المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هذا هو مجتمعنا الإسلامي العادل



محمد عبد الرحمن
06-13-2005, 08:19 AM
قام الشيخ يوسف القرضاوي - حفظه الله - بتأليف كتيب " غير المسلمين في المجمتع الإسلامي " و قد بين فيه مكانة أهل الذمة في المجتمع الإسلامي و عدد حقوقهم و واجباتهم كما تولى الرد على شبهات المغرضين من ملاحدة و زنادقة ..
و أريد أن أبين - قبل أن أنقل ملخصا لهذا الكتيب - أن الإسلام دين عدل و ليس دين مساواة .فالقرآن يقول نافيا إمكانية المساواة


أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ . السجدة 18
أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ .القلم 35

فالمساواة التي ينادي بها الملاحدة و من لف لفهم من أصحاب الأهواء لا ينبغي أن توجد في الإسلام بدعوى حقوق الإنسان فنساوي بين الفاسق و المؤمن و بين المجرم و البريء ..فموازينهم مادية بحتة و لسنا ملزمين بها . لكن بالمقابل يأمرنا ديننا بالعدل الذي عليه قامت السماوات و الأرض :

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ الحديد 25
ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ الشورى 17
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ النساء 58
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ المائدة 8
إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النحل 90 .

و الآن أمر إلى أهم ما جاء في " غير المسلمين في المجتمع الإسلامي" و لمن أراد المزيد فليطالع كامل الكتيب على موقع الشيخ القرضاوي .


الجزء 1/3

أولا :المجتمع الإسلامي و مقوماته :

المجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على عقيدة وفكرة "أيديولوجية" خاصة، منها تنبثق نظمه و أحكامه وآدابه وأخلاقه. هذه العقيدة أو الفكرة "الأيديولوجية" هي الإسلام، وهذا هو معنى تسميته "المجتمع الإسلامي" فهو مجتمع اتخذ الإسلام منهاجًا لحياته ودستورًا لحكمه، ومصدرًا لتشريعه وتوجيهه في كل شئون الحياة وعلاقاتها، فردية واجتماعية، مادية ومعنوية، محلية ودولية.
ولكن ليس معنى هذا أن المجتمع المسلم يحكم بالفناء على جميع العناصر التي تعيش في داخله وهي تدين بدين آخر غير الإسلام.
كلا .. إنه يقيم العلاقة بين أبنائه المسلمين وبين مواطنيهم من غير المسلمين على أسس وطيدة من التسامح والعدالة والبر والرحمة،

ثانيا : دستور العلاقة مع غير المسلمين

وأساس هذه العلاقة مع غير المسلمين قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة: 8 - 9).
فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعًا، ولو كانوا كفارًا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
و القرآن ينهى عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى، حتى لا يُوغِر المِراءُ الصدورَ، ويوقد الجدل والَّلدَدُ نار العصبية والبغضاء في القلوب، قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزِل إلينا وأُنزِل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) (العنكبوت: 46).
ويبيح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان) (المائدة: 5).

ثالثا :أهل الذمة

جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم "أهل الذمة" أو "الذميين".
و"الذمة" كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله وعهد الرسول، وعهد جماعة المسلمين: أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناء على "عقد الذمة" بينهم وبين أهل الإسلام . فهذه الذمة تعطي أهلها "من غير المسلمين" ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون بواجباتهم.
فالذمي على هذا الأساس من "أهل دار الإسلام" كما يعبر الفقهاء (انظر شرح السير الكبير للسرخسي ج ـ 1 ص140 والبدائع للكاساني ج ـ 5 ص 281 والمغني لابن قدامة ج ـ 5 ص 516) أو من حاملي "الجنسية الإسلامية" كما يعبر المعاصرون .(انظر التشريع الجنائي الإسلامي للشهيد عبد القادر عودة ج ـ 1 ص 307 فقرة 232، وأحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، للدكتور عبد الكريم زيدان ص 63 - 66 فقرة 49 - 51).

رابعا : حقوق أهل الذمة :

1- حق الحماية :

القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في "دار الإسلام" أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، إلا في أمور محددة مستثناة، كما أن عليهم ما على المسلمين من الواجبات إلا ما استثني.
فأول هذه الحقوق هو حق تمتعهم بحماية الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي . وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجي، ومن كل ظلم داخلي، حتى ينعموا بالأمان والاستقرار.

( أ ) الحماية من الاعتداء الخارجي
أما الحماية من الاعتداء الخارجي، فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى الإمام أو ولي الأمر في المسلمين، بما له من سُلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية، أن يوفر لهم هذه الحماية، قال في "مطالب أولي النهى" ـ من كتب الحنابلة ـ : "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع مَن يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع مَن قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب، بل كانوا بدارنا، ولو كانوا منفردين ببلد".
وعلل ذلك بأنهم: "جرت عليهم أحكام الإسلام وتأبد عقدهم، فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين" (مطالب أولي النهى ج ـ 2 ص 602 - 603).
وينقل الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول الإمام الظاهري ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": "إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". (الفروق ج ـ 3 ص 14 - 15 - الفرق التاسع عشر والمائة). وحكى في ذلك إجماع الأمة.
وعلق على ذلك القرافي بقوله: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال -صوناً لمقتضاه عن الضياع- إنه لعظيم". (نفس المصدر السابق).
ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليكلم "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيراً، لا من أهل الذمة، ولا من أهل الملة، فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.

(ب) الحماية من الظلم الداخلي
وأما الحماية من الظلم الداخلي، فهو أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان، فالله تعالى لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا، أو يؤخر لهم العقاب مضاعفاً في الآخرة.
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة" .(رواه أبو داود والبيهقي . انظر: السنن الكبرى ج ـ 5 ص 205).
ويروى عنه: "من آذى ذِمِّياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة" .(رواه الخطيب بإسناد حسن).
وعنه أيضًا: "من آذى ذميًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" .(رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن).
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران أنه: "لا يؤخذ منهم رجل بظلمِ آخر" .(رواه أبو يوسف في الخراج ص 72 - 73).
ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين، بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبَلِهم.
كان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: " ما نعلم إلا وفاءً" (تاريخ الطبري ج ـ 4 ص 218) أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلاً من الطرفين وفَّى بما عليه.
وعليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا" (المغني ج ـ 8 ص 445، البدائع ج ـ 7 ص 111 نقلاً عن أحكام الذميين والمستأمنين ص 89).
وفقهاء المسلمين من جميع المذاهب الاجتهادية صرَّحوا وأكدوا بأن على المسلمين دفع الظلم عن أهل الذمة والمحافظة عليهم؛ لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة قد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا به من أهل دار الإسلام، بل صرَّح بعضهم بأن ظلم الذمي أشد من ظلم المسلم إثمًا (ذكر ذلك ابن عابدين في حاشيته، وهو مبني على أن الذمي في دار الإسلام أضعف شوكة عادة، وظلم القوي للضعيف أعظم في الإثم).

