الشيخ عبدالرحمن عيسى
11-05-2009, 07:51 PM
لَغَط إعلاميٌّ جامح
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
حلب
1430 هـ ـ 2009 م
بسم الله الرحمن الرحيم
لَغَـط إعلاميٌّ جامح
مقالة تبحث فيما وراء الظاهرة الإعلامية المخيِّمة على العالَم
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
مقدمة :
هذه وَمَضات عابرة , من لَمٍع يبرق في دياجي هذه الفتنة الصارخة ,وكلما أضاء لنا مشينا فيه قليلاً , مستطلعين ومكتشفين : ما يتراءى لنافي النظرة الخاطفة , واللمحة السانحة ..
إنها تراكمات بيانية , متراكمة تراكم البرق الراعد , ومتصلة
اتصال الذبذبات الصوتية والضوئية , لتشكل حبلاً متصلاً , وهـو ليس كذلك ! وهنا تظهر سرعة الصوت والضوء الذاتية ..
وبالطبع فلست أزعم أنني على علم متخصص , ودراية إحصائية , في سياق الإعلام , وغيره من العناوين , وحتى في مجال الفكر والبحث : إسلامياً وقرآنياً , فإنني لست كذلك أيضاً ..
غاية ما في الأمر , فإن كتاباتي إنْ هي إلا سوانحُ وملامح , أدركها وأتداركها بالطاقة الأدبية ,المنطلقة من عِـقالات الرسوم والرسميات , والمقتحمةِ حجب المغـيـَّبات !
فطاقة الأدب غير محدودة , وقادرةُ على السبْـح والمرونة , وهي مِسْـبار ذو فاعلية وآلية , وله من المكتشفات والأنابيـش , ما ليس للعلم الرصين , ذي الـقـواعـد والموازين ..
إن الأدب بأسلوبه الـفـذّ , وقدرته الفائقة , هو الراصد للمعاني والمدلولات , وبالأدب الناقد تُستنبط مفاهيم الماورائيات , من الظواهر والشكليات .. وتُستشف حُجب المستقبل !
لعلي تمكنت ــ وأنا ضئيل البضاعة : علماً وأدباً ــ من إيضاح التنويه الآنف , ممهداً بذلك الدخولَ إلى بوابة هذا البحث, مستدرِكاً ما فيه , ومقتنصاً ما قد يَعِـنُّ لي من بديع الإيتاء , وكشف الغطاء , لنرى حقيقة الأشياء ..
وقضية الإعلام اليوم , شائكة ومعقدة , وهي بحر لا ساحل له , يحيط بأرجاء المعمورة , وينشر عليها من طوفانه الغامر , وإشكالياته المفعمة بالإبهام والغموض والوضوح معاً , وإخفاء المقاصد والأهداف طبعاً ..
((يُخفـون في أنفسهم ما لا يُـبدون لك .. )) .
حينما يكون الإعلام بالحجم الذي هو عليه , فإن قدراً كبيراً من الشقاوة والعداوة , يتسببه لبني البشر , ويحيل حياتهم إلى جحيم لا يطاق , ويأخذ بالخناق .. فـيُحـيِّر الحليم , ويلجم العليم ..
والله من وراء القصد .. وهو أعلم .
عبد الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
لَغَطٌ إعلامي جامح
طليعة اللغط الإعلامي :
يدور في العالم لغط إعلامي جامح ، يذهب بالناس يميناً ويساراً ، ولا يستقر بهم على حال ، إلا حال الاضطراب والفوضى، في الزمن الضائع ! والفكرٍ المثخن : تعباً ورهَقاً وجراحاً ..
وهذا اللغط الإعلامي ، يخضع لآليات انتقائية ومزاجية : مبرمَجة ومصطنعة ، حسب مقتضيات المرجعية السياسية ، الآخذةِ بمجامع الأسماع والأبصار والأفئدة ، والمرجعية الثقافية الهابطة ، التي تمضي بالمجتمعات ، ولا تـَلوي على شيء ، ولا يقوم لها شيء ..
أسماع البشر وأبصارهم ووجدانياتهم ، نَهْب مقسَّم بين تلك الأمزجة والمرجعيات .. والوعظ المجاني الرخيص !
