرها ابن سعد في الطبقات، و روايته ليس فيها قصة تعذيب الزبير لكنانة، إلى آخر القصة.
ولكن حتى رواية ابن سعد لا تصح، فقد أوردها بإسناد فيه: ( محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي) وهو سيء الحفظ كما يقول الحافظ بن حجر في كتابه [تقريب التهذيب].
كذلك نقرأ عنه في [سير أعلام النبلاء]: (قال أحمد كان يحيى بن سعيد يضعف ابن أبي ليلى قال أحمد كان سيء الحفظ مضطرب الحديث، وكان فقهه أحب إلينا من حديثه. وروى أحمد بن زهير عن يحيى بن معين، قال ليس بذاك أبو داود سمعت شعبة يقول ما رأيت أحدا أسوأ حفظاً من ابن أبي ليلى روح بن عبادة عن شعبة، قال أفادني ابن أبي ليلى أحاديث فإذا هي مقلوبة، وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن أحمد بن يونس، قال كان زائدة لا يروى عن ابن أبي ليلى كان قد ترك حديثه) كما ترون الرواية لا تصح بأي حال.
أما كنانة بن الربيع فقد مات مقتولاً أثناء المعركة، حسب الروايات الصحيحة في البخاري ومسلم. وهذا سيصيب الكاتب بخيبة أمل؛ لأن رواية ابن اسحق المجهولة الاسناد كانت تناسبه جداً.


يقول الكاتب:


(وحاصر النبي أهل خيبر في حصنهم حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه ان يأخذ مالهم ويحقن لهم دماءهم.ففعل. وكان النبي قد حاز الأموال كلها إلا ما كان من حصن الوطيح. ولما نزل أهل خيبر من حصنهم سألوا النبي ان يعاملهم بالأموال على النصف، وقالوا: نحن اعلم بها منكم وأعمر لها، فصالحهم النبي على النصف، على انا إذا شئنا ان نخرجكم أخرجناكم. فلما سمع أهل فدك بما حدث لأهل خيبر، بعثوا إلى النبي يسألونه ان يسيّرهم ويحقن دماءهم ويخّلوا له الأموال، ففعل. والانطباع الذي يخرج به القارئ من كل هذه الغزوات ان الدافع لها كان مادياً أكثر منه الحرص على إقناع اليهود والوثنيين بالدخول في الإسلام. فلم يهتم النبي بمحاولة إقناع اي قبيلة من اليهود بالإسلام، خاصةً وانه ذكر في معاهدته معهم "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"، ولذا لم يحاول إقناعهم وقد أترف ان لهم دينهم، فأصبح الدافع الوحيد لغزوهم هو اخذ اموالهم وقتلهم أو طردهم من المكان.)


حتى تصحح عندنا الصورة، فلنقرأ صحيح مسلم، وما ذكره في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لنعرف هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان مهتما بالغنائم ولم يدعوا اليهود للإسلام كما يدعي الكاتب، أم أنه غير أمين كالعادة:
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، - يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ - عَنْ أَبِي، حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، - وَاللَّفْظُ هَذَا - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ ، - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ:لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ و َيُحِبُّهُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ قَالَ فَبَـاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا - قَالَ - فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ : أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ؟ ‏ .‏ فَقَالُوا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ - قَالَ - فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ‏. ‏فقال صلى الله عليه وسلم : أنفذ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فو الله لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَم).
ها هي وصية رسولنا الكريم لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم).


فتـح مكـة
يقول الكاتب:



(وبعد ثمانية عشر شهراً هجم بنو بكر على خزاعة ويبدو ان قريشاً ساعدت بني بكر بالسلاح والكُراع. فركب عمرو بن سالم، من خزاعة، يستنجد بالنبي. فجهز النبي جيشاً كبيراً وغزا مكة رغم صلح الحُديبية الذي وضع الحرب بينهم عشر سنوات. وقال ابن إسحاق: قد كان رسول الله عهد إلى أمرائه إلا يقاتلوا إلا من قاتلهم، غير انه أهدر دم نفرٍ سماهم وان وجدوا تحت أستار الكعبة وهم: عبد الله بن أبي سرح، وعبد الله بن خطل، رجل من بني تيم بن غالب، وكانت له قينتان، اسم احدهم فرتانا وواسم الاخرى غريبة، أمر بقتلهما معه، والحويرث بن نقيد بن وهب بن عبد قصي، ومقيس بن صبابة، وعكرمة بن أبي جهل، وسارة، وكانت مولاة لعمرو بن هاشم من بني عبد المطلب، وهند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان. ولكن هند بايعت الرسول فسلمت. أما عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أمر بقتله لأنه كان قد اسلم وكتب الوحي للنبي لمدة من الزمن، ثم ترك وارتد لأنه قال كان يكتب الوحي وكان يقترح على النبي بعض التعديلات فيما كان قد أملاه عليه، وكان النبي يوافق علي التعديل، فمثلاً في احد المرات قال له النبي اكتب: "ان الله عزيز حكيم" فقال له عبد الله: أليس من الأفضل ان تقول"ان الله عليم حكيم"؟ فوافق النبي فقال عبد الله لو كان هذا من عند الله لما قبل ان يغيره، فترك وارتد. وعندما دخل النبي مكة فر عبد الله إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة، فلما جاء بـه ليستأمن له صمت عنه الرسول طويلاً ثم قال: "نعم". فلما انصرف مع عثمان قال النبي لأصحابه: "أما كان فيكم رجلٌ رشيد يقوم إلى هذا الرجل حين رآني قد صمتُ فيقتله" فقالوا: يا رسول الله هلا أومأت إلينا؟ فقال: "ان النبي لا يقتل بالإشارة.)


أشهر رواية تذكر هذه الواقعة هي ما جاءت في سنن النسائي:

(أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ قَالَ حدثني أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ قَالَ زَعَمَ السُّدِّىُّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَالَ: (اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ). عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى السَّرْحِ فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّاراً - وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ - فَقَتَلَهُ وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ في السُّوقِ فَقَتَلُوهُ وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لاَ تُغْنِى عَنْكُمْ شَيْئاً هَا هُنَا. فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِى مِنَ الْبَحْرِ إِلاَّ الإِخْلاَصُ لا يُنَجِّينِىَ
فِى الْبَرِّ غَيْرُهُ اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَىَّ عَهْداً إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِى مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِىَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَضَعَ يَدِى فِى يَدِهِ فَلأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيماً. فَجَاءَ فَأَسْلَمَ وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى السَّرْحِ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ. قَالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاَثاً كُلَّ ذَلِكَ يَأْبَى فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : ( أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِى كَفَفْتُ يَدِى عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلَهُ) . فَقَالُوا وَمَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا في نَفْسِكَ هَلاَّ أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ. قَالَ: إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُن.
رغم أن البعض قال أن هذه الرواية صحيحة، إلا أن ذلك لا يكفي لتمرير الرواية، فإسناد الرواية لا يخلو من الشك.
ننظر أولاً لإسناد الرواية ثم نناقش المتن: سلسلة السند فيها (أحمد بن المفضل) نقرأ عنه في [ميزان الاعتدال]: (قال الأزدي منكر الحديث روي عن سفيان عن حبيب بنأبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي مرفوعاً يا علي إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأنواع البر فتقرب إليه بأنواع العقل, وقال أبو حاتم كان من رؤساء الشيعة صدوق)


كما نرى فأحمد بن المفضل فيه كلام. أيضاً الإسناد فيه (السدي) وهو (إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة المعروف بالسدي مولى بني هاشم, كوفي) نقرأ عنه في [الضعفاء و المتروكين] لابن الجوزي: (ضعفه ابن مهدي ويحيى بن معين وكذبه المعتمد بن سليمان وقال يحيى القطان ما رأيت أحدا يذكره إلا بخير وما تركه أحد وقال أحمد بن حنبل هو ثقة وقال ابن عدي هو عندي صدوق لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به وقال أبو زرعه لين) السدي أيضاً محل شك.


ننظر في متن الرواية:

أولاً: أكثر مستحقة للقتل من قريش يوم فتح مكـة كانت هند وعبدها الوحشي
بسبب ما ارتكباه من قتل حمزة رضي الله عنه عم النبي و التمثيل بجثته، و رغـم ذلك

الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم، فكيف يقتل من هم أقل منهما إجراماً؟
ثانياً: نعرف قصة اليهودية التي أرادت قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر
بدس السم له، ورغم ذلك لم يأمر المصطفى بقتلها، فكيف يأمـر بقتل جارية تهجوه شعراً؟
ثالثاً: حكاية عبد الله بن أبي سرح وتستحق وقفة لوحدها: في كتاب [أسد الغابة في معرفة الصحابة] لابن الأثير يقول عن عبد الله بن أبي سرح أنه اعتنق الإسلام قبل فتح مكة، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان يكتب الوحي للرسول قبل أن يرتد ويعود إلى مكة، وهناك قال لقريش: (كان محمد يملي عليّ عزيز حكيم) فأكتبها (عليم حكيم) فيوافق الرسول ويقول نعم كل سواء.
كما نرى فعبد الله بن أبي سرح اعتنق لأول مرة الإسلام في المدينة ثم ارتد وعاد لمكة. تربط كتب التفاسير بين عبد الله بن أبي سرح، وبين آية سورة الأنعام التالية: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ..) الأنعام 93.
هذه الآية كما يقول جلال الدين السيوطي في كتابه [ الإتقان في علوم القرآن ] في الجزء الخاص بمعرفة السور المكية من المدنية، نزلت في مكة قبل الهجرة - سورة الأنعام كلها نزلت في مكة - ثم يستبعد السيوطي قول بن الحصار بأن بعضها نزل بالمدينة قائلاً: (قال ابن الحصار‏:‏ استثنى منها تسع آيات ولا يصح به نقل خصوصاً مع ما قد ورد أنها نزلت جملة‏). نفهم من ذلك أن هذه السورة نزلت قبل إسلام ابن أبي سرح فهل كان كاتباً للوحي وهو مشرك؟
نستنتج من ذلك أن الآية لا توجد علاقة بينها وبين ابن أبي سرح فهي نزلت في مكة قبل اعتناقه الإسلام لأول مرة، وفي الغالب نزلت في مسيلمة أو أحد أحباراليهود كما تذكر كتب التفاسير الأخرى.
الإمام الطبري ينقل في تفسيره للآية (93) من سورة المؤمنون عن عكرمة أن عبد
الله بن أبي سرح رجع للإسلام مرة أخرى بعد ارتداده قبل فتح مكة - أكرر قبل فتح

مكة- والرواية هكذا: (حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن ابن جريج عن عكرمة قوله و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء قال نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة فيما كان يسجع ويتكهن به ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخي بني عامر بن لؤي كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي عزيز حكيم فيكتب غفور رحيم فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حول فيقول نعم سواء، فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم فأحوله ثم أقول لما أكتب فيقول نعم سواء، ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة ..). وإن صحت رواية عكرمة، فكيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، وقد كان مسلماً وقتها ؟!
رواية الإمام النسائي تقول أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن أبي سرح، فجاءه عثمان رضي الله عنه يطلب استئمانه ومبايعته على العودة للإسلام، فلم يقبل الرسول أن يبايعه. وهذا أمر يدعو للحيرة. لماذا لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعته رغم أن عثمان أمّنه؟! ثم بعد ذلك يتركه الرسول صلى الله عليه وسلم يرحل بدون عقاب، رغم أنه أمر بعقابه في البداية ورفض مبايعته. والرسول لا يعاقب سوى من يستحق العقاب، فلماذا لم يتمسك النبي الكريم بمعاقبته؟! في الحقيقة هذه الأمور من الصعب أن تمر بدون نقد.
شيء أخير أقوله: هل كان عبد الله بن أبي سرح من كتًاب الوحي حقاً ؟ الحافظ
العراقي يقول في ألفية السيرة النبوية وهو يعدد أسماء كتّاب الوحي المعروفين:

وأعدد جهيما والعلا بن عتبة كذا حصين بن نمير أثبت
وذكـروا ثلاثة قـد كتبـوا وارتد كل واحد و انقلبوا
ابن أبي سرح مع ابن خطـل وآخـر أبهم لم يسمى لي
ولم يعد منهم إلى الدين سوى ابن أبي سرح وباقيهم غوى
الحافظ العراقي كما نرى فبعد أن عدّد (42) كاتباً للوحي يقول عن بن أبي سرح (وذكروا) وهذا معناه أنه ليس متأكداً من هذا الأمر. وإذا عرفنا أنه ارتد بعد إسلامه بيسير مشركاً إلى مكة فمتى كتب الوحـي إذن؟ وكيف اختاره الرسول أصلاً؟
ثم أن الكاتب يتقمص دور الراوي، وينقل بلسانه رواية أن ابن أبي سرح كان يغير في الوحي وكأنه شهد ورأى كل شيء، رغم أن مصادر حكاية بن أبي سرح تنقل الكلام على لسان ابن أبي سرح وقت أن كان مشركاً، وليس لسان الرسول، لو كان بن أبي سرح تأكد من عدم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم كما يريد منا الكاتب أن نفهم، فكيف عاد للإسلام وتمسك به وقاتل في سبيله؟




يقول الكاتب:



(وهذه لم تكن أول مرة يأمر فيها النبي بقتل من هجاه أو أغضبه. فقد أمر بقتل النضر بن الحارث من بني عبد الدار بن قصي من قريش، وهم من أقربائه، (وكان النضر علي علم بقصص الأنبياء وقصص أهل فارس، فكان يعقب النبي في مجالسه بمكة ويقول للأعراب: انا أقص عليكم قصصاً أحسن من قصص محمد. وكان يقص عليهم أخبار ملوك فارس وقصص أنبياء اليهود. فلما وقع النضر أسيرا في غزوة بدر، أمر الرسول بقتله، وكان من نصيب المقداد بن عمرو. فلما أمر الرسول بقتله وكان المقداد يطمع في الفداء، قال المقداد للرسول: هذا الرجل أسيري ويحق لي ان افاديه. فقال الرسول له: هل نسيت ما قال هذا الفاسق عن الإسلام. فقتلوه في الاثيل.)

قال ابن إسحاق:‏‏ حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قتل النضر بن الحارث، قتله علي بن أبي طالب، كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة. طبعاً عبارة (بعض أهل العلم) ليست سنداً فرواية أبن اسحق بدون إسناد.
نقرأ في أخبار مكة: (وحدثني حسن بن حسين الأزدي قال ثنا محمد بن سهل قال ثنا هشام عن محرز بن جعفر عن عمرو بن أمية الضمري قال ابن سهل وذكره الواقدي أيضاً، قال كانت قريش إنما تغني ويغنى لها النصب نصب الأعراب لا ذلك حتى قدم النضر بن الحارث وافداً على كسرى، فمر على الحيرة فتعلم ضرب كان البربط، وغنى العباد فعلم أهل مكة. وفيه نزلت ومن الناس من يشتري لهو الحديث. هذه الرواية: "اسناده متروك".
الإمام الطبري رحمه الله يذكر أيضاً شيئاً شبيهاً في تفسيره [جامع البيان]، وهو يفسر هذه الآية من سورة الفرقان: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) الفرقان 5. فلنقرأ ماذا يقول: (ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وأنه المعني بقوله وقالوا أساطير الأولين ذكر من قال ذلك حدثنا أبو كريب قال ثنا يونس بن بكير قال ثنا محمد بن إسحاق قال ثنا شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة عن ابن عباس، قال كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة تعلم بها أحاديث ملوك فارس وأحاديث رستم وأسفنديار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا فذكر بالله وحدث قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله خلفه في مجلسه، إذا قام ثم يقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول ما محمد أحسن حديثاً مني قال. فأنزل الله تبارك وتعالى في النضر ثماني آيات من القرآن قوله: (وإذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) وكل ما ذكر فيه الأساطير في القرآن).
كما ترون فإسناد الرواية فيه راو مجهول هو (شيخ من أهل مصر).
ثم ينقل الطبري رواية بسند آخر: (حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة عن ابن اسحاق
قال ثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس نحوه، إلا أنه جعل قوله، فأنزل الله في النضر ثماني آيات عن ابن إسحاق عن أبي صالح عن ابن عباس حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن ابن جريج "أساطير الأولين" أشعارهم وكهانتهم. وقالها النضر بن الحارث نرى أيضاً عبارة (سعيد أو عكرمة) تجعل الإسناد محل شك. حتى (محمد بن أبي محمد) راو مجهول قال عنه الحافظ الذهبي (لا يعرف) وقال عنه الحافظ بن حجر في [التقريب] (مجهول).
أما الصيغة التي ينقل بها الكاتب الرواية، فلا أعرف من أين جاء بها، وهو تكتم على مصدره ولم يذكره لنا هذه المرة.


يقول الكاتب:


(وفي سنة خمس بعث الرسول زيد بن حارثة إلى وادي القرى فلقي بني فزارة، فأصيب عدد من أصحابه وجُرح زيد. فلما رجع إلى المدينة نذر إلا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة. فلما شُفـي من جراحه بعثه الرسـول في جيش إلى بني فزارة فلقيهم بوادي القرى فأصاب فيهم واسر أم قَرفة – وهي فاطمة بنت ربيعة بن بدر – عجوزاً كبيرة وبنتها، وكان العرب يضربون المثل بأم قرفة لعزتها فيقولون: أعز من أم قَرفة. وقال الأصمعي: من أمثالهم في العزة والمنعة: أمنع من أم قَرفة. وكان النبي يقول لأهل مكة: أرأيتم لأن قتلتُ أم قرفة؟ فيقولون: أيكون ذلك؟ فأمر النبي زيد بن حارثة ان يقتل أم قرفة، فقتلها قتلاً عنيفاً، ربط برجليها حبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقاها. فأمر النبي بالطواف برأسها في دروب وأزقة المدينة.)


يقول الذهبي عن يحيي بن محمد أحد رواة هذه الواقعة في كتابه [ميزان الاعتدال في نقد الرجال ]: (يحيى بن محمد بن عباد بن هانئ الشجري أبو إبراهيم عن ابن إسحاق ضعفه أبو حاتم الرازي، وقال إذنه في حديثه مناكير أو أغاليط، وكان ضريراً فيما بلغني يلقن ثم قال حدثنا محمد بن أيوب حدثنا إبراهيم عن محمد بن عباد بن هانئ الشجري حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، فذكر حديثاً وبه عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي عليه السلام بلغه أن امرأة من بني فزارة يقال لها أم قرفة جهزت ثلاثين راكباً من ولدها وولد ولدها، فقالت أقدموا المدينة فاقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال اللهم أنكلها ولدها، وبعث إليهـم زيد بن حارثة فقتل بني فزارة و قتل ولد أم قرفة وبعث بدرعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصبه بين رمحين) قلت: هذا حديث منكر تفرد به إبراهيم عن أبيه).
روايات أخرى تقول أن أبا بكر قتل أم قرفة، وهي أيضاً روايات غير صحيحة.
وورد أيضاً في سنن البيهقي الكبرى: (ثنا أحمد بن إسحاق بن بهلول ثنا أبي ثنا محمد بن عيسى عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز، ثم أن أبا بكر قتل أم قرفة الفزارية في ردتها قتلة مثلة شد رجليها بفرسين، ثم صاح بهما فشقاها).
سعيد بن عبد العزيز لم يدرك أبا بكر فالإسناد منقطع. أما المتن فلا يستحق التعليق.
أود أن أعلق أيضاً على الأشعار التي أوردها محمد بن اسحق في السيرة، لأني رأيت الكاتب يكرر كثيراً اقتباساته منها؛ كل الأشعار التي ألحقها محمد بن اسحق بالسيرة تقريباً غير حقيقية، وتم تأليفها.
يقول ابن سلام عن أشعار محمد بن اسحق: (كتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عادٍ وثمود َ، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنَّما هو كلامٌ مؤلَّفٌ معقودٌ بقَوَافٍ).


يقول الكاتب:


(ويبدو ان الاغتيالات السياسية كانت متفشية في زمن النبي. ففي السنة الثانية للهجرة بعث الرسول عبد الله بن عُقبة ليغتال ابا رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي وكان سبب قتله انه كان يظاهر كعب بن الاشرف على الرسول. فدخل عبد الله الحصن وكمن تحت حمار إلى ان أغلق البواب أبواب الحصن وعلق المفاتيح من داخل الباب. وكان أبو رافع يسمر مع أصحابه، فلما تفرقوا عنه، اخذ عبد الله بن عقبة المفاتيح وصعد إليه. ويقول عبد الله: فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته عليّ من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا اليّ حتى اقتله. قال: فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا ادري أين هو من البيت! قلت: أيا رافع! قال: من هذا ؟ قال: فاهويت نحو الصوت فاضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أعي شيئا، ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخرجته من ظهره.)


سأذكر شيئاً عن منهج المبشرين والمستشرقين الذين ينقل عنهم الكاتب في قراءة الأحداث.
المستشرق أو المبشر ينتهج واحد من ثلاثة طرق عند كتابته عن الإسلام:
- التمسك بالروايات الشاذة والضعيفة، ويغض الطرف تماماً عن الروايات الصحيحة.
- يفترض من البداية سوء النية، ويسبح بخياله لاختراع أحداث يضيفها على النصوص تساعده في إسقاط أوهامه على الإسلام.
- يغير في المسميات ويتلاعب بالألفاظ، فعندما يجد مقتل فلان يسميه (اغتيال سياسي) وعندما يجد خلافاً بين الصحابة يسميه (تآمر سياسي).
بالنسبة لسلام بن أبي الحقيق فقد كان من يهود بني النضير الذي أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد أكثر من واقعة خيانة - لاحظوا أنهم حاولوا قتل الرسول رغم وجود معاهدة أمان معهم - لكن الرجل لم يرحل بل التحق بيهود خيبر. ومن هنا تبدأ الحكاية.
ابن أبى الحقيق هذا ذهب-كما قلنا من قبل- لقريش يدعوهم لتجهيز جيش لاستئصال المسلمين، ووعدهم بالمؤازرة، وكان هو من أسباب اندلاع غزوة الأحزاب هو أيضاً كان ممن قاتلوا ضد المسلمين في غزوة الأحزاب.
ورغم انهزام الأحزاب إلا أن الرجل كان مصدر تحريض وتأليب للقبائل ضد المسلمين بشكل لا ينتهي. نفهم من ذلك أن الرجل كان محارباً، وكان خائن لعهده مع المسلمين، وكان مبادراً لعداوتهم. هذا أولاً. وثانياً: أن فترة قتله كانت فترة حرب وليست سلم. وثالثاً: إن الأمر بقتله لم يكن سوى إعلان الحرب عليه، وخرج في ذلك سرية من خمس رجال بقيادة عبد الله بن عتيك في شكل معركة صغيرة لتجنب زيادة القتلى.
كما رأينا أن قتل أبي الحقيق كان في وقت حرب وكان مثل أي قتال بين المسلمين ومنبادرهم بالعداء فلماذا يسميه الكاتب (اغتيال سياسي)؟ لفظ اغتيال ليس من اختراعه، بل تقرؤه أيضاً عند المبشر الانجليزي (توماس مور). إنه إسقاطات على الروايات، لخلق بعض الإثارة تساعد في تبشيع الصورة وتنفير الناس.
أقول أن قتل سلام بن أبي الحقيق وكعب ابن الأشرف لم يكن "اغتيالاً سياسياً" بل معاقبة لمجرمي حرب. طالما أن الأمر هو حرب ألفاظ.



يقول الكاتب:



(واليهودي الأخر، كعب بن الاشرف لم يكن أحسن حظاً. فهو كان يهجو النبي ويألب قريشاً ضده. قال ابن إسحاق: قال النبي : من لابن الاشرف؟ فقال له محمد بن مسلمة اخو بني عبد الاشهل: انا لك به يا رسول الله انا اقتله. فقال له الرسول : افعل ان قدرت على ذلك. فرجع محمد بن مسلمة ، فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب الا مايعلق نفسه. فذُكر ذلك لرسول الله، فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب ؟ فقال: يا رسول الله قلت لك قولاً لا ادري هل أفي به أم لا. قال له الرسول: إنما عليك الجهد. فذهب ابن مسلمة ومعه سلكان بن سلامة بن وقش، وكان أخا لكعب من الرضاعة. ومشى معهم رسول الله إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم اعنهم ". ثم رجع إلى بيته. وعندما وصلوا حصن كعب بن الاشرف نادى عليه سلكان فنزل إليهم كعب في ملحفته، وكان عريساً، وخرجوا يتمشون فهجموا عليه بسيوفهـم وقتلوه. )


مازال الكاتب يسمي حادثة مقتل كعب بن الاشرف بـ (اغتيال سياسي).
يدرجها البخاري مثلاً في باب (المغازي) فهي معركة صغيرة، ولم تكن فترة سلم، ولكن الكاتب يقلد (توماس مور) وينعتها أيضاً بـ (اغتيال سياسي).
موقف كعب ابن الأشرف مثل ابن أبي الحقيق تماماً. كعب كان من رجال بني النضير، وكان متفقاً مع المسلمين بمعاهدة حماية مشتركة عن المدينة، واتفاق على ألاّ ينصر اليهود قريشاً، أو يعينوهم على المسلمين.
يقول الحافظ بن حجر في [فتح الباري]: (أخرج ابن عائذ من طريق الكلبي أن كعب ابن الأشرف قدم على مشركي قريش فحالفهم عند أستار الكعبة على قتل المسلمين). ومن طريق أبي الأسود عن عروة‏: (‏أنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويحرض قريشا عليهم، وأنه لما قدم على قريش قالوا له‏:‏ أديننا أهدى أم دين محمد‏؟‏ قال‏:‏ دينكم‏).
في كتاب [الفوائد] لعبد الله بن اسحق الخراساني (وهو أنه صنع طعاماً و واطأ جماعة من اليهود أنه يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوليمة، فإذا حضر فتكوا به. ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل بما أضمروه بعد أن جالسه، فقام فستره جبريل بجناحه فخرج، فلما فقدوه تفرقوا، فقال حينئذ‏:‏ من ينتدب لقتل كعب‏) وللأمانة العلمية، فإسناد هذه الرواية فيه ضعف.
كان من الممكن أن يتخذ المسلمون ما فعله كعب ذريعة لشن حرب عليه وعلى قومه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يعاقب الجميع بما فعله السفهاء منهم. ربما يرى البعض أن محمد بن مسلمة لجأ في قتله لخدعة، ولكن هذا لا يغير من الأمر شيء. محمد بن مسلمة اختار أبسط طريقة تجنباً لإراقة دماء كثيرة. ربما لو كان شخصاً مثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مكانه لاختار طريقة أخرى لقتله، مثل أن يدعوه للمبارزة أو شيء آخر يتناسب مع قوته. ولكن الأمر في النهاية لا يخرج عن معاقبة مجرم حرب آخر.


يقول الكاتب:
(وفي النخلة كان خالد بن سفيان الهذلي يألب بني هذيل ضد النبي فأرسل النبي عبد الله ين أنيس الجهني ليقتله، وقال له: انه قد بلغني ان خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني، فائته فأقتله. فلما أتاه سأله خالد: من الرجل؟ قال: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. فقال خالد: اجل انا في ذلك. فسار معه عدة خطوات وحمل عبد الله عليه بسيفه فقتله وحمل رأسه للنبي.)


مازال أمامنا الكثير من روايات الكاتب الغير صحيحة. هذه الرواية ذكرها أحمد وأبو داود وفي سندهما راو مجهول هو ابن عبد الله بن أنيس، وذكرها الطبراني بإسناد فيه لوازع بن واقد، وهو متروك الحديث. رواية أخرى ساقطة، ولن تكون الأخيرة.


يقول الكاتب:


(كان أبو عفك رجلاً مسناً، قيل ان عمره كان عشرين ومائة عام، قال شعراً هجا به النبي، فقال النبي: من لي بهذا الرجل؟ فتطوع سالم بن عمير لقتله. فسار إليه سالم وقتله، فأثار هذا العمل حفيظه شاعرة اسمها أسماء بنت مروان، فقالت شعراً هجت فيه النبي. فأرسل النبي إليها عمير بن عُدي الذي تسلل إلى خيمتها ليلاً وهي ترضع وليدها فقتلها.)


سنتأكد من صحة الروايتين مرة أخرى. رواية (أبو عفك) ذكرها ابن اسحق في السيرة ونقلها عنه ابن هشام، وكذلك فعل محمد بن عمر الواقدي ونقلها تابعه ابن سعد في الطبقات، ولكن المفاجأة أنها بدون إسناد معتير! الواقدي يذكرها هكذا: (سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ، وَحَدّثَنَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَشْيَاخِهِ). هذا طبعاً ليس إسناداً، فمن هم أشياخه. فمدار الرواية كله على الواقدي.
ابن اسحق والواقدي عاشا في القرن الثاني الهجري ولم يسمعا عن النبي ولم يشهدوا الحدث كما نعلم، لذلك الرواية ساقطة ولا أساس لها.
نأتي للرواية الأخرى عن عصماء بنت مروان - وليست أسماء كما يقول الكاتب- القصة مذكورة في طبقات بن سعد ينقلها عن الواقدي. ابن عدي ذكر في كتابه [الكامل في ضعفاء الرجال] إسناداً للرواية وفيه (محمد بن الحجاج اللخمي) وهو متروك الحديث، ومتهم بتلفيق القصة، بل وتلفيق الإسناد كله. كذلك يذكر ابن الجوزي نفس الشيء في كتابه [العلل].
ونقرأ عن اللخمي في ميزان [الاعتدال] للذهبي قال البخاري: (منكر الحديث), قال ابن معين: (كذاب خبيث), وقال الدار قطني : (كذاب).
كما ترون الروايتان ملفقتان ولا أساس لهما.
ومع ذلك سنناقش متن الروايتين: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل النساء والشيوخ؟ ألم ينهى عن قتل اليهودية التي دست له السم في الطعام تريد قتله؟ ألم ينهى عن قتل النساء والشيوخ في المعارك صلى الله عليه وسلم؟ ألم يقتدي بسنته الخليفة أبو بكر رضي الله عنه ويوصي الجيوش الإسلامية بعدم التعرض للأطفال والنساء والشيوخ ورهبان الصوامع؟ الروايتان ساقطتان متناً وسنداً، ورغم ذلك فالكاتب يستشهد بها.



يقول الكاتب:


(وفي سنة ثمانية للهجرة عندما كان النبي يجهز لحملته ضد الروم، تناهى إلى سمعه ان بعض الرجال كانوا مجتمعين في بيت يهودي اسمه شويلم وكانوا يخططون لمعارضة الحملة، فأرسل النبي طلحة بن عبيد الله مع عدد من الرجال ليحاصروا المنزل ويحرقوه. رجل واحد فقط استطاع ان ينجو من المنزل وكسر رجله في محاولته الهروب من النار.)



سأكون سعيداً لو أخبرنا الكاتب بمصدر هذه القصة، فهو لم يذكره هذه المرة أيضاً.
يبقى شيء أخير لابد أن أذكره في النهاية : إذا كانت الكثير من الأخبار والقصص المذكورة في كتب السيرة مفبركة, فلماذا كتبها المسلمون؟
الإجابة: لابد أن نعرف أن كثير من الكتاب الأوائل كانوا مهتمين بجمع أكبر قدر من الروايات بدون توثيق خوفاً من ضياعها. وتركوا مسألة التأكد من صحتها للأجيال القادمة.
هذا ما يلخصه الحافظ العراقي في [ ألفية السيرة النبوية] فيقول:

من نظم سيرة النبي الأمجـد ألفيـة حاوية للمقصـد
وليعلم الطالـب أن السيرا تجمع ما صح وما قد أنكرا
القصد ذكر ما أتى أهل السير بـه و إن إسناده لم يعتبر

أزواج النـبـي (ص)يقول الكاتب:


(يقول مشائخ الدين أن النبي تزوج كل هؤلاء النسوة ليستميل القبائل إليه لنصرته. ولكن التاريخ يقول غير ذلك. فالنبي كان في اضعف موقف لما كان في مكـة وكانت قريش
تحاربه وتضطهده. وظل في مكة ثلاث عشرة سنة بعد بدء الرسالة وهو مضطهد. لكنه ظل طوال هذه المدة مع خديجة لم يتزوج غيرها حتى ماتت قبل ثلاث سنوات من هجرته إلى المدينة. وعندما هاجر إلى المدينة أصبح في حمى الأوس والخزرج ولم يمضي وقت طويل حتى خضعت الغالبية العظمى من القبائل له وأصبح في موقف لا تستطيع اي قبيلة أن تهدده، وأصبح غنياً بعد كل الأنفال التي جمعها المسلمون من الغزوات. و من ثم كان جل زواجه في
المدينة ما عدا عائشة بنت أبي بكر، تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة لكنه لم يدخل بها إلا بعد أن هاجر إلى المدينة. وتقول بعض الروايات انه تزوج كذلك سؤدة بنت زمعة بن قيس في مكة. فلننظر إلى نسائه، تزوج عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وكان الاثنان، ابوبكر وعمر، أول من آمن به وكليهما من قريش، فلو كان بالإمكان استمالة قريش له لفعلا ذلك دون ان يتزوج بنتيهما. فزواجه من عائشة وحفصة لم يكن، إذا، لاستمالة قريش، ولكنه قد يكون مكافأةً لأبي بكر وعمر لنصرته والائمان به. ثم تزوج جويرية بنت الحارث وصفية بنت حُيي اليهوديتان بعد ان قتل زوجيهما واعداداً كبيرة من رجال بني قريظة وبني النضير، فهذا الزواج كذلك لم يكن لاستمالة القبائل اليهودية لأنه شن عليهم الحرب واجلاهم عن المدينة وقتل رجال بني قريظة قبل ان يأسر ويتزوج جويرية وصفية. ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي بالحبشة، وليس من المعقول ان يستميل مثل هذا الزواج أبا سفيان الذي ظل يكن العداء لمحمد وللاسلام رغم زواج ابنته من مسلم وهجرتها إلى الحبشة، بل بالعكس، قد يكون إسلام ابنته وهجرتها قد زاد من كراهيته للنبي، وزواج محمد منها لا يمكن إلا ان يكون قد زاد من هذه الكراهية.)

قد تصاب بالدهشة عندما تجد المسيحيين ينتقدون تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، برغم من أن الكثير من الآباء والأنبياء في الكتاب المقدس كانوا كذلك.
على أية حال الكاتب يفترض أن كل زيجات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لاستمالة قبائل العرب؟ لا أعرف في الحقيقة أحداً من المسلمين قال بذلك. ربما ينطبق هذا على بعض الزيجات فعلاً، ولكن ليس كلها بطبيعة الحال. زيجات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت واحدة من المسئوليات والأعباء الكثيرة، التي حملها على عاتقه صلى الله عليه وسلم.
السيدة أم سلمة مات زوجها بعد ان جرح في معركة أحد، والسيدة أم حبيبة تركها زوجها وارتد عن الإسلام، والسيدة سودة مات زوجها في الحبشة، والسيدة حفصة مات زوجها بجروحه لجهاده في سبيل الله. وكلهن رضي الله عنهن تركن الغالي والرخيص من أجل الإسلام، وهاجرن للحبشة وتركن أوطانهن. فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتركهن يتسولن، أو يطلبن الشفقة من أحد؟
كان عليه السلام كما عرفناه دائماً سبّاقاً لتحمل الأعباء، بدون أن ينتظر أن تجرح مشاعر إحداهن، فأعطاهن الله المكانة اللاتي يستحقنها كأمهات للمؤمنين.
أما بنات الملوك كالسيدة جويرية والسيدة صفية، فربما يكون زواج الرسول صلى الله عليه وسلم منهما كان لاستمالة يهود بني المصطلق وخيبر للإسلام، أو على الأقل لإنهاء موقف العداوة الغير مبرر من جانبهم، وحدث هذا بالفعل مع بني المصطلق، فأعتق المسلمون أسراهم لزواج النبي من جويرية، ودخل بعض منهم في الإسلام.
أما زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب بنت جحش، فلنا عنده وقفة. سبب هذا الزواج مذكور في سورة الأحزاب: ( لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ).
امرأة من علية القوم كالسيدة زينب تزوجت عبداً معتوقاً مثل زيد بن حارثة فهل هذا جائز؟ حسب (حمية الجاهلية) فهو غير مباح، ولكنه في الإسلام جائز. لأن التفضيل في الإسلام ليس بالنسب أو المال.
طلّق زيد السيدة زينب، وحسب (حمية الجاهلية) أصبحت السيدة زينب الآن في موقف لا تحسد عليه، فمن العار أن يتزوجها رجل من علية القوم، فهي الآن مطلقة عبد معتوق، وبالتالي فقدت مكانتها السابقة كامرأة من علية القوم. حسب (حمية الجاهلية) لا يجوز لرجل أن يتزوج من مطلقة عبده المعتوق، فهذا عار ولكنه في الإسلام ليس عاراً، فلا السيدة زينب فقدت مكانتها بزواجها من عبد معتوق، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مكانته بزواجه من مطلقة عبده المعتوق كما رأينا.
فالتشريع الإسلامي أعاد الناس لصوابهم فالكل عند الله سواء وهذا هو معنى: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ). لابد أن نفهم أن هذه الآية ليست هي التي حرمت التبني، وإن كانت مرتبطة به.
أحببت أن أوضح هذا، لأن كثيرين يخلطون بين هذه الآية وآية تحريم التبني الموجودة في نفس السورة والتي تقول: (..وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ - ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ...).
الإسلام لم يحرم كفالة اليتيم، كما يقول البعض، فلا يوجد تشريع في الدنيا حض على كفالة اليتيم مثل الإسلام.
الإسلام يمنع أن يطلق على الطفل اسم غير اسم أبيه الحقيقي، لأن ذلك ليس عدلاً ، فالعدل أن تنسبه لاسم أبيه الحقيقي (ذلك أقسط عند الله).



يقول الكاتب:


(أما زواج عائشة فقد ترك المفسرين وكُتاب السيرة في حيرة من أمرهم. إذ كيف يفسرون دخول رجل في الربعة والخمسين من عمره بطفلة في التاسعة من عمرها، كانت تتأرجح مع صديقاتها على أرجوحة أمام بيتها، وفي يدها جُميمة، اي لُعبة من لعب البنات؟ ولما توفي النبي كانت عائشة في الثامنة عشرة من عمرها، وحرّم عليها الزواج من بعده: "وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازدواجه من بعده أبدا.. سورة الأحزاب.)


لا يوجد حيرة ولسنا في حاجة أصلاً لتفسير شيء. كانت تجربة ناجحة بكل المقاييس، سواء بشهادته صلى الله عليه وسلم، أو بشهادة السيدة عائشة رضي الله عنها، أو أهل السيدة عائشة، أو المجتمع المحيط، أو حتى من أعدائه صلى الله عليه وسلم. الجميع يشهد أن التجربة ناجحة تماماً ولا أحد أبدى تعجباً أو استغراباً.
العقل البشري اعتاد أن يتعامل بمنهج القياس، فطالما العصر الحالي لا يشهد تجارب مماثلة، لذا فعقول البعض تراها تجربة غريبة، وتشعر بالاضطراب نحوها.
هذه الحالة ليست بدعة، فكل التقاليد القديمة كانت تعتبر أن سن زواج البنت هو
سن البلوغ، وما زال هذا التقليد سارياً في بعض المجتمعات للآن.
بالنسبة لسن زواجها - تسع سنوات - فأنا نفسي أشك في هذه الروايات. وكما ذكرنا من قبل فليس كل المرويات صحيحة. وحسب كتب السيرة فإن عائشة بنت أبي بكر كانت مخطوبة قبل ذلك لجبير بن المطعم بن عدي، وهذا يدل على أنها كانت ناضجة من حيث الأنوثة. وكان زواج الرسول منها اصلاً باقتراح من خولة بنت حكيم و أن هذا الزواج لم يثر انتقاداً من قبل أهل مكة الذين كانوا يتربصون للطعن في شخصية الرسول. مما يدل على كون هذه الظاهرة أمراً مقبولاً في حينها.
وأود أن أذكر بالمناسبة كتاب [دفاع عن الرسول ضد الفقهاء و المحدثين] للأستاذ صالح الورداني ينكر المؤلف فيه أن سن السيدة عائشة رضي الله عنها كان تسع سنوات وقت اقترانها بالرسول، بالاعتماد على مقارنة متن الروايات ببعضها. إلا أن الرجل يؤمن كثيراً بـ "نظرية المؤامرة".



بـعثـته

يقول الكاتب:


(كان اليهود في فلسطين وفي يثرب ينعتون من جاورهم من العرب ب "الأميين"، ولا يعنون بهذه الكلمة الجهل بالقراءة والكتابة، بل يعنون بها شيئاً بمعنى :" القوم" اي " كوييم" و "جوييم" وتعني هذه الكلمات في اللغة العبرية "الغرباء". لانهم في نظر أنفسهم أنهم هم شعب الله المختار الذي اختص بالوحي والنبوة، وما غيرهم هم الغرباء عنهم، ويعرفون عندهم بـ "Goyim" وهي صيغة الجمع من المفرد " كوي" "Goy". فكلمة " الأمي" و " الأميين" كلمة تطلق على كل من هو غير يهودي. فكلمة "أمي" مرادفة لكلمة "كوي" في العبرانية وكلمة "Ethnos" في اليونانية وتعني "الشعب" أو " الأمة". وقد ورد في القرآن: "فان حاجوك فقل: "أسلمت وجهي لله ومن اتبعن. وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين: أأسلمتم . والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى. أمـا الأميون فهم الذين لا كتاب لهم أي من
غير اليهود والنصارى. وكذلك ورد في سورة الجمعة، الآية الثانية "هو الذي بعث في الأميين
رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته". وكلمة العرب لا تعني فقط الذين في مكة والمدينة، فقد كان هناك عرب في الشام يدينون بالمسيحية وكان جزء كبير منهم يقرأ ويكتب، وكذلك عرب العراق كانوا على قدر كبير من العلم وعرب جنوب الجزيرة كانت القراءة والكتابة متفشية فيهم. وحتى مكة والمدينة كانت فيهما نسبة لا يستهان بها على علم بالقراءة والكتابة، خاصة الجاليات اليهودية. فهل نفهم أن كل هؤلاء لم يكن محمد قد بُعث فيهم لانهم لم يكونوا أميين؟ ولما كانت كلمة "أميين" تعني "كوييم" اي من امة غير يهودية، فيكون محمد قد بُعث لكل العرب المتعلمين منهم وغير المتعلمين.)


لا أفهم لماذا كل هذا التعقيد؟ الكاتب مصر على أن كلمة (أمي) تطلق على من هم (غير يهود) وليس على من لا يجيدون القراءة والكتابة. مع أن ما ورد في سورة البقرة ، وماذ تقوله عن بني إسرائيل نثبت خطأ الكاتب: (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ - أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ – وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ همْ إِلاَّيَظُنُّونَ) البقرة 75- 78.
ها هو القرآن يقول أن بني إسرائيل منهم (أميون لا يعلمون الكتاب). إذا كانت (أمي) معناها (غير اليهود) كما يقول الكاتب فهل كان القرآن يصف اليهود بأنهـم غير يهود؟! وما قوله في هذه الآية أيضاً: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) 48 العنكبوت. هذه الآية مكية ولم نسمع أن مشركي مكة كذّبوها قط هذا فضلاً عن المسلمين الأوائل. الجميع كان يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب أو يقرأ قبل نزول القرآن.



يقول الكاتب:

(ونحن نعلم أن محمداً كان يسافر في تجارته إلى الشام وكـان يلتقي أحبار اليهود ورهبان
النصارى هناك ويستمع إليهم، وفي طريق عودته للحجاز كان يمر بأرض ثمود وعاد ولا بد انه سمع قصصهم وما آلوا إليه.)


من أين يعلم وماهي مصادره؟ وهو يتحدث بصيغة يقينية (ونحن نعلم) هل هو يعول على قصة الراهب (بحيرى) الواردة في كتب السيرة، وتذكر أن محمداً صلى الله عليه وسلم قابله وهو في الثانية عشر من عمره عندما صاحب عمه أبو طالب إلى بلاد الشام؟ المنطق يمنعنا أن نأخذ بهذه المقابلة العابرة واعتبارها مصدراً لتعليم النبي محمد. وهناك أكثر من سبب يجعلنا نشكك في هذه الحادثة، بالرغم من أن ثبوتها يعني ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه بعد المقابلة - كما تتحدث الرويات - خلص الراهب إلى نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وتوقع بعثة هذا الشاب رسولاً في المستقبل.
وحتى بعض المستشرقين شكك في صحة هذه الواقعة. يقول هوارت: (لا تسمح النصوص العربية التي عثر عليها ونشرت وبحثت منذ ذلك الوقت بأن نرى في الدور المسند إلى هذا الراهب السوري إلاّ مجرد قصة من نسج الخيال) - مقال بعنوان مصدر جديد للقرآن- في الجريدة الأسيوية 1904.


يقول الكاتب:


(وكان يخرج إلى حراء في كل عام شهراً من السنة يتنسك فيه، وكان هذا من نُسك قريش في الجاهلية، وكان إذا فرغ من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة. فاعتكافه شهراً كاملاً في غار حراء يستدعي أن يكون معه رفقاء يستأنس بهم أو كتاب يدرسه، لانه لا
يُعقل أن يظل شهراً كاملاً معتكفاً بمفرده يتأمل في أمور العبادة، ولم تكن هناك صلاة تشغل وقته، دون أن يفقد صوابه. فإن لم يكن بمفرده، فمن كان معه بالغار؟ هل كان ورقة بن نوفل أو أحد الصبية النصارى، وهل كان يحاورهم في أمور دينهم؟ فكتب السيرة لا تخبرنا هل كان يتعبد منفرداً أم لا.)

أحياناً تمر بالإنسان فترات يحتاج فيها إلى أن يخلو بنفسه ويبتعد عن الناس، ليراجع في العزلة ما له وما عليه، وخاصة أذا كان يشعر بالغربة في محيطه الاجتماعي. من يقرئ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أنه لم يشارك حياة الجاهلية، فمن الطبيعي أن ينقطع عن لهوهم وعبثهم.
الكاتب يقول أن اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم لوحده شهراً كاملاً غير معقول، ثم يضيف أن كتب السيرة لا تخبرنا هل كان يتعبد منفرداً أم لا؟
نقول: أن كل كتب السيرة اتفقت على أنه كان يتعبد لوحده ماعدا عبارة وردت
وردت في سيرة ابن إسحاق تفيد انه كان يذهب إلى الغار مع زوجته خديجة، وهذا الرواية التي انفرد بها ابن إسحاق لم يقم عليها بالدليل؛ لأن الاعتكاف لا يكن متناسقاً مع وجود أهله، لذلك فالأصح رد ما ذكره ابن إسحاق.



يقول الكاتب:


(وكان في مكة في تلك الأيام جماعة من النصارى الغرباء النازحين لأسباب من الرق والتجارة والتبشير، ومنهم نفر كانوا على درجة من الفهم والمعرفة، يعرفون القراءة والكتابة. من هؤلاء رجل روى المفسرون ان اسمه "جبر" وانه كان غلاماً لعامر بن الحضرمي، وانه كان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان محمد يجلس إليه.)


الرجل لا يفعل شيئاً سوى بناء افتراضات ليدعم فكرته. الجميع يعلم أن مكة لم يكن بها نصارى لا للتبشير ولا غيره. هذا القول غير صحيح. بإمكان أي إنسان أن يقرأ حول مناطق انتشار المسيحية في جزيرة العرب قبل الإسلام وسيجد أن مكة لم تكن ضمن هذه المناطق. وتوجد بعض روايات تتحدث عن وجود بعض الرومان و الأحباش في مكة كبائعي الخمر أو كعمال ويقطنون في الإحياء الفقيرة (بلغة العصر) فهل من المعقول أن يتصور أحد، أن هؤلاء كانوا مبشرين!
أما جبر فكان غلاما نصرانياً أعجمياً مملوك لآل الحضرمي ولم يكن مبشراً ولا قسيساً. وكونه كان يعّلم الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن فهذا قول سخيف سخر منه القرآن. كيف لغلام صغير ينطق العربية بالكاد أن يقول مثل القرآن.
يبدو أن البعض يفتش عن أي صلة بين الرسول والنصارى ليزعم أنه كان نصرانياً.


يقول الكاتب:



(وفي أول مرة نزل فيها الوحي عليه لما كان بغار حراء، جاءه الملك فقال: اقرأ. فقال محمد: ما أنا بقارئ. قال: أخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: أقرأ. فقلت: ما
أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الاكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم.
وخرج محمد من غار حراء وهو يرتجف ودخل على خديجة فقال: زملوني زملوني. والذي يتضح من هذه القصة هو: إما أن يكون محمد قد كان نائماً في الغار فحلم بجبريل، أو خُيل إليه وهو صاحٍ، أن رجلاً أتى إليه وطلب منه ان يقرأ ثم غطه لما رفض ان يقرأ. وكون جبريل غطه وطلب منه أن يقرأ توحي لنا بأن جبريل كان عالماً بان محمداً يستطيع ان يقرأ لكنه رفض ان يقرأ، فغطه ثلاث مرات حتى خشي محمد على حياته، أو أن يكون جبريل يجهل ان محمداً لا يستطيع القراءة والكتابة، وإلا لما طلب منه ان يقرأ، وهذا أمر بعيد الاحتمال إذا ايقنا أن جبريل هو روح القدس والواسطة بين الله ومحمد. ونستطيع ان نقول ان محمداً كان يقرأ ويكتب ولذا طلب منه جبريل ان يقرأ، أو ان جبريل لم ينزل عليه وإنما خُيل له.)


رغم أن موضوع كلمة (أمي) ومعناها لا يقدم ولا يؤخر عندنا، إلا أن المستشرقين أعيوا أنفسهم حتى يثبتوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجيد القراءة والكتابة.
الكاتب يزعم أنه طالما أن جبريل عليه السلام قال للنبي (اقرأ) فهذا دليل على أن النبي كان يجيد القراءة! فات على الكاتب أن جبريل عليه السلام لم يسلم للرسول صلى الله عليه وسلم أوراق حتى يقرأها ؟ هل عندما أقول - فلان يقرؤك السلام - القراءة يجب أن تكون من أوراق مكتوبة؟ من يردد كلاماً وراء آخر فهو (يقرأ) ومن يردد كلاماً من الذاكرة فهو أيضاً (يقرأ) الأمر (اقرأ) هو أمر لاستعداد النبي صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة القادمة للناس. وهذا أمر ظننته مفهوماً.


يتبع ,,,

اخت مسلمة
10-05-2009, 10:17 PM
يقول الكاتب:

(وهناك دليل آخر أن محمد كان يقرأ ويكتب، فقد ذكر البخاري عن أبن عباس أن النبي لما حُضرَ، أي لما كان على فراش موته، وكان في البيت رجال، طلب منهم إحضار الدواة والقلم، وقال لهم: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً. فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتابُ الله. فهاهو الرسول يقول لهم: أكتب لكم كتاب، ولم يقل أُملي عليكم كتاب.)


إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أكتب لكم كتاباً" لا ينفي يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم كان سيملي ما يقول على أحد الحضور ليكتب ما يسمعه من رسول الله، خاصة أن صحته النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن لتسمح له بالكتابة, إلا أننا لن نعترض كثيراً على احتمال تعلمه صلى الله عليه وسلم الكتابة بمرور الزمن. ولكن الذي يهمنا في الأمر هو الفترة قبل نزول القرآن، التي لم يكن النبي يقرأ كتابا أو يكتب شيئاً: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) العنكبوت 48. كما تلاحظون فالآية الكريمة تقول (من قبله) ما الفائدة أن تقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم الكتابة قبل وفاته بقليل، وبعد نزول القرآن كاملاً؟ هذا لا يقدم في موضوعنا ولا يؤخر. لكي يبني المستشرقون نظرياتهم حول مصدر القرآن، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتبسه من قراءاته من الكتاب المقدس وكتب الإغريق والهنود، فلابد أولاً أن يثبتوا كونه صلى الله عليه وسلم كان يجيد القراءة والكتابة ، بل ويجيد بعض اللغات أيضاً في فترة شبابه، ناهيك عن امتلاكه مكتبة ضخمة من الكتب.
وحتى هذه اللحظة لم يقدم أحد دليلاً على هذه المزاعم. العرب أنفسهم كانوا أذكى من توريط أنفسهم في أمر خاسر كهذا. فالرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول القرآن لم يكن بقارئ ولا بكاتب لذلك ذهبوا إلى مزاعم أخرى قد تجد بعض النجاح مثل أن أحدهم يعلمه هذا الكلام: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) النحل 103.
الكاتب كان أذكى من الجميع وطفق يلعب على كل الحبال. في البداية كان يقول أن هناك من يعلمه القرآن. وإذا لم تفلح هذه فلا مانع أن يقول أنه كان يعلم نفسه لأنه كان يجيد القراءة والكتابة. وإذا لم تفلح هذه أيضاً، فلا مانع أن يكون الرسول مصاباً بالصرع.


