المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل القرطبي المفسر هو مؤلف كتاب الإعلام بما في دين النصارى من الأوهام



أبو مهند النجدي
06-19-2005, 12:31 AM
د. محمد بن إبراهيم أباالخيل


منذ القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي صَعَّدَ نصارى الأندلس – بدعم من إخوانهم الأوربيين – حروبهم ضد مسلمي الأندلس ، فاشتبكوا معهم في وقائع عسكرية شرسة ، واجتاحت جيوشهم أراضي إسلامية واسعة ، ولم يكتفوا بذلك ، بل عززوا حربهم العسكرية تلك بحرب أخرى اتخذت من الكلمة والفكرة سلاحاً لها ، يصح لنا تسميتها بالحرب الفكرية ،ذاك أن مفكريهم من رجال الدين وغيرهم أخذوا – مشافهة وكتابة – يهاجمون عقيدة الإسلام وأحكامه وآدابه ، ويشككون بالقرآن الكريم ، وينالون من الرسول صلى الله عليه وسلم ،ويقللون من شأن لغة الدين – اللغة العربية – ومن أمثلة هؤلاء كاتب نصراني(1) صنف في أول القرن السابع الهجري كتابا ًسماه " تثليث الوحدانية في معرفة الله " وبعثه من طليطلة عاصمة مملكة قشتالة النصرانية إلى أهل قرطبة " معترضاً فيه لدين المسلمين نائلاً فيه من عصابة الحق الموحدين"(2)وقد سعى إلى تسويق كتابه هذا بين المسلمين ليستنزل به الأغنياء الأغمار "(3). ثم إنه تطاول أكثر على الدين الإسلامي ، وأخذ يكثر من الاعتراض عليه ، ويتبجح عند قومه النصارى أن علماء الأندلس ليس في مكنتهم مجاراته في أقواله ،ولا الرد على شبهاته.(4)ولهذا قام أحد العلماء القرطبيين بالتصدي لهذا الكاتب النصراني. فاقتفى أقواله قولاً بعد قول ، وناقشه مناقشة علمية جلى فيها فساد كلامه وتناقضه ، وذلك في كتاب وسم بـ" الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام "(5) وقد نسب هذا الكتاب إلى القرطبي المفسر المشهور ، نزيل مصر : محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجى (6) المتوفى سنة 671هـ/1273م.
ولكن هل كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ... " من تواليف القرطبي المفسر المشهور هذا؟
فيما يلي من كلام سنناقش المسألة من أطرافها لعلنا نجيب عن الاستفهام ، ونصل إلى المؤلف الحقيقي للكتاب.
فأولاً : لا جدال أن المؤلف قرطبي ، يوحي بذلك ما جاء في مقدمة كتاب الإعلام بأنه بادر بالنظر في كتاب " تثليث الوحدانية " الوارد إلى قرطبة بصفته أحد علمائها(7)، علاوة عن أن مخطوط الإعلام قد كتب تحت عنوان أنه " للقرطبي رحمه الله "(8).
ثانياً: من الواضح أن الكتاب تم تأليفه قبل سقوط قرطبة بأيدي النصارى عام 633هـ/1236م (9)، فالمؤلف يقول عن كتاب النصراني إنه " بعث به من طليطلة أعادها الله إلى مدينة قرطبة حرسها الله (10)" فعبارة " حرسها الله " تدل على أن قرطبة ما زالت في حوزة المسلمين بعكس قوله عن طليطلة " أعادها الله " التي تعنى أنها قد خرجت من سلطان المسلمين .
ثالثاً : بل يبدو لنا أن الكتاب قد ألف قبل سقوط قرطبة بمدة ليست بالقصيرة ، فالمؤلف حين تحدث عن الإسلام وظهوره على الدين كله قال : " وهذا دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم له ست مائة سنة ونيف من الأعوام ، وهو باق إلى آخر الأيام ..."(11) وفي موضع آخر قال "وهذا دين محمد رسولنا صلى الله عليه وسلم قائم منذ ست مائة سنة ونيف" (12) . فهذا يثبت أن الكاتب صنف كتابه بعد عام ست مائة هجرية بسنوات معدودات . فنيف تفيد الزيادة القليلة على العدد ، حتى أن بعض أهل اللغة يراها بين الواحدة إلى الثلاث(13) .
