المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : آية الكرسي



الشيخ عبدالرحمن عيسى
01-12-2010, 12:02 AM
آية الكرسيِّ
بحث عن الأسرار والمضامين
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
1431هـ ـــ 2010 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توطئة وتمهيد :
في هذا الزمن العسير والصعب جداً ــ هناك من لا يجد الزمن كذلك ! ـــ تبرز آية الكرسي العظيمة , بجلالها الـمَهيب والموهوب : نجدةً سريعة وناجعة , للمؤمنين والمستضعفين والمضطهدين , والباحثين بلهفة وشوق , عن الفرج والفتح المبين ..
وإن البشر بدون القرآن وآية الكرسي , ليس لهم وجود ولا هُوية , ولا مرجعية ذات مصداقية , بل إنهم أيتام وركام , ومجرد هياكل وخُشب وأنعام , لا يدرون من أنفسهم شيئاً , ولا يدركون حقيقةً طبعاً , وحياتهم فارغة وتافهة , لا معنى لها , ولا هدف يُرجي منها , إلا أن تكون النتيجة : تراباً وسراباً ..
فما علاقة الوجود الإنساني والإيماني , بآية الكرسي , وما مدى أثرها وتأثيرها الإيجابي والإحساني , في هذا الوجود ؟.. وما هو دورها في الإيمانيات والمؤمنين !..
لعل ذلك يتجلى من خلال القراءة المتأنية والمتفحصة لهذه الآية , ومحاولة السبْر والكشف عن مضمونها ومكنونها , وإماطة اللثام عن بعض أسرارها المضنونة , التي تُوضِح معنى هذه الحياة , والمآلَ والـمَعاد , وتشير إلى ما لله الخالق العظيم , من حضور مكـثـَّف , في العالم الأكبر , والمسيرة الآدمية بعامة , والإسلامية بخاصة ..
فآية الكرسي , تجلو كثيراً من الغموض , الذي يكتنف حياتنا هذه , وتنير لنا الطريق , وتضع معالم السلوك الأمثل , وتفسر مجمل ما يجري على الأرض , وترده إلى الله الحق , الذي يقص الحق , ويفصل بالحق , وهو خير الفاصلين ..
هذا إلى جانب ما توفره من مجهود ضخم , الهدف منه : تثقيف الإنسان , وتأمين الحماية للمؤمن , وتقديم أسمى الإجابات والخدمات , ومنع اللبس والتدليس في هذه الحياة !.. وردعِ الشياطين وحرقهم , وإلحاق الهزيمة بفلولهمُ المذعورة !..
فتنهار الوساوس جملة وتفصيلاً , ويصفو الفكر والذهن , وينشرح الصدر , ويطيب القلب , ويصلح الفعل والعمل , ويستقيم التصور والعقل ..
وتبدو مشاهد الحياة , مدعومة بمدد فياض , من آية الكرسي , وروحها الدافق بكل خير وطاقة , وموقف إيماني صُلب , لا تخلخل فيه , ولا دوائر من الضعف والسوء تحتويه .. فنبعها الفياض , لا ينضُب ولا يَغيض ..
إن الإنسان في معترك الحياة الصاخب , مضطر إلى سلاح أشد حسماً وفاعلية , ليس سلاحَ المال والجاه والسيف بالطبع , وإن آية الكرسي هي هذا السلاح الذي لا يُـقهر حقاً , ويرد عادية الأعداء والشامتين , والحُسّاد والمفسدين , والنافخين في نار الحقد والمكر والسحر , وتعقيد الأمر , ليحيلوا حياة الناس , إلى ضرر وإضرار ..
وماذا يمكن أن تكون عليه خسارة أولئك الذين لا سلاح لهم من هذا النوع , وما هو مدى هزيمتهم وانهزاميتهم , حيث أحدهم : جبهة مفتوحة ومقتحَمة , لكل واغل من اللصوص والمجرمين , والمتسللين تحت جُنح الغفلة والظلمة , كمثـَل الأعزل وسط الرماح المشْرعة , والسيوف المنتضاة والموجَّهة , من الإنس والجن على حد سواء ..
إننا نفهم قيمة آية الكرسي , حينما نفهم ونعلم الأخطار المحدِقة , والسلبيات المسيئة والمهدِّدة , من حيث لا نشعر ولا نحتسب , ونحن غارّون ومغترون , وكأن الحياة سِلْم لنا , ونحن نرى ونشهد ونسمع ما يحدث للآخرين , من فُجاءة النقمة , وعضال الداء , وفادح المصاب , وصريح العذاب ..
وقد قال الله سبحانه : (( فلا تغرنكمُ الحياة الدنيا ولا يَغرنكم بالله الغـَرور )) .
إذ هناك من يقوم بتغرير المؤمن , وغير المؤمن , وحجبه عن موطن التذكر والاعتبار , ليكون من أول الهالكين , على يديْ الغـَرور , من كل شيطان مارد : جِنيّ وإنسيّ .. وفي الحديث : (( السعيد من وُعظ بغيره )) ..
وهكذا تأتي آية الكرسي , لتمنع من كل ذلك , ولتقوم بالردع والزجر الصارم , وتحفظَ الآخذ بها , وتصونه من شر كل ذي شر , وتمهد له طريق المرور والعبور , بسلامٍ قولاً من رب رحيم , وبمَعاذٍ من الشيطان الرجيم !..