انظروا ماذا يقول:

(ووصف كُتاب السيرة النبوية عن عائشة، ان محمداً عندما كان يأتيه الوحي كانت كل
أعضاء جسمه ترتجف لفترة من الزمن، ثم يتصبب عرقاً ثم ينام، وعندما يصحو من نومته يخبرهم بالوحي. ونحن كأطباء، نعلم أن هذه الأوصاف كلها، خاصةً صلصلة الجرس في ألاذن، من أعراض الصرع, وتُسمى " Aura" وعادةً تسبق هذه الأعراض التشنج الذي يحدث لمرضى الصرع. ولقد ذهب بعض المستشرقين وخاصة "جوستاف فيل " إلى أن محمداً كان يعاني من داء الصرع، واستشهدوا بأنه ولد وبصره شاخص إلى السماء .وإذا جاء المولود وبصره شاخص إلى السماء، وهو عكس الوضع الطبيعي للمولود، تتعثرعملية الولادة وتطول وغالباً ما يحدث نزيف بسيط في عدة أماكن من الدماغ تؤدي في بعض الحالات إلى حدوث الصرع في الشخص عندما يكبر.)


ولكن (غوستاف فيل)كان واسع الخيال يا دكتور. (فيل) كان طبيباً لذلك تأثر خياله كثيراً بمهنته.
مريض الصرع كما يعلم الجميع يخرج من النوبة فاقد الذاكرة مؤقتاً، ولا يشعر بمن حوله، أما أن يخرج مريض الصرع من نوبته يتلو قرآناً يؤمن به مليارات من البشر، فهذا شيء فات على جوستاف فيل!



يقول الكاتب:
(ويقال ان خديجة بعد ان زملت محمداً عندما جاءها يرتجف، ذهبت من توها إلى ابن عمهما ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله ان يكتب. فأخبرته بما حدث لمحمد، فقال ورقة بن نوفل لمحمد: يابن أخي، هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً، إذ يخرجك قومك. فقال الرسول: "أو مخرجي هم"؟ فقال: نعم. وان يدركني يومك انصرك نصراً مؤزّراً. وكان ورقة بن نوفل وقتها رجلاً مسناً اعمي. ولم يخطر ببال كُتّاب السيرة النبوية ان يسألوا أنفسهم: لماذا إذا لم يسلم ورقة بن نوفل في وقتها إذا عرف أن الذي نزل على محمد أنما هو الملك الذي نزل على موسى، وأن محمد نبي الله؟ واستمر الوحي لفترة من الزمن ثم توفي ورقة بن نوفل، فتوقف الوحي فترة من الزمن حتى حزن الرسول حزناً جعله يفكر في ان يلقي بنفسه من رؤوس شواهق الجبال. فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى لـه جبريل فقال: يا محمد انك رسول الله، فيسكن جأشه، فيرجع...

وهنـاك سؤالان
يفرضان نفسهما علي القارئ: لماذا حزن محمد على ورقة بن نوفل كل هذا الحزن حتى كاد يقتل نفسه، ولم يبد نفس الحزن عندما مات عمه أبو طالب الذي رباه وحماه من قريش؟ والسؤال الثاني: لماذا توقف الوحي بموت ورقة بن نوفل؟ هل حزن عليه جبريل كذلك وقرر

عدم النزول بالوحي؟ أم إن ورقة بن نوفل كان هو الوحي؟)


لن أعلق على موضوع أن ورقة بن نوفل كان يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، فهذا الأمر لا يستحق الرد. ولكن سأعلق فقط على قول الكاتب: (لماذا حزن محمد على ورقة بن نوفل كل هذا الحزن حتى كاد يقتل نفسه؟) .
أولاً: كل الروايات التي تنقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاد أن يلقي بنفسه من رؤوس شواهق الجبال هي روايات منقطعة الإسناد وليس لها وزن. ربما يقول قائل: ولكن إحدى هذه الروايات في صحيح البخاري؟ أقول نعم إحداها مكتوبة في صحيح البخاري، ولكنها ليست للبخاري! كيف ذلك؟
الإمام البخاري أخرج حديث عائشة في باب بدء الوحي حتى عبارة (وفتر الوحي)
ثم قال: (وزاد الزهري: حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى منه نفسه تبدى له جبريل...). كما تلاحظون هذه الزيادة ليست للبخاري، بل هي للزهري- مرسلة - وليس لها، أي وزن لذلك فلا تجدها أحياناً في بعض نسخ صحيح البخاري. طبعاً الكاتب لا يهتم بهذا كله، فلو وجد رواية منقولة عن إبليس نفسه لنقلها طالما فيها ما يؤيده.
ثانياً: هل كان حزن الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو مذكور في الرواية على وفاة ورقة، أم على انقطاع الوحي؟ كما هو واضح من الرواية فالحزن كان على انقطاع الوحي، أما وفاة ورقة فربما حزن الرسول لوفاته لفقدانه أحد أنصاره، وهذا شيء طبيعي.
تعرفون طبعاً أن علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بورقة بن نوفل لا تزيد عن أسطر قليلة في الكتب الإسلامية، و لكن كتبت فيها مجلدات ونظريات ومكتبات كاملة من جانب المستشرقين، وهي قصص شيقة حقاً، ولكنها تظل خيالاً أنتجه عقول أناس ضلوا طريقهم، واختاروا الإستشراق بالرغم من براعتهم الشديدة في كتابة السيناروهات.
كلمة أخيرة أنهي بها هذا الفصل: كتب السنة - ومنها الصحيحان - ليست كتباً مقدسة، وليست معصومة من الخطأ، لذلك فهي عرضة للنقد كغيرها من الكتب. ولكن الغير موضوعي هو التعرض لأصحاب هذه الكتب بالإساءة لدرجة اتهامهم في إسلامهم وعقيدتهم. هذا غير عادل أبداً، ولن يرضي أحدا ً.


الـقــــرآن



"القرآن يخرج دائماً منتصراً على منتقديه". بهذه الكلمات للدكتورعبد الرحمن بدوي أبدأ الفصل الرابع.



جمـع القــرآن



يقول الكاتب:


(وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح من كُتاب الوحي كذلك لفترة قبل ان يترك ويرتد عن الإسلام لأنه ادعى انه كان يقترح بعض التعديلات أثناء كتابته الوحي، وكان محمد يوافق عليها، مما جعله يقول لو كان هذا الوحي من عند الله لما وافق على تعديله.)



الكاتب يتحدث هنا عن افتراءات عبد الله بن أبي سرح على النبي صلى الله عليه وسلم في فترة ارتداده وكأنها حقيقة! قصة أن بن أبي سرح كان يكتب الوحي، ويقترح تعديلات فيه، هي قصة فبركها ابن أبي سرح أثناء ارتداده وعودته إلى مكة ليكسب ود المشركين. هذا أمر ظننته مفهوماً.
كنت قد قدمت نقداً لقصة عبد الله بن أبي سرح عند حديثي عن فتح مكة، وقلت أن كونه كان من كتّاب الوحي هي قصة مشكوك فيها، ورغم ذلك لو افترضنا صحتها فيجب أن نقرأها على لسانه هو، وليس على أنها حدث تاريخي يرويها راو ثالث الذي يتقمص الكاتب دوره.

الروايات هذه - لو صحت - فإنها تقول أن ابن أبي سرح بعد ارتداده و عودته
إلى مكة كان يتفاخر بين المشركين بأنه كان يكتب الوحي للنبي، وكان يغير في ألفاظه والنبي يوافقه. إذن الأمر كله كان محاولة منه لكسب ود المشركين ليسامحوه بعد أن كان خانهم من قبل، وهذا كله أمر طبيعي منه، لأنه كان يخشى أن يقتلوه. الروايات تنقل قوله وقت أن كان مشركاً ولا تروي واقعة حقيقية حدثت.
ومرة أخرى أطرح سؤالي على الكاتب: لو كان بن أبي سرح تأكد من عدم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف عاد للإسلام وتمسك به وقاتل في سبيله؟


يقول الكاتب:



(ولم يأمر محمد في حياته بجمع القرآن أو تبويبه، وإنما اكتفي بان القرآن محفوظ في صدور الرجال.)



هذا لأن الكاتب لا يعرف معنى كلمة (الجمع) عندما نقول أن القرآن كان له كتّاب للوحي يكتبون ما ينزل فهذا يسمى (جمع) عندما نقول أن جبريل عليه السلام راجع المكتوب من القرآن في العرضة الأخيرة فهذا يسمى (جمع).
أما كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجمع القرآن كله في مجلد واحد، فهذا لأن هذه التقنية لم تكن منتشرة بعد.




يقول الكاتب:

(ونحن لا نعرف بالتأكيد متى جُمع القرآن، لان أول شيء مكتوب ظهر عن جمع القران كان في كتاب "الطبقات" لابن سعد في عام 844 للميلاد، ثم البخاري عام870 للميلاد وصحيح مسلم عام 874 للميلاد. وإذا أخذنا في الاعتبار أن محمد توفي عام 632 للميلاد، تظهر لنا حقيقة هذا التاريخ الذي كُتب بعد مرور أكثر من مائتي عام بعد وفاة محمد وكله يعتمد على الإسناد من شخص سمع حديثاً ثم رواه لشخص آخر، وهكذا. وبما انه لم يكن هناك تاريخ مكتوب عن تلك الفترة، فالاعتماد على الإسناد لا يبعث الثغة في نفس القارئ. وهناك بلا شك أحاديث عديدة ملفقة ومنسوبة للنبي، بإسناد جيد. وحتى كتب الحديث المشهورة مثـل صحيح البخاري (توفي عام 238 هجرية) يصعب الاعتماد عليها لأنه جمعها
بعد حوالي مائتين عاماً بعد وفاة الرسول. ويقول المستشرق جولدزر "Goldziher" أنه لا يمكن القـول أن أي حديث هـو حديث صحيح قاله النبي، لان صناعة الحديث وصلت ذروتها في الدولة العباسية التي حاول خلفاؤها تبرير اغتصابهم الحكم من الأمويين، فأوعزوا
إلى علمائهم باختراع أحاديث تساندهم وتذم العلويين. وقد جمع بعض رواة الحديث أكثر من ثلاثمائة ألف حديث، بعضها مناقض لبعض. وأعتمد البخاري ألفين فقط من كل هذه الأحاديث واعتبر البقية منحولة. فإذا كذب الناس في الأحاديث المنسوبة للنبي، كيف نصدق رواياتهم عن جمع القرآن؟)



هذا فخ بالتأكيد. الكاتب يمهد هنا للقارئ أن القادم سيكون طريقة استنباطية بحتة، ولذلك فهو يريد أن يحيّد الأدلة الإسلامية ويزيحها من البداية. هو افترض من البداية شيئاً ما في ذهنه، وسيبحث بعد ذلك عما يؤيد هذا الافتراض، ولو كان ضعيفاً وسيرفض كل ما يؤيد الفرض ولو كان قوياً. كان يجب أن ينتبه طالما أنه لا يعترف بالإسلام، فليس أمامه إلا أحد خيارين:
- إما أن يرفض الروايات الإسلامية كلها بصحيحها و ضعيفها، ويقر بالقرآن الموجود الذي لا يختلف فيه مسلمان، ولا يحكم مزاجه في الانتقاء والفرز.
- وإما يأخذ بالمنهج الإسلامي الذي يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ). أما ما يفعله من قبول المرفوض ورفض المقبول، فهذا غير موضوعي.
نفس هذا الشيء فعله المستشرق (آرثر جفري) الذي قام باختراع منهج جديد وهو: رفض كل المصادر الإسلامية عن جمع القرآن باعتبارها مزورة، تحت غطاء نفس العبارة التي يقولها الكاتب: فإذا كذب الناس في الأحاديث المنسوبة للنبي، كيف نصدق رواياتهم عن جمع القرآن؟ ثم قرر أن يستند على مصدر واحد، هو كتاب [المصاحف] لابن أبي داود. ولم يقل لنا لماذا اختار هذا ورفض ذاك!
ثم لا يلتزم بهذا أيضاً فيتعامل مع كتاب [المصاحف] بمبدأ الفرز والانتقاء. وعندما
أخبره علماء المسلمين أنـه يستشهد بروايات ضعيفة الإسناد, رفـض شرط الإسناد
واعتبره من السهل تلفيقه .
ولأننا نعرف مـا يريده من البداية - فهو افترضه مسبقاً - فالسيد (جفري) هو صاحب الإدعاء الشهير الذي نعت به نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه "رئيس عصابة" في كتابه [البحث عن محمد التاريخي].
إذا كان التاريخ الإسلامي الموثق بأصح الأسانيد لا يصلح كمرجعية حول جمع القرآن, فما هي المصادر التي يقترحها لنعتمد عليها؟



يقول الكاتب:

(وهناك رواية أخرى في جمع القرآن تقول ان الذي جمعه هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ( 684 - 704) بمساعدة الحجاج بن يوسف. وذُكر أن الخليفة عبد الملك بن مروان قال: أخاف أن أموت في رمضان، ففيه وُلدتُ، وفيه فُطمتُ، وفيه جَمعتُ القرآن، وفيه انتخبت خليفة للمسلمين. وذكر جلال الدين السيوطي والثعالبي هذه القصة عن عبد الملك.)

لم يذكر لنا في أي كتاب للسيوطي أو الثعالبي. أنا بحثت في المتاح لدي فلم أجد شيئاً كهذا. على العموم حتى لو كانت موجودة فما قيمة رواية كهذه بجانب روايات في منتهى الوضوح لم يختلف حولها اثنان.
كان الكاتب لا يصدق المصادر الإسلامية في البداية، وهاهو يفعل نفس ما يفعله جفري. لماذا يقبل هذه الرواية - لو وجدت - ويرفض الصحيح؟



يقول الكاتب:

( أما الكندي، وكان نصرانياً وهو غير ابن الكندي المسلم، كتب في زمن خلافة المأمون سنة830 للميلاد، اي حوالي أربعين عاماً قبل أن يكتب البخاري، إلى صديق له مسلم و قال : ( الراهب بُحيرى " واسمه الأصلي سيرجياس Sergius" كان راهباً نسطورياً قد طُرد من كنيسته لذنب كان قد اقترفه، فذهب إلى جزيرة العرب متطوعاً ليكفر عن ذنبه. وهناك التقى محمداً وتجادل معه. وعند موت هذا الراهب التقى طبيبان يهوديان هما: عبد الله وكعب، محمداً وكان لهما اثر كبير عليه. وعند مـوت الرسول، وبإيعاز من اليهود، امتنع علي بن أبي
طالب من مبايعة أبي بكر للخلافة. و لما يئس من الخلافة، قدمّ نفسه إلى أبي بكر بعد أربعين يوماً من موت الرسول، وعندما بايع أبا بكر، سُئل علي: يا أبا الحسن، ماذا منعك حتى الآن؟ فرد عليهم: كنت مشغولاً بجمع كتاب الله الذي كلفني به رسول الله (ص). فقال بعض الحضور إن لديهم أجزاء من القرآن بحوزتهم. واتفق الحاضرون على ان يُجمع كل القرآن في كتاب واحد، فجمعوا كل ما استطاعوا عليه من صدور الرجال، مثـل سورة " براءة " التي أملاها عليهم احد أعراب البادية، وآيات أخرى من نفر آخرين، وكل ما وجدوه مكتوبا على ألواح من عظام أو جريد النخل أو حجارة . ثم جاء الحجاج بن يوسف وجمع كل المصاحف التي عثر عليها وحرقها، وكتب مصحفاً جديداً حذف منه أجزاء كثيرة كانت في مصحف عثمان، منها آيات كانت تخص الأمويين وفيها أسماء بعض الناس من بني أمية . ثم قال الكندي مخاطباً صديقه المسلم: (كل الذي ذكرت لك مأخوذ من ثقاة المسلمين، ولم أقدم اي أراء من عندي، وإنما ذكرت ما كان مبنيٍ على الأدلة المقبولة لكم.)


الكاتب الذي رفض كل المصادر الموجودة في التاريخ الإسلامي عن جمع القرآن، برغم أنه موثق ومدعوم بشكل لا يقبل النقاش، يأتي الآن ويستند على رسالة الكندي.
ترى من هو هذا الكندي الذي يعده الكاتب مصدراً غير قابل للنقاش؟
اشتهر في طليطلة في القرن العاشر الميلادي ما يسمى بـ (رسالة النصراني الشرقي) وهي عبارة عن مناظرة مكتوبة قالوا أن شخصاً مسلماً يدعي (عبدا لله بن إسماعيل الهاشمي) وكان قريباً من الخليفة المأمون كتب إلى صديق له نصراني يدعى (عبد المسيح بن إسحاق الكندي) يدعوه للإسلام ويعدد له مزاياه وفضائله، فكتب هذا الكندي رداً طويلاً يدافع فيه عن عقائد المسيحية، ويثبت فيه أن الإسلام ليس سوى دين وثني لا يجوز اعتناقه. وكان من ضمن ما كتبه هذا الكلام عن تحريف الحجاج للقرآن الذي ينقله لنا الكاتب عن ابن وراق.
طبعاً من البدهي أن تخمنوا أنه لم يوجد شخص اسمه الهاشمي ولا آخر يدعى الكندي، والأمر لم يكن أكثر من (بروباغندا) كانت الكنيسة تلجأ إليها للحفاظ على المسيحيين في الشرق من اعتناق الإسلام.

لا يوجد في التاريخ الإسلامي شخص نصراني يدعى (عبد المسيح الكندي) في عصر
الخليفة المأمون ولا أي خليفة غيره. البعض يرجح أن كاتب هذه الرسالة بالكامل هو الفيلسوف والطبيب المسيحي (يحيي بن عدي) ، الذي عاش في العراق في القرن الرابع الهجري. ولكن على أي حال لا احد يعرف تحديدا متى كتبت هذه الرسالة.
اكتسبت هذه الرسالة بالطبع شعبية في الغرب. فالطرف النصراني منتصر تماماً في المناظرة. ولكن طبعاً هذا ليس كافياً لجعلها مصدراً يستخرج منه الكاتب الدليل الجازم على صحة أقوالهم بالتحريف. الرسالة ترجمها للإنجليزية المبشر (وليام مور)، وهي موجودة على الكثير من مواقع الإنترنت المسيحية.
الملفت للنظر أن مستشرقاً بحجم (آرثرجفري) يستشهد بقول الكندي في موضوع تحريف الحجاج للقرآن رغم أنه يقول أن تاريخية هذه الرسالة تبقى محل شك. والكاتب يفعل الشيء ذاته، بدون أن يهتم أحد بتقديم دليل واحد. ماذا سيكون موقف الكاتب عندما يعرف أنه ينقل عن شخصية لم يتأكد من وجودها في التاريخ بعد؟
في هذه الرسالة يدعي السيد الكندي أن الحجاج جمع المصاحف وأحرقها، وكتب مصحفاً جديداً محرفاً، ولكن ألم يتساءل هذا الكندي كيف للحجاج أن يفعل ذلك وقد كان حاكماً على العراق فقط؟ كيف فعل الحجاج ذلك بدون أن يعرف المسلمون. هل خدّر الجميع؟! ثم هل المصاحف كانت حكراً على رجال العراق فقط، أم تراه كان يظن أن العامة كانوا ممنوعين من حفظ القرآن وتلاوته إلاّ بتصريح خاص من الحجاج؟ قول غريب، والأغرب أن ينقله البعض بدون تفكير! كان يجب على أي باحث موضوعي أن ينظر لرسالة الكندي على أنها واحدة من المجادلات الانفعالية المسيحية، ولا يعطيها أي أهمية، خاصة أن رسالته لم ترفق بأي مخطوطة من المخطوطات التي يزعم أن الحجاج أحرقها .
على العموم رسالة الكندي هذه في الغالب تنقل هذا القول من كتاب [المصاحف]

لابن أبي داود: (قال أبو بكر كان في كتاب أبي حدثنا رجل. فسألت أبي من هو؟
فقال حدثنا عباد بن صهيب عن عوف بن أبي جميلة أن الحجاج بن يوسف غيّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفاً.... إلخ . يبدو واضحاً أن هذه الرواية مفبركة نكاية في الحجاج.
(عباد بن صهيب البصري) هذا يقول عنه البخاري (تركوه). ويقول عنه النسائي في الضعفاء والمتروكين (متروك الحديث). ويقول عنه ابن حبان: (عباد بن صهيب, من أهل البصرة, يروي عن هشام عن عروة والأعمش – روى عنه العراقيون – كان قدرياً داعياً إلى القدر، ورغم ذلك يروي المناكير عن المشاهير التي إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة شهد لها بالوضع).
القصة ببساطة هي رواية مفبركة صاغها أحدهم انتقاماً من الحجاج. هذا كل شيء.



يقول الكاتب:

(وكانت هناك اختلافات في المصاحف، بعضها فيه زيادة وبعضها فيه نقصان.
فمثلاً في سورة المائدة الآية 89: "لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون اهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم". ويخبرنا الطبري أن أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود أضافا كلمة "متتالية"بعد الثلاثة أيام، وبذلك تصير الكفارة أصعب على المسلم إذ يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام متتالية.)


‏أولاً: الطبري يقول (متتابعات) وليس (متتالية). ترى عن أي طبري يتكلم الرجل؟!
ثانياً: هذه قراءة ليست متواترة، ولذلك فهي تجوز كتفسير فقط.
يقول الإمام الطبري: (فأما ما رُوي عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فذلك خلاف ما فـي مصاحفنا, وغير جائز لنا أن نشهد بشيء لـيس فـي مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. غير أني أختار للصائم فـي كفّـارة الـيمين أن يتابع بـين الأيام الثلاثة ولا يفرّق, لأنه لا خلاف بـين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفّارته. وهم فـي غير ذلك مختلفون ففعل ما لا يختلف في جوازه أحبّ إليّ وإن كان الآخر جائزاً).
لماذا الكاتب لم يكمل تعليق الطبري أم تراه ينقل من مصدر آخر!



يقول الكاتب:

(ويظهر أن محمداً كان يغير الآيات أو يضيف إليها إذا اشتكى بعض الناس أو سألوه سؤالاً، فمثلاً، كما يقول البخاري، لما نزلت الآية 95 من سورة النساء: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم..." اشتكى رجل اعمى (ابن أم مكتوم) للنبي قائلاً: أني أعمى ولن استطيع الجهاد ولذلك سيفضل الله المجاهدين عليّ. فأضُيفت إلى الآية "غير أولي الضرر" وأصبحت: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون". ويقول أبن عباس لما نزلت الآية 228 من سورة البقرة: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم ألآخر" قام معاذ (أي معاذ بن جبل) فقال: يا رسول الله: ما عدة اللائي يئسن من المحيض؟ وقام رجل آخر فقال: ألا رأيت يا رسول الله في اللائي لم يحضن للصغر ما عدتهن؟ فقام رجل آخر فقال: أرأيت يا رسول الله ما عدة الحوامل؟ فنزل "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن أرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن.)

سنوضح هنا لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة؟ ولماذا ارتبط بعضه بأحداث خاصة في حياة الرسول والمسلمين الأوائل؟ في البداية أنا أوافق على الآراء الجديدة التي تقترح تسمية (مناسبة النزول) بدلاً من تسمية (أسباب النزول).
لابد أن نعرف أن الجو العام وقت نزول القرآن كان مليئاً بالتساؤلات وكان الوحي يجيب على هذه التساؤلات باستمرار. كثيرة هي الآيات في القرآن التي تبدأ بـ (يسألونك عن) ثم تأمر الرسول (قل كذا). الآية عندما تتعلق بمناسبة وقت نزولها فهذا يعد أول تفعيل لمعنى الآية وأول ربط بين الآيات وواقع الإنسان. الكاتب يريد من الآيات أن تكون منفصلة عن واقع الحياة، ولا تتدخل في أحداث الإنسان.

إذا كان الأمر كذلك فما دور السماء في حياة البشر إذن؟ فمناسبة النزول هي أول تطبيق فعلي للآيات، ثم مع مرور الأزمان، وتغير الأماكن تظهر المناسبة الثانية والثالثة ... وهكذا. القرآن يشبه قطاراً ومناسبة نزوله هي محطة انطلاقه الأولى، ولكنه يظل منطلقـاً ماراً بمحطات كثيرة ومتعددة. ولكن يجب أن نوضح أن القرآن لا يذكر أسماء الأفراد ولايذكر الأماكن وتاريخ الحدوث- إلاّ في بعض الحالات- فقط يذكر طبائع النفوس وانفعالاتها والأجواء المحيطة بها.
في المثالين الذين ذكرهما الكاتب حول سؤال ابن أم مكتوم عن: (موقف أولي الضرر من الخروج للجهاد) وسؤال سعد بن جبل عن: (عدة اللائي يئسن من المحيض) كان الوحي يجيب عن هذه التساؤلات ليس كحالة خاصة بهذا الشخص أو ذاك فالآيات كما قلنا لا تذكر أسماء، و لكن كحالة عامة وتساؤلات مطروحة في كل زمان ومكان . هل تلاحظون أن الآيات تستخدم الفعل المضارع (يئسن - يحضن – يستوي) رغم أن الأحداث حدثت في الماضي. المضارع هو إشارة لخلود الرسالة وبقائها حاضرة مستمرة، فهو زمن حي يسري مع الدهر.
الأسئلة التي توجه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو التي ينتظر أن توجه إليه في مختلف العقائد والأحكام، وجدت إجابتها الشافية في القرآن، باعتبار أن السؤال لا يمثل حاجة صاحبه فقط، ولكن حاجات الناس طوال الحياة.
إن نزول القرآن بهذا الشكل مقصود للشارع الحكيم ومناسب لمرحلة التعليم والتعلم الأولى، وليس كما يقول الكاتب: (يظهر أن محمداً كان يغير الآيات أو يضيف إليها إذا اشتكى بعض الناس أو سألوه سؤالاً) قد أفاجئ الكاتب إذا أخبرته أن تساؤله هذا طرحه المشركون وقت الرسول، ونزل الوحي يجيبهم، وها هو الكاتب يكرر نفس التساؤل، في زمن ومكان مختلفين، ومازال الوحي: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا).



يقول الكاتب:


(فنجد مثلاً في سورة الفرقان الاية 48:" وهو الذي ارسل الرياح بُشرا بين يدي رحمته وانزلنا من السماء ماء طهورا"، تُقرأ في بعض الروايات: "وهو الذي ارسل الرياح نُشرأ بين يدي رحمته". ونُشرا تعني متفرقة قُدام المطر. ولهذا السبب نجد أحمد بن موسى بن مجاهد عدد تسع قراءآت مختلفة.)


البعض يظن أن كلمة (قراءة) المقصودة هنا معناها الحرفي .
قراءات القرآن ليست نصوصاً مختلفة، فالقرآن ليس له سوى نص واحد. القراءة هو طريقة تلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن عند ترتيله، وهناك عدد من الصحابة سمعوا القرآن من رسول الله وقرءوه أمامه، نعرف منهم: علي بن أبي طالب، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، أبو الدرداء، أبو موسى الأشعري، أبي بن كعب... والتابعين سمعـوا من هؤلاء الصحابة القرآن فحفظوه ثم نقلوه للأجيال اللاحقة، وهكذا... نشأ عن ذلك مدارس لقراءات القرآن، انتشرت في المدينة والكوفة والبصرة والشام، وكلها كانت تمثل انحداراً لسلسلة من الرواة تنتهي عند النبي محمد.
لكي يتم توثيق هذه القراءات لجأ العلماء لتصنيف سلاسل الرواة إلى:
- قراءات متواترة: وهي ليست فقط أن يكون رواة السلسلة القرّاء عدول وجيدي الحفظ ومتصلين، بل شرط أيضاً أن تكون القراءة منقولة عن عدد كبير من هؤلاء القراء عند كل مستوى من مستويات السلسلة، بداية من المستوى تحت الصحابي ، وبشرط أن توافق هذه القراءة مصحف عثمان.
- قراءات شاذة: وهي كل القراءات التي لم تبلغ مستوى التواتر، ولكن السلسلة متصلة والقراّء عدول حفظة. هذه القراءات اعتبرها العلماء مجرد تفسير، وليس قراءة للقرآن، وذلك لأن قراءات القرآن تحديداً لا يجب أن تؤخذ بالظن أو يشوبها شك.
- أما الروايات التي لم تحقق شرط الصحة فقد رفضت (قراءات باطلة) نسمع من يقول أن هذه القراءات ليست سوى أخطاء نتجت، لأن القرآن من البداية لم يكن منقطاً وبدون حروف علة - هذا ما يريد الكاتب أن يقوله ولكن بشكل مبطن- القرآن بالفعل لم يكن منقطاً من البداية وتم تنفيذ عملية تنقيطه عن طريق أبو الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم و يحيي بن يعمر. ولكن عملية التنقيط هذه كان يراها الكثير من المسلمين بلا فائدة في ذلك الوقت, فابن عمر مثلاً كان يرفض تنقيط القرآن. لماذا؟ ببساطة شديدة لأن الثقافة العربية في القرن الهجري الأول كانت كلها شفهية. فغياب التنقيط كان لا يمثل أي مشكلة في نطق الكلمات.
ولكي نعرف أكثر أن القضية ليست قضية تنقيط سأضرب لكم هذا المثال: كلمة (ترجعون) بدون تنقيط تتشابه مع كلمة (يرجعون). و هذا واضح.
كلمة (ترجعون) جاءت في القرآن (20) مرة. في كل المرات لم يختلف حولها قراءتان, ففي كل القراءات تقرأ (ترجعون) رغم أن قراءتها (يرجعون) لن يغير المعنى في معظم الآيات.
على الطرف الآخر كلمة (يرجعون) جاءت في القرآن (22) مرة. لم يحدث مرة واحدة أن إحدى القراءات قرأتها (ترجعون). مثال كهذا يضع من يقول أن القراءات المختلفة هي أخطاء لعملية التنقيط في حرج شديد، ففرصة وقوع خطأ في المثال الذي ذكرته (ترجعون - يرجعون) كبيرة جداً ، ورغم ذلك لم يحدث.
في كل هذا أنا كنت أناقش ما يقوله الكاتب حسب طريقة الاستنباط و الاحتمالات التي يجيدها، فهي كما نرى لا تفيده في اثبات أي شيء، ولم أقدم الأدلة الإسلامية بعد.
الأدلة الإسلامية على أن قراءات القرآن ليست نتيجة لأخطاء التنقيط تتمثل في:
1- سلسة متواترة في منتهى الصرامة تنتهي بهذه القراءات إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- طريقة نقل هذه القراءات كانت شفهية طوال القرن الهجري الأول ، ثم بعد ذلك أصبحت شفهية وخطية معاً.
3- القراءات المختلفـة لا تغير شيئاً في معنى الآيات، وإن كـانت تعمّقه أحياناً،

وعدم تغير معنى الآيات في كل القراءات يستحيل أن يكون صدفة.
4- عبر التاريخ الإسلامي وهذه القراءات معروفة ومتداولة ويتنافس المسلمون فيما بينهم حول إجادة القرآن بقراءاته المتعددة، لكن لم يحدث أبداً أن انقسم المسلمون حولها.



يقول الكاتب:

(وقال البخاري: حدثنا سعيد بن عقير، حدثنا الليث عن ابن شهاب، قال اخبرني عروة بن الزبير ان المسور بن مخرمة سمع عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة النبي (ص) فاستمعت لقراءته، فاذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله (ص)، فكدت اساوره في الصلاة. فصبرت حتى سلّم فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله (ص) فقلت: كذبت، فان رسول الله (ص) قد أقرأنيها على غير ما قرأت فأنطلقت به أقوده إلى رسول الله (ص) فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله (ص): "اقرأ يا هشام " فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال (ص): "كذلك أنزلت"، ثم قال: "اقرأ يا عمر" فقرأت القراءة التي أقراني، فقال رسول الله (ص): وكذلك اُنزلت، إن القرآن اُنزل على سبعة احرف فأقرؤوا ما تيسر منه". وواضح ان النبي نفسه كان يغير قراءة القرآن من وقت لآخر حسب ما يتذكر. فهذا هو هشام سمعه يقرأ سورة الفرقان وحفظها منه حسب قراءتها، ثم جاء عمر في وقت آخر وسمع النبي يقرأ نفس السورة بقراءةٍ مختلفة. فحتى في زمن حياة محمد وبموافقته كان القرآن يُقرأ عدة قراءآت مختلفة، فماذا نتوقع بعد موته. والذي حدث ان القرآن ظل يُقرأ بعدة قرآءات حتى كتب الحجاج المصحف المرقم، واتفق العلماء على السبعة أحرف التي قالها محمد.)


الخطأ الذي وقع فيه الكاتب هو خلطه بين (السبعة أحرف) و (قراءات القرآن). اختلط عليه الأمر فظن أنهما نفس الشيء، فالقراءات شيء والأحرف شيء آخر.
أولاً: نقول أن القرآن نزل (عربياً) وليس (قريشياً) ولذلك فهو بسبعة أحرف من لهجات العرب عامة: قريش، هوازن، تميم، ثقيف، كنانة، هذيل، اليمن. هذا هو القول الراجح والأقوى بخصوص مفهوم الأحرف السبعة.
مثال على ذلك: كلمة (مؤمن) بعض القبائل تقولها (مومن) وبعضهم يقولها (مؤمن) وكذلك كلمة (صراط) بعض القبائل تقولها (زراط) والأخرى تقولها (صراط) وهكذا. أما القراءات المختلفة للقرآن فهذه شيء آخر كما أوضحنا. على أي حال الرجل يعترف إذن بأن القرآن كان يقرأ بعدة قراءات على عهد الرسول. أظن أن هذا كان يكفيه. ما معنى قوله: (فحتى في زمن حياة محمد وبموافقته كان القرآن يُقرأ عدة قراءات مختلفة، فماذا نتوقع بعد موته). كلام غريب حقاً! إذا كان يظن أن القراءات تحريفاً حدث بعد وفاة الرسول فهو يرد على نفسه فيما يبدو، أم تراه يريدنا أن نفهم أن الرسول نفسه كان يحرف القرآن؟!



يقول الكاتب:

(وإذا كا ن صحيحاً أن أبا بكر كلف زيد بن ثابت واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبا يزيد بجمع القرآن، وجُمع القران وسُلم له وسلمه بدوره لحفصة بنت عمر لتحتفظ به، لماذا إذاً كلف عثمان بن عفان زيد بن ثابت مرة أخرى ليجمع القرآن؟ لماذا لم يأخذ عثمان النسخة المحفوظة عند حفصة ويرسلها للأمصار؟ وهو كان على علم بان حفصة لديها كل القرآن الذي جمعه زيد في خلافة أبي بكر بدليل انه أرسل إلى حفصة وطلب منها إرسال الصحف التي بحوزتها إليه؟ وعندما كلف عثمان زيد بن ثابت ليجمع له القرآن، لماذا لم يأخذ زيد القرآن الذي جمعه في خلافة أبي بكر ويسلمه لعثمان؟ لماذا أجهد نفسه ومساعديه بجمع القرآن مرة أخرى على مدى عدة سنوات؟ اللهم إلا إذا كان يعرف أن القرآن الذي جمعه في خلافة أبي بكر لم يكن مكتملاً أو انه كان يحتوي على آيات زائدة لم تكن أصلا من القرآن؟)



يقول الكاتب: (إذا كان صحيحاً أن أبو بكر جمع القرآن وتركه عند حفصة فلماذا لم يأخذ عثمان النسخة المحفوظة عند حفصة ويرسلها للأمصار).
ثم يجيب عن نفسه بعد قليل ويقول: (عثمان كان يعلم أن حفصة لديها كل القرآن، بدليل أنه أرسل إليها لترسل له الصحف التي بحوزتها). هل أخذ عثمان مصحف حفصة، أم لا؟
في الحقيقة سبب هذه الخلط أن الكاتب لا يعرف شيئاً عن جمع القرآن، ولا مراحله
ولا حتى يعرف معنى كلمة (جمع)، أي مسلم يدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي والقرآن مكتوب على العسب والرقاع ومفرق بين الصحابة.
جاء أبو بكر وجمع ما كان مفرقاً في الرقاع والأكتاف والعسب ليجعله في مكان واحد، مرتب السور والآيات ومشتملاً على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. وظل ذلك عند حفصة ورغم أن ذلك كان يسمي مصحفاً، إلا أنه لم يكن مجلداً واحداً، بل كان صحفاً عديدة. كل ما فعله عثمان أنه نسخ من مصحف (حفصة) عدة نسخ، وأرسل إلى كل مصر من الأمصار نسخة. والنسخة كانت مجلداً واحداً. ما فعله عثمان هو أن جمـع الناس على مصحف له شرعيته المستمدة من مصحف (حفصة) لينهي موضوع الخلاف. عثمان لم يجمع ما كان مجموعاً، بل نسخ ما كان مجموعاً عدة نسخ. وهذا كل شيء.
رغم أن جمع أبو بكر رضي الله عنه للقرآن مثبت تاريخياً ، ومدعوم بقوة في التاريخ الإسلامي إلا أن معظم المستشرقين كان يسيطر عليهم هاجس التاريخ المسيحي في تدوين الأناجيل وما أثير حوله، وهذا جعلهم يشككون في كل شيء حتى في الأدلة الغير قابلة للنقاش.
دائماً تسمع منهم هذا السؤال: إذا كان أبو بكر جمع القرآن فما الذي فعله عثمان؟ ودائماً نجيبهم بهذه الإجابة: عثمان نسخ ما كان مجموعاً عدة نسخ على حرف واحد، وأرسل كل نسخة للأمصار.



يقول الكاتب:

(ومما لا شك فيه أن المصاحف العديدة الـتي جُمعت على مدى السنين كان بهـا اختلاف كثير، فمثلاً،ابو عبيد القاسم بن سلام، المولود سنة 154 للهجرة، ودرس تحت أساتذة الكوفة والبصرة، وصار معلماً مشهوراً في بغداد، وعالم لغة وقاضياً، كتب كتاب "فضائل القرآن" وقال فيه: " قال لنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، انه قال: ليقولن أحدكم قد أخذ القرآن كله، وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر.
- وكذلك قال: " اخبرنا ابن أبي مريم عن ابن الهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة، أنها قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في أيام رسول الله وبها مائتان من الآيات، ولكن عندما جمع عثمان القرآن لم يتمكن من جمع أكثر مما فيها الآن.
- وقال عن زير بن حُبيش انه قال: " قال لي أبي بن كعب: يا زير، كم آية حسبت او قرأت في سورة الأحزاب؟ فقلت: اثنان وسبعون او ثلاث وسبعون. فقال: كانت مثل سورة البقرة في الطول، وكنا نقرأ فيها آية الرجم. فقلت له: وما هي آية الرجم؟ فقال: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، و الله عزيز حكيم" فرُفع فيما رُفع.
- وفي مكان آخر يقول: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن خالد بن يزيد عن صائب بن أبي هلال عن أبي إمامة عثمان بن سهل عن خديجة، أنها قالت: "كان رسول الله يقرأ لنا آية الرجم". وذكر أبن كثير عن عُتبة بن مسعود أن أبن عباس أخبره بأن عمر بن الخطاب قام في المجلس فحمد الله وأثنى عليه و قال" أما بعد، أيها الناس فإن الله تعالى بعث محمداً
صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، واني قد خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة انزلهـا الله. ولولا أن يقول قائـل، أويتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس فيه لأثبتها كما نزلت.)


هذه الروايات معروفة للمسلمين وليست مفاجئة، وعندما جمعها السيوطي في كتابه [الإتقان في علوم القرآن] كان يتحدث عن فرضية نسخ التلاوة في القرآن، وليس دليلاً على التحريف، كما يريد الكاتب أن يقوله. لو افترضنا أن كل هذه الروايات صحيحة من ناحية الإسناد – أنا أرفضها كلها – فهل معنى ذلك صحة ما فيها من أخبار؟ هذه الروايات ليست أحاديثاً منقولة عن الرسول، بل هي أقوال آحاد ، إما لصحابي أو تابعي. القرآن لا يثبت سوى برواية متواترة، وكل هذه الروايات روايات آحاد ليس لها وزن في إثبات نزول قرآن أو نسخه، فما بالك بمن يريد أن يثبت بها تحريف القرآن؟! وطالما أنها روايات آحاد فلا تثبت أي شيء بخصوص القرآن. فالقرآن تحديداً لا نتعامل معه بالظن.
هناك بعض المدارس الإسلامية التي توافق على (نسخ التلاوة) في القرآن، ولكن هذا الرأي لا يصمد أمام النقد -سنعود إلى قضية النسخ في القرآن في موضع آخر- فمثلما أن القرآن لا يثبت سوى بالتواتر فكذلك نسخه- إن صح- لا يثبت إلاّ بالتواتر وليس بأخبار آحاد ليست حتى منسوبة للرسول، بل منسوبة لأحد الصحابة أو التابعين.
أريد أن أقول أن من يريد التحقق من القرآن، فعليه أن يلتزم أحد منهجين:
- إما المنهج الإسلامي المعتمد على الرواية: وهو ألا يثبت القرآن إلا بالتواتر.
- وإما البحث في مخطوطات القرآن، بدون الاعتماد على الروايات الإسلامية.
الدراسة التي قدمها د. جون برتون بجامعة كامبردج في كتابه [تجميع القرآن] الصادر عام (1977) نجده يختتم دراسته بالعبارة التالية: (المصحف الذي بين أيدينا الآن هو حقاً مصحف محمد). صحيح أن الدكتور برتون رفض الاعتماد على التاريخ الإسلامي في جمع القرآن، إلا أنه لم يكن كغيره ممن ينتقي ويفرز حسب المزاج.
أنا أستشهد بدراسة دكتور برتون لأثبت أن سلامة نص القرآن ممكن إثباتها حتى بدون الاعتماد على المصادر الإسلامية، لكن بشرط أن يتوافر في الباحث الحياد و الموضوعية.



يقول الكاتب:

(وقال ابو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد الليثي قـال: ان رسول الله صلى الله عليـه وسلـم إذا أُو حـي اليه أتيناه، فعلمنا مما أوحي اليه، قال: فجئت ذات يوم، فقال: إن الله يقول: "إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو ان لابن آدم وادياً لأحب أن يكون اليه الثاني، ولو كان اليه الثاني لأحب أن يكون اليهما الثالث، ولا يملأ جوفه الا التراب، ويتوب الله على من تاب".)



الذي ذكره الكاتب حديث، وليس آية من القرآن. حسب ابن الصلاح الذي ينفي كونه كلام الله. البعض يوافق على كونه منقولاً عن رب العزة (كالزبيدي)، لكن يعتبره حديثاً قدسياً وليس قرآناً.



يقول الكاتب:

(وهناك سور من الواضح جداً أنها أُدخلت عليها بعض الإضافات، سواء أُدخلت هذه الإضافات عندما جمع زيد بن ثابت القرآن، أم بعد ذلك، فمن الصعب أن نجزم بذلك، ولكن المهم أن هذه السور توضح لنا أن القرآن لم يُكتب كما قرأه محمد على أصحابه. فمثلاُ سورة المدثر تتكون من آيات قصيرة مسجوعة على الراء، ولكن ألآية 31 في منتصفها لا تنسجم مع طول ألآيات ولو انها تنسجم مع السجع: 1- يأيها المدثر2 - قم فأنذر 3- وربك فكبر 4-وثيابك فطهر5- والرجز فأهجر.....31 - وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ما ذا أراد الله بهذا مثلاً كذلك يُضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر32 - كلا والقمر 33 - والليل إذا أدبر 34 - والصبح إذا أسفر.
من الواضح جداً أن الآية (31) لا تنسجم مع بقية ألآيات وأنها أُضيفت اليها لاحقاً وهذا دليلٌ قاطع على أن القرآن أُدخلت فيه آيات لم تكن أصلاً من السور وحذفت آياتٌ أخريات، مما يجعلنا نقول أن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو القرآن الذي قاله محمد حرفياً.)





لاحظوا كلماته: "من الواضح جداً"، "وهذا دليل قاطع". ما هو الواضح جداً؟ وما هو الدليل القاطع؟
لو قرأ الآيات قبلها - التي لم يهتم حتى بنقلها - لعرف أن المعنى متسلسل بشكل طبيعي: (َأُصْلِيهِ سَقَرَ- وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ- لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ- لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ- عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) المدثر الآية (26) حتى (30). ثم يأتي بعد ذلك تفصيل وصف ملائكة جهنم التسعة عشر في الآية (31) التي يظن الكاتب أنها دخيلة على الآيات لمجرد أنها طويلة! لا أدري كيف استنتج بأن الآيات الطويلة ليست قرآناً؟
الطريف أن الآية ترد على استهزاء المشركين وأبو جهل بالملائكة واستخفافهم بعددهم، ورغم ذلك يزعم الكاتب أن الآية أضيفت للقرآن في وقت لاحق بعد وفاة النبي. لم أعرف من قبل أن أبو جهل ظل حياً بعد وفاة الرسول. أي قراءة نقدية هذه؟!



يقول الكاتب:

(ونستطيع أن نقول أن القرآن ظل يتناقل شفهياً طوال فترة نزول الوحي، وهي ثلاث وعشرون سنةً، وعلى أحسن الفروض، حتى خلافة عثمان، وذلك ما يقارب الأربعين عاماً بعد نزول الرسالة على محمد، وعلى أسوأ الفروض، حتى زمن الحجاج بن يوسف في الدولة الأموية (95 هجرية)، قبل ان يُكتب ويُسجل في المصحف الذي بين أيدينا الآن. فهل يُعقل أن يُحفظ كل هذا العدد من الآيات المتشابهات في الذاكرة كل هذه السنين دون أن يحدث بها بعض التداخل والاختلاط؟ فذاكرة الإنسان العادي لا يمكن الاعتماد عليها كل هذه السنين، وهناك قصص تثبت ذلك.)



هذا ما افترضه الكاتب من البداية، وها هو يكرره مرة أخرى. فهل قدّم دليلاً واحداً؟ لا شيء سوى التشويش على المصادر التاريخية الإسلامية.


يقول الكاتب:

(فمثلاً عندما اختلف الخليفة المنصور مع احد العلويين وأراد أن يثبت له أن العم يمكن أن يقال له "أب"، ذكر سورة يوسف الآية 38، لكنه قال: "واتبعتُ ملة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب". ولكن الصحيح هو: " واتبعتُ ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب" بدون ذكر إسماعيل. ويظهر أن الخليفة المنصور كان يقصد الآية 133 من سورة البقرة: "أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد ألهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" . وهذه الآية تثبت قول المنصور لان أبو يعقوب هو اسحق ولكن أبناء يعقوب قالوا له نعبد اله آبائك وذكروا عمه إسماعيل قبل أبيه. والغريب انه لا المبرد ولا ابن خلدون الذين ذكرا هذه القصة واوردا الآيات المذكورة، تنبه لهذه الغلطة في الآية 38 من سورة يوسف. أما الطبري فقد تنبه لها لكنه لم يتذكر الآية المقصودة في سورة البقرة. وهذا يثبت أن الذاكرة لا يمكن الاعتماد عليها، ولذلك يظهر هذا التكرار والنسخ في القرآن لان المسلمين اعتمدوا على الذاكرة لسنوات طويلة قبل أن يكتبوا القرآن في المصحف الحال.)


ولكن هذا سوء استدلال. نعم من حق شيخٍ كالطبري أن ينسى ولا يذكر آية أو بضعة آيات، ولكننا نتحدث عن نقل متواتر جماعي لجمهور من الحفّاظ أقوياء الذاكرة (وهذا شرط) معروفين بالصدق. هذا بجانب وجود نسخ مكتوبة في القرن الأول الهجري. و لا أعرف لماذا يتجاهل هذا الأمر دائماً.
أقول في النهاية أن طريقة نقل القرآن كانت: شفهية - صوتية، وكتابية - خطية معاً. ولو أن القرآن تم نقله شفهياً فقط لربما - أقول ربما - حدث له نفس ما تعرضت له السنة من الدس. ولو تم نقله كتابياً فقط لربما تعرض لتغيرات كبيرة نظراً لتطور شكل الرسم والخط. نفس الشيء تعرضت له الوثيقة الأصلية لمجتمع المدينة. و لهذا سار الأمر بالتوازي, فهذا يمنع انحراف ذاك .
أنا طبعاً جعلت أمر حفظ الله للقرآن على الحياد، ولم أشركه في الموضوع.
أتمنى أن يفهم الكاتب و غيره أن عملية نقل القرآن إلى أن وصل إلينا، لم تكن كعملية نقل جثة ميتة من مكان لآخر، فالقرآن كان دائما حياً بين الناس.





البلاغـة في القرآن





إن التذوق البلاغي هي مسألة شخصية بحتة،كما يقول الزركشي في كتابه [البرهان في علوم القرآن]: (اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق، والجلي، والأجلى، والعلي والأعلى من الكلام، أمر لا يدرك إلا بالذوق، و لا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه).
لذلك عندما يخبرنا الكاتب أن القرآن كتاب غير بلاغي، فهذا شأنه. ولكن كنا نتمنى أن يكون رأيه هو، وليس رأي غيره يردده كالببغاء.


يقول الكاتب :


(ولم يكن السجع غريباً على محمد، فقد قال الامام احمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن زُرارة عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم رسول الله (ص) المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت انه ليس بوجه كذاب، فكان اول شئ سمعته يقول: " أفشوا السلام، واطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". والسجع هو العمود الفقري في لغة القرآن، لدرجة ان محمداً قـد غير اسماء اماكن
واشياء لتتماشى مع السجع في السورة. فمثلاً في سورة التين، الاية الثانية، نجد ان "طور سيناء" قد تغير الى "طور سينين" ليتماشى مع السجع: 1- والتين والزيتون 2- وطور سينين 3- وهذا البلد الامين 4- لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم. وليس هناك بالطبع مكان او جبل اسمه طور سينين، وكلمة طور نفسها ليست كلمة عربية وانما كلمة عبرية وتعني "جبل"، وهذا الجبل في سيناء، ولذلك دُعي جبل سيناء او طور سيناء. ونجده قد استعمل الاسم الصحيح في سورة "المؤمنون" الاية 20: "وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغٍ للآكلين". ونجد في سورة الانعام، الآية (85)ذكر بعض الانبياء: "وزكريا ويحيي وعيسى وإلياس كل من الصالحين". ونجد كذلك في سورة الصافات، الاية 123 إلياس يُذكر مرة اخرة: "وان إلياس لمن المرسلين". ولكن فجأةً في الآية 130 من نفس السورة يتغير اسمه ليصبح إلياسين، ليتماشى مع السجع: "سلام على إلياسين". وهذه ليست " آل ياسين" وانما" "إل ياسين" بكسر الالف الاولى.)

