المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأقانيم الثلاثة بين الإدراك والتسليم حلقة 2 (هل يتفردون بالتثليث؟)



محمد رشيد
10-16-2009, 07:00 PM
يعتقد الكثير من المسلمين أن (التثليث) هو خصيصة مسيحية (نصرانية) نظرا لأنهم لا يرون من حولهم – على الأقل في البلدان العربية - من يقوم على هذه العقيدة سوى المسيحيين.
وهذا اعتقاد نخالف للواقع..
ولكن قبل أن نقرر مخالفته للواقع دعونا أولا نقرر نظرية ذلك بصورة عامة ثم نسقطها على الحالة التي معنا..
إن العقيدة ليست شيئا ماديا موجودا في الخارج بحيث ينفصل عن دواخل الإنسان وقراراته الذهنية والقلبة.. إن العقيدة هي ذلك التصور الذي يحمله الإنسان في قلبه وعقله ويراه حقا ولا يرى الوجود من حوله إلا من خلاله، فهو (يتصور) هذه التصورات، أي أن هذه الأمور تكون صورا في نفسه يرى من خلالها كل شيء حوله، ولذا فهو يراها (الحق) .. فلو طرأ – عند هذا الشخص الذي يتصور – من المدخلات ما يستدعي أن يغير (تصوراته) لأجل أن يتوافق مع الحقيقة فإن التصور هنا يتحول إلى تصور آخر، فإذا كانت التصورات الأولى غير قوية في قلوب ومشاعر معتنقيها، فهنا تتحول هذه العقيدة وتتبدل، بإحدى صورتين:
- إما بتحويلها في ذاتها وفق رغبات خاصة بهدف تصحيحها – من وجهة نظر معتنقيها –
- وإما باكتساب تصورات أخرى من عقائد أخرى يرمي معتنقوا العقيدة الأولى أن يقاربوها بعقيدتهم دون أن يتنازلوا عن (اسم) عقيدتهم
وهذا الأخير هو الذي وقع مع النصارى .. وهنا نعود لموضوعنا الرئيس..
إن النصارى دينهم الرئيس هو (الإسلام) ..التوحيد.. ولا يحتاج المسلمون أن يعرفوا ذلك، فلا نتناوله.. ثم وقع التحريف في دينهم، وذلك خلال اختلاطهم بالدولة الرومانية وفي ظل الصراع والتناوب على مناصب الحكم – وهذا ما نخشى أن يصل إليه بعض إخواننا من الدعاة والتوجهات السياسية حين يغيرون من أصول دينهم وينحرفون عن فروعه في سبيل تحقيق مناسب سياسية – فوقع التحريف – عموما – في دين النصارى، ووقعت الوثنيات – والإغريق والرومان الذين انتعش فيهم المسيحيون سياسيا حينما دخلت المسيحية إلى الدولة الرومانية كانوا وثنيين – فانفرط العقد ودخل التحريف إلى النصارى، وبدأت تقع الانقسامات المذهبية حول طبيعة عيسى، ونشأت هنا المجامع الكنسية المعروفة. وأنصح القارئ أن يتوسع من خلال ما فعله (بولس) سعيا لجذب جميع الأطراف..
وفي الحقيقة لست هنا في معرض بيان من أين تحديدا اكتسب النصارى عقيدتهم في التثليث؛ فذلك له مقاله الخاص من تلك المقالات المختصرة، ولكني هنا ابيّن أن عقيدة التثليث لم ينفرد بها النصارى، وإنما اكتسبوها من غيرهم .. من هم تحديدا؟.. هذا له موضعه.
عقيدة (التثليث) كانت عقيدة وثنية تحققت في الكثير من الوثنيات قبل الوثنية النصرانية..
لعل أول (تثليث) كان قبل اربعة آلاف سنة من الميلاد.. حينما قرر البابليون أن هناك (إله السماء) و (إله الأرض) و (إله البحر) !!
وفي القرن العاشر قبل الميلاد كان البراهميون أو الهنودك والذين يملؤون الهند الآن .. كانوا – ولا يزالوا – يعبدون ثلاثة آلهة:
(براهمة) وهو الإله الأصلي وهو مختلف فيه هل خرج من بيضة من الذهب أم خرج من زهرة لوتس؟ ثم هو الذي خلق الكون ويدبره ويرزقه ويميت ويحيي .. ثم هو خلق الإلهين الآتيين..
(فيشنوا) وهو إله الخير والنماء
(شيفا) وهو إله الشر والهدم
ومن يطلع على صورة الإله الخالق براهما يجد أن له أربعة رؤوس، فذلك أنه كان له خمسة رؤوس فنظر مرة باحتقار إلى إله الشر .. ثم براهما يقال هل خرج من بيضة ذهب أم من زهرة لوتس؟ - يمكنكم أن تستعيضوا بقراءة كتبهم عن الروايات المسلية -.
والفراعنة كذلك ثلّثوا في (أوزوريس) و (إيزيس) و (حوريس)
وهناك صور أخرى من التثليث عند الفراعنة..
والبابليون كذلك لهم صور أخرى من التثليث..
والإغريق ثلثوا..
وهناك صور من التثليث لم أذكرها فهي عديدة، وربما فاقت ما ذكرته، إلا أن ما ذكرته هو أشهرها، وأهدف من خلال ذلك العرض المختصر جدا أن أثير القارئ للبحث والتوسع حتى يقف على هذا الركام العفن من الجاهلية التي يقف أمامها أجهل المسلمين الآن مشدوها من عمق تخلفها إلى قاع المنطق البشري.
إن الذي نخرج به من تلك الحلقة أن النصارى لا يمكنهم أبدا أن يدّعوا أصالة فكرة التثليث فيهم، بل هي قديمة قديمة، وقد انتقلت من جهات سنتحدث عنها إن شاء الله في موضعها.
والقضية في التثليث ليست لحقيقة – ولو عقيدة فاسدة – في وجود آلهة ثلاثة، هكذا وفاقا، في عقائد التثليث، بل إن الأمر نبثق من الرقم 3 نفسه! يقول هـ فيشر- هو صاحب كتاب تاريخ أوروبا والذي يترخ فيه تاريخها منذ الثورة الفرنسية والتي تخلصت فيها أوروبا من الكنيسة - : "إن الثالوث فكرة مستمدة من الحقيقة بأن الثلاثة هى العدد التام".