لقد استوعبت آية الكرسي : أخطر وأهم القضايا في الكون , ودلت على الله بأعظم الأسماء الحُسني , التي ينهض عليها عبء هذا الوجود , ويستمر في التطور والصعود , وتوفر هذه الأسماءُ , من التجليات والمفاعيل , والطاقات والإنجازات ,
ما لا بقاء للحياة بدونها .. فنرى الحيَّ القيوم , لا يغفل لحظة , ولا ينسى ولا يضل طرفة ولمحة , وهو سبحانه ممسك بدعائم هذا العالم , ليستديم ويمضي إلى الأجل المسمىّ , والوضع المعلوم , ويسير في الخط المرسوم ..
إن آية الكرسي , حينما تدلنا على الله سبحانه , بأسمائه وأفعاله , التي لا شريك له فيها , فإنما تدخلنا في برزخ الحماية الإلهية , والعناية الربانية , وتعطينا وعياً كاملاً عن معبودنا ومحبوبنا الكامل , وعلمه المحيط , وقدرته المهيمنة , ورحمته الواسعة والمتسعة , وقدرته التي لا تنوء بالسموات ولا بالأرض , وما فيهما من مَجرات وعوالم في الآفاق , وأمم ومخلوقات : في البر والبحر والجو , مختلفة الأنواع والخصائص والاختصاصات , بما يُدهش ويحير أولي البصائر والألباب ..
ولقد تسنىّ لي ــ بما أنعم الله عليَّ ــ أن أقرأ آية الكرسي , على هذا النحو والمِنوال , منوهاً بما لها من شرف أعظم , في محيط كتاب الله : القرآن المجيد , وفحوى هذا الوجود !.. وما فيه من تصادم وتعـقـيد ..
واقع آية الكرسي في حياتنا , أكبر من حياتنا حتماً , ومن دنيانا هذه وآخرتنا , ومن الأرض كلها , ومن السموات أيضاً , ومن سِدرة المنتهى في المنتهى ..
فهي خارج نطاق البشر , ودولهمُ العظمى , وسياساتهمُ الكبرى , وجيوشيهم الجرارة , وحديدهم ونارهم الموقدة ..التي تحرق الأخضر واليابس , وتحيله إلى رماد .
وكذلك هي ترصد حركة الجن , من المرَدة والعفاريت والملوك , والمنطلقين في الهواء كالهواء , والمتغلغلين كالفيروسات في الماء , والشياطين الموسوسين في الصدور , والمحرضين على كبائر الإثم , وعظائم الشرور , والـمُولَعين في بني آدم
وبناته , بالمسّ والتخبط , وإفساد الأمزجة والتورط , وتوهين الأعصاب والأواصر , وتفريق ما بين المرء وزوجه , وقطيعة الأرحام , وتأجيج الخصام ..
ومن هذا الرصْد المركز لآية الكرسي , تتم عملية المواجهة والتصدي , والحيلولة والمنع لكثير من الملابسات الضارة , والمداخلات الخفية , للقوى الخفية , ولكي لا تكون الأذية والفوضى والتجاوزات , دونما رقيب ولا حسيب ولا زاجر , ولا آياتٍ لله تُحبط أعداء الله , وتضع حداً للمفسدين في الأرض .. وللظالمين ..
والله من وراء القصد , وهو أجلّ وأعلم ..
عبد الرحمن

طليعة وجولة :
تُعتبر آية الكرسي : في طليعة الآيات القرآنية , التي تـُفـصح عن الحضرة الإلهية , بأسلوب بلاغي مكـثـَّف , وبلغة عريقة البيان والأداء !..
ومن المستغرب أن لا يُنظر إليها , على أنها أوسع إجابة من الله وأقدرُها , من قبل أن نكون سألناه ودعوناه !. بلى إنها أروع إجابة في التاريخ الإنساني الصاعد !..
وماذا عساه يساوي كوكبُ الأرض , بدون آية الكرسي , إلا أن يكون ظلاماً وفراغاً وأوهاماً , ومجاهلَ من الانحطاط والضعف , والانهزام أمام الشيطان , وجنده من الثقلين , الذين يتربصون ببني آدم : دوائر السوء والقنوط , ومصائر السقوط .. وهذه جولة استطلاعية مَيْدانية , في آية الكرسي العظيمة والأعظم , نتعرف من خلالها : على كُـنه هذه الآية , التي عمت بركاتها وأسرارها الأكوان , وعادت بالخير والعلم والسلام , على الإنس والجن المؤمنين والموحِّدين , وقصمت ظهر الظالمين ,
من العفاريت والمجرمين !.. الذين يَقضُّون مضاجع الآمنين والمؤمنين ..
وتستمد روعتها وقوتها , من عالم الكرسي , الذي يُنسب إلى الله , دونما تجسيد ولا تشبيه , وقد أعلم الله الخلائق جميعاً , بأن له عرشاً كريماً , وأنه استوى عليه , وأن له كرسياً مهيمناً على طِباق الأرض , وآفاق السموات , وكل العوالم ..
قراءة آية الكرسي , تغنيك عن مجلدات ومكتبات .. وعيادات .. فهي النص الأقوى في الدستور الإلهي , وهي المنطق الأعلى , والمورد الأصفى , والشفاء من كل عِـلة وضِلّة !.. بحسن النية , وسلامة الطويَّة , وصدق الاعتقاد ..
وفيما يلي من صحف وكلمات , تُـقـرأ آية الكرسي , قراءة جديدة , بوعي جديد وفهم مفتوح غير محدود , بإذن الله تبارك وتعالى ..
فسبحان الله ! ما أروعَ آية الكرسي ! إنها دواء وشفاء , ونصر على الحسَّاد والأعداء , وفيها الخير الكثير , وهي وحي وإلهام , يتدفق على الفكر والأفهام , في اليقظة وفي المنام , وفي اللحظة الحرجة , واليوم العصيب ..