رابعاً : ثم إن المتأمل في مقدمة الإعلام يحس بأن الكاتب كان من أعلام علماء قرطبة ، وليس من غمار طلبة العلم العاديين ، فهو يرى أن جواب النصراني قد تعيَّنَ عليه(14)، بل يحكي أن جماعة من إخوانه رغبوا إليه أن يرد على ذلك النصراني(15) ، مما يفيد أنه كان على قدر من العلم كبير.
خامساً : وإذا قلبنا صفحات الكتاب انكشف لنا أن صاحبه رجل غزير العلم ، واسع الثقافة ، كثير الاطلاع ، فهو عالم بأصول الدين ودقائق العقيدة ، ذو معرفة باللغة والحديث والتفسير والسيرة ولديه حظ وافر من الشعر والحكم والأمثال .
سادساً : ثم إننا إذا كررنا النظر في الكتاب استبان لنا أننا أمام كاتب عارف بطرق المجادلة ، متمرس على فنون المحاججة ، قد اطلع على كثير من أسفار النصارى وكتاباتهم (16)، وتتبع بعض ما كتبه العلماء المسلمون من ردود عليهم (17) بل إنه وعد بإفراد كتاب للرد على أحد مشاهير علماء النصارى السابقين عندما تعرض لبعض أقواله (18). وهذه الأشياء كلها تنبئ إن مؤلف الإعلام شخص متخصص في الدراسات المتصلة بالنصرانية قد صرف وقتاً من عمره للإحاطة بها .
وبناء على هذه المعطيات التي تجمعت لنا حول كتاب الإعلام ننظر الآن إلى أي حد تتوافق وأحوال القرطبي المفسر محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الذي ينسب إليه الكتاب . فنقول كان القرطبي المفسر حتى سنة 628هـ/1231 م لا يزال يقرأ العلم على مشايخ قرطبة (19)، بل إنه في السنة التي سبقتها قد تردد في مسألة علمية بين ثلاثة من علماء قرطبة ليستفتيهم في شأنها(20) الأمر الذي يفيد أن القرطبي المفسر حتى ذلك الحين لا يعدو أن يكون طالب علم في قرطبة لا يتميز عن غيره من الطلاب . وإذا تذكرنا أن كتاب الإعلام قد ثبت تأليفه قبل عام 633هـ 1236م وربما قبل ذلك بسنوات ليست قليلة – كما رجحناه- وأن مؤلفه – حسبما استنتجنا – كان من علماء قرطبة البارزين ، وأنه متخصص في الدراسات المتعلقة بالنصرانية – إذا تذكرنا هذه الأشياء جميعها وقارناها بوضع القرطبي المفسر في المدة الزمنية عينها ألفيناها بعيدة الاتفاق ، وأنه من غير المعقول أن يكون القرطبي هذا هو مؤلف الإعلام ، فهو لم يكن حينذاك من علماء قرطبة المعدودين ،ولم يبدُ عليه أي اهتمام بالدراسات النصرانية وما يرتبط بها ، وإذا ملنا إلى تأليف كتاب الإعلام في أوائل القرن السابع الهجري كان القرطبي المفسر – فيما يبدو – صبياً وقتها ليس في مقدوره تصنيف الكتاب ناهيك عن تصنيف كتاب مثل كتاب الإعلام.
وأمر آخر يضعف أن يكون كتاب الإعلام للقرطبي المفسر ، وهو أن نسبة هذا الكتاب إليه تبناها بعض المهتمين بكتب التراث من المتأخرين(21) فما تحت أيدينا من مصادر قديمة سواء كانت مغربية أو مشرقية ترجمت للقرطبي المفسر لا تذكر كتاب الإعلام في عداد مؤلفاته ، مع أنه من المفترض – لو كان قد ألفه – أن يأتي ذكره في رأس قائمة المصنفات التي كتبها بصفته أحد مؤلفاته الأولي ؛ وبخاصة عند المغاربة والأندلسيين ،إذ يلزم أن يكون القرطبي قد كتب كتاب الإعلام قبل مغادرته الأندلس ،ولو كان ذلك كذلك لما فات على هؤلاء المؤرخين المغاربـة والأندلسيين معرفتهم بتأليفه له– وهم الذين حرصوا على تتبع أخباره لما استوطن مصر بعد تركه الأندلس(22).