أنا مثلاً لست شاعراً ولا أجيد الشعر، ولكن بالتأكيد أستطيع أن أكتب بضعة أبيات. لذلك إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم كلاماً مسجوعاً مرة أو مرتين في حياته, فهذا لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر، أو أنه يجيد كلام المسجوع. السجع ليس العمود الفقري للقرآن, والقرآن لم يحّوركلمات لتناسب السجع كما يقول الكاتب بكل ثقة. تأمل في هذه السورة الصغيرة: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ- حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) ثم تتغير الفاصلة مباشرة إلى (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ- ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) لماذا لم تلتزم السورة بحرف الراء كنهاية للآيات إذا كان كلام الكاتب صحيح؟
سأذكر هنا قصة الوليد بن المغيرة عندما سمع القرآن: (وروى ابن جرير عن عكرمة‏:‏ أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال‏:‏ أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، قال‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ يعطونك ، فإنك أتيت محمداً تعرض لما قبله، قال‏:‏ قد علمت قريش أني أكثرها مالاً، قال:‏ فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له، قال‏:‏ فماذا أقول فيه‏؟‏ فو اللّه ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا
أعلم برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، واللّه ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذ..) فالوليد صادق تماماً هنا. فالقرآن ليس شعراً وليس نثرا ًمسجوعاً وليس زجلاً. القرآن ببساطة هو شكل جديد وفريد من استعمال اللغة.
ولكن لماذا نقول أن القرآن ليس سجعاً؟ السجع كان عند العرب كان مهمة لفظية تأتي لتناسق أواخر الكلمات في الفقرات، فكانوا يأتون به لسد الفراغ اللفظي. أما الفاصلة القرآنية - اسمها فاصلة وليس قافية - فليست كذلك، ولكن لها دور لفظي ومعنوي في نفس الوقت.
في القرآن لا تجد تفريطاً في الألفاظ على حساب المعاني، ولا اشتطاتاً بالمعاني من أجل الألفاظ. بينما السجع تنحصر مهمته الأساسية في الألفاظ فقط. لذلك فالفاصلة في القرآن تختلف عن السجع لفظياً ودلالياً، رغم أنها قد تتشابه معه صوتياً.
بخصوص (سيناء) و (سينين): فأنا لا أعرف تحديداً السبب من ذلك. ولكن ما أعرفه جيداً أن كلمة (سينين) لم تأتي للسجع. فالآية الأولى من السورة: (والتين والزيتون) تنتهي بالمقطع (ون). وطالما كان التغيير للسجع فلماذا لم يقل (سينون). ربما لا يعرف الكثيرون أن من اختار شبه الجزيرة الواقعة في شمال شرق مصر ليطلق عليها اسم (سيناء) المذكور في التوراة هو الإمبراطور (قسطنطين) بناء على رؤيا رآه ، ولم يكن اختياره مبني على أي دليل . ثم جاءت والدته الإمبراطورة (هيلانة) فاختارت جبل محدد وأطلقت عليه جبل موسى أيضاً، بدون أي دليل سوى التخمين.
أقول هذا لأنه ربما تكون سيناء، وسينين مكانين مختلفين، لا علاقة لهما بسيناء الحالية.



يقول الكاتب:

(فإذا أخذنا مثلاً سورة مريم، من ألآية الثانية حتى ألآية الثالثة والثلاثين نجد آخركلمة من كل آية تنتهي بـ "يا" 2 – "ذكرُ رحمة ربك عبده زكريا "3- "إذ نادى ربه نداءً خفيا". ثم في الآيتين 34 و35 تتغير القافية الى "ون" 34- "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون"35 - "ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى شيئاً أن يقول له كن فيكون" ثم تتغير الى "ميم" في ألآيتين 36 و 37 . 36- "وإن الله ربي وربكم فأعبدوه هذا سراط مستقيم" 37- "فأختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يومٍ عظيم" ثم ترجع الى النون مرة أخري في الآيات 38 و 39 و 40. 40- "إنا نحن نرث الارض ومن عليها والينا يرجعون" ثم نرجع للقافية الاولى " يا" في ألآيات من 41 الى 74 41- "واذكر في الكتاب ابراهيم انه كان صديقاً نبيا" ثم تتغير القافية الى "دا" مثل جُنداً و ولداً الى نهاية السورة. وادخال آيتين أو ثلاثة في منتصف السورة بسجع يختلف عن معظم آيات السورة حمل بعض الدارسين الى القول بأن هذه ألآيات أُضيفت الى السورة لاحقاً ولم تكن جزءً منها في البداية.)



الكاتب يتبنى قاعدة وهي أن: (القرآن كله سجع) وإذا وجد آيات تكسر القاعدة فيقول أن هذه الآيات أضيفت لاحقاً على السورة، ولم تكن موجودة من قبل هكذا وبكل بساطة!
ونحن نسأل هل نحن من افترض وجود السجع أم الكاتب؟حسناً, بنفس منهجه سأقول أن المتنبي كان كردياً وكان يكتب شعره بالكردية. ولا تسألني كيف ذلك و أشعاره كلها بالعربية؟ فالرد معروف: أشعار المتنبي العربية نسبت إليه لاحقاً!




يقول الكاتب:

(ونجد في نفس سورة مريم تكراراً غير مفيد. فعندما يتحدث القرآن عن زكريا وأبنـه يحيي، يقول عن ألاخير: "سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعث حيا". ثم نجد ألآية مكررة عندما يتحدث عن عيسى: "والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حيا.)
سورة مريم عبارة عن سرد لقصص مجموعة من الأنبياء. شكل السرد فيها يشبه أنواع السرد الدائري، فهو يدور بتكرار عبارة مثل: (واذكرفي الكتاب....) ثم تأتي قصة هذا النبي. لذلك ستجد فيها كثيراً من التنظير بين القصص وبعضها. لذلك تكرار بعض الكلمات له دلالة حتى وإن كان الكاتب لم يفهمها.
المسيح ويحيى عليهما السلام بينهما أمور متشابهة كثيرة ، ذكرها القرآن.
- بشارة الميلاد: بدأ ببشارة لزكريا (في حالة يحيى) وبشارة لمريم (في حالة المسيح). - ميلاد معجز: زوجة عاقر (في حالة يحيى) وبتول عذراء ( في حالة المسيح).
- البر بالوالدين: القرآن يقول عن يحيي (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً). ويقول عن المسيح (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً).
- الاسم: كلاهما على نفس الوزن (يحيى) و (عيسى) و هذان النبيان عليهما السلام كانا آيتين من آيات الله لبني إسرائيل، وكان تكذيبهما وإيذائهما عليهما السلام إيذاناً بغضب الله على هؤلاء القوم: (... أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) البقرة 87.
لذلك عرض القرآن قصتيهما عن طريق التنظير الوظيفي للكلمات.


يقول الكاتب:

(وفي ألآية 10 من نفس السورة: "قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام سوياً" وفي ألآية 17 كذلك: "فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا". وفي ألآية 68 نجد: "فوربك لنحشرهم والشياطين ثم لنحضرهم حول جهنم جثيا"، وفي ألآية 72: " ثم ننجي الذين آمنوا ونذر الظالمين فيها جثيا". وواضح أن التكرار هنا لصعوبة ايجاد كلمات اخرى تماشي السجع.)



أولاً: الآية الأولى تقول: (ثلاث ليال سويا) وليس (ثلاثة أيام سويا). وقد أخبرتكم من قبل أن الدكتور ينقل القرآن من مصادر مترجمة.
ثانياً: سورة مريم بالكامل ذات إيقاع هادئ حزين، وهذا يتجسد في الفونيم الصوت (يا). تكرار بعض الكلمات في السورة له دلالة معنوية رائعة: كلمة (سويا)
تكررت ثلاث مرات في السورة ، وليست مرتين، هنّ:
- (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً) هنا كلمة (سويا) جاءت حال لزكريا. أي لن يتكلم ، وهو صحيح سوي بلا مرض.
- (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً). هنا كلمة (سويا) جاءت صفة لجبريل عليه السلام. أي بشري كامل تام.
- (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً). هنا كلمة (سويا) جاءت صفة للصراط بمعنى مستقيم غير ذي عوج.
هل يستطيع أحد أن يستخدم (أربع حروف) بهذا التنوع الدلال؟ وكأن الكلمات تذوب أمامه فتتشكل كما يريد.
بخصوص الكلمة الأخرى (جثيا) فنحن نعلم أن هناك سورة كاملة في القرآن تسمى: (الجاثية) نقرأ فيها: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). (الجثو) وهو السجود الإجباري يوم الحساب لكل الناس. عدم تغير الكلمة (جثيا) مواز لعدم تغير الحال فالظالمين يظلون على حالهم بدون نجاة من المولى عز وجل: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ). من رفض أن يسجد لله في الدنيا فلا ينتظر نجاة في الآخرة (ونذر الظالمين فيها جثيا) لذلك فعدم تغيير الكلمة (جثيا) هو مواز لعدم تغير الحال.
نقول للكاتب أن الحروف والكلمات متاحة للجميع ، ولا ميزة لها في ذاتهـا. المهم أن تضم الكلمات بعضها ببعض لتخرج ببناء بهذا الشكل.


يقول الكاتب:

(واشتقاق الكلمات على غير المعهود نجده في الآية (74) من نفس السورة: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورءياً". والاشتقاق هنا غريب لانه مـن رأى والمصدر رؤية، ولكن لتماشي الكلمة السجع قال "رءيا". و لغرابة الاشتقاق وجد المفسرون صعوبة في شرح الكلمة.)



كلمة (رؤية) أيضاً تماشي السجع. لماذا لا ينتبه الكاتب لما يقوله؟!
(الرؤية) هي النظر. (الرءيا) هي المنظر. من يقرأ الآية يدرك دقة اختيار الألفاظ.



يقول الكاتب:

(وفي سورة النبأ، ألآية 35، عندما يصف الله الجنة، نجد: 31- إن للمتقين مفازا 32- حدائقَ وأعنابا 33- و كواعبَأترابا34 - وكأساً دهاقا35 - لا يسمعون فيها لغواً ولا كذابا. وكلمة "كذابا" مشتقة من كذّبَ، يُكذّبُ، كذباً. والمصدر كما هو واضح "كذبا"، ولكن لتماشي الكلمة السجع كان لا بد من جعلها "كذابا". وقد يلاحظ القارئ هنا أن الآية 34 لا تماشي السجع مما دعا بعض الدارسين الى القول بأنها أضيفت مؤخراً .)




ترى من هم "هؤلاء الدارسين" الذي يتحدث عنهم؟
الكاتب يقول أن الآية (34)-دهّاقا- لا تماشي السجع. ألم يلاحظ أيضاً أن الآية (31)-مفازا- كذلك لا تماشي السجع ؟! نحمد الله أنه لم يلاحظها، وإلا كان "بعض الدارسين" سيقولون أنها أضيفت للقرآن لاحقاً هي الأخرى.
بخصوص كلمة (كذّابا) فنقرأ في القاموس المحيط: (كَذَبَ يَكْذِبُ كَذِباً وكِذْباً و كِذْبَةً وكَذْبَةً وكِذاباً وكِذَّاباً، ككِتابٍ وجِنَّانٍ، وهو كاذِبٌ وكَذَّابٌ وتِكِذَّابٌ وكذوبٌ وكَذوبَةٌ وكَذْبانُ وكَيْذَبانُ وكَيْذُبانُ وكُذُّبْذُبٌ وكُذَبَةٌ ومَكْذُبانُ ومَكْذَبانَةٌ وكُذُبْذُبانُ). ولا تعليق.



يقول الكاتب:

(والتكرار في بعض ألآيات يكون مملاً . فخذ مثلاً سورة " الرحمن" وبها 78 آية كلها
مسجوعة على الالف والنون ما عداء آيات بسيطة، ولسبب ما أدخل المؤلف فبإي ألاء ربكما تكذبان" بعد كل آية ابتداءاً من ألآية الثانية عشر. وتكررت هذه العبارة 31 مرة في سورة طولها 78 آية. فاي غرض يخدمه هذا التكرار الممل؟)


كمسلم أجد حرجاً في اطلاق التسميات الأدبية الحديثة على القرآن. والسبب ببساطة أن القرآن لا يتبع قواعد أي نوع من أنواع الآداب. فهو ليس شعراً ولا نثراً
ولا قصة ولا سيرة ذاتية. القرآن نوع فريد فقط يسمى القرآن.
المشكلة التي يعانيها منها الكاتب تكمن في أنه ينقل آراء ليست له. آراء أناس تعاملوا مع القرآن ككتاب سردي تاريخي تماماً ككتب السيرة أو كتب الأنبياء في الكتاب المقدس. أناس اهتموا بتسلل الأحداث. لذلك أي عبارة تتكرر فهي عندهم شيء ممل. لم ينتبه هؤلاء أن القرآن كتاب حواري جدلي بين القارئ والنص، وليس مجرد سرد للأحداث.
في سورة الرحمن لو صنفناها ضمن أنواع السرد الإنشادي، فنجد أن عبارة (فَبأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِبان) تمثل لازمة قرآنية تتكرر إحدى وثلاثين مرة في السورة. اللازمة القرآنية هي مظهر لغوي يعتمد على التكرار البلاغي الهادف، فمن ينظر إليها (مستقلة) كالكاتب و غيره يظنها تكراراً، ولكن من ينظر إليها في السياق- كما سنوضح لاحقاً - فهي ليست تكراراً وما ينبغي لها. لو نظرت بدقة للعبارة السابقة، ستجد أن صياغتها بهذا الشكل تسمح بتكرارها بشكـل متتالي دون أي ملل لو وظّفت بشكـل صحيح. حرف الفاء - السببية والتعقيبية - في البداية الذي يسمح بسرعة التنقل، وكذلك اللغة الاستفهامية الاستنكارية للعبارة تجعل العبارة نموذجية كأداة ربط قابلة للتكرارلخلق جو من الحوار.
لاحظ أنك عندما تقرأ إحدى النصوص، وتقابلك جملة اعتراضية، فإنك تتشتت للحظات، لذلك يقول البلغاء أن كثرة الجمل الاعتراضية يمثل خطورة على تماسك النـص ولكن تركيب هذه الجملة يجعلها تقوم بأمر مختلف تماماً. فعبارة: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) لا تقطع السياق ولا تجعل الصورة تتغير أو تتشتت، بل تجعلها تزداد عمقاً وتراكماً. كأن المعنى المقصود تحول إلى متتالية حسابية متزايدة تكبر وتزداد قيمة معاملها باطراد.
أيضاً العبارة تخلق حواراً جدلياً بين القارئ والمقروء يكسر الرتابة الأدبية. هذا التفاعل بين القارئ والنص يجعله يذوب في جو النص، ويستمر في الحوار للنهاية وراء كل نعمة تجد العبارة تضع استنكاراً (كيف تكذب بهذه النعم) ويظل إيقاع الحوار يعلو، نعمة يتبعها استنكار فنعمة أخرى فاستنكار.
هكذا حتى نصل إلى الآية (31) (سنفرغ لكم أيها الثقلان) وتبدأ آيات الإنذار ويرتفع الإيقاع أكثر، وبعد كل آية وعيد تأتي عبارة (فبأي آلاء ربكما تكذبان) لتعيدك لمشاهد النعم والآلاء مرة أخرى.
ثم نصل للآية: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ويبدأ الإيقاع يقل تدريجياً ليخلق هدوءً يناسب أوصاف الجنة وخيراتها، وبعد كل وصف للجنة تأتي (فبأي آلاء ربكما تكذبان) لتجعلك تنطق رغماً عنك: ولا بشيء من نعمك يا ربنا نكذب فلك الحمد وحدك‏. ثم تنتهي الآيات في هدوء بعبارة (تبارك اسم ربك ذو الجلال و الإكرام).
ماذا سيحدث لو قللنا تكرار العبارة في سورة الرحمن؟ ستشعر بهبوط في إيقاع النص، و بانتهاء الحوار فجأة مما يجعلك غير راغب في تكملة السورة، كمن يشاهد فيلماً متلاحق الأحداث ثم فجأة تصبح الأحداث مملة رتيبة - يسميه السينمائيون (الأنتي كليماكس) - جرب بنفسك وسترى.
فكما قلت من قبل القرآن ليس كتاباً تقرأه مرة واحدة ثم تضعه على الرف. القرآن يحاورك ويجادلك وكأن كاتبه يعرفك تمام المعرفة. أنا مثلاً قد أقرأ سورة الرحمن أكثر من مرة في اليوم الواحد, أليس هذا تكراراً يدعو للملل؟ الإجابة لا. الحوار مع القرآن يصبح مملاً فقط إذا كانت النفس البشرية جامدة ثابتة لا تتقلب ولا تتغير مشاعرها. وطالما النفس البشرية ليست جامدة بل تعيش جدلاً لا ينتهي، فهي في حاجة لقراءة القرآن باستمرار.
فهذه العبارة المكررة تمثل المرتكز السردي للآيات، الذي يقسم الإحساس المتولد من السورة إلى طبقات. كل طبقة أعلى من سابقتها في الإحساس.
شيء آخر تقوم به هذه العبارة: هل رأيتم عقداً من قبل؟ ما الذي يربط بين حبات الخرز فيه؟ هذا بالضبط ما تفعله هذه عبارة: (فبأي آلاء ربكما تكذبان).



يقول الكاتب:


(وكل سورة "الرحمن" هذه تذكرنا بايام الجاهلية عندما كان الشاعر يخاطب شيطانيه أو صاحبيه ليساعداه على نظم الشعر " قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل.... " فالقرآن هنا ، كعادة الجاهلية، يخاطب شيطانين ( وهناك شياطين مسلمة ، كما يقول القرآن . ويقول
علماء الاسلام ان القرآن في هذه السورة يخاطب الانس والجن، ولذا استعمل صيغة المثنى. ولكن في نفس السورة عندما اراد القرآن مخاطبة الانس والجن قال : " يا معشر الجن والانس ان استطعتم ان تنفذوا من اقطار السموات والارض فانفذوا لاتنفذون الا بسلطان". فلم يقل " فانفذان ، او لا تنفذان الا بسلطان". )

المبشرون عندما جاءوا للشرق كانوا متأثرين بأقوال الكنيسة في العصور الوسطى عن الإسلام، بأنه دين شيطاني، وأن النبي محمد يعادي المسيح (الأنتي كريست). لذلك كانوا يبحثون في القرآن عما يؤكد لهم بأن القرآن كتاب من الشيطان. وكان من ضمن ما كتبوه ليؤكد نظرية الوحي الشيطاني هذه، أن سورة الرحمن تخاطب الإنس والجان.
وطبعاً حكاية الغرانيق الشهيرة التي صالوا وجالوا حولها، وتمسكوا بها تمسكاً شديداً، والمكانة الكبيرة التي أعطوها لكاتب مغمور هو (سلمان رشدي) بروايته آيات شيطانية تؤكد أن هذه الفكرة ما زالت تسيطر على عقول غربية كثيرة حتى الآن.
وبالمناسبة فسلمان رشدي ليس أول من اخترع لفظ آيات شيطانية، بل المبشر الإنجليزي (وليم مور). على أي حال فلنقرأ الآية التي يظن الكاتب أن بها خطأ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) في هذه الآية تحديداً القرآن يخاطب الإنس والجن كجماعات عديدة تحت كلمة (معشر). لذلك استخدم واو الجماعة في كلمتي (تنفذوا) و (انفذوا) نفس الشيء تجده في سورة الأنعام: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى َنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) الأنعام 130.
هنا أيضاً القرآن يستخدم صيغة الجمع لأنه يخاطب المعشر وليس الصنفان (الإنس والجان).



يقول الكاتب:


(وفي بعض الاحيان تُضاف كلمات، لا لتوضيح الصورة ولكن لتكملة السجع، فمثلاً في سورة الشعراء في الاية 76 تُضاف كلمة "الاقدمون" دون الحاجة اليها: 72- قل هل يسمعونكم اذ تدعون 73- اوينفعونكم او يضرون 74 - قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون 75- قال أفراءيتم ما كنتم تعبدون 76 - انتم وآباؤكم الاقدمون. فكلمة "الأقدمون" هنا لا تخدم اي غرض مفيد اذ ليس هناك اباء جُدد واباء اقدمون.)


عجباً. هل حقاً لا توجد علاقة بين قدم الشيء، والقدسية الزائفة التي يضفيها البشر على بعض العادات والأشخاص والرموز؟
من المعروف أنه كلما كانت العادة قديمة كلما تحولت إلى تابو مقدس، يصعب المساس به مهما بدت سخافته وعدم معقوليته.
مجرد رنين كلمة (الأقدمون) على الأذن توضح ماذا يريد نبي الله إبراهيم أن يقوله. هذا الشلل الذي أصاب عقول قوم ابراهيم، وجعلهم لا يرون سخافة ما يفعلون، لمجرد أنهم توارثوا عبادة الأصنام (كعادة قديمة) ليس مبرراً على الإطلاق. وهذا ما يريد أن يصل إليه النبي إبراهيم من مناقشتهم.

يتبع ,,,

اخت مسلمة
10-05-2009, 10:21 PM
الالتفات في القرآن هذا العنوان من عندي)



يقول الكاتب:

(القرآن يغير صيغة المخاطب في نفس الاية من المفرد الى الجمع ومن المتحدث الى المخاطب، فخذ مثلاً سورة الانعام الاية : 99 "وهو الذي انزل من السماء ماءً فاخرجنا به نباتَ كلٍ شئٍ فاخرجنا منه حباً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ وجناتٍ من اعنابٍ والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابهٍ انظروا الى ثمره اذا اثمر وينعه ان في ذلكم لاياتٍ لقوم يؤمنون". فبداية الاية يصف الله "وهو الذي انزل من السماء ماءً"، وبدون اي انذار تتغير اللغة من الشخص الثالث الى الشخص الاول ويصير الله هو المتحدث "فاخرجنا به"، وسياق الاية يتطلب ان يقول "فاخرج به". وانظر الى النحو في الاية ذاتها، اغلب الكلمات منصوبة لانها مفعول به، لان الله انزل المطر فاخرج به حباً وجناتٍ، وفجأة كذلك يتغير المفعول به الى مبتدأ مرفوع في وسط الجملة. وسياق الكلام يقتضي ان يُخرج الله من النخل قنواناً دانيةً، معطوفة علي ما قبلها، ولكن نجد في الاية "قنوانٌ دانيةٌ" بالرفع، وهي مبتدأ خبره "ومن النخل". ثم تستمر الاية بنصب الكلمات الباقية لانها مفعول به. وخذ ألآية 114 في سورة الانعام، لما طلب اليهود من محمد ان يجعل بينه وبينهم حكماً: "افغير الله ابتغي حكماً وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ". ففي بداية الاية المتحدث هو محمد مخاطباً اليهود، فيقول لهم: "أغير الله ابتغي حكماً وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلاً "؟ وفجأة يصير الله هو المتحدث فيقول لمحمد: "والذين آتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين".)


كثير من المستشرقين كانوا يتساءلون: من هو المتكلم في القرآن؟ الأمر كان محيراً بالنسبة لهم. بعضهم كان يظن أن النبي محمد كان يخطئ أحياناً، فبدلاً من أن يكون الكلام على طول الخط بصيغة المتكلم - باعتبار أن المتكلم هو الله - نجد الآيات تنتقل إلى صيغة الغائب أو المخاطب. كانوا ينتظرون أيضاً أن تكون آيات القرآن في زمن الماضي، كأي كتاب سيرة ذاتية.
والبعض الآخر قال أن القرآن من تأليف عدة أشخاص. مثل (باتريشا كرون) التي ألفت كتاب [الهاجريون]. و هذا الكتاب تم رفضه في الأوساط الأكاديمية. وبرغم من أنه ينتقص من الإسلام و المسلمين، ويسخر من تاريخهم، فقد قام السيد (نبيل فياض) بترجمته بكل سعادة وفخر. وللأسف كانت ترجمة سيئة جداً.
عندما تقرأ كتاب سيرة ذاتية لشخص ما، تجد دائماًَ الخطاب يرد بصيغة المتكلم وليس الغائب أو المخاطب، وكذلك تجد زمن الجمل في الماضي في الغالب. ولكننا عندما نقول أن القرآن هو كلام الله لا نعني بذلك أنه سيرة ذاتية يحكيها الله عن نفسه! فالقرآن كلام للترتيل والتلاوة في الصلاة والدعاء ببعض آياته، مثلما هو كتاب معرفي عميق.
فأنا عندما أتلو سورة الفاتحة (الحمد لله رب العالمين) فأنا الذي أحمد الله، ولكن بالصيغة التي أنزلها الله لي. فالكلام هنا يتشكل على لساني وليس الله هو من يحمد نفسه. سبب هذا الخلط عند المستشرقين هو أنهم افترضوا من البداية أن القرآن هو كتاب سيرة ذاتية.
نعود إلى موضوعنا: هذا الانتقال بين المتكلم والمخاطب والغائب في القرآن، يسمى (الالتفات) يقول الموصلي في كتابه [المثل الثائر] عـن الالتفات: (خلاصة علم البيان التي حولها يدندن وإليها تستند البلاغة وعنها يعنعن وحقيقته وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله، فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا. وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة، لأنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغة كالانتقال من
خطاب حاضر إلى غائب أو من خطاب غائب إلى حاضر أو من فعل ماض إلى مستقبل أو من مستقبل إلى ماض أو غير ذلك مما يأتي ذكره مفصلاً. ويسمى أيضاً شجاعة العربية، وإنما سمي بذلك لأن الشجاعة هي الإقدام، وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ويتورد ما لا يتورده سواه).
الالتفات له أنواع كثيرة، منها التنقل بين الحاضر والغائب والمخاطب، ومنها الانتقال بين أزمنة الفعل من مضارع وماض ومستقبل.
الالتفات رغم وجوده في كثير من الكتابات الأدبية سواء العربية أو في اللغات الأخرى إلاّ أنه يعد أسلوباً مميزاً للقرآن.



يقول الكاتب:

(وابن مسعود الذي كان يكتب الوحي للرسول و أحد علماء الحديث المشهورين ، اعتبر ان سورة الفاتحة وسورتي الفلق والناس، ليست القران.)



الكاتب يقصد أنه طالما سورة الفاتحة تبدأ هكذا (الحمد لله رب العالمين) وطالما أن الله لا يحمد نفسه، فالسورة إذن ليست من القرآن، بدليل أن الروايات تحكي أن ابن مسعود لم يكن يكتبها في مصحفه. طبعاً لو أنكر ابن مسعود القرآن كله، فهذا قول فردي لا يقدح في تواتر القرآن من شيء. ولا شك أن إجماع الصحابة على عكس هذا القول كاف في الرد على هذا الطعن، ولا يضر ذلك الإجماع مخالفة ابن مسعود . ولكن ابن مسعود لم ينكر كونهما من القرآن.
لابد أن يعرف الكاتب أن ابن مسعود كتب مصحفه لنفسه، وليس للمسلمين. ولو صح عن ابن مسعود أن مصحفه كان لا يحوي المعوذتين والفاتحة، فليس معنى ذلك أنه كان ينكر كونهما من القرآن، فربما لم يكتبهم لكثرة قراءتهم في الصلاة، وعدم الحاجة لحفظهم فكل من كتب مصحفاً كان يفعل ذلك مخافة النسيان، وهذه العلة غير مطروحة في الفاتحة والمعوذتين.
طبعاً هناك دليل لا يمكن رده يثبت أن ابن مسعود لم ينكر قرآنية الفاتحة والمعوذتين
، وهو أن قراءته قد رواها عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم وقراءة هؤلاء الأئمة فيها الفاتحة والمعوذتين. وهذا يكفي دفاعاً عن الصحابي عبد الله بن مسعود.



يقول الكاتب:

(وفي سورة فاطر ألآية التاسعة : "والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه الي بلد ميت فأحيينا به ألارض بعد موتها". تغير القائل في نفس الآية من الشخص الثالث الى الشخص
الاول. فبداية الآية تقول: "والله الذي أرسل الرياح" ثم فجأةً يصير المتحدث هو الله، فيقول: "فسقناه الى بلد ميت فأحيينا به ألارض".)


سأقوم بتحليل هذه الآية :
الآية بدأت بصيغة الغائب، ثم تحول الكلام إلى صيغة المتكلم عند الحديث عن إحياء
البلد الميت: (فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض).
السؤال الآن ما الذي يفيده الالتفات هنا؟ كما يخبرنا أهل البلاغة أن صيغة المتكلم تجعل الصورة حاضرة - كأنك ترى المشهد على الهواء مباشرة- لاحظ هذا التوافق العجيب بين الكلمات (فأحيينا) ودلالة أسلوب الالتفات هنا - بث حي ومباشر- ما المغزى من كل هذا؟ الإجابة نجدها في تكملة الآية (وكذلك النشور) النشور والبعث الذي أنكره المكذبون قديماً، ومازال الكثير ينكره حتى الآن ليس خيالاً بل حقيقة، فمثلما يحي الله الألفاظ والكلمات ويجعلها حية حاضرة، ومثلما يحي الله الأرض الميتة، هو قادر كذلك على إحياؤكم بعد موتكم. هذا التناظر الوظيفي بين اللفظ والمعنى والمدلول مدهش إلى أقصى الحدود.
وهناك المزيد عن الالتفات في الآية الكريمة من الانتقال بين الماضي والمضارع، الذي يؤيد نفس ما نقوله .
كما ستجد المزيد من الأمثلة في:[ المثل السائر] للموصلي، و[الإيضاح في علوم البلاغة] للقزويني، و[المزهر في علوم اللغة وأنواعها] للسيوطي.



يقول الكاتب:

(وتحتوي نفس ألآية على فعل مضارع مخلوط مع افعال ماضية. فكلمة "فتثير" فعل مضارع
في وسط جملة كلها في الماضي. ويقول العلماء ان الفعل المضارع هنا في وسط جملة كلها في الماضي، "لحكاية الحال الماضية". فهل في هذا اي نوع من البلاغة؟ وفي سورة الحج، الآية 63: "ألم تر ان الله انزل من السماء ماء فتصبح الارض مخضرة ان الله طيف خبير". مرة اخرى يجمع القرآن بين الفعل الماضي والفعل المضارع في جملة واحدة.واحدة. وكلمة "فتصبح" يجب ان تكون " فأصبحت" لان الله انزل من السماء ماءً.)


سأتوقف عند التوظيف القرآني لظاهرة الزمن قليلاً: الزمن في التوظيف القرآني
ظاهرة خاصة جداً. فالقرآن يتعامل مع الأفعال بمستوياتها الثلاثة: (الماضي والمضارع والأمر) لا حسب زمنها النحوي، ولكن يتجاوز ذلك إلى مستوى دلالي أوسع بكثير يناسب تماماً مقدار الغموض المحيط بظاهرة الزمن وإدراك الإنسان له. فمثلاً دلالة الماضي تنعكس في القرآن إلى مستقبل كأحداث الساعة - المفترض أنها مستقبل- ورغم ذلك ينقلها القرآن في صيغة الماضي.
توظيف الزمن في المنظومة القرآنية مختلف تماماً عن أي نص آخر، بحيث أصبح للقرآن زمن خاص به نستطيع أن نسميه (زمن القرآن) تعامل القرآن مع ظاهرة الزمن بهذه الصورة الجديدة جعل من الآيات صوراً فنية تعكس لنا مصدر هذا الكتاب.
نعود إلى الآية الكريمة: كما قلنا سابقاً المضارع أو المستقبل هنا يجعل الصورة حية ماثلة أمام عينيك وله أيضاً دلالة أخرى، ينقلها لنا الموصلي فيقول: (ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضي هاهنا إلى المستقبل فقال (فتصبح الأرض مخضرة) ولم يقل (فأصبحت) عطفاً على (أنزل) وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض. وهذا كما تقول (أنعم علي فلان فأروح وأغدو شاكراً له) ولو قلت (فرحت وغدوت شاكراً له) لم يقع ذلك الموقع لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى، وهذا موضع حسن ينبغي أن يتأمل.




يقول الكاتب:

(وهذه آية اخرى تخلط بين الماضي والمضارع ، ففي سورة الشعراء، الآية الـرابعة :" ان نشأ ننزل عليهم من السماء آيةً فظلت اعاناقهم لها خاضعين". ويقول العلماء ان شبه الجملة "فظلت اعناقهم لها خاضعين" استُعملت بمعنى المضارع. فلماذا كل هذا اللف والدوران وكان من السهل ان يقول " فتظل" ؟ )


هنا الالتفات من المضارع إلى الماضي يعكس استبعاد وقوع الحدث - الذي هو هنا تنزيل آية من السماء ترغم القوم على التسليم - النبي حزين على عدم إيمان قومه، ولكن الله يلهمه الصبر، بأن يعرض عليه صورة بديلة مطلوب من الجميع التأمل فيها ليروا أنها غير مناسبة.
هذه الصورة البديلة - افتراض نظري فقط - هي تنزيل آية من السماء تجبرهم على الإيمان. هذا التعبير بالماضي بدلاً من المستقبل في جواب الشرط موجود أيضاً في لغات أخرى، ويفيد كما قلنا استبعاد الحدوث (فرض نظري).
وكنت أظن الكاتب سيفهم هذه اللمحة، فهي موجودة أيضاً في الإنكليزية. استخدام الفعل الماضي بدلاً من المستقبل له دلالات أخرى في أماكن أخرى، ولكن ليس موضوعنا الآن.


نستمر مع الكاتب في نفس الآية :

(وليس الخلط بين الماضي والمضارع هو الشئ الوحيد الخارج عن المألوف في هذه الآية، فقد استعمل القرآن كلمة "خاضعين" وهي حال تصف جمع العقلاء مثل "رجال" ليصف بها "اعناقهم"، وهي ليست جمع عقلاء. والاسم الذي يقع حالاً يطابق صاحب الحال في النوع وفي العدد، ولذا كان الاصح ان يقول "فظلت اعناقهم لها خاضعة". ولكن كل آيات هذه السورة تنتهي بالياء والنون، لذلك اضطر ان يقول "خاضعين".)


ما يقوله غير صحيح. فنهاية الياء والنون كسرت بعد ذلك مباشرة في الآية السادسة (يَسْتَهْزِئُون) والآية السابعة (كريم)، ولو أراد الله أن يقول (خاضعة) لفعل لكن القرآن ليس شعراً لكي يتغير اللفظ لمقتضى القافية. فكما قلت من قبل أن نهاية الآيات في القرآن تسمى فاصلة وليس قافية، والفاصلة في القرآن لها دلالة في المعنى كما أن لها دلالة صوتية.
فلندقق أكثر في التعبيرين: (فظلت أعناقهم لها خاضعة) هذا التعبير ينقل معنى تسلط
الظالم على المظلوم، فهو يقصر الخضوع على الرقاب دون النفوس، وليس هذا هو المعنى المراد (فظلت أعناقهم لها خاضعين). هذا التعبير ينقل معنى الإجبار وسلب الحرية، وهو الشيء المفترض أن تفعله الآية النازلة من السماء، فهي ستجبر نفوسهم على الخضوع في شكل خضوع رقابهم لمراقبتها، ولكنها لن تظلمهم بطبيعة الحال.
القرآن الكريم مضبوط ضبطاً محكماً. كل لفظة لها دورها الخاص في مكانها الخاص
لتعطي المعنى المراد، وأي تبديل فيها سيشوه المعنى، أو على الأقل سيأتي بمعنى أضعف.



يقول الكاتب:

(والقرآن كثيراً ما يخلط بين المفرد والجمع في نفس الآية. فخذ مثلاً الاية 66 من سورة
النحل: "وان لكم في الانعام لعبرةٌ نُسقيكم مما في بطونه. والانعام جمع وتعني "حيوانات" وكان يجب ان يقول "نسقيكم مما في بطونها"، لكنه جعلها في حُكم المفرد وقال "بطونه". وقال المفسرون افرده هنا عوداً على معنى النعم والضمير عائد على الحيوان، رغم ان الانعام حيوانات. ونجد نفس الاية تعاد في سورة "المؤمنون" ولكن هذه المرة تغيرت كلمة "بطونه" الى "بطونها". فالآية 21 من سورة "المؤمنون" تقرأ: "وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون".)




في الآية الأولى نقرأ: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ). الحديث كان عن أحد الفوائد، فكان الضمير بالمفرد (بطونه) ليوازي مستوى الكلام.
في الآية الثانية نقرأ: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ).الحديث شمل الفوائد الكثيرة، فكان الضمير بالجمع (بطونها) ليوازي مستوى الكلام أيضاً.


يقول الكاتب:

(ويكثر كذلك في القرآن غريب اللفظ والمعنى، فنجد في سورة المرسلات عندما يصف نار جهنم في الآية 32 وما بعدها: "انها ترمي بشرر كالقَصر، كأنه جمالات صُفرٌ". اولاً كلمة "جمالات" مع انها جمع تكسير لـ "جمل"، إلا أنها جمع غريب نـادر الاستعمال والمتعارف عليه

هو جمال . ثم وصف الجمال بانها صُفـر ، وليس هناك جمـال صفراء.)



الآية تشبيه (كأنه) وليست واقع دنيوي.
فشرر جهنم يشبه قطيع مبعثر من الجمال كثيرة العدد مصطبغة باللون الأصفر.
يقول الكاتب:
(ثم في سورة الفرقان الآية 68: "والذين لا يدعون مع الله الهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً". وأثاماً ليست من اللغة العربية في شئ، والقرآن يُفترض انه نزل بلسان عربي مبين. وحتى المفسرين وعلماء اللغة لم يتفقوا على معنى كلمة "أثاماً.)
(الإثم) هو الذنب، و(الآثام) هو جزاء الذنب.
وكون أن بعض المفسرين كانوا يرون أنه اسم واد في جهنم، فهذا بحث عن المدلول، أما المعنى المعجمي فواضح.



يقول الكاتب:


(وفي سورة العنكبوت، ألآية 64 نجد: "وما هذه الحياة الدنيا الا لهوٌ ولعبُ وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون". وقد وجد المفسرون صعوبةً بالغة في تفسير كلمة "حيوان" هذه، فقالوا ان "الحيوان" هنا تعني الحياة الدائمة.)




لم أجد هذه "الصعوبة البالغة" عند المفسرين. فالجميع تقريباً متفقون على أن (الحيوان) هي الحياة الدائمة.



يقول الكاتب:

(وسئل أبو بكر الصديق عن تفسير الفاكهة وألاب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وقال أنس بن مالك سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه قرأ هذه ألآية ثم قال: كل هذا عرفناه، فما ألاب؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف. فإذا كان عمر وابو بكر وابن عباس لا يعرفون معناها، فهل يُعقل أن يكون الشاعر الذي نظم البيت المذكور كان على علم بمعنى الكلمة؟ والكلمة قد تكون سريالية واصلها "Ebba" أو قد تكون مشتقة من الكلمة العبرية "Ebh"، ولكنها قطعاً ليست عربية، ولا يعرف العرب معناها.)


الكاتب لا يفهم أن توقف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما عن الخوض في دلالات القرآن هو دليل ورع وتقوى وتحرج من الفتوى، رغم أنهم يعرفون المعنى إجمالاً، وكان هذا دأب علماء المسلمين الأفاضل.
فيحكى أن الأصمعي - وهو إمام أهل اللغة - كان لا يفسر شيئاً من القرآن، وعندما سئل عن قوله سبحانه: (قد شغفها حبا...) فسكت وقال: هذا في القرآن، ثم ذكر قولاً لبعض العرب في جارية لقوم أرادوا بيعها: أتبعونها، وهي لكم شغاف... ولم يزد على ذلك ، أو نحو من هذا الكلام.
(الأبّ) في اللغة كما يقول الفيروز أبادي: (الأبُّ‏:‏ الكَلأَ، أو المَرْعَى، أو ما أنْبَتَتِ
الأرضُ، والخَضِرُ). لذلك تجد كل المفسرين تقريباً يدورون حول نفس هذه المعاني.



يقول الكاتب:


(وفي سورة الحج الآية 29 نجد: "ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق". فكلمة "تفثهم" قد لا تكون عربية ولا أحد يعرف معناها ووقعها على ألاذن ثقيل.)


من أخبره أنها ليست عربية؟ ومن أخبره أن أحداً لا يعرف معناها؟
في القاموس المحيط: (التَّفَثُ: مُحَرَّكَةً في المنَاسكِ‏:‏ الشَّعَثُ، وما كان من نحو قَـصِّ الْأَظْفار والشَّاربِ، و حَلْقِ العانَةِ وغير ذلك‏.‏ وككَتِفٍ‏:‏ الشَّعِثُ، والمُغْبَرُّ‏ ). أما وقعها الثقيل على الأذن فلأنها بالفعل شيء ثقيل. وهذا هو معنى الدلالة الصوتية للكلمة القرآنية .




السبع المثـانـي


يقول الكاتب:

(فنجد في سورة الحُجر، الآية 87: "ولقد اتيناك سبعاً من المثاني والقرآن الكريم". فقال بعض المفسرين ان المقصود بها السبع سور الطوال وقال آخرون المقصود بها سورة الفاتحة، وأتوا بحديث يستدلون به. وقال القرطبي في تفسيره أن المثاني تعني القرآن كله بدليل ان الله قال في سورة الزمر الآية 23: "كتاباً متشابهاً مثاني". وواضح أن تفسير القرطبي هذا لا يتفق و
الآية المذكورة اذ تقول الآية "أتيناك سبعاً من المثاني والقرآن الكريم"، فلن يستقيم معنى ألآية إذا قلنا أن المثاني تعنى القرآن كله، إذ كيف يكون قد أعطاه القرآن كله والقرآن الكريم؟ والسور السبع الطوال هي جزء من القرآن فليس من البلاغة ان يُعطف الكل على الجزء. وحتى لو جاز هذا، فلا أحد يعلم ما المثاني، والافضل ان يُخاطب القرآن الناس بلغةٍ يفهمونها.)


في نهاية هذا الكتاب سيتكلم الكاتب عن الأشياء التي اقتبسها الإسلام من الأديان الأخرى حسب زعمه. ومن ضمن هذه الأشياء قال أن كلمة (المثاني) كلمة غير عربية، وأصلها هي كلمة (مشنا) العبري .
سنعلق على موضوع لغة القرآن في موضع لاحق. ولكن قبل ذلك سأتكلم عن بعض مناهج المستشرقين ونظرياتهم حول مصدر القرآن.
لأن المستشرقين من البداية استبعدوا احتمال كون النبي (محمد) رسول من الله بالفعل، فكان يجب أن يضعوا بديلاً آخر لمصدر القرآن غير الوحي. البعض كان يقول أن أصله مسيحي- سرياني، وبعضهم كان يقول أن أصله يهودي- عبري، وهكذ.
لذلك عمدوا إلى بعض المفردات في القرآن التي لم يتفق المفسرون حولها برأي واحد، فافترضوا أن هذه المفردات غير عربية، ثم بحثوا في المعاجم السريانية والعبرية على كلمات تتشابه معها صوتياً، وانتهوا إلى القول ببساطة أن هذه الكلمات عبرية أو سريانية مقتبسة.
في مثالنا الحالي (السبع المثاني) نسي الكاتب أن الخلاف بين المفسرين ليس حول المعنى المعجمي لكلمة (المثاني), فمعناها المعجمي معروف للجميع وهو: (الشيء يثنى على الآخر أي يتكرر) ولكن الاختلاف كان حول مدلول السبع المثاني، ولماذا هي سبع.
في السطور الآتية سنوضح ما هي السبع المثاني:
نقرأ في سورة الزمر: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). سنتخذ من هذه الآية منطلقاً لنا: الله يقول أنه أنزل (أحسن الحديث) في صورة (كتاب متشابه مثاني) أي كتاب أحاديثه متكررة متشابهة. صفة هذه الأحاديث: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم
ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
ننتقل لسورة (هود) نجدها تبدأ بـ: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). نستمر مع الآيات فنجدها تحكي لنا سبع (قصص متشابهة) لسبعة أنبياء الواحدة تلو الأخرى، هكذا:
1- (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ).
2- (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ).
3- (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ).
4- (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).
5- (وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ).
6 - (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) .
7- (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ).
لاحظوا الآتي:
- كل قصة من القصص السبع تكررت في القرآن أكثر من مرة (مثاني).
- هذه القصص كلها متشابهة جداً لبعضها، فكل نبي يذهب إلى قومه ويدعوهم لله
ويوضح لهم أنه لا يريد منهم أجراً، فيكفر به قومه، فينجي الله الأنبياء والذين آمنوا معهم ويجعل الكافرين هم الخاسرون.
نفهم من ذلك أن هذه القصص متشابهة (متشابه). بعد أن يذكر القرآن السبع قصص يقول في الآية (120) من سورة هود: (وكلا نقص عليك ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) ثم ننظر في سورة الزمر فنجد : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَالَهُ مِنْ هَاد) .
نرجع إلى آية: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الحجر 78.
الكتاب يحتوى قصص عقاب أخرى تكررت (مثاني) غير السبعة السابق ذكرهم منها: أصحاب الرس جاء ذكرهم في (الفرقان 32) و (ق 12). قوم تبع: جاء ذكرهم في (الدخان 37) و (ق 17).
وعلى هذا فأحسن الحديث هو (كتاب متشابه مثاني) أي فيه قصص عقاب متكررة ومتشابهة كموعظة للناس (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) ومن ضمن هذه المثـاني هناك سبع كبرى يعرفها الجميع جيداً لشهرتها.
بخصوص عطف (السبع المثاني) على (القرآن العظيم) فهذا لا يعني أن السبع المثاني ليست جزءً من الكتاب، ولكن يفيد تغير الحال. بمعنى أنه في السابق كان تكذيب
الرسل يستوجب عقاباً دنيوياً. كما تقول نفس السورة في الآيات السابقة لها عن أصحاب الحجر: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ - وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ - وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ - فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) الحجر 80 – 84.
أما في حـالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالعقاب أصبح أخروياً، وسيسألهم
الله عن ذلك يوم القيامة: تجـد ذلك في الآيات التالية في نفس السورة: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ الْمُبِينُ - كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ - الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ - فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ - عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ - فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الحجر 94 - 99. هذا الذي أقول ليس جديداً، فقد قاله ابن عباس من قبل: (بيَّن الأمثال والخبر والعبر، ولم يعطهن أحد إلا النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأعطي موسى منهن اثنتين). فقط أنا قدمته بالتفصيل.
الدكتور محمد شحرور له رأي آخر، وهو أن السبع المثاني هي فواتح بعض السور ودلالتها الصوتية. واعتبرها أصل الكلام الإنساني. وهو رأي جدير بالاحترام.
على أي حال ما أود قوله أن الاختلاف بين المسلمين في مدلول كلمة ما لا يعني أنهم لا يعرفون معناها المعجمي. فمعناها المعجمي معروف، ولا يوجد مبرر لما يفعله المستشرقون في البحث في المعاجم العبرية والسريانية، وكأن المعاجم العربية ساكتة عن هذه الكلمات.


يقول الكاتب:


(وفي سورة الحاقة، الآية 36: "ولا طعام الا من غسلين". ولا احد يدري معـنى غسلين، ولكنها تنسجم مع سجع السورة، "ولا يحض على طعام المسكين، فليس له اليوم ههنا حميم، ولا طعام الا من غسلين".)




يقول أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه [لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم] : (من غسلين) الحار الذي قد انتهى غليانه شدة بلغة (أزد شنودة). وهي قبيلة من قبائل العرب.


يقول الكاتب:


(وفي سورة الإنسان، الآية 18: " عيناً فيها تُسمى سلسبيلا ". وهنا كذلك لا احد يعرف ما هي سلسبيلا.)



أظنني أعرف معناها. سلسبيل هي اسم عين في الجنة. والآية تخبر بأن في الجنة عيناً تسمى سلسبيلا.




يقول الكاتب:

(اما سورة المطففين ففيها عدة آيات تحتوي علي كلمات يصعب فهمها: فمثلاً الآيات 7
و8 و9 " كلا ان كتاب الفجار لفي سجين. وما ادراك ما سجين. كتاب مرقوم". والآيات 18 و19و20 من نفس السورة: "كلا ان كتاب الابرار لفي عليين. وما ادراك ما عليون. كتاب مرقوم". ومعنى هذا ان عليين وسجين كلاهما يعني كتاباً مرقوماً، أحدهما للفجار والآخر للابرار. فالقرآن هنا أستعمل غريب اللغة لينقل الينا حقيقة بسيطة: هي أن هناك كتابين، واحد للفجار وواحد للابرار. فهل من المهم لنا أن نعرف أسماء هذين الكتابين؟ ثم إن القرآن يقول أن هناك كتاب واحد "وعنده أم الكتاب" و"اللوح المحفوظ" الذي يحفظه الله منذ الازل في السماء السابعة، وقد سجل الله فيه كل كبيرة وصغيرة عن كل أنسان حتى قبل أن يولد، وهناك كذلك لكل شخص كتابه الخاص به الذي سوف يتسلمه يوم القيامة، فمنهم من يُعطى كتابه بيمينه ومنهم من يعطى كتابه بشماله ليقرأ منه ما فعل في الدنيا. فما الحكمة إذاً في أن يكون هناك كتاب للابرار وآخر للفجار مادام لكل شخص كتابه الخاص وهناك اللوح المحفوظ الذي فيه كل التفاصيل ولا يمكن لهذا اللوح أن يضيع أو يصيبه تغيير؟ وحتى لو قلنا إنه من باب الاحتياط أن يكون للأبرار كتاب وللفجار كتاب آخر، هل يستدعي هذا نزول آية تخبرنا بأسماء هذين الكتابين؟ هل سيغير هذا من سلوكنا أو يدعونا للايمان؟)



الكاتب يظن أن (سجين) و (عليين) هي أسماء (الكتاب المرقوم) .
عبارة (كتاب مرقوم) تماماً مثل عبارة (وكان أمراً مقضيا) في سورة مريم. ومثل عبارة (وكان وعداً مفعولا) في سورة الإسراء.
يقول ابن كثير في تفسيره: وقوله تعالى (كتاب مرقوم‏)‏ ليس تفسيراً لقوله (وما أدراك ما سجين)، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا يتقص منه أحد.



يقول الكاتب:

(في سورة الفيل، الآية 3، نجد : "وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل". ويقول أبن كثير: طير أبابيل يعني طيراً من البحر امثال الخطاطيف والبلسان. ويقول القرطبي: طيراً من السماء لم يُر قبلها ولا بعدها مثلها. وروي الضحاك أن أبن عباس قال سمعت رسول الله يقول: "إنها طيرٌ تعشعش وتفرخ بين السماء والارض". وقال ابن عباس: كانت لها خراطيم كخراطيم الطير، و أكف كأكـف الكلاب. و قال عكرمة: كانت طيراً خُضراً خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السباع. أما سجيل فلا أحد يعرف معناها. وأصل الكلمة ربما يكون من اللغة الآرامية "Sgyl"وتعني حجر المعبد. والشئ الملفت للنظر أن كل هولاء المفسرين أتوا بتفسيرات لا تمت لبعضها البعض بصلة، مما يؤكد انهم كانوا يخمّنون معاني هذه الكلمات الغريبة التي لم يكونوا قد سمعوا بها من قبل.)




كل المفسرون تقريباً متفقون أن (سجيل) هو الطين المحروق الشديد الصلابة – الآجر - وهذا يعني أنهم يعرفون الكلمة جيداً، وليس كما يقول الكاتب "يخمنون " الكاتب يقول أن الكلمة (Sgyl) آرامية، وهذا غير صحيح. لا أعرف من أين يأتي بهذا الكلام؟. أبو عبيد القاسم بن سلام يقول أن كلمة (سجيل) كانت مستعملة عند الفرس: (حجارة من سجيل)، أي من طين وافقت لغة الفرس.
الدكتور (فريستغ) أستاذ اللغة العربية يقول في كتابه [تطور العربية الكلاسيكية ] أن كلمة (سجيل) تشبه الكلمة الفارسية (sang+ geel) ومعناها الحجر الطيني.
ولكن عندما نقول بتشابه بعض كلمات القرآن مع كلمات في لغات أخرى، فهذا لا يعني أن القرآن غير عربي، فلغات الأرض تشترك مع بعضها في كلمات كثيرة القرآن يقول (لسان عربي) أي هذه الكلمات كانت مستعملة وشائعة على لسان العرب، وسواء كان أصل كلمة (سجيل) عربي أم فارسي، فالمهم أنها لسان عربي.