ولذلك نرى الإنسان المعاصر، لا يكاد يهتدي إلى أمر ذي بال،
ولا يقف عند وضع معـيَّن ، فهو لا يمتلك رؤية واضحةً ، ولا يعيش حياة مستقرة ، وقد درج على هذا النمط من السلوك المتردد والمتقلب ، والمبنيِّ على قناعات هشّة وغـثّة ، وذات عِوج وسطحية باردة وعقيمة ..
الارتهان الإعلامي :
إن شعوباً وأمماً في الأرض ، مرتهنون لإعلامٍ لا يرحمهم ولا ينفعهم ، بل يتقاذفهم تقاذف الكرة ، ويتلاعب بعواطفهم ، ويصادر مشاعرهم ، ويشحن قلوبهم وعقولهم ونفوسهم ، بمزيج غير سويّ من العروض السخيفة ، والأخبار الملفقةِ ، التي فيها السم الزُّعاف، والإثارة والإرجاف ، بعيدة عن الحياد والإنصاف ..
ولم يتعرض البشر قط ، في تاريخهم الطويل ، لمثل هذه الألوان الخادعة ، والبرامج الفارغة ، التي تلتهم الفكر والوقت دونما طائل ، وتنعِق بالترهات المحرِّفة للحقائق والوقائع ، والمحرِّضة لكي يضحك الإنسان ويرقص في المآتم الدامية ، والأحزان المروِّعة .. فكأنه الحجر الأصم !
ويتم توجيه وتأويل ما يجري على الأرض ، على نحو محـيِّـر ومضلل ، ومفْزع ومخيف : إرهاباً وعذاباً ..
ولا تسل بعد ذلك ، عما تلحقه القنوات الفضائية ، أناءَ الليل وأطراف النهار ، بالعقل البشري من تضعضع وتشـوُّه ، وخلط للأوراق ، وتزييف لقيم العدل والتوازن والإيمان ، والبراءة الفطرية النقية ، التي فطر الله الناس عليها ..
فنرى أجيال هذا الزمان ، وقد تم صنعهم وبرمجتهم ، ليكونوا أعداء الحق ، وأعداء وجودهم أيضاً ، فيتصرفون مختلّـيـن ، ومجافين للحقيقة وللدين ..
صبغة الإعلام المعاصر
إن الإعلام المعاصر ، ما كان منه مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً ، ينحو في اتجاه وأد الفضيلة ، ونشر الرذيلة ، وإشاعة الفاحشة ، وتشييد أسواق المتاجرة بالمرأة ، وأنوثتها العارمة ، واستعدادها الموهوب :
وهذه تكاد تكون معطياتٍ وقواسمَ مشتركةٍ ، بين الفنون الإعلامية المتكاثرة ، إلا ما رحم ربك ، وقليل ما هم ، من إعلام ملتزم ..
وإننا وسط هذا الضجيج الإعلامي العاصف ، تجِدنا في ذهول وارتباك ، وغير قادرين على تبين الأمور ، وتمييز الغثِّ من السمين ، والشك من اليقين : ((وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ..))
ويمتلك هذا الإعلام ، القدرة على إيراد الحجج والبراهين والأدلة ، على تبسيط حياة متناقضة ، وترويج سياسات غامضة , واستراتيجيات جائرة ، فلا يستبين الرشْد من الغَيِّ ، ولا الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ويقف الإنسان مشدوهاً أمام ترائي الفُرقاء ، وهم يُدْلون بدلوهم ، ويبرهنون على وجهة نظرهم ، وأحقية مواقفهم ، وتسفيه وتفنيد خصومهم ..
فلا يكاد يُعرف المحق من المبطل ، والحقُّ قد يكون ضعيفاً أداؤه ورواده ، والباطل قد يكون مدعّـماً بقوة تسانده ، وتقف خلفه، وترهب من يرفضه ويأباه ، ويتذمم منه ، ومن السير في ركابه ..
ألوان إعلامية
والإعلام : أنواع وألوان واتجاهات .. فهناك الإعلام السياسي، والعسكري ، والاجتماعي ، والثقافي ، والاقتصادي ، وفي كل ذلك ومن خلاله : أقلام لها رُواء ، وألسنة ليس فيها عَـياء ، وإعلاميون وإعلاميات ، ذووا أداب وأدبيات ، وتحصيل ثقافي وفني لا يستهان به ، وهم يخوضون غمار الحياة الإعلامية ، مشاركين ومساهمين، ومدافعين ومهاجمين ، وموجهين ومنتقدين ، والقلم واللسان ، أحـدُّ وأمضى من السيف والسنان ، في معركة الإعلام ..
