المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محمد ابن ابراهيم وتبين القول في القوانين



ماكـولا
12-23-2009, 04:47 PM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

إنّ من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرّدِّ إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عزّ وجلّ: {فإنْ تنازعتُم في شيءٍ فرُدّوه إلى اللهِ والرسولِ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً}.

وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لم يُحَكِّموا النبي صلى الله عليه وسلم، فيما شجر بينهم، نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى: {فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيتَ ويُسَلِّموا تسليمًا}.

ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت}. والحرج: الضيق. بل لا بدّ من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب.

ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم: وهو كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلّون ها هنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتمّ تسليم، ولهذا أكّد ذلك بالمصدر المؤكّد، وهو قوله جلّ شأنه: {تسليمًا} المبيّن أنه لا يُكتفى ها هنا بالتسليم.. بل لا بدّ من التسليم المطلق.

وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {فإنْ تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً..} كيف ذكر النّكِرة، وهي قوله: {شيء} في سياق الشرط، وهو قوله جلّ شأنه: {فإنْ تنازعتم} المفيد العمومَ فيما يُتصوّر التنازع فيه جنسا وقدرًا.

ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: {إنْ كُنتُم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، ثم قال جل شأنه: {ذلك خيرٌ}. فشيء يُطلقِ اللهُ عليه أنه خير، لا يتطرّق إليه شرّ أبدا، بل هو خيرٌ محضٌ عاجلا وآجلاً.

ثم قال: {وأحسن تأويلاً}. أي: عاقبةً في الدنيا والآخرة، فيفيد أنّ الردَّ إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، عند التنازع شرٌّ محضٌ، وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة عكس ما يقوله المنافقون: {إنْ أَرَدْنا إلآَّ إحْسانًا وتَوْفيقًا}. وقولهم: إنّما نحنُ مُصلِحون. ولهذا ردّ اللهُ عليهم قائلا: {ألاَ إنّهم هُمُ المُفْسِدون ولكن لا يَشْعُرون}.

وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم (بل ضرورتهم) إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صِرْفٍ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحضُ استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازمٌ لهم.

وتأمّل أيضا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم}. فإنّ اسم الموصول مع صِلته مع صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العمومُ والشمولُ هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدْر، فلا فرقَ هنا بين نوع ونوع، كما أنّه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى اللهُ الإيمانَ عن مَن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، من المنافقين، كما قال تعالى: {أَلمْ تَرَ إلى الذينَ يَزْعُمونَ أنّهم آمنوا بما أُنْزِلَ إليكَ وما أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدونَ أنْ.يَتَحاكَموا إلى الطاغوتِ وقدْ أُمِروا أنْ يكفُروا به ويُريدُ الشيطانُ أنْ يُضلّهم ضلالا بعيدًا}.

فإنّ قوله عز وجل: "يَزْعُمون" تكذيب لهم فيما ادّعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبدٍ أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحدّ.

فكلُّ مَن حَكَمَ بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حاكَمَ إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حَكَمَ بالطاغوت وحاكم إليه.

وذلك أنّه مِن حقِّ كل أحدٍ أن يكون حاكمًا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقط لا بخلافه، كما أنّ من حقِّ كل أحدٍ أن يُحاكِمَ إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.. فمَن حَكَمَ بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوز حدّه، حُكْمًا أو تحكيما، فصار بذلك طاغوتا لتجاوزه حده.

وتأمل قوله عز وجل: {وقدْ أُمِروا أنْ يكفُروا به} تعرف منه معاندة القانونيين، وإرادتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعًا والذي تعبّدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه.. {فبدَّل الذينَ ظَلموا قولاَ غيرَ الذي قيلَ لهُم}.

ثم تأمل قوله: {ويُريدُ الشيطانُ أنْ يُضلّهُم} كيف دلَّ على أنّ ذلك ضلالٌ، وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى، كما دلّت الآية على أنّه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصور القانونيون من بُعدهم من الشيطان، وأنّ فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بُعث به سيدُ ولد عدنان معزولا من هذا الوصف، ومُنحىً عن هذا الشأن وقد قال تعالى منكرا على هذا الضرب من الناس، ومقررا ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحا أنه لا حُكم أحسن من حُكمه: {أَفَحُكمَ الجاهليةِ يَبْغونَ ومَنْ أحسنُ مِن اللهِ حُكمًا لِقومٍ يُوقِنون}.

فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلّت على أنّ قِسمة الحكم ثنائية، وأنّه ليس بعد حكم الله تعالى إلاّ حُكم الجاهلية، شاءوا أمْ أبوا، بل هم أسوأ منهم حالاً، وأكذب منهم مقالاً، ذلك أنّ أهل الجاهلية لا تناقُضَ لديهم حول هذا الصدد.

وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويناقضون ويريدون أنْ يتّخذوا بين ذلك سبيلاً، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {أُولئكَ هُمُ الكافرونَ حَقَّا وأَعْتدنا للكافرينَ عذابًا مُهينًا}.

ثم انظر كيف ردّت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حُسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عزّ وجلّ: {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقوْمٍ يُوقِنون}.

قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ينكر اللهُ على من خرج من حكم الله المُحْكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شرّ، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهكم وأهوائهم، وكما يحكم به التتارُ من السياسات الملكية المأخوذة عن مَلِكهم "جنكيز خان" الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكامٍ قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بَنيهِ شرعا مُتّبعا يقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافرٌ يجب قتاله حتى يرجعَ إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحَكِّم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهليةِ يَبْغون}. أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يوقِنونَ}. أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لِمَن عَقَل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلِم أنّ الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء، العادل في كل شيء) انتهى قول الحافظ ابن كثير.

وقد قال عزّ شأنه قبل ذلك مخاطبا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {وأَنِ احْكُمْ بَيْنهُم بما أنزل اللهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءهُم عَمّا جاءَك مِن الحقّ}.

وقال تعالى: {وأنِ احْكُمْ بَيْنهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليك}.

وقال تعالى مُخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، بين الحُكم بين اليهود والإعراض عنهم إنْ جاءُوه لذلك: {فَإنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم أوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تَعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ}. والقسط هو: العدل، ولا عدل حقا إلاّ حُكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم، والضلال، والكفر، والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون} .{ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقون}.

فانظر كيف سجّل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل اللهُ الكفرَ والظلمَ والفسوقَ، ومِن الممتنع أنْ يُسمِّي اللهُ سبحانه الحاكمَ بغير ما أنزل اللهُ كافرًا ولا يكون كافرًا، بل كافرٌ مطلقًا، إمّا كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدلُّ أنّ الحاكم بغير ما أنزل اللهُ كافرٌ إمّا كفرُ اعتقادٍ ناقلٌ عن الملّة، وإمّا كفرُ عملٍ لا ينقلُ عن الملّة.

أمّا الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:

أحدها:

أن يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله أحقيّة حُكمِ الله ورسوله وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أنّ ذلك هو جحودُ ما أنزل اللهُ من الحُكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإنّ الأصول المتقررة المتّفق عليها بينهم أنّ مَنْ جَحَدَ أصلاً من أصول الدين أو فرعًا مُجمعًا عليه، أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، قطعيًّا، فإنّه كافرًا الكفرَ الناقل عن الملّة.

الثاني:

أنْ لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونَ حُكم اللهِ ورسولِهِ حقًّا. لكن اعتقد أنّ حُكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ من حُكمه، وأتمّ وأشمل... لما يحتاجه الناسُ من الحُكم بينهم عند التنازع، إمّا مُطلقا أو بالنسبة إلى ما استجدّ من الحوادث، التي نشأت عن تطوّر الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضًا لا ريب أنه كافرٌ، لتفضيله أحكامَ المخلوقين التي هي محضُ زبالةِ الأذهان، وصرْفُ حُثالة الأفكار، على حُكم الحكيم الحميد.

وحُكمُ اللهِ ورسولِه لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدّد الحوادث، فإنّه ما من قضية كائنة ما كانت إلاّ وحُكمها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، نصًّا أو ظاهرًا أو استنباطًا أو غير ذلك، عَلِمَ ذلك مَن علمه، وجَهِلَه مَن جهله.

وليس معنى ما ذكره العلماء من تغيّر الفتوى بتغير الأحوال ما ظنّه مَن قلَّ نصيبُه أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها، حيث ظنّوا أنّ معنى ذلك بحسب ما يُلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية وتصوّراتهم الخاطئة الوبية.

ولهذا تجدُهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها منقادة إليها، مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكَلِم عن مواضعه.

