متعلم أمازيغي
11-23-2009, 01:38 PM
من الرياضيات إلى الفلسفة
إعادة قراءة ابن خلدون
التراث ونقد العقل العربي
يُعد المغربي محمد عابد الجابري من بين المفكرين العرب ذوي المشاريع النظرية الأكثر لفتا للانتباه واجتذابا للنقاش والجدل في اللحظة الراهنة.
وإذا أردنا جمع هذه المشاريع حول سؤال مشترك، يمكن القول إن الهاجس الغالب عليها هو التفكير في سؤال النهضة؛ مع اختلاف في كيفيات طرق السؤال والإجابة عنه، بسبب تعدد واختلاف المداخل المنهجية التي توسل بها أصحاب تلك المشاريع.
أما المدخل المنهجي الذي اختاره الأستاذ الجابري فلم يكن مدخلا سياسيا ولا اقتصاديا بل أبستملوجيا، إذ يرى أنه لا نهضة دون تحصيل آلة إنتاجها أي العقل الناهض.
ولا يمكن تحصيل هذا الفكر القادر على صناعة النهضة دون نقد للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته، من أجل بيان الحاجة إلى عصر تدوين جديد يؤسس للعقل نظاما معرفيا قادرا على الاستجابة لتحديات الراهن.
هذا المطلب هو الذي اشتغل الأستاذ الجابري بقصد إنجازه طيلة ما يقرب من نصف قرن متوجا ذلك بإنتاج موسوعته “نقد العقل العربي” وهو الإنجاز الذي رأت اليونسكو أنه يستحق أن يُكرم في الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني
2006.
وقد كان الحفل تكريما لرمزين فكريين كان لهما إسهام مقدر في البحث الفلسفي، إذ بالإضافة إلى الجابري تم الاحتفاء أيضا بالفيلسوفة الألمانية حنا أرندت (1906-1975) بمناسبة الذكرى المئوية لميلادها.
فما هي لحظات مسار تطور فكر الجابري الذي تُوج بهذا التكريم؟ وما هي الإشكالات المعرفية التي طرحها ويطرحها مشروعه الفكري؟
في مقاربتي لهذا المسار الفكري لا أستهدف تقييمه نقديا، وإنما هو تقديم وصفي للحظات تطوره، مستحضرا محطات من السيرة الذاتية لصاحبه مع الوقوف عند اللحظات الخاصة بتأسيس مشروعه المعرفي.”
الرموز الحسابية الهندية كانت هي السبب في أن يولد الفيلسوف الجابري، فلولا تلك الرموز لاختار الطالب محمد عابد الجابري تخصص الرياضيات لا الفلسفة، وبذلك كنا بلا شك سنخسر مفكرا“
من الرياضيات إلى الفلسفة
كثيرا ما تلعب أقدار، تبدو صدفا في مسار حياة الناس، دورا رئيسا في تشكيل مستقبلهم، وبالرجوع إلى حياة الجابري يستوقفنا حادث كان هو المنعطف نحو توجهه إلى التخصص في الدراسات الفلسفية، لأن الرجل كان في ميوله الدراسية عاشقا للرياضيات.
وعندما تحدث الجابري في كتابه “مسار كاتب” عن علاقته بهذا العلم الدقيق وصف ميله إليه وتميزه فيه بلغة لا تخلو من جيشان العاطفة “كنت مولعا بالرياضيات.. كان لدي ما يشبه الموهبة في هذه المادة..”.
ففي المدرسة الابتدائية وكذلك في السنتين اللتين قضيتهما في المدرسة الثانوية (والكلام للجابري) كان الأستاذ يملي علينا في نهاية الدرس تمارين الحساب والهندسة ثم الجبر كواجبات منزلية، وكثيرا ما كنت أكتفي بالاستماع إليه وكتابة المعطيات الرقمية بدل كتابة نصوص التمارين بأكملها، حتى إذا انتهى من الإملاء كنت قد هيأت الجواب! وفي المنزل كنت أشتغل على تمارين مماثلة في الكتب الفرنسية! وكانت تستغرق جل أوقات الفراغ عندي“.
بهذا العشق لعلم الخوارزمي سافر الجابري إلى سوريا سنة 1957 ليتم دراسته في تخصص الرياضيات، وقد كان عمره آنذاك واحدا وعشرين عاما، بيد أن أمرا طريفا كان سيرغمه على تبديل اختياره التعليمي، فقبل أن يسجل نفسه في كلية العلوم أخذ الكتب المدرسية السورية لاستطلاعها والمقارنة بينها وبين ما تعلمه في المغرب.
