المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : على هامش القرآن المجيد



الشيخ عبدالرحمن عيسى
12-05-2009, 08:27 PM
على
هامش القرآن المجيد
دراسة وتفسير .. وقراءة في فتحه الكبير
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
حلب
1430 هـ ــ 2009 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
تنويه وتذكير :
مثل هذا البحث , على هذه الشاكلة , جديد وغير مطروق , وحقاً هو مفاهيمُ تفسيرية , على هامش القرآن العربي المبين ..
إنها كتابات كادحة , أي فيها مزيد من الكدح والجد , وبذل الوسع والجهد , مع التأمل والصبر , وإمعان النظر , وتفعيل الفكر , واستلهام المعنى من الفـتاح العليم ..
هي بيِّنات : من بركات كتاب الله وكلامه وقوله الفصل,ومن محض فضل الله وإحسانه أصلاً , وأنا فيها مجرد نافذة مفتوحة , تعبُر منها مقالات واستنباطات .. وهذا الزمن بأمس الحاجة إليها , كما لا يخفى على القراء المنصفين ..
((الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب )) ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
على هامش القرآن المجيد
دراسة وتفسير .. وقراءة في فتحه الكبير
بداية وتقديم :
إن أعظم كنز وذخر في الوجود , هو ذلك الكتاب الذي بين أيدينا : مُتاح وميسَّرومتداوَل , والمسمى بالقرآن المجيد .
أي إن تيسير القرآن للذكر : قراءةً وتدبراً وفهماً , ووعياً وفكراً واستنباطاً , مِنحة وهدية من الله العلي العظيم والكريم , لأمة الحبيب سيدنا محمد , صلى الله عليه وآله وسلم , لم تُتح لكل الأنبياء والمرسلين: فُـرادى ومجتمعين ..
في حين قد أتيح ومُنح لكل القارئين من هذه الأمة , بما فيهم الأطفال الصغار , والذين لم يبلغوا الحلُم , فضلاً عن العلماء والحكماء!.
فالله سبحانه وتعالى , قد تفضل أخيراً بنزول القرآن المجيد , ويسر تلاوته وقراءته للإنسان .((الرحمن علّم القرآن))..
ونفهم الآن قيمة وروعة قوله تعالى : ((ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مـدَّكر))..
ولولا هذا التيسير , الذي لا يقدر عليه إلا الله سبحانه , لما أمكن أن يوجد قاريء وحافظ , ومفسر ومتفهم , وناقد بصير , وباحث موفَّـق ..
فهذا التيسير الإلهي المرموق , قد جعل القرآن قريباً وحبيباً إلى العقول والقلوب , وتحمله جحافل الفكر الإنساني الفائق , فكانت الصدور أوعـية مطهَّـرة لكتاب الله الكريم , وكانت الذاكرة المقتدرة , مخزناً ومستودَعاً لآياته وكلماته , وكان الفكر المتطور والمتنور , أداة طـيِّعة وجاهزة , في خدمة القرآن : تفسيراً وتأويلاً حكيماً , واستلهاماً واستنباطاً لما يظهر من عجائبه , وأسرار إعجازه المستمر , خلال مراحل التاريخ ، والمسيرة الإنسانية , الكادحة كدحاً نحو نيْل المعرفة , وتلمس الحقيقة , وانكشاف الحكمة ..
لقد كان القرآن المجيد , منبع تطورِ وارتقاءِ الحياة الإنسانية السويّة , ومصدر إلهام الخير والعدل والحب , والعطاء الإيجابي المتجدد , وقد حدا بالبشر في طريق التحرر والتحضر , وتفجر العلم المنير دروبَ التقدم والحياة الرغـيدة والسعيدة , والتطور المذْهل ..
وفي كل يوم , وفي كل عصر وجيل , يوجد قارئون مُجيدون ومُجدّون , يتمخضون عن المزيد من كل طريف وجديد , في نطاق فهم القرآن , وتدبّره واستنطاقه , وكونِه يُصلح الحياة كلما فسدت الحياة , ويجدد للناس أمر العـبادة والطاعة للرحمن سبحانه ..
وآنئذ نتأكد من أن القرآن العظيم , مَنجم الفتوحات المعرفـية , والكمالات الخُلقية , ومرجعَ الحقائق التكوينية , والخيارات الربانية , وأنه الدستور الأعلى والأمثل والأبقى والأنقى , لكل تشريع وتنويع , وكل إغاثة ونصر وفتح مبين, وزجر لأعداء الله : يُحجّمهم ويلجمهم ..
