عبد الغفور
12-20-2009, 04:58 PM
د. سامي بن عبدالعزيز الماجد
لا تكاد تُثار قضيةُ عملِ المرأة إلاّ وتُثار معها قضيةُ الاختلاطِ، وكأنه قد كُتب على المرأة ألاّ تعملَ إلاّ وقد خالطت الرجال، وصار لها زملاءُ عمل كما لها زميلات.
وأصبحت الدعوى العريضةُ في هذا الباب أن منع الاختلاط في العمل ليس له معنى إلاّ تضييق مجالات العمل للمرأة وحرمانها من أبواب رزق كثيرة، وحُكم على كل مطالبة بعزل الرجال عن النساء بأنها مطالبات مكلِفة، فيها تضييع للمال وتبديد للثروات!!
وما جاء هذا الحكم الجائر والنظر القاصر إلاّ من النظرة الماديةِ، التي لا تراعي في حسابات الربح والخسارة مكتسباتِ القيم والفضائلِ، فليس معدوداً من المكتسبات التي تستحق أن يُصرفَ فيها المال أن تحافظ على أخلاق الموظفين والموظفات وعلى أعراضهن، وأن تسدَّ عليهم ذرائع الفتنة والفاحشة.
وتجد من هؤلاء من يناقش قضيةَ الاختلاط بمثالية مفرطة؛ فينظر إلى واقع الشبان والشابات نظرةً مثالية، فهم في نظره بمنأى عن مزالق الفاحشة، ويرى أن نضجَ عقولهم وحصانة أخلاقهم يمنعانهم -مهما اختلطوا- أن يقعوا في شيء من طرائقها.
والعجيب أن هؤلاء يدعون الواقعيةَ في التعامل مع الواقع، ويطالبون غيرهم بأن يعالج الأمور بنظرة واقعية تراعي طبيعة البشر وطباعَهم، ويتناسَوْن أن من طبيعة البشر ميل كل جنس إلى الآخر.
ويتناسَوْن أن النظرة الواقعية في طبيعة العلاقة بين الجنسين تفرض التحرّزَ والتحوّطَ، لا التساهلَ والمبالغة في إحسان الظن، والتعويلَ على الحصانة الإيمانية والثقافية.
والنظرة الواقعية تقول: قَلَّ من الشباب من يتقي ويصبر إذا أحاطت به المغريات من كل جانب.
والنظرة الواقعية تقول: إذا اختلط الشبان والشابات ثارت بينهم عقابيل الفتنة، ونشأت فيهم العلاقات المحرمة والصداقات الحميمية التي تجعل الصديق كالزوج في أخص خصائصه.
والنظرة الواقعية تملي عليه أن ينظر في تجارب الآخرين، فما زالت أكثر الدول تطوراً وأحكمها نظاماً وأصرمها قانوناً تعاني من مشكلات التحرش الجنسي، وهي تزداد في كل سنة بنسبة مضاعفة.
ليس من الواقعية في شيء أن تفرض الاختلاط أمراً واقعاً في شتى مجالات العمل، ثم تجابه من ينكر الاختلاط فيها بقولك: يا أخي كن واقعياً!
فأين هذا من الجانب الآخر من الواقعية، وهي الواقعية في مراعاة طبيعة العلاقة بين الجنسين، وبخاصة في مرحلة الشباب، التي تكون فيها الغريزة الجنسية في أوج اتقادها.
وثمة شبهة تُثار في مسألة الاختلاط، وهي أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - تحريمُ الاختلاط؛ فليبق المحرم إذاً محصوراً في الخلوة.
والجواب: أنه ليس كلُ ما لم يُنص على تحريمه صراحةً في الكتاب والسنة يكون مباحاً بإطلاق؛ لأن أدلة الأحكام لا تنحصر في الكتاب والسنة، فمن الأدلة التي تُستنبط بها الأحكام الشرعية القياس وسدُّ الذرائع، ولا يصح أن نقول إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان إلاّ إذا أخذنا بحجية القياس؛ لأن الوحي قد انقطع والحوادث والأقضية تستجدّ.