وعندها فوجئ الطالب المغربي بما لم يكن قد تهيأ له، حيث يصف الجابري ما حدث قائلا “كانت صدمة كبيرة لي عندما وجدتني أمام (مشاهد) لم أكن قد تعودت عليها: أرقام هندية لا أستطيع قراءتها بسهولة، وأنا قد تعودت في المغرب على الأرقام العربية، العالمية الآن، وكانت مراجعي في مادة الرياضيات والفيزياء كلها مراجع فرنسية..”.
وأضاف الجابري: لقد وجدت نفسي في كتب الجامعة السورية في دمشق أمام أرقام ورموز ومعادلات ومصطلحات غريبة عني أو أنا غريب عنها، والرياضيات كلها رموز..
ويقول المفكر المغربي: شعرت أنه سيكون علي أن أقوم بدور المترجم لنفسي من العربية إلى الفرنسية ومنها إلى اصطلاحنا في المغرب.. فكان هذا شيئا مثبطا تماما.
وقرر الجابري ترك الرياضيات والتخصصات العلمية على حد سواء، والارتحال هاربا من استغلاق الرموز العلمية التي تحفل بها كتب الرياضيات والفيزياء… إلى حقل معرفي آخر، هو القانون، ولكنه بعد أن راجع كتب القانون لاحظ أنها تعتمد بالدرجة الأساس على الحفظ والذاكرة.
وقرر الطالب التغيير مرة أخرى، فسجل نفسه في كلية الآداب بالسنة الأولى في تخصص كان يسمى “الثقافة العامة” على أن يختار بالسنة الثانية شعبة الفلسفة، ودرس الجابري السنة الأولى في دمشق، ونجح بتفوق، فكان ترتيبه السادس من بين ما ينيف على خمسمائة طالب.
وفي نهاية العام عاد الجابري إلى المغرب ليجد أن كلية الآداب في الرباط استحدثت شعبة الفلسفة، فقرر العدول عن السفر إلى دمشق، ومتابعة دراسته في الرباط.
وهكذا يمكن أن نقول إن الرموز الحسابية الهندية كانت هي السبب في أن يولد الفيلسوف الجابري، فلولا تلك الرموز لاختار الطالب محمد عابد الجابري تخصص الرياضيات لا الفلسفة، وبذلك كنا بلا شك سنخسر مفكرا. “
ابن خلدون كان الدافع إلى توجيه الدفة مرة أخرى إذ جذب الاهتمام بالمقدمة الخلدونية تفكير الجابري إلى دراسة التراث“
إعادة قراءة ابن خلدون
وإذا كانت مجرد مسألة شكلية تتعلق بالرمز الرياضي قلبت دفة حياة الجابري الطالب من الرياضيات إلى الفلسفة، فإن ابن خلدون كان الدافع إلى توجيه الدفة مرة أخرى، ولكنها هذه المرة داخل التخصص نفسه، أي الفلسفة، إذ جذب الاهتمام بالمقدمة الخلدونية تفكير الجابري إلى دراسة التراث.
وعلاقة الجابري بابن خلدون تعود إلى الباكالوريا (الثانوية العامة) حين يحكي عن نفسه قائلا “في سنة 1957 كان قد مضى على استقلال المغرب نحو سنة ونصف السنة، وكنت آنذاك أهيئ البكالوريا“.
وذات يوم -يقول الجابري- حوالي الثامنة أو الثامنة والنصف مساء، فتحت الإذاعة المغربية فإذا بمحاضرة عن ابن خلدون وآرائه. كنت شابا في ذلك الوقت وقد علقت بذهني بعض المعلومات أثارت فضولي ورغبتي في الإطلاع..
ويضيف المفكر المغربي: استعرت كتاب “مقدمة ابن خلدون” من أحد الأصدقاء وبدأت أقرأ فيه.. أتذكر جيدا أن موضوعات المقدمة قد استهوتني، كأنني قد وجدت فيها شيئا يهمني!
