المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل إطلاق لفظ "خليفة الله" صحيح شرعاً



abusalman100
06-07-2005, 06:15 PM
السلام عليكم
الرجاء من الأخوة التعليق الهادف على المقالة حتى أهذبها و أعدها للنشر أذا صلح ذلك
و السلام عليكم
أخوكم أبو سلمان
abusalman102@yahoo.com
abusalman102@gmail.com


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على رسوله المصطفى الأمين
وعلى آله و صحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد
هل إطلاق لفظ "خليفة الله" صحيح شرعاً

كاتبه الفقير الى مغفرة ربه
أبو سلمان ضياء الدين ابرلي
مع تعليقات فضيلة الشيخ حامد العلي (بالأخضر) بين قوسين ((
و تعليقة في آخر المقالة لفضيلة الشيخ د.فاروق الدسوقي ( بالأزرق الغامق) بعد <<<

قال تعالى (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)) (البقرة 30).
أخبر الله تعالى في هذه الآية عن تكريمه لآدم عليه السلام و أنه جعله خليفة ، وقد اختلف العلماء خليفة لمن ؟ قال ابن الجوزي : "والخليفة: هو القائم لمقام غيره، يقال هذا خلف لفلان و خليفة، وفي معنى خلافة آدم قولان أحدهما: أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه و دلائل توحيده، والحكم في خلقه، وهذا قول ابن مسعود و مجاهد. والثاني: أنه خلف من سلف في الأرض قبله وهذا قول ابن عباس والحسن."
[ زاد المسير في علم التفسير 1/60]
وذكر ابن جرير قبله القولين و نقل الروايات وقال في الأول: " فكان تأويل الآية على أني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقه وأن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه، أما الإفساد و سفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه ))."
[ابن جرير / جامع البيان 1/ 200، وابن كثير / التفسير 1/70]
ولقد شدد بعض العلماء النكير على عبارة كون الإنسان خليفة الله، لأن الله أعز و أجل من أن يخلفه أحد، فهو سبحانه لا يموت ولا يغيب أبدا ولا يحتاج إلى الاستخلاف، بل الخلق كلهم فقراء إلى الله، وهو سبحانه خليفة لمن يغيب كما في الدعاء السفر: " اللهم أنت الصاحب في السفر و الخليفة في الأهل … "
[رواه مسلم رقم:1342 ، وأبو داود رقم 2598 ، والترمذي رقم 3438،3439 وغيرهم]
و جاء في الحديث الصحيح في فتنة الدجال قوله صلى الله عليه وسلم: " والله خليفتي على كل مسلم."
] رواه مسلم رقم : 2937، وأبو داود رقم 4/166 ، والترمذي 3/346 ، وابن ماجة رقم :4077[
ونسب بعضهم من يقول بلفظ خليفة الله إلى الفجور.
[ انظر الماوردي / الأحكام السلطانية 17 ، النووي / الأذكار 320-321 ، ابن تيميه / مجموع الفتاوى 35/43-46 ، الالباني/ سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/120 ]
وبالغ شيخ الإسلام ابن تيمية في إنكاره حتى قال: " فمن جعل له خليفة فهو مشرك به،" [ مجموعة الفتاوى 25/45 ]

(( قد ذكر شيخ الاسلام هذا في سياق يدل على أن المعنى : من جعل لله تعالى خليفة يقوم مقام الله تعالى ، على أنه سمي وكفء لله تعالى فهو مشرك ، فقد قال رحمه الله [ فالله هوالغني الحمد له ما في السموات وما في الارض وما بينهما ( يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن ) ( وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله ) ولايجوز أن يكون أحد خلفا له ، ولايقوم مقامه لأنه لاسمي له ، ولاكفء له ، فمن جعل له خليفة فهو مشرك به ] مجموع الفتاوى 35/45، فمقصد شيخ الاسلام أن من يرد بجعل خليفة لله تعالى هذا المعنى فهو مشرك ، ولم يقصـــد رحمه الله أن كل من يطلق هذه الاضافة ( خليفة الله ) فهو مشرك ))

وذكر قاعدة " وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان قبله." [منهاج السنة 7/202]
ويبدو أن ما حمل ابن تيمية رحمه الله على هذا الموقف الشديد هو ما رأى من بعض المبتدعة من الغلو في هذا المعنى – كابن عربي المتصوف المشهور – فتدرج بهم الأمر إلى مشابهة الخليفة بالمستخلف والخلق بالخالق، سبحانه عما يقولون وعما يشركون، حتى انتهى إلى قولهم بعقيدة وحدة الوجود وهو أن الخالق عين وجود هذه المخلوقات، وادعى بعضهم الحلول ومقام الألوهية فترك هؤلاء العبودية بمغالاتهم فانسلخوا من الدين القيم كليا، ولا شك أنهم من أشد الناس شركا وكفراً بالله. [انظر ابن تيميه/ مجموع الفتاوى 25/44 ]
بيد أن ابن تيمية نفسه يذكر كثيراً في مؤلفاته في معرض بيان عقيدة السلف في صفات الله عز وجل بأن اشتراك الخالق والمخلوق في صفة من الصفات كالوجود والحياة والعلم والسمع و الرحمة والإرادة وغيرها من الصفات لا يلزم المماثلة أو التشبيه في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة أو التخصيص أو التقييد. [انظر ابن تيميه /مجموع الفتاوى 2/10 ]

(( هذه القاعدة لاتجري هنا ، لان الانسان وإن كان يطلق عليه خليفة ، والله تعالى أيضا اطلق على نفسه أيضا هذا اللفظ في بعض النصوص ، والإطلاقان لايقتضيان تشبيها .
غير ان البحث هنا في باب آخر ، وهو هل يطلق على الانسان أنه خليفة الله تعالى ، أما كونه يطلق عليه خليفة فهذا لانزاع فيه ، كما أنه لانزاع في أن معنى كون الانسان خليفة ، لايشبه بوجه من الوجه المعنى المقصود بأن الله تعالى هو الخليفة في الاهل ، وهو الخليفة على كل مسلم كما ورد ي الاحاديث ))

وقال بعض العلماء إنما يسمي آدم و داود وحدهما عليهما السلام خليفة الله لورود النص بذلك أي قوله عز و جل في آدم عليه السلام (( إني جاعل في الأرض خليفة )) (البقرة 30 )، وقوله تعالى في داود عليه السلام (( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ))(ص 30).
[ منهم البغوي كما ذكره النووي في الأذكار 320-321 ]
ولا شك أن جماعة من العلماء القدماء والمعاصرين فهموا الخلافة في الآية بأنه خليفة الله سبحانه بدون المعاني الباطلة الفاسدة التى لصقتها به المبتدعة. يقول الشاطبي مثلا أن حقيقة كون الإنسان خلق لعبادة الله (أي بتكليفه أن يعمل وفق قصد الشرع بالمحافظة على ضروريات حياته وما يرجع إليها ): "أن يكون خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته و مقداره وسعه، وأقل ذلك خلافته علي نفسه، ثم على أهله، ثم على كل من تعلقت له به مصلحته ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )) و في القرآن الكريم ( آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) (الحديد7) ، وإليه رجع قوله تعالى : (إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة 30)وقوله:( ويستخلفكم فينظر كيف تعملون ) (الأعراف 129) وقوله:( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض و رفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) (الأنعام165) والخلافة عامة و خاصة حينما فسرها الحديث …" [ الموافقات 7/221-227 والحديث "كلكم راع …" رواه البخاري رقم :893 ، ومسلم رقم 1829 ، وأبو داود رقم 2928 ، والترمذي رقم :2293 ، والنسائي 8/227 ، واحمد 5/28، 42،47،51 وتمامه " كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته والامام راع و مسئول عن رعيته والرجل راع في أهله و مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها و هي مسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته". ]
وقال الراغب الاصفهاني:"و الخلافة النيابة عن الغير إما لغيبة المندوب عنه و إما لموته وإما لعجزه وإما لتشريف المستخلف و على هذا الوجه الاخير استخلف الله أولياءه في الأرض" ثم ذكر الايات. [ المفردات 106 ]
ولقد انتصر د. فاروق الدسوقي للقول أن الإنسان خليفة الله لان الاستخلاف مقيد، فلا أحد يخلف الله عز وجل في الألوهية و الربوبية سبحانه وتعالى عن ذلك، إنما الخلافة هنا بما يناسب المستخلِف والمستخلَف نحو المعنى الوراثة في قوله تعالى: ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) (الزمر 74) ، فلا يلزم غياب الله – أعوذ بالله – في الاستخلاف كما لا يلزم الموت- أعوذ بالله- في الإرث المذكور.
[ فاروق الدسوقي / استخلاف الإنسان في الأرض 78 ]

(( يمكن الجواب على الاستدلال بقوله تعالى ( وأورثنا الارض ) أنه ليس في الاية سوى أنه سبحانه هو الذي أورث بني آدم الجنة ، وليس فيها ذكر نسبة أنهم ورثوها من الله سبحانه ، بل هذا الامر لم تتعرض له الاية ، ويحتمل أن المقصود أن الله تعالى جعلها كأنهم ورثوها من غيرهم تشبيها بتصرف الوارث في مال مورثه بغير حساب ، وقد قال بعض أهل التفسير أن الله تعالى ورّثهم من أرض الجنة ماكان للكفار لو أنهم أسلموا ، ويدل عليه حديث عذاب القبر وقد ورد فيه أن الكافر يرى مكانه في الجنة لو أنه أسلم ، ثم يرى مكانه في النار بعد ذلك ، وقد ظهر لي في ذلك معنى آخر ، وهو أن الله تعالى أباح لادم كل الجنة في قوله ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) ثم إن بني أدم عندما يدخل صالحوهم الجنة ، فكأن كل واحد منهم ورث من أبيه نصيبه ، على قدر طاعته لله تعالى ، وعلى آية حال فثمة فرق بين الإرث والاستخلاف ، فالإرث لايلزم منه غياب المورث ، ولهذا يقال في اللغة ( أورثته الحمى ضعفا ) وهو لايزال محموما ، كما يقال ( أورثته العجلة طيشا ) ، ويقال ( الذنوب تورث قسوة القلوب ) ونحو ذلك ، بينما الاستخلاف ، لايكون إلا مع غياب المستخلف ))

فالاستخلاف بما يناسب جلاله سبحانه و تعالى، وقد امتحن الله تعالى الإنسان حيث أعطاه حرية الاختيار بأن يكون عبدا لله أو عبدا لغيره، أما كونه عبدا وخليفة فالإنسان خلق هكذا بالجعل الإلهي فلا خيار له فيه، أي أنه مفطور على العبودية والخلافة وهذا حقيقة ابتلاءه في الأرض. [ المصدر نفسه ، ص 9 ]
وكان من الممكن لدكتور الدسوقي أن يتوسع في هذا النوع من الاستدلال، فقد روى البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال:"مر النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فاثنوا عليها خيرا فقال وجبت ثم مر بأخرى فاثنوا عليها شرا او قال غير ذلك فقال وجبت. فقيل يا رسول الله لم قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت . قال شهادة القوم، المؤمنون شهداء الله في الأرض." [ رواه البخاري 2742 ]
و في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "شهداء الله في الأرض أمناء الله على خلقه قتلوا أو ماتوا."
[ رواه احمد وصححه الالباني ، وصحيح الجامع الصغير 2816 ]
فالله تبارك و تعالى لا حاجة له بشهادة الإنسان في الأرض ولا شهادة ملائكة المتعاقبة كما في أحاديث أخرى،
[ رواه البخاري و مسلم 727 وغيرهما]
وأنه يعلم ما في السماوات و الأرض و ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) (سبأ3) والله سبحانه هو كما وصف نفسه: ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم) الأنعام19)، مع هذا فقد اقتضت حكمة الله أن يظهر شهادة الملائكة و شهادة بني آدم ليكون أبلغ في إظهار عدله و فضله و أقوى في إقامة الحجة على من استوجب الجزاء.
وقد قرن الله بين شهادته و شهادة ملائكة و العلماء في أهم الأمور وأجلها وهو توحيده فقال سبحانه : ( شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) (آل عمران18).
وعلى هذا المنوال يقال فيما ورد في" سلطان الله" كقوله صلى الله عليه وسلم : "من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله ومن اجل سلطان الله في الأرض أجله الله يوم القيامة." [ رواه احمد و الترمذي و حسنه الالباني في صحيح الترمذي 1817 ]
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله." [ رواه احمد 5/44 والترمذي 2225 ، والطياليس 147 و البهيقي في السنة 8/162 والبخاري في التاريخ 2/266 ، وابن ابى عاصم في السنة 1051 ، وحسنه الالباني في الصحيحة 5/276 ]
وورد في كلام دار بين عياض بن غنم رضي الله عنه و هشام بن الحكم رضي الله عنه حيث أنكر هشام على عياض بعض الشدة في إقامة الحدود، فرد عليه عياض و روى له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أراد ان ينصح السلطان بأمر فلا يبد له علانية و لكن ليأخذ بيده فيخلوا فان قبله منك فذاك وإلا قد أدى الذي عليه له. [ رواه أحمد 3/403 ، والحاكم 3/290 ، والطبراني في الكبير 17/367 ، وابن أبي عاصم 2/507 وهو صحيح المجموع طرقة كما قال الشيخ الالباني في تحقيقه للسنة لابن ابي العاصم ] ثم قال عياض: وإنك يا هشام لانت المجترئ إذ تجترئ على سلطان الله فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك و تعالى." [ هذه رواية احمد 3/403 ]