وتذكرت الآن ، حديثاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، يذكر فيه فتنة في أخر الزمان ، اللسان فيها أحد من السيف ..
فلعلها هي !
وإننا ندرك تماماً ، مدى ما يتمتع به الإعلاميون ، من كفاءات جمّة ، قد تكون على نحو نادر ، ولذلك نشـهد حرباً إعلامـيـة لا هوادة فيها ، هي حرب الكفاءات التي قد توجه العلماء والأطباء والمتخصصين ، وكبار المحللين والمعلقين ، وتحدد لهم مسبقاً : تفكيرهم وأجوبتهم ..
وفي النتيجة فإن الإنسان إزاء هذا الكم الهائل ، من الإعلام المدجج بأنواع الأسلحة الفاتكة ، يبدو طُعمة سهلة ، ولقمة سائغةً ، وصيداً ثميناً ، وأرضية لزرع غير مُثْمر ولا كريم ..
وأخطر ما في الأمر ، أنه يتم بكل جدية ، استدراجُ الضحايا من نساء ورجال وولدان ، ليقعوا فريسة الشباك العنكبوتية القاتلة ، ولتَجري عليهم تجارب شتى : من نحو غسيل الأدمغة ، وتقديم الجرعات السامة ، وحرفِ المسار إلى الخط المرسوم والمعد سلفاً، ولتسقط الهوية الإنسانية أخيراً ، ويكون بعد ذلك المنحُ والتوزيع ، للهويات الجديدة ! التي تعافها وحوش الغابة ..
ما هو ليس سراً :
وليس من السر في شيء ، أن وسائل الإعلام ، المختلفة الطاقات والأحجام ، هي واقعة تحت هيمنة جهات ليست خفية ولا مستورة ، تتخذ موقف الخصومة والعداوة من العرب والإسلام والسلام ، ومن حق الشعوب في التحرر الحقيقي ، دونما تدخل ولا اختراق ، ولا خطط ماكرة وغادرة ، تَحول دون الأمانيّ والأمال والتطلعات المشروعة للأمم الضعيفة والمستضعفة ، والمسترقَّة من قبل مراكز التجبر والعصيان ، والقوة الطاغية في الأرض ، التي لا تجد لها رادعاً ولا زاجراً ..
إن الصناعة الإعلامية الراهنة ، هي أدق وأخطر من صناعة القنابل النووية ، ولقد عشنا وشاهدنا ، كيف تُدار المعارك والاستراتيجيات : إعلامياً ، حيث الانتصارات الوهمية على الورق والهواء ، والأكاذيبُ والدعاوى المكتوبةُ على صفحة الجليد والماء.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا العالم : بقاراته وثقافاته وهمومه ، هو صنعة هذا الإعلام القاهر ، الذي نتحدث عنه ، والذي يمتلك من وسائل التأكيد والإصرار والتكرار ، ما يُحيل النهار إلى ظلام دامس ، والحق إلى باطل ، وقولَ الزور إلى شهادة صادقة ، والظالمَ إلى مظلوم ، والجزار والجلادَ إلى حمَـل وديع ، ومعتدىً عليه ..
إنه تنكيس في الخلْق والخُلُق ، والتفات بقوة إلى حياة الجاهلية الأولى ، أو أشد رجعية وانحطاطاً وإثماً كبيراً ..
روائح وفضائح :
وبعد .. أولم تروا إلى دنيانا هذه ، كيف تفوح منها روائح الجريمة والنذالة ، وفضائح العار والخيانة ، ومصرع الأمانة والمروءة ، حينما وقعت ضحية إعلام مطـبِّـل ومزمِّر ، يقدم تمثيلاً وتجسيداً لأفدح ما على ظهر هذه البسيطة ، من عنف وخوف ورعب ، وما في النفس من غرائز وشراسة وتمرد ، وأنانية ووحشية ، تُذهل كل مرضعة عما أرضعت ..
فصارت وقائع المحْيا أغرب من الأساطير والخيال ، ومسلسلاتٍ من المستحيل والـمُحال ، وركامات من حطام الحقوق والحرمات والوجود !..