ولم يزل كتاب الله تبارك وتعالى , حافلاً بالأسرار العظيمة , والمفاهيم الكبيرة , وعـنه يَِِصدر الإعلام الإلهي المتابع والمواكب , ومنه ينبثق كل دواء وشفاء وعلاج , لأدواء البشر المستعصية , ومعْضلات الأيام العصيبة , ومضلات الهوى والآثام ..
ويقول الله سبحانه وتعالى : ((وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين)).
وبالقرآن المجيد, يُفتح كل طريق مسدود, وتفك العقد المستحكِمة , وينتفي الظلم الكبير , ويعتدل الزمان والميزان, ويعود القسط والتوازن من جديد ..
عبد الرحمن









القرآن .. تفسير وتدبّر :
إن أعظم وأدق تفسير للقرآن المجيد , هو مَجريات الأمور , وأحداث الزمان , ووقائع المحيا والممات , وتصارع القوى , ذلك لمن قرأ وتدبر وتفكر .. والتدبر : روح القرآن , ومبدؤه العام ..
ويقول سبحانه : ((أفلا يتدبرون القرآن ..)). وأسرار القرآن كامنة في تدبره حصراً ..
والإنسان نفسه , يجد في القرآن مِرآة له , وصدىً لأعماله وأحواله , ويرى فيها وجهه ووُجهته , وفي أي درب يسير , ومن خلال قراءته المتدبرة , يعلم إن كان من أولياء الرحمن , أو من أولياء الشيطان .. ويعرف قيمة الإخلاص والإيمان , ودواعي السقوط والافتتان ..
لأن القرآن ينبئك عن ذلك بالتفصيل , ويخبرك بأخبار الأقوام والقرون , ويقدم لك بصائر عن المستقبل وعما سيكون .. مما لا بد منه أنه يكون : نتيجة ومقدمة وحتمية ..
وكم من قاريء للقرآن , والقرآن يلعنه , لأنه يسلك سبيل الذين جاءت لعنتهم في كتاب الله , ولم يتبعوا هُدى الله , وأما الذين يقرأون خاشعين ومنيبين , فإن القرآن لهم نور وهدىً ورحمة , ومصداقية لأعمالهمُ الصالحة , وسلوكهمُ الرشيد والسديد , ويزيدهم إيماناً وثقة وتطميناً , ويشرح صدورهم للحق مهما كان ثقيلاً , ولا يجدون في القرآن غضاضة ولا نفوراً , بل انسجاماً وسروراً , وتوافقاً كبيراً ..
يقول عز من قائل : ((أفَـمَـنْ شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبُهم من ذكر الله)) .
((إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجِلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون)) ..
على أن تفسير القرآن : عملياً واسترايتجياً , يتبدىّ في الأمور العامة , وفي المراحل التاريخية المتعاقبة , وفي توازن البيئات والمسؤوليات , وتوزيع الثروات والتركات , وفي مداولة الأيام والدول بين الناس , وتداول السلطات والمناصب , وطيّ ونشر القيادات والحكومات والأدوار , وإتاحة الخِيارات والفـُرص , وتجديد وتطوير أنماط الحياة الإنسانية والحضارية ..
هذا كله تفسير للقرآن : مجمله وتفصيله , وحكمته وتعليله , وكشفٌ عن أسراره وآياته في الآفاق والأنفس , والتحولات الكبرى والجزاء الأوفى ..
ويقول سبحانه في هذا السياق : ((ولا يأتونك بمثـَل إلا جئناك بالحق وأحسنَ تفسيراً )) . (( وتلك الأيام نداولها بين الناس )) ..
القرآن .. عجائب وتجليات :
إن الحديث عن تفسير القرآن العزيز ــ بعيداً عن أحكام التشريع والتكليف , والمواعظ والأخلاقيات , وأنباء ما قد سبق ــ يقودنا إلى عجائب القرآن نفسه , إذ أمره كله عَجب : نزولُه وجمعه , وصيانته وحفظه , وفحواه ومعناه , وبلاغته ومدلولاته , وتلاوته مجدَّداً , وقراءته مجـوَّداً , وكل ذلك من مسؤوليات الحضرة الإلهية القدسية , تُجاه الحقيقة القرآنية ..