تتحدث آية الكرسي بصراحة , عن العليِّ العظيم , وعن الحي القيوم , وعن قدرة القادر والقدير , ولِـمن هذا الوجود : يملكه ويتصرف فيه , ولِـمن عائديته تعود , وعِـلم مَنْ وحُـكم مَنْ فيه يعمل ويسود ؟..
وفي الأول والأخير , فإن آية الكرسي , هي النور الباهر , تحرق النار ومَنْ خـُلـق من النار , والحسام القاطع للمؤذين والأشرار , والهجومُ الصاعق على السحرة والشياطين , والـقُـرناء والتابعين , والنافثات في الخيوط والعُـقَـد والنافثين ..
هي بلسم لمن به مَـسّ , ولِمن فقد الإحساس والحس , ولمن مرض نفسياً , وتوتر عصبياً , وأصيب رأسه بالصداع , وتُـقـرأُ لكل الأوجاع .. وتقول لنا : إن عند الله شفعاء بإذنه مَرضيين , يتدخلون بالشفاعة وقوة الجاه للمذنبين والمُدانين , وفي طليعة الشفعاء حتماً : خاتم النبيين .. صاحب الشفاعة العظمة يوم الدين ..
وخلال أربعة عشر قرناً , آية الكرسي مرجعية الأمة , في الشدة والأزمة , فكم كان بسببها من حفظ الله , وكم تنزل من ألطاف الله , وكم نجا من مخاطر المسّ والتخبط , من عباد الله وإماء الله !.. وهم يشعرون أو لا يشعرون ..
ولو لا رحمة الله بآية الكرسي , لكان الكثير من النساء والرجال والوِلدان مجانين ولتلاعبت بأجسادهم وأرواحهم الشياطين , ولشاركوهم في البنات والبنين .. ولكن الله ذو فضل وطوْل على العالمين .. ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
وحينما يقرأ المؤمنون ويتلون آية الكرسي , بالنية التي يشاؤون , تتراءى لهم بوارق الأمل والرجاء , ويشعرون بمزيد من الثقة بالله , والتوكل على الله , وأن هذه الآية , إن هي إلا بوابة يعبرون منها إلى بحبوحة ملكوت الله ورحمة الله , ويُحَلقون في أجواء ملائكية قدسية , بعيداً عن حياة التهافت والضعف , والإحساس بالخوف , ومعاناة الانكسار واليأس والهزيمة ..
ويحصل ذلك كله , مع الذين أسقطوا الاستعاذة والفاتحة وآية الكرسي , من حياتهم ومَعاشهم , واتخذوا الأسباب المادية أرباباً , كما هو مشاهد ومتداوَل ومستفيض في غمار هذه الحياة الآن .. وحسبنا الله ونعم الوكيل ..
وحينما تكاد تخلو الحياة الدنيا , من ذكر الله وكلام الله : عملياً وسلوكياً , فإن الناس كثير منهم , يصبحون مفاتيح للبلاء , الذي تعُج به حياتهم , ويحترقون في أتون النار , التي أوقدوها على أنفسهم , وفي كل يوم يزدادون تدهورن وانحلالاً , وعذاباً أليماً , كمثل من يغوص في الرمال , كلما تحرك ازداد غـوْصاً , ولاحت له أبشع النهايات .. وهذا ينطبق على كل انتهازي وفوضوي فاسد , ولاهثٍ وراء المحرمات , من الأوطار والملذات ..
وهذا هو بالضبط , واقع حالنا الراهن , ومعنا جموع البشر الساقطين في الهاوية على أنغام معازف الشيطان , وشلالات الدماء والدموع , وتخدير الإنسان , وتغييب وعيه , وسلبه زمام أمره .. فيظل يهيم على وجهه في الأرض حيران ..
إن آية الكرسي , أعظم حبل لله , ينجو مَنْ اعتصم به , وفهم الواقع على أساسه وهديه , وسناه الذي ينير البصائر والمدارك , لأولى الـنُّهى والأبصار ..
أنعمْ وأكرم بآية الكرسي , التي طلعت علينا وعلى الكون , طلوع النجم الثاقب , والشمس الساطعة بعد ليل ثقيل الوطأة والتـبـِعة , والمخاوف المترائية .. إنها حبيبة قلوبنا , وطبيبة نفوسنا , ومنهج علاج نقص وضعف عند المؤمنين ..


تفسير مُجْمل
لمفردات آية الكرسي
تنويه :
إن هذا التفسير , متغلغل في ثنايا الحياة المعاصرة , وليس تفسيراً نظرياً وحرفياً من فوق الحياة وورائها .. وبالمعنى الأوضح والأدق : هو موجَّه ومبرمج لأهل هذا الزمان , من خلال ما يعانون من فتن وتحديات , تصدهم عن آية الكرسي , وعن القرآن بالجملة , وتجعلهم لا يرون إلا الأسباب , التي يرتقي فيها الكفار والظالمون , ويَنْـفـُذون من الآفاق والأقطار , بما لديهم من سلطان العلم القاهر , والنار الموقدة , التي تطلع على الأفئدة , وتصهر الإنسان صَهراً , وتحيله إلى مخلوق آخر , لا يكاد يَمتُّ بصلة إلى آدمية ولا إنسانية ولا رحمة !..
في حين تأتي هذه الآية الكريمة , لنقذ أهل الإيمان , في أزمنة قبض العلم , وانتشار الطغيان , والإثم الكبير ..