وفي دمشق أيضا، التقى الجابري مرة ثانية بابن خلدون، إذ يذكر أن أستاذه في مادة علم الاجتماع الدكتور عبد الكريم اليافي كلفه بإنجاز عرض حول العلامة ابن خلدون، ويذكر أيضا أن عرضه هذا نال إعجاب الأستاذ والطلبة.
وبعد عودته من دمشق، وبعد حصوله على الإجازة في الفلسفة، وتحضيره للتسجيل في دبلوم الدراسات العليا، سيجد الجابري نفسه من جديد أمام ابن خلدون، فيقول “ألح علي الأستاذ المشرف، الدكتور محمد عزيز الحبابي أن يكون موضوع بحثي “آراء ابن خلدون في كتابة التاريخ” والنظر في الكتابات التاريخية المغربية المعاصرة في ذلك الوقت، إن كانت قد استفادت من نقد ابن خلدون للمؤرخين“.
وعندما أنهى الجابري رسالة دبلوم الدراسات العليا أحس أن الدراسة التي أنجزها عن ابن خلدون لم تكن هي ما يريده، كما أن الوجهة التي نظر من خلالها إلى مقدمة ابن خلدون لم تمكنه من استثمار المادة البحثية الكبيرة التي هيأها.
لذا شرع في إعادة النظر في بحثه مع توسيع مجال الرؤية إليه من أجل إعداد كتاب مستقل، فانتهى منه أواخر عام 1968، ثم قدم الكتاب إلى أستاذه الدكتور نجيب بلدي، ليرى إن كان يصلح للنشر وليكتب له مقدمة.
وبعد أسابيع يقول الجابري: فاجأني بأن تحمس له كثيرا وطلب مني أن أسجله أطروحة لدكتوراه الدولة.
التراث ونقد العقل العربي
قلت من قبل إن الاهتمام بابن خلدون هو الذي وجه اهتمام الجابري إلى دراسة التراث، بيد أنه يمكن أن أضيف شيئا آخر أكثر أهمية مما سبق، وهو أن في أسلوب دراسته لابن خلدون تبلور المنهج النقدي الذي سيعتمده الجابري لاحقا في قراءة متون التراث.
يقول الجابري “أذكر أنني حين كنت أكتب أو أقرأ عن ابن خلدون كنت منشغلا بهاجس أساسي وهو أن التأويلات المعاصرة والمتعددة لابن خلدون تخفيه عنا.. لذلك قررت أن (أنسى) كل ما كتب عن صاحب المقدمة.. وأن لا أتخذ لي مرجعا آخر غير نصوص ابن خلدون نفسه. هكذا قررت أن أكتب عن ابن خلدون وكأن أحدا لم يكتب عنه قبلي“.
هذا المنهج في القراءة المرتكز على العودة إلى النص وتخطي مختلف التأويلات المعاصرة، هو ما سيطبقه الجابري في دراساته اللاحقة، حين شارك في العراق سنة 1975 في ندوة عن الفارابي، متعاملا مع هذا الفيلسوف بالطريقة نفسها، أي أن لا ينشغل بما كتب عنه.
ثم كانت دراسات أخرى واحدة عن ابن رشد، وأخرى عن ابن سينا، بالمنظور المنهجي نفسه، أي العودة إلى المتون والنصوص ذاتها، وصرف النظر عن قراءات الآخرين لها.
وهذه الدراسات هي التي سيجمعها الجابري ثم يصدرها في كتابه “نحن والتراث“.
مشروع نقد العقل عند الجابري ليس مجرد تاريخ لتكوين العقل العربي بل هو مشروع لإنهاض هذا العقل، إذ هو لا يمارس النقد من أجل النقد بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي
“
كان كتاب “نحن والتراث” بطبيعته مجموعة متفرقة من الدراسات عن شخصيات فلسفية، إلا أن المقدمة المنهجية التي كتبها المؤلف خصيصا لهذه الدراسات جعلته ينظر من جديد إلى الموضوع التراثي مكتشفا وحدة خفية وإطارا عاما ينتظم الإنتاج التراثي.
وهذا الإطار هو الذي سيحاول الجابري مقاربته من خلال دراسة العقل العربي في كتابه “تكوين العقل العربي” الذي يتناول فيه تشكل هذا العقل والشروط المعرفية والتاريخية لبنائه، مع تحديد مكوناته الأبستملوجية، والتوظيف الأيديولوجي الذي تم استخدام تلك المكونات لأدائها، منتهيا إلى اختزال النظم المعرفية التي تؤسس الثقافة العربية الإسلامية، “وتشرط” العقل العربي في ثلاثة نظم هي: البيان والعرفان والبرهان، وستكون موضوع دراسته اللاحقة “بنية العقل العربي“.