وحتى يكون المسلم على نوع تفصيل بقضية التثليث التي يعتنقها النصاري – مع إلحاحي على الحاجة إلى التوسع وعدم الاكتفاء بتلك الكلمات – أقول:
إن التثليث يأتي على نمطين مختلفين، أي من حيث ما يدعيه معتقدوه، لا من حيث حقيقته، فهو في حقيقته واحد كما سنبين إن شاء الله في موضعه من تلك المقالات.
النمط الأول: ادعاء الإله الواحد المتحقق في ثلاثة أقانيم. أي أن الجوهر الإلهي واحد، ولكنه (يتجسد) في (ثلاثة موجودات) .. والأقنوم – أو هيبوستاسيس باليونانية – هو الوجود القائم الذي يحل فيه الجوهر.. فهؤلاء يقولون: نحن لا نقول هو إله وإله وإله .. بل نقول: هو إله واحد في ثلاثة موجودات!! أو من هذا النمط ما يقال هو إله واحد له ثلاثة تجليات!!
ومن هؤلاء النصارى.. يقولون هناك آب وهنا ابن وهناك روح قدس.. هم غله واحد!!
وسوف نبين خرافة تلك في موضعها كما ذكرنا.
النمط الثاني: ادعاء وجود ثلاثة آلهة. كإله للسماء، وإله للأرض، وإله للبحر!
وبعضهم يجعل العقيدة الهندوكية من هذا النمط.. حيث براهما الإله الأصلي.. وفيشنو إله الخير والنماء.. وشيفا إله الشر والهدم، لكن في ذلك نظر.. فإن النصارى يردون التهمة في تلقيهم التثليث عن الهنودكية بأنه لا يقولون إله وإله وإله.. بل إله واحد متجسد في ثلاثة أقانيم! وسوف أفند هذا الزعم إن شاء الله وأبين أنه لا فرق حقيقي بين النمط الاول والثاني، وذلك في موضعه إن شاء الله.
إن عقيدة التثليث كان مؤرقة دائما للعقلاء من معتنقي النصرانية الوثنية.. حتى انقلب عليها هؤلاء لعدم منطقيتها..
يقول فونتنل- كما في كتاب أزمة الضمير الأوروبي/بول هازار - : "لا أجد فرقا بين الوثنيين والمسيحيين ، فالمسيحية تأبى نسبة حقائقها إلى الوثنيين ، والوثنيون أورثوا المسيحيين أخطاءهم."

فلعل في تلك الكلمات أن يكون الحافز على التوسع في مادة تلك الحلقة المختصرة.
ويمكن البدء طرح الاستفسارات والنقاشات بين الإخوان إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.