المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدخل في حوار أهل الكتاب (2)



رياض الحمد
06-12-2005, 12:48 AM
(مشروعية مجادلة أهل الكتاب من القرآن والسنة):
أنزل الله القرآن لهداية الناس أجمعين فخاطب فيه عقول الناس حين تستبد بها الأهواء وحين تكتنفها الشبهات وحين تتنازعها الشهوات وما ترك حالة من حالات النفس العارضة إلا و وقف معها يجادلها ويعظها ويذكرها وهو في كل ذلك يرشدها إلى الهداية لعبادته وحده لا شريك له والى الاستقامة على أمره. ولأهل الكتاب من هذا الخطاب والجدال حظ كبير في القرآن والسنة ذلك أنَّ المسافة الفاصلة بينهم وبين الهدى:تركُ الهوى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ولهذا تجد اليهود يصممون ويصرون على باطلهم لما في نفوسهم من الكبر والحسد والقسوة وغير ذلك من الأهواء. وأما النَّصارى فأعظم ضلالاً منهم وإنْ كانوا في العادة والأخلاق أقل منهم شراً فليسوا جازمين بغالب ضلالهم بل عند الاعتبار تجد من ترك الهوى من الطائفتين ونَظَرَ نوعَ نظرٍ تَبيَّنَ له الإسلام حقاً...)) .
المبحث الأول: أدلة مشروعية مجادلة أهل الكتاب من القرآن:
1- قال تعالى:ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن. قال ابن كثير في تفسيرها: ((وقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل 16/125] أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب..)) اهـ. وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: ((... فإنْ كان المدعويرى أنَّ ما هو عليه الحق أوكان داعية إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً. ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنَّه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أومشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها)). أهـ .
2- وقال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[سورة العنكبوت 29/46]. قال الشوكاني رحمه الله: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة. إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم)) .
والمتأمل في القرآن يجد أنَّ معظم القضايا التي جادل القرآن فيها أهل الكتاب تدور على محورين:
1- توحيد الله وعبادته.
2- إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به .
والأمر بمجادلة أهل الكتاب في القرآن جاء مقروناً بالإحسان ومن الإحسان:
1- اتباع طريقة القرآن في جداله لأهل الكتاب ((والأصل في باب مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن هو آية آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/64])) . ولهذا امتثلها النبي صلى الله عليه وسلم فكتبها في رسالته إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام ونبذ الشرك. وقد حرَّفَ العصرانيون معنى ((الكلمة السواء)) إلى معانٍ فاسدة .
2- عدم تكذيب ما عندهم تكذيباً عاماً لمجرد كونه من كتبهم بل ينبغي السكوت عن ذلك فلا يصدقون ولا يكذبون .
3- ومنه: عدم تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام على وجه الحمية والعصبية لحديث أبي هريرة عند البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروني على موسى …)) .
وفي رواية عند البخاري أيضاً: ((لا تفضلوا بين أولياء الله)) .
4- ومنه: أن تكون المجادلة: :((بحسن خلق ولطف ولين كلام ودعوة إلى الحق وتحسينه ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلوبل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق)) .
5- ومنه: أن ينزل خطاب كل طائفة منهم على ما يقتضيه فقه الواقع ومعرفة المجادل أوالمحاور بأحوالهم إذْ إنهم: ليسوا سوآءً. وقد قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأنعام 6/55] فيفوت من الإحسان في جدالهم على قدر تفريط المجادل في:
1- العلم بالحق ومعرفة تفصيل الآيات.
2- ضعف استبانة سبيل المجرمين وما هم عليه من الضلال المبين.

المبحث الثاني: أدلة مشروعية مجادلة أهل الكتاب من السنة:
وردت عدة أحاديث تدل على مشروعية جدال أهل الكتاب منها:
1-حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي …)) الحديث وفيه: ((.. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن..)) رواه مسلم .
2-وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم والسنتكم)) . قال ابن حزم:((وهذا حديث غاية في الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله)). أهـ.
