عيد الخطيب
10-20-2009, 11:11 PM
موقف بعض الدعاة من المصطلحات الحديثة
هناك بعض المتشنجين من الدعاة والمشايخ يتكلمون بجهل شديد لا مثيل له عندما يسمعون عن مصطلحا من المصطلحات الحديثة التي ظهرت في هذا العصر كالاشتراكية والشيوعية والعولمة .... وغير ذلك من مصطلحات .
فما إن يسمع أحدهم مصطلحا من هذه المصطلحات إلا وينزل عليه وابل من الجمل المنمقة التي تصف هذا المصطلح ومن ابتدعوه بالكفر ، وتتهم الذين استخدموا مثل هذه المصطلحات بعدائهم للإسلام واستخدام هذه المصطلحات في محاربته .
كل هذا يفعلونه دون بذلهم لأي مجهود في البحث وراء المعنى الحقيقي لهذا المصطلح ، والأفكار التي يحتويها وإيجابيات هذه الأفكار وسلبياتها ، أو حتى مجرد معرفتهم للمعنى البسيط للمصطلح الذي يشنون عليه حربا شعواء .
سمعت أحدهم يوما يجيب عن سؤال وجه إليه عن الديموقراطية ، مدى اتفاقها واختلافها مع الشريعة .
فما إن سمع الشيخ السؤال حتى أمطر مستمعيه بكلام عن الديموقراطية يوحى لهم أن الديموقراطية هي الكفر بعينها ، وحاول بعض المثقفين الموجودين أن يناقشوه فلم يسمع لهم ، وكان كل كلامه هجوما ضاريا على هذا المصطلح البريء من كثير من اتهاماته .
فلقد وصف الديموقراطية بأنها سافرة ، وكافرة ، وفاجرة ، ودعاتها يدعون إلى الانحراف والإباحية ، ويبيحون للنساء ممارسة كل أنواع الرذيلة دون محاسبتهن أو حتى مجرد سؤالهن .
وأخذ يلعن كل مسلم وصف الإسلام بأنه دين يدعو للديموقراطية ، ويتهم المسلمين الذين يسقطون مصطلح الديموقراطية على الإسلام بأنهم في كفة أعداء الإسلام .
ونظرا لأن الرجل جاهل لا يعرف معنى الديموقراطية على الإطلاق ، فقد ابتعد عن السؤال الموجه إليه وجعل إجابته عبارة عن هجوم على الديموقراطية ومن يدافعون عنها بأبشع الألفاظ ، ذلك لأن ثقافة هؤلاء وأسلوب تفكيرهم جعلهم مشحونين نفسيا تجاه أى مصطلح جديد وخاصة المصطلحات التي تأتى إلينا من الغرب .
وبالطبع فإن هذا الرجل وأمثاله لا يمثلون الإسلام على الإطلاق ، ولا يعرضون وجهة نظر الإسلام الصحيحة التي تنافى منهجهم هذا تماما .
فالإسلام دين لا يعرف الجمود ، بل هو دين تقدم وتطور وحضارة ، يحثنا على الإيمان بالوحي دون أن نغيب العقل ، ويحثنا على المعاصرة مع التمسك بالأصالة ، ويدعونا إلى الروحانية دون أن مهمل المادية .
من هذا المنطلق نقول إن الإسلام حثنا على أن نمعن النظر في كل ما هو جديد ومستحدث علينا من أفكار ومبادئ ومصطلحات ، فإن وجدناه لا يصطدم مع ثوابتنا قبلناه ، وإن وجدناه يخالفها رفضناه .
لكن أن نرفض كل ما هو جديد اعتقاداً منا أننا إذا قبلناه وأسقطناه على بعض مضامين الإسلام وأحكامه يكون هزيمة للإسلام ، فهذا خطأ فادح .
إننا لا نشك مطلقاً في أن الإسلام غنى ومليء بالأحكام والتشريعات والمصطلحات الربانية لكن هذا لا يتعارض مطلقاً مع ما أقره الإسلام من قبول أى فكرة سوية جادة من غير المسلمين ، نظرية كانت هذه الفكرة أو عملية ، مادامت تتفق مع أسس الإسلام ومبادئه .
- ألم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم فكرة حفر الخندق وهى من أساليب الفرس ؟
- ألم يقر الإسلام التلبية في الحج بصيغة التلبية التي كان يلبى بها المشركون في الجاهلية ، " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك " ورفض الباقي مما لا يتفق مع عقيدة التوحيد " إلا شريك هو لك تملكه وما ملك " هل كان الله عاجزاً والعياذ بالله أن ينزل تلبية من عنده تعجز العرب ؟ بالطبع لا .