(( يجاب عن ذلك أن الشهادة لاتقتضي غياب المشهود له ، بل الله تعالى يشهد من يشاء من عباده ، لانه لاأحد أحب إليه العذر من الله تعالى ، وهو سبحانه يكثر الشهداء على عباده ، حتى إنه سبحانه يجعل أيديهم وأرجلهم وألسنتهم تشهد عليهم ، لئلا يكون على الناس حجة بعد الرسل .
وكذلك كون السلطان ظل الله تعالى ، يختلف الامر هنا عن الاستخلاف ، ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله تعالى [ والاوي إلى الظل المكتنف بالمظل صاحب الظل ، فالسلطان عبدالله مخلوق مفتقر إليه لايستغني عنه طرفة عين ، وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك ، من معاني السؤدد والصمدية التي بها قوام الخلق ما يشبه أن يكون ظل الله في الارض وهو أقوى الاسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده ،فإذا صلح السلطان صلحت أمور الناس ] مجموع الفتاوى 35/46 ، والمقصود هنا تشبيه السلطان بظل وضعه الله تعالى في الارض ، يأوي إليه الضعيف والملهوف ، والسلطان الذي شبهه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ـ إن صح ـ بظل الله تعالى ، مفتقر أيضا إلى الله تعالى ، لايستغني عنه طرفة عنه ، والله تعالى قائم عليه مقيم له ، لايغيب عنه ، ولم يستخلفه عن نفسه سبحانه وتعالى ، والخلاصة أن المعنى الذي من أجله أطلق على الانسان أنه خليفة الله تعالى ، ليس موجودا في الاستشهاد ، ولا في كون السلطان ظل الله تعالى ))

والله تعالى هو الملك المتصرف في خلقه كيف يشاء وهو رب العالمين له الحمد و له الملك، وله الخلق وله الأمر، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، ولا يقال انه يحتاج إلى أحد من مخلوقاته او ان أحد من مخلوقاته يشاركه في شيء من ملكه -أعوذ بالله . فالمراد بسلطان الله الإضافة التشريفية للسلطان الحاكم المسلم الذي يقيم أحكام الله على الأرض بالعدل وينفذها بقوة سلطانه و يوافق مراد الله بإقامة معالم العبودية لله عز وجل. ولا يقال كما قال بعض المبتدعة أن الله له جسم نوراني ثم لجسمه ظل و ظله هو الحاكم السلطان ثم يذهب مذهب المبتدعة الصوفية القائلين بوحدة الوجود أو الحلول، فهذا هو المحظور الخطير نفسه الذي كان يخافه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في إطلاق لفظ خليفة الله. وقد أخذ الباطنيون الاسماعيليون - كالنزارية الاغاخانية - بذلك فعلا كما قال به المتصوفة أيضا. [ انظر ابن تيمية/ مجموع الفتاوى 30/45 : محمد أحمد الخطيب/ الحركات الباطنية، ص107 ]
وقال ابن قيم الجوزية بعد أن نفى صحة القول وكيل الله: "على انه لا يمتنع بان يطلق ذلك باعتبار انه مأمور بحفظ ما وكله فيه رعايته و قيام به." [ مدراج السالكين 2/137 ] فانك ترى انه يصحح هذا الإطلاق إذا تجرد عن المعاني الفاسدة التي قد يقصده الجاهل أو المبتدعة ويراعي المعنى الصحيح المقيد.
وهكذا نقول في إطلاق خليفة الله باعتبار ما سبق عن مثل الإمام الطبري والإمام الشاطبي رحمهما الله انه الخليفة الذي يقيم على نفسه وعلى غيره أحكام الله العادلة الحكيمة وينفذ ما استخلفه الله فيه على الأرض، فالمعني المقصود تحقيق دين الله وعبادة الله و توحيده الخالص. وهكذا نراعي المعنى الصحيح المقيد.
ثم لقد وجدنا في السنة النبوية ما يؤكد لنا تصحيح إطلاق خليفة الله على من يقوم بحقه، و ذلك ما رواه إمام احمد و ابن ماجة والحاكم وغيرهم بسندهم عن أبى قلابة عن اسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله:" يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلا لم يقتل قوم – ثم ذكر شيئا لا احفظه – فقال فإذا رأيتموه فبايعوا ولو حبوا على الثلج فانه خليفة الله المهدى." [ رواه أحمد 5/277 ، وابن ماجه 4084 ، والحاكم 4/463 ، ذكره يوسف المقدسي السلمي الشافعي في كتابه " عقد الدرر في اخبار المنتظر المهدي" رقم 105 ، 107، 195، و نسبه ابي نعيم في صفة المهدي، حكاه عنه كذلك السيوطي في الحاوي 7/60 ،و أبو عمرالداني في السنن الواردة في الفتنة 5/93 ب . وأورده عبد العظيم بن عبد العظيم في رسالته المقدمة إلى جامعة ملك عبد العزيز مكة 1398 ه - 1978م بعنوان " الأحاديث الواردة في المهدي في ميزان الجرح والتعديل في تقسيم الصحيح الصريح " و زاد في تخريجه عن من سبق البيهقي والديلمي ، والله أعلم . ]
ولقد اختلف العلماء في صحة هذا الحديث: وعلله فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الاباني من المعاصرين حفظه الله بعلتين: الأولى بعنعنة أبي قلابة و تدليسه ، والثانية بنكاره لفظ خليفة الله، وذكر قول شيخ الإسلام ابن تيمية في عدم جوازه في الشرع. [ انظر الالباني/ السلسلة الضعيفة ، رقم 75 - 1/119 ]
والجواب عن العلة الاولى ان أبي قلابة هو عبد الله بن زيد الجرمي البصري احد الاعلام التابعي، ثقة مشهور، وتدليسه في المرتبة الاولى عند ابن حجر وهم الذين لم يوصفوا بذلك إلا نادرا. [ ابن حجر / طبقات المدلسين 12 ،71 ]
وقد روى هذا الحديث بعينه عن اسماء الرحبي وهو من شيوخه،[ ابن حجر / تهذيب التهذيب 5/225 ]
فثبت سماعه و انتفت الشبهة حول عنعنته وتدليسه.
ولقد صحح هذا الحديث وإسناده غير واحد من العلماء، ففي الزوائد قال البوصيري هذا اسناد صحيح. انظر هامش مسند ابن ماجة ، رقم 4084 ]
وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين و وافقه الذهبي . [الحاكم 4/502 ، والحق ان يقال ان الذهبي تناقض أقواله قيه لأنه في الميزان الاعتدال علله بنكارة وكأنه أشار إلى لفظ خليفة الله ، والله أعلم ]
وقال ابن كثير هذا إسناد قوي صحيح . [ النهاية في الفتن والملاحم 1/29 ]
ومن المعاصرين ممن صححه الشيخ عبد العظيم بن عبد العظيم . [ في رسالته المذكورة آنفا ]
فالحديث صحيح من حيث سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ان شاء الله والله أعلم. ومما يؤيد تصحيح الحديث ان الامام مسلم روى أربعة الأحاديث بسنده عن أبي قلابة عن أسماء الرحبي عن ثوبان رضى الله عنه، اوله رقم(944) عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:"افضل دينار ينفقه الرجل ينفقه على عياله و دينار ينفقه على دابته في سبيل الله و دينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله." و ثانيه رقم (1920) قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله و هم كذلك." و ثالثه رقم (2068) قال النبي صلى الله عليه و سلم: "من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع." و رابعه رقم (2889) قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها و إن أمتي سيبلغ ملكها ما ما زُوى منها… الحديث بطوله.
و اما تعليل الحديث بنكارة لفظ خليفة الله، واحتجاج لذلك بما راوه امام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه: "قيل له يا خليفة الله فقال أنا خليفة رسول لله صلى الله عليه وسلم و أنا راض به وأنا راض به." [ المسند 1/1-11 ، والخلال في السنة 1 /274 رقم 334 ، وذكره ابن تيمية في مجموعة الفتاوى كما نقله الالباني في الضعيفة بلفظ " لست بخليفة الله ولكن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبي ذلك " . و رواية امام احمد مرسل لان الراوي ابن ابي مليكة وهو عبد الله بن عبيد الله التابعي الثقة المشهور لم يدرك أبي بكر و لا عمر رضي الله عنهما. انظر ابن حجر / تهذيب التهذيب 5/307 ]
فالجواب عنه اولا ، إن المشهور أن لا يقال لما خالف الثقة به ثقة آخر فيه نكارة لان ذلك يشعر بعدم ثقته بل يقال فيه شذوذ كما تقرر في مصطلح الحديث ان الحديث الذي فيه مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه هو الحديث الشاذ وهو من انواع الضعيف، والحديث المنكر هو ما فيه مخالفة الضعيف لمن هو أوثق منه فهو اشد ضعفا . وهذا الحديث رواته كلهم ثقات فهو من قبيل زيادة الثقة وهو زيادته مقبولة كما قرره علماء الحديث ، فلا شذوذ او نكارة في الحديث ولله الحمد،إلا أن يكون المراد هو نكارة اللفظ – و هذا المتعين لمراد العلماء الذين ضعفوا الحديث لأنهم من المحدثين ويعلمون المصطلحات - و نحن الآن في صدد بيانه.
وثانياً ان ابا بكر رضي الله عنه لم يستنكر لفظ خليفة الله بعينه بل غاية ما يؤخذ منه انه أنكر إطلاق اللفظ على نفسه تواضعا لمقام الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد يقال ان مفهومه ان النبي صلى الله عليه وسلم هو خليفة الله و انما انا خليفته بعده راض به ان انزل منزلة دونه وخلفه. و لا شك إنه اذا ثبت أن آدم و داود عليهم السلام كلاً منهما خليفة الله فرسول الله صلى الله عليه و سلم خليفة الله من باب أولى. و تواضع ابي بكر رضي الله عنه معروف فانه تأخر عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده و مصلاه، ونزل منزلة عن مقامه عن المنبر، و تأخر عن امامة الناس في حياته مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم خلفه رغم إشارته صلى الله عليه وسلم ان يثبت مكانه و يكمل الصلاة اماماً، فرضي الله عنه و أرضاه.
وكل خليفة و حاكم مسلم يأتي بعده فإنما هو خليفة عنه، و يروى أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه "يا خليفة خليفة رسول الله، فقال هذا امر يطول، كلما جاء خليفة قالوا يا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل انتم المؤمنون و أنا أميركم فسُمى أمير المؤمنين." [أنظر ابن كثير/البداية و النهاية 7/150 ] وقد أمرنا النبي صلي الله عليه وسلم بإقتداء بأبي بكر وعمر خاصة وبالخلفاء الراشدين عامة فقال:" اقتدوا بالذين بعدي" يشير الي أبي بكر و عمر رضي الله عنهما. [ رواه أحمد 5/382 والترمذي (2663) وغيرهما و إسناده صحيح]
و قال النبي صلي الله عليه وسلم:"أوصيكم بتقوى الله والسمع الطاعة و إن كان عبداً حبشياً فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و ايّاكم و محدثات الامور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة." [ رواه احمد 4/126 وابو داود (4607) والترمذي (2676) وإبن حبان (5) والحاكم 1/95 والطبراني في الكبير 18/240 ]
وقد جرت السنة عند الخلفاء والملوك التأدب والتواضع فكانوا على سنة عمر رضى الله عنه.
وثالثا ان القول بان المراد في تفسير آية سورة البقرة انه خليفة عن الله منقول عن السلف الصالح من الصحابة و التابعين ومن بعدهم فكيف يكون منكراً، لا سيما وان القول انه خليفة لمن سبقه وجدنا هذا مستنبطاً من الروايات ان الجن سكن الأرض قبل الإنسان فعتوا فيها فساداً، ولذلك قال الملائكة (( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )) (البقرة :20). [انظر ابن كثير في تفسيره 1/70-72 ] ولكن لا منافاة بين هذا القول والقول انه خليفة الله فان بينهما ترابط و تلازم كما هو واضح .