يبدأ الله تبارك وتعالى آية الكرسي , باسمه العظيم الأعظم (( الله )) وهو اسم عَـلم على الذات , ورمز للجلالة الإلهية , والعظمة الربانية , ناعتاً ذاته سبحانه , بأنه (( لا إله إلا هو )) المتفرد الأوحد في هذا الوجود , والمستحق وحده أن يخضع العالم له , لأنه خالقه وموجده , وأن يَدين بالولاء والطاعة والعبادة الحقة , كلُّ شيء لله رب العالمين , من بشر وشجر , وملائكة وجان , وأمم في البر والبحر والبوادي والغابات تسبيحاً بحمده وتقديساً لمجده .. ويقول سبحانه : (( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لا تفقهون تسبيحَهم إنه كان حليماً غفوراً )) . (( ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون )) ..
ولا يَـقدح في هذه الحقيقة المطلقة , ما هو مشاهد من مظاهر العُـتـوِّ والتجبر والطغيان في الأرض , وأنه يوجد طاغوت وطواغيت لا يرحمون , ويفرضون أنفسهم أرباباً من دون الله , ويتحكمون في عباد الله : ظلماً وبغياً وتدميراً , دونما وازع ولا زاجر , ويتسلطون على العالم بما لديهم من سلاح وقوة ونار وحديد !..
(( الحيُّ القيوم )) أي المسمى والموصوف بالحياة الأبدية السرمدية , دون
طاريء من موت أو مرض أو هرم , بل هو سبحانه : مصدر الحياة والحيوية في الكون , وروحه سر أرواح الموجودات والذرات , وبروحه تكون نفخة الحياة ..
وهو(( القـيُّـوم )) بصيغة المبالغة الضرورية , التي يؤتى بها لتدل على الكثرة الكاثرة , والتتابع الدائم , من غير انقطاع ولا توقف .. ومعناه : القائم بأمور الخلق جميعاً , والمحقق لهم كامل احتياجاتهم وأرزاقهم , والناهضُ بهم ليقوموا بما هو مطلوب منهم , وبه مُـكلّفون .. من إحقاق الحق , وعبادةِ الله وحده لا شريك له ..
كما أنه سبحانه : قائم وقيوم بقدرات العالم , عُلويه وسُفليه , ولولا قيومية الله جل جلاله , لما قام شيء في هذا الوجود , ولما كان فيه مولود , ولما كان انتظام وانسجام , في سائر الأفلاك والكواكب والمجَرات , ومفردات الكائنات , وتوازن البيئات ..
فالقيومية الإلهية : سند ودعامة ودعم لكل ذلك , ولكل الأشياء في الأرض وفي السماء , ومجاهل الفضاء , ولكل الخلايا والموصوفات , وأسباب النماء والتطورالحق.
((لا تأخذُه سِنة ولا نوم )) أي إن الله هنا , ينزه نفسه وذاته , عن أمرين اثنين , من صفات المخلوقين والحادثات , ألا وهما : النعاس الذي هو مقدمة النوم , والممهد له وكذلك النوم , الذي هو أخو الموت , وشبيه به . فلا هذا ولا ذاك , يليق بالحي القيوم ..
إذ كيف ينام الخالق ؟. ومَنْ الذي يدبر الأمر إذا نام ؟. ومَنْ يمسك السماء أن تقع على الأرض , أو أن تزول الأرض , وتَميدَ بمن عليها , ويتناثر كل شيء ؟!..
ولو غفل لحظة واحدة , لَـدُك الكون بأسره , وارتطمت النجوم والكواكب , وانفطرت المجموعة الشمسية , وذابت المتجمِّدات , وغمرت مياه المحيطات كل شبر من اليابسة , ولقامت الساعة , وانتهت الحياة الدنيا بكل بساطة !..
(( له ما في السموات وما في الأرض )) والمعنى : أن ذلك كله , عائد ملكيته ومرجعيته إلى الله سبحانه وتعالى , بأوصافه الآنفة الذكر , وهو المالك الحقيقي , ولا مالك سواه , وهو الذي في كل وقـت وحين , يرث الأرض ومن عليها , ويرحل عنها مَنْ يظن أنه مالك شيئاً منها , وهو الوارث والمتصرف , بالتركة العالمية , وهو خير المالكين والوارثين , والحمد لله الذي لا يبخل ولا يُمسك ولا يحيف , ولا يظلم أحداً ..
ويقول سبحانه : (( قل انظروا ماذا في السموات والأرض )) فإنه مملوك لله : خلقاً وإيجاداً , وتدبيراً ومداولة , وموتاً وتحولاً وفناء أخيراً ..
فلا يدوم ويبقى حياً قيوماً إلا الله .. وصدق الله العظيم :(( كُلُّ شيء هالكٌ إلا وجهَهُ له الحكمُ وإليْهِ تُرْجَعَُونَ )) ..
(( مَنْ ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) الشفاعة : هي تدخل الشفيع لدى الله سبحانه , من أجل تحقيق أمرٍ مّا , قد يكون نجاة لعبد بمغفرة وعفو ورحمة , وقد يكون لدفع خطر وضرر , وكشف بلاء , وقد يكون لمنح عافية وشفاء , وكفِّ باس أعداء , عن مرضى ومستضعفين ومظلومين ..
والشفيع في هذه الحال , يُفترض أنه يمتلك من الجاه والدالَّة , وعلو المنزلة ,
ما يجعله مؤهلاً لـيُـقدِم على الشفاعة عند الله عز وجل .. ولكن لا بد من الإذن أولاً , والرضى ثانياً .. حسب آيات القرآن المجيد , في هذا الخصوص ..(( ... إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )) ..
والله هنا يتساءل : مَنْ ذلك الإنسان أو الملَـك , يجرؤ ويقدر على التدخل والشفاعة , مهما علت مرتبته عند الملِك , إلا في حالة واحدة , وهي أنه مأذون من الله بذلك , ومَرضيٌّ قوله ورجاؤه , وقال قولاً صواباً .. لا يَحيد ولا يَحيف ..