والنبي صلى الله عليه وسلم مبين للقران فجداله مع أهل الكتاب هو التطبيق العملي للجدال القرآني مع أهل الكتاب وهو في هذا ماضٍ على سنة الأنبياء من قبله في جدالهم لأقوامهم وبيان الحق لهم كما قال تعالى في جدال نوح لقومه: ((قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا..)) وكذا الآيات الكريمات التي فيها جدال إبراهيم لأبيه ولقومه وللملك ومحاجة موسى لفرعون ولقومه ولهذا كان الجدال عن الحق: ((حِرْفةُ الأنبياء)) كما يقول الفخر الرازي .
وهو صلى الله عليه وسلم على سنة الأنبياء من قبله يدعوالى الله على بصيرة فكان يواجه الناس على اختلاف عقائدهم منهم: المسترشد الذي يطلب الحق ليلتزم به ومنهم الجاهل الذي يبتغي العلم فيستنير به ومنهم الجاحد الذي يسلك سبيل المدافعة والمنازعة بغية تثبيت ما عنده وتزهيق ما عند غيره لكنه قد يستسلم لما تنتج عنه المدافعة والمنازعة وظهور الحجة وبيان المحجة ومنهم المعاند المتلدد الذي لا يلوي على شيء غير الوقوف أمام كل جديد بالصد والإنكار بدعوى التزام ما كان عليه الأولون من الآباء والأجداد … ومن هؤلاء وهؤلاء من ينتسب إلى كتاب منزل أصابه من التحريف والتبديل ما جعله يخلط حقاً بباطل ورشاداً بِغَي وصدقاً بكذب وهم اليهود والنصارى … فواجههم عليه الصلاة والسلام وقد وعى طريقة القرآن في بيان الحق وتثبيته ودفع الباطل وتزهيقه فكانت العلاقة وثيقة بين جدل القرآن مع أهل الكتاب والجدل معهم في السنة المطهرة ولا عجب فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المفسر والمبين لوحي القرآن .
ومواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب اتخذت عدة صور منها: دعوتهم للإسلام ومجادلتهم ومناظرتهم وأخذ المواثيق ثم جهادهم وقتالهم وسبي ذراريهم وإجلائهم من الديار.
ومن الوسائل التي اتبعها عليه الصلاة والسلام في دعوة أهل الكتاب ما يلي:

أولاً: غشيانهم في محافلهم ومجتمعاتهم لدعوتهم إلى الإسلام.
من هذا حديث أنس رضي الله عنه قال: ((كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم؛ فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلَمَ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار)). رواه البخاري .
ثانياً: الكتابة إلى ملوكهم ورؤسائهم.
روى ابن عباس - كما في حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل - أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: ((بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتِكَ اللهُ أجرَك مرتين. فإنْ توليتَ فإنَّ عليك إثمَ الأريسيين. وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/64]. رواه البخاري .
ثالثاً: استقبال وفودهم.
من ذلك استقبال وفد نجران النصارى. قال حذيفة رضي الله عنه: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً. فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قُمْ يا أبا عبيدة ابن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة)) رواه البخاري .

المبحث الثالث: حكم مجادلة وحوار أهل الكتاب:
ينقسم حكم الجدل معهم إلى قسمين:
الأول: الجدل الممدوح:
وهو الجدل الذي يقصد به تأييد الحق أوإبطال الباطل أوأفضى إلى ذلك بطريق صحيح. ومن هذا الجدل ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض على الكفاية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((… والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحوذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهذا واجب على الكفاية منهم. وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم …)) . وقال رحمه الله أيضاً:((… فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها في مثل قوله تعالى: قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وقوله:) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه وقوله: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه وقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل 16/125] وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أومستحباً وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع)) .
وذكر ابن القيم رحمه الله في ((الهدي)) ضمن فقه قصة وفد نجران: ((ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة …)). أهـ . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله - في فوائد قصة أهل نجران -:((وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب وقد تجب إذا تعينت مصلحته)) .