(( يمكن أن يجاب عن كل ما تقدم أن معنى قوله ( خليفة الله المهدي ) أنها إضافة تشريف كما في ( السلطان ظل الله تعالى ) وذلك مثل قوله تعالى ( ناقة الله ) وقولــه ( وأنه لما قام عبدالله يدعوه ) مع أن كل الناس عباد لله تعالى ، ويدل على انها إضافة تشريف ، أن المستدلين بها على أنه يصح أن يقال عن الانسان أنه خليفة الله تعالى ، بمعنى أنه يخلف الله تعالى بالعدل بين عباده ، لايخصون المهدي بذلك ، بل يقولون إن الانسان خليفة الله تعالى ، قد استخلفه الله تعالى عن نفسه ، فإذن تخصيص المهدي بالذكر يدل على أنه خليفة مخصوص منسوب إلى الله تعالى إضافة تشريف ، كما نقول ( هذا من رجال الله تعالى ) و ( هذا جيش الله تعالى ) وهذا واضح جدا ، كما أن قول أبي بكر رضي الله عنه لم يكن تواضعا فحسب ، لانه ليس وحده خليفة الله ، عند القائلين بجواز هذا الاطلاق ، فلماذا يتواضع ، بل أنكر ذلك لما يعلم من معنى الاستخلاف ، وأنه يقتضى غياب المستخلف ، وحاجته إلى من يخلفه في غيابه ، فكره أن يطلق عليه ذلك ))

و يشهد لصحة استعمال لفظ خليفة الله تداوله في الأثر والشعر،
فمثلا يروى أن ابا مسلم الخولاني أنكر على بعض الناس فقال له معاوية رضي الله عنه:"يا ابا مسلم ما لك ولبني أخيك؟ قال قلت لهم مررتم على أهل الحجر؟ قالوا نعم. قلت كيف رأيتم صنع الله بهم؟ قالوا صنع الله ذلك بهم بذنوبهم. فقلت أشهد أنكم عند الله مثلهم. فقال و كيف يا أبا مسلم؟ قال: قتلوا ناقة الله و قتلتم خليفة الله، وأشهد على ربي لخليفة الله أكرم عليه من ناقته." [ رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ص499 نقلاً عن د. محمد مخرون/ تحقيق موقف الصحابة في الفتنة 2/45 ]
و ورد عن الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلي الله و عمل صالحاً و قال إنني من المسلمين) (فصلت 33): "هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته و دعا الناس الى ما أجاب الله فيه من دعوته و عمل صالحاً في إجابته: إنني من المسلمين. هذا خليفة الله." ذكره العماد ابن كثير في تفسير الآية عن عبد الرزاق عن معمر عنه وذكره عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد ص70 ]
و من الشعر الوارد في رثا عثمان رضي الله عنه ما قالت الشاعرة المشهورة ليلى الأخيلية (ت80):
أبعد عثمان ترجو الخير أمـتة *** وكان أمن من يمشي على ساق
خليفة الله أعطاهم و خـولهم *** ما كان من ذهب محض وأوراق
[المبرد / الكامل 2/39 ، الطبراني / المعجم الكبير 1/42 ، نقلاً عن مرجع السابق 2/55 ]
فإذا تقرر ما سبق فما هي أركان الخلافة و ما هو معناها الصحيح. ان الخلافة تستلزم علاقتين : أحدهما العلاقة
بين المستخلف ( الله تعالى) و المستخلف (الإنسان) وهذه علاقة العبودية لله و الطاعة لشرعه. والثانية: بين المستخلف (الإنسان) وما استخلف عليه (إقامة السريعة في الأرض)، فهذه علاقة السيادة على الخلائق: " والخليفة عبد و سيد في آن واحد، عبد لمن استخلفه، وسيد على من هو مستخلف عليه، ذلك هو الإنسان. ومن ثم يجب ان ننبه إلى أن العبودية و السيادة وجهان لحقيقة واحدة هي الخلافة وهما قائمان كشيء واحد في الذات الإنسانية..." فاروق الدسوقي /استخلاف الإنسان في الأرض 19 ، وانظر له ابضا : الإسلام والعلم التجريبي 141، ومقومات المجتمع المسلم 162 - 163 ]
وإنما تتحقق هذه العبودية والسيادة اللتان هما جوهر التوحيد الإسلامي والأساس لقيام الحضارة الإسلامية بشيئين ، الدين الشرعي في جانب العبودية، والعلم التجريبي و تطبيقه عمليا (التقنية) في جانب السيادة، فالدين يوجه إرادة الإنسان إلى الخير، والعلم التجريبي و تطبيقه يوجه يوسع الإستطاعة، وبهما تتحقق الخلافة المطلوبة، بتحقيق العبودية والسيادة على نحو ما ذكر قال د. الدسوقي: " فخضوع الإنسان الحقيقي لله عز و جل وحده استعلاء و سيادة للإنسان على كل شيء في الأرض . وتحقيق الإنسان لسيادته على كل شيء في الأرض معناه التحرر من كل شيء في الأرض . وهذا يستلزم ويؤدي في نفس الوقت إلى عبودية الإنسان لله وحده، وهذا يعني ان كلا من العبودية والسيادة علة ومعلول للآخر. وهذا لا يكون بين أمرين إلا إذا كانا شيئا واحدا، وهذا ما عنيناه عندما قلنا إنهما وجهان لحقيقة واحدة ". [فاروق الدسوقي /استخلاف الإنسان في الأرض 33 ] أي فالتوحيد الإسلامي يتضمن الجانبين معا و ينظم علاقة الإنسان مع الله سبحان و علاقته مع نفسه و إخوانه من بني البشر و غيره من مخلوقات.
ويجب الانتباه الى ان جانب العبودية ليس متساو بجانب السيادة علة و معلولا بعضها ببعض كما ذكر الدكتور، بل العبودية هي الغاية التي لأجلها خلق الله الخلق و وهب الله ما وهبه لآدم عليه السلام من السيادة والكرامة و علمه ما علمه من أسماء كل شيء. قال تعالى: ((وما خلقت الجن و الانس إلا ليعبدون )) (الذاريات , 56). فالسيادة بالعلم والعمل علتها العلة الفاعلة، و أما العبودية فعلتها العلة الغائية، والعلة الغائية أهم وأشرف من الفاعلة حيث أنها تتضمنها و تشملها، لانها علة فاعلة للعلة الفاعلة، كما أن الغاية تشمل الوسيلة إلى تحقيقها. فلا يلتفت الإنسان إلى جانب السيادة إلا تحقيقاً لإخلاص العبادة لله تعالى، أي إنه كمطية يركبها العبد ليتتبع مرضاة الله تعالى. وعلي هذا فالعبد يستعين بربه علي حسن عبادته لأن المخلوقات تفتقروا الى الرب الخالق فقراً ذاتياً كما قال شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله :"من جهة العبادة وهي العلة الغائية ومن جهة الاستعانة و التوكل وهي العلة الفاعلة." [العبودية 59،وانظر مجموعة الفتاوى 10/194، 4/24، 20/167-183، درء التعارض 9/270. ]
وعلى هذا يشرع للمؤمن بل يجب عليه أن يعمل في الامور الدنيوية ليكتسب أسباب الغنى والقوة لا لمجرد التمتع كما هو الغاية في كثير من المجتمعات ، ولا لكي ينغمس في حالة الرفاهية والتنعيم ويلهي نفسه في الملذات و يقهر الآخرين فيكون له عندهم جاه و منزلة وله عليهم سيطرة و سلطان، ولكن بمعنى أن الغنى والقوة وسيلة ضرورية لكمال العبادة ولانتشار رسالة الإسلام بما فيه من الخير والبركة والرحمة للناس أجمعين والحكم بالعدل بين الخلق أجمعين. ذلك لأن بالغنى يعف المرء نفسه ومن يعول ، ويقوم بالعبادات المالية من الصدقة والاتفاق في وجوه الخير ، وبالقوة يستقيم أمره و يقوم بالعبادات البدنية كالصلاة والصوم و الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقوم بالعبادات المشتركة بين المالية و البدنية كالحج و الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وهي الشهادة ان لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي إقامة الحكم بشرع الله تعالى .
و يجب الانتباه أيضا إلى أن استخلاف الله سبحانه و تعالى للإنسان حقيقة ابتلاه و امتحانه لينظر كيف عمله فيه،فهو تكليف شرعي فمرتبط بالعهد الذي أخذه الرب على عباده، وهو من الأمانة التي اشفقن من حملها السماوات والأرض و الجبال عظمتها. قال تعالى( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أ لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. أن اعبدوني هذا صراط مستقيم) (يس 60-61). وقال تعالى( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً. ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً) (الأحزاب 82-83). فالعبد مستخلف ومؤتمن وكل مستخلف عليه عهد وأمانة، وهو مسؤل أمام سيده رب العالمين على العبادة وعلى ترك الشرك وعلى الحكم بما أنزله الله بالعدل حسب علمه واجتهاده واستفراغ وسعه، ثم عليه المبادرة بالتوبة الى أرحم الراحمين فتلك غاية الغايات ومولاه الغفور الرحيم.
ويجب الانتباه ثالثاً الى ان الاستخلاف لكل انسان بحسب مسؤليته كما قال الشاطبي فيما مضى، ويشهد له الحديث:"كل نفس من بن آدم سيد فالرجل سيد أهله والمرأة سيدة بيتها." [ رواه ابن السني و أبو بكر المقري و صححه الألباتي في الصحيحة(2040)]
والخلافة الكبرى هي الإمامة الكبرى وقد أجمعت الامة على وجوب نصب اماماً يحكم بشرع الله ويحفظ الدين و ضرورات حياتهم. [انظر عبد الله الدميجي/ الإمامة الكبرى 45-58 ]
و إنما أوجب على الأمة طاعته في طاعة الله و طاعة الرسول صلى الله عليه و سلم وفيما يسوغ الاجتهاد فيه لقيامه بهذه المهمات، فالأمر أمانة متبادلة بين الراعي و الرعية. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الولاية والوظيفة في الدولة الاسلامية قائلاً:"إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى و ندامة إلا من أخذها بحقها و أدى الذي عليه فيها." [ رواه مسلم (1827) ] وعلي ذاك فأجمعت الأمة على وجوب منازعة الحاكم إذا كفر كفراً بواحاً حسب قدرتهم و إقامة إماما آخر مكانه يقوم بمقاصد الخلافة. [ انظر عبد الله / الإمامة الكبرى 468-473.]
فالخلاصة أ ن تفسير الآية بخليفة الله تفسير صحيح مؤيد بالحديث النبوي الصحيح و عليه آثار السلف وأقوال العلماء ، فلا نكارة فيه، بل هو مصطلح شرعي مهم لفهم عبودية الإنسان لله تعالى مخلصين له الدين و مسؤليته في سيادة المخلوقات بالعدل والحكمة والبركة .
وللبحث بقية في السياسة الشرعية يسره الله نشره.
و كاتبه الفقير الى مغفرة ربه

أبو سلمان ضياء الدين ابرلي
abusalman102@yahoo.com
abusalman102@gmail.com


الحمد لله رب العالمين الذي بعونه تتم الصالحات
و آخر دعوانا الحمد لله رب العالمين الصلاة والسلام على رسوله
و آله وصحبه ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين.


((والخلاصة أن البحث قيم ، والمسألة خلافية على أية حال ، والمنكر هو أن يطلق على الانسان أنه خليفة الله ، بمعنى أنه يخلف الله تعالى لحاجة الله تعالى أن يستخلف عنه في غيابه من يقوم بأمره ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ وأما من أطلق عل الانسان أنه خليفة الله تعالى ، بمعنى أنه يخلف الله تعالى بالحكم بالعدل بين خلقه ، والقيام بطاعته ، فهذا معنى صحيح .
غير أن في جواز هذا الاطلاق ـ في غير معنى التشريف لمن يستحقه كالمهدي عليه السلام ـ نزاع بني العلماء ، وقد رجح الباحث الالمعي الشيخ ضياء الدين أبرلي وفقه الله ، جواز الاطلاق ، وأنكر ما يقصده أهل البدع من المعنى الباطل ، وذكر أنه لايمنع ذلك من صحة الاطلاق مع بيان المقصود الصحيح ، أو ذكره في سياق يدل عليه ، والاصح عندي أنه لايطلاق إلا على معنى التشريف لمن يستحقه فقط ، وقد ذكرت ملاحظاتي على الاستدلالات التي ذكرها الشيخ ضياء الدين وفقه الله تعالى ، والله أعلم بالصواب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه))

<<<
إلى الأخ الكريم الفقير إلى مغفرة ربه إبرلي أبوسلمان ضياء الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ثم أما بعد
فقد قرأت مقالتك عن استخلاف الله تعالى الإنسان في الأرض وأشكرك على تأييدك لما جاء في كتابي بهذا العنوان كما أشكرك على ملاحظاتك القيمة وعلى إضافاتك وتحقيقاتك للأحاديث النبوية الشريفة التي تخص هذا الموضوع
وحيث أن المقال مفيد وممتاز ونافع للمسلمين فقد رأيت أن أستأذنك في إدراجه بموقعي على الشبكة المعلوماتية في باب مقال الأسبوع مع رجاء التكرم بإرسال عنوان المقال حيث لم يصل واضحا مع جزيل الشكر لكم وحيث أن من أهم ملاحظاتك أنني لم أتوسع في الاستدلال فإني أود أن ألفت نظركم إلى أنني قد توسعت في هذا توسعا - أحسب أنه لا مزيد عليه - في هذا الموضوع وذلك باصدار كتاب الخلافة الإسلامية وأصولها الاعتقادية وحتمية عودتها في مجلد يصل إلى خمسمائة صفحة وهو ضمن قائمة كتبي على الموقع ويمكنك الاطلاع غلى التعريف به وعلى الفهرس التفصيلي الخاص به
بانتظار ردكم للموافقة وشكرا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفقير إلى مغفرة ربه فاروق الدسوقي
>>> ((Sun, 11 Aug 2002 18:17:32 +0300

يوسف مراد
06-07-2005, 07:20 PM
سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين : عن قول الإنسان لرجل: "أنت يا فلان خليفة الله في أرضه"؟

فأجاب بقوله : إذا كان ذلك صدقاً بأن كان هذا الرجل خليفة يعني ذا سلطان تام على البلد ، وهو ذو السلطة العليا على أهل هذا البلد، فإن هذا لا بأس به ، ومعنى قولنا: " خليفة الله " أن الله استخلفه على العباد في تنفيذ شرعها ، لأن الله - تعالى-ستخلفه على الأرض ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ مستخلفنا في الأرض جميعاً وناظر ما كنا نعمل، وليس يراد بهذه الكلمة أن الله تعالىيحتاج إلى أحد يخلفه في خلقه أو يعينه على تدبير شؤونهم ولكن الله جعله خليفة يخلف من سبقه، ويقوم بأعباء ماكلفه الله.ا.هـ

حازم
06-07-2005, 07:28 PM
وجدت هذا البحث عن المسالة :



خليفة الله إما أن يطلق على خليفة المسلمين وإما أن يطلق على غيره كجنس الإنسان، أو بعض أنبياء الله ورسله، أو لافراد لاعتبارات ومقتضيات مختلفة.
فإن أطلق على خليفة المسلمين فلا شك أن الخلاف في إطلاقه قائم، وخاصة إن كان الخليفة غير قائم بأوامر الله متعدياً لحدوده، فإن القول بعدم جواز إطلاق خليفة الله على مثل هذا وجيه جداً، فهو إما منكر من القول محرم، وإما أن يكون كذب وباطل، وكل ذلك لايجوز على ما سيأتي بيانه.