يقول الكاتب:

(وكلمة "الفرقان" وردت في القرآن مرات عديدة بمعاني مختلفة. فمثلاً في سـورة البقرة، الآية 53: "وأتينا موسى الكتاب والفرقان". وفي نفس السورة، الآية185: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان". وفي سورة آل عمران، الآية 4: "من قبل هدى للناس وانزل الفرقان". وسورة ألانفال، الآية29: "ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم". وفي سورة ألانفال، الآية 41: "أعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما انزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان". وفي سورة ألانبياء، الآية 48: "ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتقين". وفي سورة الفرقان، الآية 1: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً". وأتفق أغلب المفسرين ان الفرقان هو ما يفرق بين الحق والباطل ولكن ابن عباس قال: فرقاناً يعني مخرجاً وزاد مجاهد"في الدنيا والاخرة". وفي رواية اخرى قال ابن عباس ان فرقاناً تعني نصراً. وقالوا انها تعني يوم بدر لان الله فرق فيه بين الحق والباطل. وقالوا الفرقان تعني القرآن. فالله قد انزل الفرقان على موسى وكذلك انزله على محمد، مما يجعلنا نقول أن الفرقان ربما تعني "كتاب" ولكن كيف نوفق بين هذا المعنى والآية 29 من سورة الانفال: "ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً". فالمراد هنا أن يجعل لكم مخرجاً. ولكن الآية 41 من سورة الانفال تقول: "وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان". فالمعنى هنا لا يتفق مع أي من المعاني السابقة. فماذا تعني كلمة الفرقان إذاً؟)



هنا الكاتب يورط نفسه فيما لا يعلم.
لا يوجد خلاف بين أحد حتى بين المستشرقين أنفسهم في أن الجذر (فرق) هو جذر عربي خالص. ومعنى (فرقان) هو ما يفرق به بين الحق أيا كان هذا الشيء. مدلول اللفظ كما نعرف يختلف باختلاف السياق، ولكن المعنى المعجمي ثابت كما قلنا: (هو ما يفرق به بين الحق والباطل) في حالتنا هذه. لذلك لفظ (الفرقان) يختلف مدلوله باختلاف السياق. أما معناه المعجمي فثابت.
نأتي إلى الآية التي يراها الكاتب مشكلة: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تجد مفسراً قديماً مثل ابن كثير لا يرى شيئاً غريباً في الآية، ويورد الرأي الأرجح بعد أن نقل عدد من الآراء المأثورة كعادته، ثم يقول: (فإن من اتقى اللّه بفعل أوامره وترك زواجره، وفّق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه). ابن كثير هنا فسر القرآن بالقرآن، فتوصل لمدلول كلمة (فرقاناً) من خلال آية شبيهة وهي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ....) الحديد 28.
كما ترون فمدلول كلمة (فرقان) في صورة الأنفال مازال مرتبطاً بالجذر العربي (فرق) أي ما يفرق به بين الحق والباطل. وهناك حديث شريف أيضاً يقول نفس الشيء: (وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه....). هذا هو مدلول كلمة (الفرقان) في سورة الأنفال؛ وهو أن من يتقي الله يعطيه قوة تفرق له بين الحق والباطل ليستمر في نهجه وتقواه.
والآن لنعرف كيف تورط الكاتب في محاولة بعض المستشرقين مثل (آرثر جفري) لإثبات أن القرآن أصله مسيحي سرياني. تجده يحاول أن يربط بين كلمة (فرقان) وكلمة (بركانا) السريانية. الكلمة السريانية معناها (الخلاص) حسب المفهوم المسيحي للكلمة الخلاص من الخطيئة الأصلية. ولكن واجهته مشكلة وهي أن السياق لكلمة (فرقان) الواردة في القرآن أكثر من مرة لا يتماشى مع الكلمة السريانية، باستثناء آية واحدة، وهي آية سورة الأنفال التي شرحناها منذ قليل، والتي من الممكن تحويرها لتتماشي مع معنى الخلاص في المسيحية. لذلك عمد إلى ذر الرماد في العيون ليوهمنا أن كلمة (الفرقان) الواردة في القرآن أكثر من مرة غامضة المعنى، وأصلها ليس الجذر العربي (فرق) وعلى المسلمين أن يبحثوا لها عن معنى جديد.



يقول الكاتب:


(وهناك كلمة أخرى لم تكن معروفة للعرب قيل نزول القرآن، ألا وهي " كلالة". ففي سورة النساء، الآية 4: "وإن كان رجلٌ يورث كلالةً ام إمرأة". وسئل ابو بكر الصديق عن كلمة كلالة فقال: أقول فيها برائي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه، الكلالة من لا ولد له ولا والد. وقال القرطبي في تفسيره: الكلالة مشتقة من الاكليل وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه. وهذا بلا شك تخمين وليس هناك أي دليل أن كلمة كلالة مشتقة من إكليل. وقد أورد الطبري 27 معنى للكلالة مما يدل على انهم لا يعرفون معناها.)


مرة أخرى نقول أن حذر الصحابة في الإدلاء برأيهم في القرآن هو دليل ورع وتقوى وليس جهـلاً بالمعنى المعجمي للكلمة. وهذا هو معنى قول أبو بكر رضي الله
عنه برغم أنه ذكر المعنى الصحيح للكلمة.
أما وجود أكثر من مدلول للكلمة حسب السياق وثقافة المفسر وبيئته، فهذا شيء طبيعي يعرفه من له أدنى معرفة بعلوم اللغويات. ولنا أن نسأل هل عندما يورد الطبري (27) مدلول للكلمة (وليس معنى) فهو دليل لجهله بالكلمة، أم استعراض لثقافته الواسعة، والتوظيفات المتعددة للكلمة؟!




لغة القرآن



يقول الكاتب:


(ويقدر مونتجمري واط أن هناك حوالي سبعين كلمة غير عربية أُستعملت في القرآن، حوالي نصف هذه الكلمات مقتبسة من الكلمات التي كانت مستعملة في الديانة المسيحية، وخاصة اللغة السريانية والاثيوبية، وحوالي خمسة وعشرون كلمة من اللغة العبرية والارامية وكلمات بسيطة من الفارسية.)


شهد القرن العشرين في بداياته اهتماماً بالغاً من جانب المستشرقين بالدراسات القرآنية. وتجلى ذلك في طائفة من الدراسات تباينت اتجاهاتها، واتفقت في نتائج و اختلفت في أخرى.
فألفونس منغانا الذي كان يحاول إثبات الأصل المسيحي للقرآن، ادعى أن النبي محمد استخدم كثيراً من المفردات السريانية والآرامية في القرآن، ثم خلطها بالعربية وأخرج لأتباعه ما يسمى بالقرآن. ثم ذهب لأبعد من ذلك بالقول أنه في زمن الرسول لم تكن العربية هي اللغة السائدة في مكة والمدينة ، بل كانت السريانية والآرامية.
آرثر جفري الذي ألف كتاباً عن الألفاظ الغريبة في القرآن، وكانت دراسته أخف حدة، قال أن هناك (75) لفظاً في القرآن، ولا يوجد دليل مكتوب على استعمال هذه الألفاظ بين العرب في الفترة قبل الإسلام، وإن كان لا ينفي احتمال تداول هذه الكلمات بين العرب بشكل شفهي. ورأى أن هذه الألفاظ من المحتمل أن يكون العرب قد اقتبسوها من السريانية والآرامية والأثيوبية.
كثيرون رفضوا هذا الكلام مثل (رابين) الذي قال أن اللفظ القرآني هو لفظ عربي صافي ، وهو يقصد بالعربية كل الصحراء العربية وليست مكة أو المدينة. أو بعبارة أخرى: لغة القرآن هو مزيج من لهجات القبائل العربية عامة، وإن كان يطغى عليه لغة قريش.
وتبقى دراسة التي قدّمها مارغليوث: [أصول الشعر العربي] راديكاليةً على كل المستويات؛ إذ افترض فيها أن كل الشعر الجاهلي الذي وصلنا اليوم تم تزويره في العصر الأموي، ليحاكي لغة القرآن، و يجب أن لا نقارن بينها وبين لغة القرآن. و قد أثرت دراسته في د. طه حسين، الذي ألف كتاب [في الشعر الجاهلي] على غرار أستاذه مرغليوث.
هذا الرأي تم رفضه منذ مدة طويلة، وقد السيد (أ. ج. أربري) بمناقشة هذه الآراء وتفندها في كتابه [القصائد السبع]. وكل الدراسات الجديدة على العربية الكلاسيكية - نسميها الفصحى - تعتمد على مصدرين، هما الشعر الجاهلي والقرآن.
على أنه من يمكن الاستفادة من آراء (مرغيلوث) جزئياً في رصد حركة الوضع على لسان شعراء محددين، مثلما حدث من وضع على لسان (أمية بن أبي صلت) . لكن ليس بالشكل الذي يطرحه هو.
سيدور نقاشنا حول ما يقوله منجانا تحديداً، و خاصة بعد أن تم إحياء آراءه من جديد عن طريق (كريستوف لوزنبرغ) ، و نشرت له مجلات (النيويورك تايمز) ، و(الغارديان)، و(النيوزويك) ترجمة لأجزاء من كتابه [القراءة السيريوآرامية للقرآن]. الذي أصر على أن مكة لم تكن تتكلم العربية بل السريانية. ثم ذهب ليفسر القرآن بطريقته الخاصة، بعد تجريد كلماته من حروف العلة و التنقيط، ثم البحث في المعاجم السريانية.

لكن قبل ذلك أود توضيح بعض النقاط الهامة:
من الصعوبة معرفة أي اللغة ولدت قبل الأخرى، وما مدى تأثير اللغات ببعضها،
ورغم ذلك تجد هؤلاء المستشرقين يتحدثون بكل ثقة. لذا ترى أبحاثهم تخرج في النهاية في صورة أقرب لأعمال الهواة. كما حدث مع السيد لوزنبرغ.
وأيضاً فإن المسلمين الأوائل كانوا يعرفون أن هناك كلمات في القرآن كانت مستعملة في اللغات الأخرى. و لكن يبدو سؤالاً ساذجاً ، أن يطرحوا على أنفسهم: من أخذ من الآخر؟ لأن كـل اللغات تتطور وتتداخل كلماتها. فحتى لو كانت بعض
الكلمات ظهرت في الآرامية مثلاً قبل العربية فهذا لا يعني أنها ليست عربية، وأنها لم تكن متداولة بين العرب قبل الإسلام. اللهم إلاّ إذا وجد قانون كان يمنع العرب قبل الإسلام من استخدامها إلا بتصريح من الأخوة الآراميين!
يجب أن نعرف أن هناك فارق بين كلمة (لسان عربي) كما يقول القرآن، وكلمة (لغة عربية) كما يقول اللغويون، فكلمة (لسان عربي) أي الكلام المتداول على لسان العرب أيا كان أصله وجذوره. أما كلمة (لغة) فهي تجرنا إلى متاهات منشأ اللغات وجذور الكلمات، وكلها أمور ما زالت غير محسومة.
نقطة هامة أريد توضيحها أيضاً، والتي يستدل المستشرقون على وجود كلمات في القرآن لم تكن العرب تعرفها، وهي اختلاف المفسرين حول بعض الكلمات. لكن إذا تتبعنا تفاسيرهم سنجد أغلب الاختلاف كان حول (مدلول اللفظ) وليس معنى المعجمي للفظ. فاللفظة القرآنية تخضع إلى ثلاث حالات: مفهومها في ذاتها، و مفهومها حين تتداول عليها حركات الإعراب، ومفهومها حين تأخذ مكاناً خاصاً في الكلام وضمن السياق. لابد أن نعرف أنك حين تقوم بالتأليف فالمعنى موجود، والبحث يكون عن اللفظ (المعنى يسبق اللفظ) أما أثناء القراءة والتفسير فالعكس يحدث (اللفظ يسبق المعنى) لذلك كان الجميع يجتهد للبحث عن المدلول.
النقطة الأخيرة قبل أن نبدأ نقاشنا حول ما يقوله لوزنبرغ، هي أن تمسكنا بالأصل
العربي للقرآن ليست عنصرية، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ولكن لأن هذه هي الحقيقة . سنطرح كل الآراء وتصورات المسبقة وسنقوم بمناقشة ما يقوله منغانا ولوزنبرغ بهدوء:
كانت آراء ألفونس منغانا السبب الرئيسي في إصرار البعض على الأصل السرياني للقرآن. إذ يقول في كتابه [ التأثير السرياني على لغة القرآن ]: (كان على مؤلف القرآن أن يواجه صعوبات شتى, فكيف يكيّف كلمات وعبارات جديدة لأفكار ناشئة
وبلغة لم تكن قد ترسخت أو خضعت للقومسة. فإما أن ينحت كلمات جديدة كثيرة أو يلجأ للحل الأسهل وهو اقتباس كلمات يفهمها الجميع من لغة كنسية ودينية كان أتبعاها منتشرين في كل مكان ما بين الكنائس والأديرة). ثم يواصل بعد قليل: (وهذه اللغة كانت السريانية بدون أدنى شك). كما تلاحظون فإن منغانا كان يظن أن السريانية كانت منتشرة في منطقة مكة وما يجاورها؟
لوزنبرغ يسير على نفس خطى منغانا، فهو أيضاً يفترض أن مكة كان تتحدث الآرامية السريانية. لوزنبرغ يقول: (في وقت نزول القرآن لم يكن هناك وجود للأبجدية العربية المكتوبة، مما يؤكد لنا أن الآرامية فيما بين القرنين الرابع والسابع الميلادي لم تكن فقط لغة التواصل المكتوبة الوحيدة، بل اللغة الصريحة الوحيدة لهذه المنطقة في غرب آسيا). كما ذكرنا من قبل فإن مسألة وجود كلمات مشتركة بين العربية ولغات أخرى في القرآن ليس أمراً غريباً، فمن الطبيعي أن تتأثر اللغات ببعضها. و خاصة اللغتين العربية والسريانية قريبتان جداً من بعضهما، إذ تنتميان إلى مجموعة اللغات السامية.
ولكن المشكلة أن لوزنبرغ لا يقول أن القرآن فيه بعض الكلمات المشتركة مع
السريانية، ولكن يقول أن القرآن كله عبارة عن خليط - هجين من كلمات عربية و سريانية. لذلك تجده يجـرد المفردة القرآنية من حروف العلة والتنقيط، ويحـاول نطقها
بشكل مختلف بإعادة وضع حروف علة أو تنقيط في مواضع أخرى حتى يصل إلى نطق

يشبه كلمة سريانية مقابلة. ثم يبحث عـن معنى المفردة السريانية الجديدة التي اخترعها
في المعاجم السريانية، ليخرج في النهاية بمعنى جديد تماماً للمفردة القرآنية.
دراسة لوزنبرغ رغم طرافتها إلا أنها مبنية على افتراض مسبق في ذهنه، وهو طالما أن المفسرين مختلفون حول كلمة في القرآن فلابد أن يكون لهذه الكلمة جذر سرياني. وكما قلت من قبل فالمفردة القرآنية ليست قاصرة على معناها المعجمي، لذلك فمعظم الاختلاف يكون حول مدلول الكلمة وليس المعنى المعجمي.
الرجل يتعامل مع القرآن وكأنه يحل شفرة غير مفهومة ليخرج في النهاية بقرآن جديد. لوزنبرج يفعل ذلك حتى مع الكلمات العربية المشهورة جداً بشكل أقرب إلى الهوس!
ورغم كل محاولاته تبقى قراءة لوزنبرغ للقرآن قراءة خيالية؛ لأنه أولاً، وقبل كل شيء: لم تكن للسريانية أي وجود في جزيرة العرب في بداية الإسلام بشكل عام، بل كانت منحصرة في منطقة إديسا (Edessa) جنوب تركيا. وبخصوص التنقيب عن النقوش السريانية فلا يوجد لها أثر بدءاً من جنوب دمشق، باستثناء بعض الكتابات الخاصة بالحجاج. هذه الحقائق أكدها (جون هيلي) البروفيسور بقسم الدراسات الشرق أوسطية بجامعة مانشستر في مجموعة من مقالات وكتب.
(The Old Syriac Inscriptions of Edessa and Osrhoene – 1999): (Prof. John Healey)
ثانياً: هناك مخطوطات مكتوبة بالأبجدية العربية قبل ظهور الإسلام من أشهرها: (مخطوطة راكش - 267 ميلادي)، و (مخطوطة جبل الرام - القرن الرابع الميلادي)، و (مخطوطة أم الجمال)، و هذه الأخيرة كتابتها قريبة جداً من الخط العربي التقليدي. كما توجد مخطوطات أخرى.
ثالثاً: أول قاموس سرياني مرتب أبجدياً كتبه (حنين ابن اسحق) عام (873)م ولم يكن دقيقاً تماماً، تبعه (عيشو بن علي) - تلميذ حنين- بقاموس آخر سرياني عربي. أما أشهر قاموس سرياني كتبه (بـار بهلول) في القرن العاشر الميلادي، وهو قاموس عربي
سرياني أشبه بموسوعة كاملة.
السؤال الآن: على ماذا يعتمد السيد لوزنبرغ في بحثه لإثبات أسبقية اللغة السريانية كلغة للقرآن على اللغة العربية؟ المفاجأة أنه يعتمد على معاجم (بيان سميث) و (بروكلمان) الذين بدورهم يعتمدان على معجم (عيشو بن علي) ومعجم (بار بهلول). وعندما نعرف أن المعجمين الأخيرين تم كتابتهم بعد الإسلام بـ (250) عاماً
وقد سبقهم الخليل بن أحمد في تأليف أول معجم عربي بـ (100) عام فوقتها سنشعر بالدهشة مما يفعله الرجل! أليس ما يفعله السيد لوزنبرغ لمحاولته فك شفرة القرآن من معاجم كتبت بعد القرآن بـ250 عاماً يمثل ضرباً من العبث؟
بالنسبة لقواعد السريانية الكتابية، فهناك مخطوطات تشير أن أول عمل منظم بشأنها كان بواسطة (يعقوب الاديسا) وطبعاً وصلنا منه أجزاء صغيرة، ولكن القواعد الأصلية للسريانية المكتوبة لا نعرف عنها الكثير. يقول الدكتور فريستيغ: (لسوء الحظ لا نعلم الكثير عن أصول الكتابة والنحو في السريانية الأولى معظم ما وصلنا عنها لاحقاً كان بعد أن تأثرت بقواعد اللغة العربية. الأمر الذي يجعلنا نقول أن معظم قواعد اللغة والكتابات السريانية والعبرية التي بين أيدينا الآن مقتبسة من اللغة العربية).
(Arabic grammar and Qur'anic exegesis in early Islam - Leiden -1993): (prof. dr. Kees Versteegh)
وهل بقيت السريانية على حالها، أم دخلت عليها عوامل التطور والتبدل ككل لغات العالم؟ أبو الفرج الملقب بابن العبري يقول في هذا الصدد: (أن السريانية تفرعت إلى فروع كثيرة جداً بسبب تفرق الناس بين بلاد متباعدة مما خلق بوناً شاسعاً بين لهجة و أخرى).
لذلك فمن حقنا أن نسأل: هل ما يقوم به البعض من دراسات على القرآن هو لأهداف علمية محايدة. أم أن المحاولات الاستشراقية لإثبات الأصل السرياني للقرآن، تخفي ورائها أهدافاً خبيثة؟



يقول الكاتب:

(فمثلاُ في سورة طه، الآية 15 "إن الساعة آتيةٌ أكاد أخفيها"، وهي أصلاً مخفية ولا يعلم أحد متى تأتى، فالقرآن هنا لا بد انه قصد "أظهرها" بدل أخفيها. وقد قال القرطبي في تفسير هذه ألآية آيةٌ مشكلة. فروى سعيد بن جبير "أكاد أخفيها" بفتح الهمزة، قال: أظهرها. وقال الفراء: معناها أظهرها، من خفيت الشئ أخفيه إذا أظهرته. وقال بعض النحوين يجوز أن يكون "أخفيها" بضم الهمزة معناها أظهرها.) ويتضح هنا أن النحويين أنفسهم وجدوا مشقة في تفسير هذه الآية، فكيف بعامة الناس؟)


كما قلت من قبل أن الاختلاف حول كلمة أو عبارة في القرآن هو اختلاف في المدلول، أما معناها اللغوي فهي معروفة للجميع.
فالمفسر حينما يقوم بتفسير آية ما فإنه يكتب المدلول أو المعنى الذي فهمه من الآيات، ومن هنا كانت تأتي المشكلة بالنسبة للمفسرين. كما نعرف فالفكرة أوسع من الكلمة وأكثر ثراءاً، والبراعة هي أن تأتي بكلمة تحمل كل الفكرة أو المعنى. وهذا ما يفعله القرآن، ولا يجب أن ننتظر من المفسرين أو غيرهم أن يفعلوا الشيء ذاته فهذا ليس في مقدورهم.
فلو نظرنا لتعبير (أكاد أخفيها) لا أجد أفضل من القرآن نفسه ليعبر عن المراد منه في سورة المعراج: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً - وَنَرَاهُ قَرِيباً) وأظن أن هذا يكفي للتوضيح.



يقول الكاتب:


(وفي بعض الاحيان يعكس القرآن الاشياء المألوفة للناس، فمثلاً في سورة البينة، ألايتين أثنين وثلاثة نجد: "رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة. فيها كُتبٌ قيمة". و المعروف لدى كل
الناس أن الكتب تحتوي على الصحف، وليس العكس كما جـاء في القـرآن. ولكن دعنا نقرأ ما كتب القرطبي في تفسيره لهذه الآية: (الكتب هنا بمعنى الاحكام، فقد قال الله عز وجل "كَتَبَ الله لأغلبن". بمعنى حكم. وقال "والله لأقضين بينكما بكتاب الله" ثم قضى بالرجم، وليس الرجم مسطوراً في الكتاب. فالمعنى لأقضين بينكما بحكم الله. وقيل الكُتب القيمة هي القرآن، وجعله كُتباً لانه يشتمل على أنواع من البيان. فهل اقتنع القارئ بهذا التفسير؟ أنا لم أقتنع. فالقرطبي كغيره من المفسرين راح يدور في حلقة مفرغة في محاولة منه للخروج من هذه المعضلة التي جعلت الصحف تحتوي على الكتب، وليس العكس.)


يقع الكاتب في أخطاء كثيرة، لأنه ينقل عن أناس كتبوا عن القرآن للتشويش وليس لإظهار الحق. الكاتب يرى أن (الصحف) تكون في (الكتب) وليس العكس. رغم أن أي مسلم يعرف أن القرآن لم يسمى (مصحفا) إلا بعـد أن طبع على ورق
وأصبح مجلداً. وقبل ذلك و طوال فترة نزوله كان يسمى (كتاب) أي كلام يتلى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ). المعنى المتداول حالياً لكلمة (كتاب) بمعنى مجموعة من الأوراق أو مجلد هو معنى مستحدث وغير صحيح، كالكثير من الكلمات الأخرى التي تستخدم في غير مكانها.
وبالمناسبة فلفظ (قرأ) أيضاً ليس معناه قراءة كلمات مكتوبة على ورق، ولكن معناه تلاوة أو ترتيل كلمات سواء بترديدها وراء شخص أو ترديدها من الذاكرة.



يقول الكاتب:

(وقد لاحظ هذا جماعة من المعتزلة في صدر الاسلام، منهم ابراهيم النظام الذي قال ان ترتيب القرآن ولغته ليس فيهما اى اعجاز. وقد دافع عن هذا الرأي الكاتب والقاضي الاندلسي ابو محمد علي بن احمد بن حازم في كتابه "الملل والنحل"، وكذلك ابو الحسين عبد الرحمن بن محمد الخياط من المعتزلة.)



الموضوع ليس كما يقول الكاتب، فهو يخلط الأمور كثيراً ! في تفسير المسلمين لمعنى الإعجاز في القرآن، فسر جماعة من المعتزلة ومنهم النظّام معنى الإعجاز بـ (الصرفة) ومعناها أن الله أعجز البشر وصرفهم عن معارضة القرآن وسلبهم القدرة على الإتيان بمثله.
قول النظام هذا ليس بصحيح وعارضه الجميع، ومنهم باقي أئمة المعتزلة مثل الإمام عبدالجبار في كتابه [المغني] الذي يضع تعريفاً آخر للصرفة وهو أن محاولة البشر الإتيان بمثيل للقرآن لم تنجح - انصرفت - لاستحالة تقليد القرآن.
ولكن لابد أن نقول أن (النظّام) بقوله هذا يعترف بإعجاز القرآن ويعترف أيضاً
أنه فوق مستوى البشر، وليس كما يقول الكاتب. لاحظوا أن النظام كان يفسر ماهـية الإعجاز ، فكيف يقول الكاتب أنه كـان ينكر الإعجاز؟! قد تكون نظرية الصرفة هذه تناسب موقف المعتزلة من قضية خلق القرآن، ولكن سواء كان هناك إعجاز أو تعجيز فالأمر سيان. فهناك شيء خارق للعادة فوق مستوى البشر وهو المهم.



الأخطاء النحوية



سيتكلم الكاتب بعد ذلك عن الأخطاء النحوية في القرآن.
موضوع الأخطاء النحوية المزعومة لا يستحق الرد في الحقيقة. فالكاتب يعرف أن قواعد علم النحو وضعت بعد القرآن. وأيضاً أن العرب الذي تحداهم القرآن كانوا بارعين ومهرة ولم يكونوا ليتركوا شيئاً كهذا يمر بدون حملة تشنيع. فمن يقول بوجود أخطاء نحوية في القرآن كمن يقول بوجود أخطاء قانونية في مادة القانون.




يقول الكاتب:

(وهناك كذلك أخطاء نحوية في كثير من آيات القرآن. انظر الى الآية 69 من سورة المائدة: "ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون". والنحو يتطلب ان تكون كلمة "الصابئون" منصوبة لانها اسم "ان"، وكل اسماء "ان" الاخرى في الاية منصوبة الا "الصابئون"، والاصح ان تكون "الصابئين". واذا نظرنا الى الاية 17 من سورة الحج، نجد ان "الصابئين" منصوبة، كما ينبغي ان تكون: ن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين اشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شئ شهيد".)



الصابئون هم أبعد المذكورين عن الإيمان. رفع كلمة الصابئون، للدلالة على أنهم أبعد المذكورين في الضلال ولأنهم أقلّ منزلة - الكلمة غير خاضعة للتوكيد بـ (إن) - وكأن اليهود والنصارى لأنهم أهل كتاب عطفهم على اسم إنّ (التي تفيد التوكيد).
وكلمة الصابئون تُعرب على أنها مبتدأ. وقد تكون اعتراضية وخبرها محذوف بمعنى (والصابئون كذلك)، أما كلمة النصارى فهي معطوفة على ما قبلها.




يقول الكاتب:

(وفي سورة النساء الآية 162: "لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بمـا انزل اليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر" فكلمة: "المقيمين" لا تتماشى مع قواعد النحو المعروفة. فهي معطوفة على "الراسخون" ويجب ان تكون مرفوعة، وليست منصوبة كما في الآية، فالمعطوف دائماُ يتبع ما عُطف عليه. وقال القرطبي في تفسيره: (قرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة "المقيمون" على العطف، وكذا هو في حرف عبد الله. ولكن سيبويه قال: إنه نُصب على المدح.)


رأي سيبوبه صحيح. (وَالمُقِيْمِيْنَ) منصوب على المدح، أي أخصُّ وأعني: المقيمين الصلاة. مثل (الصَّابِرِيْن) في سورة البقرة. وهذا يُسمّى القطع، والقطع يكون في: الصفات أو العطف إذا كان من باب الصفات. والقطع يكون للأمر المهم، كما في قوله تعالى (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) التوبة3 عطف على اسم. أما القطع في الصفات يكون مع المرفوع للمنصوب، ومع المنصوب للمرفوع، ومع المجرور للمرفوع.
والآية - التي ذكرها الكاتب - هي من القطع يقطع من الصفات، لأهمية المقطوع، والمقطوع يكون مفعولاً به، بمعنى: أخُصُّ - أو أمدح - ويسمى مقطوعاً على المدح أو الذم. وفي الآية السابقة كلمة: (المُقِيْمِيْن) مقطوعة وهي تعني: أخص - أو أمدح - المقيمين الصلاة. وكأننا نسلّط الضوء على المقطوع، فالكلمة التي نريد أن نركّز عليها أو نسلّط عليها الضوء نقطعها.
أما لماذا جاءت (الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) بالقطع، والْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ معطوفة على الراسخون في العلم؟ لأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عبادتان ظاهرتان في الآية وردتا بين عقيدة (والمؤمنون يؤمنون، والمؤمنون بالله واليوم والآخر). وإقامة الصلاة هي الأمثل والأولى، فركّز عليها.



يقول الكاتب:

(وفي سورة الحجرات الآية التاسعة: "وإنْ طائفتان مـن المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما".
فكلمة: "اقتتلوا" كان يجب ان تكون "اقتتلا" لانها ترجع الى "طائفتان" اي مثنى، واقتتلوا ترمز الى الجمع.)




الطائفة: لفظها مفرد أبداً، ويدل على الجمع أبداً، فلا خلاف إن ذكر مرة بالإفراد ومرة بالجمع. وهذا التعبير البديع من بلاغة القرآن الكريم الذي لم يسبق بمثله.



يقول الكاتب:


( وفي سورة الحج الآية 19: "هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قُطعت لهم ثياب من نار يُصب من فوق رءوسهم الحميم". فكلمة "اختصموا" يجب ان تكون "اختصما" لانها ترجع للمثنى "خصمان".)



جمع (اختصموا) حملاً على المعنى، لأن كل خصم فريق فيه عدد من الأشخاص.




يقول الكاتب:

(وفي سورة البقرة الآية 177: "ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر". وواضح ان شبه الجملة "ولكن البر من آمن بالله" لا تستقيم مع منطق الآية، والاصح ان تكون "ولكن البار". وقد قال بهذا النحوي الكبيرمحمد بن يزيد المبرد. وتفسير الجلالين يقول: "المقصود بها ( ذا البر) وكذلك قُرئ بفتح الباء اي البار.)



الْبِرّ: أتى باسم بالمصدر بدلاً من اسم الفاعل (البَارَّ) عطفاً على (آمن)
البر: اسم جامع لمعاني الخير. والتقدير (ولكنَّ البرَ بِرُ مَنْ آمن) فحذف المضاف، ويجوز أن يُحذَف ما عُلم من مضاف أو مضاف إليه. فإن كان المحذوف المضاف، فالغالب أن يخلفه في إعرابه المضاف إليه.



يقول الكاتب:


(وفي سورة طه الآية 63: "قالوا إن هذان لساحران يريدان ان يخرجاكم من ارضكم". وكلمة "هذان" اسم "إن" ويجب ان تكون منصوبة، اي "هذين". وقد ورد ان عثمان كان يقرأ "هذين" وكذلك فعلت عائشة.)



الآية برواية حفص- بتسكين نون - (إن) وإنْ المخففة تكون مهملة وجوباً إذا جاء بعدها فعل، أما إذا جاء بعدها اسم فالغالب هو الإهمال نحو: (إنْ زيدٌ لكريم) . ومتى أُهمِلَت يقترن خبرها باللام المفتوحة وجوبا ً، للتفرقة بينها وبين إنْ النافية كي لا يقع اللّبس. واسمها دائماً ضمير محذوف يُسمَّى ضمير (الشأن)، وخبرها جملة، وهي هنا جملة: (هذان ساحران).
أما قراءة إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ- بتشديد النون - فهي لغة بني الحرث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد، فهم يقولون: جاء الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان. والقرآن الكريم تميز بالحفاظ على لغات العرب، فكان يجب عليه أن يسجِّل للقرآن الكريم حفظه لتلك اللهجات من الاندثار، لا الطعن فيه لأنه ذكرها!




يقول الكاتب:

(وكلنا يعرف ان التمييز العددي يختلف بإختلاف المعدود. فالاعداد من واحـد الى عشرة يكون ما بعدها جمع، فنقول تسعة نساء. ومن أحدى عشر وما فوق يكون ما بعدها مفرداً، فنقول اثنتي عشرة سبطاً وليس أسباطاً.)


أسباطاً أي الجماعات: وهي القبائل، جمع مؤنث، والتقدير (اثنتي عشرة: أمة). فأَنّث لفظ عشرة، لأن المحذوف مؤنث تقديره (أمَّة أو فرقة).
وقول: " اثني عشر سبطاً " لا يحقق المراد، لأن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة ، وكل قبيلة أسباط- لا سبط - فوضع " أسباطاً" موضع " قبيلة ". بمعنى: وقطعناهم أمماً، لأن كل أسباط كانت أمة عظيمة، وجماعة كثيفة العدد، وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى، لا تكاد تأتلف.


تحت عنوان: (السحر في القرآن)




يقول الكاتب:

(في سورة الناس نجد: 1- قل اعوذ برب الناس 2- ملك الناس3- إله الناس4- من شر الوسواس الخناس 5- الذي يوسوس في صـدور الناس 6 - من الجنة والناس. وهاهو الرسول مرة اخرى يستعيذ من شر الوسواس الخناس، سواء أكـان من الجـن اوالانس. وهذا كذلك اعتراف بالسحر ومقدرة الجن والانس ان يلقوا الضرر بالمسلم عن طريق الوسوسة في صدره. وهذا منتهى الايمان بالغيبيات ومنها السحر. وهـا هو القرآن في سورة
البقرة الآية 102 يحدثنا عن جن سليمان والسحر وهاروت وماروت: "يعلّمون الناس السحر وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ...... وما هم بضارين به من احد الا بأذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم". فهاهم السحرة، مرة اخرى، يضرون الناس باذن الله. فاذا كان السحرة بمقدورهم ضرر الناس بتعاويذهم، فعلى الناس حماية انفسهم من هذا الضرر بتعاويذ مضادة لتعاويذ الساحر وبتعليق التمائم والرقي على اعناقهم.)




الكاتب يعترف في البداية أن الإسلام يحرّم السحر، ولكن لأنه يعيش حالة من الازدواجية بين ما يعرفه عن الإسلام وبين ما يقرأه ويود نقله، فيعود ويقول: (وها هو الرسول مرة أخرى يستعيذ من شر الوسواس الخناس، سواء أكان من الجن أو الإنس. وهذا كذلك اعتراف بالسحر ومقدرة الجن والانس ان يلقوا الضرر بالمسلم). ونحن نقول له أن الاستعاذة بالله هو دعاء إسلامي عام وليس مرتبطاً بموضوع السحر فقط.
فالمسلم يستعيذ بالله من الجهل: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين).
والمسلم يستعيذ بالله من السفسطة والجدال الذي لا معنى له: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
ويستعيذ بالله مما ليس له به علم: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ). الاستعاذة إذاً هي دعاء، وليست تميمة أو شعوذة.



يقول الكاتب:

(لغة القرآن نفسها فيها شئ من السحر والطلاسم، فبعض السور تبتدئ بحروف ليس لها اي معنى معروف، فهي كالرموز التي تُستعمل في الشفرة. فهناك خمسة سور تبتدئ بـ "الف، لام، ر" وسورة واحدة، سورة الرعد، تبتدئ بـ "الف، لام، ميم، ر". وسورة مريم تبتدئ بـ "كاف، هاء، ياء، عين، صاد"، وسورتين بدايتهما "طاء، سين، ميم" وسورة النمل، بينهما، تبتدئ بـ "طاء، سين"، وستة سور تبتدئ بـ "حـاء، ميم"، وسورة الشورى تبتدي
بـ "حاء، ميم، عين، سين، قاف". وسورة الاعراف تبتدئ بـ "الف، لام، ميم، صاد" وهناك سور تبتدئ بحرف واحد مثل سورة قاف وسورة ص، وبعض السور تبتدئ بحرفين مثل طه ويس. وباختصار هناك تسع وعشرون سورة تبتدئ بالغاز لا يفهم معناهااحد. وقد ذهب بعض المستشرقين (هيرشفيلد) الى القول بانها الحروف الاولى من اسماء اشخاص ساعدوا زيد بن ثابت في كتابة القرآن، وذهب آخرون الى انها محاولة للايعاز للعرب الذين كانوا وما زالوا يؤمنون بالسحر وبالكهان الذين كانوا يستعملون الالغاز في طلاسمهم، بأن القرآن ليس من عند محمد بدليل ان فيه الغاز لا يفهمها حتى محمد نفسه. وعلى كل حال، هذه الالغاز لا تخدم غرضاً منطقياً اذ ان القرآن نزل ليوصل للناس رسالة معينة، ونزل بلسانهم، فما الفائدة من انزال رموز لا يفهمها الناس المخاطبون بها؟)


الحروف المقطعة في بداية السور، وإن كانت لا تشكل كلمات مفهومة، إلا أنها تثير بعض المعاني في النفس بوقعها الصوتي فقط، وهل الموسيقى تعتبر كلمات مفهومة؟!
وبنفس منطقه بإمكاني أن أقول أن الموسيقى تعتبر سحراً وطلاسم وشعوذات. أليس كذلك؟ الوقع الصوتي للحروف المقطعة في بداية السور، وإن كنا لا نعرف لها معنى من ناحية المنطق إلا أننا نعرف لها معنىً من ناحية الشعور والعاطفة. المعاني ليست مرتبطة بالفكر فقط، فلها أيضاً إمتداد للعاطفة.
بخصوص قول (هيرشفيلد) أن هذه المقاطع هي الحروف الأولى من أسماء أشخاص ساعدوا (زيد بن ثابت) في جمع القرآن، فهذا يحتاج إلى دليل بالتأكيد، وهو نفسه يعترف بأن هذا الرأي مجرد تخمين. وطالما أن الرجل لم يبذل أي مجهود لإثبات ما يقول، فلماذا نشغل أنفسنا بتفنيد إدعاءات بلا دليل؟!
لكن سأذكَره بشيء بسيط هو: لماذا لم يظهر هؤلاء الأشخاص ليدَعوا ذلك ؟ هل كانوا من النوع الخجول؟!


يقول الكاتب:

(والسؤال الذي يطرأ على الذهن هو: لماذا احتاج الله ان يقسم لعبيده، وكلنا عبيد الله. وهل يحتاج السيد لان يقسم لعبيده ليصدقوه؟ وفي رأيي ان القـرآن، مرة اخرى، يحاول ان
يجاري الجاهليين في عاداتهم، ومنها القسم المتكرر. فالجاهليون كانوا مولعين بالقسم في كلامهم، فكانوا دائماُ يقولون: تالله لافعلن هذا، ووالله لاضربن عنقك، وهكذا . وكل اشكال القسم في القرآن ادخلت المفسرين في مأزق عندما حاولوا تفسيرها، فأغلبها يبتدئ
بـ "لا": "لا اقسم بيوم القيامة" و "لا اقسم بالشفق" و"ولا أقسم بالخنس". فالمفسرون قالوا ان "لا" زائدة، واراد الله ان يقول: "اقسم بيوم القيامة". وهذا خطأ لان الله ما كان ليحتاج ان يدخل "لا" زائدة في كل مرة يقسم فيها. لو حصلت مرةً واحدة لفهمناها، أما ان تحدث في كل مرة يقسم فيها فأمرٌ غير مستساق. ولو تنبه المفسرون الى ان في الفترة التي جُمع فيها القرآن، لم تكن هناك علامات ترقيم في اللغة العربية، وان الآية كانت: "لأقسم" واللام هنا للتاكيد، مثل ان نقول "لأفعلن كذا"، ولكن لانها كُتبت بغير الهمزة على الالف، قُرئت "لا" فصارت لا اقسم بدل لأقسم.)



قبل الإسلام كان هناك نوعين من القسم في الخطاب العربي:
قسم الشعراء مثل: (لعمري - ورمحي - وفرسي) وهذا النوع من القسم الذي كان منتشراً في الشعر العربي، و كان يهدف لتأكيد خطاب الشاعر.
القسم الثاني كان (قسم الكهان): الكاهن كان يقسم بأشياء غامضة لا علاقة لها بالخطاب. وهو بذلك كان يلعب على الإيحاء النفسي للمستمع، وإحاطة نفسه بجو من الغموض.
كل المستشرقين تقريباً الذين تعاملوا مع القسم في القرآن صنفوه ضمن النوع الثاني (قسم الكهان). المستشرقين بهذا كانوا يتجاهلون آيات واضحة في القرآن تعارض قولهم وهي: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) الطور29. وأيضاً: (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) الحاقة 42.
ما الذي يدعو الكاهن أن ينكر كونه كاهناً؟! الكهانة لم تكن عيباً عند العرب. أيضاً الكاهن كان لا يدعو لعبادة الله الواحد الأحد. هذا الاتهام تم توجيهه لكل الأنبياء من قبل كما يقول القرآن، وكأنهم يتوارثونه أو تأمرهم به أحلامهم فهو على ما يبدو حيلة عقلية يلجأ إليها المكذب: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا

قالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ - أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
أفضل من كتب عن القسم في القرآن هو الشيخ عبد الحميد الفراهي -رحمه الله-
في كتابه [إمعان في أقسام القرآن]. الرجل تعامل مع موضوع القسم من منظور لغوي تاريخي، ثم وصل إلى مدلول القسم في القرآن .
خلاصة ما قاله: هو أن القسم في المجتمعات كان دائماً أداة لتأكيد العهود والمواثيق. هذا النوع من التصديق على المعاهدات أخذ أشكال كثيرة، منها المصافحة بالأيدي أو ذبح حيوان ونشر دمائه. كما فعل موسى عليه السلام في سفر الخروج، الإصحاح (24) كعلامة على عهد الرب مع بني إسرائيل. هذه الأفعال كانت تتم أمام شهود، وهذا هو صلب الموضوع كله.
لو أمعنا في أسلوب القسم في القرآن نجده يتكون من عنصرين:
المقسم به - المقسم عليه (جواب القسم). بين المقسم به وجواب القسم علاقة من نوع ما.
هذا العلاقة هي علاقة حجة أو دليل أو برهان أو شاهد. بمعنى أن المقسم به يمثل برهاناً أو شاهداً على المقسم. المقسم به هو: العصر. المقسم عليه أو جواب القسم هو: إن الإنسان لفي خسر. لو نظرنا سنرى أن كل القصص المذكورة عن العصور الماضية (العصر) تمثل شاهداً أو دليلاً على أن الإنسان خاسر إلا الذين آمنوا. أو بمعنى آخر أن مرور العمر هو الشاهد والدليل على أن الإنسان خاسر إلا الذين آمنوا.
مثال آخر: (والذاريات ذروا). جواب القسم هنا (إنما توعدون لصادق). فالرياح الشديدة والأعاصير هي الشاهد، والدليل على أن الإنسان (أي إنسان) ليس في مأمن من الموت. وعلى هذا فالقسم في القرآن هو أحد أدوات المنطق القرآنى، وإن كنا لا ننكر دوره البلاغي. ولكن بدون شك هناك قصور شديد في الدراسات المقدمة حول القسم في القرآن، فمعظمها يغفل دوره كأحد أدوات المنطق في القرآن، ويقتصر على الناحية البلاغية فقط. نتمنى ألا يستمر ذلك إن شاء الله .



قصص القـرآن



يقول الكاتب:


(ولو افترضنا ان الحوت ابتلع يونس كاملاً، فاين وجد يونس الهواء ليتنفس ويعيش اياماً في بطن الحوت دون ان تهضمه العصارات الهاضمه في معدة وامعاء الحوت. والمشكلة الثانية ان القرآن يقول لولا ان كان يونس من المسبحين لظل في بطن الحوت الى يـوم يبعثون. وهذا يقتضي ان يعيش الحوت الاف او ملايين السنين، الى ان يُبعث الناس. والا فلو مات الحوت، مات يونس معه. فهل يُعقل ان يعيش الحوت الاف السنين؟ ولو افترضنا أن يونس، بمعجزة إلهية، قدر أن يتنفس في بطن الحوت لمدة ثلاثة أيام ولياليها، ما الفائدة من وراء هذه القصة؟ هل الغرض منها إقناعنا بأن الله قادر أن يصنع المعجزات وقد روى لنا القرآن عدة معجزات أخرى قام بها موسى وعيسى وغيرهم؟ أم الغرض منها شئ آخر يخفى علينا؟)


أولاً يسأل: كيف نجي يونس من العصارات الهاضمة؟ نقول أن (إلتقمه) لا تعنى أنه وصل لمعدته. ولو حدث فهذه حالات استثنائية وليست قاعدة. تماماً مثلما أصبحت النار برداً وسلاماً على ابراهيم، وتماماً مثلما يسقط إنسان ما من الطابق العاشر ويظل حياً.
موضوع معجزات الأنبياء لا يتم طرحه هكذا. بل إثباته نابع من إدراك لوجود خالق لهذا الكون. ومن صفات هذا الخالق أنه على كل شيء قدير. ولكن الفارق بين المؤمن بالله ومروجي الخرافات، هو أن المؤمن بالله يدرك أن هذه الأمور حالات استثنائية وليست قاعدة. ودون هذه الحالات, فالكون محكوم بقوانين صارمة.
ثانياً: يسأل عن معنى (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). الآية لا تقول أن يونس والحوت سيظلان حيين إلى يوم القيامة. الآية تقول أنه لولا لـطف الله لمات يونس و أصبح الحوت قبراً له إلى يوم القيامة .
ثم يتسائل في النهاية : ما فائدة هذه القصة ؟ بقية الآية تشرح: (... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ

اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً). وهذه الأمور يلاحظها كل الناس في حياتهم وعلاقتهم مع الله، وإن كان الكاتب لا يلاحظها فهذا شأنه.



يقول الكاتب:

(وهذه الاية المذكورة في سورة يونس أعلاه يصعب فهمها لان " الا" اداة استثناء، فنقول مثلاً: آمن الناس كلهم الا ابو لهب. واذا طبّقنا هذا على الاية المذكورة، نجد "الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي". ويُفهم من هذا ان الذين آمنوا قبلهم لم يرفع عنهم عذاب الخزي ولم ينفعهم ايمانهم. ولكن الجزء الاول من الاية يقول: " فلولا قرية آمنت فنفعها ايمانها". و " لولا" حرف امتناع لوجود. فنقول مثلاً: لولا النيل لكانت مصرُ صحراءً". فوجود النيل منع مصر من ان تكون صحراء. وبالتالي فلولا قريةُ آمنت، لعذبها الله، ولكن وجود ايمانها منع عذابها. يعني نفعها ايمانها. فلا مجال للاستثناء هنا، لان القرية التي
آمنت نفعها ايمانها وقوم يونس نفعهم ايمانهم.)



هذه هي الآية التي لا يفهمها الكاتب: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) يونس98. كل القصص المذكور في القرآن عن الأنبياء السابقين حتى زمن نبي الله موسى، نجده ينتهي بتكذيب القوم للنبي، فينجي الله الأنبياء ومن آمن معهم ويجعل الكافرين هم الأخسرين. باستثناء حالة واحدة فقط في القرآن هم قوم يونس.
فإيمان قوم يونس أنجاهم من عذاب الخزي في الحياة الدنيا. هذا ما تقوله الآية باختصار. فاستثناء قوم يونس ليس من (القرى التي آمنت فنفعها إيمانها) فهي الحالة الوحيدة عندنا، ولكن إستثناءهم كان من باقي القرى عموماً.
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيرالآية: (والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكاملها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس. وما كان إيمانهم إلا تخوفاً من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم، بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم فعندها جأروا إلى اللّه واستغاثوا به وتضرعوا له، وأحضروا أطفالهم ودوابهم، وسألوا اللّه تعالى أن يرفع عنهم العذاب فعندها رحمهم اللّه وكشف عنهم العذاب).




يقول الكاتب:

( فخذ مثلاً موسى لما قال لقومه ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرةً. سورة البقرة الاية 67 وما بعدها: "يقول له قومه ادعوا لنا ربك يبين لنا ما هي". اخبرهم انها "بقرة لا فارض ولا بكر، عواناً بين ذلك". فسألوه عن لونها، فقال: "صفراء فاقع لونها يسر الناظرين". فقالوا اسأله مرة اخرى لان البقر تشابه علينا، فقال انه يقول: "بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها". قالوا الان جئت بالحق، فذبحوها. ماذا يستفيد الناس من مثل هذا القصص، ولماذا اصر الله على بقرة بعينها تُذبح له، ولماذا طلب ان تذبح له بقرة ؟ هل ارادهم ان يذبحوا له قرباناً كما كانوا يذبحون القربان للاصنام؟ وهل هناك أبقار صفر؟)


الكاتب يقول (لماذا أصر الله على بقرة بعينها تذبح له؟) وهذا يعني لنا أنه لم يقرأ القصة أبداً!
الآيات تقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً). كلمة بقرة جاءت نكرة لعدم التحديد، ولكن عادة التلكؤ والمماطلة الموجودة في البشر جعلتهم يطرحون مزيد من الأسئلة ليضيقوا الخناق على أنفسهم .
ثم يتسائل (هل هناك أبقار صفر) بالتأكيد توجد أبقار صفراء، أم تراه لم ير سوى الأبقار الدنماركية؟!



يقول الكاتب:

(ولهذا نجد عدة اديان في هذا العالم الان لان الابناء يعبدون ما وجدوا آباءهم عليه، ويندر جداً ان يغير شخص دينه. وحتى لو فعل، ليس من المتوقع ان يطلب من ابويه ان يغيرا دينهما. وحتى لو طلب منهما ذلك يكون بامكانهما الرفض كما حدث عندما دعا ابراهيم اباه ان يترك عبادة الاصنام ويتبع دينه الجديد فرفض ان يترك عبادة اصنامه، وعندما طلب الرسول من عمه ابي طالب، وهو على فراش الموت، ان يسلم، رفض ابو طالب. فهل الخشية من ان يرهق الغلام والديه سبب كافي لقتله؟ ولماذا لم يقتل الله الابن الكافر الذي قال لوالديه أُف لكما، تخبراني اني سأخرج من القير و ما هذه الا اساطير الاولين، و استغاث والداه بالله
ولكن الله لم يقتله كما فعل نبي الله الخضر عندما خاف ان يُرهق الطفل والديه عندما يكبر: "والذي قال لوالديه أُفٍ لكما أتعدانني ان أُخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله، ويلك آمن ان وعد الله حق فيقول ما هذا الا اساطير الاولين". فهذا الغلام قال لوالديه المؤمنين ان دينكما أساطير الاولين، واستغاث والداه بالله ولم يقتله الله، فلماذا قتل نبي الله الخضر ذلك الغلام؟ وكما مر علينا في سورة لقمان عندما اوصى الله الانسان فقال: "وإن جاهداك على ان تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب اليّ". وهاهو الله يقول للانسان إن جاهدك ابواك على ان تُشرك بي فلا تطعهما. ونفس الشئ يمكن ان يُقال للابويين اذا جاهدهما ابنهما على ان يكفرا. فالقرآن هنا لم يقل للانسان اقتل من جاهدك على ان تُشرك بي، بل بالعكس قال له: "وصاحبهما في الدنيا معروفاً". فلا نرى عذراً لنبي الله الخضر في قتل الغلام.)

من أهم القضايا المطروحة بين الناس هي قضية العدالة الإلهية. هل هناك عدالة في هذه الحياة؟
وما الذي نراه في نشرات الأخبار يومياً عن أطفال يموتون ومجاعات تجتاح بعض البلاد وزلازل تضرب أراضي كثيرة؟ قصة موسى والخضر- لا أدري إن كان هذا هو اسمه- والتي يراها الكاتب سخيفة وغير مقنعة تضع إجابات على هذه الأسئلة بشكل قصصي بسيط.
القصة تلخص أن الإنسان رغم أنه لا يدرك سوى ما تحت قدميه ورغم أنه لا يرى سوى الحال إلا أنه دائماً يتساءل عن المآل. لو أنك فتحت كتاباً ورأيت فيه حرفاً واحداً فقط هو المقروء, فبأي حق تزعم أنك تستطيع شرح محتويات الكتاب؟
الإنسان لا يدرك سوى حاله فقط , لحظته ومكانه ووعيه الشخصي، ولا يملك القدرة على تفسير مآل الأمور. قد تمر يوماً على عمال يقومون بهدم بناية ضخمة فتشعر بالضجر من التراب المنتشر والهواء المخنوق الملوث فتتساءل: لماذا هذا العمل التخريبي؟! ولكنك لو رأيت مكان هذه البناية قد أصبحت حديقة خضراء بعد مدة من الزمن، لأدركت أنك كنت متسرعاً، ومغروراً في حكمك على الأمور. وقد يدركك الموت بدون أن ترى الحديقة، ولكن أحفادك سيرونها. فالكون ليس ملكك وحدك. هذا بالضبط ما تقوله قصة النبي موسى والعبد الصالح.
الكاتب لا يفهم كل هذا، وذهب يتشبث بالغلام الذي قتله العبد الصالح، وهو يظن أن القرآن يأمر المسلمين بقتل الأولاد العصاة! هولا يفهم أن هذا مثال نستخلص منه (حِكْمة)، لا (حُكْماً). إذا كانت هذه طريقته في فهم الأمور فهو في مأساة حقيقية.




يقول الكاتب:

(وقصص احياء الموتى تتكرر في عدة سور في القرآن. فهاهو ابراهيم في سورة البقرة الآية 260 يسأل ربه فيقول: "وقال ابراهيم رب ارني كيف تحيي الموتي قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً". وهاهم بنو اسرائيل لما قتلوا شخصاً قال لهم الله اضربوه بلسان البقرة التي ذبحوها لله، فأحيى الله الميت "فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يُحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون". وفي سورة الكهف نرى ان الله امات اهل الكهف ثلاثمائة سنة او يزيد ثم احياهم وكلبهم. وكذلك يخبرنا في سورة البقرة الآية 259 "او كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال انّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه" ولم يأسن طعامه. ويخبرنا القرآن كذلك ان عيسى قد احيى الموتى. وكل هذه القصص لن تُقنع شخصاً لم ير هذه المعجزات بام عينه. فما فائدة هذا التكرار هنا؟ )



نتفق مع الكاتب أن هذه المعجزات ليست حجة على من لم يرها بعينه.
أما عن الفائدة من تكرارها في القرآن، فمن السهل معرفته لو أجابنا عن هذا السؤال الشهير: ما أصل الحياة ؟ هذا سؤال يتردد منذ آلاف السنين. وهو واحد من الأسئلة الكبرى. ولو أن الكاتب ليس في حاجة لقراءة مثل هذه الأمور.