ومما يضعف نسبة الإعلام إلى القرطبي المفسر – أيضاً – أن الذين كتبوا عنه من المعاصرين ، وعنوا بحصر مؤلفاته ، وتعقبوا أماكن وجودها ، لم يعثروا على إشارة لهذا الكتاب في تضاعيف مؤلفاته المعروفة رغم أن كتبه ترددت أسماء بعضها في بعض ، لأن منهجه في التأليف الابتعاد عن تكرار المعلومات أكثر من مرة (23)، فكثيراً ما يكتفي – إذا عرضت له مسألة من المسائل – بالإحالة من كتاب إلى آخر من كتبه ، فيذكر هذا الكتاب أو ذاك بعنوانه المعروف(24). ولا شك أن كثيراً من المسائل المتصلة بالنصارى وعقائدهم قد تطرق إليها ، وبخاصة في كتابه التفسير ، فلو كان الإعلام من مؤلفاته ليس هذا فحسب ، بل ومن أوائلها لأحال إليه وردد اسمه سواء في التفسير أو غيره.
وخلاصة ما نخرج منه بعد هذا النقاش أن القرطبي المفسر محمد بن احمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري المتوفى سنة 671هـ/1273م يبعد أن يكون هو مؤلف كتاب "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام " والأقرب أن يكون مصنفه أحد علماء قرطبة الآخرين ، وربما كان من شيوخ القرطبي المفسر .
ولقد عثرنا على إحالات لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي (25)( ت656 هـ/1258م وهو شيخ القرطبي المفسر (26). في شرحه لصحيح مسلم(27) يشير فيها إلى كتاب اسمه "الإعلام " ، وذلك في عدة مواضع ، الأول : حينما عرض لبركة النبي صلى الله عليه وسلم قال: وذكرنا من ذلك جملة صالحة في كتاب ( الإعلام بمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام )(28) " الثاني : لما أشار إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل نوع من أنواع معجزات الأنبياء عليهم السلام قبله عقب على ذلك بقوله" كما أوضحناه في كتابنا المسمى بـ ( الإعلام بصحة نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام)"(29) الثالث: عندما تطرق لصفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة قال" وقد ذكرنا منه مواضع كثيرة جاءت في كتب أنبياء بني إسرائيل في كتاب (الإعلام)"(30) . الرابع : حين رد على القائلين بأن الحواريين كانوا أنبياء أُرسلوا إلى أناس بعد عيسى عليه الصلاة والسلام قال" وهو قول أكثر النصارى كما ذكرناه في كتاب (الإعلام )"(31) الخامس: لما تعرض لتأويل النصارى للختان قال: وليس هذا بأول جهالاتهم ، فكم لهم منها وكم ؟ ويكفيك من ذلك أنهم زادوا على أنبيائهم في الفهم ، وغلطوهم فيما عملوا عليه ، وقضوا به من الحكم " ثم قال " وقد أسبغنا القول في هذا في كتاب (الإعلام )"(32).
وإذا أرجعنا البصر في هذه الإحالات الخمس نلحظ ما يلي :
1-في الأولى جاء الكتاب باسم " الإعلام بمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام "، وفي الثانية باسم "الإعلام بصحة نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام " وفي الثلاث الباقية اكتفى فقط بالكلمة الأولى من العنوان وهي "الإعلام" .