ويقول سبحانه :(( إنَّ علينا جمعَه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانَه )) . فعلى الله ذاته , كلّ ما يتعلق بالقرآن : صيانته وحفظه وبيانه ..
إن عجائب القرآن لا تنقضي , وهي تُدهش العقول لمن اكتشفها , وسبَـر غـوْرَها وسرها , ووقف على كينونة تشكلها وظهورها : واقعاً مُعاشاً ومراداً , وسلطاناً مبسوطاً وحاكماً , ومنهجاً محيطاً ومهيمناً , حيث يتجلى ذلك كله , رغم محاولات الصادين عن سبيل الله , والمعَـتمين على قول الله , والذين يريدون أن يطفئوا نور الله : بأفواههم وأقلامهم وجنودهم ..
بمعنى أن القرآن المجيد , هو قطب دائرة الخيارات والاختيارات , ومركز إشعاع المنارات والممرات في التاريخ : ماضياً وحاضراً ومستقبلاً . (( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق )) .. وإن تطور النبوات والرسالات , وتواتر العواقب والمقدمات والنتائج , هو بعض مَخاض القرآن العظيم , ومفرزاته المقرَّرةِ : شرعاً وحكماً , والماضيةِ : قـدْراً وقُدُماً , والخافضةِ والرافعة : قيمة ووزناً , والمقدِّرةِ : خوفاً وأمناً ..
والتراكمات التاريخية , تقول لنا بلسان الحال والمآل : إن القرآن قد واكبها وغالبها وغلبها , وهيمن عليها , وفصَل فيها , وكان الإطار الذي يحتويها , وينشر أسرارها ويُفْـشيها , ويحدو للقافلة الإنسانية ويهديها .. في دروب التطور والمسير ..
فحوى عجائب القرآن :
إن عجائب القرآن , في كونه كتابَ الله , وكلامَه الذاتي القديم , فهو يعبر عن الحضرة الإلهية , وشؤونها العلية , وقوانينها الثابتة , وسننها اللاحقة , ومشيئتها النافذة , فلا يمكن إلا أن يكون الله هو الفاعلَ والمهيمن والمسيِّر والمدبر والمقدر , وأنه سبحانه الفعال لما يريد , وليس لما يريد الشيطان وأعداء الله الخاسرون .. ((فعال لما يريد))..
وأنه جل جلاله , يتيح الفرص والخيارات لعباده جميعاً , ويمنحهم هامشاً مهماً من الإرادة والفعل والمشاركة : تحميلاً للمسؤولية عليهم , وتكليفاً وابتلاء وتمحيصاً , وإظهاراً للياقات والاستعدادات , فتنشأ دول وأمم وأقوام وأحزاب وهيئآت وسياسات , ومن مجموع ذلك , تتكون الحياة الدنيوية والآدمية , وتكون الموافقات والتناقضات , والمواجهات المختلفةُ الدواعي والأنواع , والأسباب والنهايات , والمفارقات العجيبة..
القرآن .. وتنازع البقاء :
حقاً إن القرآن لا تنقضي عجائبه , كما جاء في الحديث الشريف .. والتي تدور في محورها ومجملها : على مبدإ ما يسمى بتنازع البقاء , وأن الوجود للأصلح , أخذاً بأسباب القوة والسنن , والصراع الأزلي بين الخير والشر , والحق والباطل , وشرعية الرحمن , وشرعية الشيطان : عدو الله والإنسان ..
فالقرآن المجيد , يرصُد ذلك كله , ويفصِّله تفصيلاً , ويُلح عليه كثيراً : بياناً وتحذيراً , وتذكرة وذكرى للمؤمنين .. وعبرة لأولي الفطنة والأبصار ..
ومن حيث إن القرآن له الهيمنة على كل كتاب ودستور , وفلسفة وعلم ومعرفة , فلا يجوز في التصور الحق , أن يعلو عليه شيء , ولا أن يستعصي شيء , مهما بلغ من السطوة والقوة والسلطان المبين !.
وإلا لا يكون كتابَ الوجود , الناظمَ لهذا الوجود , والمنظمَ له ..
وفيما يتراءى للناس الغافلين والجاهلين , من طغيان القوم الكافرين , وعُـتوّهم عن أمر الله التشريعي والتكليفي , فليس بمنقصٍ من قـدْر القرآن واقـتداره , وليس هو بتراجع موهوم , أمام الزخارف والفتن , والمتاع الدنيوي , وحرب الكافرين والمنافقين ..