إن الحكمة تقتضى من المسلم المعتدل عدم رفض الأفكار والمبادئ المفروضة أو المطروحة علينا من أى مجتمع آخر ، دون مناقشتها من مفهومهم لها ، ثم مناقشة هذه الأفكار من مفهوم الإسلام لها ، عندئذ سيكون موقفنا واضحا ومحددا ولن يخرج عن أحد أمرين :
الأول : أن تصطدم الفكرة المستحدثة مع ثوابتنا شكلاً وموضوعاً ، فنرفضها شكلاً وموضوعاً، غير أن الرفض في هذه الحالة رفض تمليه علينا عقيدتنا ، وليس رفضاً لمجرد أننا نخاف ، أو نتحرج من كل ما هو جديد ومستحدث وشتان بين الرفض في الحالتين .
الآخر : أن تكون هذه الفكرة المستحدثة غير مصطدمة مع ثوابتنا الدينية في بعض جوانبها الشكلية ، أو الموضوعية أو الاثنين معاً ، وذلك من خلال ما يتضمنه ديننا من مفاهيم عامة وأحكام مجملة ، فلا ضير من قبولها ، ويمكن أن نصل حينئذ إلى جوانب اتفاق في بعض النقاط .
وبالتالي نكون قد أنصفنا ديننا وأثبتنا للذين يستحدثون هذه المصطلحات ، أن إسلامنا بمنهجه الشامل نستقى من طبيعته الدينية ما يوافق أفكار ومبادئ أى عصر من العصور، وأي حضارة من الحضارات ، مادامت أنها أفكار بناءة وفيها خير للبشرية .
ولنأخذ الديموقراطية كمثال لإثبات ما نقول .
إن ذلك الداعية الذي وجه إليه السؤال عن مدى اتفاق الديموقراطية ومدى اختلافها مع الإسلام ، لعن الديموقراطية لمجرد أن هذا المصطلح أتى لنا من الغرب ، واعتقد هذا الداعية أنه بذلك ينصف الإسلام ويحميه ، بإبعاد هذه المصطلحات الغربية عنه ، وأخذ يهاجم غيره من المسلمين الذين لم يجدوا غضاضة في وصف الإسلام بالديمقراطية .
ولو أنصف هذا الداعية هو وكل الرافضين لفكرة الديمقراطية دينهم حقاً ، لفعلوا مثل غيرهم من المسلمين المعتدلين الذين لديهم فهم لحقيقة هذا الدين ، وناقشوا الفكرة من مفهوم الغرب لها ووضحوا إيجابياتها وسلبياتها ، ثم أسقطوا هذه الفكرة على الإسلام من خلال مفاهيمه العامة ، وأحكامه المجملة ، ليدرسوا على أسس علمية سليمة مدى جوانب اتفاق فكرة الديموقراطية مع ما جاء به الإسلام فيقبلوه ، ومدي اختلاف فكرة الديموقراطية مع مبادئ الإسلام وأحكامه ومضامينه فيرفضوه .
إن مبادئ الإسلام ربما تختلف مع الديموقراطية في بعض جوانبها ، إلا أنها تتفق اتفاقا كبيراً مع جوهر الديموقراطية الذي يتلخص في أن يختار الناس من يحكمهم ، ويَسُوسُ أمرهم ، وألا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه ، أو نظام يكرهونه ، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ ، وحق عزله إذا انحرف ، وألا يساق الناس إلي اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها .
فهل الديموقراطية بهذا المفهوم الذي ذكرناه تنافي الإسلام ؟ إن الإسلام ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه ولا يرضون عنه ، فإذا كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة ؟!
لقد أعلن الخليفة الأول أبوبكر الصديق رضي الله عنه أعظم حكام المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جوهر الديموقراطية في أول خطبة له عندما خطب بين الناس وقال : " أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتموني علي حق فأعينوني ، وإن رأيتموني علي باطل فسددوني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم " .
إن الذين رفضوا وصف الإسلام بالديموقراطية ظلموا دينهم حقا ، وأضروه من حيث أرادوا النفع ؛ لأنهم جعلوا غيرهم يفهمون أن الإسلام ضد الديموقراطية ، وأعطوا غيرهم من الغرب الفرصة بأن يتغني ليلاً ونهاراً بأنه مبتكر الديموقراطية ، وراع للديموقراطية ومبادئها وما فيها من حرية ومساواة ، مع أن هذه المفاهيم جاء بها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ، في وقت كانت البشرية لا تعرف فيه سوى القتل والاستبعاد ، والنهب والسرقة والظلم والبغي والزنا والفجور إلي غير ذلك من الجرائم البشعة ، والأعراف السيئة التي كانت بمثابة قوانين تحكم الكرة الأرضية في ذلك الوقت .
جاء الإسلام بهذه المبادئ في تلك الفترة الصعبة من تاريخ البشرية ، ونجح نجاحاً باهراً في تحقيق هذه المبادئ علي أرض الواقع.
إن التاريخ لن ينس الكلمة الخالدة لعمر بن الخطاب خليفة المسلمين الثاني لواليه عمرو بن العاص : " متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " هذه هي الحرية التي عرفها المسلمون الأوائل ، وهذه هي مبادئ الديموقراطية التي جاء بها الإسلام والتي جعلت عليا وهو أمير المؤمنين يقف بجوار يهودي أمام القاضي ، ويحكم القاضي لليهودي بالدرع وهو يعلم تماماً أن علياً لم ولن يكذب في ادعائه أن الدرع ملكه ، لكن القاضي لم توضع بين يديه بينة يحكم بها لعلى ، فلم يجامل في حكمه حتى وإن كان المحكوم عليه هو أمير المؤمنين وإن كان المحكوم له هو يهودي لا حول له ولا قوة .
كان من الأولى للرافضين لكل ما هو جديد ومستحدث من مصطلحات أن يفهموا جوهر الديموقراطية وحقيقتها ، ويبينوا للبشرية بأكملها أن الديموقراطية التي جاء بها الإسلام خالية من كل نقيصة ورذيلة متعلقة بديموقراطية الغرب ، التي تكيل بأكثر من مكيال والتي تدعي المساواة بين البشر في الوقت الذي تفرق فيه بينهم حسب أجناسهم وألوانهم وأديانهم ، وتدعي الحرية لكنها وللأسف حرية سافرة تدعو للإباحية والخلاعة فتدافع عن الشذوذ الجنسي ، ولا تمانع من التطاول على الأديان والمقدسات دون أدنى احترام لأهل هذه الديانات وأصحاب هذه المقدسات .
إن المتشنجين من المسلمين الرافضين لكل مصطلح جديد من حولهم يجب أن يعلموا أن الرفض لأي فكرة جديدة قبل مناقشتها منهج غير سليم ، وأن قرآننا وديننا قائمان على محاورة الآخرين ومناقشتهم وقبول الحق منهم ورفض الباطل لكن الرفض كمبدأ ينافى دينناً الحنيف .
لقد ناقش القرآن الكريم المشركين ، كما ناقش اليهود والنصارى ، وحاورهم بأرقي أساليب الحوار ، والتي فيها من الأدب ما فيها ، بل لقد ورد في عدد كبير من سور القرآن الكريم حوار الشيطان مع ربه عز وجل.
فالرفض لأي فكرة جديدة قبل مناقشتها بدعوى أن الإسلام غني عنها ذلك هو الجهل بعينه ، وخاصة أن هذه الأفكار تفرض نفسها على مجتمعاتنا شئنا أم أبينا ، والرفض المتكرر لكل مواجهة مفروضة علينا لا معنى له إلا أنه استسلام مهين ، لم يأت حتى بعد بذل القليل من الجهد والمعرفة والبحث للمواجهة على أسس علمية سليمة ، وأصحاب هذا الموقف سيعيشون دوماً يتجرعون مرارة الهزيمة .
ونخلص مما سبق إلى أنه يجب مناقشة أي مصطلح جديد وما يحمله من أفكار ، وتوضيح إيجابيات وسلبيات هذه الأفكار ، وجوانب الخير وجوانب الشر فيها ، فلربما رفضنا مصطلحا جديدا قبل أن نعرف شيئاً عن الأفكار التي يتضمنها هذا المصطلح ، فتتسلل إلينا هذه الأفكار التي يحتويها ، دون أن ندري ودون أن نأخذ حذرنا منها ، ففي تلك الحالة سنجد أنفسنا نسقط مرة تلو الأخرى لأن عدم معرفتنا لطبيعة الشر في هذه الأفكار إن كانت تحوى شرا ستجعلنا عاجزين عن التعامل معها والتصدي لها ، وعدم معرفتنا لطبيعة الخير في هذه الأفكار إن كانت تحوى خيرا ستجعلنا نتأخر قرونا من الزمان.