أما إن أطلق على القائم بأمر الله الملتزم لحدوده فالأظهر الجواز وقد فعله السلف بلا نكير وسوف يأتي تقريره، وكذلك إذا أطلق على جنس الإنسان أو بعض أنبياء الله، ما لم يظهر أن مراد القائل: خلفاً عن الله أو وكيلاً ونحو ذلك من هراء باطل يندر أن يقال.

ولهذا لعل الخلاف احتدم في الأول وهو أن يقال لخليفة المسلمين خليفة الله فهو إما كذب وباطل، إن لم يكن قائماً بأمر الله، وإما صواب محتمل لخطأ [وهو المعنى البعيد] إن كان الخليفة قائماً بأمر الله.

وهناك قول غريب في التفصيل يفهم من كلام للشيخ سليم الهلالي، أحببت أن أشير إليه وقد ذكره في كتابه القول المبين في جماعة المسلمين [ص14] عند حديثه على حديث حذيفة عند أحمد وأبي داود: "فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فالزمه"، فكأنه ذهب إلى تحسين لفظ أحمد المشار إليه، ثم قال: "فإن خليفة الله في الأرض أصح من رواية صخر بن بدر العجلي خليفة الله فإنها مستنكرة رواية ودراية". أهـ فكأنه يرى صواب التقييد بالأرض، ولعل الأمر من حيث الدراية واسع كما مر، وسيأتي مزيد تفصيل وكلام على الحديث.

أصل المسألة:

لفظ خليفة (فعيلة) يجيء بمعنى (مفعولة) كنقيذة بمعنى منقوذة وسقيفة بمعنى مسقوفة وقل مثل ذلك في ذبيحة وقتيلة وضريبة ... كما يأت بمعنى (فاعلة) رحيمة بمعنى راحمة، وظعينة بمعنى ظاعنة، وقد أشار إلى إتيان خليفة على الوجهين القرطبي في تفسيره آية البقرة (إني جاعل في الأرض) [1/63]، ومثل كلمة خليفة لفظة (نصيرة) فقد ترد بمعنى فعيلة وقد تأت بمعنى فاعلة لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور، وهناك ألفاظ اختلف أهل العلم عليها هل هي بمعنى مفعولة أو فاعلة كبهيمة.

فإذا قلت خليفة الله فعيلة بمعنى فاعلة، من خلف يخلف خلفاً فهو خالف، يكون المعنى خالف الله وهذا معنى ظاهره باطل مردود لايصح إلاّ بتأويل وقد قال به بعض أجلة أهل العلم في زماننا مأولاً له بقوله: "خالف لنا في تبليغ شرعنا، وليس المراد أنه يأتي بعده ولكن خليفة لله في تبليغ شرعه وحكمه للناس" [ابن عثيمين في تفسير قوله: (ياداود إنا جعلناك خليفة)].

وإذا قلت فعيلة هنا بمعنى مفعولة، من خلف يخلف خلفا فهو مخلوف ومستخلف، فالإخبار يصح إن كان خليفة المسلمين قائم بأمر من استخلفه، وإلاّ فلا لأن الفاسق ينبغي أن يعزل في حكم الشريعة إن أمكن ذلك بغير خروج عليه، وإذا كان عزله مطلوباً فترك وصفه بماينبغي عزله عنه مطلوب، وقد نص ابن خويز منداد من المالكية على أن الظالم لايصلح أن يكون خليفة ولاحاكما ولامفتيا استدلالاً بقول اله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين) الآية وقد استدل بها غيره، وللمفسرين أقوال يمكن جمعها مع هذا القول فهي إلى اختلاف تنوع الأفراد أقرب. مع أن بعض المحققين من أهل العلم قال بجواز إطلاق اللفظ مالم يقصد معنى باطلاً ومن هؤلاء فضيلة العلامة محمد بن صالح العثيمين في المناهي اللفظية له حيث ورد هذا السؤال، فأجاب بقوله : إذا كان ذلك صدقاً بأن كان هذا الرجل خليفة يعني ذا سلطان تام على البلد، وهو ذو السلطة العليا على أهل هذا البلد، فإن هذا لا بأس به، ومعنى قولنا: "خليفة الله" أن الله استخلفه على العباد في تنفيذ شرعه لا لأن الله تعالى استخلفه على الأرض، والله سبحانه وتعالى مستخلفنا في الأرض جميعاً وناظر ما كنا نعمل، وليس يراد بهذه الكلمة أن الله تعالى يحتاج إلى أحد يخلفه في خلقه أو يعينه على تدبير شؤونهم ولكن الله جعله خليفة يخلف من سبقه، ويقوم بأعباء ماكلفه الله.

وعلى ما قرره فضيلته يكون من أطلق اللفظ على الفاسق مراعياً المشيئة الكونية لا الشرعية فقوله معتبر، وقد سمعت للشيخ –رحمه الله- كلاماً مفاده جواز إطلاقها إن أريد خليفة لله أي قائم بأمر الله في عباده.
وهذا ما قرره ابن القيم في مفتاح دار السعادة [1/152] فقد حكى قول الفريق المجيز وذكر أدلته وسرد النصوص التي تفيد استخلاف الله للإنسان في الأرض كقوله تعالى: (يادواد إنا جعلناك خليفة) (إني جاعل في الأرض خليفة)، (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض) وغيرها من آثار تناقلتها رواة الأخبار، ثم ذكر اعتراض المانعين بأن الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره في الحكم والتدبير، ثم قال [1/152]: "وحقيقتها خليفة الله الذي جعله خلفاً عن غيره، وبهذا يخرج الجواب عن قول أمير المؤمنين: أولئك خلفاء الله في أرضه"، ولعلك ترى في هذا التخريج رداً على من منع بزعمه: "الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره" [السابق]، فقد بين ابن القيم على أن حصر المراد فيما ذكروا غير لازم، ثم خرج العبارة على مراد آخر لاحرج فيه عنده وهو خليفة بمعنى مستخلف؛ "جعله الله خلفاً لغيره".

وقد ذكر الفيومي وجهاً آخر في تخريجها فقال في المصباح المنير: " قال بعضهم ولا يقال خليفة الله بالإضافة إلا لآدم وداود لورود النص بذلك . وقيل يجوز وهو القياس لأن الله تعالى جعله خليفة كما جعله سلطانا وقد سمع سلطان الله وجنود الله وحزب الله وخيل الله والإضافة تكون بأدنى ملابسة. وعدم السماع لا يقتضي عدم الاطراد مع وجود القياس ولأنه نكرة تدخله اللام للتعريف فيدخله ما يعاقبها وهو الإضافة كسائر أسماء الأجناس"[ص178]. ولعل هذا وجهاً آخر في تخريج الجملة على معنى صحيح غير الأول الذي أشار إليه ابن القيم، وكأن الفيومي يرى الإضافة هنا إضافة تشريف أو إيجاد، وقد قرر أهل العلم أن الإضافة إلى الله تكون على "ثلاث مراتب: إضافة إيجاد، وإضافة تشريف، وإضافة صفة" [فتح ابن حجر 13/444]، والإضافة في جند الله وحزب الله وخيل الله إضافة تشريف، وربما أراد إضافة إيجاد من نحو قولك : (هذا خلق الله)، أي أن الله قدره خليفة. وهو وجه سائغ وكأنه اعتبر اللفظ (خليفة) اسماً دالاً على من يلي أمر المسلمين ثم بين سبب الإضافة، وقد يرجع هذا إلى المعاني السابقة عند النظر إلى المعنى مجراً

ولعل لكون وصف خليفة المسلمين بهذا اللقب محل إلباس عند البعض كثر إيراد أهل العلم المحققين متقدميهم ومتأخريهم النهي عن هذا اللفظ في هذا الباب، أما إذا أطلق في حق جنس الإنسان فالأمر أوسع وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى هذا فقال: "واختلف في تسميته خليفة الله. فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) وقوله: (جعلكم خلائف الأرض)"، ثم ذكر منع الجمهور بالعلة التي ذكرها شيخ الإسلام في منهاج السنة حيث قال: "والمقصود هنا أن الله لايخلفه غيره فإن الخلافة إنما تكون عن غائب وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه لايحتاج في تدبيرهم إلى غيره". ولعلك تلحظ في نقل ابن خلدون تفريقه بين الاستخلاف العام لجنس الإنسان فقد جعل حجة من أجاز إطلاق خليفة الله على خليفة المسلمين القياس عليه فكأن المشهور جوازه، ثم حكى أن قول الجمهور المنع من إطلاق خليفة الله على خليفة المسلمين وفي هذا منع من إلحاق فرع بأصل، ولاشك أن إطلاق خليفة الله على خليفة المسلمين صورة خاصة من صور إطلاق هذه الألفاظ، فما حكي من إنكار الجمهور متوجه نحو الثاني الخاص لا الأول.
وحقيقة الأمر ليس في هذا ما يعارض ما نقله شيخ الإسلام في منهاج السنة فإنه كان يعني الرد على أهل وحدة الوجود ومن يزعم أن الإنسان خلف عن الله، أو أن أحداً من البشر وكيلاً عنه يدبر شأن الخلق، ولم يكن يقصد الرد على من يطلق لفظ خليفة الله بمعنى أن الله جعله خليفة يخلف عن سلف بل قرر هذا المعنى ولم ينف ورود اللفظ له فشيخ الإسلام إنما أنكر إطلاقاً مخصوصاً يبين ذلك معرض كلامه فقد قال -رحمه الله- قبل النقل الآنف عنه في تفسير الآيات (إني جاعل في الأرض خليفة) (يادود إنا جعلناك خليفة) ونحوهما "أي خليفة عمن قبلك من الخلق، ليس المراد أنه خليفة عن الله، وأنه من الله كإنسان العين من العين كما يقول ذلك بعض الملحدين القائلين بالحلول والاتحاد". بل لم يتعرض شيخ الإسلام في بادئ الأمر إلى الجملة محل الإشكال (خليفة الله) وحكم إطلاقها، وإنما منع من حمل معناها على معنى معين، واستدل لصوابه بتخَرَّج أو حمل ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه في النهي عن مناداته بخليفة الله على ذلك الوجه الذي ذكره في الرد على أهل وحدة الوجود ومن شاكلهم، ولذلك إذا تتبعت كلام شيخ الإسلام في هذا المعنى لاتجده يذم اللفظ إلاّ عند حمله على هذا المعنى وفي مثل هذا السياق أو نحوه من رد على اتحادية أو حلولية أو أهل شرك، أما في غيره فلا حرج ولا إشكال في إطلاقه عنده وهذا ظاهر صنيعه كما وسوف تأت الإشارة إليه. [كلام شيخ الإسلام في منهاج السنة 1/510 – 7/352-353 وكذلك في الفتاوى الكبرى 2/553].


ورود اللفظة في الآثار أوالأخبار المرفوعة:

وذلك على ما أشير إليه من تفصيل مر، وقبل ذلك أشير إلى أن أهل العلم درجوا على استعمالها وعلى رأس هؤلاء من نُقل عنهم الكلام في النهي عنها، الأمر الذي يدلك أنهم أرادوا أمراً خاصاً كما مضت الإشارة.
فمن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية فعلى الرغم من كلامه في المسألة في منهاج السنة وغيرها، قال عن عمر بن عبدالعزيز [الفتاوى 27/93]: "وقد كان رضي الله عنه وهو خليفة الله على الأرض قد وكل أعواناً يمنعون الداخل من تقبيل الأرض"، وهذا يدلك على صواب التوجيه وأن إنكاره الجملة كان في معرض يفهم منه حملها على محمل سيء نحا إليه اتحادية وأهل الشرك ونحوهم.
أما ابن القيم الذي نقل التفصيل البديع الذي أشار إليه البحث المحال عليه نقلاً عن العلامة بكر نقلاً عن مفتاح دار السعادة، فلم يحرمها بل نفى أن تحتمل معنى باطلاً فقط حصرها المانعون فيه، وحملها على محمل مقبول، ثم نقل في الزاد القول بالكراهة عند إطلاقها للسلطان، ومما يدلك على أنه أراد بذلك التفصيل المشار إليه، هو تخريجه لعبارة علي رضي الله عنه في أثر الكميل بن زياد : "أولئك خلفاء الله في أرضه" على ما سبقت الإشارة إليه في مفتاح دار السعادة. ويدل عليه أمر آخر وهو الفصل الذي عقده في بدائع الفوائد بعنوان: "الإنسان خليفة الله في الأرض".

أما غيرهم من أهل العلم فستعمالهم لها أكثر من أن يحصر، وبعد تتبع يسير أجريته عن طريق الموسوعات الإلكترونية والشبكة العنكبوتية وجدت أن بالإمكان تخصص كراس لنقل استعمالهم لها، ومن ضمن هؤلاء العلامة عبدالرحمن الدوسري –رحمه الله- [الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة ص20] وهو من مشايخ نجد الكبار المشهورين.