2- موضوعات الإحالات الثلاث الأولى تتسق وموضوع كتاب الإعلام هذا الذي يشير إليه أبو العباس القرطبي بصفته أحد مؤلفاته ، فهي تمس – كما هو واضح – معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإثبات صحة نبوته بالمعجزات أو بأوصافه في التوراة والإنجيل ، بينما الإحالتان الرابعة والخامسة يبعدان في موضوعيهما عن موضوعات الإحالات الثلاث الأولى ، فهما يختصان بالرد على النصارى ، وتبدوا الخامسة أكثر تعلقاً بموضوع الرد على النصارى. فهو – كما سبق- لما ذكر تأويلات النصارى المضلة ، وافتراءاتهم على أنبيائهم عقب بقوله " وقد أسبغنا القول في هذا في كتاب (الإعلام ) " . وبناء على هذا الاستنباط فيفترض أن يكون كتاب الإعلام هذا أكثر من واحد ، وبخاصة أن المؤلف ذكر اسمه بثلاث صيغ ، فيكون – مثلاً – واحد منها يختص بإثبات نبوته صلى الله عليه وسلم ،والثاني يعنى بالرد على النصارى . وإما أن يكون الكتاب واحداً، ولكن مؤلفه لم يلتزم بالعنوان .3-إذا عدنا إلى الكتاب المنسوب إلى القرطبي المفسر وهو "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام " ألفيناه يتضمن موضوعات كل الإحالات الخمس التي سردناها قبل قليل،ففيه أمثلة عن بركة الرسول صلىالله عليه وسلم(33)،وفيه التأكيد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل نوع من أنواع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله (34) ، وفيه أمثلة كثيرة من أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل (35)، وفيه رد على القائلين بإرسال الحواريين إلى الناس بعد عيسى بصفتهم أنبياء (36) ، وفيه نقد لكثير من جهالات النصارى و ضلالاتهم (37). فهل يعني ، الكتاب الذي يعزو إليه القرطبي أبو العباس ويسميه " الإعلام " هو كتاب " الإعلام " الذي نروم معرفة مؤلفه ، وبخاصة أن الكلمة الأولى من العنوان في الكتابين واحدة ؟
إننا لا نستطيع البت في الإجابة على هذا السؤال ، لأن كتاب " الإعلام " لأبي العباس القرطبي في حكم المفقود ، فهو غير موجود بين أيدينا ،ولا نملك نصوصاً منه ـ ولو محدودةـ لنجري مقارنة بينه وبين ما جاء في كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام .. " فلنتدبر إذن في أحوال أبي العباس القرطبي هذا ، ونقارنها بما كنا قد استخلصناه من صفات توفرت في مؤلف ذلك الكتاب لعلنا نصل إلى شيء فيما نحن بصدد التثبيت منه .
لقد ضنت المصادر علينا بأخبار عن حياة أبي العباس القرطبي في الأندلس ، فكل ما نعرفه أنه ولد في سنة 578هـ /1182م في قرطبة ، وسمع فيها الكثير(38). على أن ثمة خبراً ذكره أبو العباس عن نفسه يلقي ضوءاً على أحد الجوانب التي تهمنا معرفتها من حياته ، وفيما يلي سوف نسوق بعض هذا الخبر بالنص وبعضه الآخر بالمعنى . قال أبو العباس(39)" أني لما وصلت إلى تونس قاصداً الحج سمعت أخباراً سيئة عن البلاد المصرية من جهة العدو الذي غلب على دمياط ، فعزمت على المقام بتونس إلى أن ينجلي أمر العدو : ثم ذكر أنه رأى في المنام وكأنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يسلم عليه ، وعندئذ زال عنه الخوف وتجدد عزمه على قصد الحجاز ، ثم قال: " وسافرت إلى أن وصلت الإسكندرية عن مدة مقدارها ثلاثون يوماً .. فوجدتها والديار المصرية على أشد خوف ، وأعظم كرب ، والعدو قد استفحل أمره ، وعظمت شوكته ،فلم أُكمل في الإسكندرية عشرة أيام حتى كسر الله العدو..."(40) ، ثم ختم كلامه بقوله " ثم إن الله تعالى كمل علي إحسانه وإنعامه وأوصلني بعد حج بيته إلى قبر نبيه(41) ومسجده ، فرأيته و الله في اليقظة على النحو الذي رأيته في المنام من غير زياد ولا نقصان "(42).