ولو عرضتَ كتابَ الله آية آية، لما وجدت فيه نصاً صريحاً يحرم على الولد ضرب والديه، لكنك واجد فيه نهياً صريحاً للولد أن يقولَ لهما أفٍ أو ينهرَهما، ومع ذلك فكل عاقل يفهم أساليب الخطاب وإيماءاتِه يدرك من النهي عن مجرّد التأفف للوالدين النهيَ عن كل ما هو أعظم منه من باب أولى.
وكم نص الشرع على حكم الأدنى ليدل على الأعلى من باب أولى، ولذا نقول: إن من غير المظنون بالشرع الحكيم أن ينهى عن خروج المرأة متعطرة ليجد الرجال من ريحها، ثم يأذن لها أن تخالطهم في العمل لتجر وراءها آثار الفتنة!
وإن من اتهام الشرع في حكمته وعقلانيته أن نـزعم أنه يُبيح صور الاختلاطِ كلَّها، حتى الاختلاط في العمل بحجة أنه لم ينصّ على تحريم ذلك، وهو الذي نهى المرأة عن مجرد ضربها برجليها، ليُعلم ما تخفي من زينتها!
كما أن سد الذرائع أصل أخذ به جمهور العلماء في كل ما غلبت فيه المفسدة على المصلحة، وإنما اختلفوا في بعض فروع ذلك؛ لاختلافهم في تقدير المفسدة والمصلحة، وهل ينازع عاقل في أن الاختلاط المنتظم المتكرر بين الموظفين والموظفات يفضي إلى كثير من المفاسد؟!
إن قاعدة سدّ الذرائع معمول بها في القوانين والنظم، ولك أن تستقري كثيراً من صورها، لتجد شواهد ذلك جلية كل الجلاء.
ولو كان الشأنُ ألاّ نحرِّم إلاّ ما حُرّم بنص صريح، وألاّ نوجب إلاّ ما وجب بنصٍّ صريح يفهمه كل أحد لما كان لنا من حاجة أن نسأل العلماء عن أحكام ديننا، فلما أن أمرنا الله بسؤالهم دلّ ذلك على أن من الأحكام الشرعية ما لا يستنبطه إلاّ العلماء العارفون بدلالات الألفاظ وفحوى الخطاب وطرق القياس.
صور الاختلاط المحرم، وأدلة تحريمها
يمكن حصر صور الاختلاط المحرم في الصور الآتية:
أولاً: الاختلاط الذي هو مظنة للتزاحم وتماسّ الأجساد، فهو ظاهر المفسدة، ومظنة راجحة للفتنة، ولذا جاء النهي عنه في حديث أبي أسيد أنه سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال بالنساء في الطريق- يقول للنساء: "استأخرن، فليس لكُنّ أن تحققن الطريق - أي تذهبن في وسط الطريق -، عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به". أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو تركنا هذا الباب - أي: باب من أبواب مسجده – للنساء"، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح، قال الألباني: صحيح على شرط الشيخين.
ومما يدل على ذلك مباعدته - عليه الصلاة والسلام - بين صفوف الرجال والنساء في مسجده، مع قوله: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها - أي أقلها أجراً؛ إذ ليس في الاصطفاف للصلاة شر - وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم.
ولا نفهم معنىً لهذا إلاّ درْء الفتنة الناشئة من التزاحم وتماسّ الأجساد.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أنه شهد مع النبي - عليه الصلاة والسلام - العيد، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن...» رواه البخاري.
قال ابن حجر - فتح الباري 2/466-: «قوله (ثم أتى النساء) يشعر بأن النساء كنّ على حدة من الرجال غير مختلطات بهم».
ثانياً: الاختلاط الذي يصاحبه تبرّج وسفور وميل ومجون، ولا شك في حرمة هذا الاختلاط حتى وإن لم يكن فيه تزاحم وتماسّ للأجساد؛ لأن علة التحريم ليست في كونه اختلاطاً، وإنما في ما يحتف به من تبرج وسفور وإغراء.