ولم يعد مُتسعٌ في العيادات والمشافي والمِصحات ، والسجون والمقابر والمعتقلات ، وسال هذا الكوكب المنكوب : أنهاراً من الدماء والدموع والمآسي الفظيعة ، والأحزان الدفينة ، وتمزقت من الإنسان أعصابه وأوصاله ، وغادر الحياة غير مأسوف عليه ، وصار الموت نعمة لديه ، وراحةً وشفاءً من حياة ، هي شر من الشر ، ونسخة من الأزمات المفجرة للدماغ وللقلب ، وهي في ضيقها كقعر الجب ..
قد لا يروق هذا العرض والاستعراض لبعضهم ، ممن يشكل هذا الواقع لديهم ، فرصة للتمتع والتمرد ، والفساد في الأرض ، والانفلات إلى كل الأوطار المحرمة شرعاً وعقلاً ، وعرفاً وقانوناً! حياة بلا رقيب ولا حسيب ، حسب معطيات الزمن الرديء ..
لكن بقايا الأسوياء والشرفاء من البشر ، هم أكثرهم إحساساً بالخطر القائم ، وشعوراً بالمرارة والحسرة على ما يجري ، وما آلت إليه مسيرة بني آدم حتى اليوم
وصدق الله العظيم : (( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتم نوره ولو كره الكافرون )).
وفي الختام ..
أؤكد أن قومي العرب ، وأمتي المسلمة ، هم المتضررون حتماً وأولاً ، بهذا الإعلام الظالم والآثم ، الذي يسلبهم حتى حقَّ الدفاع عن النفس ، والذي يروِّج لَعالمٍ : القويُّ فيه يأكل الضعيف ، والقضاة الجائرون ، يصدرون أحكام الإدانة على الضعفاء والمتهمين ، قبل أن تبدأ المحاكمة ، وقبل أن تكون محاكمة أصلاً..
وإعلام الأقوياء المستبدين ، يقوم بالتغطية والتبريرات ، وعلى وَفْق المصالح الجهنمية ، تتم هندسة هذه الحياة . والله سبحانه وتعالى أعلم.
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
حلب
1430 هـ ـ 2009 م
بسم الله الرحمن الرحيم
لَغَـط إعلاميٌّ جامح
مقالة تبحث فيما وراء الظاهرة الإعلامية المخيِّمة على العالَم
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ
مقدمة :
هذه وَمَضات عابرة , من لَمٍع يبرق في دياجي هذه الفتنة الصارخة ,وكلما أضاء لنا مشينا فيه قليلاً , مستطلعين ومكتشفين : ما يتراءى لنافي النظرة الخاطفة , واللمحة السانحة ..
إنها تراكمات بيانية , متراكمة تراكم البرق الراعد , ومتصلة
اتصال الذبذبات الصوتية والضوئية , لتشكل حبلاً متصلاً , وهـو ليس كذلك ! وهنا تظهر سرعة الصوت والضوء الذاتية ..
وبالطبع فلست أزعم أنني على علم متخصص , ودراية إحصائية , في سياق الإعلام , وغيره من العناوين , وحتى في مجال الفكر والبحث : إسلامياً وقرآنياً , فإنني لست كذلك أيضاً ..
غاية ما في الأمر , فإن كتاباتي إنْ هي إلا سوانحُ وملامح , أدركها وأتداركها بالطاقة الأدبية ,المنطلقة من عِـقالات الرسوم والرسميات , والمقتحمةِ حجب المغـيـَّبات !
فطاقة الأدب غير محدودة , وقادرةُ على السبْـح والمرونة , وهي مِسْـبار ذو فاعلية وآلية , وله من المكتشفات والأنابيـش , ما ليس للعلم الرصين , ذي الـقـواعـد والموازين ..
إن الأدب بأسلوبه الـفـذّ , وقدرته الفائقة , هو الراصد للمعاني والمدلولات , وبالأدب الناقد تُستنبط مفاهيم الماورائيات , من الظواهر والشكليات .. وتُستشف حُجب المستقبل !