يفهم من خاتمة كلام أبي العباس القرطبي أنه لم يسبق له القدوم إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذه المرة ، وبالتالي أنه لم يسبق له حج بيت الله الحرام قبلها أيضاً ، وإذا كان قد نص على أن وصوله إلى تونس كان بقصد الحج ، فإن هذا يُلهم أنه قدم من بلده الأندلس سواء كان مباشرة أو بعد مرور بالمدن المغربية الواقعة إلى الغرب من تونس ، فكان خروجه هذا من الأندلس لأول مرة . فالأندلسيون و المغاربة كان أول شيء يحرصون على المبادرة فيه إذا خرجوا إلى المشرق هو التوجه إلى أرض الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة المسجد النبوي (43). وإذا علمنا كذلك أن حادثة دخول العدو النصراني ( الصليبيين ) دمياط التي أشار إليها أبو العباس قد وقعت في سنة 647 هـ /1249م (44). وأن كسر المسلمين له حدث في محرم سنة 648هـ / 1250م(45)فمعنى ذلك أن خروج أبي العباس القرطبي من الأندلس لأول مرة ووصوله إلى تونس كان في سنة 647هـ 1249م أي بعد أزيد من عشر سنوات على سقوط قرطبة الحادث في سنة 633هـ / 1236م(46) .
أما الآن وبعد أن تجمعت لدينا هذه المعلومات الآنفة الذكر الخاصة بأبي العباس القرطبي وما خالطها أيضاً من استنتاجات فلنطبقها على ما عندنا من معطيات كنا قد استخلصناها من قبل عن مؤلف كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ... " فأبو العباس من أهل قرطبة فهو قرطبي إذن ، وترجح لدينا أنه لم يخرج إلى المشرق إلا بعد سنوات من سقوط قرطبة عام 633هـ /1236م، وليس هناك شيء يمنعنا من الجزم بأنه وقت تأليف كتاب "الإعلام" بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ... " كان أحد علماء قرطبة ، فمولده قد ثبت في عام 578هـ/ ،1182م وقد عُدَّ من مشايخ القرطبي المفسر . ولا يخامرنا شك في اهتمامه بالرد على النصارى بعد الذي نقلناه على لسانه من أقوال تنص على ذلك .
وبناء على هذا التطابق ، أو التطابق في بعض الوجوه وعدم التعارض في بعضها بين أحوال أبي العباس القرطبي وبين ما عليه مؤلف كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام .. " فالاحتمال كبير أن يكون هذا الكتاب هو الذي عزا إليه أبو العباس عند شرحه لصحيح مسلم ، يرجح هذا الاحتمال ما وقفنا عليه من تصريح لأبي العباس برده على النصارى في كتابه " الإعلام " ، ثم إنه لم يثبت ـ أعني أبا العباس القرطبي ـ على اسم لكتابه ـ كما رأينا ، فتراه سماه " الإعلام بمعجزات التي عليه الصلاة والسلام " وكرة أطلق عليه " الإعلام بصحة نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام " ومرات سماه " الإعلام " فقط . ثم إننا من ناحية أخرى إذا رجعنا ـ أيضاً ـ إلى كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ..."لا نجد في المقدمة نصاً على تسميته بهذا العنوان ، كما هي عادة معظم المصنفين ، فهل يا ترى اجتهد بعض التلاميذ أو النساخ في تسمية هذا الكتاب بهذا الاسم ليتطابق محتواه مع عنوانه ؟

((1). بعد أن نقل القرافي السؤال الحادي عشر للنصارى الذي ادعوا فيه جواز الاتحاد بين الله وغيره تعالى الله عما يقولن علواً كبيراً ، واستشهدوا على ذلك بتكليم الله لموسى عليه السلام وأشار إلى أن هذا السؤال اعتمد عليه أغشتين زعيم قسيسي طليلطلة في كتابه " مصحف العالم ( الأجوبة الفاخرة ، ص: 267- 268) قال : " ثم جاء ابن الفخار اليهودي ، تنصر ورأس عند ملوك الإفرنج بالوزارة وغيرها ... وكتب بهذا السؤال إلى علماء قرطبة ... " ( المصدر السابق ، ص 268 ) وإذا رجعنا إلى نصوص " تثليث الوحدانية " وجدنا فيها فحوى هذا الادعاء ( القرطبي " الإعلام ، جـ 1، ص 105 –106) وحين رد عليه ذلك العالم القرطبي بين أن الكاتب قد استعان في صياغة ادعائه على ما كتبه أغشتين في " مصحف العالم " ( المصدر السابق ، جـ ، ص 126 ،143 –147) فوجود فحوى ذلك الادعاء في كتاب " تثليث الوحدانية " وتأكيد القرافي أن ابن الفخار قد كتب مثل هذا الادعاء إلى علماء قرطبة يدفعنا إلى أننا نتساءل لماذا لا يكون ابن الفخار هو محرر "تثليث الوحدانية" ؟ لا سيما وأن ابن الفخار الذي اسمه إبراهيم كان سفيراً لملك قشتالة إلى حكام الموحدين ، وذُكر منهم المستنصر الموحدي ( 610هـ 1211م-620هـ 1224م) ( المقري : نفح الطيب ، جـ 3، ص 528 ) والزمن الذي عاش فيه ابن الفخار هذا هو الزمن عينه الذي ألف فيه كتاب الإعلام . كما أن أحوال ابن الفخار كمعايشته للمسلمين ومعرفته باللغة العربية والمنطق ( ابن سعيد : المغرب ، جـ 2 ، ص 23 ؛ المقري : نفح الطيب ، ج3 ، ص 527 ) هذه الأحوال تتوافق مع أحوال كاتب "تثليث الوحدانية " حسبما تظهر واضحة لمن يقرأ مناقشة القرطبي له في كتابة الإعلام.