ولكن الأهم من ذلك هو استعمال السلف لها دون نكير، كما في أثر الكميل المشهور، فإن قيل إن الأثر فيه ضعف من حيث الصناعة، قيل وإن كان فيه ضعف فإنه من الشهرة بمكان حتى قال فيه ابن عبدالبر في الجامع: "وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد لشهرته عندهم"، ومع شهرته لم يُنقل استنكار أحد من أهل العلم فيه قول علي –رضي الله عنه فيه- فيه: "أولئك خلفاء الله.."، بل الذي نقل عنهم يدل على إقرارهم بحسن معناه، فقد قال الخطيب: "حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظاً" [الفقيه والمتفقه ص50]، ونقل كلامه ابن القيم في مفتاح دار السعادة مقراً [1/123].
وقد رُويت أيضاً عن سعيد بن جبير عندما سأله الحجاج ماتقول في أبي بكر فقال: "خليفة الله.." [الحلية 4/295]، ودأب أهل السير على ذكر تلك الحادثة في سياق مناقبه رحمه الله.
وقد جاءت كذلك عن الحسن البصري رحمه الله في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد رواه ابن جرير في تفسير الآية (ومن أحسن قولاً) ورجاله ثقات غير أنه من رواية معمر بن راشد عن الحسن، وإنما أدرك منه جنازته، وقال بعض الأئمة بينهما عمرو بن عبيد، وأشار الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار (الكشاف) [1/213] إلى طريق أخرى رواها بقية بن الوليد عن حسان بن سليمان عن أبي نضرة عن الحسن، ولايصح لعنعنة بقية كدأبه عن من لايعرف، وقد روي مرفوعاً بأسانيد واهية لاتثبت بها حجة.

غير أنه في تفسير قول الله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)، "ذكر الطبري أن مقتضى ما نقله السدي عن مشايخه أنه خليفة الله في الأرض" [فتح الباري 6/364]، يعني آدم عليه السلام.

وقد جاءت هذا الكلمة عن أبي مسلم الخولاني في عبارته لقوم من قتلت عثمان وكانوا قد حجوا من المدينة فسألهم: هل مررتم بإخوانكم من أهل الحجر؟ فقالوا: نعم! قال: كيف رأيتم صنيع الله بهم؟ قالوا: صنع الله بهم ذلك بذنوبهم. قال: فإني أشهد أنكم عند الله مثلهم. فلما سأله معاوية علل بقوله: قتلوا ناقة الله، وقتلتم خليفة الله، وأشهد على ربي لخليفته أكرم عليه من ناقته! [ينظر تالي تلخيص المتشابه 2/383، وكذلك تاريخ مدينة دمشق 27/220- 39/491].

وقد ثبت إطلاق هذا اللفظ عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب –رضي الله عنه- فقد روى الشافعي بسند مستقيم قال حدثني يحيى بن سليم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب أنه قال: "وَلِيَنَا أبوبكر خير خليفة الله، وأرحمه وأحناه عليه" وقد رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه [المستدرك 3/84] ورواه غيره، وهو كما قال.

أما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلعل أصحه ما جاء في حديث الرايات السود؛ حديث ثوبان في المهدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن فيها خليفة الله المهدي"، وقد رواه الحاكم وذكر أنه على شرط الشيخين، وقال البوصيري المحدث في المصباح [3/263]: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وكذا قال البزار، وقد حكم الألباني على اللفظة خاصة في الضعيفة بالنكارة وقال إن هذه الزيادة "خليفة الله" ليس لها إسناد ثابت والسبب عنده أن لفظ الحاكم تفرد به خالد الحزاء فهو معلل، وما جاء عند أحمد ضعيف لعنعنة أبي قلابة، وماذكره العلامة فيه نظر فإن رواية خالد تابعتها رواية أحمد فخالد الحزاء لم يتفرد به، ورواية أحمد لاتقدح فيها عنعنة مثل أبي قلابة حتى على منهج المتأخرين فأبوقلابة ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الأولى من المدلّسين وهؤلاء لايضر تدليسهم. انظر طبقات المدلسين [1/21]، ثم إن لم يصح الحديث مرفوعاً فهو موقوف عن ثوبان كما جاء في بعض طرقه الجيدة وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية أن وقفه عليه أشبه. فإن كان كذلك فمثله لايقال بالرأي، وعلى كل الكلام فيه يطول، غير أنه أحسن الأحاديث في المهدي كما أشار صاحب البدء والتاريخ.

إشكال آخر يشير إليه من يمنع:
وهو ما رواه الإمام أحمد وعبدالرزاق وغيرهما من حديث وكيع عن نافع عن ابن أبي مليكة قال: قال رجل لأبي بكر: يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكن خليفة رسول الله، أنا راض بذلك.

ومع أن الأثر لايفهم منه مطلق النهي، وعلى الرغم من إمكان حمله على التواضع والفرار من تزكية النفس كما أشير إليه، على الرغم من ذلك فلسنا بحاجة إلى القول به فالأثر ضعيف لاتقوم به حجة، فعلى الرغم من أن إسناده كالشمس وعلى الرغم من أن ابن أبي مليكة أدرك ما يربوا على ثلاثين صحابياً –أوصلهم ابن حبان إلى ثمانين- غير أنه لم يدرك أبا بكر رضي الله عنه، وإلى هذه العلة أشار الهيثمي في المجمع [5/198] فقال: رجاله رجال الصحيح إلاّ أن ابن أبي مليكة لم يدرك الصديق.
بل نص الحفاظ بأن روايته عن عمر وعثمان رضي الله عنهما مرسلة [انظر جامع التحصيل 1/214].
وعلى هذا فالأثر محل الإشكال ضعيف، ومثله ما روى الخلال في السنة من أن رجلاً قال لعمر ياخليفة الله! فقال: خالف الله بك! فهو مليء بالعلل فمنها أنه من مفردات جابر وهو ابن يزيد الجعفي ضعيف عند الجمهور بل متهم بالكذب [ينظر الكامل لابن عدي 2/115والتاريخ الكبير للبخاري 2/210]، وقد عنعن وقد نص الحفاظ على شدة تدليسه وترك ما عنعن فيه من حديثه، ثم هو عن يزيد بن مرة وهو الجعفي [الجرح والتعديل 9/287] وقيل الحنفي [التاريخ الكبير 8/359]، وقد قال البخاري لايصح حديثه، وقال الحافظ في تعجيل المنفعة فيه نظر [1/451]، كما أنه رواه عن مجهول لم يسمه، فالأثر ضعيف لايثبت، وله طريق آخر ساقط ذكرها الطبري في تاريخه [2/569] وهي من طريق أبي حمزة وهو السكري عن جابر وهو الجعفي، أرسله إلى عمر! فالأثر لايثبت بحال، بل روي أن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال لها له في رؤيا رآها فلم ينكرها [تاريخ مدينة دمشق 47/39 من طريق عاصم بن علي عن المسعودي وهو كما قال الإمام أحمد يحتمل، والذهبي في تاريخ الإسلام أشار إليه من نفس الطريق، ورواه ابن أبي شبة في تاريخ المدينة من طريق أبي داود عن المسعودي، ثم ساق متابعةً للمسعودي من طريق عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك بن عمير، ثم ذكر لها شاهداً عن أبي بكر رضي الله عنه يحدث عن عوف، فلعل الأثر إلى الحسن أقرب وبكل حال هو أقوى من الذي روي في خلافه].


المنهج في العبارات المحتملة:
أولاً القائل:

يبنغي أن يتجنبها ما استطاع وبحمد الله اللغة العربية واسعة، وقد علم من مدارك شرع ترك العبارات الموهمة والألفاظ المحتملة.

ثانياً من سمعها:
ينبغي أن يراعي أن الكلام المجمل أو المحتمل بل الظاهر ينظر إلى مراد قائله (1)

وهنا عدة وقفات:
الوقفة الأولى: إذا عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباعه:

قال شيخ الإسلام: "وما تنازع فيه المتأخرون نفياً أو إثباتاً فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظ أو نفيه حتى يعلم مراده فإن أراد حقاً قبل وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك.." (2).

قال ابن القيم: "فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده، ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بالإشارة أو الكتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية..."(3) .
وقال: "والألفاظ ليست تعبدية والعارف يقول ماذا أراد واللفظي يقول ماذا قال، كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: (ماذا قال آنفاً)، وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: (فمال هؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً). فذم من لم يفقه كلامه والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم"(4) .

الوقفة الثانية: الكلام المجمل أو المحتمل، للتأويل فيه مجال واسع، ومثله الظاهر الذي يحتمل غيره ولا سيما إن صدر عن بشر يعتريه من النقص والسهو ما يعتريه:

قال ابن القيم في الصواعق: "لمّا كان وضع الكلام للدلالة على مراد المتكلم، وكان مراده لا يعلم إلاّ بكلامه، انقسم كلامه ثلاثة أقسام: أحدهما ما هو نص في كلامه لا يحتمل غيره، الثاني ماهو ظاهر في مراده وإن احتمل أن يريد غيره، الثالث: ماليس بنص ولا ظاهر في المراد بل هو مجمل... [إلى أن قال] فهذا أيضاً لا يجوز تأويله إلاّ بالخطاب الذي بينه وقد يكون بيانه معه وقد يكون منفصلاً عنه، والمقصود أن الكلام الذي هو عرضة التأويل، قد يكون له عدة معان، وليس معه ما يبين مراد المتكلم، فهذا للتأويل فيه مجال واسع"(5) أما أن يسمى هذا المراد –في مثل هذه الحال- خلاف الظاهر فمحل خلاف ولكن لا أثر له، قال شيخ الإسلام: "إذا لم يقترن باللفظ شيء قط من القرائن المتصلة تبين مراد المتكلم بل علم مراده بدليل آخر لفظي منفصل فهنا أريد به خلاف الظاهر، ففي تسمية المراد خلاف الظاهر كالعام المخصوص بدليل منفصل. وإن كان الصارف عقلياً ظاهراً ففي تسمية المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور في أصول الفقه، وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا هذا هو الظاهر أو ليس هو الظاهر خلاف لفظي"(6) .
قال ابن القيم فيما هو ظاهر في مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل، وظاهر كلامه في من لم يوجد له بيان متصل أو منفصل يوضح مراده: "فهذا ينظر في وروده فإن أطرد استعماله على وجه واحد استحال تأويله بما يخالف ظاهره -لأن التأويل إنما يكون لموضع جاء نادرا خارجا عن نظائره منفردا عنها- فيؤول حتى يرد إلى نظائره وتأويل هذا غير ممتنع لأنه إذا عرف من عادة المتكلم باطراد كلامه في توارد استعماله معنى ألفه المخاطب، فإذا جاء موضع يخالفه رده السامع بما عهد من عرف المخاطب إلى عادته المطردة هذا هو المعقول في الأذهان والفطر وعند كافة العقلاء وقد صرح أئمة العربية بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه قد استعمل فيه ثبوته أكثر من حذفه فلا بد أن يكون موضع ادعاء الحذف عندهم صالحا للثبوت ويكون الثبوت مع ذلك أكثر من الحذف حتى إذا جاء ذلك محذوفاً في موضع علم بكثرة ذكره في نظائره أنه قد أزيل من هذا الموضع فحمل عليه"(7) .

الوقفة الثالثة: مما يضفي على الكلام صفة الظهور ويبين المراد غير البيان المنفصل أو المتصل، حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه، وسياق الكلام:

سبقت الإشارة إلى أن مما يبين المجمل البيان المتصل أو المنفصل، وربما عرف المراد باستقراء استعمال الشخص للألفاظ وإن لم يوجد له بيان متصل أو منفصل(8) ، وكذلك هناك بعض القرآئن التي تضفي على الكلام صفة الظهور وإن لم تكن الألفاظ المجردة مساعدة على الظهور، فقد تعطي اللفظ صفة الظهور أمور خارجة عنه منها حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه، فإذا رأيت إنساناً يقرر أركان الإيمان، ثم ذكر في معرض رد خاص على كافر أو مبتدع كلاماً مجملاً يحتمل نقضاً لأحد تلك الأركان، لم يكن لنا أن نحمل هذا الإجمال على المعنى الفاسد. بل يتوجب حمله على مراد قائله الذي عرف من حاله، أما إذا كان الكلام مجملاً ولم يعرف حال قائله ولا مراده، فالواجب الاستفصال والسؤال عن المراد، كما قرر ذلك أهل العلم في الألفاظ التي تصدر من أهل البدع من نحو: الجسم، والتحيز، والجهة وغيرها، فليس لنا نفي معناها أو إثباته، قبل معرفة المراد منه.
يقول شيخ الإسلام: "واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ تارة يكون بالوضع اللغوي أو العرفي أو الشرعي ... وتارة بما اقترن باللفظ من القرائن اللفظية... وتارة بما يدل عليه حال المتكلِم والمخاطَب والمتَكلَم فيه وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ ... إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور، وإلاّ فقد يتخبط في هذه المواضع"(9) . ثم قال: "إذا لم يقترن باللفظ شيء قط من القرائن المتصلة تبين مراد المتكلم بل علم مراده بدليل آخر لفظي منفصل فهنا أريد به خلاف الظاهر، ففي تسمية المراد خلاف الظاهر كالعام المخصوص بدليل منفصل. وإن كان الصارف عقلياً ظاهراً ففي تسمية المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور في أصول الفقه، وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا هذا هو الظاهر أو ليس هو الظاهر خلاف لفظي".
ومما يبين مراد المتكلم كذلك، السياق الذي يذكر فيه الكلام، قال ابن القيم: "فائدة إرشادات السياق: السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله في نظره غلط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير"(10) .