الثاني: الجدل المذموم:
وهو الجدل الذي يقصد به الباطل أوتأييده أويفضي إليه أوكان القصد منه مجرد التعالي على الخصم والغلبة عليه فهذ ممنوع شرعاً ويتأكد تحريمه إذا قلب الحق باطلاً أوالباطل حقاً. قال ابن تيمية رحمه الله:((والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعدما تبين …)) . ويدخل في هذا النوع دعوات التقارب ونظريات الخلط بين الأديان فإنَّها من الباطل الصرف؛ كما يدخل فيه كثير من الحوارات الحضارية المعقودة مع أهل الكتاب لما تفضي إليه من الباطل.
ومما يحسن مراعاته في هذا المقام التفريق بين مقام الدعوة ومقام دفع الصائل وهل هما على حد سواء أم لا؟ من استبان عنده الفرق بين المقامين لُمِسَ من كلامه نصرة الإسلام وعزته ولهذا فإنَّ الفرق جليٌ بين من يرد وينافح على سبيل الدعوة وبين من يرد على هيئة دفع الصائل!
إنَّ الرد على جاحد الحق الذي يقيم الحجج والشبه على باطله لا ينبغي أن يكون من باب الدعوة بالحكمة أوالموعظة الحسنة بل يجب أن يكون من باب دفع ضرره عن المسلمين وصياله عليهم فإذا صال عسكر الكفر على المسلمين بالسلاح المادي وجب أن يرد ذلك بالسلاح المادي إنْ كان في المسلمين طاقة وقدرة والقدرة بالسيف ليست دائمة للمسلمين بخلاف ما إذا صال عسكر الكفر بالحجج الباطلة فإنه يجب على أهل العلم والإيمان الدفاع عن الإسلام بإقامة حججه الصحيحة ودلائله الصريحة وذلك أن الإسلام منصور أبداً في مقام الحجة والبرهان هذا هو الأصل.
ولا يغيظ الكفار شيء كما يغيظهم إقامة حجة الإسلام وبيان براهينه والتدليل على أباطيل الكفر وأحابيله. يقول أبومحمد ابن حزم -وهو كلام نفيس-: ((وقال تعالى: ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدونيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح. ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد المسلمين. وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعوله الناس بالحجة البالغة بلا قتال فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى عليهم السيف حينئذ؛ وقال تعالى: قل فلله الحجة البالغة. وقال تعالى: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا وليس كذلك البرهان بل هو لنا أبداً ودامغ لقول مخالفينا ومزهق له أبداً. ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم … وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط …)). أهـ .
وإذا تقرر ذلك فإنَّ المجادل عن الإسلام عليه أن يدرك أحوال من يجادل ويحاور في قبوله أورده للحق فإنْ أنزلهم منزلة واحدة فهناك يفقد الكلام معناه ويصبح الأمر مضطرباً محيراً لمن قلَّتْ بصيرته في هذا الباب ويكون ذلك داعياً لفتنة بعض المسلمين ببعض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:((الإنسان له ثلاثة أحوال:
إما أن يعرف الحق ويعمل به.
وإما أن يعرفه ولا يعمل به.
وإما أن يجحده.
فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به.
والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخالفه فلا توافقه على العمل به.
والثالث: من لا يعرفه بل يعارضه.
فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة فإنَّ الحكمة هي العلم بالحق والعمل به فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيُدْعون بالحكمة.
والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة.
فهاتان هما الطريقان: الحكمة والموعظة. وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا فإنَّ النفس لها هوى تدعوها إلى خلاف الحق وإنْ عرفته؛ فالناسُ يحتاجون إلى الموعظة الحسنة والى الحكمة فلابد من الدعوة بهذا وهذا.
وأما الجدلُ فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل؛ فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن. ولهذا قال: وجادلهم فجعله فعلاً مأموراً به مع قوله: ادعهم فأمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن وقال في الجدال: بالتي هي أحسن ولم يقل بـ الحسنة كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلاً للحكمة أوالموعظة الحسنة أولهما جميعاً لم يحتج إلى المجادلة فإذا مانعَ جودل بالتي هي أحسن)). انتهى .
يتبع ... الجزء الثالث