بل إن أعداء القرآن , هم الذين يتراجعون دائماً وينكسرون . .
(( ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) .. ويا ليتهم يعلمون ..
وإذا كان مَن هو على تضادٍّ وتحادٍّ ومحادّة , وخصومة وعداوة مع الله والقرآن , فإنه ليس بمعجز في الأرض , وليس له من دون الله أولياء ولا ناصرون , وكتاب الله له بالمرصاد .. يتعقبه ويذله وينهيه , وينسخه من عالم الوجود , ومن الحركة التاريخية ..
وإن صبر الله وحلمه وحكمته جل وعلا , ورحمته وإملاءه وإمهاله , واستدراجَه وكيده , كفيل بحل أزمة ما يواجهه المؤمنون والمظلومون , من الضرر والعدوان , والاضطهاد والقهر والحرمان , على أيدي الظالمين , الذين يدفع بهم الغرور والاستمرارية , إلى أن يظنوا أنهم يمتنعون على الله , ويُفلتون من قبضة الله , فتراهم يركنون إلى الدنيا , وينامون مطمئنين , ويتحالفون مع الشيطان , ضد رب العالمين ..ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله , ولا يدينون دين الحق ..
وهذا كله منـتـزَع من القرآن , الذي تَفيض آياته بأنصع بيان وتحليل وإحصاء .. لما تجري به سُنن الأكوان والوضع ..
(( ما فرطنا في الكتاب من شيء )) ..
القرآن .. ومسؤولية المؤمنين :
حسْب آيات القرآن المجيد , لمن قرأ وتدبر, فإن ما ينتاب أهل الصدق واليقين , وحملة الإيمان والدين , من بلاء مبين وعظيم , يصيبهم ويزلزلهم , إنما هو في سبيل تمحيصهم , وتربيتهم وتأهيلهم , وصقل طبيعتهم ونفوسهم , وصهر بذور الشر والأنانية والرعونات في هذه الطباع والنفوس .. وزحزحة كل ما سوى الله , في قلب المؤمن ..
حتى إذا ما تم لهم ذلك , وخلصوا لله الواحد , ولم يبق فيهم منزِع والتفات لسواه , فحينئذ تكون عاقبة الأمور إليهم , وتطمح الأنظار نحوهم , ويصطفيهم الله لأمره ومشيئته , وشأنه الأقدس : بالعبدية المطلقة , والتفويض التام , والإخلاص والحب النقي من الشوائب والكُدورات , والامتلاء بروحانية ومدد : حسبنا الله ونعم الوكيل ..
(( وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد )) ..
وعندئذ يكونون جديرين بتحمل مسؤولية إقامة قسطاس العدل والمرحمة , والمساواة والمؤاخاة بين الناس , بكفاءة نادرة المثال : نزاهة ونبلاً , وإقبالاً على الله , ورحمة حانية على عباد الله , بعيداً عن الطمع والشح والحيف , والانتهازية المفضوحة , والانحياز إلا إلى الحق , دون مراعاة لخاطر , أو خوف من لومة لائم ..
هذا وإن أعظم تأهّـب وتأهيل قيادي وريادي للمؤمنين , هو في حالة الأذى والاضطهاد , التي يفرضها الكافرون والمنافقون , حيث تتواصل الضغوط : من إساءة وحرمان , وحصار جائر , واستضعاف شديد الوطأة , لجماعة الأخيار والأبرار , وإرغامهم على حياة القهر والتهميش والإكراه , وذلك حينما تكون الفرصة سانحة ومتاحة للمستكبرين والمستعلين , ويكون الدوْر الدنيوي , لأكابر الفسقة والمجرمين : حرية وتحرراً من كل شرعية وقانون ..
ولكن بعد أن تتناهى الأمور , وتستوي الأحداث , وتبلغ الحكمة الإلهية مداها : في الزمان والمكان , والإنسان والـقِـيم , ينتصر الله لذاته , ويأخذ أعداءه أَخْـذ عزيز مقتدر , وينصر أولياءه الصابرين المحتسبين : نصراً عزيزاً ومؤزّراً , ويفتح لهم فتحاً مبيناً , ويؤول أمر العباد إليهم : سياسة وتدبيراً , وتعوّل الحياة الإنسانية عليهم , وهم دائماً على الحق ظاهرين , لا يضرهم من خالفهم , حتى يأتي أمر الله ..