ثالثاً: الاختلاط المنتظم المتكرر لأشخاص بأعيانهم؛ كالاختلاط الحاصل بين الطلاب والطالبات، وبين الموظفين والموظفات، فهذا هو الاختلاط الذي ترتفع فيه الحواجز بين الجنسين شيئاً فشيئاً، وتنشأ العلاقة بينهما مبتدئة بزمالة عفوية نزيهة ـ على حد زعمهم ـ فصداقة، فحب وغرام وهيام، فمثل هذا الاختلاط ظاهر المفسدة، مظنّةٌ للفتنة، ذريعة من ذرائع الفاحشة والسوء.
ويمكن الاستدلال لتحريم هذه الصورة بدليلين:
الأول: قاعدة سد الذرائع، والقاعدة في هذا أن كل ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته، أو ما كان ظاهر المفسدة مفضياً في الغالب إلى الفتنة والشر فهو محرم في الشريعة.
نعم ليست المفسدة في هذا الاختلاط مطردة متحققة في جميع صوره؛ ولكن كون المفسدة لا تتحقق في بعض الصور لا ينقض حكم التحريم ولا يبطل القول بالمنع؛ لأن العبرة بغالب الحال، والحكم الشرعي أغلبي، أي أنه قد أُنيط بالأعم الأغلب، والواقع يشهد أن الواقعين في فتنة هذا النوع من الاختلاط كثيرٌ، واسألوا المبتلين بالعمل المختلط لينبِّئوكم بمفاسده، ولا ينبئك مثلُ خبير.
ثانياً: القياس الأولوي، وهو الاستدلال بالأدنى على ما هو أعـلى في العلة نفسها، فمن غير اللائق بالشـرع أن تُنهى المرأة عن أن تضربَ برجلها ليُعلم ما تخفي من زينتها، ثم يجيز هذا الضرب من الاختلاط الذي فيه من المفسدة والفتنة ما هو أعظم من ضرب المرأة برجلها.
ثم هل يصح في العقول أن يحرِّم الشرع الخلوة ولو لزمن يسير، ثم يبيح الاختلاط المنتظم، الذي هو ذريعة للخلوة المحرمة ومظنة لنشوء العلاقات الآثمة؟
إن مما ينبغي أن يُعلم في شأن هذه المسألة أنه لا يُشترط فيما حُرّم سداً للذريعة أن يكون مفسدةً في كل صوره وحالاته، بل يكفي أن يكون مظنة للمفسدة والفتنة، ولذا حرم الشرع الخلوة بشتى صورها، من غير تفريق بين خلوة يحصل فيها مسّ أو تقبيل أو نحو ذلك، وبين خلوة لا يحصل فيها شيء من ذلك؛ لأن الخلوة في نفسها مظنة للفتنة وذريعة للمفسدة، فكذلك يُقال في الاختلاط المنتظم المتكرر، الذي تغلب فيه المفسدة وتترجّح: إنه يحرم كله وإن انتفت المفسدة في بعض حالاته القليلة.
وبعد: فيبقى ما عدا ذلك من صور الاختلاط الذي لا تكون المفسدة فيه غالبةً يبقى على الأصل وهو الحل، ويدخل في هذا الاختلاط العفوي الحاصل في الأماكن العامة كالطرق والأسواق والمتنـزهات والمعارض التي لا يكون فيها تزاحم ولا تبرّج ولا سفور، فالاختلاط فيها جاء عفواً من غير قصد، وعليه عمل الأمة سلفاً وخلفاً. إن مجرد وجود الرجال والنساء في مكان واحد والتقائهم فيه عفواً لم يكن في أصله ممنوعاً في الشريعة بإطلاق، ولا موجباً للإثم بمجرده، كيف وقد اجتمع الرجال والنساء على عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - في مسجده، وفي غيره، وكان النساء يخرجن إلى الأسواق وفيها الرجال، ويمشين في الطرقات مع سائر الناس، وهذا بمجرده ليس مدعاةْ للفتنة، ولا ذريعة للفاحشة، ما لم تشبه شائبة أخرى من تبرّج أو سفور ونحو ذلك، ومن التشديد بمكان أن يدرج هذا في صورة الاختلاط المحرم ولم تتحقق فيه علته، ولا نحسب هذا إلاّ من المبالغة في سدّ الذرائع، بل والقول به لا يصلح به معاش، مع ما يجلبه من المشقة والتعسير على الناس.