هناك بعض المتشنجين من الدعاة والمشايخ يتكلمون بجهل شديد لا مثيل له عندما يسمعون عن مصطلحا من المصطلحات الحديثة التي ظهرت في هذا العصر كالاشتراكية والشيوعية والعولمة .... وغير ذلك من مصطلحات .
فما إن يسمع أحدهم مصطلحا من هذه المصطلحات إلا وينزل عليه وابل من الجمل المنمقة التي تصف هذا المصطلح ومن ابتدعوه بالكفر ، وتتهم الذين استخدموا مثل هذه المصطلحات بعدائهم للإسلام واستخدام هذه المصطلحات في محاربته .
كل هذا يفعلونه دون بذلهم لأي مجهود في البحث وراء المعنى الحقيقي لهذا المصطلح ، والأفكار التي يحتويها وإيجابيات هذه الأفكار وسلبياتها ، أو حتى مجرد معرفتهم للمعنى البسيط للمصطلح الذي يشنون عليه حربا شعواء .
سمعت أحدهم يوما يجيب عن سؤال وجه إليه عن الديموقراطية ، مدى اتفاقها واختلافها مع الشريعة .
فما إن سمع الشيخ السؤال حتى أمطر مستمعيه بكلام عن الديموقراطية يوحى لهم أن الديموقراطية هي الكفر بعينها ، وحاول بعض المثقفين الموجودين أن يناقشوه فلم يسمع لهم ، وكان كل كلامه هجوما ضاريا على هذا المصطلح البريء من كثير من اتهاماته .
فلقد وصف الديموقراطية بأنها سافرة ، وكافرة ، وفاجرة ، ودعاتها يدعون إلى الانحراف والإباحية ، ويبيحون للنساء ممارسة كل أنواع الرذيلة دون محاسبتهن أو حتى مجرد سؤالهن .
وأخذ يلعن كل مسلم وصف الإسلام بأنه دين يدعو للديموقراطية ، ويتهم المسلمين الذين يسقطون مصطلح الديموقراطية على الإسلام بأنهم في كفة أعداء الإسلام .
ونظرا لأن الرجل جاهل لا يعرف معنى الديموقراطية على الإطلاق ، فقد ابتعد عن السؤال الموجه إليه وجعل إجابته عبارة عن هجوم على الديموقراطية ومن يدافعون عنها بأبشع الألفاظ ، ذلك لأن ثقافة هؤلاء وأسلوب تفكيرهم جعلهم مشحونين نفسيا تجاه أى مصطلح جديد وخاصة المصطلحات التي تأتى إلينا من الغرب .
وبالطبع فإن هذا الرجل وأمثاله لا يمثلون الإسلام على الإطلاق ، ولا يعرضون وجهة نظر الإسلام الصحيحة التي تنافى منهجهم هذا تماما .
فالإسلام دين لا يعرف الجمود ، بل هو دين تقدم وتطور وحضارة ، يحثنا على الإيمان بالوحي دون أن نغيب العقل ، ويحثنا على المعاصرة مع التمسك بالأصالة ، ويدعونا إلى الروحانية دون أن مهمل المادية .
من هذا المنطلق نقول إن الإسلام حثنا على أن نمعن النظر في كل ما هو جديد ومستحدث علينا من أفكار ومبادئ ومصطلحات ، فإن وجدناه لا يصطدم مع ثوابتنا قبلناه ، وإن وجدناه يخالفها رفضناه .
لكن أن نرفض كل ما هو جديد اعتقاداً منا أننا إذا قبلناه وأسقطناه على بعض مضامين الإسلام وأحكامه يكون هزيمة للإسلام ، فهذا خطأ فادح .
إننا لا نشك مطلقاً في أن الإسلام غنى ومليء بالأحكام والتشريعات والمصطلحات الربانية لكن هذا لا يتعارض مطلقاً مع ما أقره الإسلام من قبول أى فكرة سوية جادة من غير المسلمين ، نظرية كانت هذه الفكرة أو عملية ، مادامت تتفق مع أسس الإسلام ومبادئه .
- ألم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم فكرة حفر الخندق وهى من أساليب الفرس ؟
- ألم يقر الإسلام التلبية في الحج بصيغة التلبية التي كان يلبى بها المشركون في الجاهلية ، " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك " ورفض الباقي مما لا يتفق مع عقيدة التوحيد " إلا شريك هو لك تملكه وما ملك " هل كان الله عاجزاً والعياذ بالله أن ينزل تلبية من عنده تعجز العرب ؟ بالطبع لا .