لعلي تمكنت ــ وأنا ضئيل البضاعة : علماً وأدباً ــ من إيضاح التنويه الآنف , ممهداً بذلك الدخولَ إلى بوابة هذا البحث, مستدرِكاً ما فيه , ومقتنصاً ما قد يَعِـنُّ لي من بديع الإيتاء , وكشف الغطاء , لنرى حقيقة الأشياء ..
وقضية الإعلام اليوم , شائكة ومعقدة , وهي بحر لا ساحل له , يحيط بأرجاء المعمورة , وينشر عليها من طوفانه الغامر , وإشكالياته المفعمة بالإبهام والغموض والوضوح معاً , وإخفاء المقاصد والأهداف طبعاً ..
((يُخفـون في أنفسهم ما لا يُـبدون لك .. )) .
حينما يكون الإعلام بالحجم الذي هو عليه , فإن قدراً كبيراً من الشقاوة والعداوة , يتسببه لبني البشر , ويحيل حياتهم إلى جحيم لا يطاق , ويأخذ بالخناق .. فـيُحـيِّر الحليم , ويلجم العليم ..
والله من وراء القصد .. وهو أعلم .
عبد الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
لَغَطٌ إعلامي جامح
طليعة اللغط الإعلامي :
يدور في العالم لغط إعلامي جامح ، يذهب بالناس يميناً ويساراً ، ولا يستقر بهم على حال ، إلا حال الاضطراب والفوضى، في الزمن الضائع ! والفكرٍ المثخن : تعباً ورهَقاً وجراحاً ..
وهذا اللغط الإعلامي ، يخضع لآليات انتقائية ومزاجية : مبرمَجة ومصطنعة ، حسب مقتضيات المرجعية السياسية ، الآخذةِ بمجامع الأسماع والأبصار والأفئدة ، والمرجعية الثقافية الهابطة ، التي تمضي بالمجتمعات ، ولا تـَلوي على شيء ، ولا يقوم لها شيء ..
أسماع البشر وأبصارهم ووجدانياتهم ، نَهْب مقسَّم بين تلك الأمزجة والمرجعيات .. والوعظ المجاني الرخيص !
ولذلك نرى الإنسان المعاصر، لا يكاد يهتدي إلى أمر ذي بال،
ولا يقف عند وضع معـيَّن ، فهو لا يمتلك رؤية واضحةً ، ولا يعيش حياة مستقرة ، وقد درج على هذا النمط من السلوك المتردد والمتقلب ، والمبنيِّ على قناعات هشّة وغـثّة ، وذات عِوج وسطحية باردة وعقيمة ..
الارتهان الإعلامي :
إن شعوباً وأمماً في الأرض ، مرتهنون لإعلامٍ لا يرحمهم ولا ينفعهم ، بل يتقاذفهم تقاذف الكرة ، ويتلاعب بعواطفهم ، ويصادر مشاعرهم ، ويشحن قلوبهم وعقولهم ونفوسهم ، بمزيج غير سويّ من العروض السخيفة ، والأخبار الملفقةِ ، التي فيها السم الزُّعاف، والإثارة والإرجاف ، بعيدة عن الحياد والإنصاف ..
ولم يتعرض البشر قط ، في تاريخهم الطويل ، لمثل هذه الألوان الخادعة ، والبرامج الفارغة ، التي تلتهم الفكر والوقت دونما طائل ، وتنعِق بالترهات المحرِّفة للحقائق والوقائع ، والمحرِّضة لكي يضحك الإنسان ويرقص في المآتم الدامية ، والأحزان المروِّعة .. فكأنه الحجر الأصم !
ويتم توجيه وتأويل ما يجري على الأرض ، على نحو محـيِّـر ومضلل ، ومفْزع ومخيف : إرهاباً وعذاباً ..
ولا تسل بعد ذلك ، عما تلحقه القنوات الفضائية ، أناءَ الليل وأطراف النهار ، بالعقل البشري من تضعضع وتشـوُّه ، وخلط للأوراق ، وتزييف لقيم العدل والتوازن والإيمان ، والبراءة الفطرية النقية ، التي فطر الله الناس عليها ..
فنرى أجيال هذا الزمان ، وقد تم صنعهم وبرمجتهم ، ليكونوا أعداء الحق ، وأعداء وجودهم أيضاً ، فيتصرفون مختلّـيـن ، ومجافين للحقيقة وللدين ..