وحينئذٍ معنى تغيُّر الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مُستصحبه فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جِنْسُها مرادٌ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أنّ أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلاّ على ما يلائم مراداتهم، كائنة ما كانت، والواقع أصدقُ شاهدٍ.

الثالث:

أنْ لا يعتقد كونَه أحسن من حُكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين الذين قبله، في كونه كافرًا الكفرَ الناقل عن الملّة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق والمناقضة والمعاندة لقوله عزّ وجلّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}. ونحوها من الآيات الكريمة، الدالّة على تفرُّدِ الربّ بالكمال، وتنزيهه عن ممثالة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال والحُكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.

الرابع:

أنْ لا يعتقد كون حُكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً عن أنْ يعتقدَ كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحُكم بما يخالف حُكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدُقُ عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جوازَ ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.

الخامس:

وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقّة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلا، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات.

فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجعَ مستمدّات، مرجعها كلُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فلهذه المحاكم مراجعٌ، هي: القانون المُلفّق من شرائعَ شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك.

فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحةُ الأبواب، والناس إليها أسرابٌ إثْر أسراب، يحكُمُ حُكّامُها بينهم بما يخالف حُكم السُنّة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتُلزمهم به، وتُقِرُّهم عليه، وتُحتِّمُه عليهم.. فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر، وأيُّ مناقضة للشهادة بأنّ محمدًا رسولُ اللهِ بعد هذه المناقضة.

وذِكْرُ أدلّة جميع ما قدّمنا على وجه البسْطِ معلومةٌ معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضوع.

فيا معشر العُقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولي النُها!

كيف ترضون أنْ تجري عليكم أحكامُ أمثالكم، وأفكارُ أشباهكم، أو مَن هم دونكم، مِمّن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثرُ من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حُكمهم إلاّ ما هو مُستمدٌّ من حُكم اللهِ ورسولهِ، نصًّا أو استنباطًا؟!!

تَدَعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم، وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم!! ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحُكم الله ورسوله، الذي لا يتطرّق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد!!

وخُضوع الناس ورضوخهم لحكم ربِّهم خضوعٌ ورضوخٌ لِحُكم مَنْ خلقهم تعالى ليعبدوه.. فكما لا يسجدُ الخلقُ إلاّ للهِ، ولا يعبدونَ إلاّ إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلاّ لحُكم الحكيم العليم الحميد، الرءوف الرحيم، دون حُكم المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوكُ والشهواتُ والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات.

فيجب على العُقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفرًا بنصِّ قوله تعالى: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فأُولئكَ هُمُ الكافِرونَ}.

السادس:

ما يحكُم به كثيرٌ من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمُّونها "سلومهم"، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحُضُّون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءاً على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبةً عن حُكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.

وأمّا القسم الثاني:

من قسمي كُفر الحاكم بما انزل الله، وهو الذي لا يُخرجُ من الملة.

فقد تقدّم أنّ تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عزّ وجلّ: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئكَ هُمُ الكافِرونَ}. قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: "كُفر دون كفر"، وقوله أيضًا: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه".

وذلك أنْ تَحْمِلَهُ شهوتُه وهواهُ على الحُكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أنّ حُكم الله ورسوله هو الحقّ، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.

وهذا وإنْ لم يُخرِجْه كُفْرُه عن الملّة، فإنه معصية عُظمى أكبرُ من الكبائر، كالزنا وشُرب الخمر، والسّرِقة واليمين الغموس، وغيرها..

إنّ معصية ً سمّاها اللهُ في كتابه كفرًا، أعظمُ من معصية لم يُسمِّها كُفرًا.

نسأل الله أنْ يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاءً، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

مريد حق
12-27-2009, 04:36 PM
وأمّا القسم الثاني:
من قسمي كُفر الحاكم بما انزل الله، وهو الذي لا يُخرجُ من الملة.

فقد تقدّم أنّ تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عزّ وجلّ: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فَاُولئكَ هُمُ الكافِرونَ}. قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: "كُفر دون كفر"، وقوله أيضًا: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه".

وذلك أنْ تَحْمِلَهُ شهوتُه وهواهُ على الحُكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أنّ حُكم الله ورسوله هو الحقّ، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.

وهذا وإنْ لم يُخرِجْه كُفْرُه عن الملّة، فإنه معصية عُظمى أكبرُ من الكبائر، كالزنا وشُرب الخمر، والسّرِقة واليمين الغموس، وغيرها..