يقول الكاتب حول الإسراء والمعراج :


(فواضح من هذه الرواية ان محمداً كان نائمـاً فحلم انه ذهب من مكة الى القدس وزار المسجد الاقصى، الذي لم يكن موجوداً اصلاً قبل بعثة الرسول، فقد كان معبد سليمان
في ذلك المكان. ومن هناك صعد الى السماء وراى ربه الذي فرض على المسلمين خمسين صلاة في اليوم وقبلها محمد، ولكن تدخُل موسى ادى الى تخفيضها الى خمس صلوات. فاذاً القصة كلها كانت حُلم، ولا يُعقل ان يطير محمد جسدياً من مكة الـى السماء السابعة، ماراً بالقدس، ثم يرجع في ليلة واحدة. وعائشة تخبرنا انه في ليلة الاسراء والمعراج ظل جسم الرسول بجوارها في السرير حتى الصبح، لم يبرحه. وحتى الاسراء جسدياً من مكة الى المسجد الاقصى والرجوع الى مكة في ليلة واحدة، يصعب ان نصدق انه حدث في تلك الايام. انما المحتمل ان يكون اسراءً روحياً.)




في البداية يقول: (أن المسجد الأقصى لم يكن موجوداً وقتها). لكي نجيبه فلنقرأ أولاً الآية الأولى من سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).
لعله لم ينتبه أن الآية تذكر أيضاً (المسجد الحرام). لو فهمنا أن المسجد هو مبنى وجدران ومئذنة كما يفهم الكاتب، فهل كان حول الكعبة مسجداً وقتها بهذه المواصفات يسمى (المسجد الحرام)؟
المسجد الحرام تم بناؤه لاحقاً حول الكعبة، ولم يكن موجوداً وقت الرسول. كلنا نعلم أن كلمة (مسجد) هي اسم مكـان على وزن (مفعل) وليست بناءً وجدراناً ومئذنة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) . فهل الأرض لها جدران ومئذنة؟!
ثم يقول أن قصة الاسراء كانت حلماً وليس حقيقة، بدليل أن السيدة عائشة كانت تقول أن جسد الرسول لم يتحرك ليلتها. لننقل الرواية من سيرة إبن اسحق ثم نناقشها متناً وسنداً: قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ حدثني بعض آل أبي بكر‏‏:‏‏ (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول ‏‏ ما فُقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروح).كما ترون كلمة (بعض آل أبي بكر) يعني أن هناك راو مجهول، وهذا يسقط الرواية من ناحية السند. أيضاً رحلة الاسراء كانت في مكة قبل الهجرة بسنة، و السيدة عائشة رضي الله عنها لم تصبح زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم إلاّ بعد هجرته للمدينة. كما ترون فرواية ابن اسحق الذي يستشهد بها الكاتب ساقطة سنداً ومتناً.
دائمـاً كنت أتعجب وأنا أقرأ، أن كثيرين يحصرون أمر إسراء ومعراج النبي صلى
الله عليه وسلم في نوعين فقط من التجارب: إما رحـلة مادية بالجسد، وإما حلم أثناء المنام. ألا يوجد بديل ثالث؟ الرحلة طبعاً ليست مادية، فالتفاصيل في السنة الصحيحة تتجاوز كـل قوانين المـادة والزمن والمكان. وهي أيضاً ليست حلماً، ليس فقط لأن الروايات التي تؤيد كونها حلماً غير صحيحة، ولكن لأن تفاصيل سورة النجم تستخدم عبارات تدل على ادراك حقيقي: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى – عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى - إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى - مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى - لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ).
يبقى لدينا بديل ثالث بسيط نفهمه من سورة الإسراء : (لنريه من آياتنا) وكذلك من سورة النجم: (ولقد رأى من آيات ربه الكبرى)، وأيضاً الفؤاد ما رأى)، و كذلك: (ما زاغ البصر). إذن هي تجربة حقيقية إدراكية واعية، حتى وإن كانت بدون جسد مادي. ولكن ما نوع هذه التجربة؟ فالله أعلم.



تحت عنوان : (الأخطاء التاريخية)



سيفرد الرجل بعد ذلك صفحات تحت عنوان (الأخطاء التاريخية في القرآن). تجده يجمع كل ما خالف فيه القرآن الكتاب المقدس، ويعتبرها أخطاءً تاريخيةً. لم أعلم من قبل أي مؤرخ أو باحث اعتبر الكتاب المقدس مصدراً تاريخياً. ولولم أكن أعرف مصادر الكاتب لظننته مسيحياً يكذب على قرّائه.
في الحقيقة الكاتب ينقل ما يقوله (ابن وراق) حرفياً. و(ابن وراق) ينقل من كتاب آخر هو:[المصادر الأصلية للقرآن] للقس (كلير تسدال). وهو كتاب غير منهجي وغير علمي. طالما الأمر كذلك فبإمكان أي إنسان أن يتعامل مع كل ما يخالف انتماءه الديني على أساس أنه (خطأ تاريخي). على أي حال سيكون لنا تعليق حول كتاب هذا القس لاحقاً إن أبقان الله أحياء.
ولكن أريد التعليق على موضوع واحد، رأيته يتكرر كثيراً. وهو موضوع: (شخصية هامان في القرآن الكريم).




يقول الكاتب:

(ونجد في سورة القصص الآية 38: " وقال فرعون يا ايها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فاوقد لي يا هامان على الطين فأجعل لي صرحاً لعلي اطلع الى إله موسى". وفي سورة غافر الآية 36: "وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي ابلغ الاسباب". وهامان كان وزيرالملك اهاسورس "Ahasuerus" ملك فارس الذي حكم من الهند الي الحبشة، ولم يكن وزير فرعون. وقصص التوراة تحكي ان هامان غضب علي يهودي اسمه موردخاي واقنع الملك اهاسورس ان كل اليهود في الامبراطورية الفارسية يجب ان يقتلوا لانهم كانوا يخططون لاغتيال الملك، وحدد يوم الاعدام بيوم 13 آذار. وعندما علمت زوجة الملك، وكانت يهودية، اقنعت الملك ان يقيم وليمة يعزم عليها هامان. ويوم الوليمة تضرعت الملكة الى الملك واتهمت هامان بانه ينوي حصد اليهود بدون ذنب. فغضب الملك وخرج الى حديقة القصر ولما عاد وجد هامان عند قدمي الملكة، وكان هامان يستجديها، ولكن الملك اعتقد ان هامان كانت له نوايا خبيثة نحو الملكة، فامر باعدامه وسلم اليهود منه. وسمح الملك لليهود بمحاربة اعدائهم يوم 13 آذار. ولما انتصروا على اعدائهم اعلنوا يوم 14 آذار يوم عطلة لليهود وسموها بيوريم. ويتضح من هذا ان هامان لم يكن وزيراً لفرعون، ولم يكن حتى في مصر. )



الباحث في الكتاب المقدس يسحتضر دائماً الكم الهائل من الانتقادات التي وجهت إلى قصصه. والكاتب بين وجهة نظره إلى الدين بشكل عام. ومع ذلك يورد هذه القصة التي هي من سفر (أستير)، وهو أحد أسفار العهد القديم وكأنها رواية صحيحة. المشكلة في الكاتب أنه ينقل من أشخاص يؤمنون بالكتاب المقدس إيماناً لا يعتريه شك. أشخاص لم يلتفتوا إلى الحقائق التي ووجهوا بها، وطفقوا يرون الأمور التي تخالف كتابهم أوهاماً .
هذا السفر الذي لا يعرف تاريخ كتابته - ولم يعثروا على رقع لـه في مخطوطات
(قمران) وهي أقدم مخطوطات العهد القديم - ليس فيه ذكر عن الله. وقد قال عنه (لوثر) مؤسس البروتستانتية يوماً: (أشعر بالعداء نحو هذا السفر، لدرجة أنني كنت أتمنى ألا يكون موجوداً). وأذكر أنني قرأت للقس (منيس عبد النور) الذي ألف كتاباً في الدفاع عن الكتاب المقدس، قال في معرض التعليق على عدم ذكر الله في هذا السفر بالذات، أنكاتب - السفر- خشي أن يذكر اسم الله لئلا يستبدل رجال سجلات مملكة فارس اسم الله باسم آلهتهم وهم يحفظون السفر في السجلات الملكية). وكما هو واضح فهذا تعليل غير مقنع. ويكفي أن نعلم أن سجلات الملك الفارسي (احشويرش ) باقية حتى اليوم، ليس فيها لا هامان ولا أستير، وليس فيها أن الملك تزوجها، ولا هناك مردخاي اليهودي. كل هذا دفعت غالبية المفسريين والشارحين (من علماء اليهود) إلى نتيجة مفادها أن هذا السفر ما هو إلا قطعة من الخيال المحض.
وهذا السفر هو حجة الكاتب في قصة هامان!
لكن سيأتي من يقول: فليكن ما قلته صحيحاً، فسواء أكان (هامان) شخصية اخترعها كتبة الكتاب المقدس أم لا، فهذا لا يعنينا. وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخطأ عندما كان يقتبس من الكتاب المقدس القصص ويضيفها إلى القرآن. وبذلك التبس عليه الأمر فظن أن هامان عدو بني إسرائيل كان وزير فرعون بدل وزير احشويرش. لكن هنا تكمن المفارقة، فهم من جهة يملئون الدنيا بقولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذا اطلاع واسع، وأنه كانت له رحلات يتعـلم فيها على يد الرهبان وغيرهم، و أنه من المحتمل أن تكون له مكتبة شاملة بأنواع الكتب. و مم لا شك فيه عند هؤلاء أن النبي صلى الله عليه و سلم كان متبحراً في الكتاب المقدس. ومن جهة أخرى يدعون أن النبي صلى الله عليه و سلم أخطأ في نقل بعض الأسماء من الكتاب المقدس! وبالرغم أننا لا نجد أثراً لقصة أستير في القرآن لا من قريب ولا من بعيد، فإن هؤلاء يدعون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مطلعاً عليها. فكيف يكو ن النبي مطّلعاً على القصة ثم يخطئ في نقل الاسم، أو هو لم يعجبه

من القصة إلاّ اسم هامان؟ أليس هؤلاء يعانون من ازدواجية؟
كل هذا ولم نجاوب على السؤال التالي: هل وجدت شخصية اسمها (هامان) لدى المصريين القدامى؟ لن أعطي الموضوع أكثر من حقه. سأنقل ما كتبه د. موريس من كتابه [موسى وفرعون] ثم أترك التعلق بعدها للقارئ.
يقول موريس بوكاي: (لقد جاء ذكر (هامان) في القرآن كرئيس المعماريين والبنّائين ، ولكن الكتاب المقدس لا يذكر أي شيء عن (هامان) في عهد فرعون، وقد قمتُ بكتابة كلمة (هامان) باللغة الهيروغلوفية - لغة مصر القديمة- وعرضتها على أحد المختصّين في تارخ مصر القديمة.
ولكي لا أدعه تحت أي تأثير لم أذكر له أنها وردت في القرآن، بل قلت له إنها وردت في وثيقة عربية قديمة يرجع تاريخها إلى القرن السابع الميلادي، فقال لي المختصّ: (يستحيل أن ترِد هذه الكـلمة في أي وثيقة عربية في القرن السابع، لأن رموز الكتابة باللغة الهيروغلوفية لم تكن قد حُلّت آنذاك).
ولكي أتحقق من هذا الأمر فقد أوصاني بمراجعة "قاموس أسماء الأشخاص في الإمبراطورية الجديدة" لمؤلفه (أللامند رانك). نظرتُ إلى القاموس فوجدت أن هذا الاسم موجود هناك ومكتوب باللغة الهيروغلوفية وباللغة الألمانية كذلك، كما كانت هناك ترجمة لمعنى هذا الاسم وهو (رئيس عمّال مقالع الحجر) وكان هذا الاسم أو اللقب يطلق آنذاك على الرئيس الذي يتولى إدارة المشاريع الإنشائية الكبيرة. استنسخت تلك الصفحة من ذلك القاموس، وذهبت إلى المختص الذي أوصاني بقراءته. ثم فتحتُ ترجمة القرآن بالألمانية وأريته اسم هامان فيه، فاندهش ولم يستطع أن يقول شيئاً.
لو جاء ذكر اسم هامان فرعون في أي كتاب قبل القرآن، أو لو جاء ذكره في الكتاب المقدس لكان المعترضون على حق، ولكن لم يرد هذا الاسم حتى نزول القرآن
في أي نصّ، بل ورد فقط على الأحجار الأثرية لمصر القديمة وبالخط الهيروغلوفي.
إن ورود هذا الاسم في القرآن بهذا الشكل المذهل لا يمكن تفسيره إلا بأنه معجزة، وليس ثمة أي تعليل آخر. أجل، إن القرآن أعظم معجزة).




تحت عنوان: (الاخطاء الحسابية)




يقول الكاتب:


(نجد في القـرآن بعض الاخطاء الحسابية التي حاول العلماء المسلمون تفسيرها بشتى
الوسائل. ففي سورة البقرة، الآية 233: "والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعة". ولكن في سورة الاحقاف، الآية 15 نجد: "ووصينا الانسان بوالديه إحساناً حملته امه كُرهاً ووضعته كُرهاً، وحمله وفصاله ثلاثون شهراً". فمن الواضح هنا ان مدة الرضاعة اقل من سنتين لان الحمل في العادة يكون تسعة اشهر، و بالتالي يكون الرضاع
واحداً وعشرين شهراً، لنحصل على المجموع وهو ثلاثون شهراً، كما جاء في الاية الثانية.)



الموضوع بسيط. عندنا ثلاثة آيات حول هذا الموضوع:
الآية الأولى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) لقمان14.
والثانية: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً .....) الأحقاف 15.
والثالثة: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) البقرة233 .
عندما يقول القرآن (في عامين) فإنها تصدق على عام وأربعة أشهر، وعام وخمسة أشهر، و عام وستة أشهر.... وهكذا. فعندما أقول أن طفلاً أتم من عمره عاماً و دخل في الثاني، ماذا أقصد بذلك؟ سأقصد بالطبع بأن دخول الطفل في الثاني يصدق حتى آخر يوم من عامه الثاني، هذا بالضبط ما تعنيه: (في عامين).
وهذا معنى الآية الثانية "ثلاثون شهراً"، فالحمل في أقصى مدته ( 9) أشهر أوأقله (6) أشهر، فإن المتبقي سواء أكان (24) أو (21) فإنه يصدق على (في عامين).
القرآن يستخدم البعض بمعنى الكامل، كما قال الله تعالى الحج أشهر معلومات) وإنما هو شهران وبعض الثالث، وأيضاً آية: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) سورة البقرة 203. ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف، كذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق، وأنه ليس منه شيء تام .
نأتي إلى الآية الأخيرة: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ). هذه الآية يبين أمراً لا علاقة لها بالآيتين السابقتين، لأنهما كانتا تتحدثان عن مرحلة من عمر الإنسان بدون أن يقررا حكماً شرعياً. فبمناسبة بيان أحكام الطلاق في الآيات التي سبقت هذه الآية، من الممكن أن تطلق المرأة أحياناً وهي حامل ، فعلى الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إن أرادت هي وأب الرضيع إتمام الرضاعة، والآية تتحدث عن بيان الحد الأعلى للرضاع وهو عامان تامان. ولذا فالزيادة عليهما غير معتبرة شرعاً. هذا ما تقرره الآية الأخيرة.
يقول الطبري في تفسيره: (فإن قال لنا قائل: ومـا معنى ذكر (كاملين) في قولهوالوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) بعد قوله: (يرضعن حولين) وفي ذكر(الحولين) مستغنى عن ذكر (الكاملين) إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين) ما يراد به ؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟ قيل: إن العرب قد تقول: (أقام فلان بمكان كذا حولين، أو يومين، أو شهرين) وإنما أقام به يوماً وبعض آخر، أو شهراً وبعض آخر، أو حولاً وبعض آخر، فقيل: (حولين كاملين) ليعرف سامعو ذلك أن الذي أريد به حولان تامان).



يقول الكاتب:


(وفي سورة الاعراف الآية 54: "ان ربكم الذي خلـق السموات والارض في ستة ايام
ثم استوى على العرش". اما في سورة فُصلت، الآية 9 وما بعدها، فنجد: "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون لـه انداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من
فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام سواءً للسائلين. ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللارض إئتيا طوعاً او كرهاً قالتا آتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين". فالمجموع هنا يصبح ثمانية ايام بدل الستة.)


لو طرحنا على أي مختص في علم دراسة الكون هذا السؤال: أيهما أقرب إلى الحقيقة، خلق السموات والأرض على الترتيب، أم تداخل خلقهما بما في الأرض من مظاهر الحياة؟ لقال لك بالتأكيد تداخل خلقهما. هذ ما تريد الآية أن تقوله بالضبط. فالقرآن عندما يتحدث عن الخلق فإنه يقول بـ : خلق السموات والأرض أحياناً، و أحياناً أخرى بـ: خلق الأرض والسموات.
يجب أن نعرف أنه لا يوجد في القرآن ما يسمى الترتيب في الخلق. ومن هنا ما يظنه الكاتب خطأً حسابياً ، ليس إلاّ شرحاً لعملية التداخل هذا ، وكان على الكاتب أن ينتبه إلى ذلك. وعلى العموم سنشرح هذه الفكرة أكثر في فصل القادم: (الإسلام والعلم).



يقول الكاتب:

(وهناك اختلاف حسابي آخر في عدد الملائكة الذين أمد الله بهم المؤمنين يوم موقعة بدر. ففي سورة الانفال، الآية 9: "اذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم اني ممدكم بألف من الملائكة مردفين". وفي سورة آل عمران، الآية 124: "اذ يقول للمؤمنين الن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين". وفي نفس السورة الآية 125: "بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين". فنرى ان عدد الملائكة ابتدأ بألف ثم صار ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف. وهذه الاعداد ليست في مواقع مختلفة، بل كلهم في موقعة بدر، اذ قال حسين بن مخارق عن سعيد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة الا يوم بدر.)



إن الآيات الواردة في سورة الأنفال، تختلف أحداثها عن الآيات التي وردت في سورة آل عمران، فالأولى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) الأنفال 9 تتحدث عن غزوة بدر.
والثانية: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ) آل عمران124 تتحدث عن غزوة أحد. بدليل أن الآية التي وردت قبلها تقول: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) آل عمران123. فالفقرة تتحدث صراحة عن معركة وقعت، و هي معركة بدر.
وفي الحديث المروي عن ابن زيد قال: (قالوا يا رسول الله - وهم ينظرون المشركين - أليس الله يمدنا كما أمدنا يوم بدر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، وإنما أمدكم يوم بدر بألف - قال - فجاءت الزيادة بقوله تعالى: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) آل عمران125.
وبالنسبة لما قاله ابن عباس من أنه: (لم تقاتل الملائكة إلاّ يوم بدر). فيقول ابن جرير في موضوع قتال الملائكة في غزوة أحد في تفسيره: (لا دلالة في الآية من سورة آل عمران، على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلف، ولا بالخمسة آلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم).
والأصح أنه لم يحصل إمداد بالملائكة، وأنما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ذلك لأصحابه، وجعل ذلك معلقاً على ثلاثة أمور، وهي الصبر، والتقوى، و إتيان الأعداء من فورهم. وهذه الأمور الثلاثة لم تتحقق، فلم يحصل الإمداد كما تقدم.



يتبع ,,,,,,,,

اخت مسلمة
10-05-2009, 10:23 PM
منطـق الـقـــرآن


يقول الكاتب:

(بما ان الرسول لم تكن له معجزات مثل موسى او عيسى، فقد حاول اقناع عرب الجاهلية بالمنطق، ولكن منطق القرآن لا يستقيم والمنطق المعروف لدينا الآن.)


هل نفهم من كلامه أنه يعترف بمعجزات النبيين موسى وعيسى عليهما السلام؟! ألا يبدو هذا متناقضاً مع منهجه الذي تبناه في الفصل الأول من الكتاب. فكما فهمت من الكاتب أنه إنسان لاديني، يفسر ظاهرة الدين كنتاج لتفاعل الإنسان مع محيطه الاجتماعي. وهو بذلك ينكر الأديان والوحي بشكل عام.
وكنا لن نستغرب إذا صدر هذا الكلام من مسيحي، أما أن يصدر من هذا الكاتب فهذا يدعو للدهشة!



يقول الكاتب:

(فاذا اخذنا مثلاً سورة الكهف، الآية 22، عندما سأل اهل مكة النبي عن عدد اهل الكهف: "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي اعلم بعدتهم". فأي منطق هذا لاقناع الناس بان القٌرآن من عند الله. هم كانوا يعلمون ان الله اعلم ولذلك سألوا النبي ان يخبرهم بعدد اهل الكهف، ولكن بدلاً من الاجابة المباشرة بعددهم، يخبرنا القرآن ما قال الناس عن عددهم، ويخبرنا أن كل هذا القول تخمين. فلماذا إذاً لا يخبرنا هو بالعدد الحقيقي حتى لايكون هناك داعي للتخمين.)


القصة في القرآن الكريم هدفها التأمل والعظة والمغزى الديني، وليس الهدف منها
السرد التاريخ. كما أن القرآن ليس كتاب تاريخ يتبع سير الأجيال و تاريخ الشعوب. حيث لا يحدد القرآن زمن الحدث أو مدته أو مكانها، إلا ما كان محورياً في الحدث أو مسرحاً له، كمصر في قصة يوسف ، أو مدة رسالة نوح، أو مدة لبث أهل الكهف في نومهم....ألخ.
وترجع أسباب التجريد في الزمان والمكان في قصص القرآن إلى عناية القصة بالحدث وتقرير الحقائق الدائمة المستقلة عن الأشخاص، والتي يمكن الإفادة من حكمتها ومغزاها في كل زمان ومكان بما يتلاءم مع عالمية رسالة القرآن واستمرارها، فما الأشخاص في القصص القرآني والحال كذلك إلا أمثلة لتلك الحقائق المقصودة لذاتها. يقول محمد رشيد رضا في تفسيره [المنار]: (التاريخ غير مقصود للقرآن لأن مسائله من حيث هو تاريخ ليست من مهمات الدين. وعلى هذا الأساس فان أي محاولة لإشغال النفس، والبحث عن أمور خارجة عن مقاصد الحقيقية للقصص في القرآن تعتبر ملغية). ولذلك اعتبر البحث عن أعداد أهل الكهف من قبيل الأمر الذي لا يخدم الغرض الأساسي للقصة .
الكاتب يفترض أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد أهل الكهف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تهّرب من الجواب. ولا أدري علي أي مصدر اعتمد في هذا الادعاء مع أن عبارة الآية واضحة الصياغة (سيقولون) ومنها نفهم أنه لم يكن هناك سؤال، وإنما القرآن ينتقد الذين أشغلوا أنفسهم بأمر تافه ليس فيه فائدة، وينبه المؤمنين إلى عدم الخوض في مثل هذه الأمور.
يقول بعض المفسرين أن الذين اختلفوا حول عددهم هم أهل الكتاب، فجاء تنبيه القرآن ليوجه العناية أساساً إلى العبرة الأخلاقية دون تحديد عدد الأشخاص.



يقول الكاتب:


(واخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس قال: أتت أمرأة النبي فقالت: يا نبي الله، للذكرمثل حظ الانثيين، وشهادة امرأتين برجل، أفنحن في العمل كذا، ان عملت المرأة حسنةً، كُتبت لها نصف حسنة؟ فكان رد النبي بالآية 32 من سورة النساء: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسالوا الله من فضله ان الله كان بكل شئ عليماً". فأين الجواب على سؤال المرأة ان كان سيكتب لها نصف حسنة ام حسنة كاملة. كل ما أخبرها به القرآن هو ألا تتمنى ما فضل الله به الرجال على النساء. وهذا هو شأن القرآن في كل الاسئلة التي وُجهت للرسول.)


أنا راجعت هذا الحديث الذي ورد في تفسير ابن أبي حاتم، وفي سنده ضعف، لذلك لن أعلق عليه.



يقول الكاتب:

(فمثلاً لما سألوه عن الروح، أجاب: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي".)



سأفترض صحة مناسبة نزول هذه الآية. لكن الآية واضحة، وتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف الروح، فهولا يملك مفاتيح الغيب.
أقرأ الآية التي تليها: (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً) الإسراء 86. فمثل هذه الأمور وحي من الله. وما المشكلة حين يستأثر الله بعلمه بعض الأشياء التي تغيب عنا.



يقول الكاتب:

(وفي الآية (189) من سورة البقرة : " يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج". وهذه هي نفس الفكرة التي عبرت عنها التوراة: " وقال الله: لتكن نيراتٌ في جَلد السماء بين النهار والليل وتكون علاماتٍ للمواسم وألايام والسنين" وعرب الجاهلية كانوا يعرفون ان الاهلة مواقيت للحج وكانوا يعرفون بها الاشهر الحرم وغيرها، وكذلك كان يهود مكة على علم أن الاهلة مواقيتٌ للناس، ولكنهم سألوا النبي ليشرح لهم كيف يكون القمر هلالاً ثم يكبر ويصير قمراً. ولكنه لم يكن يدري، فأخبرهم بانها مواقيت للناس.)


القرآن عندما يصور مشاهد الطبيعة، فإنه يتخذها وسيلة للمعرفة البشرية، وأيضاً للتأثير في النفس.
فعيون الناس عندما كانت تراقب حركة القمر و قد أدهشتهم تلك الصورة المتغيرة. لكن الجواب القرآني لم يأتي على (الماهية)، وإنما جاء موضحاً (وظيفة) هـذه الصورة
المتغيرة، وأثرها في حياتهم. وهذا ما يسمى في البلاغة العربية (بأسلوب الحكيم) لأنه ليس من وظيفة الصورة تقديم معلومات علمية عن حركة الأفلاك في السماء، وإنما هدفها توضيح الصلة بين حركة الأفلاك وحركة الإنسان على الأرض، فهو يهتدي بها في ظلمات البر و البحر.
والقمر لا يخرج عن ذلك، فالقمر بمراحل نموه، يرسم صورة (زمانية) ضرورية لحياة الإنسان بتدبير شؤونه الدينية والدنيوية في الحياة.



يقول الكاتب:

(وان نظرنا ماذا قال الله لزكريا لما طلب منه معجزة ليريها قومه عندما علم أن أمرأته ستلد له ولداً وهو رجلٌ كهل وأمرأته كانت عاقراً: "قال رب اجعل لي آيةً قال آيتك الا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً". فهل اذا رفض زكريا ان يكلم الناس ثلاث ليالي تكون هذه معجزة؟)


تستخدم كلمة (آية) في القرآن الكريم بمعنيين، بمعنى آية، وبمعنى دلالة أو علامة.
هنا القرآن يستخدمه بالمعنى الثاني، بدليل عبارة (فاجعل لي) فهو يريد (علامة) لنفسه يدل على حمل امرأته وليس (معجزة) للناس. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن زكريا لم يرفض الكلام مع الناس، بل حسب سياق الآية وحسب فهمي وفهم كل المفسرين، أن الله هو الذي منع لسانه عن النطق.
يقول ابن كثير: (يقول تعالى مخبرًا عن زكريا، عليه السلام، أنه: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي: علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني كما قال إبراهيم، عليه السلام: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) البقرة260.
(قَالَ آيَتُكَ) أي: علامتك: (أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) أي: أن تُحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال، وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة.


يقول الكاتب:

(وفي نفس سورة مريم، الآية 26، قال لمريم: "فكلي واشربي و قري عيناً فإما ترين مـن
البشر احداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم انسياً". فكون مريم نذرت الا تكلم انساناً في ذلك اليوم، لن يُقنع احداً انها حبلت بعيسى من دون ان يمسسها بشر، وكان الاولى بها ان تكلمهم وتحاول شرح الحمل لهم بدل ان تصوم عن الكلام.)


فلنتخيل هذا الموقف: فتاة انقطعت لعبادة الله، وهي من بيت معروف أهلها بالتقوى، وفيهم رجال الدين. فجأة تأتي بوليد تحمله. كيف سيصدق الناس قصتها ما لم تحـدث معجزة تثبت براءتها؟ لذلك جاء أمر السكوت لأنها قد أصبحت في موضع اتهام ولا أحد سيصدق قصتها، والله يريد من عيسى عليه السلام وهو طفل رضيع، أن يتولى تبرئة أمه.
ويجب أن نعرف أمراً آخر، وهو أنه لو لم يتكلم عيسى عليه السلام في المهد ويبرّأ أمه، لحكم اليهود على أمه بالحرق، تبعاً لشريعتهم: (وإذا تدنست ابنة كاهن بالزنا فقد دنست أباها. بالنار تحرق) الكتاب المقدس - سفر لاويين(21: 9).



يقول الكاتب:

(وفي سورة هود، الآية 46 عندما رفض ابن نوح الركوب معه في السفينة: "قال يا نوح انه ليس من اهلك انه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم". فقال له نوح في الاية اللاحقة: "قال رب اني اعوذ بك ان اسالك ما ليس لي به علم". وطبعاً الانسان دائماً يسأل عما ليس له به علم. فلو كان له به علم لصار السوال اضاعة للوقت والجهد.)


هذا خطأ كبير في فهم الآية، أما المعنى الحقيقي للآية: (فلا تلتمس مني ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه).
والقرآن يستخدم عبارة (ما ليس لك به علم) بهذا المعنى في أغلب المواضع التي ذكرت في القرآن. وأظن أن المفسرين متفقون على ذلك.



يقول الكاتب:

(ولما طلب اهل مكة من النبي ان ينزل لهم معجزةً، اجابهم الله في سورة الاسـراء، الآية 59: "وما منعنا ان نرسل الآيات الا ان كذب بها الاولون". والآيات هنا تعني المعجزات. فرفض الله ان ينزل على محمد معجزة لان الاولين كذبوا بها. فدعنا نستعرض هذه المعجزات.
فلنبتدئ بداود الذي سخر له الحديد وسخر له الريح وجعل الجبال تؤب اي تسبّح معه، فكذبه قومه. ثم، كما يٌخبرنا القرآن، ارسل الله من بعد داود ابنه سليمان وعلمه لغة الطير وسخر له الجن والريح والحيوانات كلها واعطاه مالاً وحكماً عظيماً. وكذبه قومه. ثم اخرج لثمود ناقةً من الصخر، فلم يصدقوا نبيهم وعقروا الناقة. وبعد فترة ارسل الله موسى واعطاه بدل معجزة واحدة تسع معجزات حسب الآية 101 في سورة الاسراء: "ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيناتٍ". ولم يؤمن بنو اسرائيل، ولكن لم يمنع هذا الله من انزال المعجزات على عيسى، فجعله يكلم الناس في المهد، ويحيي الموتى، ويشفي المرضى، وانزل له المن والسلوى من السماء. فاذا كان كل هولاء الانبياء طلبوا المعجزات واعطاهم اياها الله رغم ان الذين قبلهم قد كذبوا بها، لماذا منع آخر نبي من المعجزات لان الذين سبقوا كذبوا بها؟ والجواب طبعاً أنه ما كان في مقدور محمد أن ينزل لهم مائدةً من السماء او يًحيي لهم موتاهم فقال لهم ان الله لم ينزل لهم معجزات لان الذين سبقوهم كذبوا بها.)


أشعر وكأنني أحاور رجلاً يؤمن بالمعجزات، وفي دلالتها على صدقية دعوى الأنبياء. وهذا موقف غريب و خاصة إن صدر من رجل ملحد لا يعترف بالأديان! و لكن لا غرابة إذا عرفنا أن الرجل بنقل حرفيّاً من كتب المبشرين المسيحيين. وحتى بدون أن يعي ماذا، وممن ينقل. وقد سقنا أمثلة كثيرة في مواضع سابقة.
لكن الذي فات على الكاتب، أنه ينقل من أناس بنوا أصول دينهم على الخوارق والمعجزات كدليل على صحتها. فعندما تقرأ الأناجيل المعروفة لا تجد دليلاً على صحة دعوى المسيح عليه السلام إلا ما يصنعه من خوارق. ونحن لا ننكر هذه المعجزات لأنها ثابتة في القرآن. لكن ما أؤمن به كمسلم أن طبيعة دعوة المسيح عليه السلام كانت محلية - لبني إسرائيل.
وهذه المعجزات هي التي أيد الله بها أنبيائه قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأن دعواهم كانت محلية. وباعتبار أن الرسالة محلية فإن المعجزة ليست حجة إلاّ لمن رآها؛ إن خرق قوانين الطبعة في لحظة ما ولقوم معينين، كافية لإقامة حجة الله عليهم.
ولكن الحال في الرسالة المحمدية فإن الدعوة لا تقـوم على خرق نواميس الطبيعة،

لكن بالعكس، إلى الدعوة في التفكر في هذه النواميس:
- (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
- (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ) يونس101.
- (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) الجاثية3.
نعم لكل نبي معجزة تأخذ أشكال مختلفة، وكانت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كتاباً. وكان يجب أن يكون سؤال الكاتب التالي: لماذا أراد الله أن تكون معجزة الإسلام كتاباً، ولماذالم تأخذ شكل المعجزات التي حدثت مع الأنبياء السابقين.
لقد أراد الله لمعجزة الإسلام أن تكو ن كتاباً لأنه لم يأت لهداية مجموعة من الناس مثل بني إسرائيل أو تلك الأقوام التي تحدث عنها القرآن قوم عاد وثمود وصالح. لقد أراده الله للعالمين، ولا يتأتى هذا لو كانت المعجزة "حدثاً" مثل إحياء ميت أو انفلاق بحر إذ ستقتصر تأثيرها على المشاهدين لها دون غيرهم، ودون الأجيال التي تأتي بعدهم. وأراد الله أن تكون معجزة الإسلام "كتاباً" لأنه أراد أن يضع نهاية العهد المعجزات الحسية، وأن يبدأ عهداً يكون على البشرية أن تعتمد فيه على فكرها و عقلها وليس على حواسها وكانت المعجزات تأخذ شكل (خوارق الطبيعة) حتى يؤمن الناس أنها من عند الله. لكن الأمر يختلف بالنسبة للقرآن. فالقرآن كتاب وهو بحكم هذه الصورة لا يمكنه أن يخرق قوانين الطبيعة. وكان المطلوب من القرآن أن يحقق الإيمان دون أن يغير قوانين الطبيعة، الذي كان هو مضمون المعجزة التقليدي، والذي يكفل الإيمان. وقد حقق القرآن هذه المعادلة بأن تحول من الطبيعة الكونية إلى الطبيعة الإنسانية نفسها بحيث تتحول إلى الإيمان.




يقول الكاتب :

(ومرة اخرى يصعب علينا متابعة منطق القرآن، ففي سورة الحديد، الآية 21، نجده يقول: "سابقوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض اعدت للذين آمنوا بالله". وقد رأينا في الفصول السابقة ان عرض السماء لا حدود له والارض ليس لها عرض لانها كرة. ولكن نستنتج من هذه الاية ان الجنة من الكبر بمكان يصعب معه حتى تخيل حجمها. والسؤال الذي يطرأ على ذهني هو: لماذا يريد الله ان يخلق الجنة بهذ الحجم وهو يخبرنا في سورة الواقعة، الآية الثانية عشر وما بعدها: "في جنات النعيم، ثُلة من الاولين، وقليل من الآخرين". والله يخبرنا هنا ان ثُلة اي عدداً بسيطاً جداً من الاولين وقليل من الآخرين سيدخل الجنة.)


لا أدري لماذا الكاتب منزعج من رحابة الجنة، ولماذا يريد أن يضيق الجنة على أصحابها؟!



يقول الكاتب:

(ويكرر القرآن اسئلة عديدة مالها اجابة مقنعة. فمثلاً في سورة الغاشية، الآية السابعة عشر، يسأل: "أفلا ينظرون الى الابل كيف خُلقت". وما كان احد في تلك الايام يدري كيف خُلقت الابل. وخلق الابل في حد ذاته لا يختلف عن خلق القطة او الفأر.. ولكن القرآن اختار الابل للتهويل لان حجمها كبير.)


الكاتب يقول أن القرآن اختار الإبل للتهويل لأن حجمها كبير. إذاً فليفسر لنا هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً) البقرة 26.
والغريب أن مناسبة نزول هذه الآية جاءت رداً على مزاعم أوردها الكافرون، وهي أنه جاء في القرآن ذكر (النحل والذباب والنمل والعنكبوت) على أساس أن هذا الكلام لا يليق بكلام إله. فجاء الرد: أن هذه الأمثال مشتملة على حكم بالغة.
ولقد نص القرآن الكريم أن هـذه المخلوقات من الدواب والحشرات المتبايتن في

الأشكال والحجوم و طريقة الحركة والسير امم وفصائل، أمثال الناس:
- (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) النور45
- (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) الأنعام38 .
والقرآن ضرب للناس أمثلة عن بعض هذه المخلوقات كالنحل والعنكبوت و النمل، وهناك سور تحمل أسماء هذه المخلوقات.
لنقرأ السياق كاملاً: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ - وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ - وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ - وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ). فكما ترى أن القرآن يرسم لنا صورة جميلة تدعو الإنسان إلى أن تفكر في خلق الله وإلى تأمل هذه المشاهد المتناسقة التي تدل على خالقها المبدع. نرى هذا المقطع يضم مشاهد متعددة من الطبيعة بشكل متناسق، وذكر الإبل اقتضاه التناسق بين أجزاء الصورة المرسومة. فالسماء المرفوعة تقابلها الأرض المبسوطة، والجبال المنصوبة، تلائمها الإبل المنصوبة السنام.



يقول الكاتب:

(وفي الآية 63 من نفس السورة: " ألم تر ان الله انزل من السماء ماءً فتصبح الارض مخضرة ان الله لطيف خبير". فمنذ ان نشأ الانسان على وجه الارض وهو يرى الماء ينزل من السماء، فما الدليل ان الذي انزله هو الله؟ فنحن نعلم الآن قوانين الطبيعة التي تتحكم في نزول الامطار، ولكن ليس لدينا برهان ان الله هو الذي خلق هذه القوانين.)


أحياناً لا أفهم ما يقوله الكاتب- مثل هذه الفقرة- ولا على ماذا يعترض!
وأظن الكاتب يعترض على ما يسمى "مبدأ السببية". وإن لم يوضحه بشكل مفهوم وهذا المبدأ تبلور بشكل خاص في القرن الثامن عشر، حيث كان الاعتقاد الإيماني يقوم على نسب ظواهر الكون إلى فعل إلهي. فالله هو الذي ينبت العشب، وهو الذي ينزل الماء. و عندما اكتشف العلم أسباب الإنبات ونزول المطر، فإن فرضية إله زالت.
لكن هل هي بالفعل نقد للإيمان بالله؟ وهل هي نقد لمفهوم الإلوهية في الإسلام؟ إن الفكرة تحمل مغالطة واضحة. فنحن لا نقول إن الإيمان بالله يقوم على وجود ظواهر في الطبيعة لا نعلم أسبابها وبالتالي ننسب وجودها وحركيتها إلى الله. لو قلنا بهذا جاز للملحد أن يأتي بالعلم الذي يكتشف أسباب تلك الظواهر فيستثني وجود الله. بل ما نقوله نحن هو أن تلك الأسباب والقوانين تحتاج إلى من يضعها وفق ذاك الترتيب والنظام. ومن ثم تصبح السببية دليلاً على وجود الله وليس العكس. وهنا ينبغي أن ننتبه إلى أن مفهوم السبب لا يطرح بمعنى واحد، حتى يتم الرد على الموقف الإيماني، بل يطرح بمدلولين اثنين: السبب بمدلوله المباشر والجزئي، والسبب بمدلوله الكلي والأولي. فالسبب الجزئي هو سبب آلي مباشر، ولا يفسر إلا حركية الظاهرة لكنه عاجز عن تفسير انتظامها وحكمتها وغائيتها. فالتفسير الثاني لا يتحقق إلا بوجود الله. و الإسلام في عمق فلسفته الإيمانية توكيد على الأسباب والسنن الناظمة للكون (ولن تجد لسنة الله تبديلا) (ولن تجد لسنة الله تحويلا) كما يقول القرآن. وعندما حصل كسوف الشمس بعد موت ابن النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقال قوم: إن الشمس كسفت لموته، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته). ولو كان نبياً كاذباً لأستغل الحادث لتوكيد نبوته، أو على الأقل لترك الإشاعة التي أطلقها الناس دون تكذيب، ولفعلت بالتأكيد فعلها في النفوس، ولزادت بعض الأعراب المتذبذبين إيماناً. ولكنه يريد أن يؤكد أن ثمة سببية وسنناً في الكون يجب تقديرها بوصفها سنناً.



يقول الكاتب:


(والغريب في الامر ان القرآن يضرب اغلب امثلته بالمطر والزرع وأهل مكة ما كانوا يرون المطر الا مرة كل عدة سنوات، ولذا كان العرب رُحلاً للبحث عن الكلأ والمرعى. وحتى عندما اسلمت كل الجزيرة العربية لم ينزل الله مطراً عليها كما ينزله على بلاد أخرى، لتصبح مخضرة كما قال.)


كلامه صحيح، وهو يدل على أن القرآن لم يوجه خطابه للعرب فقط، بل إنه موجه إلى جميع الناس.



يقول الكاتب:

(وفي سورة الأنبياء، الآية 30: "أولم ير الذين كفروا ان السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما". وطبعاً لم ير الذين كفروا ان السمـوات والأرض كانتا ملتصقتين ثم فتقهما، لان ذلك ان كان قد حدث، فحدوثه كان قبل ان يُخلق الانسان، فكيف يكون الانسان قد راى ذلك؟)


هذا لأن الكاتب لا يفرق بين الرؤية البصرية، والرؤية العلمية.
فالرؤية في القرآن الكريم لا تعني فقط الرؤية البصرية، بل يدخل تحت معناها (العلم) و القرآن عندما يتحدث عن أخبار السابقين ويقص على النبي صلى الله عليه وسلم قصصاً مثل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ...) البقرة 258. فإن الرؤية البصرية غير مرادة هنا، وهذا هو نفس معنى الرؤية في آية: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا...) الأنبياء 30.
وطبعاً هناك آيات أخرى تعلن صراحة أن الرؤية تعني العلم، مثل آية: (لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) يوسف24. وآية (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) النجم 11. و ايضاً آية ( إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ...) الأنفال 6. أي إني أعلم و أدرك ما لا تعلمون ولا تدركون. فمع استخدام القرآن لمصطلح (الرؤية) للرؤية البصرية، كان استخدامه لهذا المصطلح بمعنى (العلم والمعرفة و الإدراك).




الـقــرآن و الإرادة



القرآن يثبت في مواضيع كثيرة الاختيار والمسؤولية، كما أثبت أن للكون تسير على قوانين منتظمة، وليست في خلق الله خلل أو مصادفات.
كما بين القرآن أن الإنسان جزء من هذا الوجود المنتظم، ينطبق عليه النظام الذي اقتضته كلمة الله وتقديره. وكون ذهب البعض إلى النار وبعض إلى الجنة ليس عملاً عشوائياً، بل هو نتيجة لعمل الإنسان وإرادته الحرة في اختيار الكفر والإيمان, والشيء الذي يجعل الإنسان "مكلفاً" في الحياة هو (العقل) وعلى هذا الأساس نجد أن الله قد أعفى المجنون من المحاسبة. وحرية الإنسان ومسؤوليته عن أعماله في الدنيا لا يعارض علم الله بما سيفعله الإنسان؛ فعلم الله لا حدود له، وهو يشمل (الماضي والحاضر والمستقبل) ولا يقيده زمان، ولا مكان.
لذلك من الخطأ الاستشهاد بالآية التالية: - كما فعل الكاتب- (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) الحديد22 . ونفهم منها على أن كل شيء مكتب ومسطر من قبل أن يولد الإنسان, فمعنى كلمة (الكتاب) تعني علم الله, أي كل شيء في هذا الوجود في علم الله قبل أن يوجد الكون.
أما بالنسبة لموضوع الهداية والضلال في القرآن فقد بيناه في موضع سابق، فلا داعي لتكراره مرة أخرى.





تحت عنوان: (المتناقضات في القرآن)



من يقرأ القرآن الكريم سيجد عشرات الآيات التي تدعوا إلى إعمال العقل و ذم التقليد والدعوة إلى بناء العقيدة على أسس صحيحة.
وسيجد أن القرآن عاب على المشركين الذين رفضوا الإيمان بإله واحد، لمجرد أنهم
ألفوا آبائهم على الشرك : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) لقمان 21.
وأحياناً كثير تنتهي الآيات بعبارة (لعلهم يعقلون), (لعلهم يتفكرون). ومـع هذا

يقول الكاتب:





(أن الإسلام يوجب على الإنسان إمـا أن يؤمن بما جـاء في الإسلام دون التفكير فيه منطقين أو إخضاعه للمنطق وإدخـال الشك إلى نفس المؤمن).




ثم يسوق تعريفاً غريباً للإيمان، فيقول أن الإيمان هو تصديق بشيء دون التمحيص. وقد ذكرنا في أول الكتاب مفهوم (الفطرة). وقلنا إن الإيمان بالله قضية فطرية بالمقام الأول وليست حالة غريبة عن الإنسان, لكن قد تتغيب بفعل المؤثرات الخارجية, والطريق الأوحد إلى معرفة الله هو عقل الإنسان المهتدي بالوحي, فبـ (العقل) الإنسان يتفكر ويتأمل و بـ (الوحي) يهتدي، فكلاهما يكمل الآخر.
الكاتب يتحدث عن التناقض في القرآن، فهو يحاول أن يظهر التناقض بين كون القرآن باللغة العربية من جهة وكونها دعوة عالمية، استناداً إلى ادعاءه المزعوم بأن إعجاز القرآن في لغته فقط. ونقول إن كون القرآن بلسان عربي ليس إلا وصفاً باللغة التي انزل بها, ولا أرى غرابة في أن يكون كتاب باللسان واحد وتكون محتواه موجهاً إلى الناس كافة. وقد شرحنا في موضع سابق موضوع البلاغة في القرآن، وقلنا أنها قضية شخصية.
والذين تحدثو عن الإعجاز، تحدثو عن (الإعجاز اللغوي)كإحدى وجوه الإعجاز في القرآن وليس إعجازه الوحيد. فتجدهم يتحدثون عن إعجاز العلمي وتشريعي و الغيبي... والتحدي الذي ذكره القران موجه إلى البشرية جمعاء على مر العصور كل في لغته. ونرى السيوطي جمع كل ما قاله سلفه من وجوه الإعجاز. والشيخ محمد عبده في الفصـل الذي كتبه في الإعجاز بدأ بإعجازه بأسلوبه، ونظمه، وبلاغته، و بتأثيره في القلوب، والعقول، ثم ذكر إعجازه بأخبار الغيب، وتعبيره عن المعاني بما يقبله المخلفون في فهمها مع الموافقة بالحق، وسلامته من الاختلاف، وبالعلوم الدينية والتشريع، وبعجز الزمان عن إبطال شيء منه، وتحقيق مسائل مجهولة للبشر. والقارئ للتاريخ سيجد أن تعاليم الإسلام البسيطة والقريبة من (الفطرة) هي التي جعلت العشرات الألوف من غير العرب تدخل الإسلام وهي لا تعرف كلمة عربية.
نعم ابتدأت دعوة الإسلامية بالأهل والعشيرة، وهذا منطلق طبيعي لدعوة العالم إلى

الإسلام. وبإيجاز نقول إن قصر الإعجاز في القران على اللغة، وإهمال الجوانب الأخرى، هو مجانبة لصواب وإغفال للحقائق الواضحة.
ثم يتحدث الكاتب عن ذكر الإسلام للمسيحية واليهودية كديانتين صحيحتين، وكيف أن هذا الأمر يتناقض مع كون الدين الإسلامي للناس كافة! وسنكرر ما قلناه سابقات من أن الإسلام لا يعادي الرسالات السابقة، بل الإسلام بمفهومه الواسع يشمل جميع الرسالات من أول البشر حتى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم. نقول (رسالات)، وليس (ديانات) لأن الدين واحد وهو الإسلام. إذاً فالدعوة المحمدية تكملة وتكامل، ولا ينافي أصلها السماوي الانحرافات في الرسالات السابقة. فلا غرابة لمدح القرآن لتلك الرسالات، ومدح أصحابها الذين يعتبرون في القرآن من أولي العزم.
ويستمر الكاتب في سوء فهمه للآيات دون اعتبار للاختلافات اللفظية، فيعتبر أن آية: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) تناقض آية: (خلقكم من تراب) مع أن الاختلاف بين (الخلق) و (الجعل) واضح. فكلمة الخلق ينصرف معناه إلى التقدير قبل التنفيذ. أما كلمة جعل متعني انتقالاً من حالة إلى حالة أو تغيراً في الصيرورة لشيء موجود فعلاً. وعليه فإن: (جعلنا من الماء كل شيء حي) تعني: أن الماء تغير في صيرورة الأشياء من كائن غير حي إلى كائن حي.
ثم يتحدث الكاتب عن يوم القيامة في القرآن، ويورد طائفة من الآيات على أنها تناقض بعضها البعض. ونقول: إن الحديث عن الآخرة وعن نعيمها وعذابها وأرضها و سمواتها، يصعب على الإنسان تصوره وهو المحكوم بقوانين الدنيا.
وقد ورد في القرآن الآية التالية: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) إبراهيم 48. معنى التبدل: (التغير) لأن كل القوانين التي تحكمنا في الدنيا تتغير، لتبدأ قوانين أخرى تحكم ذاك العالم الذي هو فوق تصور أحد. نوضح أن الجنة والنار لم توجدا بعد، وإنما سيتواجدان على أنقاض هذا الكون، بعـد
النفختين في الصور، وأنه سيحصل تبدل في السموات والأرض، بمعنى أنه ستكون هناك

سموات وأرض جديدة وبقوانين جديدة.
وهناك كتاب جميل للأستاذ عبد السلام أحمد الراغب هو [الصورة الفنية في القرآن] والذي يخصص فصل منها للحديث عن مشاهد يوم القيامة. نقتبس منه: (إن القوانين التي وضعها الله للدنيا تنتهي بزوالها، لتبدأ قوانين إلهية تحكم مسيرة الحياة والإنسان و الكون، تتناسب مع العالم الآخر.... صحيح أن القرآن صور في كثير من آياته مشاهد يوم القيامة، مقربة إلى ذهن الإنسان، لكن القوانين التي تحكم عالم الآخرة مختلفة من حيث الزمان والمكان عن عالم الدنيا).
والقيامة كما يصورها القرآن تكون على عدة مراحل، تختلف الأحوال والمواقف فيها، تبدأ بموت الإنسان، وتنتهي به إما إلى الجنة أو النار، مروراً بالحشر، ووقوفه أمام الله، وحسابه عن أعماله في الدنيا بمفرده. إن اختلاف مواقف يوم القيامة تؤدي إلى اختلاف حال الإنسان، فقد يحشر أعمى لكن عند المحاسبة يختلف الأمر.
وأحب أن أورد بالمناسبة ملاحظة هامة عن تلك الكتب المنتشرة والتي تباع على الأرصفة، وتتحدث عن أهوال يوم القيامة وعلاماته. إن مثل هذه الكتب تحتوي على كثير من الأحاديث الضعيفة، والأحاديث التي لا قيمة لها في العقائد، كما لا تخلو من المبالغات والخيال. إن مثل هذه الأمور من الأشياء الغيبية، التي يجب التعامل معها بحذر وحيطة شديدين، والاكتفاء بالأدلة (القطعية).
ومن الأمثلة التي يزعم فيها الكاتب التناقض بين آيتين التاليتين: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ) المؤمنون101، وبين آية: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ) الصافات 27. لكن لا تناقض بين الآيتين, فالأولى: إذا نفخ في الصور(نفخة واحدة) تقطعت الأرحام وشغل الناس بأنفسهم عن التساؤل. وإذا نفخ (مرة أخرى), قاموا ينظرون واقبل بعضهم على بعض يتساءلون. والمثال الثاني الذي يورده الكاتب هو زعمه التناقض بين آيـة: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ) الرحمن 39. وآية: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ) الحجر92.

ونقول: يسأل الناس يوم القيامة ويقفون على ذنبهم, فإذا انتهت المسألة، وألزمت الحجة انقطع الكلام، وعرف أصحاب اليمين والشمال. فلم يعد هناك حاجة للسؤال، وهذا الموقف غير ذاك. الموقف (الأول) سؤال لحساب, والموقف (الثاني) ألزمت الحجة، فلا سؤال بعد إصدار الحكم.