القرآن .. والمصداقية الإلهية :
إن القرآن المجيد , يُصدق الله أكثر من أي شيء آخر , لأنه كتاب يأبي التحريف والتبديل , ويستعصي على كل انتحال ومِحال , وكل آية فيه , تشير إلى أنْ لا إله إلا الله , وإلى وجود الله , وآثار رحمة الله ..
فالقرآن عماد الوجود الإلهي في الكون , وبه تتم وتكتمل أكبر معرفة بالله عز وجل , وتَحقـقٍ من مصداقية المواقف والمباديء ..
لقد كان القرآن مع الله مُصدِّقاً ومحقِّـقاً , ومُنهياً بآياته وكلماته , التي تمت صدقاً وعدلاً , كلَّ ما يناقض الصدق والعدل , وذلك في المحصِّلة والنتيجة , والعاقبةَََُ لله وللمتقين .. وصدق الله , وكذب الشيطان وحزبه ومتبعوه , ألا إن حزب الشيطان هم الكاذبون , وهم الخاسرون , وهم يشوهون جَماليات هذه الحياة ,ويفسدون في الأرض , ألا لعنة الله عليهم أجمعين , وألْحق بهم : هزيمة المؤمنين لهم ..آمين .
إن كل آية من كتاب الله : القرآنِ المجيد , تنضَح بمصداقية الله جل جلاله , في وجه المتردديـن والمرتابين , والمشككـين بنزاهة الله سبحانه , والقائلين على ربهم ومولاهم , بالزور والإفك والبهتان .. ويقول سبحانه وتعالى : ((ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير )) ..
القرآن ..مرجعية ومسيرة :
إن الله الذي يمتلك كلاماً وقولاً , وفعلاً وحُكماً , ودستوراً ونهجاً , وهو القرآن العظيم , هو المتحكم الفرد في هذا الوجود , وهو الذي له البقاء والوجود , وما عداه وسواه , يفنى ويزول , وينفَـد وينتهي , مهما طال الزمن , وتطاول ليل الباطل والمِحن , فإن أمور الأعداء والشانئين , والمفسدين والظالمين , والمحاربين للحق وللدين , تؤول إلى النفاد والنضوب , والسقوط الذي لا قيام بعده , والهزيمة التي تنسخ وجودهم من الوجود , وتنهي كونَهم , أن حركة التاريخ لهم ..
ألا إن القرآن المجيد , يشكل مرجعية الكون , ومسيرته المتقدمة , وأطوارَه المتطورة , ومآلاتِه التالية , فنقرأ في القرآن : أخبار ما مضى وكان , وأنباء ما قد سيكون , وفي القرآن آياتُ ضبطٍ وتحكم , ومؤشرُ توجيه وتقييم , في حركة العالم التاريخية , ودوائرها السياسية والحكومية , وخططها الاستراتيجية , وفي القرآن أنظمة التدافع الحضاري , والدفع والدفاع الإلهي , والتنافس والإبداع الإنساني , والكيفيةُ التي بها يتم إفراغ واستخراج ما في النفس الآدمية , من طموحات وطاقات واندفاعات .. هي أخيراً : ملامح الواجهة الأمامية للحياة , وهي تشكل الحياة الدنيا : بحلوها ومُرها معاً ..
السيرة والمسيرة الآدمية , منذ البداية وحتى النهاية , مودَعة في تضاعيف القرآن , ومقروءة جملة وتفصيلاً , وهي بكل ما فيها من إيجابيات بنّاءة وصالحة , وسلبياتٍ سالبة ومنحطة , نمر عليها كلما تلونا القرآن , ونحن غافلون وذاهلون .. وأغبياءُ أيضاً !..
ويقول ربنا سبحانه : (( وكم من آية في السموات وفي الأرض يمرون عليها وهم عنها مُعْرضون )) ..
القرآن .. وتقرير المصائر :
والحقيقة أن القرآن ــ في عجائبه الكبرى ــ هو الذي يقرر المصائر والنهايات , ومآلاتِ ما يجري على الأرض , وعواقبَ الحب والبغض, والسلم والحرب , فالله وأولياؤه الصالحون , يكسبون المعركة والشيطان وأولياؤه الفاسدون يخسرونها , وينحسرون عن مواقفهم ومواقعهم , ومن ثَمْ تُطوى صفحتهم , ويصبحون في المتاحف أثراً وخبراً , وقد لا يكون لهم أثر ولا خبر أصلاً ..