صبغة الإعلام المعاصر
إن الإعلام المعاصر ، ما كان منه مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً ، ينحو في اتجاه وأد الفضيلة ، ونشر الرذيلة ، وإشاعة الفاحشة ، وتشييد أسواق المتاجرة بالمرأة ، وأنوثتها العارمة ، واستعدادها الموهوب :
وهذه تكاد تكون معطياتٍ وقواسمَ مشتركةٍ ، بين الفنون الإعلامية المتكاثرة ، إلا ما رحم ربك ، وقليل ما هم ، من إعلام ملتزم ..
وإننا وسط هذا الضجيج الإعلامي العاصف ، تجِدنا في ذهول وارتباك ، وغير قادرين على تبين الأمور ، وتمييز الغثِّ من السمين ، والشك من اليقين : ((وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ..))
ويمتلك هذا الإعلام ، القدرة على إيراد الحجج والبراهين والأدلة ، على تبسيط حياة متناقضة ، وترويج سياسات غامضة , واستراتيجيات جائرة ، فلا يستبين الرشْد من الغَيِّ ، ولا الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ويقف الإنسان مشدوهاً أمام ترائي الفُرقاء ، وهم يُدْلون بدلوهم ، ويبرهنون على وجهة نظرهم ، وأحقية مواقفهم ، وتسفيه وتفنيد خصومهم ..
فلا يكاد يُعرف المحق من المبطل ، والحقُّ قد يكون ضعيفاً أداؤه ورواده ، والباطل قد يكون مدعّـماً بقوة تسانده ، وتقف خلفه، وترهب من يرفضه ويأباه ، ويتذمم منه ، ومن السير في ركابه ..
ألوان إعلامية
والإعلام : أنواع وألوان واتجاهات .. فهناك الإعلام السياسي، والعسكري ، والاجتماعي ، والثقافي ، والاقتصادي ، وفي كل ذلك ومن خلاله : أقلام لها رُواء ، وألسنة ليس فيها عَـياء ، وإعلاميون وإعلاميات ، ذووا أداب وأدبيات ، وتحصيل ثقافي وفني لا يستهان به ، وهم يخوضون غمار الحياة الإعلامية ، مشاركين ومساهمين، ومدافعين ومهاجمين ، وموجهين ومنتقدين ، والقلم واللسان ، أحـدُّ وأمضى من السيف والسنان ، في معركة الإعلام ..
وتذكرت الآن ، حديثاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، يذكر فيه فتنة في أخر الزمان ، اللسان فيها أحد من السيف ..
فلعلها هي !
وإننا ندرك تماماً ، مدى ما يتمتع به الإعلاميون ، من كفاءات جمّة ، قد تكون على نحو نادر ، ولذلك نشـهد حرباً إعلامـيـة لا هوادة فيها ، هي حرب الكفاءات التي قد توجه العلماء والأطباء والمتخصصين ، وكبار المحللين والمعلقين ، وتحدد لهم مسبقاً : تفكيرهم وأجوبتهم ..
وفي النتيجة فإن الإنسان إزاء هذا الكم الهائل ، من الإعلام المدجج بأنواع الأسلحة الفاتكة ، يبدو طُعمة سهلة ، ولقمة سائغةً ، وصيداً ثميناً ، وأرضية لزرع غير مُثْمر ولا كريم ..
وأخطر ما في الأمر ، أنه يتم بكل جدية ، استدراجُ الضحايا من نساء ورجال وولدان ، ليقعوا فريسة الشباك العنكبوتية القاتلة ، ولتَجري عليهم تجارب شتى : من نحو غسيل الأدمغة ، وتقديم الجرعات السامة ، وحرفِ المسار إلى الخط المرسوم والمعد سلفاً، ولتسقط الهوية الإنسانية أخيراً ، ويكون بعد ذلك المنحُ والتوزيع ، للهويات الجديدة ! التي تعافها وحوش الغابة ..
ما هو ليس سراً :
وليس من السر في شيء ، أن وسائل الإعلام ، المختلفة الطاقات والأحجام ، هي واقعة تحت هيمنة جهات ليست خفية ولا مستورة ، تتخذ موقف الخصومة والعداوة من العرب والإسلام والسلام ، ومن حق الشعوب في التحرر الحقيقي ، دونما تدخل ولا اختراق ، ولا خطط ماكرة وغادرة ، تَحول دون الأمانيّ والأمال والتطلعات المشروعة للأمم الضعيفة والمستضعفة ، والمسترقَّة من قبل مراكز التجبر والعصيان ، والقوة الطاغية في الأرض ، التي لا تجد لها رادعاً ولا زاجراً ..