إنّ معصية ً سمّاها اللهُ في كتابه كفرًا، أعظمُ من معصية لم يُسمِّها كُفرًا.

نسأل الله أنْ يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاءً، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

"ليس الكفر الذي تذهيون إليه"، ورواية "ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه"، وهي من طرق، والرد عليها من وجوه:

أولاً: وجد من يخالف ابن عباس من الصحابة، هذا على فرض صحة ما ورد عنه، ولم يصح قطعاً كما سيأتي، وهو ابن مسعود رضي الله عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد) - أي ابن مسعود -

وهو القائل: (والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه)، فقد أقسم بالله أنه لا يعلم من هو أعلم منه بكتاب الله.

ثانياً: الإجماع المنقول عن إسحاق رحمه الله تعالى المخالف لمفهوم هذه الرواية.

ثالثاً: القرائن من كتاب الله تدل على أن المقصود بالكفر هو الكفر الأكبر وليس الأصغر من حيث أنها عبادة من أصل التوحيد إطلاقها والأصل في الكفر إذا عُرّف باللام أنه الكفر الأكبر، كما قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في الاقتضاء [1/208] "إلا إذا قيد أو جاءت قرينة تصرفه عن ذلك".

وقال رحمه الله تعالى: (وذلك أن اللام في لغة العرب هي للتعريف فتنصرف إلى المعروف عند المتكلم والمخاطب، وهي تعم جميع المعروف، فاللام في القول تقتضي التعميم والاستغراق، لكن عموم ما عرفته وهو القول المعهود المعروف بين المخاطب والمخاطب) [الاستقامة ج1/ص 222].

رابعاً: وهي قضية القضايا، ورحى المسألة، وفصل الزبد عمَّا ينفع الناس، في الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنه بألفاظ مختلفة فهي حرِية بفرزِ غثِّها عن سمِينِها، وصفاءِها عن كدرِها، فندرس أسانيدها دراسة علمية موثقة على نهج أهل الحديث، سلفهم ومن وافقهم من خلفهم، آخذين ما لنا وما علينا، نقول وبا لله التوفيق:

الرواية الأولى: (من جحد ما أنزلت فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق):

عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون}: (من جحد ما أنزلت فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق)؛

نقول؛ هذه الرواية أخرجها الطبري في جامع البيان [6/166]، وابن أبي جاتم في التفسير [4/1142]. وهي من طريق معاوية بن صالح عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس به؛ وهي طريق معلولة بعلتين؛

العلة الأولى: معاوية بن صالح ضعيف، قال العلماء فيه ما نصه:

قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد؟ فقال: (كان أول أمره متماسك ثم فسد بآخره، وليس هو بشيء)، قال ابن المديني: (لا أروي عنه شيئاً)، وقال النسائي: (ليس بثقة)، قال أحمد بن صالح: (متهم ليس بشيء)، قال صالح جزرة: (كان ابن معين يوثقه، وهو عندي يكذب في الحديث)، قال أبو زرعة: (لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب وكان حسن الحديث)، قال أبو حاتم: (صدوق أمين ما علمته).

فالأئمة الكبار كأحمد وابن المديني والنسائي وأحمد بن صالح وصالح جزرة ضعفوه.

العلة الثانية: الانقطاع بين ابن أبي طلحة وابن عباس، فهو لم يسمع منه، قال ذلك؛ ابن معين ودُحيم وابن حبان وغيرهم.

وأما قولهم؛ بينهما مجاهد وعكرمة، فهذا لا يصح لوجهين:

الوجه الأول: أن الذي أثبت سماعه مجهول من مجاهد وعكرمة، فقد ذكر ذلك المزي في "تهذيب الكمال" وقال: (بينهما مجاهد)، ولم يعزو ذلك لأحد ممن عاصر ابن أبي طلحة أو إمام من أئمة الجرح والتعديل، وأما ما جاء عن الطحاوي في "مشكل الآثار" فهو لا يُفرح به أبداً لأنه نسب ذلك لبعض العلماء ولم يسم منهم أحدا بل هو نفسه نقد مثل هذه الرواية، فإليك كلامه: (من خبر ابن عباس رضي الله عنهما الذي رويناه في صدر هذا الكتاب وإن كان خبرا منقطعا لا يثبت مثله غير أن قوما من أهل العلم بالآثار يقولون إنه صحيح وإن علي بن أبي طلحة وإن كان لم يكن رأى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنما أخذ ذلك عن مجاهد وعكرمة مولى بن عباس رضي الله عنهما) [شرح معاني الآثار ج 3 ص 279].