ومما يعين كذلك على معرفة مراد المتكلم معرفة حدوده:
قال شيخ الإسلام: "ومن هذا تفسير الكلام وشرحه إذا أريد به تبين مراد المتكلم فهذا يبنى على معرفة حدود كلامه، وإذا أريد به تبيين صحته وتقريره فإنه يحتاج إلى معرفة دليل صحة الكلام، فالأول فيه بيان تصوير كلامه، والثاني فيه بيان تصديق كلامه"(11) .

إن المتأمل لمنهج أهل العلم، يجد التطبيق العملي لهذا التقعيد، انظر لحال ابن القيم مع بعضهم في منهاج السالكين، كان يلتمس لهم العذر في عبارات مشكلة بحق، والسبب أنه عرف منهجه وأن ظاهر تلك العبارات غير مراد له، أو أن العبارة مجملة مراده منها معروف. ومثله شيخ الإسلام مع بعضهم ممن له عبارات خطيرة ، وقال عن الرازي الذي ألف مجلدات في الرد على أفكاره وما ينبني على بعضها من مبانٍ شديدة البطلان: "ومن الناس من يسيء به الظن وأنه يعتمد الكلام الباطل وليس كذلك بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث فى كل مقام بما يظهر له وهو متناقض فى عامة ما يقوله"(12) ، قال السبكي: إذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتابته على غير ما تُعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن به وبأمثاله(13) .

وفي الختام أذكر بأن هذا يقال لمن أراد الحكم على كلام مجمل أو محتمل، أما صاحب الكلم المجمل فيقال له "لقد علم من مدارك الشرع ترك العبارات المجملة، والكلمات الموهمة والله أعلم"(14) .



================================================== ==
( 1) هذا المبحث نحتاجه حتى عند الحكم على أقوال من لم يعرف بخير أو دين، فقبل الحكم عليه بتبديع أو تكفير لابد من النظر في سائر كلامه لمعرفة ما إذا كان لمجمله مبيناً أو لا.
وقد زعم بعضهم أن الإجمال والتبيين والعموم والتخصيص يجرى في كلام صاحب الشريعة فحسب، وهذا خطأ بين فإن الإجمال والتبيين والإطلاق والتقييد والعموم والتخصيص، من عوارض الألفاظ -والمعاني على الصحيح- فهي تجرى في كلام العرب وألفاظها. بخلاف النسخ فلا يقال به في كلام غير صاحب الشريعة، وإنما يقال تراجع، القول الجديد، قول ثاني، ونحو ذلك.
(2) التدمرية ص42، أقول ومثلها العبارات التي لم ترد في الكتاب أو السنة ودأب بعضهم على استخدامها وهي مجملة كالتعايش، والحوار، والصدام... إلخ. فيستفصل عن مراد قائلها إن لم يكن معلوماً بقرائن أخرى، ولا ترد مطلقاً بعلة أن بعضهم استخدمها لمعان تخالف الشرع.
(3) إعلام الموقعين 1/218.
(4) إعلام الموقعين 1/219.
(5) 1/382، المراد باختصار.
(6) الفتاوى الكبرى 5/155.
(7) الصواعق 1/384-385.
(8) سبقت الإشارة إلى قول ابن القيم في الصواعق 1/384-385.
(9) الفتاوى الكبرى 5/155.
(10) بدائع الفوائد 4/815.
(11) الرد على المنطقيين ص40.
(12) الفتاوى 5/561-562.
(13) قاعدة في الجرح والتعديل ص93.
(14) معجم المناهي اللفظية ص489.

حازم
06-07-2005, 07:30 PM
مواضيع ذات صلة


http://www.dorar.net/titles.asp?boo...37&chapter_id=3

http://saaid.net/Doat/almuwahid/16.htm

http://arabic.islamicweb.com/Books/albani.asp?id=579

http://www.sh-rajhi.com/rajhi/?acti...=akida00038.htm

abusalman100
06-28-2005, 05:37 PM
يلاحظ الآتي:

قال الشيخ العثيمين خليفة الله

- سئل فضيلة الشيخ : عن قول الإنسان لرجل : ( أنت يا فلان خليفة الله في أرضه ) ؟
فأجاب بقوله : إذا كان ذلك صدقاً بأن كان هذا الرجل خليفة يعني ذا سلطان تام على البلد ، وهو ذو السلطة العليا على أهل هذا البلد ، فإن هذا لا بأس به ، ومعنى لو لنا ( خليفة الله ) أن الله استخلفه على العباد في تنفيذ شرعه ، لأن الله – تعالى – استخلفه على الأرض ، والله – سبحانه وتعالى – مستخلفنا في الأرض جميعاً وناظر ما كنا نعمل ، وليس يراد بهذه الكلمة أن الله – تعالى – يحتاج إلى أحد يخلفه ، في خلقة ، أو يعينه على تدبير شئونهم ، ولكن الله جعله خليفة يخلف من سبقه ، ويقوم بأعباء ما كلفه الله .


http://saaid.net/fatwa/f37.htm

0-=0-=-0=-0=-0=-0=-0=-0=-0=-0=-0=-0=-0=-0=


هل ينكر قول من قال: الإنسان خليفة الله في الأرض ونحوه؟

ملتقى أهل الحديث > منتدى العلوم الشرعية
هل ينكر قول من قال: الإنسان خليفة الله في الأرض ونحوه؟
السلام عليكم يا ابو سلمان الأمريكي
آخر زيارة لك : 23-06-2005 كانت في 06:39 PM
الرسائل الخاصة: 0 , المجموع 0.





هل ينكر قول من قال: الإنسان خليفة الله في الأرض ونحوه؟


الإخوة والمشايخ والأفاضل أرفق هنا بحث كنت قد كتبته على عجالة جواباً لبعض الإخوان، فمن بدت له ملاحظات عليه فأرجو أن يتكرم بإيضاحها ليتمم البحث وتكمل فائدته، وجازكم الله خيراً..

بعد المقدمة..

قرر المنع هذا الإطلاق جماعة من الفضلاء وفي هذه الروابط بعض أقوالهم:
http://www.dorar.net/titles.asp?boo...37&chapter_id=3
http://saaid.net/Doat/almuwahid/16.htm
http://arabic.islamicweb.com/Books/albani.asp?id=579
http://www.sh-rajhi.com/rajhi/?acti...=akida00038.htm

غير أني لا أكتمكم نظرت في بعض الألفاظ المنتقدة فألفيت الأمر فيها واسعاً، وهذا اللفظ أحدها.
ثم آثرت أن أسطر ما قد يبدو للمتأمل في المسألة مدعماً له بفتاوى علمائنا، وخلاصته أن خليفة الله إما أن يطلق على خليفة المسلمين وإما أن يطلق على غيره كجنس الإنسان، أو بعض أنبياء الله ورسله، أو لافراد لاعتبارات ومقتضيات مختلفة.
فإن أطلق على خليفة المسلمين فلا شك أن الخلاف في إطلاقه قائم، وخاصة إن كان الخليفة غير قائم بأوامر الله متعدياً لحدوده، فإن القول بعدم جواز إطلاق خليفة الله على مثل هذا وجيه جداً، فهو إما منكر من القول محرم، وإما أن يكون كذب وباطل، وكل ذلك لايجوز على ما سيأتي بيانه.

أما إن أطلق على القائم بأمر الله الملتزم لحدوده فالأظهر الجواز وقد فعله السلف بلا نكير وسوف يأتي تقريره، وكذلك إذا أطلق على جنس الإنسان أو بعض أنبياء الله، ما لم يظهر أن مراد القائل: خلفاً عن الله أو وكيلاً ونحو ذلك من هراء باطل يندر أن يقال.

ولهذا لعل الخلاف احتدم في الأول وهو أن يقال لخليفة المسلمين خليفة الله فهو إما كذب وباطل، إن لم يكن قائماً بأمر الله، وإما صواب محتمل لخطأ [وهو المعنى البعيد] إن كان الخليفة قائماً بأمر الله.

وهناك قول غريب في التفصيل يفهم من كلام للشيخ سليم الهلالي، أحببت أن أشير إليه وقد ذكره في كتابه القول المبين في جماعة المسلمين [ص14] عند حديثه على حديث حذيفة عند أحمد وأبي داود: "فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فالزمه"، فكأنه ذهب إلى تحسين لفظ أحمد المشار إليه، ثم قال: "فإن خليفة الله في الأرض أصح من رواية صخر بن بدر العجلي خليفة الله فإنها مستنكرة رواية ودراية". أهـ فكأنه يرى صواب التقييد بالأرض، ولعل الأمر من حيث الدراية واسع كما مر، وسيأتي مزيد تفصيل وكلام على الحديث.

أصل المسألة:

لفظ خليفة (فعيلة) يجيء بمعنى (مفعولة) كنقيذة بمعنى منقوذة وسقيفة بمعنى مسقوفة وقل مثل ذلك في ذبيحة وقتيلة وضريبة ... كما يأت بمعنى (فاعلة) رحيمة بمعنى راحمة، وظعينة بمعنى ظاعنة، وقد أشار إلى إتيان خليفة على الوجهين القرطبي في تفسيره آية البقرة (إني جاعل في الأرض) [1/63]، ومثل كلمة خليفة لفظة (نصيرة) فقد ترد بمعنى فعيلة وقد تأت بمعنى فاعلة لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور، وهناك ألفاظ اختلف أهل العلم عليها هل هي بمعنى مفعولة أو فاعلة كبهيمة.

فإذا قلت خليفة الله فعيلة بمعنى فاعلة، من خلف يخلف خلفاً فهو خالف، يكون المعنى خالف الله وهذا معنى ظاهره باطل مردود لايصح إلاّ بتأويل وقد قال به بعض أجلة أهل العلم في زماننا مأولاً له بقوله: "خالف لنا في تبليغ شرعنا، وليس المراد أنه يأتي بعده ولكن خليفة لله في تبليغ شرعه وحكمه للناس" [ابن عثيمين في تفسير قوله: (ياداود إنا جعلناك خليفة)].

وإذا قلت فعيلة هنا بمعنى مفعولة، من خلف يخلف خلفا فهو مخلوف ومستخلف، فالإخبار يصح إن كان خليفة المسلمين قائم بأمر من استخلفه، وإلاّ فلا لأن الفاسق ينبغي أن يعزل في حكم الشريعة إن أمكن ذلك بغير خروج عليه، وإذا كان عزله مطلوباً فترك وصفه بماينبغي عزله عنه مطلوب، وقد نص ابن خويز منداد من المالكية على أن الظالم لايصلح أن يكون خليفة ولاحاكما ولامفتيا استدلالاً بقول اله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين) الآية وقد استدل بها غيره، وللمفسرين أقوال يمكن جمعها مع هذا القول فهي إلى اختلاف تنوع الأفراد أقرب. مع أن بعض المحققين من أهل العلم قال بجواز إطلاق اللفظ مالم يقصد معنى باطلاً ومن هؤلاء فضيلة العلامة محمد بن صالح العثيمين في المناهي اللفظية له حيث ورد هذا السؤال، فأجاب بقوله : إذا كان ذلك صدقاً بأن كان هذا الرجل خليفة يعني ذا سلطان تام على البلد، وهو ذو السلطة العليا على أهل هذا البلد، فإن هذا لا بأس به، ومعنى قولنا: "خليفة الله" أن الله استخلفه على العباد في تنفيذ شرعه لا لأن الله تعالى استخلفه على الأرض، والله سبحانه وتعالى مستخلفنا في الأرض جميعاً وناظر ما كنا نعمل، وليس يراد بهذه الكلمة أن الله تعالى يحتاج إلى أحد يخلفه في خلقه أو يعينه على تدبير شؤونهم ولكن الله جعله خليفة يخلف من سبقه، ويقوم بأعباء ماكلفه الله.

وعلى ما قرره فضيلته يكون من أطلق اللفظ على الفاسق مراعياً المشيئة الكونية لا الشرعية فقوله معتبر، وقد سمعت للشيخ –رحمه الله- كلاماً مفاده جواز إطلاقها إن أريد خليفة لله أي قائم بأمر الله في عباده.
وهذا ما قرره ابن القيم في مفتاح دار السعادة [1/152] فقد حكى قول الفريق المجيز وذكر أدلته وسرد النصوص التي تفيد استخلاف الله للإنسان في الأرض كقوله تعالى: (يادواد إنا جعلناك خليفة) (إني جاعل في الأرض خليفة)، (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض) وغيرها من آثار تناقلتها رواة الأخبار، ثم ذكر اعتراض المانعين بأن الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره في الحكم والتدبير، ثم قال [1/152]: "وحقيقتها خليفة الله الذي جعله خلفاً عن غيره، وبهذا يخرج الجواب عن قول أمير المؤمنين: أولئك خلفاء الله في أرضه"، ولعلك ترى في هذا التخريج رداً على من منع بزعمه: "الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره" [السابق]، فقد بين ابن القيم على أن حصر المراد فيما ذكروا غير لازم، ثم خرج العبارة على مراد آخر لاحرج فيه عنده وهو خليفة بمعنى مستخلف؛ "جعله الله خلفاً لغيره".