(2) القرطبي : الإعلام ، جـ1، ص 43.
(3) المصدر السابق ، ص 43 ، 44.
(4) المصدر السابق ، ص 45.
(5) لم يأت ذكر لهذا العنوان على لسان المؤلف لا في مقدمة الكتاب ولا في غيرها.
(6)أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي القرطبي . نشأ في قرطبة ، ثم هاجر إلى المشرق ، واستوطن مصر ، كان محدثاً فقيهاً مفسراً ، متبحراً في كثير من العلوم ، عَمَرَ أوقاته بين العبادة والتصنيف ، وتوفي في منية ابن الخصيب في صعيد مصر في شوال سنة 671هـ/1273م . وقد خلف عدة مؤلفات طبع أكثرها ، ومن أشهر تلك المؤلفات كتابه في التفسير : الجامع لأحكام القرآن (ابن عبدالملك المراكشي : الذيل والتكملة ، س5 ، ق2 ، ص585 ، ابن فرحون : الديباج ، ج 2، ص308 – 309 ، المقري : نفح الطيب ، ج2 ، ص 210 – 212 ، انظر تفاصيل واسعة عن حياته وآثاره في : (القصبي محمود زلط : القرطبي ومنهجه في التفسير ، ص6 – 50 ، يوسف عبدالرحمن الفرت : القرطبي المفسر ، ص33- 99 ، مشهور حسن سلمان : الإمام القرطبي ، ص 11 – 155 ) .
(7)القرطبي : الإعلام ، جـ1، ص 43.
(8)انظر صورة الصفحة الأولى من المخطوط : القرطبي : الإعلام ، ج 1 ، ص 39.
استفاد منه بعض علماء الإسلام ، واكفوا باسم "القرطبي " دون إشارة على كنية أو اسم ( ابن تيمية : مجموعة الرسائل والمسائل م 2، ص 156 رحمة الله الهندي: إظهار الحق ج 2 ص 395.
(9)ابن الأبار : التكملة ، ج1 ، ص 120 ، 323 ، ابن عذارى : البيان ، ق. الموحدين ، ص 331.
(10)القرطبي : الإعلام ، جـ1، ص 43.
(11) المصدر السابق ، ج 2 ، ص 277 .
(12) المصدر السابق ، ج 2 ، ص 219 .
(13) الزبيدي : تاج العروس ، ج 12 ، ص 516 .
(14)القرطبي : الإعلام ،ج 1 ، ص 45 .
(15)المصدر السابق ، الصفحة نفسها .
(16) المصدر السابق ، ص 79 .
(17)المصدر السابق ، ج 2 ص 228.
(18)المصدر السابق ، ج 1 ص 84 ، 157 .
(19) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج 3 ، ص 237 .
(20)المصدر السابق ، ج 4 ، ص 272 .
(21)البغدادي : هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين ، ج 2 ، ص 129 .
(22)ابن عبدالملك المراكشي : الذيل والتكملة ، س 5 ، ق 2 ، ص 585 .
(23) مشهور حسن سلمان : الإمام القرطبي ، ص 97 .
(24)المرجع السابق ، ص 98 ، 128 – 129 ، 135 ـ 138 ، 139 ، 146 ، 148 ، 149 ، 152 ، الفرت : القرطبي المفسر ، ص 84 ، 85 ، 90 ، 92 ، 93 ، القصبي زلط : القرطبي ، ص 49 ، 50 .