) ج ( حماية الدماء والأبدان
وحق الحماية المقرر لأهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم، كما يتضمن حماية أموالهم وأعراضهم ..
فدماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع ؛ يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا" .(رواه أحمد والبخاري في الجزية، والنسائي وابن ماجة في الديات من حديث عبد الله بن عمرو . والمعاهد كما قال ابن الأثير: أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب -فيض القدير ج ـ 6 ص 153).
ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر المحرمات لهذا الوعيد في الحديث ولكنهم اختلفوا: هل يُقتل المسلم بالذمي إذا قتله؟.
ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الشافعي وأحمد إلى أن المسلم لا يُقتل بالذمي مستدلين بالحديث الصحيح: "لا يُقتل مسلم بكافر"، (رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود والترمذي من حديث علي، كما في المنتقى وشرحه .انظر: نيل الأوطار ج ـ 7 ص 15 ط .دار الجيل) والحديث الآخر: "ألا لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" (رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن علي أيضًا، والحاكم وصححه في المنتقى وشرحه المرجع السابق).
وقال مالك والليث: إذا قتل المسلم الذمي غيلة يُقتل به وإلا لم يُقتل به (نيل الأوطار ج ـ 7 ص 154) وهو الذي فعله أبَان بن عثمان حين كان أميرًا على المدينة، وقتل رجل مسلم رجلاً من القبط، قتله غيلة، فقتله به، وأبَان معدود من فقهاء المدينة. (انظر: الجوهر النقي مع السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34).
وذهب الشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وعثمان البتي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن المسلم يُقتل بالذمي، لعموم النصوص الموجبة للقصاص من الكتاب والسنة، ولاستوائها في عصمة الدم المؤبدة، ولما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بمعاهد. وقال: "أنا أكرم من وفَّى بذمته" (رواه عبد الرزاق والبيهقي) (ضعَّف البيهقي هذا الخبر كما في السنن ج ـ 8 ص 30، وانظر تعقيب ابن التركماني في "الجوهر النقي" حاشية السنن الكبرى"، وانظر: المصنف ج ـ 10 ص 101).
وما روي أن عليًّا أُتي برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: إني قد عفوت، قال: فلعلهم هددوك وفرقوك، قال: لا، ولكن قتله لا يرد علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ . قال: أنت أعلم؛ من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا. (أخرجه الطبراني والبيهقي) .(السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34).
وفي رواية أنه قال: "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا".
وقد صح عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميًّا، فأمره أن يدفعه إلى وليه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه . . فدُفِعَ إليه فضرب عنقه . (المصنف لعبد الرزاق ج ـ 10 ص 101، 102).
قالوا: ولهذا يُقطع المسلم بسرقة مال الذمي، مع أن أمر المال أهون من النفس، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُقتل مسلم بكافر"، فالمراد بالكافر الحربي، وبذلك تتفق النصوص ولا تختلف . (يراجع في ذلك ما كتبه الإمام الجصاص في كتابه "أحكام القرآن" ج ـ 1 باب قتل المسلم بالكافر ص 140 144 ط . استنابول طبعة مصورة في بيروت)..
وكتب عليٌّ رضي الله عنه إلى بعض ولاته على الخراج: "إذا قدمتَ عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرضًا (متاعًا) في شيء من الخراج، فإنما أُمِرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفتَ ما أمرتك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك" . قال الوالي: إذن أرجع إليك كما خرجت من عندك! (يعني أن الناس لا يُدفعون إلا بالشدة) قال: وإن رجعتَ كما خرجتَ" . (الخراج لأبي يوسف ص 15 - 16، وانظر: السنن الكبرى أيضًا ج ـ 9 ص 205).

)د ( حماية الأموال:

ومثل حماية الأنفس والأبدان حماية الأموال، هذا مما اتفق عليه المسلمون في جميع المذاهب، وفي جميع الأقطار، ومختلف العصور.
روى أبو يوسف في "الخراج" ما جاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أموالهم وملتهم وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير... ". (الخراج ص 72).
وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما أن: "امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها". وقد مرَّ بنا قول علي - رضي الله عنه - "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا" وعلى هذا استقر عمل المسلمين طوال العصور.
فمَن سرق مال ذمي قُطعت يده، ومَن غصبه عُزِّر، وأعيد المال إلى صاحبه، ومَن استدان من ذمي فعليه أن يقضي دينه، فإن مطله وهو غني حبسه الحاكم حتى يؤدي ما عليه، شأنه في ذلك شأن المسلم ولا فرق.
وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يعدونه -حسب دينهم- مالاً وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين.
فالخمر والخنزير لا يعتبران عند المسلمين مالاً مُتقَوَّمًا، ومَن أتلف لمسلم خمرًا أو خنزيرًا لا غرامة عليه ولا تأديب، بل هو مثاب مأجور على ذلك، لأنه يُغيِّر منكرًا في دينه، يجب عليه تغييره أو يستحب، حسب استطاعته، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين لا لنفسه ولا ليبيعها للغير.
أما الخمر والخنزير إذا ملكهما غير المسلم، فهما مالان عنده، بل من أنفس الأموال، كما قال فقهاء الحنفية، فمن أتلفهما على الذمي غُرِّمَ قيمتهما . (اختلف الفقهاء في ذلك، والذي ذكر هو مذهب الحنفية).

) هـ ( حماية الأعراض :
ويحمي الإسلام عِرض الذمي وكرامته، كما يحمي عِرض المسلم وكرامته، فلا يجوز لأحد أن يسبه أو يتهمه بالباطل، أو يشنع عليه بالكذب، أو يغتابه، ويذكره بما يكره، في نفسه، أو نسبه، أو خَلْقِه، أو خُلُقه أو غير ذلك مما يتعلق به.
يقول الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي في كتاب "الفروق": "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيَّع ذمة الله، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذمة دين الإسلام" .(الفروق ج ـ 3 ص 14 الفرق التاسع عشر والمائة).
وفي الدر المختار -من كتب الحنفية-: " يجب كف الأذى عن الذمي وتحرم غيبته كالمسلم".
ويعلق العلامة ابن عابدين على ذلك بقوله: لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد . (الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه ج ـ 3 ص 244 - 246 ط . استانبول).

) و( التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر:

وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته" . (متفق عليه من حديث ابن عمر).
وهذا ما مضت به سُنَّة الراشدين ومَن بعدهم.
ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: "وجعلت لهم، أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله" . .(رواه أبو يوسف في "الخراج" ص 144) وكان هذا في عهد أبي بكر الصِّدِّيق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّدِّيق ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يُعَد إجماعًا.
ورأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًا، ثم نخذله عند الهرم! (المصدر السابق ص 126).
وعند مقدمهِ "الجابية" من أرض دمشق مَرَّ في طريقه بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجرى عليهم القوت (البلاذري في فتوح البلدان ص 177 ط . بيروت) . ـ أي تتولى الدولة القيام بطعامهم ومؤونتهم بصفة منتظمة.
وبهذا تقرر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره "مبدأً عامًا" يشمل أبناء المجتمع جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ولا يجوز أن يبقى في المجتمع المسلم إنسان محروم من الطعام أو الكسوة أو المأوى أو العلاج، فإن دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلمًا كان أو ذميًا.
وذكر الإمام النووي في "المنهاج" أن من فروض الكفاية: دفع ضرر المسلمين ككسوة عار، أو إطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال.
ووضح العلامة شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" أن أهل الذمة كالمسلمين في ذلك، فدفع الضرر عنهم واجب.
ثم بحث الشيخ الرملي رحمه الله في تحديد معنى دفع الضرر فقال: "وهل المراد بدفع ضرر مَن ذكر، ما يسد الرمق أو الكفاية؟ قولان، أصحهما ثانيهما ؛ فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناهما، كأجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع .. كما هو واضح".
قال: "ومما يندفع به ضرر المسلمين والذميين فك أسراهم" . نهاية (المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج ـ 8 ص 46 كتاب "السير").