وقد ذكر الفيومي وجهاً آخر في تخريجها فقال في المصباح المنير: " قال بعضهم ولا يقال خليفة الله بالإضافة إلا لآدم وداود لورود النص بذلك . وقيل يجوز وهو القياس لأن الله تعالى جعله خليفة كما جعله سلطانا وقد سمع سلطان الله وجنود الله وحزب الله وخيل الله والإضافة تكون بأدنى ملابسة. وعدم السماع لا يقتضي عدم الاطراد مع وجود القياس ولأنه نكرة تدخله اللام للتعريف فيدخله ما يعاقبها وهو الإضافة كسائر أسماء الأجناس"[ص178]. ولعل هذا وجهاً آخر في تخريج الجملة على معنى صحيح غير الأول الذي أشار إليه ابن القيم، وكأن الفيومي يرى الإضافة هنا إضافة تشريف أو إيجاد، وقد قرر أهل العلم أن الإضافة إلى الله تكون على "ثلاث مراتب: إضافة إيجاد، وإضافة تشريف، وإضافة صفة" [فتح ابن حجر 13/444]، والإضافة في جند الله وحزب الله وخيل الله إضافة تشريف، وربما أراد إضافة إيجاد من نحو قولك : (هذا خلق الله)، أي أن الله قدره خليفة. وهو وجه سائغ وكأنه اعتبر اللفظ (خليفة) اسماً دالاً على من يلي أمر المسلمين ثم بين سبب الإضافة، وقد يرجع هذا إلى المعاني السابقة عند النظر إلى المعنى مجراً

ولعل لكون وصف خليفة المسلمين بهذا اللقب محل إلباس عند البعض كثر إيراد أهل العلم المحققين متقدميهم ومتأخريهم النهي عن هذا اللفظ في هذا الباب، أما إذا أطلق في حق جنس الإنسان فالأمر أوسع وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى هذا فقال: "واختلف في تسميته خليفة الله. فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) وقوله: (جعلكم خلائف الأرض)"، ثم ذكر منع الجمهور بالعلة التي ذكرها شيخ الإسلام في منهاج السنة حيث قال: "والمقصود هنا أن الله لايخلفه غيره فإن الخلافة إنما تكون عن غائب وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه لايحتاج في تدبيرهم إلى غيره". ولعلك تلحظ في نقل ابن خلدون تفريقه بين الاستخلاف العام لجنس الإنسان فقد جعل حجة من أجاز إطلاق خليفة الله على خليفة المسلمين القياس عليه فكأن المشهور جوازه، ثم حكى أن قول الجمهور المنع من إطلاق خليفة الله على خليفة المسلمين وفي هذا منع من إلحاق فرع بأصل، ولاشك أن إطلاق خليفة الله على خليفة المسلمين صورة خاصة من صور إطلاق هذه الألفاظ، فما حكي من إنكار الجمهور متوجه نحو الثاني الخاص لا الأول.
وحقيقة الأمر ليس في هذا ما يعارض ما نقله شيخ الإسلام في منهاج السنة فإنه كان يعني الرد على أهل وحدة الوجود ومن يزعم أن الإنسان خلف عن الله، أو أن أحداً من البشر وكيلاً عنه يدبر شأن الخلق، ولم يكن يقصد الرد على من يطلق لفظ خليفة الله بمعنى أن الله جعله خليفة يخلف عن سلف بل قرر هذا المعنى ولم ينف ورود اللفظ له فشيخ الإسلام إنما أنكر إطلاقاً مخصوصاً يبين ذلك معرض كلامه فقد قال -رحمه الله- قبل النقل الآنف عنه في تفسير الآيات (إني جاعل في الأرض خليفة) (يادود إنا جعلناك خليفة) ونحوهما "أي خليفة عمن قبلك من الخلق، ليس المراد أنه خليفة عن الله، وأنه من الله كإنسان العين من العين كما يقول ذلك بعض الملحدين القائلين بالحلول والاتحاد". بل لم يتعرض شيخ الإسلام في بادئ الأمر إلى الجملة محل الإشكال (خليفة الله) وحكم إطلاقها، وإنما منع من حمل معناها على معنى معين، واستدل لصوابه بتخَرَّج أو حمل ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه في النهي عن مناداته بخليفة الله على ذلك الوجه الذي ذكره في الرد على أهل وحدة الوجود ومن شاكلهم، ولذلك إذا تتبعت كلام شيخ الإسلام في هذا المعنى لاتجده يذم اللفظ إلاّ عند حمله على هذا المعنى وفي مثل هذا السياق أو نحوه من رد على اتحادية أو حلولية أو أهل شرك، أما في غيره فلا حرج ولا إشكال في إطلاقه عنده وهذا ظاهر صنيعه كما وسوف تأت الإشارة إليه. [كلام شيخ الإسلام في منهاج السنة 1/510 – 7/352-353 وكذلك في الفتاوى الكبرى 2/553].


ورود اللفظة في الآثار أوالأخبار المرفوعة:

وذلك على ما أشير إليه من تفصيل مر، وقبل ذلك أشير إلى أن أهل العلم درجوا على استعمالها وعلى رأس هؤلاء من نُقل عنهم الكلام في النهي عنها، الأمر الذي يدلك أنهم أرادوا أمراً خاصاً كما مضت الإشارة.
فمن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية فعلى الرغم من كلامه في المسألة في منهاج السنة وغيرها، قال عن عمر بن عبدالعزيز [الفتاوى 27/93]: "وقد كان رضي الله عنه وهو خليفة الله على الأرض قد وكل أعواناً يمنعون الداخل من تقبيل الأرض"، وهذا يدلك على صواب التوجيه وأن إنكاره الجملة كان في معرض يفهم منه حملها على محمل سيء نحا إليه اتحادية وأهل الشرك ونحوهم.
أما ابن القيم الذي نقل التفصيل البديع الذي أشار إليه البحث المحال عليه نقلاً عن العلامة بكر نقلاً عن مفتاح دار السعادة، فلم يحرمها بل نفى أن تحتمل معنى باطلاً فقط حصرها المانعون فيه، وحملها على محمل مقبول، ثم نقل في الزاد القول بالكراهة عند إطلاقها للسلطان، ومما يدلك على أنه أراد بذلك التفصيل المشار إليه، هو تخريجه لعبارة علي رضي الله عنه في أثر الكميل بن زياد : "أولئك خلفاء الله في أرضه" على ما سبقت الإشارة إليه في مفتاح دار السعادة. ويدل عليه أمر آخر وهو الفصل الذي عقده في بدائع الفوائد بعنوان: "الإنسان خليفة الله في الأرض".

أما غيرهم من أهل العلم فستعمالهم لها أكثر من أن يحصر، وبعد تتبع يسير أجريته عن طريق الموسوعات الإلكترونية والشبكة العنكبوتية وجدت أن بالإمكان تخصص كراس لنقل استعمالهم لها، ومن ضمن هؤلاء العلامة عبدالرحمن الدوسري –رحمه الله- [الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة ص20] وهو من مشايخ نجد الكبار المشهورين.

ولكن الأهم من ذلك هو استعمال السلف لها دون نكير، كما في أثر الكميل المشهور، فإن قيل إن الأثر فيه ضعف من حيث الصناعة، قيل وإن كان فيه ضعف فإنه من الشهرة بمكان حتى قال فيه ابن عبدالبر في الجامع: "وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد لشهرته عندهم"، ومع شهرته لم يُنقل استنكار أحد من أهل العلم فيه قول علي –رضي الله عنه فيه- فيه: "أولئك خلفاء الله.."، بل الذي نقل عنهم يدل على إقرارهم بحسن معناه، فقد قال الخطيب: "حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظاً" [الفقيه والمتفقه ص50]، ونقل كلامه ابن القيم في مفتاح دار السعادة مقراً [1/123].
وقد رُويت أيضاً عن سعيد بن جبير عندما سأله الحجاج ماتقول في أبي بكر فقال: "خليفة الله.." [الحلية 4/295]، ودأب أهل السير على ذكر تلك الحادثة في سياق مناقبه رحمه الله.
وقد جاءت كذلك عن الحسن البصري رحمه الله في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد رواه ابن جرير في تفسير الآية (ومن أحسن قولاً) ورجاله ثقات غير أنه من رواية معمر بن راشد عن الحسن، وإنما أدرك منه جنازته، وقال بعض الأئمة بينهما عمرو بن عبيد، وأشار الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار (الكشاف) [1/213] إلى طريق أخرى رواها بقية بن الوليد عن حسان بن سليمان عن أبي نضرة عن الحسن، ولايصح لعنعنة بقية كدأبه عن من لايعرف، وقد روي مرفوعاً بأسانيد واهية لاتثبت بها حجة.

غير أنه في تفسير قول الله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)، "ذكر الطبري أن مقتضى ما نقله السدي عن مشايخه أنه خليفة الله في الأرض" [فتح الباري 6/364]، يعني آدم عليه السلام.

وقد جاءت هذا الكلمة عن أبي مسلم الخولاني في عبارته لقوم من قتلت عثمان وكانوا قد حجوا من المدينة فسألهم: هل مررتم بإخوانكم من أهل الحجر؟ فقالوا: نعم! قال: كيف رأيتم صنيع الله بهم؟ قالوا: صنع الله بهم ذلك بذنوبهم. قال: فإني أشهد أنكم عند الله مثلهم. فلما سأله معاوية علل بقوله: قتلوا ناقة الله، وقتلتم خليفة الله، وأشهد على ربي لخليفته أكرم عليه من ناقته! [ينظر تالي تلخيص المتشابه 2/383، وكذلك تاريخ مدينة دمشق 27/220- 39/491].

وقد ثبت إطلاق هذا اللفظ عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب –رضي الله عنه- فقد روى الشافعي بسند مستقيم قال حدثني يحيى بن سليم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب أنه قال: "وَلِيَنَا أبوبكر خير خليفة الله، وأرحمه وأحناه عليه" وقد رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه [المستدرك 3/84] ورواه غيره، وهو كما قال.

أما المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلعل أصحه ما جاء في حديث الرايات السود؛ حديث ثوبان في المهدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن فيها خليفة الله المهدي"، وقد رواه الحاكم وذكر أنه على شرط الشيخين، وقال البوصيري المحدث في المصباح [3/263]: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وكذا قال البزار، وقد حكم الألباني على اللفظة خاصة في الضعيفة بالنكارة وقال إن هذه الزيادة "خليفة الله" ليس لها إسناد ثابت والسبب عنده أن لفظ الحاكم تفرد به خالد الحزاء فهو معلل، وما جاء عند أحمد ضعيف لعنعنة أبي قلابة، وماذكره العلامة فيه نظر فإن رواية خالد تابعتها رواية أحمد فخالد الحزاء لم يتفرد به، ورواية أحمد لاتقدح فيها عنعنة مثل أبي قلابة حتى على منهج المتأخرين فأبوقلابة ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الأولى من المدلّسين وهؤلاء لايضر تدليسهم. انظر طبقات المدلسين [1/21]، ثم إن لم يصح الحديث مرفوعاً فهو موقوف عن ثوبان كما جاء في بعض طرقه الجيدة وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية أن وقفه عليه أشبه. فإن كان كذلك فمثله لايقال بالرأي، وعلى كل الكلام فيه يطول، غير أنه أحسن الأحاديث في المهدي كما أشار صاحب البدء والتاريخ.

إشكال آخر يشير إليه من يمنع:
وهو ما رواه الإمام أحمد وعبدالرزاق وغيرهما من حديث وكيع عن نافع عن ابن أبي مليكة قال: قال رجل لأبي بكر: يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكن خليفة رسول الله، أنا راض بذلك.

ومع أن الأثر لايفهم منه مطلق النهي، وعلى الرغم من إمكان حمله على التواضع والفرار من تزكية النفس كما أشير إليه، على الرغم من ذلك فلسنا بحاجة إلى القول به فالأثر ضعيف لاتقوم به حجة، فعلى الرغم من أن إسناده كالشمس وعلى الرغم من أن ابن أبي مليكة أدرك ما يربوا على ثلاثين صحابياً –أوصلهم ابن حبان إلى ثمانين- غير أنه لم يدرك أبا بكر رضي الله عنه، وإلى هذه العلة أشار الهيثمي في المجمع [5/198] فقال: رجاله رجال الصحيح إلاّ أن ابن أبي مليكة لم يدرك الصديق.
بل نص الحفاظ بأن روايته عن عمر وعثمان رضي الله عنهما مرسلة [انظر جامع التحصيل 1/214].
وعلى هذا فالأثر محل الإشكال ضعيف، ومثله ما روى الخلال في السنة من أن رجلاً قال لعمر ياخليفة الله! فقال: خالف الله بك! فهو مليء بالعلل فمنها أنه من مفردات جابر وهو ابن يزيد الجعفي ضعيف عند الجمهور بل متهم بالكذب [ينظر الكامل لابن عدي 2/115والتاريخ الكبير للبخاري 2/210]، وقد عنعن وقد نص الحفاظ على شدة تدليسه وترك ما عنعن فيه من حديثه، ثم هو عن يزيد بن مرة وهو الجعفي [الجرح والتعديل 9/287] وقيل الحنفي [التاريخ الكبير 8/359]، وقد قال البخاري لايصح حديثه، وقال الحافظ في تعجيل المنفعة فيه نظر [1/451]، كما أنه رواه عن مجهول لم يسمه، فالأثر ضعيف لايثبت، وله طريق آخر ساقط ذكرها الطبري في تاريخه [2/569] وهي من طريق أبي حمزة وهو السكري عن جابر وهو الجعفي، أرسله إلى عمر! فالأثر لايثبت بحال، بل روي أن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال لها له في رؤيا رآها فلم ينكرها [تاريخ مدينة دمشق 47/39 من طريق عاصم بن علي عن المسعودي وهو كما قال الإمام أحمد يحتمل، والذهبي في تاريخ الإسلام أشار إليه من نفس الطريق، ورواه ابن أبي شبة في تاريخ المدينة من طريق أبي داود عن المسعودي، ثم ساق متابعةً للمسعودي من طريق عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك بن عمير، ثم ذكر لها شاهداً عن أبي بكر رضي الله عنه يحدث عن عوف، فلعل الأثر إلى الحسن أقرب وبكل حال هو أقوى من الذي روي في خلافه].