لا تكاد تُثار قضيةُ عملِ المرأة إلاّ وتُثار معها قضيةُ الاختلاطِ، وكأنه قد كُتب على المرأة ألاّ تعملَ إلاّ وقد خالطت الرجال، وصار لها زملاءُ عمل كما لها زميلات.
وأصبحت الدعوى العريضةُ في هذا الباب أن منع الاختلاط في العمل ليس له معنى إلاّ تضييق مجالات العمل للمرأة وحرمانها من أبواب رزق كثيرة، وحُكم على كل مطالبة بعزل الرجال عن النساء بأنها مطالبات مكلِفة، فيها تضييع للمال وتبديد للثروات!!
وما جاء هذا الحكم الجائر والنظر القاصر إلاّ من النظرة الماديةِ، التي لا تراعي في حسابات الربح والخسارة مكتسباتِ القيم والفضائلِ، فليس معدوداً من المكتسبات التي تستحق أن يُصرفَ فيها المال أن تحافظ على أخلاق الموظفين والموظفات وعلى أعراضهن، وأن تسدَّ عليهم ذرائع الفتنة والفاحشة.
وتجد من هؤلاء من يناقش قضيةَ الاختلاط بمثالية مفرطة؛ فينظر إلى واقع الشبان والشابات نظرةً مثالية، فهم في نظره بمنأى عن مزالق الفاحشة، ويرى أن نضجَ عقولهم وحصانة أخلاقهم يمنعانهم -مهما اختلطوا- أن يقعوا في شيء من طرائقها.
والعجيب أن هؤلاء يدعون الواقعيةَ في التعامل مع الواقع، ويطالبون غيرهم بأن يعالج الأمور بنظرة واقعية تراعي طبيعة البشر وطباعَهم، ويتناسَوْن أن من طبيعة البشر ميل كل جنس إلى الآخر.
ويتناسَوْن أن النظرة الواقعية في طبيعة العلاقة بين الجنسين تفرض التحرّزَ والتحوّطَ، لا التساهلَ والمبالغة في إحسان الظن، والتعويلَ على الحصانة الإيمانية والثقافية.
والنظرة الواقعية تقول: قَلَّ من الشباب من يتقي ويصبر إذا أحاطت به المغريات من كل جانب.
والنظرة الواقعية تقول: إذا اختلط الشبان والشابات ثارت بينهم عقابيل الفتنة، ونشأت فيهم العلاقات المحرمة والصداقات الحميمية التي تجعل الصديق كالزوج في أخص خصائصه.
والنظرة الواقعية تملي عليه أن ينظر في تجارب الآخرين، فما زالت أكثر الدول تطوراً وأحكمها نظاماً وأصرمها قانوناً تعاني من مشكلات التحرش الجنسي، وهي تزداد في كل سنة بنسبة مضاعفة.
ليس من الواقعية في شيء أن تفرض الاختلاط أمراً واقعاً في شتى مجالات العمل، ثم تجابه من ينكر الاختلاط فيها بقولك: يا أخي كن واقعياً!
فأين هذا من الجانب الآخر من الواقعية، وهي الواقعية في مراعاة طبيعة العلاقة بين الجنسين، وبخاصة في مرحلة الشباب، التي تكون فيها الغريزة الجنسية في أوج اتقادها.
وثمة شبهة تُثار في مسألة الاختلاط، وهي أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - تحريمُ الاختلاط؛ فليبق المحرم إذاً محصوراً في الخلوة.
والجواب: أنه ليس كلُ ما لم يُنص على تحريمه صراحةً في الكتاب والسنة يكون مباحاً بإطلاق؛ لأن أدلة الأحكام لا تنحصر في الكتاب والسنة، فمن الأدلة التي تُستنبط بها الأحكام الشرعية القياس وسدُّ الذرائع، ولا يصح أن نقول إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان إلاّ إذا أخذنا بحجية القياس؛ لأن الوحي قد انقطع والحوادث والأقضية تستجدّ.