وتتمخض الأيام والليالي عن مصداقية القرآن , وأسراره المضنونة , ورائعات آثاره وتأثيره في الأكوان , وأنه الحق والهْدى والفيصل والفرقان , في حين تُلغى وتُطوى كل الدساتير والكلمات , والبرامج الهابطة , والتنطعات الزائفة , والدعاوى الفارغة ..
ويقول سبحانه : ((.. كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزَبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال )) ..
إن القرآن المجيد , قد فصّله الله على علم , وخِبرة تامة , ليسع العالم , وليتسع للمزيد من التطور والتجديد , وليستوعب تحرك الإنسانية والإنسان , فوق هذا الكوكب , وليساهم في صنع الحضارة والتقدم , وإغاثة البشر في كـدّهم وكدحهم , وسعيهم نحو الأفضل , وليصنع انتصار القوى الخـيّرة والمؤمنة , على صيرورة الأشرار والكافرين , وتقرير مصير الأحداث والشعوب ..
قال تعالى : (( ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم ..)) . وقال أيضاً : (( ألـر . كتاب أُحكمت آياته ثم فُصّلت من لَـدُنْ حكيم خبير ))..
ومن عجائب القرآن : إعجازه المتنوع والمتواتر , تواترَ الأزمنة والتحديات التي تُوجَّه إليه , وبهذا الإعجاز , تُحبط المكائد المعلَنة والمستخفية , وتنهار التحديات , وتُنسخ عهود الظلام والظلم , وتنشأ عوالم النور والعدل الإلهي , وتُستأنف مسيرة التحضر والارتقاء مرة أخرى .. بمعنى أن قضية الإعجاز , رائدة إلى تصحيح الأخطاء والمباديء والموازين , وإنهاء غُـربة الإسلام ..
وكلما ابتدع الكافرون , وقِـواهم المفكرة , ما يتحدوْن به كتاب الله والإسلام : بهْرجاً ونِديّة , جاء الرد بالإعجاز القرآني , في عالم الفكر المناويء , وسلطان العلم الطاغي , وجنون الباطل وحشده الرهيب .. ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)).
القرآن .. والظن الخاطيء :
أخيراً .. فإنه لمِن الخطأ الفادح , عدمُ تصور عجائب القرآن , وآياته الصادعة والزاجرة , لدى التلاوة والتفسير , المجرديْن عن التدبر والتتبع والتفكر , فيسود ظن آثم , بأن القرآن متراجع أمام القوة المعادية والمتصدية , ومجـرّد من الفاعلية الفاعلة والفاصلة , في شؤون الحياة جميعاً , وأن كتاب الله الحق , رهْن مهزلة ومضْيعة , وتركةٍ متروكة , وأنه لمجرد التلاوة الغبية , على الأموات والمقابر , وتقبل التعازي , وفي محضر الغافلين والمعـْرضين , بعيداً عن الإنصات والخشية والخشوع , والاعتصام بحبله المتين , والتزودِ منه ليوم الدين ..
ومما يؤسف له حقاً , تصورٌ رائج وسائد , في الأوساط والدوائر, أن واقع العلاقات والسياسات , والمعاملات وسائر الأنشطة والممارسات , لا علاقة لكل ذلك بالقرآن , وهو خارج عن نطاق الآيات البينات , وأن الإباحية تقدم , والإسلام تخلف , والقرآن تعـبّد !..
في حين أن ذلك غير وارد ولا صادر قطعاً , وأن القرآن آخذ بتلابيب العالم , وممسك بخِناق الكفر والكافرين , ومقـرِّر ومحدد لكل المآلات والمصائر , وانعكاسات أعمال البشر وأفعالهم , وأن جزاءهم هو وصفهم وصفاتهم , إنْ خيراً فخير , وإنْ شراً فشر .. ويقول عز وجهه وسلطانه : (( سيجزيهم وصفهم )) . (( فمَن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره )) ..
القرآن .. وتداول المسؤوليات :
وإنه لمن دواعي العَجَب المستغرَب , في واقع الأمة المنهك والمتصدع : أن القـرآن ملحمة عالمـية وجودية , لا أكبر منها ولا أصدق , وتُحدث انطباعاً لدى المتدبرين , وقناعاتٍ أسمى , بأن عالم المسؤوليات الكونية , ليست بعيدة ولا مَقْصِية , عن هيمنة الكتاب المبين , الذي تُعطي آياته المُحْـكمة والـمرموزة : ملامح التحول والتغير , في البنية الأساسية , للقضايا الكبرى , وسقوطِ عقائد وقناعات وقـيادات , وقيامِ ما هو بديل عنها , وقد يكون أجدى صلاحاً وصلاحياتٍ منها ..