((... لا يتكلمون إلا مَنْ أذن له الرحمن وقال صوابا )) ..
وفي ذلك تنزيه للحضرة الإلهية , عن إمكانية وجود الشريك لله في فعل أو ترك على هيئة شفيع ووسيط , إلا إذا أراد هو سبحانه , وكانت له حكمة بالغة , ومشيئة نافذة , في المِـنَّة والتفضل والإكرام , وإعطاء المرجُوِّ والمرام , ونجاة من يستحق من الأنام .. فالفضل لله في الشفاعة , التي شرعها , وأذن بها , قبل الشفيع أصلاً ..
(( يعلم ما بين أيدهم وما خلفهم )) أي إن علم الله : محيط ومتغلغل , ولا يدع جزئية من الجزئيات , إلا يعلمها , وعِلم الله بالكائنات وبما سيكون , قديم قِدمَ الذات والأسماء والصفات الأخرى .. حيث الموصوف واحد وقديم , ولا تَعدُّدَ في القدماء !..
وهذا تنويه أكيد وعتيد , بأن الله سبحانه , يعلم ما بين أيدي المخلوقات , من الإنس والجن والملائكة وغيرهم , وهو علمه بالمستقبل , ودقائق هذا المستقبل , لدى كل العوالم : المتحركة والساكنة , كما يعلم ما خلفهم , أي ما مضى من شأنهم وفعلهم , وما صدر عنهم على مختلف الصُعُـد والمستويات .. والفعاليات ..
بمعنى أن علم الله مهيمن وجامع لكل التفاصيل في الكون , ولم يسبقه جهل قط , وإن شيئاً في عالم الوجود الأكبر , لن يكون مفاجئاً لحضرة الله العليم العلام , الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً , وأحصى كل شيء عدداً , من قبل أن يكون شيئاً , ومن بعد أن كان !.. فكينونة الأشخاص والأشياء خلقاً , كانت في علم الله عيناً ثابتة ..
إن كل ما يجرى ويحدث , مرتبط بعلم الله مرجعاً , ومنضبط به تبعاً , ولو لم يكن الأمر كذلك , لبطل كل شيء , ولكانت الفوضى العارمة , ولأصبحت الحضرة الإلهية , مرهونة بالأمر الواقع , ومسبوقة بالأحداث حتماً .. وأن الله عاجز فعلاً !..
(( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء )) هنا ينفي الله عزَّ وجلَّ , وينزه ذاته , أن يكون في مقدور أحد من الإنس والجن والملائكة , أن يحيط بشيء من علم الله , إلا بما شاء وأراد , وعلّمه لمن لا يعلم .. وفتح به عليه .. وألهمه إياه ..
أي عِـلم الله لا يحاط به أصلاً , ولكنّ بعضاً من هذا العلم , قد يتيح الله الإحاطة به : مشيئةً واختياراً من لَدُنْه , إذا تهيأت الأسباب , وتوافرت الشروط , كما يحصل الآن في هذا الزمان .. حيث علماء التكوين , يُبدعون ويكتشفون ويخترعون ..
وحيث تتم السيطرة على العالم , وعلى كثير من مظاهر قواه وطاقاته , والكشف عن أسراره ومَلكاته , فسلطان العلم يفوق كل سلطة وحكم , في هذه الدنيا المتطورة : علماً واكتشافاً واقتداراً , وهيمنة وسيطرة على الأجواء والآفاق , حيث لا مكان للجاهل والضعيف , إلا في المؤخرة , وعلى الهامش .. وفي الزاوية الحادَّة !..
إن العلم الإلهي الكوني , الذي لا يُحاط بشيء منه , إلا إذا سمح الله أولاً , هو العلم الذي يحيط بالأسرار الكامنة , التي تُـفعِّـل الحياة , ويمتلك مفاتيح الذرات والطاقات , والسرعات والاتصالات , ويعرف السبيل إلى كل المخترعات والمعجزات.
فالقوة تأتي من الإحاطة بالعلم المتخصص , وامتلاك ناصيته , والدخولِ إلى عمق الذرة والنواة , والأشعة الكاشفة , وليس بالعلم التقليدي الأعمى , والأخذِ ببعض ظواهر العلم , أو أثارة منه , أو مُزجاة من بضاعته وصناعته ! ولأسباب مادية بحْتة ..
(( وسع كرسيه السمواتِ والأرض )) هذا مظهر ورمز لمقعد الملك , وعنوان لهيبته وسطوته , وهو هنا : عالم كبير جداً , وواسع حقاً , تتسع دوائره وقوائمه , للسموات والأرض , وما فيهما من أكوان هائلة , وكل ذلك في الكرسي , كحلقة ملقاة في أرض ٍ فلاة !.. وماذا يمكن أن يكون عليه الكرسي , حيث نعجز عن استيعابه !..
والكرسي في معناها الأدق والأخص , سلطات إلهية غير محدودة ولا متناهية , توصف بأنها تنفيذية وإجرائية , تأخذ طريقها , عبر السموات ومن فيها , وعبر كوكب الأرض ومن عليه , وعبر الأفلاك والآفاق والمدارات , دونما منازعة ولا ممانعة , بل تمضي أوامر الله المقدِّرة والمقـرِّرة , مخترقة الحجب والحواجز , والاستحكامات المعادية , حتى تصل إلى الغاية , وتحقق الهدف الأعظم , والمشيئةَ الإلهية القادرة .. والحكم الإلهي المعـقـِّب .. والـمُنهي لكل حكم آخر ..