أقول: فهل سمى أحدا من أهل العلم الذين عاصروا ابن أبي طلحة وعرفوه حق المعرفة؟ وهل مجرد العزو للمجهول يعتبر حجة؟

علما أن الطحاوي رحمه الله تعالى يقول كما هو مبين أعلاه: (وإن كان خبرا منقطعا لا يثبت مثله)، فهو يقصد الانقطاع الوارد بين ابن أبي طلحة وابن عباس، السماع لم يثبت بيقين قطعاً قطعاً.

الوجه الثاني: أن نفي السماع المطلق ورد من كلام الأئمة الأثبات، وخص يعقوب بن إسحاق عدم سماع الصحيفة بقوله: عندما سأل صالح بن محمد ممن سمع التفسير؟ قال: (من لا أحد) [أنظر تهذيب الكمال ج 2/ص 974]، فلا يزول هذا إلا بيقين، فاليقين لا يزول بالظن عما هو متقرر.

أما قولهم؛ هي وجادة، فهذا القول أوهن من بيت العنكبوت لأن شروط الوجادة لا تنطبق عليها قطعاً ولا يستحق النقاش ،لأن هذا من رمي الكلام على عواهنه فحقه إهماله قربى.

كذلك علي بن أبي طلحة هذا يروي المنكرات، وقد روى في هذه الصحيفة من المنكرات الشي الكثير، كان يأتي بما ينكر عليه وما يتفرد بمعناه عن سائر أصحاب ابن عباس، كما قال الإمام أحمد أن له منكرات.

وإليك بعض الأدلة:

ما أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات [81]، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" [2/201] من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ} [النور: 35] يقول: (الله سبحانه وتعالى هادي أهل السموات والأرض، {مَثَلُ نُورِهِ} مثل هداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيئ قبل أن تمسه النار، فإذا مسته ازداد ضوءاً على ضوءٍ).

ومنها ما أخرجه الطبري في مواضع من تفسيره [8/115]، والبيهقي في "الأسماء والصفات" [94] بهذا لإسناد مرفوعاً في قوله تعالى: {المص}، {كهيعص}، {طه}، {يس}، {ص}، {طس}، {حم}، {ق}، {ن}، ونحو ذلك، قال: (قسمٌ أقسمه الله تعالى، وهو من أسماء الله عزّ وجلّ)، وهذا خبر منكر، فسبحان الله! كيف هذا يصح عند العقلاء؟ هل سمع الأنام أن قاف وصاد ونون من أسماء الله تعالى؟ بمعنى إذا دعوت الله تقول يا قاف ويا صاد! الله المستعان.

كذلك روى ابن الحكم كما نقل السيوطي في "الإنقان" [2/189] عنه أن الشافعي قال: (لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث)، أقول: كيف وفي الصحيفة ما يزيد على ألف وأربع مائة رواية؟!

فخلاصة القول؛ أن هذا لأثر لا يثبت قطعاً على منهاج المحدثين من علماء الجرح والتعديل كما هو ظاهر لكل طالب حق، وناشد هدى.

الرواية الثانية: (وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله):

وهي تعد من المشكلات، وهي عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. قال: (هي به كفر)، (وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله)، وقد جاء هذا اللفظ عند الطبري من كلام ابن عباس رضي الله عنه فيما يظهر على من لم تظهر له العلة؛ وهو من طريق سفيان عن معمر بن راشد عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، وجاء من كلام عبد الله بن طاوس رحمه الله، ولكن مقتضى علم الحديث يصرخ بأن هذه اللفظة من كلام ابن طاوس وليست من كلام ابن عباس رضي الله عنه، فهي مدرجة، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن الذي روى هذه الزيادة من كلام ابن عباس هو سفيان عن معمر بن راشد ، وقد خالفه فيها عبد الرزاق ففصلها وبين أنها من كلام طاوس.

قال عبد الرزاق: اخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله {فأولئك هم الكافرون}؟ قال: (هي به كفر)، قال ابن طاوس: (وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله). فتبين أن ابن طاوس هو قائلها لا ابن عباس.