إن الصناعة الإعلامية الراهنة ، هي أدق وأخطر من صناعة القنابل النووية ، ولقد عشنا وشاهدنا ، كيف تُدار المعارك والاستراتيجيات : إعلامياً ، حيث الانتصارات الوهمية على الورق والهواء ، والأكاذيبُ والدعاوى المكتوبةُ على صفحة الجليد والماء.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا العالم : بقاراته وثقافاته وهمومه ، هو صنعة هذا الإعلام القاهر ، الذي نتحدث عنه ، والذي يمتلك من وسائل التأكيد والإصرار والتكرار ، ما يُحيل النهار إلى ظلام دامس ، والحق إلى باطل ، وقولَ الزور إلى شهادة صادقة ، والظالمَ إلى مظلوم ، والجزار والجلادَ إلى حمَـل وديع ، ومعتدىً عليه ..
إنه تنكيس في الخلْق والخُلُق ، والتفات بقوة إلى حياة الجاهلية الأولى ، أو أشد رجعية وانحطاطاً وإثماً كبيراً ..
روائح وفضائح :
وبعد .. أولم تروا إلى دنيانا هذه ، كيف تفوح منها روائح الجريمة والنذالة ، وفضائح العار والخيانة ، ومصرع الأمانة والمروءة ، حينما وقعت ضحية إعلام مطـبِّـل ومزمِّر ، يقدم تمثيلاً وتجسيداً لأفدح ما على ظهر هذه البسيطة ، من عنف وخوف ورعب ، وما في النفس من غرائز وشراسة وتمرد ، وأنانية ووحشية ، تُذهل كل مرضعة عما أرضعت ..
فصارت وقائع المحْيا أغرب من الأساطير والخيال ، ومسلسلاتٍ من المستحيل والـمُحال ، وركامات من حطام الحقوق والحرمات والوجود !..
ولم يعد مُتسعٌ في العيادات والمشافي والمِصحات ، والسجون والمقابر والمعتقلات ، وسال هذا الكوكب المنكوب : أنهاراً من الدماء والدموع والمآسي الفظيعة ، والأحزان الدفينة ، وتمزقت من الإنسان أعصابه وأوصاله ، وغادر الحياة غير مأسوف عليه ، وصار الموت نعمة لديه ، وراحةً وشفاءً من حياة ، هي شر من الشر ، ونسخة من الأزمات المفجرة للدماغ وللقلب ، وهي في ضيقها كقعر الجب ..
قد لا يروق هذا العرض والاستعراض لبعضهم ، ممن يشكل هذا الواقع لديهم ، فرصة للتمتع والتمرد ، والفساد في الأرض ، والانفلات إلى كل الأوطار المحرمة شرعاً وعقلاً ، وعرفاً وقانوناً! حياة بلا رقيب ولا حسيب ، حسب معطيات الزمن الرديء ..
لكن بقايا الأسوياء والشرفاء من البشر ، هم أكثرهم إحساساً بالخطر القائم ، وشعوراً بالمرارة والحسرة على ما يجري ، وما آلت إليه مسيرة بني آدم حتى اليوم
وصدق الله العظيم : (( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتم نوره ولو كره الكافرون )).
وفي الختام ..
أؤكد أن قومي العرب ، وأمتي المسلمة ، هم المتضررون حتماً وأولاً ، بهذا الإعلام الظالم والآثم ، الذي يسلبهم حتى حقَّ الدفاع عن النفس ، والذي يروِّج لَعالمٍ : القويُّ فيه يأكل الضعيف ، والقضاة الجائرون ، يصدرون أحكام الإدانة على الضعفاء والمتهمين ، قبل أن تبدأ المحاكمة ، وقبل أن تكون محاكمة أصلاً..
وإعلام الأقوياء المستبدين ، يقوم بالتغطية والتبريرات ، وعلى وَفْق المصالح الجهنمية ، تتم هندسة هذه الحياة . والله سبحانه وتعالى أعلم.