والواقع أنني عندما أستعيد الآن كتاب الجابري “تكوين العقل العربي” تحضرني مقولة أحد المؤرخين جوابا عن سؤال وجه إليه: كيف اخترت التاريخ كحقل للدراسة والاشتغال؟ فأجاب قائلا “إن الناس لا تقرأ التاريخ من أجل فهم الماضي بل تقرأه من أجل فهم الحاضر“.
وعلى ضوء ذلك فإن مشروع الجابري في قراءة التراث لم يكن من أجل مطلب يتعلق بفهم الماضي حصرا، بل كان أساسا من أجل فهم الحاضر، فهو نفسه في بداية كتابه يقول “يتناول هذا الكتاب موضوعا كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة. إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة“.
ويتساءل الجابري “هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟”. فمشروع نقد العقل عند الجابري ليس مجرد تاريخ لتكوين العقل العربي، بل هو مشروع لإنهاض هذا العقل “فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي“.
ووصلا بما ابتدأنا به هذا المقال، نقول إن الانشغال بالتراث عند الجابري كان مرتبطا بهاجس النهوض، واستمرارا في الانشغال بهذا الهاجس الذي سينتقل من نقد العقل المعرفي إلى نقد العقل السياسي ثم العقل الأخلاقي.
وفي سياق الاهتمام بما يؤسس العقل العربي يتناول الجابري في أحدث إصدار له “مدخل إلى القرآن الكريم” نص القرآن بوصفه النص المرجعي للعقل والحضارة الإسلامية.
وبمقدار ما حظي مشروع الجابري الفكري من استحسان واحتفاء، فإنه أثار أيضا الكثير من الاستهجان والنقد.
لكن الذي يستحق الذكر من هذه الانتقادات الكثيرة هو ما أصدره الأستاذ جورج طرابيشي ضمن سلسلته تحت عنوان “نقد نقدِ العقل العربي” إذ كان عمله أوسعَ وأشملَ بحث نقدي أُنجز حول مشروع الجابري.
إعادة قراءة ابن خلدون
التراث ونقد العقل العربي
يُعد المغربي محمد عابد الجابري من بين المفكرين العرب ذوي المشاريع النظرية الأكثر لفتا للانتباه واجتذابا للنقاش والجدل في اللحظة الراهنة.
وإذا أردنا جمع هذه المشاريع حول سؤال مشترك، يمكن القول إن الهاجس الغالب عليها هو التفكير في سؤال النهضة؛ مع اختلاف في كيفيات طرق السؤال والإجابة عنه، بسبب تعدد واختلاف المداخل المنهجية التي توسل بها أصحاب تلك المشاريع.
أما المدخل المنهجي الذي اختاره الأستاذ الجابري فلم يكن مدخلا سياسيا ولا اقتصاديا بل أبستملوجيا، إذ يرى أنه لا نهضة دون تحصيل آلة إنتاجها أي العقل الناهض.
ولا يمكن تحصيل هذا الفكر القادر على صناعة النهضة دون نقد للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته، من أجل بيان الحاجة إلى عصر تدوين جديد يؤسس للعقل نظاما معرفيا قادرا على الاستجابة لتحديات الراهن.
هذا المطلب هو الذي اشتغل الأستاذ الجابري بقصد إنجازه طيلة ما يقرب من نصف قرن متوجا ذلك بإنتاج موسوعته “نقد العقل العربي” وهو الإنجاز الذي رأت اليونسكو أنه يستحق أن يُكرم في الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني
2006.
وقد كان الحفل تكريما لرمزين فكريين كان لهما إسهام مقدر في البحث الفلسفي، إذ بالإضافة إلى الجابري تم الاحتفاء أيضا بالفيلسوفة الألمانية حنا أرندت (1906-1975) بمناسبة الذكرى المئوية لميلادها.
فما هي لحظات مسار تطور فكر الجابري الذي تُوج بهذا التكريم؟ وما هي الإشكالات المعرفية التي طرحها ويطرحها مشروعه الفكري؟
في مقاربتي لهذا المسار الفكري لا أستهدف تقييمه نقديا، وإنما هو تقديم وصفي للحظات تطوره، مستحضرا محطات من السيرة الذاتية لصاحبه مع الوقوف عند اللحظات الخاصة بتأسيس مشروعه المعرفي.”