إن الحكمة تقتضى من المسلم المعتدل عدم رفض الأفكار والمبادئ المفروضة أو المطروحة علينا من أى مجتمع آخر ، دون مناقشتها من مفهومهم لها ، ثم مناقشة هذه الأفكار من مفهوم الإسلام لها ، عندئذ سيكون موقفنا واضحا ومحددا ولن يخرج عن أحد أمرين :
الأول : أن تصطدم الفكرة المستحدثة مع ثوابتنا شكلاً وموضوعاً ، فنرفضها شكلاً وموضوعاً، غير أن الرفض في هذه الحالة رفض تمليه علينا عقيدتنا ، وليس رفضاً لمجرد أننا نخاف ، أو نتحرج من كل ما هو جديد ومستحدث وشتان بين الرفض في الحالتين .
الآخر : أن تكون هذه الفكرة المستحدثة غير مصطدمة مع ثوابتنا الدينية في بعض جوانبها الشكلية ، أو الموضوعية أو الاثنين معاً ، وذلك من خلال ما يتضمنه ديننا من مفاهيم عامة وأحكام مجملة ، فلا ضير من قبولها ، ويمكن أن نصل حينئذ إلى جوانب اتفاق في بعض النقاط .
وبالتالي نكون قد أنصفنا ديننا وأثبتنا للذين يستحدثون هذه المصطلحات ، أن إسلامنا بمنهجه الشامل نستقى من طبيعته الدينية ما يوافق أفكار ومبادئ أى عصر من العصور، وأي حضارة من الحضارات ، مادامت أنها أفكار بناءة وفيها خير للبشرية .
ولنأخذ الديموقراطية كمثال لإثبات ما نقول .
إن ذلك الداعية الذي وجه إليه السؤال عن مدى اتفاق الديموقراطية ومدى اختلافها مع الإسلام ، لعن الديموقراطية لمجرد أن هذا المصطلح أتى لنا من الغرب ، واعتقد هذا الداعية أنه بذلك ينصف الإسلام ويحميه ، بإبعاد هذه المصطلحات الغربية عنه ، وأخذ يهاجم غيره من المسلمين الذين لم يجدوا غضاضة في وصف الإسلام بالديمقراطية .
ولو أنصف هذا الداعية هو وكل الرافضين لفكرة الديمقراطية دينهم حقاً ، لفعلوا مثل غيرهم من المسلمين المعتدلين الذين لديهم فهم لحقيقة هذا الدين ، وناقشوا الفكرة من مفهوم الغرب لها ووضحوا إيجابياتها وسلبياتها ، ثم أسقطوا هذه الفكرة على الإسلام من خلال مفاهيمه العامة ، وأحكامه المجملة ، ليدرسوا على أسس علمية سليمة مدى جوانب اتفاق فكرة الديموقراطية مع ما جاء به الإسلام فيقبلوه ، ومدي اختلاف فكرة الديموقراطية مع مبادئ الإسلام وأحكامه ومضامينه فيرفضوه .
إن مبادئ الإسلام ربما تختلف مع الديموقراطية في بعض جوانبها ، إلا أنها تتفق اتفاقا كبيراً مع جوهر الديموقراطية الذي يتلخص في أن يختار الناس من يحكمهم ، ويَسُوسُ أمرهم ، وألا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه ، أو نظام يكرهونه ، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ ، وحق عزله إذا انحرف ، وألا يساق الناس إلي اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها .
فهل الديموقراطية بهذا المفهوم الذي ذكرناه تنافي الإسلام ؟ إن الإسلام ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه ولا يرضون عنه ، فإذا كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة ؟!
لقد أعلن الخليفة الأول أبوبكر الصديق رضي الله عنه أعظم حكام المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جوهر الديموقراطية في أول خطبة له عندما خطب بين الناس وقال : " أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتموني علي حق فأعينوني ، وإن رأيتموني علي باطل فسددوني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم " .
إن الذين رفضوا وصف الإسلام بالديموقراطية ظلموا دينهم حقا ، وأضروه من حيث أرادوا النفع ؛ لأنهم جعلوا غيرهم يفهمون أن الإسلام ضد الديموقراطية ، وأعطوا غيرهم من الغرب الفرصة بأن يتغني ليلاً ونهاراً بأنه مبتكر الديموقراطية ، وراع للديموقراطية ومبادئها وما فيها من حرية ومساواة ، مع أن هذه المفاهيم جاء بها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ، في وقت كانت البشرية لا تعرف فيه سوى القتل والاستبعاد ، والنهب والسرقة والظلم والبغي والزنا والفجور إلي غير ذلك من الجرائم البشعة ، والأعراف السيئة التي كانت بمثابة قوانين تحكم الكرة الأرضية في ذلك الوقت .