2- حرية التدين


ويحمي الإسلام فيما يحميه من حقوق أهل الذمة حق الحرية.
وأول هذه الحريات: حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام.
وأساس هذا الحق قوله تعالى: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)، (البقرة: 256) وقوله سبحانه: (أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين)؟ (يونس: 99).
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.
وسبب نزول الآية كما ذكر المفسرون يبين جانبًا من إعجاز هذا الدين، فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة -قليلة النسل- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَه (كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية) فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم: لا ندع أبناءنا (يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهودية) فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (لا إكراه في الدين). (نسبه ابن كثير إلى ابن جرير، قال: "قد رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن حيان في صحيحه وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك . . " تفسير ابن كثير ج ـ 1 ص 310).
فرغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات التعب والاضطهاد للمخالفين في المذهب، فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيَّرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل، فلما تبنت المذهب "الملكاني" أقامت المذابح لكل مَن لا يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم.
رغم كل هذا، رفض القرآن الإكراه، بل مَن هداه الله وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرَهًا مقسورًا ـ كما قال ابن كثيرـ . فالإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة تُلفظ باللسان أو طقوس تُؤدَّى بالأبدان، بل أساسه إقرار القلب وإذعانه وتسليمه.
ولهذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقر بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم.
وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: (أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا). (الحج: 39 - 40).
وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم.
وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . . " كما رواه الطبري . (تاريخ الطبري ط . دار المعارف بمصر ج ـ 3 ص 609).
وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم" .(الخراج لأبي يوسف ص 146).
وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين، وحُرمة دينهم، فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن لهم فيها كنيسة من قبل، وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب.
على أن من فقهاء المسلمين مَن أجاز لأهل الذمة إنشاء الكنائس والبِيَع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، أي أن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك، بناء على مصلحة رآها، ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم.
وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك (انظر: أحكام الذميين والمستأمنين ص 96 - 99).
ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين، وذلك منذ عهد مبكر، فقد بُنِيت في مصر عدة كنائس في القرن الأول الهجري، مثل كنيسة "مار مرقص" بالإسكندرية ما بين (39 - 56 هـ) .كما بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم، في ولاية مسلمة بن مخلد على مصر بين عامي (47 - 68 هـ ) كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة "حلوان" ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة، وقد ذكر المؤرخ المقريزي في كتابه "الخِطط" أمثلة عديدة، ثم ختم حديثه بقوله: وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدَثة في الإسلام بلا خلاف (انظر: الإسلام وأهل الذمة للدكتور علي حسني الخربوطلي ص 139، وأيضاً: "الدعوة إلى الإسلام" تأليف توماس . و . أرنولد ص 84 - 86 ط . ثالثة . ترجمة د . حسن إبراهيم وزميليه).
أما في القرى والمواضع التي ليست من أمصار المسلمين فلا يُمنعون من إظهار شعائرهم الدينية وتجديد كنائسهم القديمة وبناء ما تدعو حاجتهم إلى بنائه، نظرًا لتكاثر عددهم.

محمد عبد الرحمن
06-13-2005, 05:27 PM
الجزء 2/3

3- حرية العمل والكسب


لغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.
فقد قرر الفقهاء أن أهل الذمة في البيوع والتجارات وسائر العقود والمعاملات المالية كالمسلمين، ولم يستثنوا من ذلك إلا عقد الربا، فإنه محرم عليهم كالمسلمين وقد رُوِي أن النبي :salla1: كتب إلى مجوس هجر: "إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله".
كما يمنع أهل الذمة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها لشرب الخمر وتسهيل تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور، ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاص، سدًا لذريعة الفساد وإغلاقًا لباب الفتنة.
وفيما عدا هذه الأمور المحدودة، يتمتع الذميون بتمام حريتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة . وهذا ما جرى عليه الأمر، ونطق به تاريخ المسلمين في شَتَّى الأزمان . وكادت بعض المهن تكون مقصورة عليهم كالصيرفة والصيدلة وغيرها . واستمر ذلك إلى وقت قريب في كثير من بلاد الإسلام . وقد جمعوا من وراء ذلك ثروات طائلة معفاة من الزكاة ومن كل ضريبة إلا الجزية، وهي ضريبة على الأشخاص القادرين على حمل السلاح، كما سيأتي، وهي مقدار جد زهيد.
قال آدم ميتز: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهودًا . على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى . وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده " "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" للأستاذ آدم ميتز أستاذ اللغات الشرقية بجامعة "بازل" بسويسرا . ترجمة الأستاذ محمد عبدالهادي أبو ريدة الطبعة الرابعة، فصل: "اليهود والنصارى" ج1 ص86).



4- تولي وظائف الدولة


ولأهل الذمة الحق في تولى وظائف الدولة كالمسلمين . إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات ونحو ذلك.
فالإمامة أو الخلافة رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي :salla1: ولا يجوز أن يخلف النبي في ذلك إلا مسلم، ولا يعقل أن ينفذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم.
وقيادة الجيش ليست عملاً مدنيًا صرفًا، بل هي عمل من أعمال العبادة في الإسلام إذ الجهاد في قمة العبادات الإسلامية.
والقضاء إنما هو حكم بالشريعة الإسلامية، ولا يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به.
ومثل ذلك الولاية على الصدقات ونحوها من الوظائف الدينية.
وماعدا ذلك من وظائف الدولة يجوز إسناده إلى أهل الذمة إذا تحققت فيهم الشروط التي لا بد منها من الكفاية والأمانة والإخلاص للدولة . بخلاف الحاقدين الذين تدل الدلائل على بغض مستحكم منهم للمسلمين، كالذين قال الله فيهم: (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) (آل عمران: 118).
وقد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرح فقهاء كبار -مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية"- بجواز تقليد الذمي "وزارة التنفيذ". ووزير التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها ويمضي ما يصدر عنه من أحكام.
وهذا بخلاف "وزارة التفويض" التي يكل فيها الإمام إلى الوزير تدبير الأمور السياسية والإدارية والاقتصادية بما يراه.
وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، منهم نصر بن هارون سنة 369 هـ، وعيسى بن نسطورس سنة 380هـ . وقبل ذلك كان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني اسمه سرجون.
وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا الأمر أحيانًا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين، مما جعل المسلمين في بعض العصور، يشكون من تسلط اليهود والنصارى عليهم بغير حق.
وقد قال المؤرخ الغربي آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" (الجزء الأول ص105): "من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال (الولاة وكبار الموظفين) والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام والشكوى من تحكيم أهل الذمة في أبشار المسلمين شكوى قديمة".
يقول أحد الشعراء المصريين (هو الحسن بن خاقان، كما في "حسن المحاضرة" للسيوطي 2 ص117 وانظر الحضارة الإسلامية لآدم ميتز ج1 ص118) في يهود عصره وسيطرتهم على حكامه:

يهود هذا الزمان قد بلغــوا **** غاية آمالهم وقد ملكـوا
المجد فيهم والمال عندهمــو **** ومنهم المستشار و الملك.
يا أهل مصر، إني نصحتُ لكم **** تهودوا، قد تهود الفلك.

وآخر ما سجَّله التاريخ من ذلك ما سارت عليه الدولة العثمانية في عهدها الأخير بحيث أسندت كثيرًا من وظائفها الهامة والحساسة إلى رعاياها من غير المسلمين، ممن لا يألونها خبالاً، وجعلت أكثر سفرائها ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى



5- ضمانات الوفاء بهذه الحقوق


لقد قررت الشريعة الإسلامية لغير المسلمين كل تلك الحقوق، وكفلت لهم كل تلك الحريات، وزادت على ذلك بتأكيد الوصية بحسن معاملتهم ومعاشرتهم بالتي هي أحسن.
ولكن مَن الذي يضمن الوفاء بتنفيذ هذه الحقوق، وتحقيق هذه الوصايا؟ وبخاصة أن المخالفة في الدين كثيرًا ما تقف حاجزًا دون ذلك؟
وهذا الكلام حق وصدق بالنظر إلى الدساتير الأرضية والقوانين الوضعية التي تنص على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ثم تظل حبرًا على ورق، لغلبة الأهواء والعصبيات، التي لم تستطع القوانين أن تنتصر عليها؛ لأن الشعب لا يشعر بقدسيتها، ولا يؤمن في قرارة نفسه بوجوب الخضوع لها والانقياد لحكمها.