وهذا هو بالضبط , ما قد حصل وكان حتى الآن , وأسبابُ ذلك وموجباته ومسوِّغاته , ناجم عن تصارع القوى والطبقات والقبائل والأحزاب , تحت مختلف الشعارات والذرائع , والبحثِ عن المخارج والإتاحات والفرص الممكنة , بغية التمركز في قمة التحكم والسيطرة , والنفوذ الكبير , وأن تكون أمة هي أربى من أمة !..
والقرآن لا يُخفي ذلك ولا يُنكره , بل يجْريه ويؤكده ويوازنه , من خلال عملياتِ وآليات الإحاطة والحيلولة والإحباط والردع , وهلاك القرون , وإنشاء قرون آخَرين ..
يقول عز من قائل : (( فأخذتهمُ الصيحة بالحق فجعلناهم غُـثاء فـبُعداً للقوم الظالمين . ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخَرين )) ..
ويأتي في العاقبة المعـقِّـبة , أكبر نصر إلهي للمؤمنين , يُحدث في الأرض تحولاً جذرياً , ووضعاً سوياً , واعتدالاً مزاجياً , ورتْقاً لما انفصم وانفتق , من علاقات وسياسات , وانحطاط وتدهور في المجتمعات , وظلم للأضعف والأفقر , وتلوثٍ كالإعصار , في بيئة هذا الكوكب المنكوب والمصلوب !..
يقول سبحانه ــ مُجْملاً إجراءات وتدابير التحول الكبير ــ : ((وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين )) . (( وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون )).
((فأحبط أعمالهم )) . (( والله يحكم لا مُعَـقْـِبَ لحكمه وهو سريع الحساب )). ((قلِ اللهُ أسرع مكراً )).((كان على ربك حتْماً مَقْـضياً )).
(( وكان وعداً مفعولاً)). ((فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهمُ الرعْـب )) .
ختام واستدراك :
وختاماً : فلا مندوحة لدنيانا هذه , في صيغتها الراهنة , من كونِها محكومة بمقتضى آيات الله في القرآن المجيد , وليس في الكرة الأرضية , مكان مُغْـفـل من ذلك حتماً , فمن جعل القرآن أمامه , واهتدى بهداه , قاده إلى الجنة , ومن جعله خلفه رافضاً إياه , ساقه إلى النار .. كما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام ..
أي إن العالم برمته , بين قيادة القرآن وسوْقه , وهذه هي استراتيجية القرآن , ولا شيء غيرُ ذلك !..
ولكنْ , ومن حيث إن القرآن حمّال ذو وجوه , وسائر الفِرق الإسلامية , تستند في معتقداتها وتصوراتها الاجتهادية عليه , ولا تَعْدِم أن تجد فيه الدليل والحجة : قـسْراً وهوىً , سيما وأن باب التأويل والانتقائية , في المحكَم والمتشابه , مفتوح على مصراعيه , والأئمة والمرجعيات والدعاة , يَضلون ويختلفون مع وجود القرآن العظيم , وكذلك يفعلون مع السنة النبوية : صحيحها وضعيفها وموضوعاتها ..
أقول : إن كون هذا الكتاب المصون , مصدر هداية مطلقة وجامعة , خصوصاً في هذا الزمن , فإنما يتوقف ذلك كله , على وجود القاريء والتالي المتدبر والرائد , الذي يختاره الله ذاته , لبعث هذه الأمة مجدَّداً , وليأخذ من القرآن والسنة , ما ينير درب العودة الحميدة والرشيدة والمرتقبة , ويتجاوز كل السلبيات والتحفظات والتعِلات , التي تقف في طريق الإسلام الحق , ومن ثـمّ يَخترق هذا الواقع المفعم بالضرورات الاضطرارية : الملحّة والضاغطة , والحرج والإحراج الشديد والموبـِق , الذي يقتضي ويستدعي مبدأ التيسير في الدين , وفقهَ المستجـِدات والطواريء , ومنهجَ الشورى الرائد ..
((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)).
ولا بد من أن يظهر قائم لله بالحجة . والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. وبالله التوفيق والسداد . والحمد لله رب العالمين ..