حارث همام

تنبيه:

1- حاولت إعادة صياغة لبعض العبارات فالأصل وجه لأحد الإخوة رداً على تعقيب له، فأرجو المعذرة إن حصل خلل جراء ذلك.

2- للبحث تتمة حول المنهج المتوجه تجاه الألفاظ المجملة والعبارات المحتملة لعله يعلق قريباً.

وجزاكم الله خيراً.

حارث همام
عرض الملف الشخصي الخاص بالعضو
إرسال رسالة خاصة إلى حارث همام
إرسال بريد إلكتروني إلى حارث همام
قم بزيارة الصفحة الشخصية لـ حارث همام !
إيجاد جميع المشاركات للعضو حارث همام
إضافة حارث همام إلى قائمة الأصدقاء لديك

#3 28-08-2004, 02:42 PM
أبو عمر المدني
عضو جديد تاريخ التّسجيل: Aug 2004
المشاركات: 51



--------------------------------------------------------------------------------

بارك الله فيك ..

قرأت كلمة لأحد الكتاب واستنكرتها ألا وهي (ظل الله في الأرض) يعني السلطان عبدالحميد
فما هو الموقف من هذه الكلمة؟

أبو عمر المدني
عرض الملف الشخصي الخاص بالعضو
إرسال رسالة خاصة إلى أبو عمر المدني
إيجاد جميع المشاركات للعضو أبو عمر المدني
إضافة أبو عمر المدني إلى قائمة الأصدقاء لديك

#4 28-08-2004, 06:35 PM
حارث همام
عضو مخضرم تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 1,068



--------------------------------------------------------------------------------

الأخ الفاضل..

هذه العباراة التي أشرتم إليها التماس أهل العلم لها أوجهاً سائغة في التأويل أعظم -فيما يظهر- من الأولى، قال شيخ الإسلام في الكبرى: "وأما الحديث النبوي: (السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل ضعيف وملهوف)، وهذا صحيح، فإن الظل مفتقر إلي آوٍ، وهو رفيق له / مطابق له نوعًا من المطابقة، والآوي إلي الظل المكتنف بالمظل، صاحب الظل، فالسلطان عبد الله، مخلوق مفتقر إليه، لا يستغني عنه طرفة عين، وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد والصمدية التي بها قوام الخلق، ما يشبه أن يكون ظل الله في الأرض، وهو أقوي الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده، فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس، وإذا فسد فسدت بحسب فساده؛ ولا تفسد من كل وجه، بل لابد من مصالح، إذ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملاً مانعًا من جميع الأذي وتارة لا يمنع إلي بعض الأذي، وأما إذا عدم الظل فسد الأمر، كعدم سر الربوبية التي بها قيام الأمة الإنسانية. والله تعالي أعلم".

وذكر أهل العلم له بهذا المعنى أو بمعنى الأمان كثير.

تنبيه الحديث المذكور: ونحوه مما وردت فيه الجملة مابين موضوع وضعيف وإن ساغ تأويل الكلمة عند أهل العلم.

حارث همام
عرض الملف الشخصي الخاص بالعضو
إرسال رسالة خاصة إلى حارث همام
إرسال بريد إلكتروني إلى حارث همام
قم بزيارة الصفحة الشخصية لـ حارث همام !
إيجاد جميع المشاركات للعضو حارث همام
إضافة حارث همام إلى قائمة الأصدقاء لديك

#5 28-08-2004, 06:47 PM
حارث همام
عضو مخضرم تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 1,068

تابع للأول!

--------------------------------------------------------------------------------

المنهج في العبارات المحتملة:
أولاً القائل:

يبنغي أن يتجنبها ما استطاع وبحمد الله اللغة العربية واسعة، وقد علم من مدارك شرع ترك العبارات الموهمة والألفاظ المحتملة.

ثانياً من سمعها:
ينبغي أن يراعي أن الكلام المجمل أو المحتمل بل الظاهر ينظر إلى مراد قائله (1)

وهنا عدة وقفات:
الوقفة الأولى: إذا عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباعه:

قال شيخ الإسلام: "وما تنازع فيه المتأخرون نفياً أو إثباتاً فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظ أو نفيه حتى يعلم مراده فإن أراد حقاً قبل وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك.." (2).

قال ابن القيم: "فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده، ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بالإشارة أو الكتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية..."(3) .
وقال: "والألفاظ ليست تعبدية والعارف يقول ماذا أراد واللفظي يقول ماذا قال، كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: (ماذا قال آنفاً)، وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: (فمال هؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً). فذم من لم يفقه كلامه والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم"(4) .

الوقفة الثانية: الكلام المجمل أو المحتمل، للتأويل فيه مجال واسع، ومثله الظاهر الذي يحتمل غيره ولا سيما إن صدر عن بشر يعتريه من النقص والسهو ما يعتريه:

قال ابن القيم في الصواعق: "لمّا كان وضع الكلام للدلالة على مراد المتكلم، وكان مراده لا يعلم إلاّ بكلامه، انقسم كلامه ثلاثة أقسام: أحدهما ما هو نص في كلامه لا يحتمل غيره، الثاني ماهو ظاهر في مراده وإن احتمل أن يريد غيره، الثالث: ماليس بنص ولا ظاهر في المراد بل هو مجمل... [إلى أن قال] فهذا أيضاً لا يجوز تأويله إلاّ بالخطاب الذي بينه وقد يكون بيانه معه وقد يكون منفصلاً عنه، والمقصود أن الكلام الذي هو عرضة التأويل، قد يكون له عدة معان، وليس معه ما يبين مراد المتكلم، فهذا للتأويل فيه مجال واسع"(5) أما أن يسمى هذا المراد –في مثل هذه الحال- خلاف الظاهر فمحل خلاف ولكن لا أثر له، قال شيخ الإسلام: "إذا لم يقترن باللفظ شيء قط من القرائن المتصلة تبين مراد المتكلم بل علم مراده بدليل آخر لفظي منفصل فهنا أريد به خلاف الظاهر، ففي تسمية المراد خلاف الظاهر كالعام المخصوص بدليل منفصل. وإن كان الصارف عقلياً ظاهراً ففي تسمية المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور في أصول الفقه، وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا هذا هو الظاهر أو ليس هو الظاهر خلاف لفظي"(6) .
قال ابن القيم فيما هو ظاهر في مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل، وظاهر كلامه في من لم يوجد له بيان متصل أو منفصل يوضح مراده: "فهذا ينظر في وروده فإن أطرد استعماله على وجه واحد استحال تأويله بما يخالف ظاهره -لأن التأويل إنما يكون لموضع جاء نادرا خارجا عن نظائره منفردا عنها- فيؤول حتى يرد إلى نظائره وتأويل هذا غير ممتنع لأنه إذا عرف من عادة المتكلم باطراد كلامه في توارد استعماله معنى ألفه المخاطب، فإذا جاء موضع يخالفه رده السامع بما عهد من عرف المخاطب إلى عادته المطردة هذا هو المعقول في الأذهان والفطر وعند كافة العقلاء وقد صرح أئمة العربية بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه قد استعمل فيه ثبوته أكثر من حذفه فلا بد أن يكون موضع ادعاء الحذف عندهم صالحا للثبوت ويكون الثبوت مع ذلك أكثر من الحذف حتى إذا جاء ذلك محذوفاً في موضع علم بكثرة ذكره في نظائره أنه قد أزيل من هذا الموضع فحمل عليه"(7) .

الوقفة الثالثة: مما يضفي على الكلام صفة الظهور ويبين المراد غير البيان المنفصل أو المتصل، حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه، وسياق الكلام:

سبقت الإشارة إلى أن مما يبين المجمل البيان المتصل أو المنفصل، وربما عرف المراد باستقراء استعمال الشخص للألفاظ وإن لم يوجد له بيان متصل أو منفصل(8) ، وكذلك هناك بعض القرآئن التي تضفي على الكلام صفة الظهور وإن لم تكن الألفاظ المجردة مساعدة على الظهور، فقد تعطي اللفظ صفة الظهور أمور خارجة عنه منها حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه، فإذا رأيت إنساناً يقرر أركان الإيمان، ثم ذكر في معرض رد خاص على كافر أو مبتدع كلاماً مجملاً يحتمل نقضاً لأحد تلك الأركان، لم يكن لنا أن نحمل هذا الإجمال على المعنى الفاسد. بل يتوجب حمله على مراد قائله الذي عرف من حاله، أما إذا كان الكلام مجملاً ولم يعرف حال قائله ولا مراده، فالواجب الاستفصال والسؤال عن المراد، كما قرر ذلك أهل العلم في الألفاظ التي تصدر من أهل البدع من نحو: الجسم، والتحيز، والجهة وغيرها، فليس لنا نفي معناها أو إثباته، قبل معرفة المراد منه.
يقول شيخ الإسلام: "واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ تارة يكون بالوضع اللغوي أو العرفي أو الشرعي ... وتارة بما اقترن باللفظ من القرائن اللفظية... وتارة بما يدل عليه حال المتكلِم والمخاطَب والمتَكلَم فيه وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ ... إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور، وإلاّ فقد يتخبط في هذه المواضع"(9) . ثم قال: "إذا لم يقترن باللفظ شيء قط من القرائن المتصلة تبين مراد المتكلم بل علم مراده بدليل آخر لفظي منفصل فهنا أريد به خلاف الظاهر، ففي تسمية المراد خلاف الظاهر كالعام المخصوص بدليل منفصل. وإن كان الصارف عقلياً ظاهراً ففي تسمية المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور في أصول الفقه، وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا هذا هو الظاهر أو ليس هو الظاهر خلاف لفظي".
ومما يبين مراد المتكلم كذلك، السياق الذي يذكر فيه الكلام، قال ابن القيم: "فائدة إرشادات السياق: السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله في نظره غلط في مناظرته، فانظر إلى قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير"(10) .

ومما يعين كذلك على معرفة مراد المتكلم معرفة حدوده:
قال شيخ الإسلام: "ومن هذا تفسير الكلام وشرحه إذا أريد به تبين مراد المتكلم فهذا يبنى على معرفة حدود كلامه، وإذا أريد به تبيين صحته وتقريره فإنه يحتاج إلى معرفة دليل صحة الكلام، فالأول فيه بيان تصوير كلامه، والثاني فيه بيان تصديق كلامه"(11) .

إن المتأمل لمنهج أهل العلم، يجد التطبيق العملي لهذا التقعيد، انظر لحال ابن القيم مع بعضهم في منهاج السالكين، كان يلتمس لهم العذر في عبارات مشكلة بحق، والسبب أنه عرف منهجه وأن ظاهر تلك العبارات غير مراد له، أو أن العبارة مجملة مراده منها معروف. ومثله شيخ الإسلام مع بعضهم ممن له عبارات خطيرة ، وقال عن الرازي الذي ألف مجلدات في الرد على أفكاره وما ينبني على بعضها من مبانٍ شديدة البطلان: "ومن الناس من يسيء به الظن وأنه يعتمد الكلام الباطل وليس كذلك بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث فى كل مقام بما يظهر له وهو متناقض فى عامة ما يقوله"(12) ، قال السبكي: إذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتابته على غير ما تُعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن به وبأمثاله(13) .

وفي الختام أذكر بأن هذا يقال لمن أراد الحكم على كلام مجمل أو محتمل، أما صاحب الكلم المجمل فيقال له "لقد علم من مدارك الشرع ترك العبارات المجملة، والكلمات الموهمة والله أعلم"(14) .



================================================== ==
( 1) هذا المبحث نحتاجه حتى عند الحكم على أقوال من لم يعرف بخير أو دين، فقبل الحكم عليه بتبديع أو تكفير لابد من النظر في سائر كلامه لمعرفة ما إذا كان لمجمله مبيناً أو لا.
وقد زعم بعضهم أن الإجمال والتبيين والعموم والتخصيص يجرى في كلام صاحب الشريعة فحسب، وهذا خطأ بين فإن الإجمال والتبيين والإطلاق والتقييد والعموم والتخصيص، من عوارض الألفاظ -والمعاني على الصحيح- فهي تجرى في كلام العرب وألفاظها. بخلاف النسخ فلا يقال به في كلام غير صاحب الشريعة، وإنما يقال تراجع، القول الجديد، قول ثاني، ونحو ذلك.
(2) التدمرية ص42، أقول ومثلها العبارات التي لم ترد في الكتاب أو السنة ودأب بعضهم على استخدامها وهي مجملة كالتعايش، والحوار، والصدام... إلخ. فيستفصل عن مراد قائلها إن لم يكن معلوماً بقرائن أخرى، ولا ترد مطلقاً بعلة أن بعضهم استخدمها لمعان تخالف الشرع.
(3) إعلام الموقعين 1/218.
(4) إعلام الموقعين 1/219.
(5) 1/382، المراد باختصار.
(6) الفتاوى الكبرى 5/155.
(7) الصواعق 1/384-385.
(8) سبقت الإشارة إلى قول ابن القيم في الصواعق 1/384-385.
(9) الفتاوى الكبرى 5/155.
(10) بدائع الفوائد 4/815.
(11) الرد على المنطقيين ص40.
(12) الفتاوى 5/561-562.
(13) قاعدة في الجرح والتعديل ص93.
(14) معجم المناهي اللفظية ص489.

http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=107108#post107108