الوجه الثاني: أن أئمة الحديث قالوا: إذا اختلف أصحاب معمر فالقول لعبد الرزاق، ذكر ذلك إمام العلل والجرح والتعديل وصاحب المعرفة والمعاصرة بعبد الرزاق الصنعاني، فقال محمد بن سهل بن عسكر: سمعت أحمد بن حنبل يقول: (إذا اختلف أصحاب معمر في حديث معمر فالحديث حديث عبد الرازاق) [تاريخ أسماء الثقات ج 1 ص 1800].

كذلك الحافظ ابن حجر رجح رواية عبد الرزاق عن معمر عن رواية عبد الأعلى عن معمر - وما أدراك ما عبد الأعلى؟ ثقة من رجال الجماعة - وإليك البينة؛ قال رحمه الله تعالى: (ووقع عند النسائي أيضا في حديث الزهري من رواية عبد الأعلى عن معمر زيادة البطة بين الكبش والدجاجة لكن خالفه عبد الرزاق، وهو أثبت منه في معمر، فلم يذكرها) [فتح الباري ج 2 ص 368]، لذلك يؤكد ابن عبد البر رحمه الله تعالى هذا فيقول: (وأبان ليس بحجة ولا تقبل زيادته على عبدالرزاق لأن عبدالرزاق أثبت الناس في معمر) [التمهيد ج 6 ص 410]، علماً أن أبان هذا ثقة له أفراد من رجال الصحيحين.

وقال عباس الدوري عن ابن معين: (كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر) [تهذيب التهذيب ج 6 ص 279]، وقال يعقوب بن شيبة: (عبد الرزاق أثبت في معمر جيد الإتقان).

فتأمل أخي القارىء الكريم كيف رجح الأئمة الكبار كأحمد وابن معين وابن عبد البر ويعقوب وابن حجر رواية عبد الرزاق عن غيره، وكيف يستميت القوم الذين يؤيدون مذهب الإرجاء في مخالفة الأئمة، فالله المستعان.

الوجه الثالث: أن الرواية الصحيحة الثابتة هي رواية عبد الرزاق المطلقة التي تقرر "هي به كفر"، دون الزيادة المدرجة في رواية سفيان؛ "وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله"، وهذا مقتضى كلام الإمام أحمد وابن معين ويعقوب وابن عبد البر وابن حجر.

الوجه الرابع: ما قرره أئمة الحديث في المدرج ينطبق تمام المطابقة على هذه الرواية.

قال الذهبي رحمه الله تعالى: (المدرج هو ألفاظ تقع من بعض الرواة متصلة بالمتن لا يبين للسامع إلا أنها من صلب الحديث، ويدل دليل علي أنها من لفظ راوي، يأتي الحديث من بعض الطرق بعبارة تفصل هذا من هذا).

وهنا جاءت رواية تفصل هذا من هذا ممن هو أوثق وأحفظ للرواية من المخالف.

فخلاصة هذه الرواية؛ أنها مدرجة من كلام ابن طاوس، وابن عباس رضي الله عنه بَرِيءٌ منها.

الرواية الثالثة: (كفر دون كفر):

لفظة "كفر دون كفر" عن ابن عباس أخرجها المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" [2/521]، والحاكم في مستدركه [2/313] من طريق هشام بن حُجَير عن طاووس عن ابن عباس: (إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، {فأولئك هم الكافرون} كفر دون كفر)، وزاد بعضهم: (وظلم دون ظلم وفسق دون فسق).

لا تصح، في سندها هشام ابن حجير ضعفه ابن معين وأحمد وغيرهما وقد تفرد بها دون سواه، فهي منكرة لسببين:

السبب الأول: تفرد هشام بها.

السبب الثاني: مخالفته من هو أوثق منه، فقد خالف عبد الله بن طاوس وهو أوثق منه، ورواية ابن طاوس جاءت بألفاظ هي؛ "هي كفر"، وفي لفظ: "هي به كفر"، وآخر: "كفى به كُفْره"، رواه عبدالرزاق في تفسيره [1/191]، وابن جرير [6/256]، ووكيع في "أخبار القضاة" [1/41] وغيرهم، بسند صحيح، وهي مطلقة واضحة لم تقيد بما ذكره ابن حجير بالزيادة، فيتضح أن هذه الرواية أيضاً لا تصح، فهي منكرة لا تصلح في الشواهد.