ولو عرضتَ كتابَ الله آية آية، لما وجدت فيه نصاً صريحاً يحرم على الولد ضرب والديه، لكنك واجد فيه نهياً صريحاً للولد أن يقولَ لهما أفٍ أو ينهرَهما، ومع ذلك فكل عاقل يفهم أساليب الخطاب وإيماءاتِه يدرك من النهي عن مجرّد التأفف للوالدين النهيَ عن كل ما هو أعظم منه من باب أولى.
وكم نص الشرع على حكم الأدنى ليدل على الأعلى من باب أولى، ولذا نقول: إن من غير المظنون بالشرع الحكيم أن ينهى عن خروج المرأة متعطرة ليجد الرجال من ريحها، ثم يأذن لها أن تخالطهم في العمل لتجر وراءها آثار الفتنة!
وإن من اتهام الشرع في حكمته وعقلانيته أن نـزعم أنه يُبيح صور الاختلاطِ كلَّها، حتى الاختلاط في العمل بحجة أنه لم ينصّ على تحريم ذلك، وهو الذي نهى المرأة عن مجرد ضربها برجليها، ليُعلم ما تخفي من زينتها!
كما أن سد الذرائع أصل أخذ به جمهور العلماء في كل ما غلبت فيه المفسدة على المصلحة، وإنما اختلفوا في بعض فروع ذلك؛ لاختلافهم في تقدير المفسدة والمصلحة، وهل ينازع عاقل في أن الاختلاط المنتظم المتكرر بين الموظفين والموظفات يفضي إلى كثير من المفاسد؟!
إن قاعدة سدّ الذرائع معمول بها في القوانين والنظم، ولك أن تستقري كثيراً من صورها، لتجد شواهد ذلك جلية كل الجلاء.
ولو كان الشأنُ ألاّ نحرِّم إلاّ ما حُرّم بنص صريح، وألاّ نوجب إلاّ ما وجب بنصٍّ صريح يفهمه كل أحد لما كان لنا من حاجة أن نسأل العلماء عن أحكام ديننا، فلما أن أمرنا الله بسؤالهم دلّ ذلك على أن من الأحكام الشرعية ما لا يستنبطه إلاّ العلماء العارفون بدلالات الألفاظ وفحوى الخطاب وطرق القياس.
صور الاختلاط المحرم، وأدلة تحريمها
يمكن حصر صور الاختلاط المحرم في الصور الآتية:
أولاً: الاختلاط الذي هو مظنة للتزاحم وتماسّ الأجساد، فهو ظاهر المفسدة، ومظنة راجحة للفتنة، ولذا جاء النهي عنه في حديث أبي أسيد أنه سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال بالنساء في الطريق- يقول للنساء: "استأخرن، فليس لكُنّ أن تحققن الطريق - أي تذهبن في وسط الطريق -، عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به". أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو تركنا هذا الباب - أي: باب من أبواب مسجده – للنساء"، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح، قال الألباني: صحيح على شرط الشيخين.
ومما يدل على ذلك مباعدته - عليه الصلاة والسلام - بين صفوف الرجال والنساء في مسجده، مع قوله: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها - أي أقلها أجراً؛ إذ ليس في الاصطفاف للصلاة شر - وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم.
ولا نفهم معنىً لهذا إلاّ درْء الفتنة الناشئة من التزاحم وتماسّ الأجساد.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أنه شهد مع النبي - عليه الصلاة والسلام - العيد، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن...» رواه البخاري.
قال ابن حجر - فتح الباري 2/466-: «قوله (ثم أتى النساء) يشعر بأن النساء كنّ على حدة من الرجال غير مختلطات بهم».
ثانياً: الاختلاط الذي يصاحبه تبرّج وسفور وميل ومجون، ولا شك في حرمة هذا الاختلاط حتى وإن لم يكن فيه تزاحم وتماسّ للأجساد؛ لأن علة التحريم ليست في كونه اختلاطاً، وإنما في ما يحتف به من تبرج وسفور وإغراء.