الرموز الحسابية الهندية كانت هي السبب في أن يولد الفيلسوف الجابري، فلولا تلك الرموز لاختار الطالب محمد عابد الجابري تخصص الرياضيات لا الفلسفة، وبذلك كنا بلا شك سنخسر مفكرا“
من الرياضيات إلى الفلسفة
كثيرا ما تلعب أقدار، تبدو صدفا في مسار حياة الناس، دورا رئيسا في تشكيل مستقبلهم، وبالرجوع إلى حياة الجابري يستوقفنا حادث كان هو المنعطف نحو توجهه إلى التخصص في الدراسات الفلسفية، لأن الرجل كان في ميوله الدراسية عاشقا للرياضيات.
وعندما تحدث الجابري في كتابه “مسار كاتب” عن علاقته بهذا العلم الدقيق وصف ميله إليه وتميزه فيه بلغة لا تخلو من جيشان العاطفة “كنت مولعا بالرياضيات.. كان لدي ما يشبه الموهبة في هذه المادة..”.
ففي المدرسة الابتدائية وكذلك في السنتين اللتين قضيتهما في المدرسة الثانوية (والكلام للجابري) كان الأستاذ يملي علينا في نهاية الدرس تمارين الحساب والهندسة ثم الجبر كواجبات منزلية، وكثيرا ما كنت أكتفي بالاستماع إليه وكتابة المعطيات الرقمية بدل كتابة نصوص التمارين بأكملها، حتى إذا انتهى من الإملاء كنت قد هيأت الجواب! وفي المنزل كنت أشتغل على تمارين مماثلة في الكتب الفرنسية! وكانت تستغرق جل أوقات الفراغ عندي“.
بهذا العشق لعلم الخوارزمي سافر الجابري إلى سوريا سنة 1957 ليتم دراسته في تخصص الرياضيات، وقد كان عمره آنذاك واحدا وعشرين عاما، بيد أن أمرا طريفا كان سيرغمه على تبديل اختياره التعليمي، فقبل أن يسجل نفسه في كلية العلوم أخذ الكتب المدرسية السورية لاستطلاعها والمقارنة بينها وبين ما تعلمه في المغرب.
وعندها فوجئ الطالب المغربي بما لم يكن قد تهيأ له، حيث يصف الجابري ما حدث قائلا “كانت صدمة كبيرة لي عندما وجدتني أمام (مشاهد) لم أكن قد تعودت عليها: أرقام هندية لا أستطيع قراءتها بسهولة، وأنا قد تعودت في المغرب على الأرقام العربية، العالمية الآن، وكانت مراجعي في مادة الرياضيات والفيزياء كلها مراجع فرنسية..”.
وأضاف الجابري: لقد وجدت نفسي في كتب الجامعة السورية في دمشق أمام أرقام ورموز ومعادلات ومصطلحات غريبة عني أو أنا غريب عنها، والرياضيات كلها رموز..
ويقول المفكر المغربي: شعرت أنه سيكون علي أن أقوم بدور المترجم لنفسي من العربية إلى الفرنسية ومنها إلى اصطلاحنا في المغرب.. فكان هذا شيئا مثبطا تماما.
وقرر الجابري ترك الرياضيات والتخصصات العلمية على حد سواء، والارتحال هاربا من استغلاق الرموز العلمية التي تحفل بها كتب الرياضيات والفيزياء… إلى حقل معرفي آخر، هو القانون، ولكنه بعد أن راجع كتب القانون لاحظ أنها تعتمد بالدرجة الأساس على الحفظ والذاكرة.
وقرر الطالب التغيير مرة أخرى، فسجل نفسه في كلية الآداب بالسنة الأولى في تخصص كان يسمى “الثقافة العامة” على أن يختار بالسنة الثانية شعبة الفلسفة، ودرس الجابري السنة الأولى في دمشق، ونجح بتفوق، فكان ترتيبه السادس من بين ما ينيف على خمسمائة طالب.
وفي نهاية العام عاد الجابري إلى المغرب ليجد أن كلية الآداب في الرباط استحدثت شعبة الفلسفة، فقرر العدول عن السفر إلى دمشق، ومتابعة دراسته في الرباط.