النسـخ فـي القـرآن



قبل الدخول في موضوع النسخ لا بد من توضيح بعض الأمور:
وهو أنني لست ملزماً بآراء العلماء و اجتهاداتهم الخاصة في تفسير بعض الآيات. فيجب علينا أن نميز بين بين الإسلام و الفكر الإسلامي، فهناك أمور تعتبر(جوهرية)
في الإسلام مثل الإيمان بالله والنبوة و اليوم الآخر، وهي أتت بطريق الوحي، وأمور أخرى تعتبر من قبيل (اجتهادات العلماء وطريقة فهمهم للنصوص)، كاعتبارهم (الإجماع) أصلاً من أصول الفقه. ذلك أن الإجماع وإن تمسكت به كل الكتب ومراجع
أصول الفقه كأصل ثالث بعد القرآن والسنة فإنه في الأساس لم يكن محل إجماع. وقد نقل عن إمام أحمد بن حنبل: (من ادعى الإجماع فهو كذاب).
ويرى الشيخ محمد أبو زهرة أنه: (لم يعرف إجماع متفق عليه غير إجماع الصحابة وهو الذي سلم به الجميع). لكن حتى هذا المقولة غبر متفق عليه. فالإمام الشوكاني يقول: (والحق انه - أي إجماع الصحابة- ليس بحجة فان الله لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبياً واحداً محمداً صلى الله عليه و سلم، وليس لنا إلا رسول واحد وكتاب واحد
وجميع الأمة مأمورون بإتباع كتابه وسنة نبيه).
والإجماع الذي نتحدث عنه هو ادعاء الإجماع في الأمور الفرعية، وليس الإجماع على أصول الدين. وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمود شلتوت: (إن الإجماع لا يكون إلّا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفيما كان طريق العلم به هو التواتر. فهذا هو الإجماع الذي تتم به الحجة ولا يصح أن يخالف، ولا ريب أن العمل بما تلقته الكافة عن
الكافة مما لا شبهة في ثبوته عن صاحب الشرع، وأن الإجماع فيه إلاّ أثراًَ من آثار الثبوت على هذا الوجه، فلا يكون الإجماع مصدراً له ولا أصلاً في ثبوته).
ذكرنا ذلك قبل مناقشتنا لموضوع النسخ، حتى نرفع اللبس حول ما قيل عن "إجماع الأمة على موضوع النسخ" ، ونحن نرى أنهم أخطئوا في ذلك، وليس علينا شيء إن نقول بعكس ما قالوا، فهذا لا يعد خروجاً عن الأمور (الجوهرية) في الإسلام. ورأي أن كل الآيات التي في القرآن - إذا استثنينا بعض الآيات المتشابهة - هي آيات محكمة. وكل ما في القرآن ليس فيها آية واحدة منسوخة.


يقول الكاتب:

(واذا تتبعنا هذا المنطق، فليس هناك اي سبب يجعل الله يبدل آيةً مكان آية، اذا كان القرآن في حوزته كل هذه السنين، وقد اخبرنا هو نفسه ان آياته قد اُحكمت طوال هذه السنين. ولكن دعنا ننظر للآية101 من سورة النحل: "واذا بدلنا آيةً مكان آية والله اعلم بما يُنزل قالوا انما انت مفتري بل اكثرهم لا يعلمون". وفي سورة البقرة، الآية 106: "ما ننسخ من آية او نُنسها نأت بخير منها او مثلها ألم تعلم ان الله على كل شئ قدير". وهنا مربط الفرس. أولاً لماذا احتاج الله ان ينسخ اي آية في القرآن الذي كان بحوزته كل هذه المليارات من السنين، وهو قد احكم آياته. لماذا لم يغير هذه الايات قبل ان يُنزلها على محمد؟ وثانياً اذا نسخ آية، لماذا يريد ان يأتي بمثلها؟ فما الغرض من نسخها ان كان الله يريد ان يأتي بمثلها؟ وثالثاً اذا اراد ان يأتي بأحسن منها، فقد كان القرآن عنده كل هذه السنين، فكان ألاجدر أن يغير ألآيات التي أراد أن يأتي بأحسن منها قبل أن ينزلها على الرسول.)

القرآن الكريم لا يستخدم كلمة الآية هنا بمعنى (نص)، ولكن بمعنى (المعجزة). و على هذا الأساس فإن الآية التالية: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة 106 إنما المراد بها المعجزة، و معناها أن الله يأت لنبي بمعجزة لم يأت بها لآخر ولذا قال تعلى بعد ذلك: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وتأكيداً لفكرة أن الله يقصد بنسخ الآية (المعجزة) فلنقرأ تكملة الآية. يقول تعالى:

(أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ..) وهذا يدل على أن المراد بالآية المعجزة. ونفس معنى في قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) النحل101، والمراد بها المعجزة.



يقول الكاتب:

(والسبب الرئيسي في النسخ، في اعتقادي، هو انتشار الاسلام على مرحلتين، واعني مكة والمدينة. فلما كان محمد في مكة يحاول نشر الاسلام بين قريش، كان مستضعفاً لا يحميه من قريش غير عمه ابو طالب. فما كان باستطاعته مخاطبة قريش بلهجة آمرة. فأغلب الآيات المكية فيها تسامح شديد مع الذين لم يؤمنوا. فمثلاً: " وأن أتلوا القرآن، فمن أهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين . ولكن بعد أن هاجر محمد الى المدينة واستقر
به الحال وسط الأوس والخزرج وقويت شوكته، تغيرت لهجته كذلك واصبحت ألآيات اكثر جرأة وصارت تحض على القتال. ولذا كان لا بد من الغاء او تعطيل الآيات المكية التي كانت تنصحه بان يتساهل مع الكافرين واهل الكتاب، فادخل بعض الآيات المدينية المتشددة على الكفار في سور مكية كان قد اكتمل انزالها وهو في مكة، آيات مدينية.وهناك سور مدينية اُدخلت بها آيات مكية، مثل سورة الانفال وهي مدينية الا سبعة آيات ابتداءً من الآية العشرين. وبسبب هذه الاضافة للسور التي كان قد اكتمل انزالها، كان لابد لبعض هذه الآيات ان تخالف ما كان قد ذُكر في هذه السور المكية أو المدينية، ولذا ابتكروا فكرة النسخ هذه.)



هناك اختلاف لمستويات بعض الأحكام في القرآن، وهو مطلوب لأن القرآن نزل
للناس كافة وللعصور كلها. والاختلاف بين المكي والمدني هواختلاف بين المستويات.
فالآيات المكية كانت تهتم (بالبناء النفسي)، وهذا هو المطلوب في المقام الأول، لذا أتت أغلب الآيات في الفترة المكية لتعالج هذا الجانب - جانب العقائدي والأخلاقي في الإنسان - ثم أتت الفترة المدنية وآياتها تهتم (بالبناء الاجتماعي)- المعاملات و شؤون الأسرة والدولة والتشريعات العامة - بالطبع أي من الجانبين لا يلغي الآخر، بل يكمله. فلا صحة لمقولة أن الفترة (المدنية) ألغت ونسخت كثيراً من الأمور في الفترة (المكية).




آية السيف



اخترت هذا العنوان من عندي، وسأتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل، لأبين للقارئ انه لا يوجد شيء في الإسلام اسمه (آية السيف).
يقول محمد الغزالي في كتابه [جهاد الدعوة]: (يشيع بين المفسرين أن آية السيف نسخت ما جاء قبلها، وعند التحقيق لا يوجد ما يسمى آية السيف. هناك جملة من الآيات في معاملة خصوم الإسلام وفي مقاتلتهم لأسباب لا يختلف المشرعون قديماً و حديثاً على وجهاتها وعلى أنها لا تنافي الحرية الدينية في أرقى المجتمعات.... القول بالنسخ مرض أصاب بعض المتكلمين في القرآن الكريم، وكان سبب بلاء شديد للأمة الإسلامية).
ولنا أن نتعجب من تيار بين المسلمين يقوم بدعوى النسخ بإلغاء (124) آية تدعو إلى التسامح، ويقوم بإخراج صورة دميمة للإسلام، ويأتي ذوو لنظرة السطحية و المنتقدون للإسلام أمثال الكاتب وغيره ليقولوا في النهاية: "انظروا هذا هو الإسلام".


يقول الكاتب:

(واول سورة نزلت بالمدينة بعد ان احتمى محمد بالاوس والخزرج وقويت شوكته، كانت سورة البقرة، ونزلت فيها الآية 190 تقول: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين". فهنا سمح الله لمحمد أن يقاتل المشركين ولكن لا يعتدي عليهم إن لم يعتدوا عليه. ثم الآية 91 تقول: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم واخرجوهم من حيث اخرجوكم والفتنة اشد من القتل". وهذا هو الله يأمر محمد بمجرد ان قويت شوكته ان يحارب المشركين ويقتلهم حيثما وجدهم. وفي سورة التوبة، الآية 12: "وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون". وفي الآية الخامسة من نفس السورة: "فاذا انسلخ الاشهر الحـرم فأقتلوا المشركـين حيث وجدتموهم
وخذوهم واحصروهم". وهذه هي آية السيف المشهورة التي قال عنها أبن كثير في تفسيره: (قال الضحاك بن مزاحم إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة)، وهذه ألآية بمفردها نسخت من القرآن مائة وأربعاً وعشرين آية. ويقول الزمخشري ان اول آية نزلت في المدينة تبيح القتال، نزلت بعد اكثر من سبعين آية تحض على التسامح والغفران، اغلبها مكية.)

لم ترد كلمة السيف في القرآن مطلقاً، فكيف يطلق على آية هذا الاسم؟! وأيضاً إذا بحثنا في الأحاديث فلن نجد أي أثر ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي أطلق هذه التسمية على هذه الآية.
قبل كل شيء لابد أن نرجع إلى مناسبة نزول الأمر بالقتال هنا: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم)، وهي أن (خزاعة) قامت بالعدوان على (بني بكر) أحد حلفائه عليه السلام. وبالرغم من أن خزاعة وبني بكر كلاهما مشرك، لكن الإسلام لا يقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين في التعامل الحربي. بل إلى مسالمين ومحاربين. فالدعوة إلى القتال هنا: (قاتلوهم) ليست عامة، ولكنها خاصة بمناسبتها ولكنها تتجدد كلما تجددت مناسباتها ضمن ضوابط القتال.
وهذه الآية التي تسمى "آية السيف" لم ترد في سورة بمفردها، وإنما وردت في سورة عدد آياتها (129) آية، فالآية وردت في سياق من الآيات في أول سورة التوبة مكون من (15) آية، فقبلها أربع آيات وبعدها عشر آيات. والمسماة آية السيف هي رقم (5) من سورة التوبة, فتعالوا نلقي نظرة على سياق بداية سورة التوبة إلى الآية رقم (15) ونرى هل هذه الآية يفهم من سياقها أنها نزلت لقتال الناس جميعاً كي يعتنقوا الإسلام، أم ماذا؟ وحتى يعلم القارئ ما هو السياق الحقيقي التي وردت فيه ما يسميها البعض بآية السيف.
قال تعالى: (بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ- فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ- وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ- إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّـنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَـمْ يُظَاهِرُواْ
عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ- فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ- وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ- كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَ عِندَ رَسُولِهِ إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ- كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ- اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ- لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ- فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ- وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ- أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ- قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ- وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة1 -15
لقد افتتحت سورة التوبة ببراءة الله والرسول من المشركين، وليس كل المشركين، بل هم الذين اضطهدوا الرسول في مكة، وتآمروا على قتله، وأخرجوه من وطنه هو أصحابه، لا لذنب سوى أنهم آمنوا بالدين الجديد، واتبعوه دون أي اعتداء من الرسول والذين معه على أحد من مشركي مكة، وقد هادنهم الرسول وعاهدهم ووقع معهم معاهدة صلح. وعندما اشتد ساعد المسلمين وقويت شوكتهم، أمر الله سبحانه الرسول والمسلمين أن يتبرؤا مـن هذه المعاهدة التي عقدت مع أهل مكة، وأمهلهم الله
أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم التي حرّم الله فيها القتال.
ثم كرر الله البراءة من المشركين مرة أخري يوم الحج الأكبر, ليس كل المشركين،

وإنما المعتدون منهم، بدليل أن البراءة الثانية التي تضمنت استثناء بعض المشركين الذين
لم يغتصبوا حقوق المسلمين ولم يظاهروا - يناصروا - أعداء الرسول عليه, فهؤلاء أمر الله بالوفاء لهم بالعهد وعدم نقضه, وذلك لأنهم لم يغتصبوا حقوق المسلمين ولم يضطهدوا أحداً منهم, وبالتالي من غير المنطقي قتالهم أو نقض عهودهم.
وبعد هذا التوضيح من الله بشأن المشركين المغتصبون لحقوق المسلمين, والمشركين الغير مغتصبون لحقوق المسلمين, عاد النص ليذكر المسلمين بالمهلة التي أعطاها الله للمشركين حين. قال تعالى: (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)، فكان تذكير الله للمسلمين كالتالي قال تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) هذا هو وضع النص في مكانه الطبيعي .
ولو قرأنا بقية السياق لوجدنا أن المقصودين من السياق بالقتال هم المشركين الذين أخرجوا الرسول وأتباعه من مكة، واستولوا على ديارهم وأموالهم وأبنائهم, والذين إن تمكنوا من المسلمين لا يرقبوا فيهم عهداً ولا ذمة, لأنهم صدوا عن سبيل الله وأنهم هم المعتدون، وأنهم هم البادئون بالعدوان وإخراج الرسول وأتباعه من وطنهم
بالقوة والقهر والتآمر عليه صلى الله عليه وسلم بالقتل.
طرد المشركين هنا وإعلان البراءة منهم خاص بالحرم المكي وهو محدد بالمواقيت المكانية المعلومة للإحرام، وهي مساحة ضيقة جداً من كامل تراب الجزيرة العربية، فليست هي عملية إجلاء عامة للمشركين عن بلادهم الأصلية لشركهم. عملية الإجلاء الصغيرة المحدودة تلك جداً والخاصة بالحرم المكي تقتضيها أن يبقى بيت الله سبحانه لله وحده. فالشرك والتوحيد لا يلتقيان في أول بيت من بيوت الله سبحانه فهو بيت خالص للتوحيد وللموحدين. ذلك حقهم في الأرض من دور العبادة كما لكل أهل دين دورهم التعبدية. هذا هو السياق كما أنزله الله في كتابه.
والغريب أن الآيات مليئة بالاستثناءات لبعض المشركين، وهذه الاستثناءات وردت في الآيات الواردة قبل ما يسمى بآية السيف والآيات الواردة بعدها.
وهذه الاستثناءات كالتالي:
- (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً أَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ..) الآية 4 .
- (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) الآية 6.
- ( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الآية 7 .
- (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) الآية 10.
- (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) الآية 12.
- (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية13.
وهذه الآية دليل على أن المشركون هم من نكث عهده، وهم من أخرج الرسول من وطنه، وهم من بدأ بالعدوان أول مرة، وليس الرسول والمسلمون.




يقول الكاتب:


(والنسخ عادة يكون بآية تنسخ آيةً قبلها في نفس السورة او آية في سورة اخرى، الا الآية 234 من سورة البقرة: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشراً"، نسخت الآية التي تأتي بعدها، اي الآية 240 من نفس السورة: " والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجاَ وصية لأزواجهم متاعاً الى الحول غير يُلغي الآية الاتية قبل ان تنزل اذا كان قد نسخها بآية قد سبق وانزلها؟ . والتفسير الاكثر منطقاً هنا هو ان الله انزل الآية الاولى التي تقول ان المرأة التي مات زوجها تتربص بنفسها اربعة اشهر وعشرة، ثم اختلط الامر او نسي الكاتب انه سجل الآية الاولى وكتب الآية اللاحقة التي تقول متاع هذه
المرأة الى الحول، اي لمدة سنة كاملة، وهذه كانت عادة العرب قبل نزول الاسلام، ولما كانت الآية الاولي اقرب الى آية اخرى تقول ان عدة المطلقة ثلاثة شهور، قالوا ان الآية الاولى نسخت التي تليها، وهو عكس المنطق.)


فلنقرأ قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ ج ُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن
مَّعْرُوفٍ وَاللّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) البقرة240- 241. ولنرى هل القرآن بالفعل يقول بأن عدة المتوفى عنها زوجها سنة ، أم أن الآية تنص على شأن آخر غير العدة؟
هذه الآية لا يمكن أن يفهم منها غير الآتي: تنص الآية على أن الزوج يجب أن يوصي لزوجته قبل أن يتوفى (بمتعة) لمدة سنة، أي إلى أن يحول على وفاة الزوج حولاً كاملاً ولا يحق لأحد أن يخرج زوجة المتوفى عنها زوجها من بيتها لمدة سنة، إلا إذا أرادت هي الخروج للزواج بعد انقضاء العدة التي هي أربعة أشهر وعشراً، أو أرادت الخروج هي لأي شأن آخر. وتسمى هذه بمتعة المتوفى عنها زوجها.
هذا هو ما نصت عليه الآية. وإن كانت هذه (المتعة) لا يُعْمل بها.
ولو قرأنا الآية التالية لآية المتوفى عنها زوجها مباشرة لوجدناها أيضاً تتعلق بمتعة المرأة بعد الطلاق، وهي معطوفة على الآية التي قبلها، وها هو نص الآية التي بعدها مباشرة قال تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ). فكما أن للمتوفى عنها زوجها متاع لمدة سنة، كذلك للمطلقة متاع بالمعروف حقاً على المتقين.
وهكذا فإن الآية الأولى التي استشهد بها الكاتب: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر.) تنص على أن عدة المتوفى عنها زوجها أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً. وأن الآية الأخرىوَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تنص على الوصية بمتاع
للزوجة المتوفى عنها زوجها لمدة سنة.




يقول الكاتب:


(والمتعارف علـيه ان القرآن يأتي اولاً ثم السنة ثم افعال واقوال الصحابة. ولكن هبة الله
بن سلامة البغدادي يقول قد تُنسخت الآيات الكريمة بألاحاديث الشريفة. فإذا كان الله قد قال: "إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، فكيف إذاً يكون للحديث الذي قاله الرسول قوةٌ فوق قوة الله الذي قال انه سيحفظ القرآن كما أنزله.)



هبة الله بن سلامة البغدادي لم يذكر ذلك بالطريقة التي يوردها الكاتب. الكاتب يفتري كثيراً. وعلى العموم، ولو قال ذلك، فهذا لا يخرج أن يكون رأياً شاذاً.
فالذين اتفقوا على جواز النسخ في القرآن، اتفقوا أيضاً على عدم جواز نسخ القرآن بالسنة.



يقول الكاتب:

(واذا كان النسخ لاسباب مفهومة لإبدال تشريع مكان آخـر لإن التشريع الجديد يفيد
المسلمين اكثر، لفهمنا ضرورة النسخ، ولكن ان يكون النسخ لاسباب سياسية لا نفع منها للمسلمين، يصبح الامر اكثر صعوبة في القبول. فمثلاً عندما كان محمد في مكة وكان يحاول استمالة اليهود الى دينه الجديد، جعل بيت المقدس قبلته وجعل اليهود وقصصهم المحور الرئيسي لمعظم سور القرآن التي نزلت في مكة. واستمر يصلي نحو بيت المقدس في القدس مدة
ثلاث عشرة سنة بمكة وحتى عندما هاجر للمدينة وكان يؤمل استمالة يهود يثرب اليه، ظل يصلي نحو القدس، ولكن بعد مرور سبعة عشر شهراً بالمدينة دون اي نجاح في استمالة اليهود ، نجد محمد قد غير قبلته الى مكة، التي لم يصلي نحوها حتى عندما كان بها.)


يدعي الكاتب أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في مكة كان يحاول استمالة اليهود إلى دينه الجديد، لذا جعل بيت المقدس قبلته.
هذا الإدعاء لا يستحق الرد في الأساس، لأن الجميع يعرف أنه لم يكن هناك يهود
في مكة، وإن وجد فعلى مستوى أفراد قلائل. أما إن كان يقصد اليهود في المدينة فالرسول لم يلتقي بهم إلاّ في السنة التي هاجر فيها إلى المدينة. فعن أي استمالة يتحدث؟! أليس كان حرياً بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يحاول استمالة مشركي مكة
بالتوجه إلى المسجد الحرام، بدل اليهود -كما يزعم الكاتب - وهم الذين كانوا يعظمون المسجد الحرام. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نسأل أين النص القـرآني الذي أمر الله فيه الرسول بالتوجه في الصلاة نحو بيت المقدس؟
لا يوجد ولم يأت أصلاً نص قرآني على الإطلاق يأمر بالتوجه نحو القبلة الأولى، ولم يذكر حتى في الأحاديث شيء ينص على وجود مثل ذلك النص. أما الحقيقة فيجب أن نعلم أن هناك أموراً من قبل (العلم) الذي اختص الله به رسله دون خلقه، ولم ينزل به كلام مقروء متلو مسموع، وإنما هو كما قال تعالى: (إني أعلم من الله ما لا تعلمون). ويتبين من سياق النصوص أن المسلمين كان لهم قبلة غير القبلة التي تحولوا إليها قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) البقرة 142. وهذا مما يؤكد خطأ من قال بعدم وجود نسخ بمعنى (الإزالة).



يقول الكاتب:

(وعندما يئس محمد من استمالة اليهود حاول استمالة قريش بالجلوس في مجالسهم وقراءة القرآن لهم. وفي احد هذه المجالس كان يقرأ سورة النجم ولما جاء للآية 19 قرأ: "أفرايتم اللآت والعُزى، ومناة الثالثة الاخرى، تلك القرانيق العلى وان شفاعتهن لترجى". فرح عندئذ القرشيون وقالوا ان محمداً قد اعترف بآلهتنا ولا بأس من الدخول في دينه. غير ان
النبي تنبه لما قد قال، فنسخ الجزء الاخير من الآية وقال هذا ألقاه الشيطان عليّ. فسميت هذه الآيات بالآيات الشيطانية. وعندما اشتد الحزن بالنبي علي ما فعل، انزل الله اليه الآية 52 من سورة الحج: " وما ارسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي الا اذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يُلقي الشيطان ثم يُحكم الله آياته". فإذاً الشيطان قد تدخل في الوحي الذي ارسله الله لكل الانبياء والرسل قبل محمد، ولكن الله نسخ ما قاله الشيطان. لماذا يصبر الله على الشيطان هذا الصبر الكثير، ولماذا لم يجد الله طريقة اكثر ضماناً لايصال الوحـي الى
انبيائه دون ان يجد الشيطان طريقةً ليتدخل مما يضطر الله ان ينسخ الآيات التي قالها الشيطان.)



بالرغم من أن المسلمين متفقون الآن على أن قصـة الغرانيق لا أصل لها، وأن كل الروايات التي ذكرت القصة مرفوضة. وللشيخ ألباني رسالة طويلة يتناول بالنقـد
كـل أسانيد هذه القصة. فإن المبشرين والمستشرقين يتمسكون بها، ويدافعون عنها بطريقة لا تعرف لها سبباً! فما قيمة روايات تكلم فيها المسلمون قديماً وحديثاً، وقال عنها ابن كثير: (لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح). وقال الإمام ابن حزم : (والحديث الذي فيه: "وأنهن الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن لترجى" فكذب بحت لم يصلح من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد). لماذا التمسك بالشاذ ونبذ الصحيح؟
بالنسبة للآية التي يدعي الكاتب أنها نزلت بسبب حزن النبي على ما فعله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحج 52. فسنجد أن الآية االسالفة الذكر تتحدث عن الرسل والأنبياء الذين كانوا قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ..).
كما أنها لا تخبر عن قول كان الشيطان يلقيه على ألسنة الرسل والأنبياء، وإنما تخبر عن (تمنيات) ربما مرّت بخواطرهم - والتمني هو حديث النفس - أي خواطر الشخص مع نفسه. والرسل والأنبياء ليسوا إلاّ بشراً يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الأحكام - غير المعاصي - وقد تمر بخواطرهم أمور كما كل البشر.
إذاً فمعنى الآية: ما كان شأن الرسل و الأنبياء من قبلك، إذا حدّث نفسه أن لو جارى قومه في بعض ما يقولون، وجاملهم في بعض ما يحبون، أملاً في إيمان بعضهم، إلا أن ينفخ الشيطان في هذه الأمنية النفسية. لكن عناية الله تحمي أنبيائه، فيقطع الله وسواس الشيطان إلى نفوسهم، ويلغي الأمنية التي جالت في خواطرهم، ويحميهم من دسائس الشيطان.


يتبع ,,

اخت مسلمة
10-05-2009, 10:25 PM
الإسلام والعلم



من يزعم بوجود خطأ علمي في القرآن فهو ملزم بالقرآن فقط (تفسير القرآن بالقرآن)، ونفس الشيء لمن يزعم بوجود إعجاز علمي في القرآن, فلا مجال هنا للرأي الشخصي.
واحد من أشهر الكتب التي تناولت موضوع العلاقة بين العلم والكتب المقدسة هو كتاب د. موريس بوكاي [القرآن و الكتاب المقدس والعلم]. هذا الكتاب حقق شهرة كبيرة في الغرب في فترة الثمانينات والتسعينات، لا تقل عن شهرة مؤلفه كطبيب. وأنا مازلت أراه أفضل من تناول هذا الموضوع بشكل محايد رغم ما قيل عنه ومازال يقال. في كتابه تناول الدكتور بوكاي النصوص المقدسة برؤية كانت جديدة وقتها، وجمع في كتابه معظم النقد الذي وجه إلى الكتاب المقدس في أوروبا في هذه الفترة وما قبلها، ولكنه كان منبهراً بأن القرآن كان خالياً من هذه السقطات.
كتب طبيب أمريكي مسيحي اسمه (د. وليم كامبل) في بدايات التسعينات كتاباً تعرض فيه لما جاء في كتاب د . بوكاي ودافع فيه عن الكتاب المقدس- وهذا حقه طبعاً - واستخرج من القرآن بعض الآيات التي رأى أن فيها أخطاء علمية.
و الكاتب اقتبس الفصل الخامس بالكامل من كتاب د. كامبل.
قبل أن نبدأ مع الكاتب نشير أن كتاب د. كامبل يحمل اسم [القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم] وهو موجود و مترجم بالعربية على مواقع الإنترنت المسيحية.



نبدأ مع الكاتب :

(والآن أنظر ماذا يقول القرآن: "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون
له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيامٍ سواء للسائلين. ثم أستوى الى السماء وهى دخان فقال لها وللارض إئتيا طوعاً أو كُرهاً قالتا أتينا طايعين. فقضهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماءٍ أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم". فالله هنا خلق ألارض وهي كوكب واحد في يومين، ثم جعل فيها رواسي وقدر فيها أقواتها وبارك فيها في أربعة أيام، ثم استوى الى السماء وهي دخان، وخلق كل هذه المجرات التي ذكرنا سابقاً والشمس وبلايين النجوم التي يصل حجم بعضها الى ملايين المرات مثل حجم الشمس، التي يبلغ حجمها 300000 مرة حجم الارض، وخلق كذلك عدة كواكب منها عدد يشبه أرضنا، ربما سيكتشفها العلم في المستقبل، كما يقول الدكتور موريس، خلق كل هذا في يومين فقط. فهل يتفق هذا مع العلم الحديث؟ وكذلك يقول الدكتور ان المحيطات والماء ظهر على الارض قبل حوالى نصف بليون عام تقريباً. فإذاً النباتات ظهرت قبل نصف بليون سنة على أكثر تقدير، وقد يكون أقل من ذلك بكثير. فإذاً تقدير أقوات الارض لم يتم الا قبل بضع ملايين من السنين في حين أن ألارض عمرها أربعة بلايين ونصف البليون سنة. وبما أن الله لم يخلق السماء إلا بعد أن اكمل تقدير قوت الارض، نستطيع أن نقول أن ألسماء عمرها لا يزيد عن بضع ملايين سنة. ولكننا نعرف ألان أن عمر مجرتنا عشرة بلايين من السنين، ناهيك عن المجرات ألاخرى. فأين علم القرآن هنا من العلم الحديث؟)



الرجل بنى كل افتراضاته من البداية على أن الله (خلق السماء في يومين) وقفز قفزة عجيبة، بدون أن يوضح كيف فهم ذلك من الآيات.
هل معنى (استوى إلى السماء) يشير إلى أن السماء لم تكن موجودة، أم يشير إلى أن السماء كانت موجودة بالفعل؟ بالطبع كانت موجودة. هذه هي الآيات كاملة: (ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .
الآية تقول: (فقضاهن سبع سموات في يومين) بعد أن أشار إلى أن السماء كانت موجودة من قبل (استوى إلى السماء)، وعلى هذا فمن أين جاء الكاتب بفكرة أن الله خلق السماوات في يومين؟
الرجل نتيجة لفهمه الخاطئ افترض أيضاً أن خلق الأرض وتقدير أقواتها تم قبل خلق السماء، وهذا جعله يقع في خطأ آخر.



يقول الكاتب:

(ثم أنظر الى سورة النازعات، الآيات 27-33: 27- أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها28 - رفع سمكها فسواها 29- وأغطش ليلها وأخرج ضحاها30 - والأرض بعد ذلك دحاها31- أخرج منها ماءها ومرعاها 32 - والجبال أرساها 33 - متاعاً لكم ولانعامكم. والآية 31 تخبرنا انه أخرج من الارض ماءها ومرعاها بعد أن خلق السماء، وبما أن النباتات لا تنمو إلا بالماء، فإن الله يكون قد خلق السماء والنجوم قبل ان يسطح الارض ويخرج منها النبات الذي هو أقوات ألارض. وهذا كذلك عكس ما أخبرنا القرآن سابقاً، إذ أنه قال أن الله قد قدر أقوات الارض في اربعة أيام قبل أن يخلق السماء في يومين.)



هكذا تجد الكاتب يتخبط تخبطاً شديداً. فالافتراض الخاطئ من البداية جعل كل نتائجه التالية خاطئة. وحتى هذه الآيات في سورة (الذاريات) لا يفهم منها أن الأرض تم خلقها بعد خلق السماء.
فالله عندما يقول: (والأرض بعد ذلك دحاها – أخرج منها ماءها ومرعاها) نفهم منها أن عملية إعداد الأرض وتمهيد سطحها للحياة، تمت في مرحلة لاحقة لعملية خلق الشمس (وأغطش ليلها وأخرج ضحاها)، ولكن لا يفهم منه أبداً أن السماوات خلقت قبل بدء خلق الأرض (فتمهيد الأرض شيء وبداية خلقها شيء آخر).
الآيات تقول ببساطة أن تمهيد سطح الأرض: (والأرض بعد ذلك دحاها – أخرج منها ماءها ومرعاها ) تم بعد اكتمال خلق الشمس وربطها بالأرض (وأغطش ليلها وأخرج ضحاها).
دعونا نطرح السؤال التالي: أيهما تم خلقه أولاً الأرض أم السماوات؟
ربما البعض مهتم بمعرفة ما يقوله القرآن تحديداً في هذه النقطة، لأن هذه من الطعون التي تم توجيهها لسفر التكوين في الكتاب المقدس.
كل ما يفهم من القرآن حول هذا الموضوع هو أن الأرض والسماوات كانتا تمران بمراحل خلقهما في نفس الوقت بشكلٍ متداخل فالقرآن يذكر حيناً السماوات والأرض ، وحيناً أخرى الأرض والسماوات. وحرف الواو ليس للترتيب الزمني. أما الآيات التي تذكر حروف الترتيب الزمني كالآيات السابقة حرف (ثم) في سورة (فصلت) وظرف الزمان (بعد ذلك) في سورة (النازعات)، فقد شرحناها ورأينا أن إحداهما لم تخلق قبل الأخرى. الأمر ليس غامضاً لهذا الحد، فالأرض على الأرجح كانت جزءاً انفصل عن الشمس، ويجب أن نعرف أن المادة التي نشأت منها الأرض هي نفس المادة التي نشأت منها السماوات.
وعلى هذا لن تجد في القرآن أبداً أن خلقَ أحدهما بدأ قبل الآخر، وإنما صحّح القرآن الخطأ المذكور في سفر التكوين، وأوضح أن خلق الشمس (وأغطش ليلها وأخرج ضحاها) تم قبل تقدير أقوات الأرض وخلق النبات: (والأرض بعد ذلك دحاها - أخرج منها ماءها ومرعاها).
بالمناسبة: كل هذه الأمور أوضحها الدكتور بوكاي في كتابه، ولا أعلم ما الذي قرأه الكاتب إذن؟
بخصوص أيام الخلق الستة فبديهي جداً أنها غير الأيام الأرضية (ليل ونهار) فالشمس والأرض لم تكونا قد خلقتا بعد. أمّا ما هو مقدار هذه الأيام بمقياسنا الأرضي؟ فالحقيقة هي أن القرآن لم يخبرنا بهذا الأمر. البعض يظن أن اليوم من أيام الخلق يساوي ألف سنة: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) و لكن هذه الآية تتحدث عن يوم القيامة. البعض الآخر يظن أنه خمسون ألف سنة: ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ولكن هذه الآية أيضاً تتحدث عن شيء آخر.

كل ما نفهمه من هذه الآيات أن الزمن هو شيء نسبي.
تعرفون هذا السؤال الفلسفي: هل للزمن وجود موضوعي خارج وعينا أم لا وجود له إلاّ في الوعي؟ فالماديون يقرون بوجود موضوعي للزمن، بينما المثاليون يعتبرون أنه لا وجود للزمن سوى في وعينا البشري.
القرآن أيضاً أثار موضوع الزمن في كثير من الآيات. فمثلاً: (قالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّه). فهذه الآية تخبرنا أن الله يتحكم في الزمن بطريقة المد والجزر، فهو قبضه في موضع وبسطه في موضع آخر، رغم أن كل هذا في نطاق الدنيا المعروفة لنا. وكذلك: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ). هنا الحديث عن الاضطراب الذي يحدث للإحساس بالزمن عند الانتقال إلى الآخرة.
على أية حال ما أود تلخيصه هنا، أن مفهوم أيام الخلق في القرآن قد يكون من الصعب إدراكه لغموض مفهوم الزمن ككل، ولذلك نكتفي بالقول بنسبية الزمن.



يقول الكاتب:


(وفي سورة هود الآية السابعة نجد: "وهو الذي خلق السموات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء". وسئل ابن عباس، كما يقول ابن كثير في تفسيره، عن قوله "وكان عرشه على الماء" على اي شئ كان الماء؟ قال: كان على متن الريح. فاذاً اول شئ خلق الله كان الريح ووضع عليها الماء ثم وضع عرشه على الماء قبل أن يخلق الارض والسماء. هذه طبعاً فكرة مأخوذه من اليهودية. ففي سفر التكوين، الاصحاح الاول، نجد في البدء خلق الله السموات والارض وكانت الارض خاوية خالية وعلى وجه الغمر ظلامٌ وروح الله يُرف على وجه المياه. وقال الله: "ليكن نورٌ، فكان نورٌ. وراى الله ان النور حسنٌ. وفصل الله بين النور والظلام. وسمى الله النورَنهاراً، والظلامُ سماه ليلاً. وكان مساءٌ وكان صباحٌ: يومٌ أولٌ". وحتى اليهودية ربمااخذت الفكرة من البابليين القدماء، الذين قالوا، كما رأينا في المقدمة، ان الآلهة ظهروا، كل إلآهين مع بعض، من ماء مقدس كان موجوداً منذ القدم. واكبر ثلاثة من الآلهة كانوا: أبسو "Apsu" إله المياه العذبة، وزوجته " تيامات "Tiamat" إلهة المياه المالحة، و

مومو "Mummu" إله الفوضى. وخلقت الالهة بقية العالم .)




عندما تم العثور على أسطورة التكوين البابلية (إنيوما إليش)، ارتفعت السهام إلى سفر التكوين في الكتاب المقدس، متهمة كاتب السفر بسرقة هذه الأسطورة للتشابه الكبير بينهما. ورغم أنني لا أستبعد تأثر اليهود بهذه الأسطورة وقت السبي البابلي. ولكني أريد أن أطرح هذا السؤال المنطقي: ما هو أوجه التشابه بين موضوع الخلق في القرآن و بين هذه الأسطورة؟! لا يوجد أدنى تشابه بين موضوع الخلق في القرآن المكرر في أكثر من سورة، و بين هذه الأسطورة، أو سفر التكوين. هل تجد في القرآن موضوع (جلد السماء) و(المياه العذبة) و(المياه المالحة) و(الماء الذي يغطي سطح الأرض) ؟! أين يجدون كل هذا في القرآن؟! عندما نحاكم القرآن فنحن نحاكم ما يقوله القرآن، وليس ما يقوله المفسرون.
أمامنا الآية التالية: (وكان عرشه على الماء) هل نستطيع أن نتأكد من صحة هذه الآية علمياً؟ الإجابة لا.
أمامنا آية أخرى وهي: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) هل العلم ينفي هذه الآية ؟ الإجابة لا، بل الشواهد تؤيدها إلى حد كبير.
إذن ليس من حق الكاتب أن يزعم أن هناك خطأ ًفي القرآن، أو أن القرآن اقتبس شيئاً من الآخر بدون دليل.



يقول الكاتب:

(ويستمر تسلسل الخلق في القرآن فيقول في سورة الذاريات، الآية 47: "والسماء بنيناها بايدٍ وانا لموسعون". فالله قد بنى السماء اما بأيديه او كلف الملائكة ببنائها. وهذا دليل قاطع ان السماء صلبة وبُنيت بايدٍ، وقال الله هذا القول لتأكيد ان السماء صلبة، لانه في العادة اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون. فلو اراد الله للسماء ان تكون لقال لها: كوني، فكانت. لكنه للتأكيد قال بنيناها بأيد. وهناك من يقول أن السماء هو كل ما سما فوقك أي أرتفع، وبالتالي يكون الهواء سماء. و لكن الدليل ان السماء صلبة نجده في سورة الحج كذلك،
الآية 65: "ويمسك السماء ان تقع على الارض الا بإذنه". وطبعاً لا يمكن ان يقع الهواء على
الارض، فلا بد ان تكون السماء صلبة لتقع على الارض. وهناك دليل آخر في سورة الانبياء، الآية104"يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب". فلا بد ان تكون السماء صلبة ومسطحة حتى يتسنى له أن يطويها كطي الصحيفة. فكل هذه الآيات تخبرنا ان السماء صلبة ومحسوسة وبنيت وسوف تُطوى كطي السجل.)


الكاتب يقول أن جملة (بنيناها بأيد ) معناها أن السماء صلبة! ثم ذهب إلى قول بأن القرآن في عدد من آياته يؤكد هذا المعنى.
بداية لابد أن نشير إلى أن القدمـاء كانوا يظنون أن السماء عبارة عـن طاسة (Bowl) زرقاء صلبة فوق الأرض، وهذا ثابت في آثار الإغريق والرومان. البعض كان يظن أن هناك نبتة - شجرة- ضخمة تسند هذه الطاسة، والبعض الآخر قال بل إن جبلاً ضخماً يسندها.
لنقرأ الآية التالية: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) لفظ السماوات يوحي أنها ليست سماءً واحدة، وبالتالي ليست طاسة صلبة. لفظ (في السماوات) يوحي أن السماوات فيها أشياء، وهذا يعني أنها مكان (Space) وليست طاسة صلبة. نذهب لآية أخرى: ( مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ - تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) نحن لم نر ملائكة من قبل، ولكن القرآن يخبرنا أن معراجها - صعودها - في السماء يستغرق خمسين ألف سنة، وهذا يدلنا أن السماء بمعارجها فضاء عظيم (Space) وليس طاسة زرقاء. و هذه الآية أخرى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ).كلمة أقطار السماوات معناها نواحي السماوات ، وهذا يشير أن السماوات مكان، وليست طاسة صلبة.
اتفقنا أن لفظ السماوات مجرد كونه جاء بصيغة الجمع في القرآن ينسف تماماً المفهوم القديم، ويدلنا أن السماوات هي مكان (Space) . أما لفظ السماء فله في القرآن معاني كثيرة كل حسب سياق الكلام. نعرف أن القرآن جاء بلفظ السقف المحفوظ، ومعناها في الغالب الغلاف الجوي المحيط بالأرض، والله أعلم. وربما هذا هو المقصود كذلك من لفظ السماء ذات الرجع. لأننا لو تساءلنا ما هو الذي يحفظ الأرض ويرجع عنها بعض الأضرار الكونية، فلن نجد سوى الغلاف الجوي.
و لكن ما حكاية سقوط السماء على الأرض كما ورد في القرآن إذن؟
نبدأ أولاً بآية: (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ). الحجارة الساقطة من السماء هي الأحجار الكونية أو مجموعة النيازك التي من الممكن أن تسقط على الأرض، وهذا يحدث أحياناً. نفس المعنى السابق نجده هنا: ( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الشعراء 187
ولكن اقرأ هذه الآية: (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ والملائكة قَبِيلاً ) هذه الآية أيضاً تتحدث عن الشيء ذاته، ولكن بأسلوب بلاغي آخر ، هو المجاز. فتعبير "كسفاً من السماء" الذي يستعجلون بسقوطه تغير إلى سقوط "السماء كسفاً " فالسماء التي هي مكان الكسف - الحجارة الكونية - لا تسقط, ولكن الذي يسقط هو الحجارة، لذلك نقول أن هذا مجاز مرسل، علاقته مكانية أو محلية. مثال آخر: (يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً) فالله يرسل المطر مدراراً- غزيراً - وليس السماء التي هي مكان المطر. لذلك نقول أيضاً أن هذا مجاز مرسل علاقته محلية أو مكانية.
نأتي إلى الآية التي ذكرها الكاتب: (وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) هذه الآية تتحدث عن الشيء ذاته، و هو: أن من رحمة الله بالبشر أن يمنع سقوط أشياء من السماء - الحجارة الكونية - على الأرض إلا لو أذن بذلك كعقاب لبعض الأمم "إلا بإذنه" وهذا هو الحكمة من ختام الآية بصفتي الرأفة والرحمة. فلفظ السماء هنا هو مجاز مرسل عن الحجارة الكونية أو الكسف علاقته محلية أو مكانية .
بعض المدارس الإسلامية ترفض وجود (المجاز) في القرآن ، ولكنهم بالتالي مطالبون
أن يفسروا لنا الآية التالية: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) يوسف 82. هل المقصود القرية، أم سكان القرية؟ هل المقصود العير، أم من فوق العير؟ على العموم فلنسميه شيئاً آخر غير المجاز، ولكن لا يوجد أدنى شك في أن هذا الأسلوب موجود في القرآن بكثرة.
ما أود قوله أن لفظ (السماء بناء) هو في حدود ما وصلنا من علم.
أنا لا أنكر أن هناك أوصافاً للسماوات في القرآن غامضة بعض الشيء، وذلك لأننا لا نعرف شكل الكون ولا حدوده - إن كان له حدود - لذلك فنحن نتعامل مع الأوصاف القرآنية في القرآن حسب حدود مداركنا.

يقول الكاتب:

(واذا نظرنا الى خلق الارض، نجد في سورة الحجر، الاية التاسعة عشر: "والارض مددناها والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل شئ موزون". ويقول ابن كثير في تفسير هذه الاية: مد الارض يعني وسّعها وبسطها وجعل فيها من الجبال الرواسي. وفي سورة الرعد، الآية الثالثة: "وهو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وانهارا". وفي سورة الانبياء، الآية 31: "وجعلنا في الارض رواسي ان تميد بهم". وفي سورة النحل، الآية الخامسة عشر: "والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وانهاراً وسبلا ". وفي سورة لقمان، الآية العاشرة: "خلق السماء بغير عمد ترونها والقى في الارض رواسي ان تميد بكم". وفي سورة النازعات، الآية 27-29: "أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها واخرج ضحاها والارض بعد ذلك دحاها". ودحا، يدحو، تعني "سطّح" او "بسط "، كما يقول الشاعر، وهو يصف خبازاً يسطح عجينة الخبز المكورة ليجعلها مستديرة كالقرص قبل أن يضعها في الفرن: إن انسى لا انسى خبازاً مررت به يدحو الرقاقة وشك اللمح والبصر ما بين رؤيتها في كفه كُرةً وبين رؤيتها غوراء كالقمر الا بمقدار ما تنداح دائرةٌ من الماء يُلقى فيه بالحجر. وكذلك في سورة الشمس، الآية السادسة: "والسماء وما بناها، والارض وما طحاها". ويقول القرطبي في تفسيره: طحاها يعني بسطها من كل جانب، مثل دحاها، قاله كذلك الحسن ومجاهد وغيرهما.)



لو قمنا بترجمة كلمة(earth) إلى العربية فسنقول الأرض، كـلمة (Land)
كذلك تترجم إلى الأرض، و كلمة (ground) تترجم إلى الأرض. فعن أي أرض تتكلم الآيات؟
الآيات التي جاء بها الكاتب لا تصف شكل كوكب الأرض، ولكنها تتحدث عن مراحل تمهيد سطح الأرض. أكرر سطح الأرض ليكون مناسباً للحياة.
لنقرأ هذه الآية: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وانهارا) واضح تماماً أن الآية تتحدث عن سطح الأرض وتكوين الجبال والأنهار. كيف فهم الكاتب أن الآية تصف شكل كوكب الأرض؟!
فكرة تمدد الأرض هي فكرة علمية معروفة أول من قال بها هو الألماني (ألفريد لوثر) سنة 1912. فسطح الأرض قديماً مر بمراحل تمدد نتج عنها ليس فقط ظهور الجبال بل وأيضاً تكون أودية الأنهار. كلمة "مد" ، أو "مددناها" يشير إلى ازدياد مساحة سطحها. هذا واضح في آية أخرى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً). مد الظل هو شيء يراه الجميع بعينه، وهو يزداد في مساحة سطحه وليس في حاجة للشرح.
اقرأ الآية مرة أخرى، ولاحظ العلاقة بين مد الأرض وظهور الجبال والأنهار: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراًً) وأيضاً: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ).
كذلك لو نظرنا إلى كلمة "دحاها" فلا بد أن نضعها في سياق الآيات لنعرف أن الكلام عن مرحلة تمهيد سطح الأرض للحياة، وليس وصفاً لشكل كوكب الأرض: (والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا - أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـهَا - وَالْجِبَالَ أَرْسَـهَا - مَتَعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ).
هذه الآيات تتحدث أيضاً عن تمهيد سطح وليس عن شكل الكوكب الأرضي.
ولكن أين يوجد في القرآن وصف لكوكب الأرض بأنه كروي الشكل؟ في هذه
الآية الشهيرة: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَـقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ

عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ..).
هذه الآية من سورة الزمر اتفق الجميع أنه لا يوجد لها معنى سوى أن الأرض كروية. السياق يتحدث عن علاقة الأجرام بعضها ببعض، وعن حركة الشمس والقمر، وليس عن سطح الأرض كما يقول الكاتب.
لو سألنا أي إنسان ما الفائدة من كون الأرض كروية الشكل؟ لا توجد إجابة إلاّ لسهولة تعاقب الليل والنهار. فلو وقف الإنسان في منطقة تقع خارج نطاق الكرة الأرضية، ونظر إلى مشهد حركة الأرض حول نفسها وتكون الليل والنهار اللذين يطوقان سطحها المكور سيعرف معنى الآية. لفظ (يكور) جاء بصيغة المضارع لاستمرار دوران الأرض حول نفسها واستمرار تعاقب الليل والنهار. الآية بديعة بدون أدنى شك، ولو طلبنا من أحدهم أن يأت لنا بمعنى آخر للآية ينفي أن الأرض كروية، وتدور حول محورها فلن يستطيع.
ولكن لماذا يصف الله الأرض بالليل والنهار؟
الإجابة بسيطة وهي أن الناظر للأرض من مكان خارجها - منظر فضائي - سيراها تنقسم لنصفي كرة. نصف مضيء مواجه للشمس يسميه القرآن نهاراً، ونصف مظلم بعيد عن الشمس يسميه القرآن ليلاً. وعلى هذا نفهم أن القرآن يتعامل مع مصطلحي الليل والنهار كمكان، وليس فقط زما .
إن وجود هذه الآية في القرآن جعلت المسلمين الأوائل يتلقون خبر اكتشاف كروية الأرض بشكل طبيعي، بعكس الفتنة التي حدثت في أوروبا.



يقول الكاتب:


(وفي سورة الكهف عندما يتحدث القرآن عن ذي القرنين في الآية 86: "حتى اذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماً قلنا يا ذا القرنين اما ان تعذب واما ان تتخذ منهم حسناً ". فهذا هو ذو القرنين مشى في الارض حتى بلغ مغرب الشمس ووجدها تغرب في عينٍ حمئة. وقال المفسرون انه وجدها تغرب في طينٍ اسود. وطبعاً اذا لم تكن الارض مسطحةً فكان لابد لذي القرنين ان يصل احدى المحيطات( إذ أن سبعين بالمائة من سطح الارض تغطيه المحيطات) ويرى الشمس تغرب في الافق و يتبين له كانها تغرب في المحيط. ولكن لان الارض في نظرهم مسطحة، وصل ذو القرنين آخرها ووجد الشمس تغرب في طين اسود.)




الكاتب يريد أن يقول أن القرآن كان يظن أن الأرض مسطحة (Flat) بدليل أن ذو القرنين وصل آخر حدودها والأرض طبعاً ليس لها حدود. هو استنتج ذلك من عبارة (بلغ مغرب الشمس). سنجعل الآيات فقط هي الحكم بيننا، ولا دخل لنا بأقوال المفسرون، فكل يتحدث بعلوم عصره.
الآية (86) تقول: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) كل ما تقوله الآية أن الرجل وصل مكاناً وقت الغروب رأى الشمس تختفي وراء بحيرة من الطين، أي أنه وصل مكاناً فيه مستنقعات. لو الآيات تقصد أن تقول أنه وصل نهاية الأرض فكيف نفسر الآيات التالية التي تقول: (ثمَّ أَتْبَعَ سَبَباً - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً) ؟ لاحظ هنا أن الآية (90) تقول أنه سار في طريقه بعد ذلك حتى وصل مكاناً آخر وقت طلوع الشمس. ترى كيف أكمل طريقه طالما القرآن يقول أنه وصل لنهاية الأرض، حسب قول الكاتب؟ ثم الآية (93) تخبرنا أنه بعد ذلك أكمل طريقه مرة أخرى حتى وصل مكاناً (حتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) من كل ذلك نفهم أن الرجل يحمل الكلمات أكثر مما تحتمل معانيها. إذاً المقصود من "بلغ مغرب الشمس" هو أن الشمس كانت وقت الغروب عندما وصل للمستنقعات.



يقول الكاتب:

(وبما انهم كانوا يعتقدون ان الارض مسطحة، نجـد القرآن يخبرنا ان الله ألقـى في الارض رواسي كي لا تميل بنا. ونفهم من هذا ان الله ألقى الجبال من السماء على الارض، لان الالقاء يكون من اعلى الى اسفل. ولكننا ألان نعلم ان الجبال لم تُلقى بل ارتفعت من داخل الارض نتيجة البراكين العديدة عندما كانت الارض ساخنة بعد انفصالها من الشمس.)


أولاً: قوله (ألقى في) معناها جعل، وهـذا واضح في آيات أخرى : (سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وبئس مَثْوَى الظَّالِمِينَ). فهل الرعب ينزل من الأعلى للأسفل كما يقول الكاتب، أم يظهر من مكانه؟
الدليل الآخر على أن (ألقى في) معناها جعل هي آية أخرى تتحدث عن الجبال أيضاً تقول : ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً) الرعد3.
ربما لو قال الله (ألقى على) سيكون قول الكاتب صحيحاً ، ولكن (ألقى في) لا يشير أبداً إلى تحديد الاتجاهات .
ثانياً: كما قلنا من قبل أن تمدد قشرة الأرض في بداية تكوينها احدث فيها تصدعات وزلازل نتج عنها تكون الجبال من ناحية، وتكوّن أودية ومناطق منخفضة من ناحية أخرى حتى هدأت قشرت الأرض بعد هذه التغيرات. وعلى هذا تكون العلاقة بين الجبال وتحرك قشرة الأرض كالتالي:
تحرك القشرة <----- تكون جبال<----- سكون تحرك القشرة.
إذن الجبال هي نتيجة لتحرك القشرة وفي نفس الوقت سبب توقف هذه التحركات. فليس معنى كون الجبال هي نتيجة لتحرك قشرة الأرض أنها ليست سبباً في استقرارها. فظهور الجبال هو سبب ونتيجة في نفس الوقت. بمعنى آخر: مـاذا سيحدث لو رفعنا كل الجبال من سطح الأرض؟ الإجابة ببساطة أنقشرة الأرض ستمر بسلسلة من التحركات والزلازل مرة أخرى. وعلى هذا فكلام الكاتب غير دقيق.