ثالثاً: الاختلاط المنتظم المتكرر لأشخاص بأعيانهم؛ كالاختلاط الحاصل بين الطلاب والطالبات، وبين الموظفين والموظفات، فهذا هو الاختلاط الذي ترتفع فيه الحواجز بين الجنسين شيئاً فشيئاً، وتنشأ العلاقة بينهما مبتدئة بزمالة عفوية نزيهة ـ على حد زعمهم ـ فصداقة، فحب وغرام وهيام، فمثل هذا الاختلاط ظاهر المفسدة، مظنّةٌ للفتنة، ذريعة من ذرائع الفاحشة والسوء.
ويمكن الاستدلال لتحريم هذه الصورة بدليلين:
الأول: قاعدة سد الذرائع، والقاعدة في هذا أن كل ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته، أو ما كان ظاهر المفسدة مفضياً في الغالب إلى الفتنة والشر فهو محرم في الشريعة.
نعم ليست المفسدة في هذا الاختلاط مطردة متحققة في جميع صوره؛ ولكن كون المفسدة لا تتحقق في بعض الصور لا ينقض حكم التحريم ولا يبطل القول بالمنع؛ لأن العبرة بغالب الحال، والحكم الشرعي أغلبي، أي أنه قد أُنيط بالأعم الأغلب، والواقع يشهد أن الواقعين في فتنة هذا النوع من الاختلاط كثيرٌ، واسألوا المبتلين بالعمل المختلط لينبِّئوكم بمفاسده، ولا ينبئك مثلُ خبير.
ثانياً: القياس الأولوي، وهو الاستدلال بالأدنى على ما هو أعـلى في العلة نفسها، فمن غير اللائق بالشـرع أن تُنهى المرأة عن أن تضربَ برجلها ليُعلم ما تخفي من زينتها، ثم يجيز هذا الضرب من الاختلاط الذي فيه من المفسدة والفتنة ما هو أعظم من ضرب المرأة برجلها.
ثم هل يصح في العقول أن يحرِّم الشرع الخلوة ولو لزمن يسير، ثم يبيح الاختلاط المنتظم، الذي هو ذريعة للخلوة المحرمة ومظنة لنشوء العلاقات الآثمة؟
إن مما ينبغي أن يُعلم في شأن هذه المسألة أنه لا يُشترط فيما حُرّم سداً للذريعة أن يكون مفسدةً في كل صوره وحالاته، بل يكفي أن يكون مظنة للمفسدة والفتنة، ولذا حرم الشرع الخلوة بشتى صورها، من غير تفريق بين خلوة يحصل فيها مسّ أو تقبيل أو نحو ذلك، وبين خلوة لا يحصل فيها شيء من ذلك؛ لأن الخلوة في نفسها مظنة للفتنة وذريعة للمفسدة، فكذلك يُقال في الاختلاط المنتظم المتكرر، الذي تغلب فيه المفسدة وتترجّح: إنه يحرم كله وإن انتفت المفسدة في بعض حالاته القليلة.
وبعد: فيبقى ما عدا ذلك من صور الاختلاط الذي لا تكون المفسدة فيه غالبةً يبقى على الأصل وهو الحل، ويدخل في هذا الاختلاط العفوي الحاصل في الأماكن العامة كالطرق والأسواق والمتنـزهات والمعارض التي لا يكون فيها تزاحم ولا تبرّج ولا سفور، فالاختلاط فيها جاء عفواً من غير قصد، وعليه عمل الأمة سلفاً وخلفاً. إن مجرد وجود الرجال والنساء في مكان واحد والتقائهم فيه عفواً لم يكن في أصله ممنوعاً في الشريعة بإطلاق، ولا موجباً للإثم بمجرده، كيف وقد اجتمع الرجال والنساء على عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - في مسجده، وفي غيره، وكان النساء يخرجن إلى الأسواق وفيها الرجال، ويمشين في الطرقات مع سائر الناس، وهذا بمجرده ليس مدعاةْ للفتنة، ولا ذريعة للفاحشة، ما لم تشبه شائبة أخرى من تبرّج أو سفور ونحو ذلك، ومن التشديد بمكان أن يدرج هذا في صورة الاختلاط المحرم ولم تتحقق فيه علته، ولا نحسب هذا إلاّ من المبالغة في سدّ الذرائع، بل والقول به لا يصلح به معاش، مع ما يجلبه من المشقة والتعسير على الناس.