ضمان العقيدة :

أما الشريعة الإسلامية فهي شريعة الله وقانون السماء، الذي لا تبديل لكلماته، ولا جور في أحكامه، ولا يتم الإيمان إلا بطاعته، والرضا به . قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب: 36).
ولهذا يحرص كل مسلم يتمسك بدينه على تنفيذ أحكام هذه الشريعة ووصاياها، ليرضي ربه وينال ثوابه، لا يمنعه من ذلك عواطف القرابة والمودَّة، ولا مشاعر العداوة والشنآن ..قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) (النساء: 135).
وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون) (المائدة: 8).

ضمان المجتمع المسلم :

والمجتمع الإسلامي مسئول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة، وتطبيق أحكامها في كل الأمور، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ؛ فإذا قصَّر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى، وجد في المجتمع مَن يرده إلى الحق، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويقف بجانب المظلوم المعتدَى عليه، ولو كان مخالفًا له في الدين.
قد يوجد هذا كله دون أن يشكو الذمي إلى أحد، وقد يشكو ما وقع عليه من ظلم، فيجد مَن يسمع لشكواه، وينصفه من ظالمه، مهما يكن مركزه ومكانه في دنيا الناس..
والتاريخ الإسلامي مليء بالوقائع التي تدل على التزام المجتمع الإسلامي بحماية أهل الذمة من كل ظلم يمس حقوقهم المقررة، أو حرماتهم المصونة، أو حرياتهم المكفولة.
فإذا كان الظلم من أحد أفراد المسلمين إلى ذمي، فإن والي الإقليم سرعان ما ينصفه ويرفع الظلم عنه، بمجرد شكواه أو علمه بقضيته من أي طريق.
وقد شكا أحد رهبان النصارى في مصر إلى الوالي أحمد بن طولون أحد قوَّاده، لأنه ظلمه وأخذ منه مبلغًا من المال بغير حق، فما كان من ابن طولون إلا أن أحضر هذا القائد وأنَّبه وعزَّره وأخذ منه المال، ورده إلى النصراني . وقال له: لو ادعيتَ عليه أضعاف هذا المبلغ لألزمته به، وفتح بابه لكل متظلم من أهل الذمة، ولو كان المشكو من كبار القوَّاد وموظفي الدولة.
وإن كان الظلم واقعًا من الوالي نفسه أو من ذويه وحاشيته ؛ فإن إمام المسلمين وخليفتهم هو الذي يتولى ردعه ورد الحق إلى أهله.
وأشهر الأمثلة على ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر ؛ حيث ضرب ابن عمرو ابن القبطي بالسوط وقال له: أنا ابن الأكرمين! فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المدينة وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه، وأعطى السوط لابن القبطي وقال له: اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: أدرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطانه، فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني . ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"؟.
ومما يستحق التسجيل في هذه القصة: أن الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيتهم في ظل الإسلام، حتى إن لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حق، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يحرك بها أحد رأسًا، ولكن شعور الفرد بحقه وكرامته في كنف الدولة الإسلامية جعل المظلوم يركب المشاق، ويتجشم وعثاء السفر الطويل من مصر إلى المدينة المنوَّرة، واثقاً بأن حقه لن يضيع، وأن شكاته ستجد أذنًا صاغية.
وإذا لم يصل أمر الذمي إلى الخليفة، أو كان الخليفة نفسه على طريقة واليه، فإن الرأي العام الإسلامي الذي يتمثل في فقهاء المسلمين، وفي المتدينين كافة يقف بجوار المظلوم من أهل الذمة ويسانده.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك: موقف الإمام الأوزاعي من الوالي العباسي في زمنه، عندما أجلى قومًا من أهل الذمة من جبل لبنان، لخروج فريق منهم على عامل الخراج . وكان الوالي هذا أحد أقارب الخليفة وعصبته، وهو صالح بن عليٍّ بن عبد الله بن عباس . فكتب إليه الأوزاعي رسالة طويلة، كان مما قال فيها: "فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: (ألا تزر وازرة وزر أخرى) (النجم: 38)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به . وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله :salla1: فإنه قال: "من ظلم ذميًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه"… إلى أن يقول في رسالته: "فإنهم ليسوا بعبيد، فتكونَ في حل من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهلُ ذمة" . (انظر: فتوح البلدان للبلاذري ص 222، والأموال لأبي عبيد ص 170 - 171).
ولم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويلاَ، فقد كان الرأي العام والفقهاء معه دائمًا ضد الظلمة والمنحرفين، وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه.
أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة "يوحنا" من النصارى، وأدخلها في المسجد . فلما اسْتُخْلِفَ عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إلى عامله برد ما زاده في المسجد عليهم، لولا أنهم تراضوا مع الوالي على أساس أن يُعوَّضوا بما يرضيهم . (فتوح البلدان ص 171 172 . وقصة هذه الكنيسة كما يحكيها البلاذري أن خلفاء بني أمية منذ عهد معاوية، ثم عبد الملك، حاولوا أن يسترضوا النصارى ليزيدوا مساحتها في المسجد الأموي، واسترضوهم عنها، فرفضوا، وفي أيام الوليد، جمعهم وبذل لهم مالاً عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا، فقال: لئن لم تفعلوا لأهدمنها فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، إن مَن هدم كنيسة جُنَّ وأصابته عاهة! فأغضبه قولهم، ودعا بمعول وجعل يهدم بعض حيطانها بيده، ثم جمع الفعلة والنقاضين، فهدموها . وأدخلها في المسجد، فلما اسْتُخْلِف عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ما فعل بهم الوليد في كنيستهم . فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم! (أي بهدمه وإعادته كنيسة) فكره أهل دمشق ذلك وقالوا: نهدم مسجدنا بعد أن أذَّنَّا فيه وصلينا دبر نبيه وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء وأقبلوا على النصارى يسترضونهم . فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أُخذت عنوة (أي عند الفتح) وصارت في أيدي المسلمين، على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا، ويمسكوا عن المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم . فكتب بذلك إلى عمر فسره وأمضاه).
وأجلى الوليد بن يزيد مَن كان بقبرص من الذميين، وأرسلهم إلى الشام مخافة حملة الروم، ورغم أنه لم يفعل ذلك إلا حماية للدولة، واحتياطًا لها في نظره، فقد غضب عليه الفقهاء وعامة المسلمين واستعظموا ذلك منه . فلما جاء يزيد بن الوليد وردَّهم إلى قبرص، استحسنه المسلمون، وعدوه من العدل وذكروه في مناقبه . كما يروي ذلك المؤرخ البلاذري . (نفس المرجع ص 214).
ومن مفاخر النظام الإسلامي ما منحه من سُلطة واستقلال للقضاء، ففي رحاب القضاء الإسلامي الحق، يجد المظلوم والمغبون -أيّاً كان دينه وجنسه- الضمان والأمان، لينتصف من ظالمه، ويأخذ حقه من غاصبه، ولو كان هو أمير المؤمنين بهيبته وسلطانه.
وفي تاريخ القضاء الإسلامي أمثلة ووقائع كثيرة وقف فيها السلطان أو الخليفة أمام القاضي مُدَّعيًا أو مُدَّعىً عليه، وفي كثير منها كان الحكم على الخليفة أو السلطان لصالح فرد من أفراد الشعب، لا حول له ولا طول، ونكتفي هنا بمثال واحد له دلالته الواضحة في موضوعنا.
سقطت درع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوجدها عند رجل نصراني فاختصما إلى القاضي شريح . قال علي: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب .فسأل القاضي ذلك النصراني في ما يقول أمير المؤمنين، فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.
فالتفت شريح إلى علي يسأله:يا أمير المؤمنين، هل لك من بيِّنة؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح، ما لي بيِّنة . وقضى شريح للنصراني بالدرع، لأنه صاحب اليد عليها، ولم تقم بينة عليّ بخلاف ذلك . فأخذها هذا الرجل ومضى، ولم يمش خطوات، حتى عاد يقول: أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق.
فقال علي رضي الله عنه: أما إذ أسلمت فهي لك! (البداية والنهاية لابن كثير ج ـ 8 ص 4 - 5).
وهي واقعة تغني عن كل تعليق.