الرواية الرابعة: (ليس الكفر الذي يذهبون إليه):

" ليس الكفر الذي يذهبون إليه"؛ فهي من طريق هشام بن حجير، فقد ضعفه الكثير من الأئمة، قال علي بن المديني: (قرأت على يحي بن سعيد: ثنا بن جريج عن هشام بن حجير حديثا، قال: "يحي بن سعيد؛ خليق أن أدعه". قلت: "أضرب على حديثه؟"، قال: "نعم"). قال بن عدي: (كتب إلي محمد بن الحسن: ثنا عمرو بن علي سمعت يحي، سئل عن حديث هشام بن حجير؟ فأبى أن يحدث به ولم يرضه)، قال عبد الله بن أحمد: (سألت يحي عن هشام بن حجير فضعفه جداً)، وقال سمعت أبي يقول: (هشام بن حجير مكيٌ ضعيف الحديث).

أما توثيق هؤلاء الأئمة له - كابن حبان، وابن سعد، وابن شاهين والعجلي - فهو لا شيء عند علماء الجرح والتعديل الذين عليهم التعويل في مثل هذا الخلاف - كأحمد وابن المديني وابن سعيد - فهم أئمة الدنيا في هذا الفن، خصوصاً وقد تفرد بها هشام ولم يتابعه عليها في الصحيح أحد، ولذلك يقول سفيان مبرراً سبب روايته عن هشام ما نصه: (لم نأخذ منه إلا ما لا نجد عند غيره)، إذاً فكل ما رواه سفيان عن هشام هو من هذا القبيل، فكيف يدعى المتابعة عليه؟!

الرواية الخامسة: (كفر لا ينقل عن الملة):

"لا ينقل عن الملة"؛ فهي رواية ضعيفة، وهي من طريق محمد بن يحي حدثنا عبد الرزاق عن سفيان عن رجل عن طاوس عن ابن عباس في قوله {فأولئك هم الكافرون}، قال: (كفر لا ينقل عن الملة)، وفيها مبهم كما هو بين.

إذاً يتقرر أن الثابت حتماً من غير شك؛ عن ابن عباس والذي لا يدخله النقد هو "هو به كفر"، الذي رواه عبد الرزاق وغيره بسند صحيح لا يدخله الريب، فهو العمدة والأصل، ومن هنا ينظم إلى قائمة السلف ابن عباس رضي الله عنه، وما جاء عن طاوس خلافه فهو لا يخرق إجماعاً قد انعقد.

خامساً: هذه الرواية على ما تحمل من أهمية بالغة وتحديد مصير ومنهجية شرعية وتأويل عن الظاهر كان حري وحري بأئمة الحديث أن يتسابقوا عليها كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابو داود والدارمي والطيالسي وغيرهم الجم الكثير والكثير من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم ولا يخلو منها تفسير أبداً لأهميتها المتناهية، خصوصاً وقد نقل الإمام ابن راهويه الإجماع على خلافها، فإعراضهم عنها عجيب جداً، وإن كان أحمد رحمه الله تعالى رواها في الإيمان من طريق هشام الذي ضعفه هو، وكذا سعيد ابن منصور وابن بطة والحاكم والبيهقي والمروزي، فإن إعراض أهل الصحاح عنها مريب وعجيب وغريب جداً، مما يؤيد التضعيف المطلق لها، وليس هذا والله انتصاراً للنفس أو للمذهب أو لفكر، فليس من الدين أن ينتصر لمذهب على سبيل الفساد بين العبد وخالقه سبحانه. [/color]

مريد حق
12-27-2009, 04:43 PM
قال المحدث سليمان بن ناصر العلوان عنه: "وقول ابن عباس في قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}: (كفر دون كفر): لا يصح عنه، رواه الحاكم في مستدركه من طريق هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس وهشام بن حجير ضعيف الحديث قاله الأئمة يحي بن معين وأحمد بن حنبل والعقيلي وغيرهم وقال الإمام سفيان بن عيينة: (لم نكن نأخذ عن هشام بن حجير ما لا نجده عند غيره).


والمحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (هي كفر)، رواه عبد الرزاق في تفسيره من طريق عبد الله عن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وسنده صحيح. وهذا المنقول عن أكابر الصحابة، ولا أعلم عن أحد منهم خلافاً في ذلك".


هذا ما تيسر نقله لك يا أخي الفاضل ((ماكولا))