وهكذا يمكن أن نقول إن الرموز الحسابية الهندية كانت هي السبب في أن يولد الفيلسوف الجابري، فلولا تلك الرموز لاختار الطالب محمد عابد الجابري تخصص الرياضيات لا الفلسفة، وبذلك كنا بلا شك سنخسر مفكرا. “
ابن خلدون كان الدافع إلى توجيه الدفة مرة أخرى إذ جذب الاهتمام بالمقدمة الخلدونية تفكير الجابري إلى دراسة التراث“
إعادة قراءة ابن خلدون
وإذا كانت مجرد مسألة شكلية تتعلق بالرمز الرياضي قلبت دفة حياة الجابري الطالب من الرياضيات إلى الفلسفة، فإن ابن خلدون كان الدافع إلى توجيه الدفة مرة أخرى، ولكنها هذه المرة داخل التخصص نفسه، أي الفلسفة، إذ جذب الاهتمام بالمقدمة الخلدونية تفكير الجابري إلى دراسة التراث.
وعلاقة الجابري بابن خلدون تعود إلى الباكالوريا (الثانوية العامة) حين يحكي عن نفسه قائلا “في سنة 1957 كان قد مضى على استقلال المغرب نحو سنة ونصف السنة، وكنت آنذاك أهيئ البكالوريا“.
وذات يوم -يقول الجابري- حوالي الثامنة أو الثامنة والنصف مساء، فتحت الإذاعة المغربية فإذا بمحاضرة عن ابن خلدون وآرائه. كنت شابا في ذلك الوقت وقد علقت بذهني بعض المعلومات أثارت فضولي ورغبتي في الإطلاع..
ويضيف المفكر المغربي: استعرت كتاب “مقدمة ابن خلدون” من أحد الأصدقاء وبدأت أقرأ فيه.. أتذكر جيدا أن موضوعات المقدمة قد استهوتني، كأنني قد وجدت فيها شيئا يهمني!
وفي دمشق أيضا، التقى الجابري مرة ثانية بابن خلدون، إذ يذكر أن أستاذه في مادة علم الاجتماع الدكتور عبد الكريم اليافي كلفه بإنجاز عرض حول العلامة ابن خلدون، ويذكر أيضا أن عرضه هذا نال إعجاب الأستاذ والطلبة.
وبعد عودته من دمشق، وبعد حصوله على الإجازة في الفلسفة، وتحضيره للتسجيل في دبلوم الدراسات العليا، سيجد الجابري نفسه من جديد أمام ابن خلدون، فيقول “ألح علي الأستاذ المشرف، الدكتور محمد عزيز الحبابي أن يكون موضوع بحثي “آراء ابن خلدون في كتابة التاريخ” والنظر في الكتابات التاريخية المغربية المعاصرة في ذلك الوقت، إن كانت قد استفادت من نقد ابن خلدون للمؤرخين“.
وعندما أنهى الجابري رسالة دبلوم الدراسات العليا أحس أن الدراسة التي أنجزها عن ابن خلدون لم تكن هي ما يريده، كما أن الوجهة التي نظر من خلالها إلى مقدمة ابن خلدون لم تمكنه من استثمار المادة البحثية الكبيرة التي هيأها.
لذا شرع في إعادة النظر في بحثه مع توسيع مجال الرؤية إليه من أجل إعداد كتاب مستقل، فانتهى منه أواخر عام 1968، ثم قدم الكتاب إلى أستاذه الدكتور نجيب بلدي، ليرى إن كان يصلح للنشر وليكتب له مقدمة.
وبعد أسابيع يقول الجابري: فاجأني بأن تحمس له كثيرا وطلب مني أن أسجله أطروحة لدكتوراه الدولة.
التراث ونقد العقل العربي
قلت من قبل إن الاهتمام بابن خلدون هو الذي وجه اهتمام الجابري إلى دراسة التراث، بيد أنه يمكن أن أضيف شيئا آخر أكثر أهمية مما سبق، وهو أن في أسلوب دراسته لابن خلدون تبلور المنهج النقدي الذي سيعتمده الجابري لاحقا في قراءة متون التراث.