خامسا : واجبات أهل الذمة:


تنحصر واجباتهم في أمور معدودة، هي:
1. أداء الجزية والخراج والضريبة التجارية، وهذه هي واجباتهم المالية.
2. التزام أحكام القانون الإسلامي في المعاملات المدنية ونحوها.
3. احترام شعائر المسلمين ومشاعرهم.



1- الجزية والخراج


أما الجزية فهي ضريبة سنوية على الرؤوس، تتمثل في مقدار زهيد من المال يُفرض على الرجال البالغين القادرين، على حسب ثرواتهم. أما الفقراء فمعفون منها إعفاءً تامًا. قال تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها) (الطلاق: 7).
وليس للجزية حد معيَّن، وإنما ترجع إلى تقدير الإمام الذي عليه أن يراعي طاقات الدافعين ولا يرهقهم، كما عليه أن يرعى المصلحة العامة للأمة.
وقد جعل عمر الجزية على الموسرين 48 درهمًا، وعلى المتوسطين في اليسار 24، وعلى الطبقة الدنيا من الموسرين 12 درهمًا . وبهذا سبق الفكر الضريبي الحديث في تقرير مبدأ تفاوت الضريبة بتفاوت القدرة على الدفع. ولا تعارض بين صنيع عمر وقول النبي :salla1: لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "خذ من كل حالم دينارًا" (رواه أحمد وأصحاب السنن وحسَّنه الترمذي) لأن الفقر كان في أهل اليمن أغلب فراعى النبي :salla1: حالتهم.
والأصل في وجوب الجزية من القرآن قوله تعالى في سورة التوبة: (قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحَرِّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). (التوبة: 29).
ومعنى "الصغار" هنا التسليم وإلقاء السلاح والخضوع لحكم الدولة الإسلامية.
ومن السنة أن النبي :salla1: أخذ الجزية من مجوس البحرين.
كذلك أخذ الخلفاء الراشدون الجزية من أهل الكتاب ومن في حكمهم في سائر البلاد المفتوحة واستقر العمل عليه فصار إجماعًا.

وأما الخراج فهو ضريبة مالية تفرض على رقبة الأرض إذا بقيت في أيديهم، ويرجع تقديره إلى الإمام أيضًا، فله أن يقاسمهم بنسبة معينة مما يخرج من الأرض كالثلث والربع مثلاً، وله أن يفرض عليهم مقدارًا محددًا مكيلاً أو موزونًا بحسب ما تطيقه الأرض كما صنع عمر في سواد العراق، وقد يقوَّم ذلك بالنقود.

والفرق بين الجزية والخراج أن الأولى تسقط بالإسلام، دون الخراج.
فالذمي إذا أسلم لا يعفيه إسلامه من أداء الخراج، بل يظل عليه أيضًا، ويزيد على الذمي الباقي على ديانته الأصلية أنه يدفع العشر أو نصفه عن غلة الأرض، بجوار دفع الخراج عن رقبتها، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة وجمهور الفقهاء (خلافًا لأبي حنيفة) فالخراج هو بمثابة ضريبة الأملاك العقارية اليوم، والعشر بمثابة ضريبة الاستغلال الزراعي.

وجه إيجاب الجزية على أهل الذمة :

ومن الناس من ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية، فيحسبون الإسلام متعسفًا في فرضه الجزية على غير المسلمين.
ولو أنهم أنصفوا وتأملوا حقيقة الأمر لعلموا أن الإسلام كان منصفًا كل الإنصاف في إيجابه هذه الجزية الزهيدة.
فقد أوجب الإسلام على أبنائه (الخدمة العسكرية) باعتبارها (فرض كفاية) أو (فرض عين) وناط بهم واجب الدفاع عن الدولة، وأعفى من ذلك غير المسلمين، وإن كانوا يعيشون في ظل دولته.
ذلك أن الدولة الإسلامية دولة (عقائدية) أو بتعبير المعاصرين دولة (أيديولوجية) أي أنها دولة تقوم على مبدأ وفكرة، ومثل هذه الدولة لا يقاتل دفاعًا عنها إلا الذين يؤمنون بصحة مبدئها وسلامة فكرتها . . وليس من المعقول أن يؤخذ شخص ليضع رأسه على كفه، ويسفك دمه من أجل فكرة يعتقد ببطلانها، وفي سبيل دين لا يؤمن به، والغالب أن دين المخالفين ذاته لا يسمح لهم بالدفاع عن دين آخر، والقتال من أجله.
ولهذا قصر الإسلام واجب (الجهاد) على المسلمين؛ لأنه يعد فريضة دينية مقدسة، وعبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، حتى إن ثواب المجاهد ليفضل ثواب العابد القانت الذي يصوم النهار ويقوم الليل . ولهذا قال الفقهاء: إن أفضل ما يتقرب به المسلم من العبادات هو الجهاد.
ولكن الإسلام فرض على هؤلاء المواطنين من غير المسلمين أن يسهموا في نفقات الدفاع والحماية للوطن عن طريق ما عرف في المصطلح الإسلامي باسم (الجزية).
فالجزية -فضلاً عن كونها علامة خضوع للحكم الإسلامي- هي في الحقيقة بدل مالي عن (الخدمة العسكرية) المفروضة على المسلمين.
ولهذا فرضها الإسلام على كل قادر على حمل السلاح من الرجال . فلا تجب على امرأة ولا صبي؛ لأنهما ليسا من أهل القتال. وقد قال عمر: (لا تضربوها على النساء والصبيان) ولهذا قال الفقهاء: لو أن المرأة بذلت الجزية ليُسمح لها بدخول دار الإسلام تُمَكَّن من دخولها مجانًا، ويُرَد عليها ما أعطته؛ لأنه أخذ بغير حق، وإن أعطتها تبرعًا مع علمها بأن لا جزية عليها قُبلت منها، وتعتبر هبة من الهبات.
ومثل المرأة والصبي: الشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن، والمعتوه، وكل من ليس من أهل السلاح.
ومن سماحة المسلمين أنهم قرروا: أن لا جزية على الراهب المنقطع للعبادة في صومعته؛ لأنه ليس من أهل القتال. (انظر على سبيل المثال: مطالب أولى النهى بشرح غاية المنتهى في فقه الحنابلة ج ـ 2 ص96).
يقول المؤرخ الغربي آدم متز: (كان أهل الذمة -بحكم ما يتمتعون به من تسامح المسلمين معهم، ومن حمايتهم لهم- يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار) (الحضارة الإسلامية ج ـ 1 ص 69).
على أن هناك علة أخرى لإيجاب الجزية على أهل الذمة، وهي العلة التي تبرر فرض الضرائب من أي حكومة في أي عصر على رعاياها، وهي إشراكهم في نفقات المرافق العامة، التي يتمتع الجميع بثمراتها ووجوه نشاطها، كالقضاء والشرطة، وما تقوم به الدولة من إصلاح الطرق وإقامة الجسور، وما يلزمها من كفالة المعيشة الملائمة لكل فرد يستظل بظلها مسلمًا كان أو غير مسلم.
والمسلمون يسهمون في ذلك بما يدفعونه من زكاة عن نقودهم وتجاراتهم وأنعامهم وزرعهم وثمارهم، فضلاً عن صدقة الفطر وغيرها . فلا عجب أن يطلب من غير المسلمين المساهمة بهذا القدر الزهيد وهو الجزية.
ومن ثم وجدنا كتب الفقه المالكي تضع أحكام الجزية لأهل الذمة في صلب أحكام الزكاة للمسلمين .(انظر على سبيل المثال: الرسالة لابن أبى زيد مع شرحيها لابن ناجى وزروق ج ـ 1 ص331 وما بعدها، حيث وضعت الجزية في صلب أبواب الزكاة).