يقول الكاتب:

(وبمناسبة الحديث عن السماء، دعنا ننظر للآية 43 من سورة النور: "ألم تر ان الله يزجي سحاباً ثم يُؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من بَرَد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء".ٍ يقول ابن كثير: من جبال فيها من برد معناه ان في السماء جبال بَرَد ينزل الله منها البَرَدَ ". (أنظر تفسير أبن كثير للآية). ولكن الدكتور موريس يقول في شرح هذه ألآية: " أن الله يُنزل من السماء جبال برد". وهذا طبعاً تغيير كامل للآية التي تقول: "وينزل من السماء من جبال فيها من برد ونحن نعرف الان ان ليس في السماء جبال من ثلج ينزل منها البَرَدُ او الجليد. والبَرَد هو عبارة عن قطرات مطر تجمدت اثناء نزولها من السحاب لشدة برودة الطقس، وكذلك الجليد يتكون عندماء يكون الطقس بارداً ولكن اقل برودة من الطقس الذي يسبب البَرَد. فالعلم هنا ابعد ما يكون عن منطق القرآن.)


لو تعاملنا مع الآية بأبسط طرق الفهم فنجدها تقول في هذا المقطع: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا) (مِن بَرَدٍ) النور 43.
هذا التقسيم الذي وضعته للآية يبسط الأمور كثيراً. ما هي الجبال في السماء التي ينزل منها البرد؟ السحب المتراكمة طبعاً. فالسحب المتراكمة تشبه الجبال لو نظرنا إليها من الطائرة. القرآن أيضاً يشابه بين السحب والجبال في موضع آخر: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) .
هذه ابسط طريقة لفهم الآية، حتى لا يتهمنا البعض أننا ملفقون.



يقول الكاتب:

(ونلاحظ هنا أن القرآن لم يذكر ولو مرةً واحدةً أن الارض تجري لأجل مسمى.والسبب طبعاً أنهم كانوا يعتقدون ان الارض مسطحة وثابتة والشمس تجري حولها، وهذه كانت الفكرة السائدة في تلك الحقبة من الزمن، وكانت تعتمد على ملاحظة أن الشمس تشرق من الشرق وتغرب في الغرب، وتبدو كأنها تسير و تجتاز السماء من الشرق الى الغرب، وكذلك القمر. والدكتور موريس بوكاي يقول: ثبت القرآن أن الشمس تجري في فلك، ولكنه لا يحدد صلة هذا الفلك للارض. ففي زمن نزول القرآن كانوا يعتقدون أن الشمس تتحرك وأن الارض ثابتة. وهذه كانت النظرية الشائعة منذ زمن بطليموس في القرن الثاني قبل الميلاد، واستمرت حتى أيام كوبرنكس في القرن السادس عشر بعد الميلاد. ومع أن الناس في أيام محمد كانوا يوقنون بهذه الفكرة، إلا أن القرآن لم يذكرها اطلاقاً . ويحق لنا أن نسأل لماذا لم يذكر القرآن أن الارض كروية وتتحرك، ليثبت للعرب أن بطليموس كان خاطئاً وانه لا يعلم اسرار الكون كما يعلمها الله الذي خلق الكون؟ فالقرآن، كما يخبرنا الدكتور موريس وأمثاله، كتاب أحتوى كل تفاصيل العلم الحديث عندما نزل في القرن السابع الميلادي، وليس هناك ما يظهر من اكتشافات في العلم الحديث إلا وكان القرآن قد ذكرها.)


كان السائد وقت النبي محمد أن الليل و النهار ينتجان عن حركة الشمس صعوداً و هبوطاً حول الأرض ، وهو ما يعرف بمركزية الأرض (geocentric).
الدكتور بوكاي طبق قاعدة نقدية للنص القرآني، وهي لو كان القرآن من تأليف النبي محمد، وبما أنه تورط كثيراً في الكلام عن الليل والنهار والأفلاك، فحتما لابد أن نجد أثر لنظرية مركزية الأرض (geocentric) أو أي ذكر لها في القرآن ولو مرة واحدة.
المفاجأة أنه لا يوجد أي تأييد لنظرية مركزية الأرض في القرآن، بخلاف كل الكتب المعاصرة له التي تورطت في الكلام عن الفلك.
الكاتب لا يسلم بهذا, بل يشترط وجود ذكر لدوران الأرض في فلك خاص بها حول الشمس في القرآن ليسلم أن القرآن نسف الفكرة القديمة لمركزية الأرض.
الآية موجودة بالفعل. اقرأ قول الله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الأنبياء 33. لاحظ واو الجماعة في الفعل يسبحون، ولو كان القرآن يقصد الشمس والقمر فقط لقال يسبحان، ما معنى أن الليل والنهار يسبحان في فلك خاص؟ لسوء حظ الكاتب أنه لا يوجد لها سوى معنى واحد فقط لا يسمح بالمراوغة وهو أن القرآن يصف الليل والنهار كمكان، وليس زمان فالزمان لا يسبح في فلك.
وكما قلنا من قبل أن النهار هو نصف الأرض المضيء والليل هو نصف الأرض المعتم، إذا نظرنا لكوكب الأرض من مكان خارجي- منظر فضائي- ليس هـذا فقط فهناك إشارة قرآنية مبهرة أخرى في سورة الشمس تعالوا نقرأها: (وَالشَّمْسِ وَضُحَـاهَا - وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا - وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) .
السؤال الآن: ما معنى (والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها) ؟ .
حسب ما كان يراه القدماء فإن صعود الشمس هو الذي يجلي النهار، ولكن القرآن يقول العكس. القرآن ينسف النظرية القديمة القائلة أن حركة الشمس حول الأرض هو ما يسبب تعاقب الليل والنهار.
القرآن يقول أن حركة الليل والنهار(كمكان) هي التي تجلي الشمس وتخفيها وليس العكس. بمعنى آخر: الشمس نسبياً تعتبر ثابتة بالنسبة للنهار والليل وهما اللذان يتحركان عليها .
و لذلك أقول للكاتب وغيره أن كل الدلائل تقود إلى كون القرآن كتاب من عند الله.




الجـنـين




يقول الكاتب:

(فالقرآن يخبرنا في سورة الطارق، الآية الخامسة وما بعدها: "فلينظر الانسان مما خُلق، خُلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب". وتفسير العلماء ان الماء الدافق هو المني يخرج دافقاً من الرجل ومن المرأة، فيتولد منه الولد. ومن اين يخرج هذا الماء الدافق من الرجل؟ يخرج من بين الصلب والترائب. والمفسرون لم يتفقوا على ماهي الترائب. والحقيقة ان المني لا يخرج من الظهر ولا من بين الصلب والترائب. فالمني يتكون في جهاز خاص به تحت مثانة البول، يسمى البروستاتة، وكذلك من اكياس صغيرة بجنبي البروستاتة وعلى اتصال بها، تسمى " Seminal Vesicles" أي الاكياس المنوية، والحيوانات المنوية تتكون في الخصيتين، ثم يجتمع الاثنان ويخرج المني وقت الجماع ليختلط ببويضة المرأة ومنهما يتكون الجنين.)


لكي نعرف الشيء الذي يخرج من بين الصلب والترائب، فلابد أن نقرأ الآيات كاملة: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ - خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ - يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ - إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ - يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ - فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ).
من هو الذي يخرج من بين الصلب والترائب؟ الإنسان (الجنين) طبعاً.
والدليل الآية التالية: (إنه على رجعه لقادر) فالله يتحدث عن إرجاع الإنسان- بعثه- وليس إرجاع الماء الدافق. وإذا سلمنا أن الماء الدافق هو الذي يخرج من بين الصلب والترائب، فذلك يكون بعد أن يتحول لجنين في الرحم.
لفظ (يخرج) يناسب ولادة الإنسان كما جاء في سورة الحج: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً). و أيضاً جاء في سورة النحل: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
قرأت بالطبع الرأي الآخر الذي يتحدث عن أن الخصية تتكون في البداية في أعلى البطن مقابل الفقرة القطنية الثانية، ثم تنزل لكيس الصفن وقت الولادة. ولكني في الحقيقة أراه تفسيراً متكلفاً بعض الشيء.
نعود للجنين. نعلم أنه مع تمدد الرحم وقت الحمل، فإنه يصل للأعلى حتى الضلوع- الترائب- ويكون مرتكزاً على العمود الفقري من الخلف- الصلب-لذلك فالقول بأن الإنسان أو الجنين يخرج من بين الصلب والترائب، هو قول سليم تماماً.


(مراحل تكون الجنين)




يقول تعالى: ( َلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون 12 – 14.
هذه الآيات تتحدث عن مراحل تكون الجنين. و القرآن- كما يقول د. بوكاي - يصف مراحله بالدقة و التحديد، دون أن يكون في قراءتها أي مقولة بالخطأ. إنه يعبر عن ذلك في عبارات بسيطة يسهل على فهم الإنسان إدراكها، تتفق مع ما سيكتشف بعد ذلك بكثير.
أمّا أنا فسأحاول في السطور القليلة المقبلة شرح مراحل تكوين الجنين بلغة علمية، و من ثم مقارنتها بالنص القرآني، و بعدها سنناقش الكاتب فيما يقوله:
- مرحلة النطفة: خلال عملية الإخصاب يرحل ماء الرجل من المهبل ليقابل البويضة في ماء المرأة في قناة البويضات- قناة فالوب- ولا يصل من ماء الرجل إلا القليل، ويخترق حيوان منوي واحد البويضة، ويحدث عقب ذلك مباشرة تغير سريع في غشائها يمنع دخول بقية المنويات وبدخول المنوي في البويضة تتكون النطفة الأمشاج أي البويضة الملقحة – الزيغوت-(Zygote) وبهذا تبدأ مرحلة النطفة. ومعناها اللغوي القطرة وهو الشكل الذي تتخذه البويضة الملقحة. إذن بداية هذا الطور مكونة من نطفة مختلطة من سائلين وتتحرك في وسط سائل ، وتستغرق فترة زمنية هي الأيام الستة الأولى من الحمل، ويبدأ بعد ذلك التحول إلى طور العلقة في اليوم الرابع عشر. وفي اليوم السادس تقريباً تشق النطفة طريقها إلى تحت سطح بطانة الرحم مواصلة انقساماتها الخلوية وتطورها ثم يتم انغراسها فيه وتكتمل بذلك مرحلة النطفة في اليوم الرابع عشر من التلقيح تقريباً.
- طور العلقة: تستمر الخلايا في الانقسام والتكاثر بعد مرحلة النطفة ويتصلب الجنين بذلك، ثم يتثلم عند تكون الطبقة العصبية ويأخذ الجنين في اليوم الحادي والعشرين شكلاً يشبه العلقة، كما تعطي الدماء المحبوسة في الأوعية الدموية للجنين لون قطعة من الدم الجامد. وبهذا تتكامل المعاني التي يدل عليها لفظ علقة المطلق على دودة تعيش في البرك وعلى شيء معلَّق، أو على قطعة من الدم الجامد، إلى حوالي اليوم الواحد والعشرين . وهذا الطور يوصف في القرآن بـ : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) المؤمنون 14.
- طور المضغة: يبدأ هذا الطور بظهور الكتل البدنية في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين في أعلى اللوح الجنيني، ثم يتوالى ظهور هذه الكتل بالتدريج إلى مؤخرة الجنين. وفي اليوم الثامن والعشرين يتكون الجنين من عـدة فلقات تظهر بينها
انبعاجات، مما يجعل شكل الجنين شبيهاً بالعلكة الممضوغة. ويزداد اكتساب الجنين في تطوره شكل المضغة تدريجياً من حيث الحجم. وهذا الترتيب في خلق الأطوار الأولى يجيء فيه طور المضغة بعد طور العلقة. وهذا الطور يوصف في القرآن بـ: (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ) المؤمنون 14
وينتهي هذا الطور بنهاية الأسبوع السادس. و في الأسبوع السابع تبدأ الصورة الآدمية في الوضوح، نظراً لبداية انتشار الهيكل العظمي، فيمثل هذا الأسبوع - ما بين اليوم 40 و45- الحد الفاصل ما بين المضغة والشكل الإنساني.
- طور العظام: مع بداية الأسبوع السابع يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم كله، فيأخذ الجنين شكل الهيكل العظمي، وتكَوُّن العظام هو أبرز تكوين في هذا الطور حيث يتم الانتقال من شكل المضغة الذي لا ترى فيه ملامح الصورة الآدمية إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة، وهذا الهيكل العظمي هو الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي. ومصطلح العظام الذي أطلقه القرآن الكريم على هذا الطور هو المصطلح الذي يعبر عن هذه المرحلة من حياة الحُمَيل تعبيراً دقيقاً يشمل المظهر الخارجي، وهو أهم تغيير في البناء الداخلي وما يصاحبه من علاقات جديدة بين أجزاء الجسم واستواء في مظهر الحُمَيل ويتميز بوضوح عن طور المضغة الذي قبله. وهذا الطور يوصف في القرآن بـ: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) المؤمنون 14.
- طور الكساء باللحم: يتميز هذا الطور بانتشار العضلات حول العظام وإحاطتها بها كما يحيط الكساء بلابسه . وبتمام كساء العظام بالعضلات تبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال ، فترتبط أجزاء الجسم بعلاقات أكثر تناسقاً، وبعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك .
تبدأ مرحلة كساء العظام باللحم في نهاية الأسبوع السابع وتستمر إلى نهاية الأسبوع الثامن، وتأتي عقب طور وهذا الطور يوصف في القرآن بـ: (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) المؤمنون 14.
ويعتبر هذا الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع الثامن نهاية مرحلة التخلق، كما اصطلح علماء الأجنة على اعتبار نهاية الأسبوع الثامن نهاية لمرحلة الحُمَيل (Embry) ثم تأتي بعدها مرحلة الجنين .(Foetus) وهذا الطور يوصف في القرآن بـ: مرحلة النشأة، كما جاءالقرآنفَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ..) المؤمنون 14.



يقول الكاتب:

(وفي سورة "المؤمنون" الآية الثانية عشر وما بعدها تقول: "ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مُضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم انشأناه خلقاً آخر فتبارك الله احسن الخالقين". ونحن نعرف ان "ثم" و "ف" حروف تُستعمل لتفيد التسلسل والتتابع. ففي الآية اعلاه يقول جعلناه نطفةً في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة، اي بعد ان كان نطفة صارت علقة. فخلق العلقة مضغة فخلق المضغة عظاماً ثم كسا العظام لحماً. فنفهم من هذا التسلسل المنطقي ان العظام خُلقت اولاُ ثم كُسيت لحماً. غير ان الواقع غير ذلك.)



سنبدأ الآن مناقشة الكاتب:
الآيات الكريمة تحتوي ثلاثة أفعال لابد أن نفرق بينهم، وهي : (جعلناه ، خلقنا أنشأنا). كل الأخطاء تأتي من عدم معرفة الفروق اللغوية بين هذه الأفعال فطالما أن
القرآن فرق بينهم فلابد أن نأخذ ذلك في الاعتبار.
نكمل ما بدأناه: الآية لا تتكلم عن تطور أنسجة الجنين، بل تقسم نمو الجنين إلى مراحل حسب التغيرات الشكلية - المورفولوجية - لكل مرحلة:
- مرحلة النطفة: لا يوجد نسيج يسمى نطفة ، ولكن شكل الجنين في هذه المرحلة يشبه النطفة.
- مرحلة العلقة: لا يوجد نسيج يسمى علقة، ولكن شكل الجنين في هذه المرحلة يشبه شيئاً معلقا في جدار رحم الأم.
تعليق صغير هنا: د. وليم كامبل يقول أن كلمة (علقة) هي (الدم المتجلط) وليس(دودة العلق) كما يقول المسلمون.
ولكن هذا لا يغير شيئاً. (فالدم المتجلط) كذلك يكون معلقا بالجدار (أياً كان) وملتصقاً به .
نتابع:
- مرحلة المضغة : لا يوجـد نسيج يسمى مضغة ، ولكن شكل الجنين في هذه المرحـلة يشبه قطعة اللحم الصغيرة غير مستوية الشكل: (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً).
من هنا يبدأ النقاش: ما معنى (فخلقنا المضغة عظاماً)؟ هل معنى ذلك أن القرآن يقول أن المضغة كلها تتحول إلى عظام فقط؟ الاعتراض يأتي من كون الجنين لا يكون في أي مرحلة من مراحله عظاما مجردة . التعبير القرآني يقول: (فخلقنا المضغة عظاما).
حسب فهم الكاتب و د. وليم كامبل المضغة تتحول كلها إلى عظام عارية، وهذا الفهم غير صحيح بشهادة القرآن نفسه. كيف ذلك ؟
أولاً: الفعل خلق لم يأت في القرآن أبداً بهذا الشكل: كفعل-متعدي ينصب مفعولين-سوى في هذه الآية وآية أخرى سنتخذها مقياساً لنا وهي: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِاسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) الإسراء61.
أمر السجود لآدم كان بعد أن سوّاه الله ونفخ فيه من روحه (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) . لنتمعن في هذا التعبير: (لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً). الفعل خلق هنا يمثل الحالة الأخرى التي جاء فيها بشكل يبدو وكأنه للوهلة الأولى - متعدي ينصب مفعولين- لو كتبنا تعبير خلقت طيناً بعد استرجاع الضمائر يصبح هكذا: خلق الله آدم طيناً. نحن إذا فهمنا تعبير (لمن خلقت طيناً) حسب فهم الكاتب وكامبل فهذا يعني أن آدم الإنسان المكتمل الخلق تحول كله إلى طين. وهذا طبعاً عكس الحقيقة ، فالطين هو الذي تحول لآدم. وعلى هذا فكلمة طيناً ليست (مآل) ولكن (حال) وبنفس الأسلوب فتعبير (فخلقنا المضغة عظاماً) لا يعني أن المضغة تؤول إلى عظام مجردة. فكلمة (عظاماً) ليست (مآل) ولكـن (حال). فالمضغة ليست نسيجاً لتتحول
بأكلملها لنسيج آخر (العظام). وعلى هذا فتعبير (فخلقنا المضغة عظاماً) معناه أن المضغة تتماسك وتأخذ شكل وترتيب الهيكل العظمي فتخرج الأطراف والرأس، ويصبح لها شكل مفهوم.
ولو كنا أكثر دقة نحوياً فإعراب كلمة "عظاما" و "علقة" و"مضغة" في آية سورة (المؤمنون) وكذلك كلمة "طينا" في سورة (الإسراء) هو حال منصوبة، وليست مفعول به ثان استجابة للقرآن نفسه الذي لم يستخدم الفعل "خلق" كفعل - متعدي ينصب مفعولين - قط.
أنا هنا لم أستشهد برأي شخصي أو برأي المفسرين, بل استخدمت القرآن كمقياس للقرآن. في القرآن أمثلة مشابهة لذلك. مثلاً : (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً) النبأ 8 . أزواجاً هنا حال منصوبة وليست مفعول به ثان. لذلك فكلمات علقة، و مضغة، وعظاماً، هي تفصيل شكلي لحال الجنين، وليست أسماء لأعضاء يؤول إليها الجنين. وعلى هذا نفهم لماذا يقول القرآن: (فخلقنا المضغة عظاما) بدلاً من (فجعلنا المضغة عظاماً ). وكذلك نفهم الفارق بين الفعل (خلق) والفعل (جعل).
ثانياً: السياق كله يتحدث عن تطور الشكلي للجنين، فلابد أن نقول بالمثل أن
(عظاماً) هي شكل تتطوري للجنين وليست نسيجاً تشريحياً.
ثالثاً: وجود آية أخرى في سورة الحج تقول: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) نفهم منها أن الجنين في مرحلة المضغة - شكلياً - فإن أجزاء منه تكون مخلقة وأجزاء أخرى تكون غير مخلقة، وهذا يمثل توقيفاً لمن يستعجل ويقول أن المضغة كلها تتحول عظاماً. لاحظ أيضاً أن القرآن عندما غير الصيغة واستخدم حرف الجر (من) مع الفعل (خلق ) لم يذكر كلمة (عظاماً) هنا فهو قال (من نطفة) و(من علقة) و (من مضغة) ولم يقل (من عظام). لأن تعبير (من عظام) تعبير غير صحيح في المعنى.
رابعاً: لو افترضنا أن القرآن من تأليف النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال هذه

الآيات بعد مشاهداته لنواتج إجهاض النساء - كما يقول د. وليم كامبل - فهو حتماً لم يرى أنثى تسقط عظاماً، كناتج إجهاضها، فهذا لا يحدث، ولا يفسر الآيات على أنها خطأ معرفي نتيجة للمشاهدة.
أستخلص من كل هذا أن النحو والسياق وباقي القرآن والمشاهدات اليومية يرفضون سوء فهم الكاتب للقرآن، وفكرة أن الجنين يكون في مرحلة من مراحله نسيجاً عظمياً مجرداً، أو عظاماً فقط.
نأتي إلى اعتراض آخر: (فكسونا العظام لحماً). طالما أن القرآن يقول كسونا العظام فهذا يعني أن العظام كانت عارية، وهذا يعد خطأ (امبريولوجي) في القرآن. فالعظام لا تكون أبداً عارية في أي مرحلة من المراحل.
وردنا على ذلك هو الآتي: سبق أن قلت عند حديثي عن بلاغة القرآن أن الألفاظ والتراكيب القرآنية في غاية الدقة والإحكام، ومجرد استبدال كلمة في القرآن بأخرى سيختل المعنى ، أو على الأقل سيحدث ضعف في التركيب.
المفاجئة هي أن لفظ (كسى) يستخدم لمدلول تغطية شيء مغطى- تغطية تراكمية - فالغطاء الأول الذي يتصل بالتلامس مع الجسم العاري يسمى لباس, فالجسم العاري
العاري عندما أغطيه أقول (ألبسه) وليس أكسيه، والمجوهرات التي أضعها على جسدي مباشرة بدون حائل أقول ألبسها وليس أكتسيها: ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) الأعراف 26. و أيضاً: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ) الأعراف 27.
لكن لاحظوا الآية التالية: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) المائدة 89 .
كما تلاحظون في الآية الأخيرة أن - كسوة المساكين- لا تعنى أنهم يعيشون عرايا،
ولكن كسوتهم أي إعطائهم ثياباً صالحة ثقيلة تقيهم البرد أو ثيابا كاملة - قميص وعمامة وإزار. وفي سورة البقرة نقرأ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) هنا أيضاً كسوة الأمهات المرضعات بمعنى ملابس لائقة كاملة ولا نفهم أن الأمهات كنّ عرايا. لذلك تجد في المعاجم أن الفعل (كسى) تستطيع أن تشتق منه اسم تفضيل- أكسى من- ففلان أكسى من فلان، أي يرتدى ملابس أكثر منه- أنظر لسان العرب، والقاموس المحيط.
أيضاً لفظ (كسوة) يحمل معنى الاكتمال- اللمسات الأخيرة - فأنا عندما أرتدي جاكت (البدلة)كآخر شيء فهذا يسمى (كسوة) وليس لباس. وعلى هذا فتعبير: (فكسونا العظام لحما) لا يعنى أبداً أن العظام كانت عارية، بل هي محاطة بأشياء أخرى .
في النهاية معنى (كسونا العظام لحما) إشارة لمرحلة اكتمال استدارة الجسم والأطراف، بأن يكتمل نمو العضلات واستدارتها واستطالتها لتأخذ مكانها المحيط بالعظام، متخذة منها المنشأ والإيلاج.



لكن الكاتب يخبئ لنا مفاجأة ستنسف كل ما قلناه عن الفعل ( كسى ) :

(وتتكرر نفس الفكرة في سورة البقرة ألآية 259 عندما أمات الله رجلاً وحماره مائة عام ثم احياه وقال له كم لبثت؟ قال لبثت يوماً او بضع يوم. فقال الله له انظر الى عظام حمارك الميت: "وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً". أي انظر الى عظام الحمار الميت كيف نربطها بعضها على بعض ثم نكسوها لحماً ثم نُحي الحمار. فهو هنا مرة اخرى يخلق العظام ويربطها ببعضها ثم يكسوها لحماً.)



قبل أن أفند هذا القول سأضع تعريفاً لظاهرة "التحول الموميائي":
الجثة بعد وفاتها تبدأ في التحلل، ويبقى منها العظام التي تتحلل بدورها ببطيء شديد. ولكن بعد مرور (25) عاماً على أقصى تقدير لا يبقى من العظام شيء إلا وقد تحلل بالكامل. في بعض الظروف الغير المناسبة لحدوث التحلل تتحول الجثة إلى مومياء - عظام مغطاة بأنسجة متيبسة جافة - وعندما يحدث ذلك فلن تتحلل الجثة أبداً.
قبل الزعم بأننا توصلنا لمدلول الآيات جيداً ، علينا أن نتمعن في الأسئلة التالية:
1- لماذا ذكر القرآن أن الطعام (لم يتسنه) في الوقت الذي كان على الآية أن تقدم الأدلة على لبوث هذا العبد مئة عام وليس يوم أو بعض يوم ، وبقاء الطعام سليماً هو دليل مضاد؟
2- إذا كان الطعام لم يتسنه، فكيف تحللت جثة الحمار طالما أن الوسط لم يسمح بتحلل الطعام؟
3- إذا كانت الجثة تحللت لأن الوسط يسمح بتحللها، فكيف بقيت العظام كل هذه المدة (مئة عام أو أقل) بدون أن تحلل هي الأخرى ، طالما أن الوسط يسمح بالتحلل؟
4 - لماذا قالت الآية (انظر إلى حمارك) ثم أعقبها (انظر إلى العظام)؟
انطلاقاً من هذه الأسئلة أبدأ بالتحليل:
أولاً: طالما أن الطعام (لم يتسنه) فالجثة أيضاً لم تكن قد تحللت. وإلا ما الفائدة من ذكر بقاء طعام لم يتحلل. الراجح عندنا أن جثة الحمار كانت متيبسة أشبه بالمومياء ، والوسط المحيط مثلما لم يسمح للطعام بالتحلل لم يكن ليسمح لجثة الحمار بالتحلل .
رجال الطب الشرعي يؤيدون ما أقول، فظاهرة التحنيط (Mummification) تحدث للجثة في وسط لا يسمح بالتحلل، وإذا مر عام على الجثة بدون حدوث التحلل - التعفن الرمي - فهي لن تتحلل أبداً. هذا أيضاً يفسر بقاء العظام كل هذه المدة، مئة عام أو أقل حسب وقت موت الحمار. كما قلت فإن العظام لا تبق أكثر من (25) عاماً تقريباً قبل أن تتحلل هي الأخرى تماماً طالما كان الوسط مناسب لحدوث التحلل-التعفن الرمي- لا ننسى أيضاً أن إحياء الجثة يتناسب أكثر مع سياق الآيات قبلها وبعدها التي تتحدث عن إحياء الموتى - كقصة إبراهيم وجثث الطير، وقصة إبراهيم والنمرود – أما إحياء العظام وهي رميم فهذا يناسب موضوع البعث والنشأة الأخرى، وهذا ليس موضوع الآيات ولا مضمونها.
القرآن يحكي لنا قصة أخرى تبين كيف يحيي الله الموتى في الدنيا: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسـاً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ - فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة 73. هنا نرى أن الميت كان جثة، ولم يكن عظاماً نخرة، ويقول الله: ( كذلك يحيي الله الموتى) أي بهذه الطريقة. وهذه أيضاً تجربة دنيوية تبين أن إحياء الموتى هو إحياء لجثة، وليس عظاماً عارية و رفاتاً.
ثانياً: الآية تقول: (وانظر إلى حمارك) وهذا يدلنا على أن الجثة كانت مازالـت محتفظة بشكلها كحمار حتى ولو بدت العظام منها. وهذا أفضل وصف للمومياء، فمثلما هي جثة يابسة فهي أيضاً عظام مغطاة بأنسجة متيبسة.
ثالثاً: كلمة (ننشزها) معناها نرفعها و نجعلها تنهض كقول الله في سورة المجادلة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا). أي انهضوا من مجالسكم و قوموا للصلاة. وعلى هذا فالأرجح من الآية الكريمة أن عظام الحمار لم تكن عظاماً عارية مبعثرة، كما فهم البعض من الآية، بل كان الحمار مومياء متيبسة فنهضت وانتفخت لحماً بإذن الله.
الإمام الطبري رحمه الله يوافقني بأن الحمار لم يكن عظاماً عارية، بل كان متصلاً بعضه ببعض و مغطى بالعروق والعصب، وإن كان لم يذكر موضوع المومياء طبعاً ، فيقول في تفسر الآية الكريمة: ( وَانْظُرْ إلـى حِمارِكَ وَلِنَـجْعَلَك آيَةً للنّاسِ وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوها لَـحْما): (فنظر إلـى حماره يتصل بعضه إلـى بعض, وقد مات معه بـالعروق والعصب, ثم كيف كسي ذلك منه اللـحم, حتـى استوى, ثم جرى فـيه الروح, فقام ينهق). لا ننسى أن نقول الله تعالى أعلم.
الكاتب يريد القول بأن الرسول الكريم اعتمد في وصفه، على مراحل تحلل الجثة-

أي أن اللحم يتحلل أولاً وتظهر العظام- فظن أن العكس يحدث أثناء تكون الجنين.
بنفس منطقه نسأله و هل لاحظ الرسول أن العظام بعد ذلك تتحلل إلى مضغة، ثم المضغة تتحلل إلى علقة، ثم العلقة تتحلل إلى نطفة (الرجوع للخلف) ؟
شيء آخر: هل القرآن يحتاج لكل هذا التعقيد في فهمه؟ في الحقيقة القرآن ككلام محكم يفسر بعضه بعضاً يسمح لنا بإخضاعه لأقسى أنواع الاختبارات، بدون أن ينهار نسيجه.
لذلك فعندما أزعم أن هناك إعجاز علمي في القرآن فيجب أن يكون سبيلي الوحيد هو تفسير القرآن بالقرآن، وليس تفسير شخصي للآية. بنفس المنطق فعندما أزعم أن هناك خطأ علمي في آية من القرآن فيجب إخضاع هذه الآية لتحليل كامل، أستعين فيه بباقي آيات القرآن. وإن كان القرآن يسمح لنا بإخضاعه لأقسى أنواع الاختبارات فهذا بعكس السنة، لأنه لفظ بشري غير محكم تماماً نستخلص منه أحكاماً ولكن لا نستطيع إخضاعه لهذه الاختبارات.
السؤال الأخير: ما هو الجديد في الآية؟
رغم أن الآيات لا تذكر تفصيلات كثيرة إلا أن هذه الأوصاف لمراحل تطور الجنين تحطم نظريات علمية مشوهة كانت منتشرة في العالم وقت نزول القرآن. نلاحظ أن علماء المسلمين الأوائل عندما تعاملوا مـع خلق الجنين في القرآن، شعروا ببعض الحرج لأنها تخالف ما هو سائد بينهم من أقوال الطب.
يقول الكرماني: ‏(لما كان مضمون الخبر أمراً مخالفاً لما عليه الأطباء أشار بذلك إلى بطلان ما ادعوه). الكرماني كما ينقل لنا الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] يعلن بصراحة أن الجنين من مفهوم إسلامي يخالف أفكار أهل الطب السائدة، التي كانت تقول أن مني الرجل مثل المنفحة التي تخمر ماء الأنثى فتجعله يشبه الجبن، ومنه ينشأ الجنين. هذه كانت آراء جالينوس حسب ظني.
وقال الحافظ بن حجر في[فتح الباري]: (وزعم كثير من أهل التشريح أن مني الرجل
لا أثر له في الولد إلا في عقده وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك، وما ذكر أولاً أقرب إلى موافقة الحديث والله أعلم ). ابن حجر أيضاً يتمسك بالوصف الإسلامي، ويرفض أقوال أهل الطب رغم أنه لم يكن عالماً في التشريح.
وأذكر أنني قرأت في كتاب للإمام ابن القيم يرفض فيها وصف الأطباء للجنين، لأنه يخالف الوصف القرآني.
ولا ننسى أيضاً أن نذكر بأن الآيات التي تتحدث عن مراحل تكون الجنين تنسف نظرية "الجنين القزم"، التي تقول بأن الإنسان بكامل هيئته موجود في مني الرجل ولكن صغير الحجم جداً، وكل ما يحدث أنه ينمو فقط. وهذا رأي ظل سائداً فترة طويلة في كثير من المجتمعات.



يقول الكاتب:

(وحتى الاحاديث المنسوبة للنبي لا تمت للعلم بشئ. فقد ذكر ابن كثير في تفسيره للآية المذكورة اعلاه أن بعض الناس يقرأها "فخلقنا المضغة عظماً" وقال ان ابن عباس قال: هو عظم الصُلب، وروى حديث ابي الزناد عن الاعرج عن ابي هريرة قال: قال رسول الله (ص): "كل جسد ابن آدم يبلى الا عجب الذنب، منه خُلق ومنه يُركّب". وطبعاً الانسان لا يُخلق من عظم العجب، وليس عظم العجب أقوي شئ فيه. فالمعروف ان اسنان الانسان هي اقوي شئ في جسمه إذ تتكون من مادة الـ "Enamel" وهي آخر ما يبقى من جسم الانسان. الحديث جاء هكذا في صحيح الإمام البخاري: (حَدَّثَنِى مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ». قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْماً قَالَ أَبَيْتُ. قَالَ أَرْبَعُونَ شَهْراً قَالَ أَبَيْتُ. قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ. قَالَ « ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً . فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَىْءٌ إِلاَّ يَبْلَى إِلاَّ عَظْماً وَاحِداً وَهْوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.)




كما قلت من قبل، لا يجب اخضاع الألفاظ في الأحاديث النبوية لهذه الصرامة العلمية. فلفظ الحديث هو لفظ بشري وليس إلهي. عظام (العصعص) بالفعل تتحلل، ولكن هل تفنى مادتها؟
هذا الحديث ورد بلفظ آخر في صحيح مسلم هكذا: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب) الكاتب يتحدث بكل ثقة، وينفي أن الإنسـان سينشأ من (عجب الذنب) يوم القيامة، وكأنه يؤمن بالبعث ويعرف كل شيء!
أظن أن أحداً لا ينكر ونحن في عصر الاستنساخ، أن الكائن الحي من الممكن إعادته بأكمله من جزء صغير أو خلية واحدة.


يقول الكاتب:

(وفي حديث آخر قال الامام احمد حدثنا حسن بن الحسن، حدثنا ابو كدينة عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابيه عن عبد الله قال: مر يهودي برسول الله (ص) وهو يحدث اصحابه، فقالت قريش: يا يهودي، ان هذا يزعم انه نبي. فقال اليهودي: لأسألنه عن شئ لا يعلمه الا نبي. فقال: يا محمد مم يُخلق الانسان؟ قال من كلٍ يُخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فاما نطفة الرجل فنطفةٌ غليظة منها العظم والعصب واما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم. وطبعاً هذا الكلام لا يمت للحقيقة بشئ، ولا يستحق التعليق عليه.)



هذا الحديث أورده الإمام أحمد في المسند و في سنده ضعف، لذلك لن أعلق عليه.




يقول الكاتب:

(ولننظر الآن الى سورة النحل، الآية 66 : "وإن لكم في الانعام لعبرةٌ نُسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين". فلنرى اولاً ماذا يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية. يقول: لبناً خالصاً اي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كلٌ الى موطنه اذا نضج الغذاء في معدته، فينصرف منه دم الى العروق ولبن الى الضرع وبول الى المثانة وروث الى المخرج وكل منها لا يشوب الاخر ولا يمازجه. والفرث هو مافي امعاء الحيوان من فضلات، ومنه يتكون الروث او البعر. واي انسان لديه قليل من العلم يعرف ان اللبن لا يتكون في بطن البقرة او النعجة وانما في الضرع ، وليس هناك اي مجال لاختلاط اللبن بالروث او بالدم. ولذا قوله "نسقيكم مما في بطونه من بين رفث ودم "، لا يمت للعلم بشئ.)



الكاتب يزعم أن ابن كثير يقول أن الفرث هو ما في أمعاء الحيوان من فضلات، وابن كثير لم يقل هذا، بل الكاتب يفتري عليه. الفرث عند ابن كثير و غيره، هو الطعام المهضوم في كرش الحيوان. أما الفضلات فتسمى (روث). حقاً إن اللبن بمكوناته يستخلص من بين نواتج هضم الغذاء (الفرث) والدم.
اللبن يتكون من سكريات مثل اللاكتوز وأحماض دهنية وأحماض أمينية وفيتامينات ، تأتي من نواتج امتصاص الغذاء المحمولة في الدم، وبعض الأملاح التي تأتي من الترشيح المباشـر لبلازما الدم كالفوسفات والصوديوم والكلوريد.
الملفت للنظر في الآية هو كلمة (دم) . فالقدماء كانوا يعرفون علاقة اللبن بالغذاء
(فرث) ولكن لم يفهموا علاقة ذلك بـ (الدم) .
من يقرأ تفسير الطبيب فخر الدين الرازي [مفاتيح الغيب] يجده حائراً في إيجاد العلاقة بين اللبن والدم، فذلك كان يفوق علوم عصره بالتأكيد.



يقول الكاتب:

(فأنا قد أخترت "من داخل اجسامها" بدل "من داخل بطونها" لان كلمة "بطن" تعني كذلك "الوسط" أو "داخل الشئ". والكلمة ليس لها معنى محددفي لغة التشريحAnatomy وفكرة مصدر اللبن تأتي من كلمة " بين" وهي أيضاً تستعمل في معنى إحضار شخصين أو شيئين مع بعض. والمواد التي يتكون منها اللبن تأتي من تغيرات كيماوية تحدث على مجرى الجهاز الهضمي. وعندما تصل درجة معينة من الهضم تتسرب وتدخل في الدورة الدموية. واللبن يفرزه الضرع ولكن الضرع يتغذى بمحتويات الدم التي أتت من الامعاء. فالدم إذاً يلعب دور حامل وموزع الغذاء الذي أتى من الامعاء. وهذه الحقائق لم تكن معروفة في أيام النبي محمد. ولأن الدورة الدموية اكتشفها وليام هارفي حوالي عشرة قرون بعد نزول القرآن، فأعتقد أن هذه ألآية واشارتها لاختلاط الغذاء بالدورة الدموية، لا يمكن ان يكون لها تفسير بشري نسبة للزمن الذي نزلت فيه.
تفسير الدكتور فيه أشياء كثيرة تستحق التعليق: أولاً: يقول الدكتور انه بدل كلمة "بطونها "، فقد اختار لتفسيره كلمة "أجسامها"، لان كلمة أجسامها توافق المعنى أفضل مـن
بطونها. فهو هنا غيّر كلمة نزلت في القرآن وبالتالي وضع نفسه في مكان من يصحح الله، وهذا طبعاً غير مقبول لأهل الدين . ثانياً يقول الدكتور انه اختار كلمـة اجسامهـا لأن كلمة البطن ليس لها تعريف محدد في علم التشريح. وبما أن الدكتور جراح فهو يعرف أن كلمة بطن "Abdomen" معرّفة تعريفاً دقيقاً في علم التشريح. فهي المنطقة الواقعة بين الحجاب الحاجز "Diaphragm" والحوض، و تحدها الخاصرة من كل جانب. فالدكتور هنا اما انه لم يتبع الامانة العلمية او انه يجهل تعريف البطن، وهو شئ مستبعد. وثالثاً يقول الدكتور أن المفسرين مهما كان علمهم باللغة معرضون للخطأ إلا إذا كانوا علماء متخصصين في ذلك الفرع المعين من العلم. فإذاً نستطيع أن نقول أن كل التفاسير التي بحوزتنا يجب أن نرميها في البحر إذا كانت تتعلق بتفسير أي آية فيها شئ من علم الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء، لان المفسرين القدماء لم يكونوا اخصائين في هذه العلوم.)


على أي شيء يعترض الرجل؟
الدكتور بوكاي كان يرفض ترجمة بلاشير وحميد الله لأنهما كانا يترجمان كلمة (بطونه) إلى كلمة (ventre) الفرنسية ومعناها (معدة). طبعاً البطون ليست هي المعدة، والدكتور بوكاي على حق. و يبدو أن الكاتب يعترض لأجل الاعتراض!



يقول الكاتب:

(ولننظر الان الى المياه الحلوة والمالحة. ففي سورة الرحمن، الآية التاسعة عشر وما بعدها: "مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فباي الاء ربكما تكذبان، يُخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ". وكلمة "مرج" تعني "خلط"، لان "المروج" هي الحقول الشاسعة الخضراء، كأنما اختلط حقلٌ بحقل، فصارت مروجاً شاسعة.. وفي القاموس المحيط للفيروز آبادي: المرج تعني القلق والاضطراب والاختلاط. ولكن ابن عباس يقول: "مرج " يعني ارسلها، وقوله "يلتقيان" قصد به انه منعهما ان يلتقيا، بما جعل بينهما من برزخ.) واما البحر الحلو فهو الانهار. وطبعاً كل هذا اللف والدوران هو محاولة للخروج من مأزق "مرج البحرين يلتقيان" و "بينهما برزخ لا يبغيان". والواضح ان المقصود انه خلط الماء العذب من الانهار بماء البحار. وكل انهار العالم المعروفة تصب في البحار، ماعدا بعض الشواذ التي تصب في بُحيرات، فكيف يقولون انه جعل بينهما برزخاً فلا يلتقيان، لا يمكن تفسيرها تفسيراً علمياً.)



الكاتب له اعتراض غريب هنا: يقول أن الأنهار تصب في البحار، ثم يقول بعد ذلك: فكيف يقولون أنه جعل بينهما برزخاً فلا يلتقيان؟
سأسأل كل صاحب عقل: هل الآية تقول "لا يلتقيان" ؟
أي قرآن يقرءه الرجل، وأي أسلوب ملتو يتبعه؟ هذه هي الآية: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ - بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) وهي تقول بكل وضوح (يلتقيان) ورغم ذلك (لا يبغيان) أي لا تختلط خواص مياههما.



وبعدها سيقول:

(وماذا عن "يُخرج منهما اللؤلؤ والمرجان". فأولاً، اللؤلؤ معروف ولكن لا احد يعرف ما هو المرجان. فقد قيل انه صغار اللؤلؤ، قاله مجاهد وقتادة والضحاك ورُوي كذلك عن عليّ. وقيل هو كباره وجيده، حكاه ابن جرير عن بعض السلف، وقيل هو نوع من الجواهر احمر اللون. قال السدي عن ابن مالك: المرجان الخرز الاحمر. فواضح اولاً ان كلمة "المرجان" ادخلت في الآية لتماشي السجع، وليس لها معني مفهوم للعرب رغم ان القرآن نزل بلسان عربي. وثانياً، يُفهم من قوله "يُخرج منهما اللؤلؤ والمرجان "ان اللؤلؤ يخرج من البحر ومن النهر، وهذا بالتأكيد غير صحيح، فليس هناك نهر بالعالم به لؤلؤ. ولكن في سورة فاطر، الآية 12: "وما يستوي البحران هذا عذب فراتٌ سايغ شرابه وهذا ملحٌ أجاج ومن كلٍ تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حليةً تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون". وهنا كذلك يخبرنا القرآن اننا نستخرج حليةً من الانهار، وليس هذا بصحيح.)



المفسرون القدامى وجدوا حرجاً في هذا الموضوع.
فحسب ما كانوا يعرفون فإن اللؤلؤ لا يستخرج من المياه العذبة. ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك: أما اللؤلؤ فإنه، كما يستخرج من أنواع معينة من البحر، يستخرج أيضا من أنواع معينة أخرى من الأنهار. فتوجَد اللآلئ في المياه العذبة في إنجلترا واسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان...إلخ، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة .
ويدخل في ذلك ما تحمله المياه العذبة مـن المعادن العالية الصلادة كالماس، الذي
يُسْتَخْرَج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة. ويوجد الياقوت كذلك في الرواسب النهرية في موجوك بالقرب من بانالاس في بورما العليا. أما في سيام وفي سيلان فيوجد الياقوت غالباً في الرواسب النهرية.
ومن الأحجار شبه الكريمة التي تُسْتَعْمَل في الزينة حجرُ التوباز، ويوجد في الرواسب النهرية في مواقعَ كثيرة ومنتشرةٍ في البرازيل وروسيا (الأورال وسيبريا). والزيركون حَجَرٌ كريمٌ جذابٌ تتقارب خواصه من خواص الماس، ومعظم أنواعه الكريمة تستخرج من الرواسب النهرية - مياه العذبة - أيضاً مثلما يستخرج من المياه المالحة .
وإليكم هذا الرابط من موسوعة ويكيبيديا يتحدث عن نفس الموضوع:

http://en.wikipedia.org/wiki/Mother_of_pearl

أقتبس لكم هذا الجزء: (اللآلئ الثمينة يتم الحصول عليها من محـار الماء المـالح خاصة نوع (Pinctata)، وكذلك مـن محار الماء العذب خاصة نـوع (Hyriopsis). ويوجد أكبر مركز للآلئ الطبيعية في العالم في الخليج العربي، والذي يقال أنه ينتج أفضل لآلئ الماء المالح. وهناك مصادر هامة أخرى، منها سواحل الهند والصين واليابان وأستراليا و جزر المحيط الهادي المختلفة وفنزويلا و أمريكا الوسطى وأنهار أوروبا و أمريكا الشمالية. وفي العصور القديمة كان البحر الأحمر مصدراً هاماً لصيد اللؤلؤ).


يتبع ,,,,

اخت مسلمة
10-05-2009, 10:27 PM
المـــرأة فـي الإسلام


قضية المرأة من القضايا الشائكة في عصرنا، نظراً لاختلاط تعاليم الإسلام بالعادات والتقاليد، وهذا الأخير قد يكون حسناً في بعض جوانبه وسيئاً في جوانب أخرى.
ولا بد أن نقول أن هناك تقاليد وضعها الناس ولم يأت بها الإسلام تنتقص من قدر المرأة، وألصقت ظلماً بالإسلام. وأيضاً توجد في التراث الفقهي أحكام استقاها الفقهاء من أفواه الناس لا تستند إلى أصل من الكتاب أو السنة، ولا إلى دليل ثانوي يعتمد على الكتاب أو السنة. الإسلام كما يفهم من استقراء النصوص الصحيحة يرفع من قيمة المرأة وكرامتها، فعندما تكون المرأة أماً فإن الإحسان إليها يرتفع إلى مرتبة الإيمان بلله وتوحيده: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً). و عندما تكون زوجاً فإن أساس العلاقة تقوم على المبدأ القرآني: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً).وعندما تكون ابنة فإن رعايتها طريق إلى الجنة. قال صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين - بنتين صغيرتين - حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضم أصابعه).
لكن ستجد كثيراً من الأفكار والممارسات الخاطئة بحق المرأة التي لا علاقة للإسلام بها. إن معرفة النظرة الصحيحة للمرأة في الإسلام تأتي من مدى فهمنا للنصوص الصحيحة من القرآن والسنة، وليس لأحـد أن يقفز فوق هذه النصوص - سواء كانـوا معارضين أو مؤيدين - إذا أرادوا أن يفهموا الموقف الصحيح للإسلام لها.
كثير من الكتب عالجت هذا الموضوع. لكن في اعتقادي أن أفضل من عرض الموضوع بشكل منهجي هو كتاب [تحرير المرأة في عصر الرسالة ] للأستاذ عبد الحليم أبو شقة، الذي قد لا يعرفه كثيرون. وهو يعد بحق موسوعة حافلة تضم أهم ما يتعلق بموضوع المرأة في الإسلام، موثقة بأصح الأسانيد و النصوص الصحيحة. ولن أبالغ إذا قلت أن هذا الكتاب قد أضاف إلى المكتبة الإسلامية إضافةً قلما تجد لها مثيلاً.
و الواقع أن بعض السطور القليلة لن تفي القضية حقها، ولن تشرحه على وجهها الأكمل.سأحاول في هذا الفصل توضيح بعض النقاط التي أثارها الكاتب بدت لي أكثر أهمية. وآمل أن أفرد بحثاً خاصاً أناقش فيها كل ما يقال عن الإسلام. لأن مثل هذه القضايا تحتاج إلى تفصيل.



يقول الكاتب:

(والقرآن نفسه لا يُعامل المرأة معاملة كريمة بدليل ان عدداً من الايات تجعل الله يبدو وكأنه يستعفف ان تكون له البنات وللاعراب الاولاد، ولذا نجد عدة آيات في القرآن تسأل الجاهليين ان كان الله قد اصطفاهم بالبنين واتخذ لنفسه الاناث. فنجد في سورة الاسراء، الآية 40: "أفاصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة اناثاً انكم لتقولون قولاً عظيماً". فالله هنا يخبر الجاهليين انهم ارتكبوا اثماً عظيماً اذ جعلوا الملائكة اناثاً، كانما هو عار ان تكون الملائكة اناثاً. والمسيحيون يعتقدون أن الملائكة نساء ويسموهن "Fairies" ويرسمون صورهن في شكل بنات جميلات.وفي سورة النحل، الآية 57: "ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون". ومرة اخرى نرى الله يقول سبحانه كيف تكون له الاناث وللجاهليين الاولاد. ونجد في سورة الطور، الآية 39: "أم له البنات ولكم البنون". وفي سورة النجم، الآية 21: " ألكم الذكر وله الانثى، تلك اذاً قسمة ضيزى". والله لا يرضى ان تكون له البنات ولهم البنون لان هذه قسمة ضيزى اي غير عادلة. وفي نفس السورة، الآية 27: "ان الذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمّون الملائكة تسمية الانثى". فهولاء الجاهليون الذين لا يؤمنون بالاخرة

يسمون الملائكة اسماء مؤنثة، وذلك لا يُرضي الله. وفي سورة الصافات الآيـة 149يطلب الله من النبي ان يستفتي قومه: "فأستفتهم ألربك البنات ولهم البنون". والآية 16 من سورة الزخرف تقول: " أم اتخذ مما يخلق بناتٍ واصفاكم بالبنين". وفي الآية 19 من نفس السورة يقول: "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن اناثاً أشهدوا خلقهم، ستُكتب شهادتهم ويُسألون". ويبدو من كل هذه الايات ان الله لا يرضى ان تكون له البنات ولهم البنون، مما يوحي للسامع ان البنت اقل مرتبة وشأناً من الولد.)


يفترض الكاتب أن الله كان اعتراضه على تلك القسمة الغير العادلة - اختيار البنات له و البنين لأنفسهم - وعلى هذا الأساس إذا تم اختيار (الولد) له سيرضى بذلك، أو على الأقل لن يعترض!
فلنقرأ الآيات التالية: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً- لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً- تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً- أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً - وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً) مريم 88 - 92. ولننظر: السموات تكاد تشقق و الأرض كذلك وتندك الجبال، استعظاماً لهذه الكلمة: "أن ادعوا للرحمن ولداً".
فهل رضي الله باختيار الولد له؟ كل ما في الأمر، أن اعتراض القرآن ليس لاختيار البنات أو البنين لله, بل لأنهم أشركوا معه. فسواء اختاروا له البنات أو البنين فهذا في نهاية الأمر شرك، ولن يرضى الله عنه، بل نجد اعتراضه على اختيار الولد أشد وأنكر.




يقول الكاتب:

(ولم يكتف الاسلام بالحجاب بل فرض قيوداً حتى على صوت المرأة حينما تتحدث، فاعتبر صوت المرأة عورة، ويجب الا ترفع صوتها اذا تحدثت.)



طبعاً هذا محض افتراء، فلا توجد آية قرآنية أو حديث نبوي ولا قول لأحد العلماء القدماء أو المعاصرين من يقول بأن صوت المرأة عورة.
بل هناك آيات كثيرة خاطب فيها المرأة الرسول الكريم ، مثل قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير) 1 المجادلة. ولا يتسع المكان إذا تحدثنا عن مئات الأحاديث التي تبين أن رسول
الله كان يتحدث إلى النساء وهن تكلمنه، وأيضاً الأحاديث التي رويت عن زوجات الرسول مثل عائشة وغيرها.



يقول الكاتب

(فهاهو القرآن يخبرنا في سورة النساء، الآية 34: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم....". فالرجال قوامون على النساء لان الله فضلهم على النساء ولانهم ينفقون اموالهم على النساء. فاذا كان الشخص الذي ينفق ماله على الاخر ليعوله، قوّام عليه، ويفضله الله، فالملايين من النساء العاملات اليوم، وينفقن على ازواجهن واطفالهن يجب ان يكن قوامات على الرجال، ولكن هذا لا يصح في الاسلام. قوله تعالى‏ (الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم..) 31 قال تعالى : (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ) و هذه الدرجة هي درجة القوامة، وقال تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً - ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان و الأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيداً - الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم... 33.)