(25) أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري ، يعرف بابن المزين ، ولد بقرطبة ، وسمع فيها الكثير ، وانتقل إلى المشرق ، واستقر بمصر ، فاشتهر أمره ،وطار صيته . كان بارعاً في الفقه والعربية ، عارفاً بالحديث ،له عدة مؤلفات من أبرزها : المفهم في شرح ما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ، كشف القناع عن حكم مسائل الوجد والسماع . توفي في الإسكندرية في ذي القعدة سنة 656هـ/1258 م ( ابن عبد الملك المراكشي :الذيل والتكملة ، س 1، ق 1، ص 348؛ الصفدي : الوافي بالوفيات ، ج 7، ص 264- 265 ؛ ابن فرحون : الديباج المذهب ، جـ 1، ص 240 –242 ؛ المقري : نفح الطيب ، ج2 ص 615 ).
(26) صرح بذلك القرطبي المفسر في عدد من كتبه . انظر مثلاً : الجامع لأحكام القرآن ، ج 3 ، ص 95 ، ج 4 ، ص 13 ، ج 5 ، ص ، 44 ، ج6 ،ص 295 ، ج14،ص 229 ،التذكرة ، ص 120 ، 191 ، 236 ، 377 ، 421 ، 644....
(27) المفهم ، ج 4 ، ص 570 ، ج 6 ، ص 50 ، 148 ، 176 ، 183 .
(28) القرطبي : المفهم ، ج 4 ، ص 570 .
(29) المصدر السابق ، ج 6 ، ص 50 .
(30) المصدر السابق ، ج 6 ، ص 148 .
(31) المصدر السابق ، ج 6 ، ص 176 .
(32) المصدر السابق ، ج 6 ، ص 183 .
(33)القرطبي : الإعلام ، ج 3 ، ص 281 – 288 ، 370 – 373 .
(34)المصدر السابق ، ج 2 ، ص 240 ، ج3، ص 348 – 366 .
(35)المصدر السابق ، ج 3 ، ص 263 – 280 .
(36)المصدر السابق ، ج 2 ، ص 204 ، ج 3 ، ص 381 .
(37)انظر مثلاً : المصدر السابق ، ج 2 ، ص 188 – 213 ، ج 4 ، ص 393 – 437 .
(38)الصفدي : الوافي بالوفيات ، ج 7 ، ص 265 ، المقري : نفح الطيب ، ج 2، ص 615 .
(39)المفهم ، ج 6 ص 24 .
(40)القرطبي : المفهم ، ج 6 ، ص 24 – 25.
(41) هكذا وردت ، حيث قدم قصد قبر النبي على مسجده !! .
(42) القرطبي : المفهم ، ج 6 ، ص 25 .
(43) حسين مؤنس : تاريخ الجغرافية والجغرافيين ، ص 432 .
(44)الذهبي : العبر ، ج 3 ، ص 256 .
(45)المصدر السابق ، ص 258 – 259 .
(46)ذكر ابن فرحون عن بعضهم أن أبا العباس القرطبي " رحل مع أبيه من الأندلس في سن الصغر " ( الديباج المذهب ، ج 1، ص 241) وقد أخذ بهذه الرواية بعض الذين ترجموا له من المتأخرين ( القرطبي : المفهم ، ج 1 ، ص 31 في مقدمة المحققين ؛ الفرت :القرطبي المفسر ، ص 53 ؛ مشهور سلمان : الإمام القرطبي ، ص 72) وهؤلاء قد خلطوا بين أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي مؤلف المفهم نزيل الإسكندرية ، وبين سميه أبي العباس أحمد بن محمد بن عمر القرطبي ساكن قنا ( ت 672هـ/ 1273م) فالذي رحل مع أبيه من الأندلس في سن الصغر هو هذا الأخير وليس صاحب المفهم ( ابن عبد الملك المراكشي :الذيل والتكملة ، س 1، ق2،ص 475؛ الصفدي : الوافي بالوفيات ، ج7، ص 339 –340) ثم أن ما حكاه صاحب المفهم عن نفسه –كما في المتن – يقطع كل التباس .