متى تسقط الجزية

إن الجزية كما بينا بدل عن الحماية العسكرية التي تقوم بها الدولة الإسلامية لأهل ذمتها، في المرتبة الأولى . فإذا لم تستطع الدولة أن تقوم بهذه الحماية لم يعد لها حق في هذه الجزية أو هذه الضريبة.
وهذا ما صنعه أبو عبيدة حين أبلغه نوابه عن مدن الشام، بتجمع جحافل الروم، فكتب إليهم أن يردوا الجزية عمن أخذوها منه، وأمرهم أن يعلنوهم بهذا البلاغ: "إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم (أي نحميكم) وإنا لا نقدر على ذلك . وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشروط، وما كتبنا بيننا وبينكم، إن نصرنا الله عليهم" (رواه أبو يوسف في الخراج).
وجاء في كثير من العقود التي كتبها قواد المسلمين كخالد وغيره لأهل الذمة مثل هذا النص: "إن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم" (كما يروي ذلك الطبري في تاريخه).
وتسقط الجزية أيضًا باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضد أعداء الإسلام . وقد نُصَّ على ذلك صراحة في بعض العهود والمواثيق التي أبرمت بين المسلمين وأهل الذمة في عهد عمر رضى الله عنه . (أنظر: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام للدكتور عبد الكريم زيدان ص 155 وما بعدها . وراجع على سبيل المثال: فتوح البلدان للبلاذري ص 217ط . بيروت، حيث صالح مندوب أبى عبيدة جماعة (الجراجمة) المسيحيين أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا على عدوهم، وإلا يؤخذوا بالجزية . . . إلخ).
أما طريقة جمع الجزية وموعدها، فيقول أصحاب كتاب (الإسلام وأهل الذمة) (ص 70-71) أخذًا عن أوثق المصادر: (كانت الجزية تجمع مرة واحدة كل سنة بالشهور الهلالية . (المواردي: الأحكام السلطانية ص 138) وكان يسمح بدفع الجزية نقدًا أو عينًا، لكن لا يسمح بتقديم الميتة أو الخنزير أو الخمر بدلاً من الجزية، وأمر عمر بن الخطاب بالتخفيف عن أهل الذمة فقال: "من لم يطق الجزية خففوا عنه . ومن عجز فأعينوه، فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين". (ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق ج ـ 1 ص178).
وكانت الدولة الإسلامية كثيرًا ما يؤخر موعد تأدية الجزية حتى تنضج المحصولات الزراعية، فيستطيع أهل الذمة تأديتها دون أن يرهقهم ذلك، فقال أبو عبيدة: (الأموال ص 44) "وإنما وجه التأخير إلى الغلة للرفق بهم".
واتبعت الدولة الإسلامية الرفق والرحمة في جمع الجزية، فقد قَدِمَ أحد عمال عمر بن الخطاب عليه بأموال الجزية، فوجدها عمر كثيرة، فقال لعامله: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس ؟ فقال: لا، والله ما أخذنا إلا عفوًا صفوًا . فقال عمر: بلا سوط، ولا نوط ؟ فقال نعم، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي، ولا في سلطاني. (الأموال ص 43).

محمد عبد الرحمن
06-14-2005, 12:31 AM
الجزء 3/3

2-التزام أحكام القانون الإسلامي


والواجب الثاني على أهل الذمة: أن يلتزموا أحكام الإسلام، التي تُطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى الذمة أصبحوا يحملون جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التي لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية.
فليس عليهم أي تكليف من التكاليف التعبدية للمسلمين، أو التي لها صبغة تعبدية أو دينية، مثل الزكاة التي هي ضريبة وعبادة في الوقت نفسه، ومثل الجهاد الذي هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً من الجهاد والزكاة . رعاية لشعورهم الديني أن يفرض عليهم ما هو من عبادات الإسلام.
وليس عليهم في أحوالهم الشخصية والاجتماعية أن يتنازلوا عما أحله لهم دينهم، وإن كان قد حرمه الإسلام، كما في الزواج والطلاق وأكل الخنزير وشرب الخمر . فالإسلام يقرهم على ما يعتقدون حله، ولا يتعرض لهم في ذلك بإبطال ولا عتاب.
فالمجوسي الذي يتزوج إحدى محارمه، واليهودي الذي يتزوج بنت أخيه، والنصراني الذي يأكل الخنزير ويشرب الخمر، لا يتدخل الإسلام في شئونهم هذه ما داموا يعتقدون حلها، فقد أُمر المسلمون أن يتركوهم وما يدينون.
فإذا رضوا بالاحتكام إلى شرع المسلمين في هذه الأمور حكمنا فيهم بحكم الإسلام لقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (سورة المائدة: 49).
ويرى بعض الفقهاء أننا مخيرون إذا احتكموا إلينا: إما أن نحكم بشرعنا أو نترك فلا نحكم بشيء؛ لقوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئًا، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين) (سورة المائدة: 42 . ومن هنا كان لأهل الذمة محاكمهم الخاصة، يحتكمون إليها إن شاءوا، وإلا لجأوا إلى القضاء الإسلامي .
وفيما عدا ذلك يلزمهم أن يتقيدوا بأحكام الشريعة الإسلامية في الدماء والأموال والأعراض -أي في النواحي المدنية والجنائية ونحوها- شأنهم في ذلك شأن المسلمين، وفي هذا يقول الفقهاء: لهم ما لنا وعليهم ما علينا -أي في الجملة لا في التفصيلات.
فمن سرق من أهل الذمة أُقيم عليه حد السرقة، كما يُقام على المسلم، ومن قتل نفسًا أو قطع طريقًا، أو تعدى على مال، أو زنى بامرأة، أو رمى محصنة، أو غير ذلك من الجرائم أُخذ بها، وعوقب بما يعاقب به المسلم، لأن هذه الأمور مُحرَّمة في ديننا، وقد التزموا حكم الإسلام في ما لا يخالف دينهم.
ويرى الإمام أبو حنيفة: أن عقوبة الذمي والذمية في جريمة الزنا هي: الجلد أبدًا، لا الرجم، لأنه يُشترط في توافر الإحصان -الموجب التغليظ في العقوبة- الإسلام.
ومثل ذلك المعاملات المالية والمدنية، من البيوع، والإجارات والشركات، والرهن والشفعة، والمزارعة، وإحياء الموات، والحوالة، والكفالة وغيرها من العقود والتصرفات، التي يتبادل الناس بواسطتها الأموال والمنافع، وتنتظم بها شئون المعاش.
فكل ما جاز من بيوع المسلمين وعقودهم، جاز من بيوع أهل الذمة وعقودهم، وما يفسد منها عند المسلمين يفسد عند الذميين، إلا الخمر والخنزير عند النصارى، فقد استثناهما كثير من الفقهاء، لاعتقادهم حلهما في دينهم . على ألا يجاهروا بهما.
أما الربا فهو حرام عليهم فلا يُقرون عليه.



3 - مراعاة شعور المسلمين


والواجب الثالث عليهم: أن يحترموا شعور المسلمين، الذين يعيشون بين ظهرانيهم، وأن يراعوا هيبة الدولة الإسلامية التي تظلهم بحمايتها ورعايتها.
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافي عقيدة الدولة ودينها، ما لم يكن ذلك جزءًا من عقيدتهم كالتثليث والصلب عند النصارى.
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ونحو ذلك مما يحرم في دين الإسلام، كما لا يجوز لهم أن يبيعوها لأفراد مسلمين، لما في ذلك من إفساد المجتمع الإسلامي.
وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب في نهار رمضان، مراعاة لعواطف المسلمين.
وكل ما يراه الإسلام منكرًا في حق أبنائه، وهو مباح في دينهم، فعليهم -إن فعلوه- ألا يعلنوا به، ولا يظهروا في صورة المتحدى لجمهور المسلمين، حتى تعيش عناصر المجتمع كلها في سلام ووئام.
عن عرفة بن الحارث -وكانت له صحبة مع النبي :salla1: وقاتل مع عكرمة بن أبى جهل باليمن في الردة- أنه دعا نصرانيًا إلى الإسلام فذكر النصراني النبي :salla1: فتناوله -أي بسوء القول- فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص، فقال عمرو: قد أعطيناهم العهد؛؛ فقال عرفة: معاذ الله أن نكون أعطيناهم العهود والمواثيق على أن يؤذونا في الله ورسوله، إنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم، يقولون فيها ما بدا لهم وألا نحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن نقاتل من ورائهم، وأن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتونا، فنحكم بينهم بما أنزل الله. فقال عمرو: صدقت. (رواه الطبراني بسند فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال عبد الملك بن سعيد: ثقة مأمون، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات . مجمع الزوائد ج ـ 6 ص13).