جاء الإسلام بهذه المبادئ في تلك الفترة الصعبة من تاريخ البشرية ، ونجح نجاحاً باهراً في تحقيق هذه المبادئ علي أرض الواقع.
إن التاريخ لن ينس الكلمة الخالدة لعمر بن الخطاب خليفة المسلمين الثاني لواليه عمرو بن العاص : " متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " هذه هي الحرية التي عرفها المسلمون الأوائل ، وهذه هي مبادئ الديموقراطية التي جاء بها الإسلام والتي جعلت عليا وهو أمير المؤمنين يقف بجوار يهودي أمام القاضي ، ويحكم القاضي لليهودي بالدرع وهو يعلم تماماً أن علياً لم ولن يكذب في ادعائه أن الدرع ملكه ، لكن القاضي لم توضع بين يديه بينة يحكم بها لعلى ، فلم يجامل في حكمه حتى وإن كان المحكوم عليه هو أمير المؤمنين وإن كان المحكوم له هو يهودي لا حول له ولا قوة .
كان من الأولى للرافضين لكل ما هو جديد ومستحدث من مصطلحات أن يفهموا جوهر الديموقراطية وحقيقتها ، ويبينوا للبشرية بأكملها أن الديموقراطية التي جاء بها الإسلام خالية من كل نقيصة ورذيلة متعلقة بديموقراطية الغرب ، التي تكيل بأكثر من مكيال والتي تدعي المساواة بين البشر في الوقت الذي تفرق فيه بينهم حسب أجناسهم وألوانهم وأديانهم ، وتدعي الحرية لكنها وللأسف حرية سافرة تدعو للإباحية والخلاعة فتدافع عن الشذوذ الجنسي ، ولا تمانع من التطاول على الأديان والمقدسات دون أدنى احترام لأهل هذه الديانات وأصحاب هذه المقدسات .
إن المتشنجين من المسلمين الرافضين لكل مصطلح جديد من حولهم يجب أن يعلموا أن الرفض لأي فكرة جديدة قبل مناقشتها منهج غير سليم ، وأن قرآننا وديننا قائمان على محاورة الآخرين ومناقشتهم وقبول الحق منهم ورفض الباطل لكن الرفض كمبدأ ينافى دينناً الحنيف .
لقد ناقش القرآن الكريم المشركين ، كما ناقش اليهود والنصارى ، وحاورهم بأرقي أساليب الحوار ، والتي فيها من الأدب ما فيها ، بل لقد ورد في عدد كبير من سور القرآن الكريم حوار الشيطان مع ربه عز وجل.
فالرفض لأي فكرة جديدة قبل مناقشتها بدعوى أن الإسلام غني عنها ذلك هو الجهل بعينه ، وخاصة أن هذه الأفكار تفرض نفسها على مجتمعاتنا شئنا أم أبينا ، والرفض المتكرر لكل مواجهة مفروضة علينا لا معنى له إلا أنه استسلام مهين ، لم يأت حتى بعد بذل القليل من الجهد والمعرفة والبحث للمواجهة على أسس علمية سليمة ، وأصحاب هذا الموقف سيعيشون دوماً يتجرعون مرارة الهزيمة .
ونخلص مما سبق إلى أنه يجب مناقشة أي مصطلح جديد وما يحمله من أفكار ، وتوضيح إيجابيات وسلبيات هذه الأفكار ، وجوانب الخير وجوانب الشر فيها ، فلربما رفضنا مصطلحا جديدا قبل أن نعرف شيئاً عن الأفكار التي يتضمنها هذا المصطلح ، فتتسلل إلينا هذه الأفكار التي يحتويها ، دون أن ندري ودون أن نأخذ حذرنا منها ، ففي تلك الحالة سنجد أنفسنا نسقط مرة تلو الأخرى لأن عدم معرفتنا لطبيعة الشر في هذه الأفكار إن كانت تحوى شرا ستجعلنا عاجزين عن التعامل معها والتصدي لها ، وعدم معرفتنا لطبيعة الخير في هذه الأفكار إن كانت تحوى خيرا ستجعلنا نتأخر قرونا من الزمان.