يقول الجابري “أذكر أنني حين كنت أكتب أو أقرأ عن ابن خلدون كنت منشغلا بهاجس أساسي وهو أن التأويلات المعاصرة والمتعددة لابن خلدون تخفيه عنا.. لذلك قررت أن (أنسى) كل ما كتب عن صاحب المقدمة.. وأن لا أتخذ لي مرجعا آخر غير نصوص ابن خلدون نفسه. هكذا قررت أن أكتب عن ابن خلدون وكأن أحدا لم يكتب عنه قبلي“.
هذا المنهج في القراءة المرتكز على العودة إلى النص وتخطي مختلف التأويلات المعاصرة، هو ما سيطبقه الجابري في دراساته اللاحقة، حين شارك في العراق سنة 1975 في ندوة عن الفارابي، متعاملا مع هذا الفيلسوف بالطريقة نفسها، أي أن لا ينشغل بما كتب عنه.
ثم كانت دراسات أخرى واحدة عن ابن رشد، وأخرى عن ابن سينا، بالمنظور المنهجي نفسه، أي العودة إلى المتون والنصوص ذاتها، وصرف النظر عن قراءات الآخرين لها.
وهذه الدراسات هي التي سيجمعها الجابري ثم يصدرها في كتابه “نحن والتراث“.
مشروع نقد العقل عند الجابري ليس مجرد تاريخ لتكوين العقل العربي بل هو مشروع لإنهاض هذا العقل، إذ هو لا يمارس النقد من أجل النقد بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي
“
كان كتاب “نحن والتراث” بطبيعته مجموعة متفرقة من الدراسات عن شخصيات فلسفية، إلا أن المقدمة المنهجية التي كتبها المؤلف خصيصا لهذه الدراسات جعلته ينظر من جديد إلى الموضوع التراثي مكتشفا وحدة خفية وإطارا عاما ينتظم الإنتاج التراثي.
وهذا الإطار هو الذي سيحاول الجابري مقاربته من خلال دراسة العقل العربي في كتابه “تكوين العقل العربي” الذي يتناول فيه تشكل هذا العقل والشروط المعرفية والتاريخية لبنائه، مع تحديد مكوناته الأبستملوجية، والتوظيف الأيديولوجي الذي تم استخدام تلك المكونات لأدائها، منتهيا إلى اختزال النظم المعرفية التي تؤسس الثقافة العربية الإسلامية، “وتشرط” العقل العربي في ثلاثة نظم هي: البيان والعرفان والبرهان، وستكون موضوع دراسته اللاحقة “بنية العقل العربي“.
والواقع أنني عندما أستعيد الآن كتاب الجابري “تكوين العقل العربي” تحضرني مقولة أحد المؤرخين جوابا عن سؤال وجه إليه: كيف اخترت التاريخ كحقل للدراسة والاشتغال؟ فأجاب قائلا “إن الناس لا تقرأ التاريخ من أجل فهم الماضي بل تقرأه من أجل فهم الحاضر“.
وعلى ضوء ذلك فإن مشروع الجابري في قراءة التراث لم يكن من أجل مطلب يتعلق بفهم الماضي حصرا، بل كان أساسا من أجل فهم الحاضر، فهو نفسه في بداية كتابه يقول “يتناول هذا الكتاب موضوعا كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة. إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة“.
ويتساءل الجابري “هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟”. فمشروع نقد العقل عند الجابري ليس مجرد تاريخ لتكوين العقل العربي، بل هو مشروع لإنهاض هذا العقل “فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي“.
ووصلا بما ابتدأنا به هذا المقال، نقول إن الانشغال بالتراث عند الجابري كان مرتبطا بهاجس النهوض، واستمرارا في الانشغال بهذا الهاجس الذي سينتقل من نقد العقل المعرفي إلى نقد العقل السياسي ثم العقل الأخلاقي.
وفي سياق الاهتمام بما يؤسس العقل العربي يتناول الجابري في أحدث إصدار له “مدخل إلى القرآن الكريم” نص القرآن بوصفه النص المرجعي للعقل والحضارة الإسلامية.
وبمقدار ما حظي مشروع الجابري الفكري من استحسان واحتفاء، فإنه أثار أيضا الكثير من الاستهجان والنقد.
لكن الذي يستحق الذكر من هذه الانتقادات الكثيرة هو ما أصدره الأستاذ جورج طرابيشي ضمن سلسلته تحت عنوان “نقد نقدِ العقل العربي” إذ كان عمله أوسعَ وأشملَ بحث نقدي أُنجز حول مشروع الجابري.