سادسا : الشبهات :

1- قضية الجزية


فمن هذه الشبهات التي يثيرها المبشرون والمستشرقون قضية الجزية التي غُلِّفت بظلال كئيبة، وتفسيرات سوداء، جعلت أهل الذمة يفزعون من مجرد ذكر اسمها، فهي في نظرهم ضريبة ذل وهوان، وعقوبة فُرِضت عليهم مقابل الامتناع عن الإسلام.
وقد بيَّنا فيما سبق وجه إيجاب الجزية على الذميين، وأنها بدل عن فريضتين فُرِضتا على المسلمين وهما: فريضة الجهاد وفريضة الزكاة، ونظرًا للطبيعة الدينية لهاتين الفريضتين لم يُلزم بهما غير المسلمين.
على أنه في حالة اشتراك الذميين في الخدمة العسكرية والدفاع عن الحَوْزَة مع المسلمين فإن الجزية تسقط عنهم.
كما أنه تم البحث في كتاب "فقه الزكاة" مدى جواز أخذ ضريبة من أهل الذمة بمقدار الزكاة، ليتساووا بالمسلمين في الالتزامات المالية، وإن لم تُسمَّ "زكاة" نظرًا لحساسية هذا العنوان بالنظر إلى الفريقين. ولا يلزم أيضًا أن تسمى "جزية" ماداموا يأنفون من ذلك. وقد أخذ عمر من نصارى بنى تغلب الجزية باسم الصدقة تألفًا لهم، واعتبارًا بالمسميات لا بالأسماء (انظر كتابنا فقه الزكاة ج 1 ص 98-104).
وزيادة في الإيضاح والبيان، ودفعًا لكل شبهة، وردًا لأية فرية، نسجل هنا ما كتبه المؤرخ المعروف سير توماس و. أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" عن الغرض من فرض الجزية وعلى مَن فُرضت. قال: (الدعوة إلى الإسلام ص 79-81 ط. ثالثة ـ مكتبة النهضة ـ ترجمة الدكاترة : حسن إبراهيم حسن، وإسماعيل النحراوي، وعبد المجيد عابدين). "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين ـ كما يريدنا بعض الباحثين على الظن ـ لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين. ولما قَدَّمَ أهل الحيرة المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم دفعوا هذه الجزية على شريطة: "أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم" (الطبري ج1 ص2055).
كذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: "فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا" (الطبري ج1 ص2050).

وقد فُرِضت الجزية على القادرين من الذكور مقابل الخدمة العسكرية التي كانوا يطالبون بها لو كانوا مسلمين، ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت تعفى من أداء هذه الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي وكانت الحال على هذا النحو مع قبيلة (الجراجمة) وهي مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية، سالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عونًا لهم، وأن تقاتل معهم في مغازيهم، على شريطة ألا تؤخذ بالجزية، وأن تعطى نصيبها من الغنائم. (البلاذري ص159 -ص217و . 22ط، بيروت).
ولما اندفعت الفتوح الإسلامية إلى شمال فارس سنة 22هـ، أبرم مثل هذا الحلف مع إحدى القبائل التي تقيم على حدود تلك البلاد، وأُعفيت من أداء الجزية مقابل الخدمة العسكرية. (الطبري جـ1 ص2665).


2- ختم رقاب أهل الذمة


ومن هذه الشبهات مسألة ختم رقاب أهل الذمة، وشبهتهم هذه تقوم على تصوير الأمر كما يلي:
1. إن هذا الختم أمر دائم ومستمر.
2. إن المسلمين هم مبتكرو هذا النظام.
3. إنه يحمل صورة الإذلال والاضطهاد لأهل الذمة.
والحقيقة أن هذه الأمور الثلاثة غير صحيحة، كما بين ذلك المنصفون من مؤرخي المستشرقين أنفسهم الذين درسوا قضية أهل الذمة درسًا فاحصًا.
ومن أبرز هؤلاء المستشرق "ترتون" صاحب كتاب "أهل الذمة في الإسلام".
وأما الأمر الأول فقد ذكر اليعقوبي المؤرخ: إن ختم الرقاب كان وقت جباية جزية رؤوسهم ثم تكسر الخواتيم (تاريخ اليعقوبي جـ2 ص . 13 نقلاً عن "الإسلام وأهل الذمة" ص71) وقال أبو يوسف: ينبغي أن تختم رقابهم في وقت جباية جزية رؤوسهم، حتى يفرغ من عرضهم ثم تكسر الخواتيم. (الخراج لأبي يوسف ص72 ـ نفس المصدر).
وأما الأمر الثاني فيقول "ترتون" : من الحق ألا نحمل العرب وزر هذا العيب إذ لم يكونوا فيه إلا مقلدين لما اتبعه البيزنطيون قبلهم. (أهل الذمة في الإسلام ص132 ـ نفس المصدر).
وأما الأمر الثالث فيذكر الدكتور على حسن الخربوطلي في كتابه "الإسلام وأهل الذمة" (ص72 طبع مطابع شركة الإعلانات الشرقية) أن السياسة التي سار عليها المسلمون في ختم الرقاب وقت تأدية الجزية ـ جريًا على ما كان متبعًا عند الرومان البيزنطيين ـ ليست صورة لاضطهاد أو إذلال، ولكنها ـ كما يقول الدكتور بحق ـ وسيلة لمعرفة وتمييز من أدى الضريبة ومن لم يؤدها، وخاصة أن الطباعة لم تكن قد ظهرت بعد، وكان من العسير تدوين إيصالات واضحة ثابتة تثبت تأدية الجزية ولا يمكن تزييفها، وما زالت بعض الدول الإفريقية والآسيوية في القرن العشرين تتبع هذه السياسة في الانتخابات فيقومون بختم أيدي الناخبين بنوع من الأختام لا تزول إلا بعد يومين أو أكثر، حتى لا يعطى صوته أكثر من مرة .