فالكرسي : دوائر إلهية للتدبير المحْـكم , والتخطيط الموضوع بعناية فائقة التصور والإدراك , بحيث تكون النتائج وَفق المقدمات , من غير زيادة ولا نقصان , ولا تقديم ولا تأخير !.. وكل ذلك حق وواقع , وربك على كل شيء قدير ..
إن العرش والكرسي , مفهومان حقيقيان , ومخلوقان كبيران , يقربان إلى أفهامنا وأوهامنا : عظمة الخالق العظيم , الملك الحق المبين , وإن الذين اتخذوا لهم عروشاً وكراسيَّ من ملوك الأرض , لن يكون إلا وهماً ومجازاً , لعرش الرحمن , وكرسيه الكريم .. الذيـْن وُجدا قبل أن يكون في الأرض , عروش لأهل العروش ..
(( ولا يؤوده حفظهما )) أي لا يـُتعبه ولا يُرهقه , ولا يـَثـقـل عليه , ولا يشُقُّ ويصعب , حفظ السماوات والأرض , واستمرار كل منهما , ولا يضيق به ذرعاً سبحانه , وهو عليه هين ويسير .. لا يكلفه شيء , ولا يسبب له حرجاً وعبئاً ..
وهذا معناه : أن السمواتِ والأرضَ , ومن فيهما وعليهما , بحاجة ضرورية وماسة , إلى الحفظ والعناية والإمساك من الله , لكي لا يكون اختلال ولا سقوط ولا زوال .. بل توازن وصلاح واعتدال .. ووسطية في التفاعل والحال ..
(( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا )) . .
فالله سبحانه يمسك السماء أن تقع على الأرض , ويمسك الأرض أن تضيع وتهوي , في متاهات الفضاء السحيق , أو تتفككَ إلى موادها الأولى , وعناصرها
الأولية , التي كانت عليها , قبل أن تكون أرضاً متماسكة وصالحة للحياة !..
ويؤكد الله للبشر جميعاً , أن ذلك لا يسبب له لُغوباً ولا كروباً , ولا يُلحق به عجزاً ولا قصوراً ولا تقصيراً , ومن المفيد والنافع أن يعلم الناس ذلك , وأن يتأكدوا منه تماماً , وأن يعرفوا قدرات الإله الذي يعبدون ويحبون , وعليه يتوكلون , فيزدادون لله عبادة وحباً , وبه ثقة , وعليه إقبالاً , وإليه تفويضاً واستسلاماً ..
إن السموات والأرض , بدون عناية وحفظ عجيب ومقتدر من الله , لا يمكن لهما أن يستمرا ويبقيا في تماسك وسبح منتظم , في الفضاء الأرحب , والأفق الأعلى ..
فآية الكرسي , تدفع في كل هذه الاتجاهات , وتشير إليها , وتنبه عليها ..
(( وهو العليُّ العظيم )) وبهذا ينهي الله آية الكرسي , باسمين اثنين من أسمائه الحسنى , وهما : العليُّ ــ العظيم . وإنهما معاً لـبـِمكانٍ عند الله : استجابة سريعة , وتصرفاً عجيباً !.. ووقاية وحماية خارقة , لكل مستديم وعادة ..
وحُق لهذين الاسمين , أن يكون لهما كل هذا المجد والقوة والقدرة والعطاء , وإقامةُ بنيان الأرض والسماء , ضِمن سير دقيق جداُ , وتحرك مستمر , وجريان دائم , وَفق حُسبان معجز , لا يُخل بشعرة ولا بجزء من الشعرة !..
(( الـشـمـس والـقـمـر بـحُـسـبـان )) ..
ولو حصل شيء من ذلك , لاختل النظام الكوني كله , ولكان الاضطراب والتفكك , ولترنح البشر , ولما قام أحد على رِجْلين !..
إن آية الكرسي تضمنت أسماءً أعظم لحضرة الله سبحانه , وهي : الحي القيوم , والعليُّ العظيم , كما ورد في السنة أكثر من مرة , وبأسرار العلي العظيم , سار العلاء بن الحـضرمي , هو والجـنـد الـذين معه على الماء , حـينما كانـوا مجـاهـديـن فـي سبـيـل الله !..فغلبة الحال الإلهي , تجعل العبد أهلاً لفعل الله سبحانه , ومَظهراً له ..
قرأءة في آية الكرسي :
إن آية الكرسي , معارج للصعود , ومنافذ للتقدير والتنوير , ومطالع للإحسان , وحجاب منيع للصيانة والحفظ , والألفة والمحبة , وإحباط الدسائس والوساوس , إنها مراجع ومصادر ومرجعيات , لإحقاق الحق والنصر , وتجديد الإيمان والفكر , وتقرير المصير .. وتيسير الصعب والعسير .. ويضع حداً للتجاوزات , وينشىء الآيات ..
وبعد : فإن كينونة آية الكرسي , بدلالاتها الفائقة , هي تنبيه لنا , ولفتٌ لأنظارنا, إلى حقيقة الحفظ واللطف , والعناية الإلهية , والأفعال البديعة والضخمة لله عز وجل , التي يعيشها الجنس البشري , والملائكة , وغيرهم من المخلوقات والقارّات والمحيطات منذ عهد الخلق الأول , حيث الإله الحي القيوم , العليُّ العظيم , قائم على كل نفس بما كسبت , وقيوم بما يقتضيه هذا التكوين والتلوين , والتنوعُ في المهام الخَلقية الجسيمة , فلا يُخل ــ ولو للحظة واحدة ــ بنظام هذا الكون المعقد والمتداخل , الذي تحرسه عين لا تنام , وقوة لا تُرام , ووجه لا يُضام , وهو الله الواحد الأحد , في عزته وجبروته , ورحمته وإحاطته بكل شاردة وواردة , ولا تخفى عليه خافية , ولا تغيب عنه غائبة , وخَلـقـُنا وبعثنا كنفس واحدة , وجزءٌ من الذرة المنشطرة , هو في حـيِّـز العلم المحيط , والقوة المهيمنة , والإرادة المتصرفة . لا يعزب عنه مِثقالُ ذرة في الأرض والسماء ..