كما تلاحظون من الآيات الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قرن بين المساواة بين الرجل و المرأة وقوامة الرجل فهذه القوامة درجة (تكليف) لا (تشريف).
فالإسلام الذي كرّم المرأة فرض على الرجل أن يؤمن لها كل ما تحتاجه، و فرض عليه أن يعاملها كما يحب أن تعامله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). قال ابن عباس: (إنني لأتزين لامرأتي، كما تتزين لي، لهذه الآية). وفرض عليه أن يشاورها في أموره كلها، كما سن لنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد صح عن رسول الله أنه دخل يوم صلح الحديبية على أم سلمة يشكو إليها أنه أمر الصحابة أن يتحللوا وينحروا هداياهم ويحلقوا رؤوسهم فوجموا ولم يفعلوا‏،‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله‏،‏ أتحب ذلك‏؟‏‏‏ اخرج ولا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتدعوحالقك فيحلقلك‏، فخرج‏

رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ما قالته أم سلمة.
والقوامة التي أخبر الله عنها هي قوامة (إدارة ورعاية)،‏ لا قوامة (تحكم) بل إن كلمة ‏ (‏قوامة‏)‏‏‏ لا تصلح في مدلولها اللغوي لهذا الوهم الثاني فقط‏، والله عز وجل نفى أن يكون للرجل ولاية على المرأة‏،‏ ولم يجعل لرجولته سلطاناً يبرر ذلك .‏
وأثبت القرآن في مكانها ما تسمى بالولاية المتبادلة‏،‏ فقال‏:‏ ‏(الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).
فإذا أسقط البيان الإلهي ولاية الرجل على المرأة بهذا القرار الواضح الجلي‏،‏ فأي معنى بقي إذن للقوامة التي أخبر في هذه الآية عنها‏؟‏‏‏ المعنى الباقي لها هو الإدارة والرعاية‏،‏ ومصدر استحقاق الرجل للأولى‏،‏ كونه هو المنفق عليها‏،‏ أما مصدر رعايته لها‏،‏ فما قد قضى به الله تعالى من أن سعادة كل من الرجل والمرأة‏،‏ في أن تكون المرأة في كنف الرجل‏،‏ لا أن يكون الرجل في كنف المرأة‏،‏ وإن واقع الدنيا كلها أفصح بيان ينطق بذلك‏.‏



يقول الكاتب:

(ولان الاسلام يفضل الرجال على النساء، تُمنع المرأة المسلمة من ان تكون شاهدة في قضية قتل او اي قضية جنائية تستوجب القتل. وكذلك يُحرم عليها ان تكون قاضية بالمحكمة، حتى لو حفظت القرآن عن ظهر قلب وفاقت الرجال في امور الفقه. وشهادة المرأة المسلمة، كما نعلم، نصف شهادة الرجل لان الاسلام يعتبر المرآة ناقصة عقل ودين. وبما انها ناقصة عقل فهي اقرب الى ان تُضل من الرجل، ولذلك جعل الله شهادة امرأتين كشهادة رجل واحد حتى اذا ضلت احداهما تذكرها الاخرى، ونرى هذا موضحاً في الآية 282 من سورة البقرة: "واستشهدوا شاهدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وأمراتان ممن ترضون من الشهداء ان تُضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى".)



قبل أن نناقش موضوع شهادة المرأة في الإسلام. نطرح السؤال التالي: هل الإسلام يفضل الرجال على النساء كما يدعي الكاتب؟
سنتشهد بالقرآن والسنة الصحيحة في الأشياء التي جعل الله سبحانه وتعالى المرأة

فيها مساوية للرجل في (التكليف) و(التشريف):
أولاً المساواة في الثواب والعقاب: قال تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِـرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَـاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ و َالْمُتَصَدِّقَـاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَـاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) .
لو أن الله سبحانه وتعالى قـال: إن المسلمين، والمؤمنين، والقانتين، والصادقين والصابرين والخاشعين.. إلى آخر الآية لكانت هذه الآية تشمل الرجال والنساء، ولكن الله أراد أن يؤكد، وأن يبين، وأن يزيل اللبس من أن المرأة كالرجل مساوية له تماماً في التكاليف الشرعية، وفي أركان الإيمان، وفي أركان الإسلام.
قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ). وقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). وقال سبحانه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ).
ثانياً المساواة في حق الحياة: قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ) والإسلام يقرر أن الرجل يُقتل بقتل المرأة، فكرامتها من كرامته، وكرامته من كرامتها.
ثالثاً المساواة في التشريف: جعل الذين يرمون المحصنات الغافلات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء جعل قصاصهم أن يُجلدوا ثمانين جلدة، وألا تُقبل لهم شهادة أبداً، حتى لو تابوا لابد من أن يُجلدوا ثمانين جلدة، فعقاب الدنيا لا يسقط بالتوبة.
رابعاً المرأة مساوية للرجل تماماً في الأقارير - جمع إقرار- ، والعقود والتصرفات. يعني بإمكانها أن تشتري، وأن تبيع، وأن تقرَّ بيعاً أو شراءً، فالتبر، والصدقة، والديـن،
والوقف، والبيع، والشراء والكفالة، والوكالة كلها، المرأة فيها مساوية للرجل تماماً.

ولعل من أهم الأدلة على المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فجعل التفاضل بين كل الناس سواء كانوا رجالاً أم نساءً، بيضا ً أم سودا ً، عربا ً أم عجما ً بالتقوى وحدها.
هذه بعض الأشياء التي ساوى الإسلام فيها بين الرجل و المرأة وليست كلها.
ولكن الشيء الجدير بالذكر في هذا الموضع أن كلمة مساواة بين الرجل والمرأة مجحفة بحق المرأة وهي ليست من الإسلام، فهذه الكلمة توحي بأن المرأة أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو مساواتها مع الرجل، ولكن الإسلام لا يقول هذ، فكم من نساء سبقن الرجال بالتقوى وبالعلم و في كافة مجالات الحياة؟! على سبيل المثال أول امرأة شهيدة قُتلت في الإسلام هي (سمية) وزوجها ياسر قتلا دفاعاً عن عقيدتهما، وعن تمسكهما بهذا الدين القويم.
بالنسبة لموضوع شهادة المرأة، فإن الآية التالية: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) تتحدث عن أمر غير(الشهادة) أمام القضاء، كما سنوضحه بعد قليل.
إن الآية تتحدث عن (الإشهاد) الذى يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على وليس عن (الشهادة) التى يعتمد عليها القاضى فى حكمه بين المتنازعين. فهى - الآية - موجهة لصاحب الحق الدَّيْن وليس إلى القاضى الحاكم فى النزاع. بل إن هذه الآية لا تتوجه إلى كل صاحب حق دَيْن ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود فى كل حالات الدَّيْن، وإنما توجهت بالنصح والإرشاد (فقط النصح والإرشاد) إلى دائن خاص، وفى حالات خاصة من الديون، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية؛ فهو دين إلى أجل مسمى، ولابد من كتابته، ولابد من عدالة الكاتب، ويحرم امتناع الكاتب عن الكتابة، ولابد من إملاء الذى عليه
الحق، وإن لم يستطع فليملل وليه بالعدل، والإشهاد لا بد أن يكون من رجلين من المؤمنين، أو رجل وامرأتين من المؤمنين، وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة، ولا يصح امتناع الشهود عن الشهادة. وليست هذه الشروط بمطلوبة فى التجارة الحاضرة، ولا فى المبايعات.
وقد ذكرالإمام (محمد عبده)، عندما أرجع تميز شهادة الرجال على هذا الحق الذى تحدثت عنه الآية على شهادة النساء، إلى كون النساء فى ذلك التاريخ كن بعيدات عن حضور مجالس التجارات، ومن ثم بعيدات عن تحصيل التحمل والخبرات فى هذه الميادين. وهو واقع تاريخى خاضع للتطور والتغير، وليس طبيعة ولا جبلة فى جنس النساء على مر العصور. ومع ذلك، فحسبه أنه قد تحدث قبل قرن من الزمان فى تفسيره لآية سورة البقرة هذه رافضاً أن يكون نسيان المرأة جبلة فيها وعامًّا فى كل موضوعات الشهادات، فقال: (تكلم المفسرون فى هذا، وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها ضعيفة، ولا تكون كذلك فى الأمور المنزلية التى هى شغلها، فإنها أقوى ذاكرة من الرجل، يعنى أن من طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويكثر اشتغالهم بها).
وأضاف الشيخ (محمود شلتوت) إلى هذه الاجتهادات علماً آخر عندما لفت النظر إلى تساوى شهادة الرجل فى (اللعان) فكتب يقول عن شهادة المرأة وكيف أنها دليل على كمال أهليتها، وذلك على العكس من الفكر المغلوط الذى يحسب موقف الإسلام من هذه القضية انتقاصًا من إنسانيتها، يقول: (إن قول الله سبحانه وتعالى: (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) ليس وارداً فى مقام الشهادة التى يقضى بها القاضى ويحكم، وإنما هو فى مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل: (يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَـلٍ مُّسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ...) إلى أن قال: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا).
فالمقام مقام استيثاق على الحقوق، لا مقام قضاء بها. والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذى تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهم. وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتى ليس معهن رجل، لايثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضى ، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو (البينة).
وأخيراً وليس آخراً فإن ابن القيم يستدل بالآية القرآنية: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...) البقرة143. على أن المرأة كالرجل فى هذه الشهادة على بلاغ الشريعة ورواية السنة النبوية. فالمرأة كالرجل فى (رواية الحديث)التى هى شهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان ذلك مما أجمعت عليه الأمة ، ومارسته راويات الحديث النبوى جيلاً بعد جيل (والرواية شهادة) فكيف تقبل الشهادة من المرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقبل على واحد من الناس؟ إن المرأة العدل بنص عبارة ابن القيم كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة.
بالنسبة لشهادة المرأة في الحدود، فكما تجوز شهادة الرجال وحدهم في الحدود، تجوز شهادة النساء وحدهن فى الحدود. فلا يوجد نص يمنع ذلك.
فمن المعلوم أن هنال اجتهاداً يستبعد شهادة المرأة في الحدود، ولكن يبقى هذا مجرد اجتهاد، لذلك ستجد مذاهب أخرى تخالف ما اتفقوا عليه. فابن حزم - صاحب مذهب الظاهرية - في بحثه في الآثار المروية، يؤكد أن رفض شهادة المرأة في الحدود والقصاص لا أساس له في السنة النبوية.



يقول الكاتب:

(وفي الميراث، طبعاً، للمرأة نصف ما للرجل، كما نرى في سورة النساء: "يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين".)



يتخذ البعض من قوله تعالى (‏ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ‏) قاعدة مطردة نافذة في حال كل رجل وامرأة يلتقيان على قسمة ميراث‏.‏‏
‏ويكفينا للرد عليه أن نقول له انظر إلى بداية الآية إن الآية تبدأ بقول الله تعالى‏:‏ ‏ ‏(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ‏)‏ إذن فبيان الله تعالى يقرر هذا الحكم في حق الولدين أو الأولاد‏. ويجب أن لا ننسى أن المرأة في بعض الأحيان ترث بقدر ما يرث الرجل وأحياناً أخرى ترث أكثر منه، وكمثال على كل من الحالتين نذكر هاتين القاعدتين الفقهيتين:
إذا ترك الميت أولاداً وأباً وأماً‏،‏ ورث كل من أبويه سدس التركة‏،‏ دون تفريق بين ذكورة الأب وأنوثة الأم‏،‏ وذلك عملاً بقوله تعالى‏:‏ (‏وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُما السُّدُسُ)‏
إذا تركت المرأة المتوفاة زوجها وابنتها‏،‏ فإن ابنتها ترث النصف‏،‏ ويرث والدها الذي هو زوج المتوفاة،‏ الربع‏،‏ أي إن الأنثى ترث هنا ضعف ما يرثه الذكر‏.‏
والحكمة في هذا التفاوت، في هذه الحالة بالذات - الحالة التي تثار حولها الشبهة
- هي: أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى- هي زوجه - مع أولادهما.. بينما الأنثـى الوارثة أخت الذكر إعالتها، مع أولادها، فريضة على الذكر المقترن بها.. فهي - مع هذا النقص في ميراثها بالنسبة لأخيها ، الذي ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًّا وامتيازاً منه في الميراث.. فميراثها - مع إعفائها من الإنفاق الواجب - هو ذمة مالية خالصة ومدخرة، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.



يقول الكاتب:

(والاسلام احل للرجل ان يضرب زوجته ان لم تطعه . ففي سورة النساء، الآية 34نجد: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفـظ الله واللاتي تخافون نشوزهـن فعظوهـن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان اطعنكم فلا تبتغوا عليهن سبيلاً". فالمرأة التي لا تطيع زوجها، يهجرها الزوج في المضاجع ، وان لم ينفع معها الهجر، يضربها.)


ونحن عندما نقول أنها وسيلة للعلاج في نطاق ضيق، فجب أن نعلم أنها ليست ضرب تشفي أو انتقام، والضرب أتى بعد عدة وسائل للعلاج. أما في الحالات الأخرى التي لا تصل إلى مرتبة المرض، فلا يجوز استعمال الضرب، إذ لا ضرورة له ولا يجوز المبادرة إليه، ولعل ذلك يصلح مع بعض حالات الناس.
إن المحافظة على الأسرة من أسمى الأهداف التي يسعى الإسلام عليها، ويجب أن لا ينهار الأسرة لمجرد نزوة من الرجل أو المرأة. ونحن نرى أنه عندما يمتنع الرجل على النفقة لأسرته فإنه يجب على ذلك بالقانون، لذلك أعطى الإسلام المرأة عدة وسائل لعلاج انحرافات الرجل منها النصح والإرشاد، كما يجوز لها الهجر في المضجع في بعض الحالات. كأن يطلب منها أمراً شاذاً، وغيرها.



يقول الكاتب:

(اما الحديث عما يحل للرجل المسلم من نساء فطويل، وقد يكون مملاً من كثرة مـا كُتب عنه. فنحن نعرف ان الذي حُلل اكثر من الذي حُرم من النساء للمسلم. فبعد تحريم الامهات والاخوات وما الى ذلك ، نجئ الى المحلل. فقد اُ حل للرجل اربعة زوجات في عصمته في آن واحد.)



أولاً: الإسلام أباح تعدد الزوجات، ولم يوجبه، ولم يشجع عليه، لذلك فاللجوء إليه يكون في حالات الضرورة.
ثانياً: الإسلام اشترط عدم القرابة بين الزوجتين حتى لا يكون الحقد بينهما، فنهى أن يجمع الرجل بين البنت وأختها أو عمتها أو خالتها.
ثالثاً: اشترط الله سبحانه في تعدد الزوجات العدل: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً)، (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).
رابعاً: وهو الأهم أننا إذا أمعننا النظر في آية تعدد الزوجات قال الله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة..). فسوف نلاحظ أنها جاءت لحماية حقوق الأيتام، والنصّ الكريم مؤلف -كما قال الإمام القرطبي في تفسيره - من جزأين، شرط هو: (إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) وجوابه : (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع), إذاً فهناك علاقة قوية بين إعطاء الأيتام حقوقهم، وبين تعدد الزوجات.



يقول الكاتب:

(والاسلام دائماً يعامل المرأة معاملة تختلف عن معاملة الرجل. فنجد: "يايها الذين آمنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فأمتحنوهن، الله اعلم بايمانهن، فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن واتوهم ما انفقوا ولا جناح عليكم ان تنكحوهن اذا اتيتموهن اجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسئلوا ما انفقتم وليسئلوا ما انفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم". فاذا جاء رجل وقال للمسلمين انه قد اسلم فلا امتحان عليه ولكن اذا جاءت امرأة وقالت انها اسلمت، يجب ان نمتحنها لنعرف مدى صدقها.)



فلنقرأ القصة كاملة ، ثم لنحكم بعد ذلك كما نشاء:
في السنة السادسة للهجرة وقّع النبي صلى الله عليه وسلم صلحاً مع المشركين، وهوالمسمى في كتب السيرة (بصلح الحديبية). وكان أحد بنود الصلح يتضمن: أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة - يعني المشركين - رد إليهم. وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم برد بعض المسلمين الذين أتوا من مكة. وقصة (أبو جندل) وإعادته إلى أبيه معروفة في كتب السنة. فكانت ممن أتين (أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط)، مهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في أثرها أخواها عمارة و الوليد. وقالوا لنبي صلى الله عليه و سلم ردها علينا بالشرط، فقال النبي عليه السلام كان الشرط في الرجال دون النساء.
يقول ابن عباس: (كانت المرأة تستحلف أنها ما هاجرت بغضاً في زوجها ولا طمعاً في الدنيا، وأنها ما خرجت إلا حباً في الله و رسوله ورغبة في الدين الإسلامي).
إذاً كان النبي عليه السلام حريصاً على الالتزام ببنود صلح الحديبية، وهو قام برد الرجال، ولكن لم يفعل ذلك مع النساء. هذه هي القصة ببساطة.



يقول الكاتب :

(وعلى المرأة الطاعة العمياء لزوجها لدرجة ان بعض العلماء يقولون اذا كان للرجل عذر شرعي يحل له ان يفطر في رمضان فعلى زوجته ان تفطر معه حتى وان لم يكن لها عذر للافطار، لان زوجها قد يخطر له ان يقبلها او يجامعها اثناء النهار.)



مرة أخرى نسأل من هم "بعض العلماء" ؟ لماذا لا يخبرنا بمصادره السرية؟!



يتبع ,,,,

اخت مسلمة
10-05-2009, 10:29 PM
الجهــاد فـي الإســلام




يستعرض الكاتب في بداية الفصل التاسع الآيات التي تتحدث عن الجهاد، ثم يذكر مرة أخرى "آية السيف"، وكيف أنها نسخت ما قبلها من آيات. ونحن تحدثنا بالتفصيل عن ما يسمى بآية السيف في موضع سابق. وفي هذه الفقرة سيكون لنا وقفة مع الآيات الأخرى التي تتحدث عن القتال في القرآن، لأنه إذا تتبعنا النصوص القرآنية سيتضح لدينا أن ما ورد من آيات تتحدّث عن الجهاد في القرآن تقسم إلى ثلاثة أقسام. ومن الخطأ الخلط بينها، وحمل معنى بعضها على البعض الآخر، وهذه التقسيمات هي:
أولاً: آيات شرّعت الجهاد، وأذنت به بعد أن كان غير مأذون به وهي قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ..) الحج 39 -40. وهي أوّل آية نزلت للإذن بالقتال، وكما سيتضح أنّ الإذن في هذه الآية هو للدفاع، وليس للهجوم، لأنه مرتبط ببيان سبب الإذن بالقتال، وهو الظلم والإخراج من الديار لإيمانهم بالله سبحانه
ثانياً: الآيات التي تحرّض على القتال والجهاد بالمال والنفس بعد توفر الموجبات والأسباب التي بيَّنتها الآيات الخاصة بهذا الشأن وهي نمط من أنماط الإعلام الحربي، والحرب النفسية ضدّ العدو، ومهمتها تعبوية، ورفع الروح المعنوية مثل:

- ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) الأنفال56 .
- ( انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) التوبة41.
- (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ.. ) التوبة 111.
- (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران169.
- (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال 60.
ثالثاً: الآيات التي حددت الأسباب الموجبة للقتال. ومن خلال دراسة وتحليل مضامين هذه الآيات نفهم أن الجهاد لم يشرّع للانتقام والتسلط والعدوان والإرهاب، بل شرع للدفاع ومواجهة الظلم والطاغوت والعدوان ونصرة الحق والمستضعفين.. الخ لنقرأ تلك الآيات ولنستنتج من النصوص القرآنية المبيّنة لموجبات القتال ومجوزاته لتتضح أسباب القتال والجهاد في الإسلام، ولنثبّت فقه هذه الآيات، كما أوضحها الإسلام: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ.. ) البقرة 190 ـ 193. يستفاد من هذا النص المعاني الآتية:
إنّ الأمر بالقتال هو أمر دفاعي، وأن السبب هو الدفاع، فالقتال هو ضد من يقاتل الأمّة الإسلامية، وهذا البيان واضح من قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) .. لذا فإنّ المسالم الذي لا يقاتل المسلمين، ليس مقصوداً بالقتال.
لم تكتف الآية بأن توضح أن القتال، هو دفاع ضد من يقاتل المسلمين، بل وتنهى عن الاعتداء على الآخرين، والبدء بالعدوان بالقتال، وذلك واضح في قوله تعالى: (ولا تعتدوا) بل يوضح القرآن إنّ الله سبحانه لا يرضى بالعدوان ولا يحب المعتدي. وذلك يعني أنّ العدوان محرّم في الإسلام، وإن كان باسم الجهاد، أو القتال في سبيل الله.
يقول تعالى : (َيسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ

الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ..) البقرة 217.
وهذا النص يوضح أن هناك أسباباً أخرى للقتال هي: إن من واجب الأمّة الإسلامية أن تجاهد وتقاتـل من أجل الحفاظ على الوطن، وإن من حق المسلم أن يقاتل مَن يخرجه من وطنه، أو يستولي عليه. ورد هذا الموجب أيضاً في العهد المدني الذي كتبه الرسول بين أهل المدينة، نقرأ هذا الموجب في النص الآتي: (وان أهل هذه الصحيفة بينهم النصر على مَن حاربهم ، وعلى مَن دهم المدينة).
يجب قتال من يفتن المسلمين عن دينهم، ويعمل على إخراجهم من دينهم بالإغراء والإرهاب، أو غير ذلك. جاء بيان هذا السبب في قوله تعالى: (والفتنة أكبر من القتل) البقرة 217.
يجب قتال من يخطط ويهيئ لقتال المسلمين للقضاء على الإسلام، وردّ المسلمين عن دينهم، سواء باشر هذا القتال أو أعدَّ له.
يقول تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) النساء 75. وهذا النص يوجب القتال من أجل نصرة وإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والأطفال الذين يشتد عليهم الظلم والطغيان، ويستغيثون لطلب العون والانقاذ والنصرة.
يقول تعالى: (..فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) النساء 90. وهذا النص يوضح، إنّما يجب قتال من يقاتل المسلمين ، أمّا من يعتزل القتال ويسالم ولا يقاتل، فليس للمسلمين حق مقاتلته.
يقول تعالى: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) التوبة 36. وهذا النص يوضح مسألتين أساسيتين هما:
إنّ السبب الموجب للقتال أنّ المشركين، وهم الذين لا يؤمنون بتوحيد الله الحق يتحالفون فيما بينهم ليقاتلوا المسلمين كافة، لذا يجب قتالهم كافة. وهذا القتال والجهاد

هو أيضاً دفاعيّ؛ لأن أولئك الأعداء قد اجتمعوا وتحالفوا على قتال المسلمين.
يؤكد القرآن إنّ الله مع المتقين وهي دعوة للمسلمين أن يلتزموا جانب التقوى، ومن التقوى أن لا يكون القتال لمطامع دنيوية، كالتسلط والعدوان والانتقام، بل يكون القتال لأسبابه المشروعة، والتي مرَّ ذكرها آنفاً (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
كما يوضح ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
إن هذه الآية تصف المؤمنين إذا تحقق لهم النصر والغلبة والسيادة في الأرض بأنهم مصلحون في الأرض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر: (ُأذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ- الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحج 39 - 40 . هذا هو مفهوم الحقيقي للجهاد و القتال في الإسلام.



أمّا موقف الكاتب فهو :

(وبعد وفاة الرسول جهز الخليفة أبو بكر جيشاً لغزو سوريا في عام 634ميلادية. وفي هذه الحملة قتل جيش المسلمين أربعة آلاف من المسيحيين واليهود وحرقوا الكنائس والاديرة وحطموا الاصلبة، حسب شهادة القديس سوفروس في القدس. وفي منطقة ما بين النهرين "Mesopotamia" ما بين سنة 635 و642 دمر جيش المسلمين كل الاديرة وقتلوا الرهبان، وأجبروا العرب المسيحيين على اعتناق الاسلام.)



إن مثل الشهادة اليتيمة لا وزن لها أمام التعاليم الإسلامية الواضحة التي تمنع قتل غير المحاربين ، وتمنع هدم بيوت العبادة، وتمنع اجبار أحد في دخول الإسلام.
وتذكر كتب الحديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم الجيش أرسله ما يلي: (انطلقوا باسم الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضعوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا).
وأيضاً وصية أبو بكر لجيش يزيد بـن أبي سفيان: (إنك ستجد قوماً زعموا أنهم
حبسوا أنفسه في الصوامع فدعهم وما زعموا، وإني موصيك بعشر، لا تقتلن امرأة ، ولا صبياً, ولا كبيراً، ولا تعقرن شاة، ولا تجبن ولا تغلل).
وهاتان الوصيتان تستخلصان قانون الحرب الإسلامية في ميدان القتال:
فيمنع في ميدان القتال قتل من لا علاقة له بالحرب، وكذلك قتل رجال الدين، و أيضاً قتل الشيوخ، والنساء والأطفال، ومنع التخريب المتعمد.



يقول الكاتب :

( وأما عمرو بن العاص عندما غزا مصر فعل بالسكان ما لم يفعله فرعون باليهود، حسب مذكرة الاسقف جون، فعندما دخلوا مدينة بهنيسة قرب الفيوم قتلوا كل من سلّم نفسه لهم ولم يرحموا لا النساء ولا الاطفال. ولم يكن مصير أهل الفيوم بأحسن من مصير جيرانهم.)




الكاتب تحدث عن مجازر أرتكبها جيش المسلمين عند فتح مصر ولم يذكر لنا مصادره. وأظن من يراجع كتب التاريخ سيرى كيف أن المسلمين عاملوا الأقباط معاملة حسنة، وخيروهم بين الإسلام والبقاء على دينهم، كما أطلقوا الحرية الدينية.
وحتى كثير من الكتّاب الغربيين ذكروا ذلك، مثل (سير توماس ارنولد) الذي عزا في كتابه [الدعوة إلى الإسلام] النجاح السريع الذي حققه المسلمون قبل كل شيء إلى ما من ترحيب من الأهالي المسيحيين- الأقباط- الذين كرهوا الحكم البيزنطي.



يقول الكاتب :

(والاندلس لم تكن أحسن حظاً عندما دخلها خالد بن الوليد، فقد واصلوا القتل والسلب وفرضوا الجزية على من لم يسلم. وفي كتاب التاريخ الكامل لابن ألاثير (1160)
نجد تفاصيل حروبهم في الاندلس. ففي عام 793 ارسل الامير هشام جيشاً تحت إمرة عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث الى اواسط الاندلس ووصل حتى القيروان، ولعدة أشهر جاب طول البلاد وعرضها يقتل ويسلب ويسبي النساء، ورجع سالماً وخلفه عدد من الاسرى لا يعلم بعددهم الا الله . )


لو كان الكاتب قرأ بالفعل عن فتح أندلس، وكتاب الكامـل في التاريخ، لعلم أن

(طارق بن زياد) هو الذي فتح أندلس، وليس (خالد بن الوليد).
وعلى أي حال فإن ورود مثل هذه الأخبار في لا تعني بالضرورة وقوعها بالفعل. فالمؤرخون - مثل ابن الأثير- كانوا يقومون بجمع كل من تقع عليه أيديهم من الروايات بغض النظر عن صحتها من عدمها. وأظن أن هذا معروف بالنسبة للباحثين. وقديماً كان ابن خلدون قد شكى من الأخطاء التي يقع فيها المؤرخون نتيجة إيرادهم أخباراً غير صحيحة وغير منطقية.
وحتى على فرض صحة هكذا حوادث فإن من فعلها قد خالف الإسلام، ونحن بينا حقيقة الجهاد والموقف الواضح في ميدان القتال، فلا يجوز أن يتهم الإسلام بجريرة أفراد قاموا بارتكاب مجازر باسمه.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ.....) المائدة 8. وتكرر ذلك في موضع آخر من القرآن الكريم بذات النهي (ولا يجرمنكم). لا يجرمنكم معناها لا يحملنكم ولا يدفعنكم ولكن عبر عنها بجذر (الجرم) حتى نفهم بأنه لو اندفعنا تحت تأثير كراهية قوم، ليس لمجرد ارتكاب الظلم، بل لمجرد العدول عن العدل معهم، فإن ذلك يعد في الإسلام جريمة. هل ثمة أبلغ من تأكيد الإسلام وصراحته في تكريم الإنسان؟ لو جرنا كره قوم إلى عدم العدل معهم فتلك جريمة نكراء، أما لو جرنا ذلك لظلمهم فتلك جريمة لا تساويها جريمة.



يقول الكاتب :

(وكنتيجة لهذا الجهاد انتشر الاسلام في الجزيرة العربية وشمال افريقيا وتركيا والهند والسند وأرمينيا وفارس والاندلس واجزاء من اوربا الشرقية. ومما لا شك فيه أن كل السكان الاصليين في تلك البلاد اعتنقوا الاسلام تحت تهديد القتل او الجزية، فلم يكن لديهم الخيار ولم يقنعهم أحد باعتناق الاسلام عن طريق المحاورة والجدال. والدليل على ذلك أنه بمجرد أن دارت الايام على الجيوش العربية في الاندلس، التي ظلوا بها حوالي خمسمائة عام، رجع السكان الاصليون الى المسيحية ولم يبق في اسبانيا غير حفنة بسيطة من المسلمين.)



بعض تعليقات الكاتب لا تخلو من الطرافة!!
حكم المسلمون أندلس ثمانية قرون وكانت الديانة القديمة كامنة في نفوس أهلها كـل هذه المدة، و بمجرد أن تهيأت الظروف وخرج المسلمون عادوا إلى ديانتهم القديمة! وهذه ليست نكتة، بل تحليل الكاتب للأحداث التاريخ، ليشرح لنا كيف تحولت أندلس على يد الأسبان إلى المسيحية-الكاثوليكية.
لم أسمع هذا حتى عن أشد المستشرقين تعصباً. الكاتب فاق الجميع في عدائه.
وكـأن أحداً لم يسمع عن محاكم التفتيش التي أقرت بعد استيلاء الأسبان على أندلس ولا على أحكامها المرعبة. ولكن المشكلة أن الكاتب نفسه يعترف بهذه المحاكم، إذ يقول في مقدمة كتابه: (وفي القرن السادس عشر بعد الميلاد عمّت أوربا المسيحية موجةٌ من التعصب الكنيسي لم يسبق لها مثيل. وتبارت المدن في إنشاء محاكم التفتيش التي كانت قد ابتدأت في إسبانيا). فما هذه الافتراءات والتناقضات!؟
في كتاب [قصة الحضارة] (لوول ديورانت) أمثلة كثيرة عن ما فعلته تلك المحاكم من تهجير السكان، وأساليب التعذيب التي كانت تمارس. ولا نبالغ إذا قلنا أن الذين أعدموا والذين سجنوا كانوا بمئات الألوف. ويذكر التاريخ أن الذين نفوا من المسلمين كانوا ثلاثة ملايين، ومن اليهود مليونان.
كل هذا والكاتب يقول ان تحول أندلس إلى المسيحية-الكاثوليكية كان طبيعياً.
وبالمناسبة أريد أن أطرح السؤال التالي لمن يشك في تسامح الإسلام، لماذا استقرت الأقليات في الشرق الإسلامي؟ ووجودهم بيننا حتى الآن لأكبر دليل. بينما بادت الأقليات في الغرب! أليس من حقنا نحن المسلمون أن نعقد مقارنة بين ما فعله الأسبان بالمسلمين حين دخولهم لأندلس؟ حيث كان الشخص يقتل لمجرد إرضاء الرب - كما يزعمون - وبين ما قرره الإسلام لأهل الذمة. ويؤكد قولي ما أورده أبن حزم في كتابه [المحلى]: (إن من واجب المسلم للذميين الرفق بضعفائهم، وسد خلة فقرائهم، وإطعـام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم باللين القول، واحتمال أذى الجار منهم،

وإخلاص النصح لهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم).
سأشير إلى بعض الوثائق النبوية، مثل دستور المدينة وخطبة حجة الوداع وعهده عليه السلام إلى نصارى نجران، وإلى وثائق الحركة الدبلوماسية الواسعة التي ألفهـا عليها السلام وبعث بها رسله وسفراءه إلى الملوك المجاورة. ولايعسر على القارئ الكريم أن يرجـع إلى كل ذلك في كتب السيرة والمغازي.
ببساطة هذا هو مسلك المسلمين مع غيرهم من أهل الذمة.



يقول الكاتب:

(وبمجرد أن مات الرسول ارتدت القبائل العربية عن الاسلام، مما اضطر الخليفة ابا بكر أن يشن عليهم حروب الردة ويجبرهم على الرجوع الى حظيرة الاسلام.)


إن موضوع حروب الردة في زمن أبو بكر أسيئ فهمه من قبل الكثيرين، حيث عدت تلك الحروب قتالاً ضد الذين ارتدوا عن الإسلام، ومحاولة إرجاعهم إلى الإسلام.
ولكن في الحقيقة إن الذين حاربهم أبو بكر لم يكونوا مرتدين عن الإسلام كما يتبادر إلى الذهن، إنما كانوا فريقين، فريقاً منع الزكاة فقط زاعماً أنها إتاوة كانت تدفع للرسول. وهؤلاء لم يرتدوا عن الإسلام، بل ظنوا أن الإسلام قد انتهى بموته. أضف إلى ذلك أنهم لم يخرجوا عن عقيدة التوحيد التي هي عماد الدين.
أما الفريق الثاني فقد ارتدوا عن الإسلام ولم يكونوا مسلمين حقاً، لأن السواد الأعظم منهم كانوا من الأعراب الذين وصفهم القرآن بأنهم مردوا على النفاق، ولم يمض عليهم من الزمن ما يكفي لأن يؤثر الدين في قلوبهم، وهؤلاء كانوا سيقومون بأي لحظة بثورة كانت ستقضي على الإسلام وهو ما زال في مهده. وبالفعل تحركت بعض الجهات، وظهور ما يسمى بحركة مدعي النبوة.
لذلك كان من الواجب التحرك لملاحقة هؤلاء، لأنهم برفضهم أداء الضريبة للدولة ، ولمحاربته إياها، ومقاومتهم للإسلام قد اقترفوا جريمة الخيانة العظمى. وعقوبة الخيانة العظمى خاصة في أثناء الحروب بالإعدام أو القتل أمر متعارف عليه دولياً، ولا يتعارض مع حقوق الإنسان .
ويبقى مسألة قتل المرتد بحاجة إلى إعادة النظر، فعلى رغم ما يظهر في التراث الفقهي وكأنه موقف واحد في حكم المرتد، فإن البحث سرعان ما ينفي ذلك . إذ سنجد (إمامين) بارزين كان لكل منهما مذهبه الخاص به، هما (إبراهيم النخعي) و(سفيان الثوري)، قد أدى بهما الاجتهاد إلى القول بأن المرتد لا يقتل. وسنجد أيضاً أن بعض فقهاء الأندلس قالوا بمثل ذلك واشتهروا إلى الدرجة التي جعلت ابن حزم الظاهري يكرس في [المحلّى] بحثه في حد الردة، للرد عليهم، هذا فضلاً عن رأي الأحناف المعروف بأن المرأة المرتدة لا تقتل بحال لردتها.
وإذا تتبعنا آيات القرآن فلن نجد عقوبة دنيوية للمرتد عن الإسلام، فالقرآن يذكر حالات للخروج عن الإيمان، وفي كل الحالات يشار إلى العقاب في الآخرة.
- (...وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة 217.
- (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) آل عمران85 .
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ...) المائدة 54 .
- (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) لقمان23 .
- (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) البقرة256.
وهذه الآية تعني عدم ممارسة ضغوط و فرض أمور بعينها في أمور تتعلق بالعقيدة. فالقوة يمكن أن تجبر المسلمين في بلد إسلامـي على المحافظة على القوانين كافة إلا في

الأمور التي تتعلق حقاً بالنية.
وأخيراً آية: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الكافرون 6. سمى القرآن دين المشركين ديناً من باب احترام إرادتهم واختيارهم. وهذه رسالة واضحة من اليوم الأول للدعوة بأن حرية الاعتقاد والتدين والعبادة مكفولة للناس جميعاً. سواء كانوا مشركين، أو كتابيين، أو ملحدين، أو حتى مرتدين غير محاربين. كما سنجد القرآن يقول في مشهد جدير بالتدبر: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) سبأ24. كما قال في مشهد آخر ليس بأقل منه: (قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) سبأ25. ندعو لله أن يلهمنا الفهم الصحيح .
الـرق فـي الإسـلام



دائماً أشعر بالاستغراب، عندما أرى أناساً يتحدثون عن معاناة العبيد في الإسلام ، وأن الإسلام بخل في تعاليمه عن حقوقهم، ويتناسون أن عدداً لا بأس من العبيد كانوا من أوائل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، والكاتب نفسه يذكر ذلك. بل سنجد أن أحدى المواجهات التي كانت تحدث بين النبي صلى الله عليه وسلم و المشركين كانت احد أسبابها انه يحرّض العبيد على سادتهم .
ولنا أن نسأل إن كان الإسلام ينظر بازدراء إلى العبيد، هل احترام المسلمين عبر تاريخهم لصحابي مثل (عمار بن ياسر) الذي كان من العبيد، كانت أقل من آخر له مكانته القبلية مثل (مصعب بن عمير) ؟ الكاتب حاول إثبات هذا التمييز عبر ادعاءات وروايات مختلفة تخدم الفكرة القائلة بأن "الإسلام ظلم الأرقاء" .
لن نناقش وضع الرق في العالم القديم ونقارنها بما جاء به الإسلام، أو نستعيد كلمات أرسطو التي اعتبر فيها العبد "حيواناً قوياً". أو كلمات انغلز التي رأى فيها العبودية مرحلة أفضل مما قبله. ولسنا في حاجة كذلك لعرض صورة القسوة و الاستغلال للعبيد التي تجلت في إمبراطورية الرومانية، وفي الحقبة الاستعمارية التي شاركت فيها كل دول الأوروبية الحديثة، وبرر مونتسيكو في [روح القوانين] الاسترقاق على أسس دينية. فقط سنناقش بعض النقاط التي وردت في الفصل الثامن، لنفهم موقف الإسلام من مسألة الرقيق.



يقول الكاتب :


(ومعاملة الاسلام للعبيد في النواحي الشرعية لا تساويهم باخوانهم واخواتهم المسلمين الاحرار رغم ان الاحاديث النبوية تقول: "لا فرق بين عربي وعجمي الا بالتقوى" وكذلك" المسلمون سواسية كاسنان المشط". فنجد اختلافاً بيناً في القصاص. ففي الآية 178 من سورة البقرة نجد: "يايها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى". فحياة العبد لا تساوي حياة الحر، فلو قتل حرٌ عبداً لا يُقتل الحر بالعبد، ولكن يُقتل العبد اذا قتل حراً.)


هذا خطأ شنيع في فهم الآية. ولا أدري كيف فهم منه أن العبد لا يقتل بالحر. الآية ليست في مقام البيان من حيث خصوصية القاتل والمقتول، بل في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط. يقول الألوسي في تفسير هذه الآية: (روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر. فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى. فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت فأمرهم أن يتباوؤا).
وكذلك فإن المبدأ القرآني: (النفس بالنفس). هو مبدأ عام في العبيد والأحرار.



يقول الكاتب :

(والآية 25 من سورة النساء تخبرنا عن الاماء: "فاذا أُحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب". وعليه اذا زنت الأمة لا تُرجم حتى وان كانت متزوجة بل تُجلد خمسين جلدةً، ويُقاس عليهن العبيد كما يقول تفسير الجلالين.)



لم أسمع أحداً من قبل يقول بأن تخفيف المسؤولية هو (تمييز) بالنسبة للطرف الذي تقرر له التخفيف. إن تخفيف العقوبات على العبيد بجعل عقوبتهم نصف عقوبة الأحرار في مسألة الزنا والقذف، ليس (تمييزاً)، بل هو (ميّزة) أعطاه الإسلام للرقيق، و هي رحمة، وعطف بالمستضعفين بالرق .



يقول الكاتب :

(والعرب عامةً كانوا يعتبرون العبيد اقل منهم شأناً، فقد روى النسائي عن أنس قال: لما
جاء نعي النجاشي ملك الحبشة، قال الرسول (ص) : "صلوا عليه"، قالوا: يا رسول الله، نصلي على عبدٍ حبشي؟ رغم ان النجاشي آواهم واطعمهم لما كانوا مستضعفين بمكة، وهاجروا اليه ليحميهم من قريش ولم يقولوا وقتها انه عبد حبشي.)


إن كانت العرب تعتبر العبيد أقل شأناً منهم فهذا كان في الجاهلية، لكن في الإسلام: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ). (وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ... ). و الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً أمر (بلال) - الذي كان يُعتبر عبداً حبشياً عند مشركي قريش - بأن يصعد على الكعبة ويؤذن. وطبعاً فالكل يعرف مكانة الكعبة عند العرب عموماً.
بالنسبة للحديث الذي يدعي الكاتب أنه مذكور في النسائي. فإني قد قمت بالبحث عنه في صحيح (النسائي) ، وكل (الصحاح) التي بين يدي، ولم أجد هذا الحديث في أيّ منها. هناك رواية ذكرت في [مختصر السير ة] لابن هشام، لا أدري إن كان الكاتب يعتمد عليها. ونص الرواية هكذا: (ولما مات النجاشي، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه كما يصلي على الجنائز. فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة..) وكما ترون فإن الاعتراض كان من المنافقين، وليس من الصحابة .
ونجد في صحيح البخاري: (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضـِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلـَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ). وأصحمة هو اسم النجاشي.



يقول الكاتب :

(وقد يفهم الانسان ان المجتمعات التي تحكمها القوانين الوضعية قد اباحت الرق في فترة من تاريخها، لكن كل هذه البلاد قد حرمت الرق في القرنين التاسع عشر والعشرين. ولكن الاسلام دين سماوي من عند الله، الذي خلق كل الناس من آدم وحواء وجعلهم متساوين، و الخليفة عمر بن الخطاب قال: متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم امهاتهم احراراً، فكيف يبيح دين سماوي الرق؟ وفي اعتقادي ان التشجيع على اعتاق رقبةٍ مؤمنة لا يتساوى مع تحريم الرق، وكان يجب على الاسلام ان يحّرم الرق بالنص.)


فلنشرح لماذا لم يقم الإسلام بتحريم الرق دفعة واحدة :
ظهر الإسلام منذ ألف وخمسمائة عام، وكان يمكن أن يلتمس له العذر بحكم هذا لو جرى مجرى الدول الأوروبية التي جاءت بعده بألف عام.
يجب أن نعلم أنه من العسير تطبيق هذا المبدأ - تحربم الرق - فوراً في مجتمعات تعتمد على عمل الرقيق؛ لأن تسريحهم فجأة و بأمر قرآني في ذلك الوقت، وهم مئات الآلاف، بدون صناعة وبدون عمل اجتماعي وبدون توظيف يستوعبهم، كان معناه (كارثة اجتماعية)، وكان معناه مئات الآلف من الشحاذين، وفي الطرقات، يسألون الناس، و يمارسون السرقة و الدعارة. وهو أمر أسوء من الرق.
في المقابل عمل الإسلام على اتخاذ إجراءات لتفريغ الرق من سوءاته، كإساءة المعاملة. فأوجب الإسلام حسن المعاملة للرقيق، كما توضح الآية التالية ذلك: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ) النساء36 .
وفي الحديث (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه).
كما أوجب تحرير الأرقاء في كثير من المواضع، وفرض على السادة الاستجابة للذين يريدون (المكاتبة) من مواليهم، أي الذين يتعاقدون معهم على أداء مبلغ من المال نظير عتقه وتحريرهم .
ونحن نعلم أنه عندما أتى الإسلام كان للرق طرق كثيرة، منها البيع و المقامرة و النهب ووفاء الدين والحروب والقرصنة.... وكان مبدأ الذي أعلنه الإسلام إلغاء كل هذه الطرق وإبقاء طريق واحد، وهو حينما يكون هناك اعتداء من غير المسلمين ويشترط أن لا يكون الأسير وقت الأسر مسلماً، ولو كان من جيش الأعداء. وهذا ما يسمى (بالمعاملة بالمثل).
يقول العقاد في كتابه [حقائق الإسلام ]: (والذي أباحه الإسلام من الرق مباح اليوم في أمم تعاهدت على منع الرقيق من القرن الثامن عشر. لأن هذه الأمم اتفقت على معاهدات الرق، تبيح الأسر والاستبقاء الأسرى إلى أن يتم الصلح بين المتحاربين على تبادل الأسرى، والتعويض عنهم بالفداء أو الغرامة). أي الأسرى يجب التصرف فيهم إما (بإطلاق سراحهم) من باب المن والفضل والإحسان, أو بقبول (فدية) عن إطلاق سراحهم.
يقول القرآن: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) محمد 4.
ومن النص يتضح ما قلناه سابقاً في الأسرى؛ فإما إطلاق لسراحهم أو الفدية، وهو ما يسمى في لغة العصر (تبادل الأسرى). فليس في القرآن تجويز لأمر ثالث وهو استرقاق الأسرى. ولكن لا نجد نصاً يمنع الرق منعاً صريحاً. وإن كان النص أقرب إلى المنع، لأنه يحصر الأمر بين المن أو الفداء ولم يقل استرقاقاً.
ولقد جاء بعد ذلك عصر الصحابة، وحصلت معارك بينهم وبين غيرهم من الروم و الفرس، وكان الاسترقاق نظاماً متبعاً عند هؤلاء في الحروب. وقد أسروا فعلاً من المسلمين واسترقوهم وباعوهم، ومن هنا كانت المعاملة بالمثل. فلم يكن من المعقول أن يكون الأسرى من المسلمين أرقاء في أيدي الأعداء، وأسرى الأعداء يكونون أحراراً. ولم يكن هناك نص من القرآن أو السنة يمنع استرقاق الأسرى، ووجدوا قانون (المعاملة بالمثل) يوجب أن نعامل بالمثل.


يتبع ,,,,,,,

اخت مسلمة
10-05-2009, 10:31 PM
قبل النهاية





يقول الكاتب:
(والمعتزلة الذين قالوا ان القرآن مخلوق، كانت حجتهم ان جزءاً لا يستهان به من الآيات نزل بإيعاز من الصحابة.)

نعم، المعتزلة قالوا بخلق القرآن، ولكن لم ينكروا أصله الإلهي.
التاريخ يثبت أن خير من دافعوا عن الإسلام هم المعتزلة، من خلال مجادلاتهم مع غيرهم من خصوم الإسلام. فيجب أن لا يتخذ قولهم بخلق القرآن وسيلة لتكفيرهم، و اعتبارهم خارجين عن الدين.
وأنا أرى أن قضية خلق القرآن أُسيئ فهمه من قبل الكثيرين، وربما كانت مسألة خلق القرآن ستسير بشكل طبيعي وبدون اعتراض لو أنهم لم يحالوا أن يفرضوا آرائهم بالقوة في مرحلة من نشأتهم. وربما يكون هذا هو المأخذ الرئيسي على المعتزلة.



يقول الكاتب :

(ورغم أن الاسلام يقول المسلمين سواسية كأسنان المشط، نجد أن معاملة الرسول لأهل بيته ولبني هاشم تختلف عن معاملته لبقية المسلمين، وهذا لا يجوز ان يحدث من نبي ارسله الله لكافة البشر، فيجب عليه ان يعامل الناس معاملة متساوية، ولكن هذا لم يحدث، فقد قال ابن اسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس، أن النبي قال لأصحابه يوم وقعة بدر: "إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي ابا البختري بن هشام فلا يقتله ومن لقي العباس بن عبد المطلب (عم رسول الله) فلا يقتله، فإنه إنما أُخرج مستكرهاً ". فقال ابو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغ ذلك رسول الله فقال لعمر: "يا أبا حفص، أيُضرب وجه عم رسول الله بالسيف". فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه (يعني ابا حذيفة) بالسيف فوالله لقد نافق.)



قبل التعليق على صحة هذا الحديث، أريد أن أطرح السؤال التالي:
هل كان النبي صلى الله عليه و سلم يعامل أهله و بني هاشم معاملة خاصة؟
إذا كان هذا الكلام صحيحاً، فلماذا توجد سورة في القرآن تلعن عمه أبا لهب، وتوعده هو و امرأته بالنار - طبعاً هذا الكلام موجه للذين يدعون أن محمد صلى الله عليه وسلم هو من ألف القرآن - ألم يقل حينما حاول بعض الصحابة أن يشفعوا لامرأة سرقت: (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). فهل هذه معاملة خاصة؟!
لماذا لم يعين خليفة من بني هاشم من بعده، وترك هذا الأمر للمسلمين يتشاورن فيما بينهم؟! إن المرء ليتعجب من هذا المنطق الفارغ!
نعود للحديث الذي ذكره الكاتب، فلننظر إلى سنده كما رواه ابن إسحاق: (حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم....) ولنسأل من هم بعض أهله؟ إن في هذا الحديث راو مجهول،

وعليه فلا وزن لهذا الحديث ولا يعتبر دليلاً. هذا ما يقوله علماء الحديث.
وسنكرر ما قلناه في الفصل الثالث عند تعرضنا لسلاسل اسناد الروايات التي يذكرها الكاتب: من أنه ليس كل ما ورد في كتب السيّر صحيحاً، بل يجب أن يعرض على مناهج التي و ضعها علماء الحديث، لمعرفة الصحيح من غير الصحيح.



ثم ستكون من كلمات الكاتب الأخيرة:


(فهل بعد كل هذا يتجرأ شيوخ الاسلام ويكتبون ان الاسلام دين سلام وتسامح وعدل؟)



نستطيع من خلال هذه الفقرة أن نحدد مراد الكاتب. فبعد أن جمع تهمه و أفرغها على صفحات كتابه، أخذ الرجل صفة الادعاء العام. وكأن لسان حاله يقول بعد كل هذا لم يعد للإسلام قائمة، وأنه حان الوقت لينفض الناس أيديهم من هذا الدين، و يبحثوا عن بديل له. بعد أن عجز شيوخ الإسلام - ولا أدري من هم شيوخ الإسلام- على إثبات عكس ما يدعيه، وحان الآن ليحاكم بعد أن ثبت أنه دين حرب و تعصب وظلم! لكن: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْكَرِهَ الْكَافِرُونَ). إن قافلة الحق ماضية ، ولن يضرها من حاول إيقافها، أو من كره الحق.
لقد تحدى الكاتب- كما تحدى قبله كثيرون- أن يتجرأ أحد ويدافع عن الإسلام ، ونحن قبلنا التحدي. وحاولت قدر المستطاع أن أكون حيادياً، وأن أناقش الكتاب بهدوء ودون انفعال، وأن أطبق المبدأ القرآني الذي يقرر أن يستمع المسلم إلى غيره، أن يحاور غيره بعقلانية وأدب. كان هذا دأب الرسول صلى الله عليه وسلم ودأب أصحابه من بعده، نسأل الله أن نكون قد وفقنا في ذلك.
كلمة أخيرة أتمنى أن تصل إلى الكاتب: من يريد أن يرى، فعليه أن يفتح عينيه أولاً ، لا أن يغمضهما ويكتفي أن يردد ما يراه الآخرون.
هذا ما بذلت جهدي فيه، فإن كان صواباً فهو من، وإن كان خطأ فهو مني.
ولله الحمد أولاً و آخراً.





    






الفهـرس

استهلال
مقدمة توضيحية
الفصل الأول
نبذة تاريخية عن نشأة الأديان
الفصل الثاني
ديانات التوحيد عند العرب
الأحناف وشعراء الجاهلية
عادات الجاهلية التي اقتبسها الإسلام
الفصل الثالث
محمد بن عبد الله (ص)
مولده وطفولته
زواجه من خديجة
نبوته
غزواته
غزوة بدر
غزوة بني قينقاع
غزوة بني النضير
غزوة بني قريظة
غزوة خيبر
فتح مكة
أزواج النبي (ص)
بعثته
الفصل الرابع
جمع القرآن

البلاغة في القرآن
الالتفات في القرآن
السبع المثاني
لغة القرآن
الأخطاء النحوية
السحر في القرآن
قصص في القرآن
الأخطاء التاريخية
الأخطاء الحسابية
الفصل الخامس
الإسلام والعلم
الجنين
مراحل تكوين الجنين
الفصل السادس
منطق القرآن
القرآن والإرادة المتناقضات في القرآن
النسخ في القرآن
آية السيف
الفصل السابع
المرأة في الإسلام
الفصل الثامن
الرق في الإسلام
الفصل التاسع
الجهاد في الإسلام
الخاتمة
المراجع