3- ملابس أهل الذمة وأزياؤهم


ومن هذه الشبهات التي ضخمها المستشرقون ما يتعلق بملابس أهل الذمة وأزيائهم، وما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترط عليهم ألا يتشبهوا بالمسلمين في ثيابهم وسروجهم ونعالهم، وأن يضعوا في أوساطهم أو على أكتافهم شارات معينة تميزهم عن المسلمين. وينسب ذلك إلى عمر بن عبد العزيز أيضًا.
ومن المستشرقين المؤرخين من يتشكك في نسبة الشروط أو الأوامر المتعلقة بالزي إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأن كتب المؤرخين الأقدمين الموثوق بها، والتي عنيت بمثل هذه الأمور، لم تشتمل عليها (كتب الطبري، والبلاذري، وابن الأثير، واليعقوبي... وغيرهم). (انظر الإسلام وأهل الذمة ص84 - 85).
على أن الأمر أهون من أن يُتكلف إنكاره ورده، لو عُرِفت دواعيه وأسبابه، وعرفت الملابسات التاريخية التي وجد فيها.
فهو ليس أمرًا دينيًا يُتعبد به في كل زمان ومكان كما فهم ذلك جماعة من الفقهاء وظنوه شرعًا لازمًا، وهو ليس أكثر من أمر من أوامر السلطة الشرعية الحاكمة يتعلق بمصلحة زمنية للمجتمع آنذاك ولا مانع من أن تتغير هذه المصلحة في زمن آخر، وحال أخرى، فيُلغى هذا الأمر أو يُعدّل.
لقد كان هذا التمييز بين الناس تبعًا لأديانهم أمرًا ضروريًا في ذلك الوقت، وكان أهل الأديان أنفسهم حريصين عليه، ولم يكن هناك وسيلة للتمييزغير الزي، حيث لم يكن لديهم نظام البطاقات الشخصية في عصرنا، التي يسجل فيها ـ مع اسم الشخص ولقبه ـ دينه وحتى مذهبه، فالحاجة إلى التمييز وحدها هي التي دفعت إلى إصدار تلك الأوامر والقرارات. ولهذا لا نرى في عصرنا أحدًا من فقهاء المسلمين يرى ما رآه الأولون من وجوب التمييز في الزي لعدم الحاجة إليه.

وناقش المؤرخ "ترتون" (أهل الذمة في الإسلام) هذه المسألة أيضًا، وأبدى رأيه فيها فقال: "كان الغرض من القواعد المتعلقة بالملابس سهولة التمييز بين النصارى والعرب وهذا أمر لا يرقى إليه الشك. بل نراه مقررًا تقريرًا أكيدًا عند كل من أبي يوسف (أبو يوسف : الخراج ص72) وابن عبد الحكم (ابن عبد الحكم : فتوح مصر ص151) وهما من أقدم الكُتَّاب الذين وصلت كتبهم إلينا، على أنه يجب أن نلاحظ أنه لم تكن ثمة ضرورة وقت الفتح لإلزام النصارى بلبس معين من الثياب يخالف ما يلبسه المسلمون، إذ كان لكل من الفريقين وقتذاك ثيابه الخاصة، وكان النصارى يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم دون جبر أو إلزام، على أن الحاجة استلزمت هذه الفروض فيما بعد، حين أخذ العرب بحظ من التمدن إذ حمل الإغراء الشعوب الخاضعة لهم على الاقتداء بهم في ملابسهم، والتشبه في ثيابهم.
ومهما يكن الرأي فإن كانت هذه الأوامر التي تحدد أنواع وأشكال الملابس حقيقية، فإنها لم توضع موضع التنفيذ في معظم العصور التاريخية.
وهناك فرق بين وجود القانون ومدى تطبيق هذا القانون، فقد انتهج معظم الخلفاء، والولاة المسلمين سياسة تسامح وإخاء ومساواة، ولم يتدخلوا كثيرًا في تحديد ملابس أهل الذمة ولم ترتفع أصوات مطلقًا بالشكوى أو الاحتجاج.

تحدَّث أبو يوسف عن لباس أهل الذمة وزيهم فقال: "لا يُترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه، ولا في مركبه، ولا في هيئته". واعتمد أبو يوسف في تفسير ذلك على قول عمر بن الخطاب: "حتى يُعرف زيهم من زي المسلمين". أي أنه لا اضطهاد في الأمر إنما هي وسيلة اجتماعية للتمييز، مثلما نرى اليوم في كل مجتمع حديث من تعدد الأزياء، لكل طائفة أو أصحاب حرفة أو مهنة زي واحد يميزهم


سابعا: روح التسامح عند المسلمين و شهادة التاريخ

روى البخاري : "أن النبي :salla1: مات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله" وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه، وما كانوا لِيَضِنُّوا عليه بشيء ولكنه أراد أن يُعَلِّم أمته.
وقبل النبي :salla1: الهدايا من غير المسلمين، واستعان في سلمه وحربه بغير المسلمين، حيث ضمن ولاءهم له، ولم يخش منهم شرًا ولا كيدًا.
ومرت عليه جنازة فقام :salla1: لها واقفًا، فقيل له: إنها جنازة يهودي! فقال عليه الصلاة والسلام: (أليست نفسًا)؟!.
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين.
فعمر يأمر بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين، ثم يقول: قال الله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) (سورة التوبة: 60) وهذا من مساكين أهل الكتاب. (الخراج لأبى يوسف ص 26، انظر كتابنا "فقه الزكاة" جـ 2 ص705-706).
ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجزومين من النصارى فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين.
وأصيب عمر بضربة رجل من أهل الذمة ـ أبي لؤلؤة المجوسي ـ فلم يمنعه ذلك أن يوصى الخليفة من بعده وهو على فراش الموت فيقول: (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم). (أخرجه البخاري في الصحيح، ويحي بن آدم في الخراج ص74، والبيهقي في السنن جـ9 ص206 باب الوصاة بأهل الكتاب).

وذكر القاضي عياض في (ترتيب المدارك) قال: (حدث الدارقطني أن القاضي إسماعيل بن إسحاق. (من أعلام المالكية، وقاضى بغداد توفى سنة 282هـ ـ انظر ترجمته في "ترتيب المدارك" جـ 3ص166 ـ 181 ط . دار الحياة ببيروت ـ تحقيق الدكتور أحمد بكير محمود). دخل عليه الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي، فقام له القاضي ورحب به. فرأى إنكار الشهود لذلك، فلما خرج الوزير قال القاضي إسماعيل: قد علمت إنكاركم، وقد قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) (سورة الممتحنة: 8)، وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين وهو سفير بيننا وبين المعتضد.... وهذا من البر). (المرجع السابق ص174).
ونكتفي هنا بكلمات نيرة للفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي شارحًا بها معنى البر الذي أمر الله به المسلمين في شأنهم. فذكر من ذلك: الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم ـ على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة ـ واحتمال إذايتهم في الجوار ـ مع القدرة على إزالته ـ لطفًا منا بهم، لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم، إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم...إلخ. (الفروق جـ 3 ص 15).


أما في العصر الأموي فنكتفي بنقل هذه السطور من كتاب "قصة الحضارة" لـ "ول ديورانت" يقول:

"لقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرًا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير. ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديدو الفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية، أو إن شئت فقل لا يُقبلون فيها، ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها 2.5 % من الدخل السنوي. (الزكاة ليست على الدخل السنوي، بل على رأس المال النامي وما يدره من دخل. مثل زكاة النقود والتجارة. وبعض أنواع الزكاة مثل دخل الاستغلال الزراعي فيه 10% أو 5% حسب طريقة الري كما هو مقرر في الفقه). وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تُقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمعتون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم" (قصة الحضارة ج 13 ص131)

حسام مجدي
06-14-2005, 02:49 AM
بارك الله فيك و أحسن الله إليك أخي الحبيب " محمد عبد الرحمن " .. على نقلك القيم و الجميل ..

هذا هو الإسلام .. فأتوني بأعدل و أفضل منة أو مثلة لو كنتم صادقين ؟؟

محمد عبد الرحمن
06-14-2005, 08:20 AM
بارك الله فيك و أحسن الله إليك أخي

و إياك أخي الفاضل حسام .

و شكرا على المرور و الدعاء .

ATmaCA
06-14-2005, 10:07 AM
بارك الله فيك و أحسن الله إليك أخي الحبيب " محمد عبد الرحمن " .. على نقلك القيم و الجميل ..

هذا هو الإسلام .. فأتوني بأعدل و أفضل منة أو مثلة لو كنتم صادقين ؟؟

اخى محمد عبد الرحمن جزاك الله خيراً .

فعلاً هذا هو مجتمعنا الاسلامى العادل .

شكراً لك :emrose: :emrose: .

أبو مريم
06-14-2005, 11:16 AM
جزاك الله خيرا يا أخى محمد عبد الرحمن على هذا المجهود الرائع نفع الله بك المسلمين وزادك من فضله وبارك لك فى وقتك .