وإنه لمن المستحيل على كل العقول مجتمعة , أن تحيط علماً وفكراً بذلك , وأن نتصوره في المخيلة والخيال , بشكل دقيق ومتوازن , وإدراك واقعي وحقيقي !..
وأكثر الناس لا يعلمون ولا يشعرون , ولا يُحسون بشيء من ذلك بتاتاً , وغفلتهم وغباؤهم أكبر من وجودهم , ونسبة جهلهم إلى علمهم , كجبل إلى حجر صغير !. ونسبة علوم الأولين والآخرين , في علم الله , كقطرة في بحر محيط !..
ولكن , هل بعد آية الكرسي , متسع لمزيد من طلب الآيات والمعجزات , للذين مازالوا يُلحدون في أسماء الله , ويجحدون وجود الله , وفضلَ الله عليهم وعلى العالمين, ويعيشون في صميم الرحمة الإلهية , متشككين ومرتابين , ومُهَرْطقين بما تتنزه عنه بهائم الأنعام , ووحوش البراري والـقِـفـار , ويريدون حجة على سطوع الشمس في رائعة النهار , وبعد أن تم كشف كامل الغطاء , عن وجود خالق الأرض والسماء , وكلِّ البراهين والأشياء , في هذا العصر الزاخر بالمعجزات , وبالأعاجيب من صنع الله , المتقـِن والمبدِع , وبالخيرات والأرزاق والثروات , التي تفوق أعداد الخليقة مرات ومرات !.. والويل للغافلين , الذين لا ينظرون إلى آثار رحمة الله ..
مفاهيم من آية الكرسي :
فسبحان الله العظيم , قاريءِ آية الكرسي , سيدةِ آي القرآن , التي هي حارسة لمن قرأها , وتطرد عنه الشيطان والجان , في اليقظة وفي المنام !. وتصونه في محضر ذوي النفوذ والسلطان !. ويدخل عليهم بها , في أمان واطمئنان !..
وتُطلب قراءتها عقب الصلوات , لقوله عليه الصلاة والسلام : (( من قرأ آية الكرسي دُبُـرَ كل صلاة , لم يمنعه من دخول الجنة , إلا الموت .. ولا يواظب عليها إلا
صِدِّيق )) . وهي خير رفيق وصَديق .. في غمار الحياة الجديبة والكئيبة ..
والجان والشياطين , يعرفون سطوة آية الكرسي , ولذلك يهربون منها , ولا يطيقون الثبات أمامها .. فهي وِرد من الأوراد , وحصن حصين .. وهي ذخر لمنافع الدنيا والدين !. وفك السحر عن المسحورين !. وعلاجٌ أكيد , للمرضى النفسانيين ..
من قرأها عند المنام , حُفظ من المنامات المزعجة والكوابيس , والنومِ غير المريح , والاحتلام القبيح !.إن آية الكرسي : وثيقة إلهية , عظيمة وقوية , وتأثيرها الإيجابي مؤكد ومشهود , على المستوى الشخصي والنفسي والشعوري , وهي حافظة وعاصمة من القرينة , التي تسقط الأجـِنَّة من بطون أمهاتها .. وهي الحارقة : تحرق السُّـفليين , وتجعلهم دخاناً متلاشياً !.. وتستحيل إلى سلاح خاطف , بأيدي الصالحين .. الذين يتعاملون بطهر وشفافية مع آية الكرسي !.. ولا يشترون بها ثمناً قليلاً ..
هذا وإن حقائق الأسماء والصفات , الفاعلة والمفـعَّـلة في الحياة , تجلوها آية الكرسي , التي جمع الله فأوعى , في حروفها المئة والسبعين , وكلماتها الخمسين : حقائق القرآن جميعاً , وأشار إلى جلاله وكماله المطلق , في هذا العالم الممتد والوسيع, الذي تتشابك أمشاجه وابتلاآته .. وترتطم مصالح العباد فيه , على نحو مذهل ..
كما تفيد آية الكرسي , أن الله سبحانه مدبر لهذا العالم , ومنظم له , ولطيف به , ولولا تـَدخُّـل المجرمين والشياطين , لكانت الحياة بألف خير , ولما دخلها الشر , ومهما جرى ويجري , فإنه سبحانه : منزه عن الضعف والعجز , والقهر والظلم , والجهل والبخل , وكل النقائص والسلبيات .. فهذه صفات مَنْ خُلق من طين , ومن النار , وإلى الموت يؤول مصير الجميع .. ولا يبقى إلا واجب الوجود سبحانه ..
فتباركت حياة الله , التي كنهها سر من الأسرار , ومستحيل إدراكها , ولكن مظاهرها تملأ الرحاب , وتـُفيض نهر الحياة في الحياة ..
أما علمه سبحانه , فإنه إناء العالم , ووعاء بني آدم , وفيه كل الأشياء والأسماء مَحْصية , مع أحداث الزمن , والصلاح والفتن , وما كان وما قد يكون !.
نقرأ آية الكرسي , فنقرأ الحضرة الإلهية , وشؤونها القدسية , التي لها الأولوية والتحكم والفاعلية .. والتجليات العلوية .. وأن الله يصلح الأرض , بعد أن يعمها الفساد والتلوث , والظلم الفادح .. ويقول عز من قائل : (( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها )) .. (( وسيعلم الذين ظلموا ... )) ..
وكذلك الله يتدخل لإعادة التوازن بعد الاختلال الكبير , بالحساب السريع , وبالحكم المعقـِّب .. (( والله يحكم لا معـقـِّبَ لحكمه وهو سريع الحساب )) . وبذلك يُنهي الإله العادل , حكم الظلم والظالمين .. وينسخ بالكامل , ما لهم من ظل ممدود ..
على هامش آية الكرسي :
إن لآية الكرسي : جنوداً مجندين , وخداماً قادرين , وحرساً مُحْضرين , وهم من الملائكة المختارين والروحانيين , وذلك لتقديم النُّصرة والإغاثة والنجدة , لكل من يلتجيء إلى الله تبارك وتعالى , بآية الكرسي , مُخْلصاً من قلبه , وبصدق ولهفة ..
إنها الحرب المعلَنة , من آية الكرسي , في دنيا التخطف والرعب , والتحدي والخطر الداهم , والموقف الصعب , والمداخلات الخفية , والاختراقات المعادية ..
وبعض الناس , يتخذون من آية الكرسي , وسيلة ورياضة روحية ونفسية , يحاولون بواسطتها ــ حسب زعمهم ــ السيطرة على حرس الآية وخـَدَمتها , واستخـدامَـهـم في تحـقـيـق مآربهم , وهـذا زعـم باطـل , ووهـم ظاهـر , وقـد يـصابـون بالجـنـون !.. في آخر التجربة المريرة والخطيرة . ويخسرون الدنيا والدين ..
والبعض الآخـَر , من السحَرة الكفرة , يبغضون آية الكرسي , ويمتهنونها , ويتعاملون معها , بما لم يجرؤ عليه عاقل , فضلاً عن مؤمن , وهذا معروف لدى أرباب هذا السلوك الأرعن .. الذين يلعبون بالنار , ويدخلون النار في آخر المشوار ..
يفعلون ذلك , للحصول على صلة متوهَّـمة , مع واحد من الجن الخائبين والقذرين , الذين لا يتعاملون إلا مع الأنجاس , من الإنس أمثالهم وأشباههم ..
وأخيراً تجيء آية الكرسي , مُعَـقِّـبةً على كل المقولات القديمة , والفلسفات اللاهوتية , والعقائد الزائغة عن حضرة الله الحق , كما تجيء بلسماً لجراحنا , وشفاء لأدوائنا , ووجداناً لضياعنا , في مجاهل هذه الحياة , ومَطباتها المهلكة , ومنعطفات الانحراف والشذوذ فيها .. فتحفظنا بحفظ الله , وتدفع عنا السوء بعناية الله ..
لقد حققت لنا آية الكرسي , أصدق الرؤى والفِـكَر , وأوضحَ المفاهيم والعبر , وخاضت بنا غـِمار معرفة إلهية , عميقة الغـوْر , عُـلـوية الطـوْر , وزحزحت غياهب ماران على الفكر الإنساني ــ عبر القرون ــ من ظلمات وتعقيدات , وبُعد عن الحقيقة , وتفسيرات سطحية بدائية , لظواهر هذا الوجود , لا يُرجى لها قبول في منطق العقل الناضج , ولدى تطلع النفس , وظمأِ الروح , إلى الحقيقة , وإلى حق اليقين , وإلى معقولية الدين , وواقعية الإيمان , بعيداً عن الخرافة والأسطورة , والتصورات الوثنية القديمة , وتخليد ذكرى عبادة الأصنام ..
أيتها المسلمة , أيها المسلم : إقرأ آية الكرسي , بتدبر وقصد صالح , وتحصَّنْ بها , وخذ بأسباب حمايـتـها ووقايتها , فهي خط دفـاع لا يُـقـتحم , ضدَّ الـعـين والسحـرة والحاسديـن , إنها بحر جبروت , ضد الكـهـنوت والرهَـبـوت .. وطوق نجاة ومشروع هـداة , وذكـرى للذاكرين ..
إنها لحظات مباركة , تلك التي عشناها مع آية الكرسي : الصديقِ الحميم , لمن رآها كذلك , ومنحها ثقته ومحبته , وأكثر من تلاوتها بشوق وانفتاح بصيرة , وبمزيد علم ومعرفة بها , وتقدير كبير , وتقديس لائق لها ..
وحينما نزلت آية الكرسي , نزل معها جمٌّ غفير من الملائكة الداعمين والناصرين , وما زالوا معها مواكبين , إلى يوم الدين , وهم الذين يشكلون القوة الفاعلة فيها , والتدخلَ السريع , لنجدة المستغيث , ولقمع وردع قوى الإثم والعدوان ..
هي في النص حروف وكلمات , ولكنها في القدر والاقتدار , كتائب وطلائع , أراد الله لها أن تكون , في خدمة عباده الصالحين , الذين يرثون الأرض في آخر الأمر وتكون لهم الـكلمة العـليا , بها يَـفصلون في واقع هذه الدنيا , ومآلاتها الفاضحة , التي لا ترفع رأساً , ويَندى لها الجبين , والحق فيها صريع ومَهين ..
وهل بإمكاننا الآن , أن نتعرف على مدى الغُبن والغباء لدينا , نتيجة الإعراض عن كتاب الله , واتخاذِه ظِهْريّاً , وهجر آية الكرسي , وتحجيمها إلى نص ميت , تـُقـرأ على الأموات , من الأموات ..
أعظِمْ بها من آية , الله فيها غاية , وليس لها نهاية ..
والله سبحانه أجل وأعلم ..